الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 5, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المُجِدُّ المجاهد

ألا أيُّها الشيخُ المُجِدُّ المجاهدُ
حسيبٌ، وحسبُ الدارِ أنْ ذاعَ صيتُها
وعارفُها الصِهرُ الأمينُ على التُّقى
تباركَ بيتٌ َضمَّ فيه ثلاثةً

حَمَلتَ التُّقى إرثاً سما فيه والدُ
بأسعدِها، والشيخُ في القومِ رائدُ
بمسلكِه، وهْوَ التقيُّ المُكابدُ
وهل مثلُهم في الزُّهدِ زاهٍ وزاهدُ

بنَوا في حمى الرحمنِ خلوةَ ذكرِهم
أيا خلوةَ الشيخِ المُعمَّمِ بالنَّدى
سواعدُ أهلِ الحقِّ جادتْ وجاهدتْ
على دربِ حِفظِ الدينِ ساروا وشمَّروا
ففاضتْ بليلِ الذِّكرِ منها الفوائدُ
ويا معبداً ترنو إليه المعابدُ
وأعلتْ مقاماً، والشيوخُ روافدُ
فصانُوه من عصفِ الرَّدى وتعاهدوا
فما قيمةُ الدنيا، ولو فاض مالُها
وهل ينفعُ الأبناءَ جاهٌ وحُظوةٌ
بنى الوالدُ الفذُّ القصورَ بخلوةٍ
بساطةُ عيشٍ آمِنٍ، وأخوَّةٌ
ومعظمُ مَن فيها عدوٌّ وحاسدُ
إذا لم يحفظوا ما قد بَنتْه السواعدُ
وزيَّنها بالذِّكرِ قارٍ(1) وقائدُ
هي البيتُ، أمَّا غيرُها فزوائدُ
ألا يا حسيبٌ مذ حسِبتَ بأنَّها
فلم تُعنَ إلَّا بالثِّمارِ ولم تُعِرْ
هو الحقُّ والمعبودُ، لا حقَّ غيرُه
فمَن عاش قرناً كاملاً، وهْو راسخٌ
 

جناحا بَعوضٍ حرَّكتكَ المقاصدُ محاسنَها
بالاً، وفي البالِ واحدُ
ويا سعدَ عبدٍ، وهْو للهِ عابدُ
رسوخَ الروابـــي، فهْـــــــــو بـــــــــاقٍ وعـــــــــــــائدُ

صَرعتَ الهوى يومَ الشبابِ، مُقاوِماً
فشوقٌ إلى الأُخرى وتَوقٌ إلى النُّهى
ولم تَلوِكَ الأهوالُ يوماً، وفي الحِمى
إذا ما عوادي الدهرِ بالشرِّ زَمجرتْ
وما كنتَ إلَّا السَّيفَ، والصوتُ راعدُ
وما غيرَ ذاكَ الهمِّ هَمٌّ يُطارِدُ
فؤادٌ له كلُّ القلوبِ وسائدُ
حكتْ عنك دوماً بالثباتِ العوائدُ
هُمامٌ، ولو بانَ المَشيبُ، فلونُه
كذلك همْ أهلُ المكارمِ والتُّقى
حياةٌ مع الرحمن عاشوا بهاءَها
فحزمٌ وعزمٌ إنْ قضى الحقُّ والحِجى
صفاءٌ ونُبلٌ، حكمةٌ وقواعدُ
اْلأجاويدُ، نعمَ الأتقياءُ الأماجِدُ
فَجادوا وسادوا، ما لَواهُمْ تَقاعدُ
ولينٌ ودِينٌ دائماً وتعاضُد
أيا مُعصريتي أنتِ دوماً عَليَّةٌ
وواديكِ يَحكي ما حكاهُ شيوخُنا
ويا قمَّةً تعلو بإرثٍ مبارَكٍ
لئنْ غابَ عنَّا سيِّـدٌ قامَ سيِّـدٌ
تُحاكيكِ من أعلى الجبالِ الهَداهدُ (2)
وفي كل جِيدٍ من غِنـاهمْ قلائدُ
وسرٍّ من التوحيــدِ عالٍ وصامدُ
وصوتُ بني معــروفَ كالحقِّ سائدُ
أيا صائغَ التقوى بنفسٍ أبيَّةٍ
فمعهدُ إيمانٍ يُحاكي بعلمِه
ومعهدُ أخلاقٍ ولُطفٍ وحَنوةٍ ومعهدُ
جِدٍّ، والمواقفُ شيخُها
سبائكُها بين الأنامِ معاهدُ
اْلمعاهدَ جوداً، منهُ تالٍ وتالدُ (3)
على القومِ إمَّا هدَّدته المكائدُ
كريمٌ على دربِ الكرامةِ صاعدُ
أبيٌّ متى يُرجى الإباءُ، وزاهدٌ ومثلُ
الأبِ المِفضالِ عاشقُ حكمةٍ
عشقتَ الكتابَ المُستطابَ، كأنَّه
فعادةُ ختم النصِّ في كلِّ ليلةٍ
غفَوتُم، وإنْ تَغفُ العيونُ، فإنَّما
وفي كلِّ حالٍ عن حِمى الحقِّ ذائدُ
تجلَّتْ، ولا تَثنيه عنها الموائدُ
غِذاءٌ وماءٌ، دونَه العيشُ بائدُ
ويومٍ لها عندَ الكبارِ مَذاوِدُ (4)
على نغمةِ الآياتِ، والقلبُ ساهدُ
سلامٌ على مثواكَ، والقومُ حبُّهم
وسيلٌ من الأنوارِ يَهمي على الثَّرى

زَرعتَ الحقولَ السُّمرَ خيراً وحكمةً

شهاداتُ إخلاصٍ لكم، وشواهدُ (5)
فيُنعِشُه، والزَّرعُ بالخيرِ واعدُ

وها أنتَ جانٍ ما زرعتَ وحاصدُ

شهِدتَ لدين الحقِّ، حقَّاً، فأثمرتْ

وسيلاً من الرَّحْماتِ من كلِّ جانبٍ

شهاداتِ إخوانٍ لكم تتزايدُ

وفاءً لروحٍ طهَّرتْها الشدائدُ

هنيئاً أيا شيخَ الأجاويدِ والصَّفا
وبُشرى أيا شيخَ الجبالِ، لك الهنا
تسامَيتَ حتَّى توجَّتْكَ المحامدُ
عَلَوتَ، وما زادتْ عُلاكَ القصائدُ.

 

شروحات:

(1): قارٍ أي قارئٍ (مخفَّفة)
(2):الهداهد: جمع هدهُد
(3):التالد: الموروث أباً عن جَدّ
(4):المِذوَد: اللسان, جمع مذاوِد
(5):الشاهد جمعه شواهد: الدليل والبرهان

اللّاهوت العقلاني والعناية الإِلهية لدى أفلاطون

«الإلَهُ» الواحِدُ (Theos – θεός) هي الكلمةُ الافتتاحية التي استهلَّ بها أفلاطون مُحَاوَرةَ «القوانين» (Nomoi – Νόμοι)، تلك المُحَاورة الأخيرة والأطول التي كَتبَها في سنٍّ متقدِّمة، وجاءت تتمةً لمُحَاوَرة «تيماوس» (Timaeus)، وقد ارتقَت مِنْ الفلسفةِ السياسية والتشريع إلى فلسفةٍ لاهوتية أنطولوجية تتناول الوجودَ والعنايةَ الإِلهية المُقدَّسة «برونويا» (πρόνοια) والتدبير الإِلهي (epimeleia) للكونِ وحياة الإنسان والمخلوقات، وتصلُ إلى ذروتِها في «الكتاب العاشر»، الأكثر إثارةً للتحدِّي الفكري واللاهوتي بين كُتب المُحَاورة الاثني عشر.

تبدأ المُحَاوَرةُ الأفلاطونية الأطول في جزيرة كريت بمُحادثةٍ فلسفية بين ثلاثة رجال مُسنِّين، الأوَّل يُعرَف بـ «الغريب الأثيني»، والثاني إسبارطي يُدعَي ميغيليس (Megilles)، والثالث مُشرِّع وسياسي كريتي يُدعَى كلينياس (Clinias)، وذلك من أجل وضْعِ دستورٍ لمستعمرة كريتية جديدة اسمها «ماغنيزيا» (Magnesia). واللافتُ هو غياب سقراط عن هذه المُحَاوَرة، ولو أنّ ثمة مَنْ أشار إلى وجه الشَّبَه بينه وبين «الغريب الأثيني»!

وعلى الرّغم مِن المَنحى التشريعي لكُتُب «القوانين» الاثني عشر، فإنّ هذه المُحَاوَرة هي كشأن «الجمهورية» (Politeia – Πολιτεία) لا تختص فحسب بفلسفة سياسية أو تشريعية إذ إنّها تُناقِش بإسهاب البُعْدَ اللاهوتي للوجود وعِلْمَ النَفْس الأخلاقي، بل تضع أُسسَ الأخلاقيات الأفلاطونية، وحقائقَ إبستمولوجية وماورائية، فيما يمكن أنْ يُطلَق عليه «عِلْم لاهوت عَقلاني» (Rational Theology).

روبرت مايهيو
عُمق لاهوتي

 

يحتلُّ موضوعُ الوجودِ الإلهي والعِناية الإِلهية موقعاً محورياً في «القوانين»، وربما لهذا السبب أهملها معظمُ الباحثين الغربيين لا سيّما المعاصرين منهم، فيما أساءَ البعضُ الآخر ترجمتها وتفسيرها (وهذا ما أشار إليه الباحث روبرت مايهيو Robert Mayhew، الذي شدّد على الحاجة لترجمةٍ أكثر مُراعاة للمعاني الضمنيّة في النص الأفلاطوني) بسبب طغيان البُعد المادي على مفهوم الكون والطبيعة والوجود عند مَنْ تناول هذه الفلسفة، بدلَ أنْ يُسلِّطوا الضوءَ في المقابل على حُجَج أفلاطون في إثبات وجود الإله الأوحد وحكمته وعنايته في الكون المخلوق بإرادةٍ منه. إذ إنّ هؤلاء الباحثين لانغماسهم في المفاهيم المادية لم يقرؤوا هذه المُحَاوَرة بصبرٍ، وبُعْدِ نظرٍ معرفي، وحُكْمٍ عقلاني في محاولةٍ لفَهْم عُمقِها اللاهوتي الماورائي، سيّما وأنّ المُحَاوَرة تبدأ مِن كلمتِها الأولى بمفهوم الوجود الإِلهي:
الإلهُ أم الإنسانُ هو مَنْ يَضعْ القوانينَ أيُّها الغَريبان؟ يسألُ الغَريبُ الأثيني.
كلينياس: الإِلهُ أيُّها الغَريب .. حقّاً هو الإِله!

دلالات ما وراء اللغة

وفيما كُتِبَ نصُّ مُحَاوَرة «القوانين» بلُغّةٍ يونانية صعبة ذات عباراتٍ وإيحاءاتٍ ودلالاتٍ «فيلولوجية» (philology) لغوية لا يَفْقَهُها إلَّا مَنْ استشفَّ ببصيرته مغزى أفلاطون الحقيقي، أساءَ الباحثون في الغرب استخدام المعنى الفعلي للمصطلحات الإغريقية التي اعتمدها في هذه المُحَاورة، لا سيّما ما بين صيغة الفرد أو الجمع. فعلى سبيل المثال، كلمة «ثيوس» (Theos)، التي يستخدمها أفلاطون للدلالة على الإِله الأسمى، الخالِق المُتَعالِي الذي لا يعتريه تغيير، واستخدامه مِن ثم هذا المصطلح في تصريفٍ فيلولوجي بصيغة الجمع «ثوي» (Theoi – θεοί) في دلالة إلى الكائنات العُلويّة، العِلل الأُوَل (aitia – αἴτια)، فيُصيغها هؤلاء بأنّها «آلهة» (وذلك حسب أهواء المُتَرجِم الغربي عن اليونانية فلا يُراعِي السياق، فهي على سبيل المثال قد استُخدِمَت في الترجمة اليونانية للإنجيل للدلالة على الحُكّام البشر!)، متغافِلين عن العبارات الدقيقة التي تُوضِح مفهوم أفلاطون لخالِق الكون المُدبِّر بعنايته الإِلهية للإنسان وجميع المخلوقات. بل إنّ أفلاطون قد استَهلَّ «الكتابَ العاشر» بدوره بفقرةٍ ذات مغزى بالتأكيد، تُشدِّد على الحاجة إلى وضع قانونٍ خاص ضدّ انعدام التَّقوى (impiety)، أي عدم الإيمان بالعَلِيّ، وهو ما سَعَى إلى صَوْغِه ومناقشتِه بإسهاب في نهاية هذا الكتاب الفريد.

«كان لأفلاطون تأثيرٌ كبير في تطوُّر عِلْم اللاهوت من خلال إثباته الأنطولوجي لوجود “الإله الواحد الحق”».

إثبات أنطولوجي

تُشكِّل مُحَاوَرةُ «القوانين» أقدمَ حُجَجٍ عقلية لإثبات وجودِ الخالق العَلِيّ وعِنايتِه المُقدَّسة للكون والإنسان، فيما يُشكِّل «الكتابُ العاشر» منها مَصدراً أساسياً ومُنطلقاً لفَهْم التطوُّر الأوَّليّ للفلسفة اللاهوتية.

ومِن هذا المُنطلق، كان لأفلاطون تأثيرٌ كبير في تطوُّر عِلْم اللاهوت لاحقاً، وذلك من خلال إثباته الأنطولوجي لوجود «الإله الواحد الحق» (Ho Theos) والإضاءة عقلانياً على مفهوم «الأَحدية» (Monotheism) بمواجهة أباطيل «تعدُّد الآلهة» (Polytheism).

فالإثباتُ الأنطولوجي يتوضَّح في قراءتِه الفلسفية للحركة المُتَناغِمة بدقّةٍ رياضيّاتية للكواكب والأفلاك والنظامِ العام للكون، بما يؤكد وجودَ مبادئ عُليا أُولَى مُحرِّكة هي بدورها عِلل مَخلوقة: كلُّ حركةٍ أو تغيير إنّما يعود إلى كينونةٍ مُتحرِّكة بذاتها، وهي كينوناتٍ حَيَّة أي تملك القوة على إحداث الحركة أو التغيير، وأنْ نقول حَيَّة فهي ذات نَفْسٍ خالدة مصدر كلّ حركةٍ أو تغيير. وهكذا فإنّ المبادئ الأُولَى للكون المادي هي نفوسٌ تُحرِّك الكينونات المادية، وتلك النفوس، أصل حركة الأجرام السماوية، ترقَى بحركتها إلى «نَفْس الكون» (psyche – ψυχή)، كما أشار في «تيماوس»، وإلى عِلّتها جميعاً العقل الكوني «نوس» (nous – νόος)، كما أوضح في مُحاوَراتٍ عديدة، وهكذا تكون تلك المبادىء الأُولَى أرقَى مِنِ الجسد والمادة وقد أَوجَدَها خَالِقٌ مُتَعال يُدبِّر الجميعَ بعنايته الإِلهية، كما أثبت في «الكتاب العاشر» من «القوانين».

لكن لا مجالَ لفَهْمِ هذا المَنحى اللاهوتي للكون إلَّا بوحيٍّ من التَّقوى، والعِفَّة، وصفاء العقل، وطهارة النَّفْس والتكرُّس الرُّوحاني. فأنَّى لمَنْ افتقدَ التُّقَى أنْ يَفهمَ ذلك؟ لذلك سعى أفلاطون هنا إلى تصحيح المفاهيم تجاه «الإِله الواحد» من خلال الإضاءة على مفهومِ التَّقوى والإيمان الصحيح، تماماً كما فعل في مُحَاورة «يوثيفرو» (Euthyphro).

وما تغافل عنه الباحثون الغربيون هو أنّ أفلاطون يشير في معظم أنحاء «الكتاب العاشر» إلى وحدانيّة الإِله لا إلى تعدُّد الآلهة، وهم لا ينفكّون يُسيئون تفسيرَ إشاراتِه إلى «النُّفوس» العُليا التي تُحرّك الأفلاك السَّمَاويّة بإرادةٍ من العقل الكوني. وإنّما هو يؤكِّد أنّ تلك المُدبِّرات هي «عِللٌ» مَخلوقة «لا آلهة».

فعلى سبيل المثال، حينما يريد سقراط أن يُقسِم في مُحَاوراتٍ أفلاطونية مثل «الدفاع» (Apology) (حيث يقول إنّه حاول طوال عمره أن يُطيعَ «أوامرَ الإِله»، بانتهاج حياة فلسفية حكموية) و»كريتون» (Crito) و»فيدون» (Phaedo) وغيرها، فإنّه يُقسِم باسمِ إلهٍ واحد وليس آلهة، فلماذا إذاً حوكِمَ بتهمة حَثَّ الشباب في أثينا على عدم الإيمان بتعدُّد الآلهة لدى الإغريق؟ أليس هذا ما أدَّى إلى إعدامه بالسُّم؟ ذلك يبدو جلياً أيضاً في «الكتاب الثاني» من «الجمهورية» حيث يُفنِّد أفلاطون «أكاذيبَ» أساطير تعدُّد الآلهة.

نقش للكتاب العاشر

فلو تعدَّدت الآلهة لبَات لِزاماً أن تتعدَّد التَّقوَات والعِبَادات، بل التّوبات والثوَابات والعِقابات، واستحال الأمرُ هَرَجاً كونياً! (وهذا ما استدركه أرسطو لاحقاً على هُدَى معلِّمه أفلاطون بقوله «لا بُدَّ أن يكون هناك حاكمٌ واحد للكون»).

فهؤلاء الآلهة عند الإغريق، بحسب أساطيرهم، كانوا يفتقدون إلى الأخلاق والحِسّ الإنساني والرَّحْمَة بل يتحاسدون ويتنافسون في ما بينهم، ويذكُر أفلاطون التَّورِية السَّاخِرة للكاتب المسرحي الإغريقي أوريبيدس (Euripides) حينما قال في إحدى مسرحياته في إشارةٍ إلى أساطير الآلهة الشخصية المتعدِّدة: «إذا كانت الآلهةُ تقوم بمثل تلك الأشياء (أي الأعمال المُفتَقِدة إلى الأخلاقيات) فهي لم تعُد آلهة!».

والإشارةُ واضحة في «القوانين» كشأنها في «تيماوس» الذي مهَّدَ بها لمفهومه اللاهوتي: «إنّ اكتشاف خالق الكون هو حقّاً مهمّة صعبة، لكن بعد ذلك التحقُّق سيكون من المُحال أنْ تُنقَل هذه المعرفة إلى الآخرين»، وهو أشبه بالتحقُّق الذَّوقي الصُّوفي!

دين وإيمان وقداسة!

 

هذا الإِلهُ في المفهومِ الأفلاطوني، المُتَعال عن الموجودات، اللامتغيِّر، المُتَّسِم بالكمال المُطلَق (وقد لَفَت الباحثون إلى مدى تأثير مفهوم أفلاطون هذا على علم اللاهوت فيما بعد)، الأرقى من التسمّيات (توقيراً وتقديساً وتعالياً، ولا سبيل لفهم هذا المنحى الديني لدى أفلاطون إلا بقراءة مُتأنّية لجميع مُحَاوراته لتكتمل الصورة!)، كما في «الجمهورية» و»بارمينيدس» (Parmenides) و»تيماوس»، هو وفق ما يؤكّده في مُحَاوَرة «القوانين»: «مقياسُ كلّ الأشياء»، في ردٍّ واضح على المَقولة الشهيرة للفيلسوف السُّفسطائي بروتاغوراس (Protagoras) «الإنسان هو مقياس كلّ الأشياء»، وبذلك يعود أفلاطون كشأنه في أبرز مُحَاوراته إلى الجانب الدِّيني الرُّوحي والأخلاقي لفلسفته.

وهو كان قد أشار في مُحَاورة «فيدون» إلى أنّنا مِنْ دون نُور هذا الإيمان بالإِله الواحد نَغْرَق في ظَلامٍ على غير هُدَى، حيث يقول جملته الشهيرة: «هناك في داخل كُلٍّ منّا طفلٌ يخشَى جميع الأشياء، غارقٌ في ظَلامٍ دامِس» موضِحاً أنّ لا نُورَ ولا هُدَى له إلَّا الإيمان بذلك الإِله المُتَعال، الذي تتوق النُّفوس والعقول للعودة إلى مملكته العُلوية المقدَّسة، ولا سبيل إلى ذلك سوى بالتشبُّه بالمُثُل الإلهية الأخلاقية، وأنْ نغدو حُكماء وعادِلين ومقدَّسين! وهذا ما عاد وأوضحه تماماً في مُحاوَرة «القوانين»، محور هذا البحث، كشأنه في مُحَاوَرتي «ثياتيتوس» (Theaetetus) و»الجمهورية».

ويختصرُ أفلاطون في «الكتاب العاشر» مغزَاه مِن مُجمل مُحَاوَرة «القوانين» بقوله على لسان كلينياس: «الدفاعُ عن الإيمانِ بالإِله الواحد هو خيرُ مُقدِّمةٍ لجميعِ القوانين!» وبالتالي المُقدِّمة لإرساء العَدْلِ والحُكْم العادِل، في دلالةٍ سياسيّة واضحة للعودة إلى مَنْبَعِ الإيمان. ويقول في إلمَاعَاتِه التي لا يَسبر أغوارَها إلا الراسخون في «حُبِّ الحكمة»: «حيثُ يسودُ الحُبُّ، لا حَاجةَ للقوانين»، وكذلك «الصَّالِحُون لا يَحتاجون إلى قوانين لتُعلِّمُهم كيف يَتصرَّفون بمسؤولية..».

إثباتٌ للوجودِ الإلهي بالحُجَجِ العقلية، وإيمانٌ بصُدقٍ ديني.. لهذا يستحقُّ أفلاطون القولَ عنه إنّه: «أبُو عِلْمِ اللاهوتِ العقلاني»، وها هو في خُلاصة «القوانين» يتساءلُ بإيمانِه الدِّيني: «أيُّ مَعنى للكَونِ وأيُّ مقياسٍ للحياةِ يكون مِنْ دُونِ الغايةِ الدِّينية الأخلاقية وهي مَنَارتُنا في السفرِ برحلةِ الوجود؟». إنَّ معنى الكونِ والحياة هو حقاً الإيمانُ الدِّيني «بإلهٍ مُتَعالٍ، خَالقِ الكَونِ والعِلَلِ والإنسان، ومُدبِّرِ مَصيرِه بعِنايتِه الإِلَهية!».


المراجع

– Laws, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Robert Mayhew, Plato: Laws 10, Oxford University Press, 2008.
– Friedrick Solmsen. Plato’s Theology. New York: Cornell University Press, 1942.
– I.M. Crombie, An Examination of Plato’s Doctrine. Vol.2. New York: Humanities Press, 1963.
– U. Von Wilamowitz, Platon, vol. 1 (Berlin 1920).
– W. K. C. Guthrie, A History of Greek Philosophy, vol. 2 (Cambridge 1965).
– J.N. Findlay, Ascent to the Absolute. New York: Allen and Unwin Ltd, 1970.

مجلس الشيوخ

 

مجلس الشيوخ خطوة نحو الاستقرار

أ. د. محمد شيّا

أظهرت الأزمات الدستورية المستعادة في لبنان، المرّة تلو المرّة، وآخرها اثنتان خطيرتان:
1- الفراغ الرئاسي بين 2014 و2016،
2- الفراغ الحكومي المتجدد، غير مرّة، والذي يستمر لأشهر، وربما، أكثر على حساب استقرار البلاد ومصالح بنيها الملحّة.

هاتان الأزمتان، وغيرهما الكثير، أضف إليهما، وبصراحة، انقسام اللبنانيين منذ فترة من الزمن حول قضايا مصيرية، بل وجودية عدّة، تشير كلها، بالقلم العريض، إلى أن شيئاً ما يجري على نحو خطأ، وأن نقصاً «تأسيسياً» ما يقوم في مكان ما، وأن تداركهما من الضرورة بمكان.

مجلس الشيوخ الروماني

وعليه، ما الذي يمنع اللبنانيين من استدراك النقص ذاك بتعديلات وخطوات موجودة في كثير من البلدان المتقدمة وتختصر بـ: استحداث «مجلس شيوخ»، كان موجوداً في فينيقيا، ثم في أثينا، ثم في روما، وبعد في عشرات البلدان الحديثة، تناطُ به، أو إليه، القضايا الوطنية المصيرية التي يجوز مقاربتها بمنطق أغلبية وأقلية، أو بمنطق الحشد الشعبي الذي يعمّق الأزمات ولا يعالجها. باختصار، لقد كانت الوثيقة التي خرجت بها مداولات «الطائف» المطوّلة من الحكمة بمكان أن اقترحت على نحو صريح مباشر استحداث مجلس للشيوخ في البرلمان اللبناني، بل العودة إلى مجلس الشيوخ الذي كان موجوداً في النسخة الأولى من الدستور اللبناني ولبضع سنوات، مكاناً لتضع فيه جميع المكونات التي يتألف منها المجتمع اللبناني أفكارها واقتراحاتها، بل وهواجسها ومخاوفها أحياناً، إلى سائر القضايا المصيرية أو الأساسية، فيجري التداول بها والنقاش فيها وجهاً لوجه، لا بالمراسلة والرسائل، ولا في الشارع، وهو الطريق المتحضر لحل الأزمات – وسيكون هماك دائماً أزمات في بلد بل في شرق شديد الحركة والتحوّل.
لا ترغب “الضّحى” بمصادرة النقاش سلفاً، وهي تكتفي بطرح الإشكالية أعلاه. لكنها ستفتتح النقاش باستعادة مشترك متقدم نصٍ اقترحه ووقّعه قبل نحو من ثلاثين سنة كلُ من: معالي الأستاذ وليد جنبلاط، المغفور له عطوفة الأمير مجيد أرسلان، والمغفور له سماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا في الفترة تلك.

وإلى النص أعلاه، تقدّم “الضّحى” في هذه الحلقة الأولى من ملف مجلس الشيوخ مقالة مختصرة للبروفيسور أنطوان مسرّة، ومقالة مطوّلة للدكتور هشام الأعور (الذي أنجز دكتوراه دولة بموضوع «مجلس الشيوخ»).

والملف مفتوح لمساهمات أخرى لاحقة، ومن باب وطني جامع، وعلمي موضوعي، ديدنُ “الضّحى” في ملفاتها كافةً.


ليسَ مجلس الشيوخ غرفةً برلمانية ثانية: كيف ولماذا؟

د. أنطوان مسرّه

 

1. لا جدوى من أي اقتراح أو تعديل دستوري إذا كان الدستور أساسًا معلّقًا وغير مطبّق ومُخترق يوميًا. تُشكل بالتالي الطروحات والمداولات والسجالات حول المنظومة الدستورية اللبنانية طمسًا لمعضلة الدولة في لبنان التي تتلخص في مسألتين:
أ. وجوب تمتّع الدولة اللبنانية بالمواصفات الأربعة المسمّاة ملكية وهي:
– احتكار القوّة المنظمة،
– احتكار العلاقات الدبلوماسية،
– فرض وجباية الضرائب،
– إدارة السياسات العامة،
ب. الدستور اللبناني، في نصّه وروحيّته، مُعلّق وغير مُطبّق ومُخترق يوميًّا، بخاصة من خلال تأليف حكومات برلمانات مصغّرة، ممّا يخرق مبدأ الفصل بين السلطات. الحكومة موصوفة قصدًا في الدستور اللبناني «بالإجرائية». والحكومات في لبنان تُمثل «الطوائف»، كما هو وارد في المادة 95، وليس قوى سياسية ولا «أحجام»…! وليس للحكومات عالميًّا صفة تمثيلية بالمعنى الانتخابي.2. يتوجّب في مُجمل ما يتعلق بالطوائف الانطلاق من تشكيل الهيئة الوطنية لوضع خطة مرحليّة في تخطِّي «الطائفية» (المادة 95 من الدستور). أمّا معالجة الموضوع «بالقطعة» فهو اختزال واجتزاء للطابع الشمولي والمتعدّد الجوانب حول تطوير النظام الدستوري اللبناني.

3. توجب وثيقة الوفاق الوطني – الطائف، التمييز في بنودها بين اثنين:
– الثوابت الدستورية التي وردت في معظمها في مقدمة
الدستور اللبناني.
– الشؤون التنظيمية: قانون الانتخاب، اللامركزية، مجلس
الشيوخ… التي يتوجّب العمل بها استنادًا إلى ظروف المكان
والزمان والتحوّلات، كما «مقاصد الشريعة» وليس حرفية الشريعة.

4. مجلس الشيوخ هو التجسيد للقِمم الروحية المشتركة في لبنان والتي لها دور بارز في كل تاريخ لبنان، بخاصة خلال 1975-1990، في ترسيخ الوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي.

5. من أبرز مخاطر معالجة تخطّي الطائفية «بالقطعة» وخارج الهيئة الوطنية الواردة في المادة 95 من الدستور اللبناني مزيدٌ من تطييف النظام.
يتطلّب تكوين وتنظيم مجلس الشيوخ مقاربة من منطلق طبيعة النظام الدستوري اللبناني والأنظمة البرلمانية التعددية، وبالتالي بدون اغتراب ثقافي aliénation culturelle وبدون مقاربة استنادًا إلى مجالس الشيوخ في أميركا وفرنسا وبريطانيا وفي الدول ذات التنظيم الفدرالي الجغرافي.

6. إذا كان تعيين أعضاء مجلس الشيوخ من خلال انتخابات عامة، فهذا قمّة التطييف لأنه يحمل كل ناخب إلى انتخاب عضو من طائفته مما يؤدي إلى فرز مُصطنع في العائلة الواحدة استنادًا إلى الانتماء المذهبي! إنه تكريس لما سُمّي بـ «مشروع أورثوذكسي» وهو مشروع جهة محدّدة ولم يتبنَّه المجتمع اللبناني.
يتم تعيين أعضاء مجلس الشيوخ من قبل هيئة ناخبة مُصغّرة Collège électoral restreint من قبل الهيئات الرسمية للطوائف، واستنادًا إلى معايير يتوجب التقيّد بها بشكل دقيق وصارم، في الاختصاص والخبرة، لأن الموضوع يتطلب اختصاصًا وخبرة على نمط لجنة برنار ستازي Bernard Stasi حول العلمانية في فرنسا (2003) ولجنة بوشار-تايلور Bouchard-Taylor (2008) في كندا وليس على أساس قوى سياسية وأحزاب.

7. إنّ المادة 65 من الدستور التي تفرض أكثرية موصوفة majorité qualifiée في ما يتعلق بـ 14 قضية مُحددة حصرًا هي الضامنة أساسًا لحماية حقوق كل مكوّنات المجتمع اللبناني. تَحُوْل المادة 65 دون طغيان فئوي minority control ودون طغيان أقلية وطغيان أكثرية abus de majorité/ abus de minorité. تم التلاعب بهذه المادة في التطبيق وخرقها من خلال شعارات «الثلث» و «التعطيل و «طغيان فئوي…» تطبيقًا لنظرية إسرائيلية، بخاصة لـ Sammy Smooha تستند إلى حالات إسرائيل بالنسبة إلى عرب اسرائيل وسوريا وأفريقيا الجنوبية في عهد التمييز العنصري وإيرلندا قبل «اتفاقية الجمعة» Friday agreement.

8. ليس مجلس الشيوخ اللبناني غرفة ثانية Seconde Chambre، بل هيئة مساندة وليس لها صفة تشريعية.
إذا كان لها صفة تشريعية فهذا يؤدي إلى مزيد من تطييف كل القضايا بدون استثناء: سوف نطيّف الضرائب والتنظيم المدني، وأسعار السلع الاستهلاكية والإدارة…!.

9. لا يتوجب أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ متفرّغين ولا يتقاضون تعويضات ثابتة، وربما يتقاضون تعويضات رمزية ويجتمعون في سبيل التخطيط الدائم لمجتمع الدولة الضامنة للعيش المُشترك والسيادة الوطنية والثقافة اللبنانية الجامعة وحماية الثوابت اللبنانية والدفاع عن لبنان «عربي الهوية والانتماء» ورسالته العربية والدولية.

10. إنّ ضمان الحريات الدينية والإدارة الذاتية في ما يتعلق بالمادتين 9 و 10 من الدستور هو مُحقق بفضل المادة 19 من الدستور حيث يحقّ لرؤساء الطوائف الطعن بأيّ قانون متعلق حصرًا بهاتين المادتين. وهو محقّق أيضًا بفضل المادة 65 في اشتراط أكثرية الثلثين في 14 قضية أساسية. لا يجوز بالتالي لمجلس الشيوخ أن يتضارب في صلاحياته مع المادتين 19 و65 من الدستور.

11. من الأفضل أن تكون رئاسة مجلس الشيوخ وأغلبية أعضاء مكتب مجلس الشيوخ من الطوائف الصغرى. كل الطوائف في لبنان أقليّات ولكن لدى بعضها وهم أو إدراك أكثري أو ممارسة طغيان فئوي.


لماذا مجلسُ الشّيوخ اللّبناني؟

د. هشام الأعور

 

تتميّز بعض المجتمعات العربيّة، وخصوصاً المجتمع اللبناني منها، بكونها مجتمعات مركّبة عرفت تنوعاً كبيراً في الانتماء الديني – المذهبي الذي يعود تشكلّه إلى منتصف القرن الخامس الميلادي، حيث تتواجد في لبنان الأعراق والمعتقدات والشعائر والطوائف والمذاهب وأساليب التفكير والأعراف، وهذا ما دفع بميشال شيحا إلى وصف المجتمع اللبناني على أنه ائتلاف «العائلات الروحية» مع ما ينتج منه ضرورة تعزيز تنوّع التمثيل في المؤسسات الدستورية والمرافق العامة كوسيلة لتلافي العنف خارج المؤسسات، واستبداله بحوار بنّاء ومنفتح داخل المؤسسات بعيداً عن الشارع.

ولما كان لبنان، كما يعتبره البعض من أكثر البلدان الذي يضم في تركيبته الاجتماعية «أقليات طائفية متشاركة» وبالتالي لا تُحكَم إلا بالتوافق والتوازنات، فهذا الأمر استدعى وجود مؤسسة دستورية تتمثل فيها جميع مكوّنات المجتمع اللبناني، وتخلق للطوائف الدينية إطاراً من العيش المشترك، لذلك جاءت نشأة مجلس الشيوخ في لبنان في سياق تطور تاريخي لمبدأ مشاركة الطوائف في السلطة من خلال هيئات ذات طابع تمثيلي. فلبنان الذي احتفظ خلال مرحلة طويلة من تاريخه بطابع خاص في بنيته الاجتماعية وتعدد طوائفه الدينية، دون سائر بلدان الشرق الأدنى، قد أخذت الطائفية فيه وضعاً قانونياً تسرّب إلى أنظمة الحكم منذ قيام نظام القائمقاميتين في الجبل عام 1842 ونظام المتصرفية عام 1864، من بعده، مروراً بنظام الجمهورية اللبنانية عام 1926، وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989 حتى أصبحت الطائفية تشكل كينونة مجتمعية – سياسية للمذهب الديني، إضافة إلى كونها ظاهرة نفسية ودينية واجتماعية واقتصادية وسياسية شاملة لجميع مستويات البناء المجتمعي اللبناني.

وفي حين عُبّر عن هذا الانقسام الطائفي من خلال نظام القائمقاميّتين الذي شكل كيانين طائفيين تم الاعتراف بهما في نص رسمي في نظام شكيب أفندي. إلّا أن هذا الانقسام سرعان ما تكرّس في النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان (1861-1915). ففي 9 حزيران 1861، وعلى أثر الاضطرابات الطائفية التي اجتاحت جبل لبنان، وَضعت لجنة مؤلّفة من ممثلي خمس دول أوروبية بالإضافة إلى مندوب السلطنة العثمانية نظاماً جديداً لجبل لبنان عُرف «بالنظام الأساسي» أو «نظام المتصرفية». فجاء هذا النظام يكرّس نوعاً من «الكونفدرالية» الطائفية تمثّلت بتشكيل أعضاء المجلسين الإداري والقضائي اللّذين تألّف كل منهما من 12 عضواً توزّعوا طائفيًّا كما يلي: 4 موارنة، 3 دروز، 2 روم أرثوذكس، سني واحد، كاثوليكي واحد، شيعي واحد. وقد تولّى مجلس الإدارة الأول، مساعدة المتصرف في القيام بمهامه الإدارية، في حين نصّت المادة الثانية من النظام الأساسي على تولي المجلس توزيع الضرائب ومراقبة الواردات وإعطاء رأيه الاستشاري في كل القضايا التي يحيلها عليه المتصرف. وقد اعتُبر مجلس الإدارة ممثلاً للطوائف وكان الاقتراع في المجلس يتم على أساس الطوائف وهذا يعني أنه كان للطائفة صوت واحد في المجلس.

وبعد أن انتقل لبنان من حكم السلطنة العثمانية إلى الانتداب الفرنسي وإعلان دولة الكبير في العام 1920، أصدر المفوض الفرنسي الجنرال «غورو» قراراً يقضي بإلغاء مجلس الإدارة وإقامة لجنة لبنان الإداري، عُيّن أعضاؤها من قبل المفوّض السامي على أساس انتماءاتهم الطائفية، قبل أن يعود المفوض الفرنسي ليعلن في 23 أيار / مايو عام 1926 عن دستور للدولة اللبنانية ليتحوّل المجلس التمثيلي، الذي أنتخَب لجنة من النواب لإعداد الدستور، إلى مجلس تأسيسي ومن ثم نيابي، في حين عيّن المفوض السامي إلى جانب مجلس النواب، مجلس شيوخ وعدد أعضائه ستة عشر شيخاً، قبل أن تعود السلطات الفرنسية في العام 1927 وتلغي مجلس الشيوخ، وتوحّد الهيئتين اللتين يتألف منهما البرلمان في هيئة واحدة هي مجلس النواب بحجة أنّ مجلس الشيوخ لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة، فيصبح البرلمان اللبناني مكوّناً، منذ ذلك الوقت، من مجلس واحد هو مجلس النواب حسب ما نصت عليه المادة 16 من الدستور اللبناني.

وبينما تؤكد وثيقة الوفاق الوطني التي اُقرّت في الطائف في العام 1998 على حرفيّة هذه المادة الدستورية التي ما زالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، إلّا أنّه وبموجب الاتفاق المذكور فقد أقرّ القانون الدستوري رقم 18 بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر عام 1990 إعادة إنشاء مجلس الشيوخ بموجب المادة 22 من الدستور التي ربطت عملية استحداث مجلس الشيوخ بانتخاب أول مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، حيث يُشكّل مجلس الشيوخ كصيغة حل لتجاوز الطائفية السياسية المتعاقبة فصولاً منذ أن ارتسم في أفق الاجتماع اللبناني مشروع دولة متعددة الطوائف.
لقد جسّد اتفاق الطائف عام 1989 ميثاقاً جديداً للسلام بين اللبنانيين، وأعاد الوحدة السياسية إلى البلاد، والمؤسسات إلى نشاطها، وأبقى التوزيع التقليدي السابق لكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء بعد تحديد صلاحيات كل منها، وجعل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلسي النواب والوزراء.

لا مجال هنا لاستعراض كل ما أدخله اتفاق الطائف من تعديلات على الدستور، إلا أننا، ضبطاً للبحث الذي نحن بصدده، ومراعاة لحجمه وأغراضه، سنلتزم فيما نص عليه هذا الاتفاق على صعيد البرلمان وتأكيده على إنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، بالشكل الذي يجعل من إنشاء المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة الطائفية التي تقيّده، والدفع بالناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لا طائفية عند صندوق الاقتراع. ما يطرح السؤال حول جهوزية بلد كلبنان، والمؤلَّف من ثماني عشرة طائفة مختلفة معترف بها، وتتحكم فيه موازين قوى داخلية وخارجية، عن تجاوز الطائفية السياسية عبر مجلس شيوخ يمثل الطوائف مقابل تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي وبالتالي تحوّل الإنسان اللبناني من هويته الطائفية السياسية وتالياً الدفع به في اتجاه المواطنة الحقيقية.

في العام 1990، وعندما تقرّر إدخال «إصلاحات» الطائف في صلب الدستور اللبناني، تمّ تعديل 31 مادة من مواده، كما أضيفت إليه مقدَّمة تضمَّنت المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، وقد توافق النواب يومئذ، بالإجماع، على مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية» الذي جعل منه الدستور «هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» وإن كانت هذه الترتيبات المتعلقة بمسألة الطائفية لم تكن، في ذهن واضعي اتفاق الطائف – برأي البعض – ترتيبات انتقالية، بل إنها جاءت لتمهِّد وتُحضِّر لمرحلة لاحقة، لحظها الطائف، وصولاً إلى الهدف وهو تجاوز الطائفية بالتدرّج وعلى مراحل، بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولاً إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي، وعندئذ يُنشأ مجلس شيوخ تتمثَّل فيه جميع «العائلات الروحية» وتكون صلاحياته محصورة في «القضايا المصيرية».

ولكن كيف يتجلّى مجلس الشيوخ المقترح في دستور الطائف؟ وهل أن التعديلات الدستورية في الطائف قد أحدثت تغييرات جذرية على المجلس أو أنها أبقت على روحية دستور 1926 وخطوطه العريضة لجهة تركيبة مجلس الشيوخ وصلاحياته؟ ولماذا ميَّز المؤتمرون في الطائف بين استخدام تعبير «الطوائف» و «العائلات الروحية»، وما هو المقصود بـ «العائلات الروحية» التي تتمثل في مجلس الشيوخ؟ وهل أن «القضايا المصيرية» هي نفسها «المواضيع الأساسية» التي وردت في المادة 65 من الدستور وتتطلب موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء، وما معنى هذه وتلك؟.

بعض هذه الأسئلة لا نجد جوابا عليها في المواد الدستورية بشكل مباشر، لكنها وفق مبادئ التفسير وقواعده، فهي تفسر في ضوء ارتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي. هذه هي الفكرة الوحيدة الواضحة من الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. فاتفاق الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة من هي «العائلات الروحية» التي سيكون لها تمثيل في مجلس الشيوخ، وكذلك الأمر بالنسبة لصلاحيات المجلس، إذ إن عبارة «تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» كما وردت في المادة 22 من الدستور، لا تفيد شيئا في تعريف «القضايا المصيرية» التي سيعالجها مجلس الشيوخ.

وربما يكون ذلك قد أدّى إلى خلق جدل واسع بين فقهاء القانون الدستوري الذين تصدَّوْا لهذا التعديل بالتحليل والمناقشة والتمحيص، لاسيّما وأن المشرع الدستوري لم يعدّل المادة 16 والمتعلقة بالهيئة المشترعة والتي بقيت على نصها القديم: الهيئة المشترعة واحدة هي مجلس النواب. فهل المقصود أنّ نظام المجلسين في لبنان لا يعني ثنائية السلطة التشريعية، أم أن المقصود فعلاً أن يكون مجلس الشيوخ عبارة عن هيئة نقض ومراجعة ورقابة على مجلس النواب المنتخب على أساس غير طائفي؟

إن التباين الشديد للمواقف السياسية حول قبول ورفض نظام المجلسين يثير الكثير من التساؤلات حول العوامل التي تقف وراء هذا الاختلاف والتباين في المواقف ووجهات النظر من جهة، ومدى ملاءمة هذا النظام مع احتياجات المجتمع اللبناني، انطلاقاً من الرؤية الموضوعية التي تراعي المصلحة العامة للبنانيين وصولاً إلى تقدير جدوى إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان من عدمه.

ثمة أسباب متعددة تفرض على المجتمعات والشعوب المتعددة اللجوء إلى خيارات كانت معتمدة في الماضي القريب، والتي تحكم عمل المؤسسات الدستورية في العالم ومن بينها لبنان الذي شهدت بنية البرلمان فيه بموجب اتفاق الطائف عام 1989 تحوّلاً نحو استحداث غرفة ثانية، أخذت مسمّى مجلس الشيوخ إلى جانب مجلس النواب، فنصت المادة 22 من الدستور المعدلة بالقانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

وخلافاً لتجربة الثنائية البرلمانية السابقة في مرحلة
الانتداب الفرنسي، التي جعلت من مجلس الشيوخ توأمَ مجلس النواب بحيث يكوّنان السلطة الاشتراعية عندما يلتئمان معاً، أو أن ينعقد كل منهما منفرداً في العقود العادية والاستثنائية، ويكادان يتشابهان في معظم صلاحياتهما الاشتراعية- بل هي نفسها – على نحو يوحي بأنّ كلّاً منهما يكمّل الآخر، من خلال مواعيد الانعقاد، والنصاب القانوني للالتئام والتصويت فضلاً عن التصويت الشفوي والاقتراع السرّي والمناداة بالأسماء، والجلسات السرية والعلنية، وحصانة العضو وملاحقته، وآلية طرح الثقة بالحكومة، وملء الشغور، ومواعيد تجديد الهيئة المشترعة المزدوجة، وهو ما جعلهما يشكلان معاً البرلمان عندما يلتئمان، صورة منسوخة عن البرلمان الفرنسي إذ يجمع الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. بالمقابل اعتبر اتفاق الطائف مجلس الشيوخ المقترح مؤسسة دستورية مستقلة في ذاتها وصلاحياتها وتميز دورها عن مجلس النواب، رابطاً عملية إنشاء مجلس الشيوخ بشرط إلغاء الطائفية السياسية حيث اشترطت المادة 22 من الدستور أن يسبق مجلس الشيوخ انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي.

وفي حين تنص المادة المذكورة على أن يكون مجلس الشيوخ المُقتَرح هيئة لتمثيل الطوائف التي اتّخذت لأول مرة تسمية «العائلات الروحية»، يستخدم الدستور اصطلاح «الطائفة» و»الطوائف» في المادة 24 عند الحديث عن تأليف مجلس النواب. بالمقابل تتحدث المادة 95 عن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وتمثيل «الطوائف» بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الأولى. فيما تنص مقدمة الدستور فقد نصت في الفقرة (ح) على إلغاء «الطائفية السياسية» كهدف وطني، ما زالت المادة 16 من الدستور تنص بعد التعديلات الدستورية سنة 1990 على أن تتولّى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب، بعد أن عدلت هذه المادة سنة 1927 وكانت تنص: يتولى السلطة المشترعة هيئتان: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. أما الصلاحيات التي نص عليها الدستور لمجلس الشيوخ فهي تنحصر في «القضايا المصيرية». بينما استخدمت المادة 65 من الدستور الفقرة 5 مصطلح «مواضيع أساسية» للتصويت الموصوف في مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين.

وعلى الرغم من أن نظام المجلسين الذي ظهر بداية، في المملكة المتحدة، ثم في الولايات المتحدة، وفرنسا، وتناقلته الكثير من دول العالم لاحقاً، يشكل خلفية عامة من الصعب تجاهلها، إذ يستحضرها لنا القانون المقارن استحضاراً لا بدّ منه، على الأقل لعراقتها، إلاّ أنّه لا يمكن الاكتفاء بإسقاط المقترح اللبناني على هذه التجارب المقارنة دون البحث عن مضمون مجلس الشيوخ اللبناني الذي ينفرد عن غيره ببعض الخصائص والتي تتعلق بطبيعة المجتمع اللبناني ونظامه السياسي، لذلك يلفت أحد الخبراء الدستوريين إلى أن «من يُرِد أن يدرس مجلس الشيوخ المقترح في الدستور يجب أن يتجرّد تماماً من البرمجة الذهنية لمجالس الشيوخ في بلدان أخرى حيث عملها يأتي كغرفة ثانية لمجلس النواب، أما في لبنان، فيجب النظر إليه في إطار إدارة التعددية الدينية والثقافية وضمان حقوق الطوائف بما يتعلق بالمواد 9 و 10 و 95 من الدستور، المرسِّخة للقيم اللبنانية والسلم الأهلي».

لقد جاء اتفاق الطائف بإسناد البرلمان إلى نظام المجلسين، الأول للنواب والثاني للشيوخ، بشكل يتوافق مع ظروف لبنان الذي يتميز بالتنوع الديني والطائفي، حيث يتم الخضوع لممثلي الأغلبية في مجلس النواب المُنتخب من خارج القيد الطائفي من جهة، وتمكين الطوائف الدينية من أن يكون لها دور فاعل ومؤثر عبر مجلس الشيوخ في ما خص «القضايا المصيرية».
وإذا كان تجاوز الحالة الطائفية يُمثِّل الخلفية الأساس لاتفاق الطائف والذي استجاب كما يبدو إلى مطالب فريق واسع من اللبنانيين ممَّن كان يطالب بإنشاء غرفة ثانية في البرلمان، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمِرون في الطائف على ذلك، نصّت وثيقة الوفاق الوطني على أنّه، في المرحلة الانتقالية، لا تُخصص أيّة وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية. كما نصت على أن يُعتمد الاختصاص والكفاءة، بدلاً من قاعدة التمثيل الطائفي، في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تطبق قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.

وقد تجلَّى إجماع النواب على هذه المسألة عند إقرار تعديل المادة 95 من الدستور في العام 1990، والذي عكس حلًّا وسطيًّا، إذ لم يقرن إنشاء مجلس الشيوخ بوضع دستور جديد للبلاد، لكنه بالمقابل اشترط إلغاء الطائفية السياسية كخطوة ضرورية قبل ذلك. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت المادة (95) من الدستور آلية محدّدة تتضمن قيام مجلس النواب «المُنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين» بتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، حيث تتولّى هذه الهيئة إقرار خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء. أكثر من ذلك، فقد توافق النواب بالإجماع، كما ذكرنا سابقاً، على إضافة مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية» في صلب مقدمة الدستور في حين أن هذا المبدأ لم يكن ملحوظاً ضمن المبادئ العامة الواردة في اتفاق الطائف.

ولكن، وإن كان اتفاق الطائف قد وضع يده على مكمن الداء، فحدَّد الهدف بوضوح، ورسم الآلية الواجب إتباعها للوصول إلى هذا الهدف، من دون أن يُغفل أن الطريق طويل، وأن ثمة مراحل لا بد من المرور بها، نرى أن الطائف لا يقدم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلسين أو غرفتين تقومان على أسس مختلفة، فهناك غموض كبير يحيط بالصيغ المحتملة لنظام الثنائية البرلمانية في لبنان لناحية تركيبة مجلس الشيوخ وأساس تكوينه، مدة الحكم، أساليب الانتخاب، وصلاحياته، وغيرها من الأمور الأخرى التي تبقى غير مستطلعة إلى حد كبير.

وإذا كان من مقتضيات تفسير القواعد الدستورية العودة إلى الأعمال التمهيدية، كالأسباب الموجبة وتقارير اللجان ومناقشات النواب، فلا بد من التوقف عند الأسباب الموجبة والمناقشات البرلمانية والأعمال التحضيرية والاجتهاد، والاجتهاد المقارن وروحية النص والتمعّن أيضاً في مختلف الظروف المحيطة التي رافقت ولادة نص المادة (22) من الدستور وتلمُّس قدر الإمكان حكمة التشريع في الأسباب الموجبة لإنشاء مجلس الشيوخ اللبناني.

فبالعودة إلى التجربة السابقة، فقد سبق للبنان، كما أسلفنا، أن اعتمد نظام المجلسين (الشيوخ والنواب) في دستور 1926 خلال فترة الانتداب، حيث استوحى الدستور اللبناني قواعد الجمهورية الفرنسية وجعل السلطة التشريعية مؤلفة من هيئتين: الشيوخ والنواب، قبل أن تعود سلطات الانتداب وتلغي مجلس الشيوخ في العام 1927 لأنّه لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة. لذلك لا يُعتَد إذاً بالعودة إلى التجربة السابقة.

أمّا بالنسبة إلى الأسباب الموجبة فهي مُختصرة وتتعلّق بكل التعديلات الدستورية التي أقرها اتفاق الوفاق الوطني في الطائف، وهي لا تصرّح بشيء خاص عن مجلس الشيوخ، في حين أن المناقشات البرلمانية لا تلحظ هذا الأمر، لأن التعديلات الدستورية أُقرّت دفعة واحدة وفي جلسة نيابية واحدة، تطبيقاً لاتفاق الوفاق الوطني في الطائف.

وأما وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرت في الطائف واعتُبِرَت مرجعاً لهذه التعديلات فهي أيضا ذكرت حرفيا في الفقرة 7 من بند 2 (الإصلاحات السياسية) نص المادة (22) كما وردت من الدستور المعدّل عام 1990. كما أنّ مطالب القوى السياسية والمُناخات سواء تلك التي سبقت أو رافقت إقرار اتفاق الطائف وفلسفة الإصلاحات والمؤسسات التي تم الاتفاق على استحداثها أو تعديلها، لا تقدم جميعها أيضا شرحاً وافياً لنص المادة (22) من الدستور.

وعليه، فإنَّ النص على استحداث مجلس للشيوخ، بموجب دستور الطائف، يتخلّله ضمناً إبهام على مستوى المادة (22) من الدستور وعدم وضوحها لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد «القضايا» التي تنطبق عليها صفة «المصيرية»، لذلك يصبح من الضروري أن نتناول في بحثنا لموضوع الهيئة الوطنية، والإشارة إلى كيفية مساهمة مجلس الشيوخ المقترح في بناء نظام ديمقراطي يضمن حقوق «العائلات الروحية»، ومن خلال تحديد صلاحياته ووظائفه، والتي يقع من ضمنها موضوع «القضايا المصيرية».

الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية 

 

لقد حاول الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف أن ينأى قدر الإمكان عن الطائفية وآثارها السلبية، واعداً بإقصائها عن دورة الحياة السياسية في المستقبل، ومفضّلاً عليها عبارة «العائلات الروحية». فقد ورد في الفقرة السابعة من قسم الاصلاحات السياسية في اتفاق الطائف سنة 1989 المادة 22 منه: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

في مقابل هذه المادة، كان دستور الطائف، كلّما ذكر الطائفية، ربطها بمدلول سلبي في غالب الأحيان، ومن قبيل ذلك قوله، في البند (ح) من المقدَّمة «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني»، وفي المادة 22 كما سبق البيان: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي»، وفي المادة 24: «وإلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي»، وفي المادة 95 : «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق الطائفية السياسية».

وانطلاقاً من هذه المواد الدستورية نرى، أن الدستور اللبناني حدد أربعة مراحل تتعلّق بإلغاء الطائفية السياسية، حيث تبدأ المرحلة الأولى بإنجاز مهمة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، لتأتي من بعدها المرحلة الثانية والتي تتضمن إنجاز مهمة الهيئة الوطنية التي تندرج تحت مهام ثلاثة وهي:
ـ درس واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية.
ـ تقديمها إلى مجلس النواب.

ومتابعة الخطة المرحلية مروراً بالمرحلة الثالثة، وهي المرحلة الانتقالية وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وصولاً إلى المرحلة الرابعة التي تقوم على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها أو ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.

وبعد إتمام جميع المراحل التمهيدية والانتقالية المذكورة أعلاه، يُصار إلى:
أ) إقرار قانون انتخابات نيابية على أساس وطني لاطائفي.
ب) انتخاب مجلس نوّاب على أساس وطني لاطائفي.
ج) استحداث مجلس للشيوخ، مع أول مجلس نواب وطني لاطائفي.

لذلك يمكن القول، ووفقاً للتعديل الدستوري الذي جرى عام 1990، إنّ المشرّع لم يكتفِ بما أورده في الفقرة (ز) من مقدَّمة الدستور، من «إنّ إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، بل ذهب أبعد من ذلك، حين وضع آلية لتحقيق هذا الهدف، نصَّت عليها المادة 95 حيث أوكلت إلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية، وفق خطة مرحلية، إلّا أنّ هذه المادة رأت أنه من الأفضل خلال الفترة الانتقالية للجمهورية تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاية في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة المختلَطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادلها حيث تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.

كما يتضح من قراءة المادة 95 من الدستور، أن المشرّع الدستوري حدّد الآلية الواجب اعتمادها من قبل مجلس النواب، لإلغاء الطائفية السياسية، وهي تتضمن شقّين: الأول خطة مرحلية، والثاني تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

ولا عجب، أن يكون تعديل المادة 95 من الدستور قد حاز، في حينه، على إجماع النواب، من دون نقاش، لأن اتفاق الطائف الذي أرسى قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن العدد، إنما وضع ذلك في إطار رؤية للمستقبل تهدف إلى تجاوز الحالة الطائفية عن طريق إلغاء الطائفية السياسية على مراحل. والجدير بالذكر أن النواب، لدى إقرار مقدمة الدستور، من أجل تضمينها المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، ارتأوا تعديل الفقرة (ح) من الوثيقة التي كانت تنص على مبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية باستبداله بمبدأ آخر هو إلغاء الطائفية السياسية. حيث أصبحت الفقرة المذكورة في الدستور تنص على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمرون في الطائف على تجاوز الطائفية، نصت الوثيقة على أنه، في المرحلة الانتقالية، لا تُخصص أيّة وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفية والمذهب في بطاقة الهوية.

وإذا كان موضوع تشكيل الهيئة الوطنية يندرج في سياق التوجه العام الذي توافق عليه النواب، في حينه، بالإجماع، وأصبح موجباً دستورياً ملزماً منذ العام 1992، أي منذ انتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ولكن كيف تُنشأ الهيئة الوطنية، وهل يمكن لها أن تمارس عملها وتقترح على المراجع المختصة خطة متكاملة تنفذ على مراحل؟ وهل ستعمل على إلغاء الطائفية السياسية فحسب، أم أن عملها سيشمل على إلغاء الطائفية برمتها؟ وأساساً هل من المستطاع إلغاء الطائفية السياسية من دون إلغاء الطائفية؟

ففي حين لا يلحظ النص الدستوري آلية محدّدة لتشكيل الهيئة الوطنية، إلا أنه يمكن الأخذ بواحد من أمرين أو الاثنين معاً: فرئاسة الهيئة منوطة برئيس الجمهورية وبالتالي يمكن أن الاجتهاد للقول؛ الرئيس هو الذي يشكلها. كما أن النص قد حدد توقيت تشكيلها بانتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين ممّا يؤدي إلى الاجتهاد بالقول إن صلاحية التشكيل تعود إلى مجلس النواب المُنتخب على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وبذلك يكون مجلس النواب ملزماً بممارسة تلك الصلاحية تطبيقاً لما ورد في مستهل المادة 95 التي تحدثت عن إنشاء الهيئة وليس عن مجرد طرح يرمي إلى إنشائها لأن إجراءات الإلغاء باتت مرتبطة فيها.
أمّا عن مهمة الهيئة، فإنها تقتصر على درس وتمحيص الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية، بعمق ودراية وحكمة ومسؤولية، والتوافق عليها حسب النظام الداخلي الذي يرعى أعمالها. وبعد ذلك ترفع الهيئة المقترحات الملائمة إلى كل من مجلس النواب ومجلس الوزراء لإقرارها دستوريًّا، كما تتولى أيضا متابعة تنفيذ الخطة المرحلية التي ينبغي على مجلس النواب وضعها.

وينتج عمّا تقدّم، أن الهيئة الوطنية لا تملك دستورياً أو قانونياً، صلاحية اتّخاذ قرارات نافذة وملزمة تتعلق بإلغاء الطائفية السياسية أي إلغاء طائفية المراكز السياسية، بل إن مهمتها تنحصر في تقديم التوصيات والاقتراحات الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية فقط. في حين يبقى المرجع الصالح لإلغاء الطائفية السياسية هما: مجلسا النواب والوزراء، وأن القرار النهائي بهذا الشأن يعود حصراً إلى مجلس النواب لإقرار إلغاء الطائفية السياسية، عبر قانون دستوري، توافق عليه غالبية الثلثين.

وعليه، فإن تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لا يمكن أن يعني أن الطائفية قد أُلغيت بل إن مسيرة التفكير والبحث عن أنجع الوسائل لإلغائها قد بدأت. إلّا أن صياغة هذا الأمر على ما يبدو في المادة 95 من الدستور لم تكن واضحة عند الكثيرين. ففيما تذكر المادة المذكورة أن على مجلس النواب اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق «إلغاء الطائفية السياسية» وفق خطة مرحلية وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، سرعان ما تتحدث في السياق عينه، عن مهمة الهيئة المذكورة في دراسة واقتراح الطرق الكفيلة «بإلغاء الطائفية» وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة، حتى أصبح الأمر بذلك هدفا وطنيًّا، الأمر الذي دفع عدداً من الدستوريين للحديث عن وجود تناقض مقصود أو غير مقصود في المادة 95، أو أقلّه غموض كان من المفترض إيضاحه حول مسألة إلغاء «الطائفية السياسية» أو «الطائفية»، لأن الدستور لا يقدّم إجابات شافية حول هذه المسألة، فبالعودة إلى النصوص الدستورية نرى أن هناك إشارات واضحة إلى الأمرين معاً، أي إلى ضرورة إلغاء «الطائفية السياسية» وإلى إلغاء «الطائفية». ولكن، بين هذا وذاك فرق كبير. فإلغاء الطائفية السياسية يعني كما أشرنا سابقا، إلغاء طائفية المناصب والوظائف والحصص، وإلغاء المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي، وإلغاء المناصفة في موظفي الفئة الأولى، وبالتالي إلغاء الديمقراطية التوافقية ليعمل محلها الديمقراطية العددية مقابل ضمان حقوق الطوائف الدينية عبر مجلس الشيوخ.

وفي هذا المجال نشير إلى أن المادة 95 من دستور الطائف، والتي تقترح تشكيل هيئة وطنية مهمتها اقتراح الوسائل الكفيلة بإلغاء الطائفية، وليس إلغاء الطائفية السياسية فقط. والفرق بين الأمرين كبير، فإلغاء الطائفية يعني إرساء ركائز دولة المواطنة المدنية. أما إلغاء الطائفية السياسية فقط يعني إلغاء المساواة عبر تكريس القوة العددية. والمادة 95 نفسها شددت على اعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة، بناء على المواطنة، وليس بناء على المحسوبية والزبائنية.
وبرأينا، فإن نص المادة 95 قد أشار بوضوح إلى إلغاء الطائفية أوّلاً، ومن ثم الطائفية السياسية، وهذا يتطلب في الدرجة الأولى اتخاذ خطوات عملية قائمة على بناء المجتمع المدني أو العلماني، فلا بديل من الشراكة إلّا الوحدة، وما دام لبنان متعدد الطوائف والمذاهب فلا يمكن أن يجد وحدته إلّا عبر العلمنة، وهذا هدف حضاري ولكن متعذر التحقيق إلى حد الاستحالة، لأن الأنظمة التي تفصل بين الدين والدولة مطبّقة داخل البيئات ذات الدين الواحد كما هو الحال في المجتمعات الغربية. كما أن البلدان التعددية مثل لبنان لا يمكن، أن تعبر إلى العلمانية إلّا عبر تنشئة وطنية موحدة، وإقرار قانون واحد للأحوال الشخصية تغلب فيه الحرية الفردية وحقوق الانسان التي أقرها الإعلان العالمي في الأمم المتحدة، وعليه فإنّ لبنان لا يمكنه أن يبدأ بإلغاء الطائفية السياسية في السلطة والوظائف في شكل فجائي، لأن ذلك يعرِّض عقد الشراكة الوطنية إلى الانفراط والانهيار، ويفجّر حربا أهلية من جديد.

العائلات الرّوحية 

 

تقوم فلسفة اتفاق الطائف على فكرتين أساسيتين: فكرة ضمانة الجماعات، وفكرة ضمانة الفرد وحقوقه كمواطن، وفي حين يكون ضمان الجماعات موجوداً في مجلس الشيوخ، فإن ضمانة الفرد وحقوقه هي في إلغاء الطائفية السياسية.

وفي حين يستخدم الدستور اللبناني مُصطلح «الطوائف» و «حقوق الطوائف» كما جاء في المادة 95 من دستور 1926 والمادة (10) من حقوق اللبنانيين وواجباتهم، وكذلك الأمر بالنسبة للمادة 9 من الدستور التي استخدمت تعبير «الأديان والمذاهب» في معرض الحديث عن حرية الاعتقاد وحماية الدولة لها، نرى أن اتفاق الطائف قد استخدم أيضاً مصطلح «الطائفة» و «الطوائف» في المادة (24) عند الحديث عن تأليف مجلس النواب، في حين تتحدث المادة (95) عن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وتمثيل «الطوائف» بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الأولى والوظائف العامة، قبل أن يعود الاتفاق المذكور ليتحدث عن مجلس الشيوخ كهيئة لتمثيل الطوائف التي اتّخذت لأوّل مرّة تسمية «العائلات الروحية».

جواد بولس

وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن النظام السياسي اللبناني بأخذه نظام الغرفتين في دستور الطائف إنّما أراد أن يشرك «العائلات الروحية» نظراً لما تتمتع به هذه العائلات من دور هام والإقرار بدورها الوطني، خاصة وأن هذه «العائلات الروحية» تكاد لا تكون أدياناً على قدر ما هي مؤسسات اجتماعية وسياسية وعائلات روحية كبرى اجتماعية بالمعنى الصحيح. فالطابع السياسي أو بالأحرى الرابطة الاجتماعية والعصبية هي الغالبة، ويكاد يكون لبنان على حد قول جواد بولس «اتحاداً فيدرالياً للعائلات الروحية». فكل هذه الوجوه وسواها ممّا تشكله العائلات الروحية من تراث متكاثف منحدر من أقصى سلالم العصور على حد تعبير كمال جنبلاط يضفي على الواقع اللبناني صبغته المميزة الخاصة التي قد لا يماثله بها أي بلد آخر في العالم.
بالمقابل ينظر البعض الآخر إلى مجلس الشيوخ باعتباره المكان المناسب لتمثيل الطوائف الدينية، ليس كمؤسسات سياسية، بل كمؤسسات دينية وثقافية فأسبغوا عليها صفة «العائلات الروحية» التي ترد لأول مرة في نص دستوري، وبذلك يصبح مجلس الشيوخ المكان المناسب «للعائلات الروحية» للبحث في هواجسها ومخاوفها إزاء الكيان ونظام الحكم وسواها وليس مجلس النواب المنتخب عبر قانون غير طائفي، وفي حين يرى الرئيس ميشال سليمان أنه على مستوى مجلس الشيوخ هناك تركيبة يجب أن يُتَّفق عليها لجهة تشكيل هذا المجلس، لأن الدستور يقول بتمثيل «العائلات الروحية» ولا يقول أن كل طائفة تنتخب شيوخها في المجلس، كما أن الدستور يقول بأن الطائفية تنتهي في المجلس النيابي وفي مجلس الشيوخ تمثل «العائلات الروحية»، لكنه لم يقل إنّ المسيحي ينتخب المسيحي والمسلم ينتخب المسلم. ويؤكد الخبير الدستوري حسن الرفاعي أنّ الدستور نص على أنه لأول مرة يطبق قانون انتخاب على مجلس وطني لا طائفي ينشأ مجلس شيوخ على أساس طائفي، فالمادة 24 تنص على أنه بانتظار أن يكون الانتخاب على أساس وطني غير طائفي، تطبق المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وعندها ينشأ مجلس للشيوخ يكون انتخابه على أساس المناصفة، لا شيوخها على أساس أن تنتخب كل طائفة شيوخها لأن العيوب عينها التي تذكر في انتخاب مجلس النواب في «القانون الأرثوذكسي» تُطبّق إذا طبقنا أن كل طائفة تنتخب شيوخها.

ويقول إن المقصود هو المناصفة، فعندما يتم الانتخاب في المجلس النيابي على أساس وطني لا يعود هناك مناصفة، تبقى المناصفة في مجلس الشيوخ أي نصف للمسيحيين ونصف للمسلمين ولكن لا يجوز ولا يحق وغير صحيح أن يُفهم أن مجلس الشيوخ يمكن أن يُنتخب على أساس قواعد «القانون الأرثوذكسي».
ويشدد على أن هذا القانون المذكور الذي يقوم على انتخاب كل مذهب ممثليه للندوة البرلمانية لا يصلح لا لانتخابات مجلس النواب ولا لانتخابات مجلس الشيوخ إطلاقاً، فمن يقول بتطبيقه في مجلس الشيوخ، أي أن تنتخب كل طائفة شيوخها، المقصود منه الإحالة على المادة 24 أي تطبيق المناصفة والعدالة بين الطوائف.

حسن الرفاعي

بالمقابل هناك من يعتبر أن مجلس الشيوخ هو عبارة عن «مجلس فدرالي» أي إنّه يكرِّس فدرالية «العائلات الروحية» في لبنان، فإن إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع «العائلات الروحية» يعني أن هذا المجلس هو طائفي ومذهبي بامتياز حيث تنتخب كل طائفة ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده لكي يتولَّوْا النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديّته، وهذا ما أكد عليه اقتراح القانون المقدّم من النائبين أنور الخليل وإبراهيم عازار لانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي واستحداث مجلس للشيوخ يتألف من ستة وأربعين عضواً وتوزيعها تبعاً للمحافظات والمذاهب ويتم الترشيح على أساسها وتكون مدة ولايتهم ست سنوات؛ يُنتخبون على أساس النظام النسبي على أن تتوزع مقاعده مناصفة بين المسيحيين والمسلمين حيث يعود لكل ناخب أن يقترع للائحة واحدة تضم المرشحين من مذهبه من بين اللوائح المتنافسة من المذهب ذاته والذي رأى فيه البعض تعميقاً لطابع فدرالية الطوائف في المُنتظم السياسي اللبناني، لأنه يقيم إلى جانب مجلس النواب الممثل للأمة جمعاء مجلس شيوخ ممثلاً للطوائف على غرار مجلس الشيوخ الذي يمثل في الدولة الفدرالية الولايات أو الكانتونات أو الدول المتحدة. ونتذكر في هذه المناسبة كلاماً للمعلم كمال جنبلاط الذي يصف لبنان بقوله: «إنه اتحاد فدرالي واقعي للقرى والأقاليم والتقاطيع الجغرافية ما بين جبل لبنان الصغير والمدن الساحلية وقد وُجد فعلاً ليكون بلد اللامركزية والكانتونات فلم ينجح في لبنان سوى حكم اللامركزية».

إذاً نحن أمام مصطلح جديد مأخوذ عن الفكر السياسي اللبناني الذي يستخدم «العائلات الروحية»، للدلالة على التنوع الديني والمذهبي الذي يتّسم به لبنان وعلى دور أبنائها في المعادلة الوطنية، بغض النظر عن حجمها العددي، ولكنه لا يقرّ «بالعائلات الروحية» كمؤسسات سياسية، وبذلك يكون المشترع قد قصد من هذا المصطلح «العائلات الروحية» استبعاد الصفة السياسية عنها في معرض معالجته لمسألة إلغاء الطائفية السياسية، ولم يكن الأمر مجرد اصطلاح عابر وغير مطابق لنيّة المشترع، وذلك حفاظاً على التعددية الطائفية والمذهبية التي يتسم بها لبنان، الأمر الذي يحتاج برأينا إلى صيغة دستورية تؤمن لكل الطوائف الدينية حصصاً متساوية لطمأنة الأقليات، أي أن يكون لكل من «العائلات الروحية» مقعدان أو أكثر بمعزل عن عددها أسوة بمجلس الشيوخ الأميركي حيث تتمثل كل ولاية بعضوين بمعزل عن حجمها.
ولو افترضنا أن الوظيفة الوحيدة لمجلس الشيوخ هي أن يوفر الضمانات للطوائف التي تتوجس جميعها من إلغاء الطائفية السياسية، وذلك استناداً إلى الدستور اللبناني الذي جعل في مقدمته من إلغاء الطائفية السياسية «هدفاً وطنيًّا»، وحرصه على تحرير التمثيل النيابي والعمل الوظيفي من القيد الطائفي إذ لا بد للطوائف الدينية من ضمانات حتى لا يؤدي ذلك إلى طغيان طائفي أو هيمنة أو أي شكل من أشكال الانحراف الذي ينتج عنه الغبن والشكوى، مع تأكيده أيضاً على ميثاق العيش المشترك بين المجموعات التي تؤلف النسيج الوطني اللبناني، إلّا أن فكرة تمثيل «العائلات الروحية» في مجلس الشيوخ تحت ستار إلغاء الطائفية السياسية يجب أن لا تشكل مناسبة لضرب روحية الميثاق الوطني، وأن تقود إلى فرز اللبنانيين من خلال إقدام المقترعين من الطوائف المتعددة على انتخاب ممثلين لهم من أبناء طوائفهم ومذاهبهم، بل إن الأمر يحتاج إلى مقاربة لبنانية في إطار الدولة الضامنة للوحدة والتعددية، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال من الاندماج في العلاقات اليومية والحياتية.

القضايا المصيريّة 

حين نتحدث عن صلاحيات مجلس الشيوخ اللبناني من ضمن الواقع الدستوري الراهن فعلينا أن نجتهد كثيراً لتحديد ما هي القضايا التي تُعتَبر مصيرية، فدستور الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة ما هي صلاحيات مجلس الشيوخ المُقترح، كما أن عبارة «تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» كما وردت في المادة 22 من الدستور، بقيت ضبابية و لا تفيد شيئاً في تعريف «القضايا المصيرية» التي سيعالجها مجلس الشيوخ.

وإذا كان البعض ينظر إلى مجلس الشيوخ باعتباره أحد وسائل ادارة التنوع اللبناني من خلال الصِّيَغ الدستورية والمؤسساتية، كما يُعتبر بمثابة مؤسسة ضامنة يطمئن الطوائف ويعالج هواجسها، فيصبح من الضروري أن تشمل صلاحياته كل القوانين والمواضيع والقضايا التي تلامس الخطوط الطائفية بين اللبنانيين والمتعلقة بشؤون الطوائف ومصالحها وحقوقها وأوضاعها، على اعتبار أن هناك تاريخاً طويلاً من الرؤى المختلفة والنقاشات المتعددة في مسائل مصيرية بين اللبنانيين وهو ما يمكن أن نسميه «التوجه التعاقدي في التعددية اللبنانية»، وذلك من أجل الحد قدر الإمكان من الخلافات بين الطوائف الدينية من خلال مجلس للشيوخ والذي يوفر لهذه لطوائف الحق في حماية الأساسيات الوطنية لديها في وجودها والحفاظ على دورها داخل المجتمع اللبناني.

لذلك تَعتبر بعض الاجتهادات الدستورية أن المواد الواردة في المادة 65 من الدستور هي نفسها «القضايا المصيرية» التي يجب أن يتناولها مجلس الشيوخ ضمن صلاحياته، وهو ما يؤيده الوزير زياد بارود من خلال دعوته إلى الاستئناس أو القياس على مضمون المادة الآنفة الذكر التي تحدد «المواضيع الأساسية» والتي يتطلب إقرارها موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء باعتبارها عناوين أساسية ولها تأثير على الكيان اللبناني وهي: تعديل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، وقرار الحرب والسلم، والتعبئة العامة، والاتفاقات والمعاهدات الدولية، والموازنة العامة للدولة، والخطط الإنمائية الشاملة طويلة المدى، وتعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وإعادة النظر في التقسيم الإداري، وحلّ مجلس النواب، وقانون الانتخابات، وقانون الجنسية، وقوانين الأحوال الشخصية، وإقالة الوزراء. وبهذه الطريقة يمكن طمأنة اللبنانيين إلى ألّا غلَبَة لفريق على آخر وإنّ أيّة أكثرية لن تستطيع أخذ البلاد إلى ما يخالف مبادئ العيش المشترك والمساواة والمواطنية الكاملة.

بالمقابل هناك من يُدرج تفسير «القضايا المصيرية» في إعطاء مجلس الشيوخ حق التصويت على القوانين المتعلّقة بتنظيم علاقة الطوائف بالدولة على مثال القرار 60 ل. ر. عام 1936، أو قوانين التنظيم المباشر للطوائف الإسلامية والتنظيم غير المباشر للطوائف المسيحية واليهودية، بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بالأوقاف ودور العبادة والأديرة والتربية والتعليم فيها. كما يعطى المجلس أيضاً حقّ النظر في جميع الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج ومفاعيله، والبنوّة والسلطة الوالدية، والتبنّي، والوصاية وما يرتبط بها من مسائل. إضافة إلى النظر في الأمور الأخرى التي لها الطابع المصيري والتي يتم تحديدها مُسبَقا، والتي تتضمن القوانين الدستورية وتلك المكمّلة للدستور والقوانين التي تنظم السلطات العامة، والقوانين المتعلّقة بالانتخابات واللامركزية.

ويبدو أن هذا التفسير يتناسب إلى حد كبير مع الأفكار التي طُرحت على الجلسات المتكررة لـ «طاولة الحوار»، برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، فبينما يقول اتفاق الطائف والدستور حول مجلس الشيوخ بأنّ «صلاحياته تنحصر في القضايا المصيرية»، يُنسب إلى أقطاب الحوار تعريف مختلف تماماً لصلاحياته بأنها مرتبطة حصراً بالطوائف اللبنانية في نطاق شؤونها، وبذلك يمسي صورة مطابقة للصلاحية المنوطة برؤساء الطوائف اللبنانية في المادة 19 من الدستور حيال علاقتها بالمجلس الدستوري.

ولكن بالعودة إلى المادة 65 من الدستور نرى أن المشرّع استخدم مصطلح «المواضيع الأساسية» وليس مصطلح «القضايا المصيرية». وبينما يستخدم المشرّع «المواضيع الأساسية» ويحددها في 14 موضوعاً لتحديد النصاب القانوني لتصويت مجلس الوزراء، فإنّه يلحظ مواضيع أخرى لا يمكن اعتبارها مصيرية كي تُدرج في صلاحيات مجلس الشيوخ.

ولو أردنا أن نجتهد في تحديد طبيعة مجلس الشيوخ اللبناني وتحديد ما هي القضايا التي تعتبر مصيرية، لاعتبرنا أن التطبيع مع «اسرائيل» يعتبر من الأمور المصيرية، وكذلك تعديل الدستور وإعلان حالة الطوارئ والحرب والسلم والاتفاقات والمعاهدات الدولية واللامركزية وإعادة النظر في التقسيم الاداري وقانون الانتخاب وقانون الجنسية وقوانين الأحوال الشخصية، في حين أن «المواضيع الأساسية» الأخرى لا يمكن اعتبارها مصيرية، وبالتالي لا تنطبق على صلاحيات مجلس الشيوخ، ويمكن أن يثور نقاش وجدل حول أهميتها ومصيريَّتها مثل: تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وحل مجلس النواب، وقانون الانتخاب، وإقالة الوزراء، وموازنة الدولة وما شابه.

ثم إذا نحن أشركنا مجلس الشيوخ في صلاحيات البت بهذه المواضيع الأساسية كلها، نقحمه حكماً بالسلطة التنفيذية ويتحول حكماً إلى مجلس رئاسي، أو مجلس مراقبة تطبيق الدستور، لأن تعيين الموظفين وإقالة الوزراء من أعمال الحكم التي تخضع جزئياً وبشكل ضيّق لرقابة مجلس شورى الدولة كقرارات إدارية، كما أن حصر صلاحيات مجلس الشيوخ في القضايا المصيرية يجعل مصير البلاد هنا، إلى حد كبير، بالتوافق بين الطوائف، مما يجعل فدرالية الطوائف أكثر بروزاً، وقد يشكل أداة تشل الدولة في مواجهة القضايا المصيرية، خاصة إذا كان لممثلي الطوائف في مجلس الشيوخ حق النقض؛ الفيتو.

في مطلق الأحوال، نحن أمام التباس حقيقي حول وظيفة مجلس الشيوخ وعن ماهية «القضايا المصيرية» لا نجد جواباً عليه في نص دستوري تفصيلي ومحدد لدور مجلس الشيوخ اللبناني ومهماته، وصلاحياته، لكن يمكن القول ومن خلال ما ينشر عن دور الغرفة الثانية في الأنظمة الغربية التي يُفهم على أنها «صمّام أمان» تحمي الأنظمة والدول والشعوب من السقوط في متاهات أخطاء وأخطار تهدد سلامة المجتمع وهيبة الدولة، فباستثناء كل من المملكة المتحدة والدول الفدرالية، فإن الغرفة الثانية في البرلمان تنشأ في المراحل الانتقالية لمختلف الأزمات السياسية والاجتماعية التي تتميّز بالانقسامات العميقة في المجتمع، إذ يُعَد تأسيس هذه الغرفة بمثابة الوسيلة المفضّلة للبحث عن الاستقرار وتحقيق التوازن المؤسساتي والسياسي في الدولة، وذلك بحكم أنها تلعب دور المعدّل للتيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الظرفية التي تسعى إلى قلب موازين المجتمع رأسا على عقب. أما في لبنان، فإن أهمية مجلس الشيوخ غير نابعة من تقليده لدساتير أخرى تأخذ بفكرة نظام المجلسين وإنما له خصوصية استثنائية يمكن مقاربتها في ضوء ارتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي، وبالتالي التأسيس لدولةٍ مدنية مؤلفة من الطوائف، مما يؤمّن التوازن الطائفي في الحياة السياسية، والحفاظ على تميّز لبنان بتعايش طوائفه، وقيمتة الإنسانية، واستقرار عمل المؤسسات، ويقدّم نموذجًا لشعوب العالم عن إمكانية التعايش الحضاري.
وإذا كان من البديهي القول إنه يجب ألّا يترتب جراء استحداث مجلس للشيوخ حصول أي تضارب في الصلاحيات مع المجلس النيابي القائم، فإن هذا الأمر يتطلّب تحديد إطار عمل مجلس الشيوخ وصلاحياته بشكل واضح كي لا يعرقل العمل التشريعي على غرار ما هو حاصل في بعض البلدان التي تتبع نظام الثنائية البرلمانية. ومن أجل الحد قدر الإمكان من التضارب المحتمل بين صلاحيات المجلسين نصت المادة 22 من الدستور على حصر صلاحيات مجلس الشيوخ «بالقضايا المصيرية»، الأمر الذي يجعلنا نستبعد فكرة انضمام المجلس العتيد إلى المشاركة في السلطة التشريعية، خاصة وأن المادة 16 الدستورية مازالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، في حين أن المادة 22 من الدستور لم تلحظ الصفة التشريعية لمجلس الشيوخ، بل حصرت صلاحيات مجلس الشيوخ «بالقضايا المصيرية» وهي لا تتعلق بالتشريع العادي لتسيير عمل الدولة وحقوق المواطنين وواجباتهم.

وعليه، يصبح مجلس الشيوخ اللبناني، كما ورد في تفاق الطائف كأحد البنود الإصلاحية السياسية لإخراج النظام السياسي من حالة الطائفية السياسية، وأهميته بأنه لا يهدف إلى تحسين تمثيل طائفة أو أكثر في السلطة على حساب الطوائف الأخرى، بل يسمح بتمثيل الطوائف وتبديد هواجسها ومخاوفها، إذ إنّ صلاحياته تتناول «قضايا مصيرية» تؤمن مشاركة كل «العائلات الروحية» في صوغ القرارات الوطنية. وبالتالي لا تصبح الطوائف الدينية خائفة ومتوجِّسة من بعضها البعض، وبالتوازي تحرير الحياة السياسية من التمثيل الطائفي والمذهبي ممّا يجعل العمل التشريعي أكثر انسيابية والتصاقاً بخدمة الناس بصرف النظر عن الانتماء المذهبي والطائفي.

يتبين من خلال ما تقدّم أن فلسفة «وثيقة الوفاق الوطني» تقترح حلّاً لأزمة لبنان على مرحلتين: تبدأ الأولى بتعديل المادة 95 من الدستور لتلزم أول مجلس نيابي منتخب بعد اتفاق الطائف أن يؤلف هيئة خاصة لإلغاء الطائفية السياسية. كما نصّت على المناصفة في عدد النواب المسلمين والمسيحيين، بعد أن كانت 5/6 لمصلحة المسيحيين، وألغت نسب التمثيل الطائفي في كل الوظائف الإدارية والقضائية والجيش، باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تعتمد المناصفة ولكن دون أن توجد وظيفة حكراً على طائفة معينة. وتبدأ المرحلة الثانية بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وعلى أن يجري تمثيل الطوائف في مجلس للشيوخ الذي يُستحدث على أن يتمتع بصلاحيات واسعة في القضايا ذات الصفة الوطنية.

وإذا كان اتفاق الطائف قد اكتفى حين وصل إلى مشكلة الطائفية الشائكة وذات الجذور العميقة بالدعوة إلى إلغائها، وهي الدعوة التي وردت في كل المواثيق والاتفاقات التي جاءت قبل الطائف، إلّا أن هذا الطرح قد رأى فيه البعض «هدفاً وطنياً رئيسياً» للحد من الطائفية التي غالبا ما تؤدي إلى شلل في الحكم وعدم الاستقرار، وذلك من خلال خطة مرحلية لتحقيق هذا الانجاز تبدأ بإلغاء الطائفية السياسية وتنص على إجراءات يصبح بموجبها الاستحقاق والكفاءة والاختصاص بديلاً عن الانتماء الطائفي كمعايير لتولي مناصب الإدارة العامة (باستثناء المناصب العليا)، وبالتالي انتخاب مجلس للنواب خارج القيد الطائفي، مقابل مجلس للشيوخ يكون بمثابة كفيل واضح لحقوق الطوائف والمذاهب بشكل يسمح بتحويل مجلس النواب من سوق للمقايضة الطائفية إلى مركز سياسي للسلطة السياسية، وتحرير اللعبة السياسية من الخلافات على أساس طائفي ومذهبي حيث يكون المواطن هو المكوّن الأساسي بغض النظر عن دينه.

وبذلك يكون اتفاق الطائف قد رسم نهجاً لتجاوز النظام الطائفي بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولاً إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي مع إنشاء مجلس شيوخ طائفي، أي تحرير مجلس النواب من التعقيدات الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيداً من الحساسيات الطائفية والمناكفات، حيث يصبح بإمكان اللبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتور) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، ممّا يؤمن حماية المواطن والطائفة والمذهب في آن معاً.

الذكرى الثالثة بعد المئة لمولد “المعلّم” كمال جنبلاط (2020-1917)

المعلّم كمال جنبلاط

ما سرُّ هذا الرجل؟ ما الذي يجعل من ذكرى مولده السنوية نقطة احتفاء وتلاقٍ بين المُثقَّفين وقادة الفكر، من اتجاهات فكرية وسياسية متباينة – ربما اختلفوا في أشياء أخرى كثيرة لكنهم يجتمعون في ذكرى مولده، كلٌّ يتناول جانباً منها، فيكتب صفحات مطوّلات، ثم يقول: اعذروني لم يسمح لي ضيق المجال بالمزيد من التوسّع في أفكار المعلّم، والمزيد من الإفاضة في تفسيرها وشرحها. أمّا الأكثر إلفاتاً في ذكرى مولده الأخيرة، فقد كانت العودة العفوية غير المسبوقة إلى أفكاره: قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً (أي منذ محاضرته في «الندوة اللبنانية» سنة 1946 تحت عنوان «رسالتي كنائب»)، ونصوص «ميثاق» الحزب التقدمي الاشتراكي الفلسفية، أيار 1949، إلى إصراره على معالجة الطائفية السياسية من خلال العلمنة وفصل السلطات واستقلالية القضاء والحياد الإيجابي التي تضمنها برنامج «الجبهة الاشتراكية» سنة 1952، وصولاً إلى مشاريعه الإصلاحية التفصيلية التحديثية، منذ سنة 1959 إلى البرنامج المرحلي لإصلاح النظام السياسي اللبناني الذي أعلنه في آب 1975، بحضور القادة الوطنيين، مسيحيين ومسلمين.

سأترك نصوص هذا الملف الاستثنائي في «»، التي تفضّل بها بعض كبار كتّابنا، تتحدث عن جوانب عدّة في فكر المعلّم؛ وليس في وسع نصّ واحد، ولا عشرة نصوص، أن تحيط بأبعاد فكره المتعدد الطبقات والاستشرافات، وفي كل مجال تقريباً.
وأخيراً، إذا سمحت لنفسي تفسير بعض أسباب الأهمية المتزايدة، سنة بعد سنة، لفكر كمال جنبلاط ومشاريعه الإصلاحية، لاختزلتها في ثلاثة:

1- اشتمال هذا الفكر، وكما لدى كبار المفكرين، على معظم الموضوعات التي تعني المجتمعات الحديثة، والإنسان الحديث، من هموم وأسئلة، وبخاصة تلك المتصلة باصطدام إنسان اليوم بالحضارة المعاصرة «المادية»، الرأسمالية والشيوعية، في آن معاً، ورفضه من ثمة كل الأجوبة، بل القوالب، الفكرية التقليدية الجاهزة.

2- الحفر المستمر لكمال جنبلاط في طيّات أفكار البشر واختباراتهم الروحية بحثاً عن الحقيقة، بعيداً عن «ثقافة عصر الصور» التي نحيا أشد فصولها توحّشاً، في ما سميّ بعصر «العولمة الاستهلاكية»، في الخارج، وعصر «الفساد الأسطوري»، في الداخل.
3- كمال جنبلاط، باختصار، هو فيلسوف الإنسان والحرية والتقدّم والبحث عن الحقيقة، دون ادّعاء أو احتكار أو إقصاء.

4- ولعل السبب الرابع «المحلي»، هو حال الاهتراء في نظامنا السياسي والفساد المستشري، اللذين أعادا إلى الواجهة، فكر «المعلم»، وسمعته الذائعة الصيت، ومشاريعه الإصلاحية.
لهذه الأسباب، وسواها، يتجدّد الاهتمام، في كلّ حين، بفكر كمال جنبلاط «المعلّم»، و«الضّحى» في هذا الملف إنّما تواكبُ، وكما حالُها دائماً، اهتمامات قرّائها.

.


تَحِيَّةٌ إلى المعلّم الشّهيد

د. بلال عبد الله

 

أكثر من أي وقتٍ مضى يتّضح أنّ فكر كمال جنبلاط الفلسفي والاجتماعي والسياسي هو فكر مبدع خلّاق متطوّر من تلقاء نفسه، صالح لزماننا وأوضاعنا في لبنان والوطن العربي، وذلك كله يعود لأن هذا الفكر يركّز على المحور الإنساني وعلى مفاهيم العدالة والقيم والأخلاق والسلام والبيئة.

إذاً نحن أمام منظومة فكرية مترابطة حاولت النبش عن الحقيقة في كل ميادين الكون والطبيعة والأمم والإنسان، فنسجت قراءة وتحليلاً لجوهر الحياة الاجتماعية الإنسانية، وليس فقط بظاهرها وفق اعتماد المعلم نظرة وحدة الأضداد، أي العلاقة بين الظاهر والباطن، بين المبدأ والممارسة، بين الالتزام وحسن التنفيذ.

هذا الميراث الفكري المتنوّع والغني، يشكل لنا البوصلة والجوهر في كل برامجنا وخططنا وعملنا، بغض النظر عن التفاصيل في البرامج والصياغات وخطط العمل والتكتيكات اليومية، إلّا أن الأمل كان ويجب أن يبقى الالتزام بالفكر الإنساني التقدمي الاشتراكي لكمال جنبلاط مهما تغيرت الظروف وتبدلت الوقائع، والتي على أساسها يجب أن تتغيّر وتتبدل البرامج بين الجوهر أي العقيدة والقناعة بالإنسان يجب أن تبقى الأولوية التي تحكم مسار العمل السياسي والحزبي.

على سبيل المثال، فإنّ المعلم الشهيد قد أشار إلى مبدأ المثالية الواقعية أي أن نحاول ربط مبادئنا وقناعاتنا وعقيدتنا بالواقع المعاش بتعقيداته وأزماته وظروفه لكيلا نبتعد عن الناس – الإنسان، ممّا يجعلنا أقدر على اقتراح المخارج للأزمات والحلول، لأنه في الربط بين المبدأ والواقع مع صعوبة ذلك أحيانا تكون الفروقات المنطلقة من القيم والمبادئ متلاصقة أكثر بالإنسان بحاجاته ومطالبه وتطلّعاته.

وفي مكان آخر، ربما استكمالاً لهذا المفهوم يطرح كمال جنبلاط مفهوم التسوية بكل معانيها وتنوعها وشموليَّتها وفي كل شيء لأنّ استمرار الحياة وحماية المجتمعات والشعوب تتطلب القدرة على صياغة التسويات، أكان على صعيد الممارسة الفكرية أو تعايش الأديان أو تعدّد الثقافات أو تقارب المصالح الاقتصادية وحصرية صياغة عقد اجتماعي عادل وغير ذلك…

كلّ هذه الأمور تُظهر صحّة مبدأ التسويات في الممارسة وتاريخنا يشهد البعيد والقريب على هذه الممارسة في الحياة السياسية وبالتحديد بعد كل الثورات والحروب الأهلية.

إلّا أنّ ما يميّز فكر كمال جنبلاط هو أنه استطاع أن يكرّس لونا جديداً لليسار وللاشتراكية تعتمد العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروة والضمانات وحماية الحقوق، ولكن مع بُعد إنساني قلّ نظيره يعتمد حرية الإنسان كمحور لكل المبادئ لا قيد أو شرط أو تضييق على هذه الحريّة مهما كانت الاعتبارات. إنها الحرية المسؤولة التي تبقي على الإبداع والتطور والعطاء وتبرز النخبة في المجتمع القادرة على التعادل في كل الميادين.

هذه الحرية التي وصفها المعلّم في صميم ميثاق الحزب وأدبيّاته جمعاء ورفض المساومة عليها بل أكثر، فقد دعا الحركة اليسارية العالمية آنذاك إلى الارتقاء واعتمادها نهجاً وممارسة.
وقد أطلق هذه المواقف في كلمة شهيرة له في محاضرة له في افتتاح مؤتمر للحزب الشيوعي اللبناني تحت عنوان «بما يطوّر ويستكمل الماركسية» حيث حاول أنسنة الفكر اليساري وجعله أقرب إلى التطبيق وعدم تضييق حرية الفرد والإفساح بالملكية الشخصية وتخفيف الاحتقان والصراع بين الطبقات، والعمل على إضفاء روح التعاون وإشراكنا بها أي ألّا نبقى أسرى الصراع الطبقي وما نتج عنه من تشوهات وممارسات ونتائج كارثية في العديد من المجتمعات.

وتبقى المسألة الأهم التي كانت وما زالت عند فكر كمال جنبلاط التقدمي اليساري ألا وهي تصالحه مع الأديان السماوية جمعاء، فهدف كتاباته يؤكد أن الفكر الاشتراكي الإنساني قد ولد مع الأديان السماوية والتي تُجمِع كلها على العدالة والتسامح والرحمة والأخلاق والقيم والتي من رحمها ولد المفهوم الاشتراكي الحقيقي قبل أن يتحول فيما بعد إلى فكر طائفي سياسي بعيد عن منطلقات الحدث الأساسي. إذاً فإنّ فكر كمال جنبلاط لا يتعارض بالمطلق مع الدين، وهو من هذا المنطلق آمن بالعلمانية، وخاصة في لبنان كحلٍّ نهائي للأزمة الطبقية المتوارثة من جيل إلى جيل والتي تمنع قيام الدولة العصرية الحديثة الموحَّدة.

فبقدر ما أحترم والتزم كمال جنبلاط بقيم الأديان ومنطلقاتها وعمقها الإلهي والإنساني بقدر ما وقف في وجه التطرف الديني والطائفي والمذهبي. ولذلك كان ينادي بالعلمانية للأنظمة السياسية وفصل الدين عن الدولة. ويتضح اليوم أنّ هذا الشعار وإن كان يتراءى للبعض أنه بعيد المنال ولكنه يشكل الحل الوحيد للبنان للخروج من مأزقه السياسي والوجودي ويخرجه من سياسات المحاور والارتباط بالخارج ويساهم في انصهار كامل لكل الشباب في البوتقة اللبنانية الواحدة بعيداً عن أي انتماءات أخرى.

سنبقى أبناء هذه المدرسة نؤمن بأنّ التقدمية الاشتراكية الإنسانية هي الطريق السليم لبناء مجتمع العدالة والحداثة والوحدة.


مع كمال جنبلاط: الإصلاح يجب أن يأتي من داخل الانسان

أ.رامي الريّس

 

في كل مرّة نستل فيها القلم للكتابة عن المعلم كمال جنبلاط، تتزاحم المصاعب والتحديات، وتتداخل الصور والمفاهيم بين النظري والواقعي، بين الخاص والعام، بين صفة الباحث والكاتب وصفة المؤمن بتعاليمه ومبادئه. ويتبادر إلى الذهن فوراً ما إذا كان ثمة إمكانية فعليّة للكتابة عنه وعن تراثه الكبير في الفكر والسياسة والفلسفة والأخلاق والاقتصاد وسواها من نواحي الحياة المتنوعة بما يوفق بين الالتزام بمقتضيات الكتابة البحثيّة والموضوعيّة، وبين إشباع تلك الرغبة الجامحة والحاضرة دوماً للاستزادة مما كتبه وعمل في سبيله.

ولكن بعيداً عن الوجدانيات التي تفرض ذاتها في كل مناسبة تتطلب العودة إلى فكره (وهي تتزايد بصورة مضطردة نظراً لحالات التحلل الاخلاقي والمجتمعي المتنامية لا سيّما في الوسط السياسي اللبناني)، ثمة مرتكزات يمكن الركون إليها في الموضوع قيد البحث ومنها عنوان لطالما رغبتُ بالتركيز عليه وهو يتصل بالأخلاق في السياسة.

إن الهوّة السحيقة اليوم بين المواطن والدولة وبين المواطن والمكونات السياسيّة إنما تولد الانطباع العارم بأن السياسة هي لعبة قذرة يتقاذفها من لا يستحقون الثقة ولا يتمتعون بالمصداقيّة ولا يحسنون تدبير الأمور ولا يقدّرون الوكالة الشعبيّة التي مُنحت لهم.

قد يكون ذلك محقاً في جانب منه، إلا أنه قد لا يصحّ على كل الأطراف بالتساوي. فثمة قوى تقبض على السلطة بكل مفاصلها وهي التي تتحكم بمسار الأمور صعوداً وهبوطاً وفي كل الاتجاهات والمجالات. لكن ليس المهم الآن الدخول في تبرئة ساحة أحد أو إثبات الاتهام على أحد، بقدر ما المهم العودة إلى النقاش في عمقه ألا وهو ممارسة السياسة بأخلاق، انطلاقاً من أنها مهمة شريفة ترمي في الدرجة الأولى إلى خدمة المواطن ورفع مستوى عيشه الاجتماعي والانساني وتطبيق المساواة بين الناس بمعزل عن انتماءاتهم الطائفيّة او المذهبيّة أو العرقية أو سواها من الحواجز التي تنتصب للتفريق بين أبناء الشعب الواحد وإيهامهم بأن ثمة انتماءات لا بد لهم أن يحافظوا عليها على أنها تسمو فوق الانتماء إلى الوطن والدولة. وفي ذلك خلط هائل للمفاهيم وتشويه للعمل السياسي والوطني بكل مرتكزاته.

لقد شكلت فلسفة الأخلاق عند كمال جنبلاط مدخلاً لكل آداب الحياة وسلوكياتها، وهو نجح في مؤلفاته وكتبه بالتوفيق بين المقتضيات النظريّة للوجود وأسراره وبين مستلزمات الواقع بكل تعقيداته ومنعطفاته.

في أدب السياسة، قال كمال جنبلاط: «لا يُبنى وطن على التكاذب المشترك، ولا على التسويات المبطنة التي تُظهر شيئاً وتستبطن شيئاً آخراً، وكأنها هدنة بين معركتين أو استراحة بين حربين».

من قال أن السياسة والأخلاق يجب أن يكونا على طرفي نقيض؟ من قال أن ما كتبه كبار الفلاسفة في مجال حقوق الانسان والديمقراطيّة وصحة التمثيل الشعبي وأسس المشاركة في السلطة غير صالح للتطبيق في عالم تطغى على الممارسة السياسية فيه كل أشكال الزبائنيّة والرأسماليّة الجشعة والمحسوبيات؟ أليس العكس هو الصحيح؟ ألا يفترض العودة إلى كمال جنبلاط وسائر المفكرين الأحرار الذين رسموا خارطة طريق لكيفية النهوض بالمجتمعات وإعلاء شأن الإنسان أولاً وأخيراً؟

كل فكر كمال جنبلاط يتمحور حول الانسان ورفعته وسبل تطوير أحواله وتحريره وإخراجه من قعر الحرمان والتخلف والجهل والأمية. لذلك، ركّز على الوعي بشكل كبير كمدخل حتمي وممر إلزامي لإصلاح المجتمع ودفعه نحو التقدم والتطور. وللتذكير، هو الذي قال: «الإصلاح يجب أن يأتي من داخل الانسان»، كما أنه هو الذي اعتبر أنه من المفترض جعل الانسان هدفاً للسياسة وليس العكس، والأمر نفسه ينطبق على الدين.

الختام مع قول لكمال جنبلاط يختصر الكثير: «الإنسان منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا… يبحث بعطش محموم عن الاستقرار والسعادة.. والاستقرار شرط من شروط السعادة (…). يطلب الانسان السعادة خارج نفسه، ولا يعلم أن السعادة التي يطلبها من الأشياء ليست موجودة أصلاً في الأشياء.. إنها موجودة في صميمه».
هذه العبارة تختصر كل الكلام، ولا كلام بعدها.


كمال جنبلاط التّوحيدي المُتَعدّد: في تذكُّرِ دقائقَ معه حول برغسون

د. أنطوان سيف

 

المناسبة: دعوة كمال جنبلاط من قِبل «رابطة طلاب كلية التربية» في الجامعة اللبنانية، التي كنتُ أرأسها في العام 1968، لإلقاء محاضرة في الكلية للطلاب والأساتذة في موضوع يختاره في الشأن العام الراهن، حينذاك، في لبنان والعالم العربي، وهي واحدة من سلسلة محاضرات اتَّخذنا قراراً بتنظيمها تضمُّ تباعاً أحد ممثِّلي القوى السياسية الفاعلة في لبنان، أو علَماً فكرياً سياسياً. وكان وفدُ الرابطة مؤلّفاً من ثلاثة أو أربعة أعضاء، بالإضافة إلى الزميل الصديق الشهيد أنور الفطايري الوسيط الذي تولَّى الاهتمام العمليّ بهذا اللقاء والاتفاق على موعده… وقد أعلَمَنا عن الموافقة المسبَقة والترحيب. وكانت الزيارةُ بروتوكوليةً، وفرصةً من قِبلنا، للالتقاء بشخصية فريدة ونادرة في حقول متداخلة متعدّدة جَمعَها ووحَّدَها في ضميمٍ منسجم: في القيادة السياسية والحزبية، والمعارف والأفكار الفلسفية، والشعر والكتابة، والروحانيات العرفانية، وفي المواقف والمسلك الخاص والعام… وعندما وصَلْنا، كانت القاعةُ لا تزال تضجُّ بمن تبقَّى من الزائرين من أهل المطالب من الزعيم الذي انتصبَ واقفاً لاستقبالنا، ولم يَعُد للجلوس إيذاناً بتوديع الباقين. وما زلتُ أذكرُ من ذلك المشهد آخرَ المودِّعين، وكان بلباسه القرويَ قائلاً: بَعدنا يا بيك ناطرينك تتشرّفنا بتلبيتك لعزيمتي لك على الغداء، التي ما زلتَ تؤجِّلها. فردَّ كمال جنبلاط، المعروف بظرفه، وعلى مسمعٍ من جميع الحاضرين: إنسيها هلّق ها لعزيمة، لأني بها الأيام عم بَعمل ريجيم! وألحقَ هذا الردّ بضحكةٍ خفيفة تدلُّ على المداعبة، نظراً إلى أنَّ البيك، النحيلَ أصلاً، معروفٌ بتقشُّفه في المأكل، واجتناب تلبية العزائم قدرَ الإمكان!

عقبذاك تفرّغَ لنا. وبعدما عرضتُ له الغايةَ من زيارتنا، وخلفياتِ قرارها الوطنية والديمقراطية، ونلنا الموافقة السريعة، مع ترك بعض التفاصيل الخاصة باللقاء الموعود إلى فترةٍ لاحقة، بادَرَنا بالسؤال عن ميادين تخصُّصاتنا الجامعية، ومعلِّقاً عليها وعلى إشكالياتها الأساسية، وروى لنا كيف عالجَ نماذجَ منها على مستوى السلطة التنفيذية في الوزارة، وفي النيابة. وانتقلَ إلى الكلام العام في الاجتماع والسياسة والثقافة انطلاقاً من ثنائية مفهومَي «المجتمع المنغلق» «والمجتمع المنفتح» عند الفيلسوف برغسون، وإمكانية قراءة هذه النظرية وحدود تطبيقها في المجتمع اللبناني، والمجتمعات العربية عموماً. وانتقلَ بعدها مركِّزاً على نظرية برغسون في الأخلاق، وموقفِه من المعرفة والعلم، وبخاصةٍ علم النفس: الوعي بالزمان والذاكرة، وموقفِه من الحضارة المادّية المنتشرة في الغرب، ونزعتِه الروحانية… وموضوعاتٍ أخرى لم أعد أذكرها، وكأننا كنَّا في درسٍ جامعيّ ينمّ عن عمقٍ لافتٍ في فلسفة برغسون وإلمامٍ واسعٍ بتفاصيلها! والأهمّ في كل ذلك، والمدهش أيضاً، هو مواقفُه الفكريّة منها، وردوده الجاهزة على مواقفَ انتقاديةٍ وُجِهت ولا تزال تُوجَّه إليها، ومحاولته قراءة أُسُس هذه الفلسفة الغربية بقاعدتها الروحانية على كونها ذاتَ أبعادٍ تُضيء على تاريخ الحكمة الشرقية، والديانات، والروحانيات الإشراقية العرفانية، وضرورة التقدُّم بالمعرفة العقلية والعرفانية، وعلى إيقاع «التطوُّر الإبداعي الخلّاق» في جانبها الإنساني، كما في كل الكائنات الحيّة، وكذلك في الحضارة …
في ذاك «الدرس الخصوصيّ» المفاجئ غيرِ المتوقَّعِ وغيرِ المعهود، وجدتُني تهيَّبتُ الموقفَ كوني، كما بدا لي، المعنيَّ الأكثرَ بهذا الشرح، وإنّي أُعامَلُ من سيِّد الشرح على هذا الأساس، إذ كنتُ وحدي، من بين زملائي أعضاء الوفد الطلّابي، من قسم الفلسفة الذي أعلنتُ عن انتمائي إليه في بداية اللقاء. وما عزَّزَ ذلك الانطباع مداخلةٌ منِّي أظهرتْ اهتمامي بهذا الشرح ودرايتي بجوانب من الموضوع، ما وفَّرَ لتلك الجلسة، على ما أظنُّ، شروطاً لحوارٍ فكريّ وفلسفي، وللاسترسالٍ تالياً في التفسيرٍ، بدا لنا جنبلاط يجد فيه متعةً، ويُظهِر به، تلقاءً ومن غير قصد، الجانبَ الأساس من هوّيتِه بأنه «مُعلِّم»، اللقبُ الأكثرُ مطابَقةً لكينونته الشخصية ولحضوره كقائدٍ وكمرجعٍ ثقةٍ لشعبه، لقبٌ ملازِمٌ له، بالسليقة وبالدربة المكتسَبةِ باستمرارِ المزاولة. فالتعليمُ إذ يقوم على نقل المعارف والعلوم، هو، بعُرفه، واجبٌ ورسالةٌ والدربُ الوحيدُ لسموّ الإنسان باتجاه غايةِ إنسانيّتِه القصوى بالمعرفة، «المعرفةِ التوحيدية الأخيرية، هذه الحكمة…التي تلتزم بمنطق العقل الأرفع دون الاستنارة بأيِّ وحيٍ سوى تعليمِ وإرشادِ الشيخ أو القطب، أو المعلِّم الحكيم»، كما قال في كتابه «مصادر الحكمة في التاريخ» (الدار التقدُّميّة ص 16)… لم يكن يُعطي معلوماتٍ مدرسيةً عن فلسفة برغسون، بل كان يدلُّ على حكمةِ علاقتها بأكثر من حقلٍ معرفي، وعلى كيف ينبغي أن تُفهَم بأبعادها المختلفة، «هذه الحكمة، هذا التحقُّق، وهذا الإشراق هو اختبارٌ كأيّ اختبارٍ علميٍّ آخر، كما بدا لوليم جيمس ولبرغسون…في مستوى الظواهر النفسية، لأننا في علم النفس نمتحنُ طاقةً لطيفةً خفية…» (ص 17). هذه «الرسالة التعليمية» هي صادرةٌ عن قائد مسؤول عن شعب، ومنه عن الإنسانية جمعاء. قال بوضوحٍ تام: إنَّ «أشرفَ مهنةٍ على وجه الأرض هي تمثيلُ الشعب وقيادتُه، حيث لا يوجد أشرفُ منها مهنةٌ، إذا عرفنا أن نضعَها في مستواها اللائق» (كمال جنبلاط، كتاب «الإنسان والحضارة»، الدار التقدمية، ص 66). شرعيةُ قيادته لم يُنزلها يوماً عن قوس المساءلة الصارمة بمقاييس أخلاقية رسولية حول واجبات القائد في الخدمة آمنَ هو بها، لا بحسب قوانين رسمية ومراسيم وضعية وحسب، وهو سليل العائلة الإقطاعية التي تتوارث الزعامةَ جيلاً بعد جيل! ألم يتساءل في محاضرة له في بيروت، مفتتحاً بها عهد «الندوة اللبنانية»، ندوةِ ميشال أسمر، بأوّل نشاطٍ لها، التي باتت بعدذاك، وعلى مدى ثلاثة عقود، المنبرَ الثقافيَّ المُجلَّ الصيتِ وطنياً وعربياً وعالمياً، محاضرةٍ بعنوان: «رسالتي كنائب»؟ أي، لماذا أنا نائب في البرلمان اللبناني؟ وقدَّم فيها ذلك النائبُ الشابُ الذي كانَه، ابنُ التاسعة والعشرين يومذاك، (18 تشرين الثاني 1946)، نصّاً أخّاذاً في الأدب السياسي، والفكر السياسي، والمسؤولية السياسية الكبرى «كرسالة»، بل «أمثولة» في العمل السياسي، كما لم يفعل أيُّ سياسيٍّ آخر؟
تلك الجلسةُ مع إنسانٍ نادرٍ بتمايُزه، ثريٍّ بشخصيَّته، بدقائقها القليلة، وبتذكُّرها المشوَّش، بعد نصف قرن، لكثيرٍ من تفاصيلها، لم يحجب حقيقةَ دلالاتها الواسعة العاتية على الامِّحاء. لاحظتُ مُذ ذاك أنَّ مدلول هذا الفيض في معرفة برغسون، ومن دون أيَّة إشارة نقدية سلبية منه، يشير إلى أنَّ لهذه الفلسفة مكانةً لافتةً في فكر كمال جنبلاط لم يتوقف عليها، مع ذلك، في بحثٍ مستقلٍ من مؤلفاته العديدة! وبدت هذه الفرضيةُ مؤكدةً بمطالعتي المعمَّقةِ لأفكار الفيلسوفَين: برغسون وجنبلاط، والأثر البالغ، ولكن ليس الأوحد بطبيعة الحال، الذي تركَه الأوّلُ في الثاني. وهذا ما أظهرتُه في مداخلتي المطبوعة بعنوان «كمال جنبلاط: الحرية وتحديات العصر» التي أَلقيتُها في «منتدى الفكر التقدمي» في بيروت، وبدعوةٍ من هيئته الإدارية، في 31/3/1993 في ندوةٍ بعنوان: «كمال جنبلاط القائد والمفكِّر»، بمناسبة الذكرى السنوية السادسة عشرة لاستشهاده، شاركَ فيها الأساتذةُ: إدمون نعيم، محسن إبراهيم، أنطوان سيف، مُنح الصلح، كريم مروّة، وأمين مصطفى. ونشرتُها كاملةً لاحقاً في كتابي: «ثلاثة حكماء من جبل لبنان: بطرس البستاني «كمال جنبلاط» عادل إسماعيل»، ط 1999، وخصَّصتُ فيه حوالي عشر صفحات (ص 135-144) للكلام على هذا التأثُر(التناص) الذي يعني قراءةً خاصةً لأفكار برغسون في صرح فلسفة جنبلاط المتعدّدة المصادر، الغنيَّة بتنوُّعها وتأويلاتها وإبداعاتها، ككل الفلسفات الكبرى!(وأُذيعت بصوتي في تلك الندوة، في إذاعة «صوت الجبل»، أكثرَ من مرَّة)، وفي كتابي إشارةٌ عابرةٌ إلى تلك الجلسة المذكورة، صغتُها منذ ثلاثة عقود ونيَّف، على النحو التالي: «… برغسون (1859 – 1941)، الأستاذ الروحي لكمال جنبلاط، وأكثرُ أساتذته حضوراً في أطاريحه ومقولاته… كان جنبلاط يشرحُ نظرياتِ برغسون ويؤوّلُها بشغَفٍ ظاهر. كانت مادةَ تدريسِه المفضَّلةَ التي يَبرعُ فيها بامتياز، هو الذي كان يُدعى بين مريديه والمقرَّبين منه، وعن جدارة، «المعلِّم» (ثلاثة حكماء…، ص 135).

ويُعطَف هذا التقريظُ لفلسفة برغسون على تقريظٍ لآراء عالم الأنثروبولوجيا تيار دو شاردان التطوُّري، مع كونه رجلَ دين، الذي أعلنَ أنَّ أهداف التطوُّر ثلاثة:

1- «الزيادة في طاقة الوعي: الفهم أو الوعي الخارجي من جهة أي الحرية، والوعي الداخلي أي الارتفاع في فهم الانسان لذاته الحقيقية ولقيَمه وقيَم الوجود.
2- نزعة التطوُّر إلى التجمُّع البشري Socialisation humaine
3- وإلى أنسنة الانسان».

وجنبلاط يوافق على أنَّ التطوُّر ليس محصوراً في الأجسام الحيَّة، كما يقول شاردان (نزوع الكائنات اللّاحيّة إلى الحياة)، إلاّ أنه يتحفَّظ على تفاصيل مواقف شاردان من هذا التطوُّر (كمال جنبلاط، الإنسان والحضارة، ص 117 – 118)، ويقول جنبلاط أيضاً في كتابه «مصادر الحكمة في التاريخ»: «والإحسان هو تمامُ توفية الإنسان، عبر تطوُّره من المادة إلى العقل الأرفع، ومن الظلمة إلى النور، ومن الحيوانية البهيميّة إلى الإنسانية المُشرِفة على عالَم المِثالات الإلهية، لحقيقة وجوده وأصالة فضيلة طبيعته» (ص 54).أشاد جنبلاط بفكرة برغسون عن «الأخلاق المغلَقة» في «المجتمع المغلَق» (التي تستحضر التقاليدَ التي لم تَعُد مفيدةً في الحاضر، وباتت عبئًا عليه وعائقاً أمام تقدُّمه) وعن «الأخلاق المنفتِحة» (التي يقرِّرها ثوّارٌ كبار: كالأنبياء والقدّيسين والأبطال الشعبيِّين) فيجدِّدون بها المجتمعَ والحضارة ويعطون دفعاً عظيماً للتقدُّم. ولكنَّ هذه «الأخلاق المنفتحة» لا تلبث أن تغدو، على مَرّ الزمن، منغلقةً، ولا بدَّ من تغييرها بأخلاقٍ منفتحة جديدة. وهكذا دواليك.
هذا التعاقُبُ بين المنفتحة والمنغلقة، قرأه جنبلاط بشكلٍ جدليّ (ديالكتيكي)، بخلاف برغسون، وهذا ما ميَّزه أيضاً عن جدليّة (ديالكتيك) الاشتراكيين المادِّيين. وكان يرى دوراً أساسياً في التغيير والتقدّم يقوم به القادةُ الروحيون والسياسيون والحزبيون (وهو منهم) في الثورة التي ستخلِّص المجتمعَ من الانغلاق، والناسَ من الجهل، عن طريق المعرفة. ويوضح: «لستُ بداعٍ إلى ثورةٍ معلومة، بل إنّا نريدها ثورةً روحية، نريدها جامحةً كالأعاصير، تُلهب النفوسَ، وتمحو القيود، وتصهر الأمّة، وتوحِّدُ وطناً، وتبني دولة»… «لأنَّ الاقتصاد، في الحقيقة، نتيجةٌ ومظهرٌ لمجموع قوى وإمكانات مادية وعقلية وروحية» (كتاب «الإنسان والحضارة»، كمال جنبلاط، ص7، محاضرة في بيروت 15-4-1947). وتأثّر أيضاً بالمفهوم البرغسوني: «دُفعة الحياة»، أي جوهر الحياة المتطوّرة باستمرار، ويسمّيها أيضاً «حيويّة الحياة»، التي تتلازم وتتماهى عنده مع الحرية والعقل والحكمة التي هي عقل العقلاء. كل ذلك في مسيرةٍ يتداخل فيها التناقضُ والتسامي بوجهةٍ صوبَ «العقل الأرفع».

لقد انفتحَ جنبلاط بمواقفه الفكرية والعمليّة على أكثر من مصدرٍ على مرّ التاريخ منذ أقدم القديم حتى المعاصَرة مع العلوم الحديثة. فالثابتُ الجوهري فيها هو الإنسان الذي يجب أن ننمّيه باستمرارٍ بالمعرفة…

في ختام هذه المداخلة المقتضبة، المداخلة / الشهادة، أُشيرُ إلى المكابدة في الكتابة، المقتضبةِ خصوصاً، عن جنبلاط المتعدّد والمتنوّع والمنفلش على أصقاع شتى من المعارف والعلوم والفلسفة والمعتقدات والأديان والمذاهب والطرائق والاشراق والأدب والشعر و«فيما يتعدّى الحرف» وغيرها، وإضافة مكابدةٍ أخرى تتعلق بكونه قائداً سياسياً واجتماعياً وروحياً… وقد عانيتُ هذه المكابدةَ، ومتعتَها، مرَّتين: الأولى، منذ ثلاثة عقود، وبعدما سقطت عندي فيها منهجيةُ «الإحاطة»، واستعصتْ عليَّ منهجيةُ «لا يدرك الشبيه إلّا الشبيه»، واستغلقتْ عليّ منهجيةُ «غير السالكين»، قلتُ بتهيُّبٍ وقتذاك:»فمن يَجرؤ، بوعيٍ تام، على أن يتحمَّلَ تبعاتِ ضغط هذه الآفاق (الجنبلاطية) المفتوحةِ، في قمقمٍ من الأسطر، ويدَّعي، مع ذلك، إيضاحاً، أي إخراجاً من الليل إلى الضحى…؟». وهذه الثانية، أخترتُ لها حلَّةَ شهادةِ شاهدٍ أَحيَيتُها من ذاكرةٍ منهوكةٍ، شهادة ذاتية، معه، في ومضةٍ مستدامة، تأتي في سياق معاناةٍ عامة وطنية غيرِ مسبوقة في إطار كارثةٍ فاجعة ثلاثية يكابدها اللبنانيون منذ سنة ونيف هي، بأحد معانيها القاسية، اغتيالٌ ثانٍ له!

وعلى الرغم من كل هذا الترهُّل العام، بل بسبب هذا الترهُّل، يبقى كمال جنبلاط مشروعَ أملٍ وتقدُّمٍ وفرحٍ وكلامٍ نقيٍّ لا ينضَب.


الدِّيمُقراطية في نظر كمال جنبلاط

د. رياض شـيّا

 

قد تكون الكتابة في الديمقراطية عملاً فيه شيء من الرتابة، لكثرة الذين كتبوا فيها، وكثرة ما كُتب عنها، وما أمعنوا وعالجوا فيها من زوايا متعددة. لكنّها قليلة نسبياً تلك التي تناولت معالجة كمال جنبلاط للديمقراطية ونظرته إليها. وهذا الأمر بالذات كان الدافع وراء هذه المحاولة، مع العلم المُسبق أنّها لن تكون الأخيرة، ولن تكون الشاملة. فالذي يقترب من فكر كمال جنبلاط، كمن يقترب من بحرٍ مترامي الأطراف وبعيد الأعماق، كيما تدرك أبعاده ونهاياته. فإذا ما اقتربتَ من أحد شطآن فكره الشمولي، محاولاً إدراك أحد موضوعاته، تجدك مدفوعاً إلى البعيد والعميق، فترى نفسك أمام عالم أكثر واقعية وأشد عقلانية وأكثر اقتراباً من الحقيقة، التي كان يراها هو ساطعة كالشمس. من هنا كانت المحاولة تفرض ارتياد رحلة معرفية بعيدة وعميقة، وصولاً إلى حيث تكتشف قدراً من الحقيقة التي ستبقى نسبية بقدر زادك من المعرفة. وهكذا سنسلك معه درب الديمقراطية الجديدة التي شادها على ركام الزيف الذي ألقي عليها في مسيرتها الطويلة، منذ بداياتها، فابتعدت الشعوب والأفراد عن روحها الحقيقي.

ولمّا كانت الديمقراطية هدفاً سامياً تسعى إليه الشعوب للتعبير عن سيادتها ولكفالة حقوق أفرادها، لتكون أملاً بتحقيق حياة أفضل حرّة وكريمة، فإنّها قد ارتبطت منذ القدم بفكرة الحرية. وأول صورها ظهرت كنظام للحكم في المدن الإغريقية، ولا سيّما في أثينا. وكلمة ديمقراطية مشتقة في اللاتينية من دمج كلمتي (Demos أي الشعب، وCratos أي حكم) التي تعني حكم الشعب، أي استبعاد الحكم الاستبدادي وهذا النموذج الأصلي من الديمقراطية، لم يكن يومها متاحاً إلّا لمجموعة محددة من سكان المدينة – الدولة، الذين ينطبق عليهم وصف «المواطنون الأحرار»، مستثنين في ذلك النساء والعبيد، في الوقت الذي كانت تطبّق فيه الديمقراطية المباشرة التي تعتمد الأكثرية في قراراتها. ومن ثمّ سارت الديمقراطية في رحلتها قُدماً، فتطورت إلى الديمقراطية التمثيلية وبأشكال متعددة، ولتنتشر بعد الثورة الفرنسية عام 1789 في كثير من دول أوروبا والعالم، معتمدة القيم الليبرالية التي كان ينادي بها الفلاسفة والمفكرون في عصري الأنوار والنهضة كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الأفراد.

لكنّ الإقبال على الديمقراطية أخذ أشكالاً مختلفة، ومتناقضة أحياناً كثيرة مع أصولها، سواء بسبب القصور في إدراك وفهم جوهرها، أو بسبب استخدامها للتمويه على بعض أنظمة الحكم لإضفاء الشرعية الشعبية عليها. فقد حاول منظّرو الأنظمة الكلّية تزيين تزيّي أنظمتها الدكتاتورية بالديمقراطية كما لو أنّه خدمة للأمة أو للبروليتاريا، كما في النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا وإسبانيا، والنظام الماركسي في الاتحاد السوفياتي والصين وغيرهما. أمّا الأنظمة الليبرالية في الغرب، وهي الأقرب إلى النموذج الديمقراطي، فقد وصلت بها الرأسمالية إلى حدود الإساءة إلى الديمقراطية نفسها بخيانتها لمبادئ المساواة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي. ولكمال جنبلاط آراء حادّة ترفض كل الانتهاكات التي تعرَّض له مفهوم الديمقراطية، وتدين السلوك المضلل والغوغائي في الشرق كما في الغرب. وهكذا سنرى أنّ مفهوم كمال جنبلاط للديمقراطية يبدو مختلفاً عما هو تقليدي وسائد، حتى أنّه يذهب بها الى أبعد من المفهوم الكلاسيكي المتداول في الأوساط الأكاديمية.

في تعريفه للديمقراطية بدايةً، يستعير جنبلاط من الفيلسوف الفرنسي برغسون قوله «إنّ الديمقراطية الحقيقية هي مبدأ توحيدي، عقلاني بحت»، على اعتبار أنّ الأنظمة الديمقراطية، كما يراها برغسون، تقوم على الامتثال الطوعي لتفوق العقل والفضيلة، متناقضةً في ذلك مع الأنظمة الأخرى المبنيّة على القوة أو العاطفة أو التقاليد.

المفكر الفرنسي لوفور

من هذا البعد التوحيدي والعقلاني للديمقراطية، يرى جنبلاط أيضاً مع المفكر الفرنسي لوفور Lefûr، في كتابه «الشريعة وقضاياها الكبرى»، أنّ الأسس الأولية التي قامت عليها الديمقراطية المعاصرة تكمن في حرية الإنسان والمساواة الطبيعية بين البشر، وذلك لأنّ الإنسان يتمتع بروح خالدة ولا يخضع ضميره لأي سلطة بشرية، فالناس متساوون بحكم طبيعة وجودهم المشترك مهما كانت صفتهم، أحراراً أم عبيداً، إغريقاً أم برابرة، ويهوداً أم وثنيين.
إلاّ أنّ هذه المساواة في الحق والجوهر تترافق مع تنوع مذهل بين البشر على الأصعدة العقلية والأخلاقية والجسدية. فالإنسان، على قول هكسلي Huxley، هو إلى حدٍّ بعيد النوع البرّي الأكثر تقلباً. فيعتبر جنبلاط هذا التنوع مرتبطاً بنمط التطور الإنساني وبدور البيئة المادية المحيطة بالإنسان. لكن برغم ذلك يذهب مع برغسون ولوفور إلى اعتبار أنّ الديمقراطية الحديثة هي رسولية في جوهرها، وأنّ المحبة هي دافعها وليس الإكراه.

من هذا الفهم لجوهر الديمقراطية، يرى جنبلاط أنّ الديمقراطية في بعدها الاجتماعي تعني الأخذ بمبادئ العدالة الاجتماعية في تنظيم قيم الجماعة وتكوين تراتبيتها ونخبها وقياداتها. فيراها مجتمعاً اشتراكياً خالياً من الطبقات الاجتماعية، لأنّ التفوق الاجتماعي والفضيلة، برأيه، لا يفترضان التكتل ضمن تجمعات أو طبقات تدافع عن مواقعها وامتيازاتها. فالنخبة الحقيقية تستمد مكانتها القيادية من قوانين التطور البيولوجي-الاجتماعي، أي من جوهر الحياة نفسها، التي دفعتها إلى المرتبات الأولى، كما حددت لها شروط انحلالها وتساقطها. فالفرديات القوية والشخصيات الخلاّقة هي مصدر فعل التقدم في المجتمع، وهي التي فعلت في التاريخ والحضارة، فهي الأساس الفاعل والخميرة في المجتمع. لذلك يرى أنّ الديمقراطية السياسية والاجتماعية قد جرى تشويهها وانحرافها تحت تأثير الأفكار المسبقة على صعيد المساواة البرلمانية القائمة وسوء تفسير وتشويه نظرية السيادة الشعبية. فقد رأى أنّه من الواجب السعي إلى تحقيق ديمقراطية اجتماعية صحيحة تسمح بإبراز القيادات الحقيقية من خلال بنية تنظيمية فاعلة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتكريساً لذلك جرى النصّ في ميثاق الحزب التقدمي الاشتراكي، في تحديده لبنية هذا النظام، بوجوب ارتكازه على المساواة الجوهرية في الحقوق والواجبات، كمبدأ مثالي يحدد جوهر الديمقراطية، ويبنى على العدالة المستوحاة من الإخاء والتعاون والتضامن، وعلى احترام جميع حريات الفرد المحدودة بحريات الآخرين وبمقتضيات الخير العام، وعلى المساواة السياسية بين المواطنين التي تأخذ بعين الاعتبار قيمتهم وإمكانية انتفاع المجتمع بهم.
إنّ مبدأ المساواة الوظيفية، برأي جنبلاط، مبنيّ على التفاوت الطبيعي بين البشر، أي بمعنى آخر مبدأ الانتخاب والاختيار القائم في الطبيعة، على عكس مبدأ التجمع الفوضوي ونظرية العدد. فهذه المساواة التي يرقى اليها النظام ترتكز على «وضع معتدل متوازن آخذ بالتنوع في الوحدة وبالفردية النازعة الى تحقيق الشخصية»، كما ينصّ الميثاق أيضاً. فالتنوّع في الوحدة، في قول جنبلاط، هو من المستلزمات الأساسية في الطبيعة. ويتعاكس هذا المبدأ مع النظرية الكلّية الهادفة إلى عملية توحيد وتجانس وتبسيط مصطنعة للأطر الحياتية. لذلك يعلن جنبلاط رفضه لأي نظرية تدعي إمكانية إخضاع التعقيد الاقتصادي-الاجتماعي لصيغة أحادية المعنى تهدف إلى صهر الوقائع كلها وبأي ثمن في إطار هذه الصيغة. ولتعزيز فكرة التنوّع في الوحدة، يدعو جنبلاط في الميثاق إلى «الفردية الشخصانية» وذلك للتميّز عن الديمقراطية التجمّعية التي تأخذ في حسابها الفرد وليس الشخص. فالفرد برأيه ليس سوى «إمكانية بسيطة» قياساً بالشخص «الذي هو الفرد المنصهر في المستوى الاجتماعي وعبره في التراث الحضاري أي في المستوى الإنساني». وعملية تكوين «الشخص»، برأي جنبلاط، هي بالتحديد «رهان» العالم. فعلى ضوء هذه الحقيقة، يرى جنبلاط الخطأ الأساسي والمأساوي الذي ترتكبه الديمقراطية التجمّعية (ديمقراطية العدد)، التي لا تأخذ بعين الاعتبار لا المستوى الاجتماعي ولا «الشخص»، بل الفرد، كونه وحدة في عدد لا يحصى في الوحدات الشبيهة ببعضها.
ورغم التنوّع وإبراز قيمة الشخص، يدعو جنبلاط في الميثاق إلى «تضامن أخوي نتيجة للتخصص الوظيفي ولترتيبٍ مرتكزٍ على المواهب بين المواطنين»، فيعتبر هذا التضامن هو صيغة الانصهار الفضلى في العالم الذي يشهد سيطرة متصاعدة للآلة، وهي التي بنى عليها دوركهايم مدرسته الاجتماعية، والذي يقول «إنّ ارتهان الفرد للمجتمع يتزايد كلما ازداد تقسيم العمل».

هذا التضامن الذي لا بد له من أن يترجَم في مؤسسات الدولة التي ستوفر وتؤمّن العدالة الاجتماعية، فتسمح للديمقراطية الاجتماعية بالتوسع إلى الديمقراطية الاقتصادية التي تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على الملكية الفردية، التي تُعتبر مرتكزاً للحرية السياسية وللحرية المهنية والأخلاقية.

والعدالة الاقتصادية هي على رأس قائمة العناصر الضرورية لإنشاء ديمقراطية اجتماعية، إذ إنّ أفكار العدالة والإخاء والمساواة، التي هي ملح الأرض، على حدّ تعبير جنبلاط، هي صيغ يجب أن تتحقق في المستوى الاجتماعي، وأن يعيشها الفرد في حياته الزمنية، لا أن تبقى صيغاً نظرية. فالديمقراطية الاجتماعية ومؤسساتها الجماعية سوف تنمو في إطار ديمقراطية اقتصادية تعمل على تأمين الخبز والعمل ضمن العدالة والحرية. وعندها سيتحوّل شعار «لا حقوق ولا امتيازات دون واجبات مقابلة» من شعار فارغ إلى حقيقة قائمة. وعندها أيضاً يكفي الديمقراطية الاجتماعية المبدأ الضروري القائل «بتأمين تكافؤ الفرص والامكانيات بين المواطنين لتتمكن المواهب الفردية المتفاوتة على صعيد الذكاء والأخلاق من أن تبرز وتنمو بشكل طبيعي». فيصبح العمل مقياساً لكل تقسيم وتراتبية، وبهذا المفهوم يعاد رفع شأن العمل وتطهيره من الشوائب التي رافقته عبر التاريخ. هكذا رأى كمال جنبلاط «العمل، شرعة الحياة البشرية ونبالتها، وهو الشرط الجوهري لإمكانية الإنتاج والجدوى في المجتمع. فمن يقدر ولا يعمل لا يحق له أن يأكل».

وبهذا الفهم للعمل تكون الديمقراطية الاقتصادية قد وفّقت بين حقوق الشخص وحقوق المجتمع، وبين مبدأ العدالة ومبدأ الحرية: «الخبز والعمل من ضمن العدالة والحرية». وهكذا تصبح الديمقراطية الاقتصادية إحدى الأسس الجوهرية للديمقراطية الاجتماعية. فالمساواة والحرية، كي يصبح لهما مضمون عملي ولا تكونان وهماً، يجب أن تبدأ بالخبز والعمل.
إلاّ أنّه بالإضافة إلى هذا البعد الاقتصادي الأساسي في الديمقراطية الاجتماعية، لا بد من أن يُضاف إليها مجموعة من الشروط الضرورية كتأمين العناية الصحية والجسدية لكل المواطنين، والمحافظة على بيئة سليمة، وأن تكون المعرفة والتربية في متناول الجميع. «فتحقيق وتأمين هذه العناصر هو مسألة أساسية، إضافة لإيجاد نظام سياسي ملائم ليكون هناك تكافؤ بالفرص والإمكانيات ولتتأمّن العدالة والنزاهة في المنافسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي الصراع من أجل الحياة ومن أجل مكانتنا في هذ العالم».

إنّ شرط وجود نظام سياسي ملائم لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية، كما رأينا، يقودنا إلى التعرف إلى الديمقراطية السياسية كما يتصورها كمال جنبلاط. ففي فهم عميق لجوهر الديمقراطية، انطلاقاً من فهمه للإنسان وللوجود، يعتبر أنّ الديمقراطية هي الوضع الطبيعي الذي يجب أن يكون في البشر. وانطلاقاً من تعريفه لها الذي بدأنا به هذ البحث، هي كما ردد برغسون «مبدأ توحيدي عقلاني بحت»، أي إنّها مشروع ينطلق من العقل. فيرى جنبلاط إنّه في إطار العقل La Raison بمفهومه القديم الأصلي الذي حدده فيثاغورس وأفلاطون، حيث تصبح الحكمة تكويناً وحدساً للإدراك الصرف، فإنّ السياسة، أي فن قيادة البشر، تصبح عملاً إنسانياً نبيلاً. والديمقراطية السياسية هي فعل انسجام، إذ إنّ الكون برأيه ليس إلاّ فعل انسجام، والانسجام هو محور أي شيء، وهو أساس الحرية. والحرية هي قانون الكيان العميق، وقانون كل كيان. ذلك أن لا وجود للتعارضات والصراعات والازدواجية في باطن الأشياء وأعماقها. ولا وجود للتنوّع إلاّ على مستوى معين من المعرفة في «قطعة صغيرة جداً» من الكيان.

ومن هذا الفهم العميق للكيان الإنساني، يرى جنبلاط أنّ السياسة هي، في واقعها، تنظيم لهذا التنوّع في المجتمع البشري. أما لعبة التعارضات والصراعات والازدواجية الظاهرية فتخفي الانسجام الأصلي للكيان. إذن، فالديمقراطية السياسية كما يراها جنبلاط، هي انعكاس لهذا التنظيم، وتكاد تكون نوعاً من العودة إلى «الانسجام» الملازم للأشياء، ونوعاً من التعبير الخارجي لحرية الكائن.

وهكذا، فمن كون الديمقراطية السياسية هي عمل عقلي، عمل الانسان المدرك، يعتبر جنبلاط أنّه يجب بناء ديمقراطية تقدمية حقيقية تعني الشخص وليس الفرد، لأنّ الفرد يشكل نقطة الانطلاق وليس نقطة الوصول، ولأنّ الفرد وسيلة وليس غاية، وهو بالنسبة للشخص نوع من الإمكانية البحتة. والشخص بلغة أرسطو، هو الفرد في حقيقته وجوهره. والشخص في هذا الإطار هو الدائرة المحورية التي يدور حولها دولاب الديمقراطية. وعليه، فإنّ كل مشروع بناء لديمقراطية جديدة وسليمة يجب أن يكون هدفه الانسان، وليس الفرد.

وهنا يسأل كمال جنبلاط، ما هو الدور المحدد للديمقراطية في إطار هذا التحديد لتطور الفرد باتجاه «الشخص» على ضوء روح التجرد والامتثال الطوعي للقوانين؟ فيجيب: إنّ على الديمقراطية أن تغرس في الانسان – المواطن روح الواجب الحقيقية، وتوضح له المدى الفعلي والغاية العليا لحقوقه كما أنها تحدد له تكامل حقوقه مع واجباته. وبهذا المعنى ستكون الديمقراطية بالفعل نظاماً «لتمهيد الأنا» ومحاولة لترفيع الانسان… إنّ الديمقراطية السياسية سوف تكون هذا التيار التجديدي الذي يهدف بواسطة المؤسسات الى إعادة آدم إلى ما كان فعلاً عليه قبل سقوطه في «الأنا». فكيف ينظر كمال جنبلاط الى هذه المؤسسات؟

يبدأ جنبلاط تصوره للمؤسسات السياسية، كونها أجهزة هذه الديمقراطية السياسية، بشكل الدولة بدايةً. الدولة العلمانية هي المطلوبة، وهي التي ستكون جوهر هذه البنى والمؤسسات. لكنّ هذه العلمانية، كما يراها، ستكون علمانية أخلاقية، جوهرها ديني – وليس شكلها – فتحترم «حرية المعتقد» وتنطوي طبعاً على مفهوم «إلغاء الطائفية السياسية».

ويتابع جنبلاط عملية بناء مؤسسات النظام السياسي الديمقراطي، بضرورة إعلان ميثاق جديد يتضمن حقوق وواجبات المواطن. بل على الميثاق، وكنتيجة طبيعية له، إعداد دستور يكون بمثابة «الضمانة» للحقوق والواجبات المُعلنة في الميثاق ويرتكز على المبادئ التي من شأنها ضمان ممارسة فعلية لهذه الحقوق وتحقيق فعلي لتلك الواجبات. ويأتي مبدأ فصل السلطات على رأس قائمة هذه المبادئ. وسوف يُفهم ويطبق فصل السلطات بروحية جديدة تعني:

1- قيام سلطة قضائية حقيقية متساوية بالحق والفعل مع السلطة التنفيذية ومستقلة تماماً عنها، ومهمتها المراقبة الفعلية لأعمال هذه السلطة خاصة بواسطة النظر في دستورية المراسيم والقوانين. ويرى جنبلاط، أنّ الذي يضمن حرية المواطن الفعلية ليس المؤسسة البرلمانية، بل سلطة قضائية قوية ومستقلة ذاتياً، مجسدةً عملياً سلطة الدولة المطلقة. فبرأيه، كم من مجالس تمثيلية (برلمانات) تحوّلت إلى أدوات مطيعة لدكتاتورية معينة أو لنظام قائم على العنف بسبب فقدان الضمانات التي يقدمها هكذا قضاء، كما كان الحال في الاتحاد السوفياتي أو كما هو الحال في بعض البلدان العربية.

2- تقوية وتثبيت السلطة التنفيذية الى حدٍّ ما على حساب السلطة التشريعية، على اعتبار أنّ الذي يحكم ويبدع هو الذي توفرت فيه صفات القائد حيث لديه انسجام وتعادل المسؤولية السياسية والأخلاقية من جهة والعبقرية الخلاّقة من جهة أخرى. ويرى جنبلاط أنّ حكومة «المجالس والأكثريات» لا معنى لها، وهي نوع من الخدعة. فالحكومة القائمة على هذا الأساس لن تكون سوى حكومة الضعف والرداءة. فالنخبة فقط مُقدَّر لها أن تفعل أشياء وأعمال كبيرة على صعيد الدولة والحضارة. ويتساءل جنبلاط، أليست السيادة الشعبية التي تمثَّل بأسلوب «الانتخاب العام» نوعاً من الخدعة هدفها إرضاء أنانية الذين يُنتخَبون ويقبلون؟ فيسارع للقول إنّ هذه الخدعة تحجب جزئياً الدور المؤثر الذي يلعبه بعض المنبثّين بين الجماهير تقتصر مهمتهم على ترجمة ارادات هؤلاء المتنوعة؟
3- أمّا التمثيل الشعبي فيُفترض أن يتطور أكثر فأكثر باتجاه تأمين «تمثيل النخبة والهيئات المهنية والاقتصادية والمعنوية تمثيلاً موافقاً في المجالس، تمكيناً للأكفّاء من تولي الحكم». لذا سيكون المطلوب وجوب البحث عن صيغة مختلفة «للتفويض»، تكون متلائمة أكثر مع مصالح ومتطلبات إدارة الأمة. إنّ صيغة كهذه تفترض قيام «نظام معتدل ومتوازن»، أي: «لا أنظمة كلية ولا فوضوية، بل شورى ديمقراطية عليها واجب الإشراف التوجيهي غير المتحكّم ولا المستأثر في كل النشاط الشعبي العملي».
وهذا يعني تثقيف الشعب سياسياً واجتماعياً، بغية التوصل الى وضع ديمقراطي بفضل تنمية رابطة محض اختيارية.

4- اعتبار المجتمع ليس مجموعة أفراد فقط بل كلاً عضوياً حيويته في تنوّعه، لكل عمل فيه كرامته، ولا أفضلية لمهنة على مهنة إلاّ في تأمين انتظام المجتمع واستمراره وترقيه.

5- مكافحة الطبقية والإقطاعية والتمهيد لقيام القيادات الصحيحة، وإيقاظ الشعور بالتضامن والمسؤولية الاجتماعيين.

وفي تصور جنبلاط لتطبيق الديمقراطية بصورة صحيحة، يعتبر أنّ الديمقراطية السياسية الحقيقية هي حكم القانون، بما يتوافق مع حقوق الإنسان وواجباته. وهذه الحقوق تتطور مع الزمن لتبرُز في أوضاع متكاملة، فتعكس أكثر فأكثر وجوه حقيقة الإنسان. والحفاظ على هذه الديمقراطية، لا يتحقق إلاّ في ظروف ملائمة، أهمها:
– أن يكون من يتسلم مسؤولية الحكم في مستوى هذه المسؤولية كي لا يفلت زمام الحكم من يده.
– وعلى المجلس النيابي بشكل خاص، والحكم المنبثق منه، أن يكونا في وضع من الكفاءة والقدرة على العمل والجرأة في مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ما يمكّنهما من القيام بأعباء التشريع والحكم كما يتوجب.
– قيام أجهزة حكومية سليمة يشتد بها على الدوام التطهير وتصفّيها الملاحقة، وترفع الحصانة عن الموظفين والمسؤولين مهما كانت صفتهم والموقع الذي يحتلونه. فبدون التوجيه والعقاب والتطهير لا يمكن أن يستقيم حكم، ولا تصلح أجهزة.

وختاماً يرى جنبلاط، في تأمله لواقع الأنظمة السياسية في محيطنا العربي مقارنة بلبنان الديمقراطي الذي يحلم به، أنّه وسط عالم عربي مشحون بالتناقضات، ويسيطر عليه حكم لا ينتسب إلى حكم القانون ولا إلى حكم الشعب، بل إلى الانقلابات العسكرية المستمرة أو إلى النظام الأوتوقراطي الملكي، تبدو هذه البقعة الصغيرة، كأنّها بقية باقية من حلمٍ غابرٍ أو استباقاً – على نطاق صغير نسبياً؛ طبعاً – لما ستكون عليه الديمقراطية في عالم الغد.


كمال جنبُلاط في بداية مسيرته السّياسيّة

د. حسن أمين البعيني

 

في السادس من كانون الأول 1917 بدأت حياة كمال جنبلاط مولودًا في دار المختارة للزعيم فؤاد جنبلاط ولزوجته الست نظيرة جنبلاط. وفي حزيران 1943 بدأت مسيرته السياسية وريثًا للزعامة الجنبلاطية التي تسلّمتها الست نظيرة بعد غياب زوجها فؤاد بك جنبلاط سنة 1921، واستعانت بصهرها حكمت بك جنبلاط منذ سنة 1934. وبهذا تحوَّل كمال جنبلاط من عالم الفكر والثقافة والروحانيات الذي يريد أن يحيا فيه إلى عالم السياسة الذي أُدخل فيه قسرًا حفاظًا على الزعامة الجنبلاطية، وكان يفضّل الابتعاد عنه.

إنّ بداية المسيرة السياسية لكمال جنبلاط – موضوع هذه الدراسة – تمتد بين تاريخ وفاة حكمت جنبلاط في 4 حزيران سنة 1943، وتاريخ استقلال لبنان؛ حياة كمال جنبلاط السياسية التي بلغت 34 سنة، ولكنها ذات أهميّة ومدلولات، لأنّها كانت بداية ناجحة، برهن فيها عن قيادة حكيمة واعية، واتخذ قرارات شجاعة ومسؤولة، بالرغم من حداثة تجربته السياسيّة، ولأنه ظهرت فيها، كما في محطّات قليلة قبلها، جذور مبادئه التقدميّة والإصلاحيّة، ومبادئه الاشتراكيّة، وكانت بداية تحويله الزعامة التقليدية التي ورثها إلى زعامة حديثة متطوِّرة ومُطوَّرة، كما ظهرت فيها ملامح دوره الكبير الذي سيتعملق مع الأيام، ويتجاوز حدود الطائفة والمنطقة ولبنان.

بين الثقافة والسِّياسة كخيارَين ومجالَي عمل، فضَّل كمال جنبلاط الخيار الأوّل. وليس هنا مجال المفاضلة بين الثقافة والسِّياسة، ولا بين كمال جنبلاط المفكِّر والعالِم والمعلِّم والفيلسوف، وكمال جنبلاط السِّياسيّ، ذلك لأنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر لتكاملهما في شخصه وفي أعماله وفي مسيرته. فالوعي السِّياسي جزء من الوعي الثّقافي، والسّياسة عنده هي وسيلة لخدمة الإنسان الذي هو الغاية، وهي لا تكتسب قيمتها الحقيقية إن لم تكن جزءًا من الثقافة، وعاملًا من عوامل تطوير المجتمعات، وصنع الحضارات، وتمدين الشُّعوب.

كان كمال جنبلاط، منذ تفتُّح عينه على كنوز المعرفة، استثنائيًّا في حياته الدراسيّة، كما غدا استثنائيًّا فيما بعد في حياته السّياسية. شُغف بالعلم فنهل المزيد منه، ونجح في كلِّ الامتحانات بدرجة عالية، وأخذ أكثر من اختصاص في نفس الوقت، كانضمامه إلى معاهد الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع إضافة إلى دراسة الحقوق التي كان يتابعها في جامعة باريس. كان يريد التحليق كالطائر لا أن يصعد السُّلَّم درجة درجة. وفيما كان يرى نفسه مشروع زعيم سياسيّ. وقد وضعته والدته ونشّأته في دار المختارة في هذه الأجواء شيئًا فشيئًا بالرغم من عدم ميله إليها، وتفضيله أجواء العلم عليها، وحبه للعزلة والابتعاد عن الناس.

كانت الست نظيرة جنبلاط تعلم أن ابنها كمال لا يميل إلى السياسة، وإنما يظهر اهتماماته في شؤون أخرى، ويريد التخصُّص في الهندسة. لقد استشارت في السابق صديق البيت الجنبلاطي، المطران أوغسطين البستاني، بشأن المدرسة التي يتعلّم فيها ابنها، فنصح بمدرسة الآباء اللعازاريِّين في عينطورة، وهي حاليًّا توسّطه لإقناعه بالتخصّص في المحاماة، لأنها أفضل السبل للنجاح في ميدان السِّياسة، الذي تراه مجالًا طبيعيًّا له. وبناءً على نظرتها إليه كزعيم سياسيّ مستقبلي سيأخذ دورها، كانت تدخله – ما أمكنها ذلك – الأجواء السِّياسيّة، وتغتنم وجوده في قصر المختارة أثناء عطلة الأسبوع وعطلة الصيف ليشارك معها، ومع شيخ العقل حسين طليع وذوي الشأن، في استقبال كبار الزائرين من أجل أن يتعرَّفوا عليه. وكانت تقدِّمه أحيانًا خطيبًا باللغة الفرنسيّة أمام المسؤولين الفرنسيِّين. وقد اصطحبته معها عندما كبر لردّ الزيارات، ومنها، مثلًا، زيارة المفوّض السامي الفرنسي ورئيس الجمهورية اللبنانيّة في شباط 1939 حيث كان برفقتهما حكمت بك جنبلاط (1).

فيما كان كمال جنبلاط يستزيد من العلم والثقافة، كان يكتسب المعرفة السِّياسيّة منهما، ومن خلال مواكبته للأحداث المتلاحقة، وخصوصًا أحداث الحرب العالميّة الثانية التي كانت لها انعكاساتها القويّة عليه وعلى لبنان. فهو لم يكن آنذاك فقط الطالب الذي يتابع دراسة المحاماة، ولا المحامي الذي يمارس مهنة المحاماة بعد تخرُّجه، بل كان أيضًا المُتتبِّع بكل اهتمام لما يجري على صعيد العالم، ولما يجري حوله في لبنان، وينخرط هو نفسه أحيانًا بحلّ بعض المشكلات، حتى إذا ما جاء يوم تسلُّمه للزعامة، وبدء ممارسته للعمل السِّياسي مرغمًا، كان عنده من الوعي ما يكفيه للبدء بنجاح في مسيرته السياسيّة.

المبايعة بالزّعامة 

توفِّي حكمت جنبلاط في 4 حزيران 1943 في مستشفى عطيَّة في بيروت، ونُقل جثمانه إلى المختارة حيث أُقيم له مأتم حاشد تقاطرَت إليه، بالإضافة إلى الوفود الرسميّة، وفود وجماهير من لبنان وسورية وفلسطين، يتقدَّمها الأعيان، أحْيَت المأتم بالمظاهر السائدة آنذاك: إنشاء النَّدب، عزف النّوبة، حمل البيارق. وتكلَّم الخطباء فأشادوا بصفات الفقيد، وبدور الزعامة الجنبلاطيّة في تاريخ لبنان، وهم: جواد بولس (وزير الخارجيّة والأشغال والصحة العامة) – الشيخ بشارة الخوري (رئيس الكتلة الدستوريّة، رئيس الحكومة والوزير والنائب سابقًا، ورئيس الجمهوريّة لاحقًا) – حبيب أبو شهلا (نائب بيروت) – محيي الدين النصولي (نائب بيروت) – جورج عقل (عضو المكتب السياسي لحزب الكتائب اللبنانيّة) – الشيخ خليل تقي الدين – أمين بك خضر. وتكلّم كمال جنبلاط باسم العائلة الجنبلاطيّة، وباسم والدته الست نظيرة، فشكر ممثِّلي السلطة، والخطباء والمشيِّعين.

توقَّع الكثير من المشيِّعين الإعلان عن اسم الزعيم الذي سيخلف حكمت جنبلاط على قاعدة: «مات الزعيم، عاش الزعيم» ورجّحوا أن يكون كمال جنبلاط، وتمنَّوا ذلك، بحسب ما أوردته الصحف الصادرة آنذاك (2). لكن الإعلان عن هذا الأمر لم يحصل في المأتم. وحدهُ الشيخ شاهين المصري من صليما تطلَّع إلى كمال جنبلاط، حين كان نعش حكمت جنبلاط يُوارى الثَّرى في المقبرة العائلية، وقال: مات الملك، عاش الملك.

أمَّا لماذا لم يُبايَع كمال جنبلاط بالزّعامة الجنبلاطية في مأتم حكمت جنبلاط، بالرُّغم من أنه المرجَّح لتسلُّمها، فذلك لأن هذا الموضوع لم يُبحث سابقًا، ولأنه يتطلّب الأمرَين التاليَين: أوّلهما اتِّفاق البيت الجنبلاطيّ، وثانيهما موافقة كمال جنبلاط التي تقتضي منه المباشرة بمزاولة العمل السياسيّ من خلال الترشُّح للانتخابات المُزمع إجراؤها آنذاك. وبالنسبة للأمر الأول، أي موافقة البيت الجنبلاطيّ، فقد جرى التعبير عنها بتصريح للصُّحف أدلَى به نجيب علي جنبلاط بعد أسبوع من تاريخ وفاة أخيه حكمت هو التالي:

«إن هدف الأسرة الجنبلاطية هو المحافظة على الرِّسالة التي سار عليها بيتنا وخدمها منذ القدم. وكما أن امرأة عمِّي (الست نظيرة) قد عطفت على صهرها شقيقي حكمت وفضَّلته على ابنها، فإنني بدوري أفضِّل نجلها ابن عمِّي كمال بك على نفسي، وأتمنّى له التوفيق ليتمِّم الرّسالة التي خدمها أخي حتى النَّفس الأخير» (3).

وبالنسبة إلى الأمر الثاني، أي موافقة كمال جنبلاط على مزاولة العمل السِّياسي، فقد تردَّد في البداية بالرُّغم من إلحاح والدته والأصدقاء، لأنه لا يميل إليه في الأصل، وسيَحول بينه وبين متابعة تحصيل العلم الذي يرغب به أكثر من أي شيء آخر، ودون نيل شهادة البولتيكنيك من جامعة باريس ليفيد بها وطنه. استشار والد صديقه كميل (نجيب بك أبو صوّان) وزير العدليّة سابقًا وأوّل رئيس لمحكمة التمييز، وصديق دار المختارة، فنصحه بتسلُّم المهمّة، وخوض غمار السِّياسة، ومتابعة دور آل جنبلاط التاريخي، كونه الوحيد القادر منهم على ذلك (4) فقبِل النصيحة.
بعد شيوع نبأ موافقة كمال جنبلاط تقاطرَت الوفود إلى المختارة تعلن البيعة له، وتبدي استعدادها لنصرته وتأييده في الانتخابات. وتهتف «عاش الزعيم». ومنذ ذلك الحين لبس عباءة الزّعامة وحمل أعباءها. وإذا كان إلباس هذه العباءة يعني توريثًا للزّعامة في المجتمع الإقطاعي والعشائري، فإن كمال جنبلاط لبس عباءة قيادة حديثة، وطنيّة وعربيّة، حاك خيوطها بنضالاته وأفكاره العابرة للحدود، وشاد على تاريخ مجيد، وعلى بناء قائم متين، بتعديل يتماشى مع قيمه ومبادئه وروح العصر.

الفوز بالنِّيابة 

تزامَنَ تسلُّم كمال جنبلاط الزّعامة في حزيران 1943 مع الاستعدادت لخوض الانتخابات النِّيابيّة التي وافق الفرنسيّون الأحرار على إجرائها نزولًا عند طلب حلفائهم البريطانيِّين وضغطهم، ونزولًا عند طلب السوريِّين واللبنانيّينن بعد أن أرجأوا إجراء هذه الانتخابات لمدّة سنتَين بحجّة ظروف الحرب.

بعد مضيّ أيام قلائل على مأتم النّائب والوزير حكمت جنبلاط، بحثَت الست نظيرة موضوع ترشُّح ابنها كمال، مع ريمون إميل إدّه والطبيب يوسف حتّي اللَّذَين بقِيا في المختارة للتداول في هذا الأمر. وحين وافق كمال جنبلاط على خوض المعترك السياسيّ بدأ يستعدّ لخوض معركة الانتخاب.

أسند مندوب فرنسا الحرّة الجنرال كاترو إلى الدكتور أيوب ثابت سلطات رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وحصر بحكومته مهمّة الإشراف على الانتخابات. وكان الدكتور أيوب ثابت من أبرز الأمثلة عن المحافظين المتشدِّدين من المسيحيِّين، وجعل بمرسومَيه الصادرَين في 17 حزيران 1943 عدد النوّاب المسيحيِّين 32 نائبًا، وعدد النوّاب المسلمين 22 نائبًا، أي بفارق 10 نوّاب بين المسلمين والمسيحيّين على أساس احتساب أصوات المغتربين، وأكثريّتهم آنذاك مسيحيّون. وهذا أثار احتجاج المسلمين الذين كانوا يطالبون بإنصافهم وزيادة عدد نوّابهم، فهدَّدوا بمقاطعة الانتخابات، وكادت تحصل فتنة طائفيّة في البلاد (5). وحين لم يتراجع أيوب ثابت عن مرسومَيه، أقاله السفير الفرنسي هلّلو في 21 تموز، وعيّن مكانه بترو طراد الذي أصدر مرسومًا حدَّد فيه عدد النوّاب بـ 55 نائبًا: 30 للمسيحيِّين و25 للمسلمين، على أن يجري إحصاء عامّ لأهالي لبنان في مهلة لا تتجاوز سنتَين (6).

زاد عدد النوّاب الدروز نائبًا بموجب مرسوم بترو طراد، فزار كمال جنبلاط وجميل بك تلحوق والمقدَّم علي مزهر السراي في 29 تموز، وقابلوا أركان الحكومة، وطلبوا أن تُصان حصة الدروز، وهي أربعة مقاعد (7).

كانت هناك كتلتان يتمحور حولهما العمل السياسيّ في لبنان، هما الكتلة الوطنيّة التي أسّسها إميل إدّه سنة 1932، والكتلة الدستوريّة الّتي أسّسها منافسه القوي على النفوذ، بشاره الخوري، سنة 1943، وسُمّيَت بهذا الاسم لأنها طالبت بإعادة الحياة الدستورية التي عطّلها المفوَّض السامي هنري بونسو سنة 1932. وكان من الطبيعي أن يخوض كمال جنبلاط المعركة الانتخابيّة في لائحة الكتلة الوطنيّة، نظرًا للتحالف التاريخي المبنيّ على المصلحة المشتركة، والقائم بينها وبين الست نظيرة وحكمت جنبلاط. وليس هناك دليل يؤيِّد ما جاء عند الرئيس بشاره الخوري من أنّ السلطة الفرنسية منعت كمال جنبلاط أن يخوض الانتخابات إلى جانبه سنة 1943 كما منعت من قَبل حكمت جنبلاط (8).

ورث كمال جنبلاط، بتسلُّمه الزّعامة الجنبلاطيّة، زعامة الغرضيّة الجنبلاطيّة الملازمة لها آنذاك. كانت انتخابات سنة 1943 مرحلة يتحدَّد فيها مصير لبنان، واستقلاله، واختلفت عن سابقاتها في التعبئة لها، وفي الشِّعارات المطروحة والتدخُّل الخارجي. ففيما كانت الكتلة الدستورية ترى ضمان استقلال لبنان بالتّعاون بين مسلمِيه ومسحيِّيه بصيغة ميثاق وطنيّ بينهم، وبتعاون لبنان مع الدول العربية وعدم انحيازه إلى أيّ منها ضد الأخرى، كانت الكتلة الوطنية ترى ضرورة استقلال لبنان مع ضمان الحماية الفرنسية لاستقلاله ولحدوده، وتخشى ذوبانه في المحيط العربي والإسلامي الواسع. وقد أحدثَت تصريحات رئيسها إميل إدّه، السابقة، نقزة عند المسلمين (9) بمختلف طوائفهم، إذ يُنسب إليه أنه صرَّح عن ترحيل المسلمين إلى مكّة المكرّمة وترحيل الدّروز إلى جبل الدروز (جبل العرب).

جرت الانتخابات النِّيابيّة في أجواء ديمقراطية، في المحافظات اللّبنانية على مرحلتَين، في 29 آب و5 أيلول 1943، ولأوّل مرّة لا يستطيع الفرنسيون أن يتدخَّلوا تدخُّلًا فعّالًا لمصلحتهم لضعف وجودهم العسكري، ولوجود المنافس البريطاني المتفوِّق عليهم عسكريًّا وسياسيًّا، إذ كانت المعركة الانتخابية في أحد عناوينها تجري بين الجنرال كاترو ممثِّل فرنسا الحرّة ومؤيّد الكُتْلوِيِّين، والجنرال سبيرس ممثِّل بريطانيا العظمى ومؤيِّد الدستوريِّين، الذي يعمل لإحلال نفوذ بلاده في سورية ولبنان مكان النفوذ الفرنسي، ويوحيٍ لِلُّبنانيِّين أن زوال الانتداب الفرنسي، واستقلال لبنان، يتمَّان عبر التحالف معها (10).

أظهرَت نتائج الانتخابات فوز الكتلة الدستورية في كل المحافظات باستثناء جبل لبنان حيث فازت الكتلة الوطنيّة بأكثريّة المقاعد فيه، حتى إن قطبَين من أركان الكتلة الدستورية لم يفوزَا بالدورة الأولى في جبل لبنان، وهما الشيخ بشاره الخوري والأمير مجيد أرسلان. أمّا كمال جنبلاط فقد فاز عن الشوف في محافظة جبل لبنان في الدورة الأولى (11)، وبدأ يستقبل المهنِّئين. إلَّا أن مظاهر ابتهاج مُناصرِي دار المختارة لم تكن كعادتها في سائر المناسبات بسبب غياب حكمت جنبلاط عنها. وكان كمال جنبلاط أصغر النوّاب سنًّا (25 سنة) لكنه سيغدوَنْ من أنشطِهم، ومن أبرز المجدِّدين بأطروحاته الإصلاحيّة. وبهذا انتقل من ميدان الثقافة وصفائها إلى ميدان السِّياسة وألاعيبها، ومن عالم الفلسفة والروحانيات إلى عالم الواقع المعيوش وما فيه من تناقضات ومساوئ.

في انتخاب رئيس الجمهوريّة
تعديل الدستور اللبناني لتحقيق الاستقلال 

شهدت مرحلة ما بعد الانتخابات النّيابيّة تعاوُنَ أبرز شخصية سياسيّة مسيحيّة مارونيّة، وهو الرئيس الشيخ بشاره الخوري، مع أبرز شخصية سياسيّة مسلمة سنّيّة، هو رياض بك الصلح، النّائب عن صيدا في لائحة الكتلة الوطنيّة. درس الرَّجلان أسس الميثاق الوطني الذي هو دستور غير مكتوب، كان له – منذ تبنِّيهِ في سنة 1943- دورهُ في تنظيم العمل السياسي وتوجيهه كدستور لبنان المكتوب الموضوع في أيّار 1926، وقد وضَعَا الميثاق باسم جميع اللّبنانيِّين، وانضمّ إليهما أكثريّة الفعّاليات السياسيّة وبينهم كمال جنبلاط، لأن الميثاق ركّز على استقلال لبنان التامّ والناجز دون الالتجاء إلى حماية من الغرب، أو اتِّحاد مع الشرق، ولأن فيه اعترافًا بعروبة لبنان وضرورة تعاونه مع الدول العربيّة. بيْد أنه كان لكمال جنبلاط مفهوم للعروبة أوضح وأفضل من المفهوم المُعطَى لها في الميثاق.

كلّف رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري رياض الصلح بتشكيل الحكومة، فشكَّلها من خمسة وزراء، هم حبيب أبو شهلا (نائب رئيس مجلس الوزراء وزير العدليّة ووزير التربية الوطنية)، سليم تقلا (وزير الأمور الخارجيّة ووزير الأشغال العامّة)، الأمير مجيد أرسلان (وزير الزراعة ووزير الدفاع الوطني ووزير الصحة والإسعاف العام)، كميل شمعون (وزير الداخلية ووزير البرق والبريد)، عادل عسيران (وزير الإعاشة ووزير التجارة والصناعة) أي وزير الاقتصاد الوطني.

مثَلت الحكومة أمام المجلس النيابي بتاريخ 7 تشرين الأول 1943، وألقى رئيسها رياض الصلح بيان الثقة الذي سُمّي ميثاق الاستقلال، لأن فيه الطلب من المجلس النيابي إجراء التعديلات الدستوريّة، وذلك بإلغاء المواد المتعلِّقة بالانتداب وبصلاحيّات السُّلطة الفرنسية المُنتدَبة من الدستور «لكي يصبح دستور دولة مستقلة تمام الاستقلال»، فنالت الحكومة الثقة على أساس بيانها بأكثريّة النوّاب وبينهم كمال جنبلاط.

كان كمال جنبلاط يستمع إلى مناقشات النوّاب لبيان الحكومة، ويسجِّل الأفكار والنّقاط التي لم يتناولوها. وقد لفته خلوُّ مناقشاتهم من استعراض الحلقات التاريخية لاستقلال لبنان، وتطوُّر إطاره الجغرافي، وخلوُّها من الإشارة إلى الأمير فخر الدين موسِّع هذا الإطار، وإلى الموحدين (الدروز) ضامنِي استقلاله سابقًا، وإلى من يضمنه حاليًّا. وحين تكلّم قال إن لبنان لم يبلغ يومًا ما حدوده الحاليّة إلَّا في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني الكبير. ومن بعده صغر وتقلَّصت حدوده، إلَّا أن السيطرة الدرزيّة «ظلّت تضمن له الرَّخاء والاستقلال والكرامة مدّة مائتي سنة».

وأضاف كمال جنبلاط قائلًا: وحين وسَّع الفرنسيون حدود لبنان ضمَّت حدوده مقاطعات «لم يكن لِلُبنان علاقة بها كما أنها لم تكن ترغب أن يكون لها مع لبنان علاقة». وهو يقصد بذلك الملحقات التي ضمَّها الجنرال غورو بشخطة قلم إلى متصرّفيّة جبل لبنان في 31 آب 1920، وأعلن في اليوم التالي قيام دولة لبنان الكبير. ثم توجَّه كمال جنبلاط إلى النوّاب قائلًا:
«أنتم لا تُدركون تمامًا أهمّية هذا الوضع من وجهة الحقوق الأساسيّة والدوليّة، فإنه لأوّل مرة في تاريخ لبنان يعترف أهل لبنان الكبير بلبنان مسلِمِه ومسيحيّه ودرزيّه وشيعيّه. فإنني والعزّة تملأ نفسي، أحيِّي هذه البادرة، وهذا العهد الجديد، أُحيِّي لبنان وأحيِّيه بصفته العربية، لأن العروبة وحدها تكفل لهذه البلاد الوحدة القومية والاستقلال المُصان». ثم منح الحكومة الثقة قائلًا إنه «يترفَّع عن روح الحزازات والعنعنات مُؤْثِرًا مصلحة البلاد الكبرى على كل مصلحة» (12).

وهو يعني بالجملة الأخيرة ترفُّعَه عمّا رافق الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس الجمهورية من اتّهامات وشائعات مُغرضة، وإيثاره المصلحة العليا للبلاد على مصالح الأحزاب والتكتُّلات والفئات والمصالح الشخصيّة.

بدا كمال جنبلاط في كلمته نائبًا متفهّماً جيِّدًا لتاريخ، ولتطوُّر لبنان من مرحلة الإمارة الكبيرة والقوية في عهد الأمير فخر الدين، إلى مرحلة الإمارة الصغيرة في العهد الشِّهابي، إلى مرحلة المتصرِّفيّة أو «لبنان الصغير». وقد رأى أن الدروز العرب هم الذين صانوا في الماضي حدود هذا البلد وكرامته ورخاءه بحدوده الموسَّعة أم بحدوده الضيّقة، فهم كما كان يردِّد سيوف لبنان. كما رأى أن العروبة وحدها هي التي تضمن ذلك في الحاضر والمستقبل.

كانت سمات العروبة بارزة في أقوال كمال جنبلاط ومواقفه قبل ذلك التاريخ. وقد ظهرت أثناء سنوات الدراسة تعاطفًا مع القضايا العربيّة، وإيمانًا بالقوميّة العربيّة. ومن وجوه ذلك طلبُه من رئيس مدرسة عينطورا إعلان ذكرى استقلال مصر سنة 1934 بموجب المعاهدة المصريّة البريطانيّة: يوم عطلة رسميّة.

بعد تثبيت الفرنسيِّين أقدامهم في لبنان توطّدَت العلاقة بينهم وبين دار المختارة زمن فؤاد جنبلاط، واستمرّت متوطّدة مع الست نظيرة وحكمت بك، وقد علَّق المفوَّض السامي الجنرال ويغان، وهو راكع، وسام الاستحقاق على صدر كمال جنبلاط يوم 9 تشرين الثاني 1923، عندما زار مِنطَقتَي الشوف وجزِّين وخصّ دار المختارة بتناول الطّعام على مائدة الست نظيرة، ومن البديهي اعتبار هذا الوسام المُعطَى لابن ست سنوات وسامًا لدار المختارة (13).
وفي سنة 1943 رغب المندوب السّامي في استمرار العلاقة الفرنسية مع كمال جنبلاط حين قال في رسالة التعزية بحكمت جنبلاط، المُرسَلة بتاريخ 11 حزيران ما يلي: «المرحوم حكمت بك من أرومة اشتهرت بأصالتها وبسالتها وتمسُّكها بالصداقة الفرنسية اللبنانية. وكنت ألمس أكثر من غيري حدّة ذكاء الوزير حكمت بك وإدراكه العميق لواجبه». وكأنّ المندوب السّامي يريد بذلك لفت كمال جنبلاط إلى ضرورة التمسُّك بهذه الصّداقة.

عندما كبر كمال جنبلاط ونضج تفكيره وتوسّعَت معارفه، تكوّنَت عنده الآراء الشخصيّة المستقلّة والاتّجاهات السياسيّة المبنيّة على القناعات. كان عند نُشوب الحرب العالميّة الثانية متعاطفًا مع فرنسا وبريطانيا في مواجهتهما لألمانيا وإيطاليا لأن الدَّولتَين الأولَيَين ذات نظام ديمقراطي فيما الدولتان الأخرَيان ذات نظام فاشيٍ دكتاتوريّ. إلّا أنه كان في الوقت نفسه يعتبر فرنسا وبريطانيا دولتَين استعماريَّتَين لطَّفَتا استعمارهما لدول المشرق العربي بصيغة الانتداب. لذا لم يشأ التمسُّك بالصّداقة الفرنسية اللبنانية التي تعني عند المندوب السّامي استمرار الانتداب الفرنسي وقبول اللبنانيّين به، بل أراد إنهاء هذا الانتداب. وبمنحه الثقة للحكومة على أساس بيانها الوزاري الاستقلالي أعلن قطع العلاقة نهائيًّا مع الانتداب الفرنسي الذي كان البيت الجنبلاطي يستظلُّ بظِلّه، كما أعلن تأييده المطلق للحركة الاستقلاليّة، وتحوُّله عن الكتلة الوطنية التي لم ؟؟؟ إلا في الانتخابات النّيابيّة.

مع الحكومة الوطنية 

عارَض المندوب الفرنسي العام هلّلو، بإيحاء من «لجنة التحرّر الوطني» الفرنسية الموجودة في الجزائر، جميعَ إجراءات تعديل الدستور اللبناني، وعدَّها مؤامرة على فرنسا وعلى لبنان، وفاجأ الجميع بإصداره في 10 تشرين الثاني 1943 القرار رقم 464 الذي يعدُّ تعديل الدستور غير شرعيّ، ويحلّ المجلس النِّيابي، ويوقف تطبيق الدستور إلى ما بعد إجراء انتخابات جديدة، ويوكل السُّلطة التنفيذية إلى رئيس دولة، رئيس حكومة، يعيِّنه المندوب العامّ، ويؤازره وزراء دولة يعيّنهم المندوب العامّ أيضًا، ويكونون مع الرئيس مسؤولين أمامه. وعيَّن هللو بموجب القرار رقم 465 إميل إدّه رئيسًا للحكومة. وأصدر الأمر باعتقال أركان الدولة، فاعتقل الجندُ الفرنسي ليل 10-11 تشرين الثاني رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، والوزراء كميل شمعون وسليم تقلا وعادل عسيران، والنائب عبد الحميد كرامي، ونقلهم إلى قلعة راشيّا، لكن المندوب العامّ هللو لم يأمر باعتقال حبيب أبو شهلا الصديق القديم لإميل إدّه على أمل اكتسابه، ولا باعتقال الأمير مجيد أرسلان خوفًا من إثارة الدروز ضد الفرنسيِّين كما فعلوا في سنة 1925، وكان ذلك السبب المباشر لقيام الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش.أنهى إميل إدّه حياته السِّياسيّة بخطأ كبير حين قبِل السير بعكس التيّار الاستقلالي الجارف، وتسلَّم رئاسة حكومة لا شرعية من يد المندوب الفرنسي هللو، بالرّغم من نصيحة ابنه ريمون له بألّا يفعل ذلك. وباشر بتشكيل الحكومة مراهنًا على أصدقائه وحلفائه السابقين، متوقِّعًا اشتراك بعضهم فيها، لكن معظم هؤلاء لم يناصروه، وبعضهم – ومنهم كمال جنبلاط – تخلَّوا عنه، ونُقل عنه لاحقًا أنه فعل ذلك ليُجنِّب لبنان قيام حكومة عسكريّة فيه يفرضها الفرنسيون عليه.

وقفت أكثريّة اللبنانيِّين ضد الحكومة اللاشرعية، وزادت تدابير هللو من وحدتهم وتأييدهم للحكومة الوطنية، وقاموا بالتظاهرات الضخمة في مدن بيروت وطرابلس وصيدا، التي أَقفلَت كلها أسواقها. واجتمع أكثر النوّاب في 12 تشرين الثاني في منزل النّائب صائب سلام، بعد تعذُّر اجتماعهم كلهم في المجلس النيابيّ، وأجمعوا على إعطاء الثقة للحكومة الوطنية الشرعية الممثَّلة بالوزيرَين حبيب أبو شهلا ومجيد أرسلان، واعتبروها حكومة مؤقّتة تقوم مقام رئيس الجمهوريّة، ويمكنها ممارسة السلطة التنفيذيّة، كما اعتبروا حكومة إميل إدّه باطلة وغير شرعية.

انتقلت الحكومة الوطنيّة المؤقّتة إلى بلدة بشامون التي شاءها الأمير مجيد أرسلان معقلًا لها حيث أصبحَت بحماية مئات المسلّحين، وفشل هجوم الفرقة الفرنسية على هذه البلدة لإخماد الانتفاضة المسلَّحة الموجودة فيها، وجاء الجنرال كاترو من الجزائر ليُصلح ما أفسده المندوب العامّ هللو بتدابيره المتسرِّعة والفاشلة، واستدعى رئيس الجمهوريّة من معتقله في راشيّا وقابله في شتوره وعرض عليه إطلاق سراحه في حال تخلِّيه عن الحكومة الوطنية التي يرأسها رياض الصلح، فرفض الرئيس ذلك. ثم استدعى الجنرال كاترو رئيس الوزراء من معتقله وعرَض عليه إطلاق سراحه إذا استقال من الحكومة، فرفض ذلك، وإزاء وحدة الرئيسَين وعدم تنازلهما عن الاستقلال، وإزاء صمود الحكومة الوطنية في بشامون، وتوحُّد اللبنانيِّين حولها، وإزاء ضغط الجنرال سبيرس وإلحاحه على الفرنسيّين بوجوب إطلاق سراح المعتقلين في راشيّا، نزل المندوب السّامي كاترو عند طلبه في 22 تشرين الثاني. فكان ذلك تاريخًا للاحتفال باستقلال لبنان.

ماذا كان موقف كمال جنبلاط في هذه المرحلة، وهو الحديث العهد في السِّياسة، والسائر في طريقها منذ بضعة أشهر؟ إنه لم يقف إلى جانب حليفه في الانتخابات النيابيّة، إميل إدّه، ويشترك في الحكومة التي أسّسها، ولم يقف على الحياد وينسحب من الميدان كما فعل في انتخاب رئيس الجمهوريّة، بل إنه استنكر موقف إميل إدّه، وكان من بين النوّاب المجتمعين في 12 تشرين الثاني، وممّن منحوا الثقة للحكومة الوطنية المؤقّتة. كما كان من المشتركين ميدانيًّا لإسقاط حكومة إميل إدّه. فقد صرّح في مقابلة صحفيّة بما يلي:
«اشتركتُ فعلًا في لجان المقاومة في بيروت مع السيد حميد فرنجيّة وغبريال المرّ، وكنا نواصل العمل في بيروت لاتّخاذ التدابير اللازمة في سبيل التخلّص من الحكومة التي فرضها الفرنسيون على لبنان».

وأضاف كمال جنبلاط إنّ الجمهور استقبله وجميل تلحوق بالهتافات المدوِّية وبكاء الفرح لدى انضمامهما إلى المجتمعين في 12 تشرين الثاني «لِعِلمهم أن انضمامه إلى الحركة الوطنيّة يعني في الواقع وحدة الدروز في مطالبتهم بالاستقلال المنشود وقطْع كل أمل بنجاح الحركة المعاكسة. فوحدة الدروز خاصة، والوحدة اللبنانية بصورة عامّة، هي التي كان لها التأثير الفعّال في إرجاع الأمور إلى نصابها في لبنان» (14).

إذن اتَّخذ كمال جنبلاط الموقف المنسجم مع أفكاره وقناعاته وتطلّعاته، والذي أمْلَته عليه المصلحة الوطنية يوم وُضع لبنان أمام استحقاق استقلاله السِّياسي، ويوم وُضع اللبنانيون للحصول عليه أمام فرصة استقلال تناقض مصالح البريطانيّين مع مصالح الفرنسيّين، فأحسنوا ذلك ووقفوا على أرجلهم.

أمّا رأي كمال جنبلاط في ما حصل آنذاك، فهو رأي المؤرِّخ الدقيق والموضوعي، إذ اعتبر أن اللبنانيِّين حصلوا على الاستقلال بأهون السبل، وبدعم البريطانيين، فقال: «لا نزال نذكر الإنذار السِّياسي والعسكري الذي وجّهتْه الحكومة البريطانية لقوى فرنسا الحرّة في لبنان بضرورة إخلاء سبيل بشارة الخوري ورياض الصلح ورفاقهما المعتقلَين في راشيّا، وتطويق القوات البريطانية للفصائل الزاحفة لاحتلال مواقع الحكومة المؤقّتة اللبنانية في بشامون». كما اعتبر أن ما جرى هو أحد المشاهد عن التحوُّل الذي حصل إبّان الحرب العالميّة الثانية بعد سقوط فرنسا وصيرورتها ضعيفة منهكة محتلّة من الألمان، والذي أخذ خلاله عدد كبير من الوجهاء والزعماء المسيحيين وغير المسيحيين «يتحوَّلون عن فرنسا إلى بريطانيا وسياستها، كميل شمعون، الكتلة الدّستورية، الكتائب اللبنانية، الزّعامات التقليدية الإسلامية كأحمد الأسعد وصبري حمادة والأمير مجيد أرسلان وهنري فرعون وحبيب أبو شهلا وسواهم» (15).

ذهب كمال جنبلاط أبعد من ذلك في حكمه على الرّجالات الذين حقّقوا الاستقلال سنة 1943، إذ اعتبرهم رجالات بريطانيا التي ساعدتهم في معركة الاستقلال، لأنها كانت تعمل على إنهاء الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان لِتَرث فرنسا فيه، فقال في إحدى مقالاته إبّان انتفاضته عليهم بعد ذلك، وسعيه للتخلّص من مساوئ حكمهم: «جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب»، ذلك أنهم حقّقوا استقلال الدولة بمساعدة الأجنبي، وفشلوا بتغليبهم مصالحهم على المصلحة الوطنية العليا في بناء دولة الاستقلال، فسادَ الفسادُ في عهدهم إلى درجة جعلت اللبنانيين يترحَّمون على زمن الانتداب الفرنسي، الذي، بالرّغم من مساوئه، كان فيه (ما يحول) دون شتّى التجاوزات في الإدارة، في القضاء، في المصالح العامة، وكان يحاول العودة إلى القانون وحكمه» (16).

التعابير الأولى عن الاشتراكية والإصلاح 

منذ أن تفتّحَت عينا كمال جنبلاط على آفاق المعرفة، ومنذ أن وُضع على احتكاك مع الناس والتجارب، عاش التعاليم التي آمَن بها، والقيم الخلقية التي جعلها أساسًا لسلوكه، واستهواهُ الخير فعمِل له، وكانت الرّغبة في مساعدة الآخرين من جملة المشاعر الإنسانيّة التي عبَّر عنها في مجالات عدة.
حين كان كمال جنبلاط يتابع دراسته في مدرسة عينطورة تكفّل بتعليم خمسة من رفاقه الذين يعجز أهلهم عن تحمّل نفقات دراستهم. وحين كان يتابع دراسته في باريس تأثَّر بالأفكار الاشتراكية، وأبدَى تعاطفًا مع اليساريِّين ومنظّماتهم الطالبية، ومنها منظّمات شيوعية. وبعد عودته من باريس أبدى المزيد من التعاطف مع الفقراء والمعوزين من أهالي الشُّوف خلال الحرب العالميّة الثانية التي أسفرَت عن أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة جرّاء الاحتكار، وارتفاع الأسعار.

عاش كمال جنبلاط أحداث الحرب العالمية كما عايش الناس خلالها، وعرف تفاصيل ظروفهم ومعاناتهم ومشكلاتهم. كان يرى جموع المؤيِّدين تأتي حادية هازجة إلى دار المختارة، وتُحْيِي حلقات الرقص والدّبكة فيها، وبينهم الكثير من الفقراء والمعوزين. وكان يرى أنه مقابل ولاء هؤلاء الناس للزّعامة الجنبلاطية الممثَّلة آنذاك بوالدته الست نظيرة، وبصهره حكمت بك جنبلاط، هناك واجب على هذه الزّعامة إزاءهم، بل كان يحسّ أكثر من ذلك، أي بواجب الغنيّ، مُطلَق غنيّ، نحو الفقير أيًّا كان، بمعزل عن الولاء والمصلحة الشخصيّة.

كان لدار المختارة أراضٍ في كفرفالوس وماروس وسبلين، فجمع كمال جنبلاط محاصيلها من القمح واشترى كميات منه من سوريّة، ووزّعها على الفقراء والمحتاجين. وحين قلَّت مادّة القطرون التي تدخل في صناعة الصابون، عمد – وهو المُلمُّ بعِلم الكيمياء – إلى تأمينها باستخراجها من المِلح ومن موادّ أخرى.

ومن أجل تخفيف معاناة الناس من البطالة تحدَّث كمال جنبلاط عن فتح ورشات وإنشاء معامِل لخلق فُرص عمل لأهالي الشُّوف تكسبهم أجرًا يتراوح بين 15 و25 غرشًا، يُضاف إليه كيلوغرام من القمح، وقرن ذلك بإيجاد أوراق سُمّيَت «العملة الجنبلاطيّة»، إذ رسم بخطّ يده على ورق مُقوّى فئات من التذاكِر تُسلَّم للعمّال من فئة 5 و10 و25 غرشًا.

جرى خلال تحرير الحلفاء لسوريّة ولبنان بين الفئتين معارك عنيفة، وحصلت أضرار بشرية وأضرار بالمزروعات والحيوانات وبالبيوت، كما جرى قصف الجسور ومنها الجسر الواقع على نهر الباروك (الأولي) بين قريتَي المختارة وجديدة الشُّوف، وشُكِّلَت لجان لإجراء مسح شامل بالأضرار وتحديد التعويضات، فقدّم المتضرِّرون طلبات التعويض عليهم إلى هذه اللجان، ومنهم من قدمها إلى الجنرال كاترو. ثم أمَّن الحلف القمح وسائر المواد الغذائية، ونظّموا التوزيع بواسطة الميري، وخلقوا الكثير من فرص العمل بإعادة الجسور المهدمة، وبمدِّ خط سكة الحديد الساحلية، مما أراح اللبنانيي من بعض الهم الاقتصادي.

في خطابه السياسي الأول سنة 1941 أمام مندوب فرنسا الحرّة الجنرال كاترو، في منزل شيخ العقل الشيخ حسين طليع في جديدة الشوف، طرح كمال جنبلاط قضايا عدة تهمّ الناس، وعلَّق السيد بارت (Bart) على طرحه هذا بهمسه في أذن حكمت جنبلاط، قائلًا: «ابن عمْكُم اشتراكي». والقضايا التي طرحها هي مسألة القمح، ومسألة تناقص السكّان في الأرياف، ومسألة الاتّصال مرورًا إليها بإعادة بناء الجسر المهدم بين المختارة والجديدة، ومسألة تأمين فرص العمل للفلّاحين والعمَّال.

أوّل البرامج السياسيّة

حين قرَّر كمال جنبلاط مزاولة العمل السِّياسي والترشُّح للانتخابات كان عنده نهج سياسي ومبادئ وأفكار يريد تحقيقها من خلال ذلك، وكان أول تعبير له عن نهجه حينذاك عندما وقف خطيبًا في الحفلة التأبينيّة المقامة لتكريم صهره حكمت جنبلاط في الجامعة الأميركية ببيروت مساء الأربعاء الواقع فيه 7 تموز 1943، حيث قال:
«هذه كلمتي فيك إذا أجزتُ لنفسي مع هذا الحفل، ورغم القربى والأسى أن أذكرك، وهذه الذّكرى قَسم عليّ وعهد، عهد قطعتُه بيني وبين ربِّي، وقَسم بيني وبينك. سنُتمّم ما بدأت، ونبني فوق ما أسَّسْت، ونشيد بإذن الله على سواعدنا العالم الذي يضمن للعامِل حقّه، وللفلّاح جهده، وللغنيّ واجبه، وللزعيم إيمانه، ويكفل للبلاد الكرامة والعمران» (17).

إن كلمات كمال جنبلاط هذه هي مبادئ إصلاحيّة وأهداف نبيلة سيعمل لتحقيقها، جذورها في أفكار اشتراكية آمَن بها، وبما أنه يدرك أن النّيابة ليست غاية وتشريفًا، بل هي تكليف ووسيلة للإصلاح ولخدمة الناسن طلب في خطابه، أثناء الحملة الانتخابيَّة، من أهل جبيل تأييد إميل إدّه على أسس معيّنة، هي بمثابة برنامج انتخابي، فقال:
«إنكم تطلبون ونطلب منه الإخلاص لتلك القضيّة التي أخذ على عاتقه الدفاع عنها». «نطلب منه وتطلبون، أن يعالج مشاكل الأمّة على ضوء المصلحة العامة والوطنية الصادقة وأن يرذل سياسة الأنصار والمحاسيب التي كانت علينا وبالًا في عهد المجالس النِّيابية السابقة».
«نطلب منه وتطلبون أن ينهض بمرافق البلاد الاقتصادية فيروي الوهاد ويسقي العباد ويمد الأسلاك الكهربائية وينشئ المعامل ويبني المدارس ويشيد المعاهد ؟؟؟ من زراعية وصناعية».

«نطلب منه وتطلبون تحوير الدستور بشكل يجعل السلطة ثابتة قادرة على أن تتمشّى على منهاج عمومي وأن تحققه دون أن تخشى مناوأة في المجلس تسقط الوزارة كل شهر أو كل يومين لأسباب تافهة أو لمجرد غايات شخصية ممقوتة».

«نطلب منه وتطلبون فوق كل شيء راحة الفقير ورفاهية العامل وسعادة الفلاح والمنتج الصغير، لأن في سعادة العامل ورفاهية الفلاح وراحة الفقير الضمانة الوحيدة للسّلم والتقدم والعمران.. ولن تتم راحة العامل والفلاح والمنتج إلّا بتنظيم هذه الدولة تنظيمًا اقتصاديًّا يستوحي مبدأه من نظام النقابات الخيرية والجمعيات التعاونية».

«على هذه الأسس وحدها يبايعك الجبليون مني وينتخبونك منذ هذه اللحظة، وعلى هذه الأسس سينتخبك الدروز باسمي.. والدروز سيف لبنان» (18).

بداية الدور الكبير

مما ورد ذكره نرى بداية دور كبير لكمال جنبلاط سيزداد كبرًا وعملقةً مع تواصل مسيرته السياسيّة التي انتهت في 16 آذار 1977، ونرى جذور مبادئه التقدميّة الاشتراكيّة التي ظهرت في أطروحاته وأعماله قبل أن تظهر في مبادئ الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسّسه في أيار سنة 1949. كما نرى بداية الاختلاف عن والدته الست نظيرة، وعن سائر الزعماء الجنبلاطيِّين السابقين، إذ كانت زعامتهم إقطاعية وتقليديّة، تمَوْرَنت في عهد الست نظيرة، فيما هو جعل هذه الزعامة، التي ورثها عنهم، زعامة وطنية قومية حديثة، وأدخلها في العالم العربي الواسع، زعامة تُعالج المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتُدافع عن حقوق الطبقات العمّاليَّة والفقيرة، وتساهم في خلق مجتمع أفضل، وتجعل السياسة سبيلًا لبناء الإنسان، وقد قال في ما أرادت والدته الست نظيرة له، وما أراده لنفسه ما يلي:
«أنا لستُ حجرًا مزخرفًا يوضَع في قصر المختارة، بل حجر أساسي لبناء مجتمع فاضل في سبيل الأجيال القادمة. لا أريد شيئًا من ؟؟؟ (الست نظيرة( ولا أريد ان أتحمّل مغبَّة سياستها» (19).

وكما لم يشأ كمال جنبلاط أن يكون حجرًا مزخرفًا في قصر المختارة الذي تمشَّى قبله على سياسة تقليدية، هكذا لم يشأ أن يكون حجرًا حتى عمودًا في قصور الأحزاب الوطنية واللبنانية الموجودة آنذاك، ولا عمودًا في قصرَي الكُتلتَين السياسيَّتَين الرئيستَين اللَّتَين استقطبَتا معظم الشخصيات البارزة: الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية لأنه لم يجد فيهما وفي سائر الأحزاب سبيلًا إلى بناء المجتمع الفاضل والوطن المستقرّ المزدهر. وآثر أن يكون بانيَ حزبٍ يحقِّق مبادئه وأفكاره، ويكون هو قائده وموجِّهُه وصاحب الدور الرئيس فيه. وقد باشر بعد معركة الاستقلال مباشرة بتأسيس حزب نيابيّ مستقل عن الدستوريِّين والكُتلَوِيِّين سمّاه «حزب الشَّعب» لكنه ما لبث ان تخلَّى عنه لأنه غير مؤهَّل لتحقيق الغاية التي يريدها.

منذ أن وُضع كمال جنبلاط أمام معالجة القضايا الاجتماعيّة والسِّياسيّة، بدأ متميِّزًا في كيفية النظر إليها، ووضْع الحلول لها، واتّخاذ المواقف منها، إذ تميَّز، وهو ابن الأسرة المقاطعجيّة، بأطروحاته الإصلاحيّة الاجتماعية المتقدّمة. كما تميّز في نهجه السياسي عن النهج الذي سارت عليه والدته طوال عقدَين ونيّف، وسار عليه صهره حكمت جنبلاط طوال تسع سنوات وأبرز مشهد لهذا التميُّز على الصعيد السياسي ظهر خلال الإعداد للانتخابات النيابيّة سنة 1943.

جرى تشكيل اللائحة الانتخابيّة في لقاءات عدّة حضرها كمال جنبلاط، كان آخرها الاجتماع الذي حصل في قصر المختار لحسم الموضوع، والذي ضمّ والدته الست نظيرة، وإميل إدّه وجورج عقل وكسروان الخازن وإفرام البستاني وجميل تلحوق. كان كمال جنبلاط مستمعًا خلال الاجتماع الذي شهد نقاشات طويلة، وتداولًا في الأسماء، وكانت الست نظيرة هي التي تتولَّى الحديث عنه لأنه كان أمام أولى التجارب السياسية، ولأنها كانت خبيرة في فن السياسة. وعن خبرتها هذه قال رياض الصلح، رئيس الوزراء لاحقًا: «كنا نظنّ أنفسنا كبارًا في ألاعيب السِّياسة، ولكن لما التقينا نظيرة جنبلاط رأينا أنفسنا صغارًا».

توافَق المجتمعون كلهم على لائحة الأسماء بعد جدال حادّ، وكتبوا اللائحة بصيغتها النهائية التي توصَّلوا إليها، وقدّموها إلى كمال جنبلاط، فطواها ووضعها في جيب جاكيته الصغير، وسحب من هذه الجاكيت ورقة أخرى قدّمها لهم قائلًا: هذه لائحة كمال جنبلاط، وعلى أساسها أشارك في الانتخابات، وكان فيها تعديل في الأسماء مع ترك اسم إميل إدّه على رأسها. فتفاجأ الحاضرون بمن فيهم الست نظيرة، ودهشوا من موقفه المتحوِّل من مستمع طوال الجلسة إلى معلن في نهايتها للائحة أسماء أعدَّها مسبقًا، وكان ذلك أول المشاهد السياسيّة المعلنة التي يختلف فيها موقفه عن موقف والدته بعد مبايعته بالزعامة، فبدت غاضبة ومحرجة، وسألته: لماذا لم تضع اسمك في رأس اللائحة؟ فأجاب بهدوئه المعاد: وضعتُ اسم إميل إدّه في رأس اللائحة لأنه رئيس جمهوريّة سابق. ولكي تسوِّي الأمر، وتحلحل العقدة التي أوجدها بطرحه المفاجئ، وسّطت الأصدقاء والمقرَّبين لإجراء بعض التعديلات على لائحته (20).

نرى في هذه الواقعة الأمرَين التاليِيَن: أولهما بداية الاختلاف في الرأي بين كمال جنبلاط والست نظيرة، وتميُّز نهجه السياسي عن نهجها، وثانيهما بداية الدور الكبير الذي يراه أكثر من اسم يدرج في لائحة الكتلة الوطنية بعد اسم رئيس هذه اللائحة، وأكبر من حيثية سياسية تتكامل مع سائر القوى لإنجاح اللائحة في جبل لبنان.

لم يكن تصرُّف كمال جنبلاط، المذكور، عملًا انفعاليًّا أو ارتجاليًّا، إنما هو حصيلة معرفته لدور آل جنبلاط التاريخي كقادة وزعماء أوائل في لبنان. اطلّع على التاريخ العام، وعلى الدراسة التي كان يعدُّها صهره حكمت جنبلاط عن آل جنبلاط، فرأى من أجداده الشيخ علي جنبلاط الداعم الأقوى للأمير الشِّهابي الحاكم، والشيخ بشير جنبلاط المنافس للأمير بشير الشهابي الثاني على الحكم، بل الحاكم الفعلي للجبل، ورأى من آل جنبلاط في شمال سورية، المعتبَرِين عنده أجداد جنبلاطِيِّي لبنان، الكثيرين من العظماء ومنهم حسين باشا والي حلب، وعلي باشا المتمرِّد الكبير على الدولة العثمانيّة. وبناءً على كل هذه الاعتبارات كان يرى نفسه المخوَّل الأول لتشكيل اللائحة، والمؤهَّل لإتمام دور مهمّ بدأه الأجداد واستمرّ لقرون. وإذا كان هذا الدور قد ضعف بعد نكبة الشيخ بشير سنة 1825 وموت ولده سعيد سنة 1861، فإنه سيتجدَّد أقوى ممّا كان عليه كمال جنبلاط الذي سينطلق في مسيرته مدعومًا بقاعدة شعبيّة تعتبره زعيمها الشابّ، وتعتبر دار المختارة دارها.

كان موقف كمال جنبلاط، عند تشكيل اللائحة الانتخابيّة في سنة 1943، أجدَّ المؤشرات لمرحلة سيكون فيها مشكِّل اللوائح الانتخابية ورئيسها، والمقرِّر البارز في مسار تاريخ لبنان، والمتحكِّم بأمر انتخاب رئيس الجمهورية بحيث لُقِّب بـ «صانع الرؤساء». وقد عبَّر عن ذلك بالقول في 12 نيسان 1953، بمناسبة استقبال الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، في بيت نجيب جنبلاط ببيروت، إذ قال: «قلنا لذاك زُلْ فزال، وقلنا لهذا كُن فكان». وقد عنى بالقِسم الأوّل من كلامه رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري، وعنَى بالقِسم الثاني رئيس الجمهوريّة كميل شمعون الذي كان حاضرًا هذه المناسبة.

المراجع:

1- النهار، عدد 23 شباط 1939.
2- البيرق، عدد 6 حزيران 1943.
3- البيرق عدد 13 حزيران 1943.
4- أيغور تيموفييف، كمال جنبلاط الرجل الأسطورة، ص90-91.
5- للمزيد من المعلومات انظر كتابنا: دروز سوريّة ولبنان في عهد الانتداب الفرنسي ص325- 33.
6- انظر كيفية توزيع النواب على الطوائف اللبنانية: النشرة الرسمية للمفوضيّة العليا الفرنسية، مجلد عام 1943،
ص149- 151.
7- البيرق، عدد 30 تموز 1943.
8- بشاره الخوري: حقائق لبنانية، الجزء الأول، ص255- 256.
9- انظر وليد عوض: رؤساء لبنان، الأهلية للنشر والتّوزيع، بيروت1977، ص171، 176.
10- للمزيد من المعلومات انظر يوسف سالم: 50 سنة مع الناس، دار النهار، بيروت 1975، ص 121، 122، 146.
11- للمزيد من المعلومات عن عدد الأصوات التي نالها النواب سنة 1943، انظر فارس سعاده: الموسوعة
الانتخابية، الجزء الثالث، ص464 وما بعدها.
12- انظر كلمة كمال جنبلاط عند يوسف خزما الخوري: البيانات الوزارية ومناقشاتها في مجلس النواب، مؤسسة
الدراسات اللبنانية، بيروت 1986، المجلد الأول، ص135.
13- خلّد الشاعر شبلي الملاّط المناسبة بالأبيات التالية:
وبيت رفيع قد وقفنا بظلِّه به شبل وفيه لبؤة لها
ولاح وسام الطفل بالطفل فرقدًا ومن حوله جمعٌ يقوم ويقعُدُ
كل أهل الفضل بالفضل يشهدُ كما أن هذا البيت بالشُّوف فرقدُ
14- الصفاء، عدد 24 أيار 1946.
15- مقدّمة كمال جنبلاط لكتاب “ربع قرن من النضال” إعداد مركز البحوث الاشتراكية سنة 1974، ص33- 34.
16- المرجع نفسه، ص34.
17- البيرق، عدد 9 تموز 1943.
18- البيرق، عدد 25 آب 1943.
19- خليل أحمد خليل: كمال جنبلاط، ثورة الأمير الحديث، ص60.
20- للمزيد من المعلومات انظر شوكت اشتي: الست نظيرة جنبلاط، دار النهار، بيروت 2015، ص227- 228.


قراءة في المجموعة الشعرية “سعادة الروح”، أو “آنندا السلام”
لـ “المعلّم” كمال جنبلاط

أ. د. محمد شيّا

 

قبل الدخول إلى عالم المعلّم كمال جنبلاط المتفرّد في مجموعته الشعرية «سعادة الروح»، وإلى عميق أفكار المجموعة، وتساميها، وإلى صورها الشعرية المبتكرة بامتياز واقتدار، يجب التأسيس أولاً بموقف كمال جنبلاط من مسألة الدين بعامة، والفهم المتفرد الذي أظهره، ليس فقط للدور المركزي الذي يضطلع به في بعده الميتافيزيقي الأقصى – وهو ما سنعود إليه – وإنما على المستويات العملية، الاجتماعية والتربوية والأخلاقية تحديداً. فبخلاف موقف ماركس المتشكك في الدين ودوره وجعله مجردَ ظاهرةٍ تاريخية مشروطة، كان المعلّم حاسماً في تأكيد دور الدين، والإيمان الديني، شرط أن يكون إيماناً مبصراً منفتحاً قابلاً لكل صورة، لا إيماناً طارداً لإيمان الآخرين، وللصور والاجتهادات الأخرى في معرفة الله، وعبادته. وجنبلاطإنما يستند في ذلك إلى تاريخ طويل من الحكماء الأوائل، ثم أفلاطون، إلى هيجل حديثاً. لهيجل (الفيلسوف الألماني الأكثر أهمية مطلع القرن التاسع عشر)، في «فينمنولوجيا الروح» و»موسوعة العلوم الفلسفية»، الدين جزء جوهري ورئيسي وحتمي في تطور العقل والحقيقة والمطلق. هو الخطوة قبل الأخيرة في انكشاف العقل لذاته، واتحاده بذاته، بعد رحلة انشطار طويلة؛ وحدةٌ لن تتحقق إلا بالدين والفلسفة حسب هيجل.

وعليه، فالدين للإنسان، حسب المعلّم، حاجةٌ وضرورة، «فهو باقٍ ما بقي الإنسان». وقد جعل المعلّم ذلك في صلب «ميثاق» الحزب التقدمي الاشتراكي (الذي أعلن بزوغ فجره في الأول من آيار 1949 مع كوكبة من كبار مفكري زمنه مثل العلايلي وألبير أديب وآخرون). في «الميثاق»، الدين إسّ جوهري من أسس المجتمع البشري، يقول النص:
«اعتبار الدين إسّاً جوهرياً في قيام المجتمع الأسمى، والترحيب بعمل رجاله في نشر ميادئ الكمال الإنساني». (الميثاق)

لقد كان للمعلم من المعرفة النظرية، والخبرة التاريخية، ما سمح له بأخذ الموقف الصحيح، والذي جاءت التحولات التاريخية مصداقاً له. يقول المعلم بكثير من الدقة والدراية والمعرفة الواسعة:
«لقد تحوّل الغرب عن الأديان وأبدل المعتقدات الدينية بالفلسفة – فلسفة هيجل وكانت وفيتشه والتومائي وماركس وغيرهم ممن لا يعدّون ولا يُحصون وفلسفة انبياء القومية والدولية والوجودية والطبقية على السواء – فإذا بالغرب وبعد جهد المحاولة وتحقيق الرغبة، يتطلع إلى نفسه فيجد ذاته حيث كان: لم يتقدّم خطوة ولم يتأخر خطوة من جهة حل معضلته الأساسية مع ذاته، معضلة المعرفة، معضلة السعادة….» (ثورة في عالم الإنسان، 319-320)
لكن كمال جنبلاط، المفكّر الواقعي لا المنظّر فقط، نبّه إلى أن الدين عند بعض رجال الدين ليس دائماً على هذا المستوى المتسامي الحتمي والضروري، لذلك قال صراحة:
« الخطر كل الخطر في الدين إذ يُنزّل إلى مستوى التجمع الطائفي الطقسي، أي في الحقيقة مستوى التعصّب السياسي، فلا يعود ديناً بل حزباً.» (المصدر نفسه، 321)

ومن ذلك محاولة البعض، في غير زمان ومكان ونصّ، فرض شكلهم الديني الخاص على سائر البشر واعتبار أنفسهم «شعب الله المختار»، يقول:
«… عندما نعتقد أنه يجب أن نفرض ديننا على سائر البشر، وأنه أفضل الأديان، فهذا الاعتقاد يجعل فكرة «الشعب المختار» – الفكرة العنصرية للشعب المختار – بالإضافة إلى محاولة كل جماعة منتمية إلى دين من الأديان الكبرى فرض دينها على أفراد وجماعات أخرى (… بالتبشير والحرب كذلك)… هذه الفكرة بدأت في اليهودية لأنها أول من أحتضن فكرة شعب الله المختار وأبرزت مفهوماً يميّز هذا الشعب من سائر الشعوب…». (جوهر الإبداع ووحدة التحقق، 115)

وينقل جنبلاط عن المؤرخين أنه وبفعل التعصّب للفكرة الواحدة والاجتهاد الواحد حتى داخل الدين الواحد حدثت «مجازر في شوارع الاسكندرية بين أنصار الطبيعة الواحدة وأنصار الطبيعتين وسقط فيها 300 ألف قتيل من جرّاء الهرطقات التي كانت قائمة. وفي لبنان يحدّثنا المؤرخون أنهم شاهدوا في أكثر من ليلة جبال لبنان ساطعة بنور المساكين الذين كانت تُطلى أجسادهم بالقطران ويولِعون بها النار لتصفيتهم فكانت مشاعل حيّة».(المصدر نفسه، 113-114)

وبعض ما جاء به المعلم، وعلى نحو لم يسبقه إليه أحد حلاً للتعصب والتفرّد والرغبة بالإقصاء، اقتراحه التربية على قبول الآخر المختلف من خلال التربية الدينية الواحدة، قال:
«في رأينا يتوجب جعل التعليم الديني إلزامياً في المدارس العامة والخاصة (وفي صف الفلسفة تحديداً) فعلينا واجب عرض الحقيقة كما خلُصت ووصلت إلينا من خلال مناحي الوحي، على أن يكون للطالب حرية القبول أو الرفض … أما أن يظل لا يعرف الذي يتوجب عليه رفضه، أو اختياره، فأمرٌ غير معروف ولا معقول.» (ثورة في عالم الإنسان، 27)
هو اقتراح بجعل المعرفة بالدين متاحة، كأية معرفة أخرى، وللطالب بعدها حرية أن يقبل أو يرفض. كما أنه اقتراح ينزع عن التعليم الديني الفئوية وإلغاء الآخر، بجعله الدين في الموقع نفسه لجهة الجوهر، وتقديمه بهذه الصورة للناشئة، كل الناشئة.

تلك مجرد إلماحات تأسيسية كي نفهم الموقع الخاص الذي احتله الدين في فكر المعلّم، وفي ممارسته العرفانية بالتأكيد؛ وهو ما يجعلنا نفهم على نحو أفضل تفرّد كمال جنبلاط في فهم الدين خارج كل تعصّب وكل ضيق في التفكير أو أطر تطرد كل ما هو خارجها: «لقد أضحى قلبي قابلاً كل صورة….». هذا الفهم الجنبلاطي الديني/المتسامي يجد تعبيره الشعري الأخّاذ في مجموعته الشعرية، موضوع هذه المقالة، «سعادة الروح».

سعادة الروح هو المصطلح الصحيح لوصف الحال الذي عاشه المعلّم الفذّ، غير الاعتيادي، منذ نعومة أظفاره تقريباً، وفي خلال سنوات حياته المثيرة من الخارج /الهادئة من الداخل/ وصولاً إلى لحظة استقباله الخاتمة الحزينة:
أموتُ ولا أموتُ فلا أبالي
فهذا العمر من نسجِ الخيالِ

للمعلّم، السعادة الحقيقية هي للروح، وليس للجسد، أو الغريزة،
أو الانفعالات العارضة العابرة. في الثلاث الأخيرة، ما يُظنّ أنه سعادة، هو وهمٌ عارض زائل، يدوم لحظةً ويتبدد ليعقبه الألم، بكل المعاني. ألمُ الجهل، ألمُ الشرّ، ألمُ الغريزة، ألمُ المادة. إذ ليس من السعادة في شيء برقٌ يلوح للحظة ثم يرحل. وليس من السعادة في شيء انفعالٌ يطفو لثانيةٍ أو نحوٍ منها ثم يتبدد كأنه لم يكن. وليس من السعادة في شيء أن تبحث عنها في الجسد، أو المادة، وأعراضهما الآنية المتبدّلة الزائلة. هو في أسوأ الأحوال وهمُ السعادة، وفي أحسنها مجردُ طيفٍ ظاهرٍ عابرٍ لكنه يذكّركَ بنقيضه، أي بضرورة البحث عن السعادة في الروح لا في الجسد، في العقل لا في الغرائز، في التوازن لا في الفوضى، في ما لا يموت، وفي ما منحنا الله من ملكات متسامية هي هوّية الإنسان الحقيقية في البدء وفي النهاية. والسعادةُ هنا ليست في الخاتمة السعيدة الأبدية فقط – وهي غاية الإنسان الأبدية وفق أرسطو – ولكن على الطريق أيضاً، أي في كل خطوةٍ نخطوها في الدرب الصحيح المفضي إلى سعادة الروح، السعادة الحقيقية الأبدية. ففي سعادة المادة والجسد الموهومة لا لذة إلاّ ويعقبها فوراً الألم – لا شبعَ إلا ويعقبهُ جوعٌ مبرّح ولا ارتواء إلا وبعده عطشٌ قاتل، وهكذ دواليك في سلسلة مضنية لا تنتهي من وهمِ الارتواء ثم زواله، وهم الراحة ثم تبدده، ووهم اللذة وآلام تعقبه، فإذا الفرد في دوامة يدورُ ويدور حول نفسه، يتقدّم خطوة إلى أمام ويعود خطوات إلى الوراء، ويمضي العمرُ سريعاً فلا يكتشف إلاّ في نهاية حياته القصيرة أنه إنما كان يلاحق وهماً لا قرار له، ولا حقيقة فيه. وإذ يواجه في النهاية الموت، كان يحزن ويرتعب لأن الحياة الواهمة العارضة التي عاشها يجب أن تنتهي في موت الظاهر الواهم العارض ذاك؛ ولا يكتشف مبلغ ما كان عليه من وهم إلا بعد فوات الآوان؛ وصحّ هنا تماماً القول الكريم «لو أخّرتني» لفعلت كذا وكذا، ولما غرّني الظاهرُ والسطحيُ والعابرُ الزائلُ، ولكنتُ بحثتُ طوال العمر عن الحقيقة، ولتمسكتُ بها حين أعثرُ عليها تمسّك الغريقِ بخشبةِ الخلاص، بل لكنتُ وجدتُ رضاي وطمأنينتي، وسعادتي، في مجردِ البحث عنها – فنعمةُ، بل متعةُ، البحثِ عن الحقيقة لا تقلّ كثيراً عن متعة بلوغِ الحقيقة والتماهي بها، أمرٌ ليس مستحيلاً لكنه ليس متاحاً دائماً، وليس متاحاً بسهولة إلاّ لمن كرّسوا النفسَ بما فيها والحياةَ القصيرةَ وما احتوت لهدف أعلى وحيد: بلوغ الحقيقة، أو ما تيسّر منها، والتماهي بها، ما وسعَ المرءُ ذلك – وهي قصةُ المعلّم كمال جنبلاط، وغيره من «الواصلين»، مع الحقيقة، جوهر سعادة الروح.

من الجميل جداً أن يقول المترجم – فيصل الأطرش – في مقدمته للمجموعة:
«….. شخصياً كنت على شبه يقين أنني، بسبب عزمي على القيام بعمل مبارك كهذا، سوف تحلّ بركته في ذهني، فتكشف لي خباياه، لا لأنني – كإنسانٍ عادي – أستحقُ هذه البركة…. بل لأن العمل الذي أزمعتُ على تنفيذه يستحقها….»(ص 7)

وقبل الانتقال إلى مضمون المجموعة، نقول يستحق المترجم ما رجاهُ كما نعتقد، فترجمة كمال جنبلاط في الأصل ليست بالأمر السهل، فكيف بترجمته عن الفرنسية، شعراً؛ جهدٌ كبير لهُ من القارئ كل الثناء.

يبدأ المعلّم مجموعته بقول مختصر بسيط عميق، أخّاذ:
«من خَبِرَ السعادة لا يعرف الموت.»
من سعى إلى المعرفة الحقيقية، معرفة الحق، وعاشها، وتماهى بها، فزالت من عقله، بل عن عينيه، حُجُبُ المادة وأعراضُ الظاهر والباطل والعدم، وأوهامها، سيلتقي الموتَ يوماً ما، شأن كل من خالطه بالولادة الجسدُ والمادةُ؛ ولكن أيّ موت ذاك؟ هو موتُ الظاهر والوهمي والزائل، موتُ الجزء الذي كان من تراب ويعودُ إلى التراب. أما الجزءُ الأسمى فيه، بل الجوهر، فهو الروحُ: الجوهرُ أو السرُّ المكنونُ الخفيُ، الذي لا يظهر، وبه يقوم كل ما يظهر، ثم يموتُ كلُّ ما يظهر، وهي سنّة المادة والتراب والجسد – وهو لايموت. هوذا تفسير قول المعلّم كمال جنبلاط في ديوانه «فرح»: «أموتُ ولا أموتُ..»، وقوله في مجموعته «سعادة الروح»: «من خَبِرَ السعادة لا يعرف الموت.» الظاهر والمادي والعارض والآني والزائل هو ما يموت فينا، أما الجوهر والحقيقي والحق فينا فلا يموت، لأنه في الأصل غير مصنوع من مواد أو مكوّنات تفنى أو تموت. يقول المعلّم في مجموعته المترجمة هذه:
« إن مركز اعتمال العقل الذي يعجز عنه الوصف يشبه بلورة تنعكس عليها صورُ الأغراض المحيطة. لا تؤثر به الأفكار، ولا أحاسيس الألم واللذة، ….
اللونُ المنعكسُ لا يدخلُ في تركيبة البلّورة، تماماً كما لا تدخلُ الغيومُ في تركيبة الماء الذي تتمرّى به السماء.
الجاهلُ تلتبسُ عليه ذاتُه الخاصة مع اللون الذي يصبغها، أما الرجلُ الحكيم فالمعرفة تحرره من كل التباس: فهو يعرف أنّه بلّورٌ صرفْ». سعادة الروح، 20.
(لو كنتُ أنا أترجم هذا النصّ لقلت «بلّورٌ محض»، لا بلّور صرف)
وإذ يصل المريدُ إلى مقام الحق، تبطلُ عنده كل ثنائية وكل ازدواج، ولا يبقى غير الحق، لا شيء غير الحق، وما عداه بعضٌ منه، تجلٍ له، أو إشاراتٌ للعاقل أن يراها فيتبعها صُعُداً إلى مراتب الحقيقة والحق:
«ما كان قطُّ سواكَ الحتمَ والوكَدَ
ولا المرايا سواكَ استعكست أحدا» (سعادة الروح، 74)
أو قوله في «فرح»:
«…..
هل الشمس التي تدور
في عناية الفلك،
أو في فلك العناية،
فتسجدُ ركعة الصلاة الكاملة،
كل ليلٍ ونهار،
هل هي تُبطئ خطوها
لتنظر إلى الزهور،
ولتشهدِ الأنهار…
وليكتحلَ شعاعها بتفتقِ البراعم،
ولتتمتع بتألقِ الندى،
وهديرِ البحار، وتأويبِ الجبال،
وتصوّر الخيالات؟
لا إله إلاّ الحق، ولا وجود إلاّ هوْ،
وهل الأرض سوى ذرةٍ
تدورُ في أفق الحق الواسع،
يحتويها
وهي تحجّ إليه…» (فرح، 38)

أنّى توجهتَ، فقِبلتك الحق:
«…..
فاسجد وإياي
في صلاة المسلمين،
وفي استشراف صورة النور
عندما يعلو لهب الشعلة
في المشكاة،
في معراج فؤاد نور زجاجه،
فيتألقُ الكون
«كوكباً درياً»
في مشكاة زيت الحكمة،
والحكمةُ ليس لها وطن….
ولنرفع مع النصارى
قربان الوجود،
هذا القرصُ البدرُ،
في يدي الكهّان،
في يدي المسيح الحقيقي،
العقل الأرفع،
……..
ولنعرّج في صلاة إخواني
أبناء التوحيد، أهل الحق،
وفي هجعات شهودهم،
عندما يتسلّق فيهم العقلُ الأرفع
حدود التكوين،
حدود الهيولى الأولى،
المندرجةُ إليهم، وفيهم،
في شجرة تكوينِ الإبداع،
فيلقون الحق،
في شهود ذواتهم لذاتهم،
فتضمحل الذوات،
فلم يكن في المنزل
أحدٌ سواه». (فرح، 46-48)

ويختمّ المعلّم الكبير سوناتا الوجود الرائعة بحركة أخيرة:
«حنانيكَ مولاي…
أطلق قبساً من شعلة قدسك،
لكي نرتوي….
مولاي ربيعنا يمضي مع الفصول،
أما ذاك الربيع
فلا تبصرهُ العيون،
ولا تغمضُ عنه جفونُ العقل،
ولا تغربُ فيه شمسُ الأزل» (فرح، 48)

أو كما في آنندا السلام، (في ترجمة خليل أحمد خليل)، وسعادة الروح (في ترجمة فيصل الأطرش):
«أنت الحقيقة،
خلف ورقة الشجر،
أنت غلافُ الحياة
في الثمرةِ الفجّة،
أنت عطرُ قد انطوى
في الزهر!»(آنندا السلام، 98)

أنّى تلفتّ فثمة حقيقةٌ واحدة، الله. لا فرق، في لبّ الثمر أو في قشرته، في قلب الحياة أو في غلافها. سيّان، فأنت روحُ الأشياء، ظاهرها وباطنها، وأنت نسغُ الحياة في كل ما هو حيّ.
وإذ يكتشف المعلم الحقيقة، يتماهى بها، فتبطلُ المسافاتُ بين المحب والمحبوب:
«لأجلك عشتُ،
ولأجلك أُعطِيتُ
الحبّ
كما يُعطى الفرحُ
لكل الناس،
ولم يبق شيء مما أحببت،
لم يبق ولو ظلٌّ
حتى تستدعي الظلال الأخرى
المضمحلة في ذاتي،
المتخفية في قلبي.
لا شيء.
لا شيء سواك-
من قبل، وإلى الأبد.» (26)

ما عسى المرء أن يزيد من معرفة في معبد العارف وقد جعله كعبة لكل عابدٍ، وبستاناً في الآن نفسه مفتوحٌ لكل محب»:

«لا أملكُ إلاّ قيثاراً
أنّ…فتركتُ له الأوتارَ
تُبدي ما طاب لها تبدي
كالعطرِ يفوح من الورد،
وتركت الباب ببستاني
مفتوحاً….». (سعادة الروح، 28)

بابُ البستانِ الرائع
لا يسكنه غير الحقيقة، والحب،
وهما واحد،
بستانٌ مفتوحٌ
لمريدي المعلّم،
مريدو الحقيقة،
يَسعون أن يكونوا شهوداً لها أيضاً.
أيها العارفُ،
بلغتنا حكمتُك، وتملّكنا حبّك،
لقد كنتَ المعلّم بحق، على طريق الحق،
فيا لحظِ من عرفك، واستمع إلى صوتك الاستثنائي،
تجربة شخصية، لا تُنسى.

(ترجمة فيصل الأطرش عن الفرنسية، بيروت، دار النهار، 2002، تنضاف إلى ترجمة خليل أحمد خليل تحت عنوان «آنندا السلام»).

حول مكانة الأخلاق عموماً

لا حاجة، بالتأكيد، لتكرار ما نبّه اليه علماء التربية من جهة، وعلماء تاريخ الحضارات والشعوب من جهة ثانية، حول الدور الحاسم الذي تلعبه، ولعبته، الأخلاق، والتربية على الأخلاق الرفيعة، في بناء الشخصية الإنسانية، كما في بناء المجتمعات والحضارات المزدهرة وحياة الشعوب السعيدة. والعكس صحيح، أي الدور الحاسم الذي تلعبه، ولعبته، الأخلاق الهابطة في تدمير الشخصية الإنسانية، كما، على نطاق أكثر شمولاً، في تدمير الحضارات التي تراجعت ثم زالت. وعليه، لم يخطئ الشاعر أبداً في إصداره حكم التاريخ، بل حكم الزمن، حين قال:

وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا

وهذا هو أيضاً حكم هيجل، فيلسوف التاريخ مطلع القرن التاسع عشر، في أنّ الأمم إذا فقدت ثقتها بروحها، وعقلها، فقدت الركن الأساس الذي نهضت على قاعدته. وهو أيضاً حكم علماء الحضارات في النصف الأول من القرن العشرين من أنّ انهيار أي حضارة إنما يبدأ بفقدانها المبرر الأخلاقي لوجودها.
وقبلهما بأكثر عشرين قرناً، بدأ أفلاطون كتابه الأكثر شهرة ونفوذاً، كتاب «الجمهورية»، بسؤال عن فضيلة العدالة: «لماذا عليَّ أن أكون عادلاً؟»، أي بسؤال أخلاقي، بل بالسؤال التأسيسي المركزي في كل منظومة أخلاقية، وفي تعريف علم الأخلاق أصلاً: ما هو الخير؟ لماذا عليّ أن أكون خيّراً؟ ومنهما اشتُقَ السؤال الأخلاقي العملي: كيف أفعل الخير؛ أو وفق كانط، فيلسوف الأخلاق دون منازع أواخر القرن الثامن عشر: إلزامية فعل الخير. معرفة الخير، لإفلاطون، هي أصل كل معرفة، وأصل كل الفضائل؛ وفعل الخير، لكانط، هو إلزام obligation.

هيجل

وفي ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية العربية، كان القرآن الكريم الخزانة، بل الخزنة، الذي أعطى، وما انفك يعطي، الأخلاق الأولوية المطلقة، مقارنة بالثقافات الجاهلة التي كانت تسود الجزيرة العربية، والقسم الأعظم من الكوكب قبل ورود البعثة النبوية والدعوة إلى الإسلام الحنيف. فقد قال الله تعالى في مدح نبيّه (ص): « وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم». ولعله أعظم ما قيل في تبرير الأخلاق، واعتبارها أُسّاً مركزياً من أسس الدين الحنيف. بل لا يتردد كثرة من علماء التفسير (إبن كثير، وآخرون محدثون) في تفسير الآية تلك كما لو كان الله تعالى يقول: «إنك على دين عظيم» (ابن كثير).

لا شك في أن ذلك التفسير تضمّن أقوى رافعة ممكنة لعلم الأخلاق، إذا جعلها متلازمة مع الدين نفسه. والحقيقة إننا لا نبالغ حين نقول إن الأخلاق متلازمة مع الدين بل ستصبح جزءاً منه. يقول محمّد عبد الله الدرّاز (في كتابه: «بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان»، ص 33): «إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو معرفة الحق الأعلى، وتوقيره، وإلى الخلق من حيث هو قوة النزع إلى فعل الخير وضبط النفس عن الهوى، كان أمامنا حقيقتان مستقلتان (متلازمتان)…، تختص أولاها بالفضيلة النظرية، والأخرى بالفضيلة العملية». إلا أنَّ ما يميّز الحقيقتين، إحداهما من الأخرى، هو أن الثانية مشتقة من الأولى، أو لاحقة بها، لأن العملي يتبع النظري، ولو على سبيل الأسبقية المنطقية لا الزمنية أو التاريخية. فالعمل بالحق أو الصحيح يتبع تعريف الحق أو الصحيح، وهو جوهر ما جاء به الدين من وحي ومن معرفة للحق. العملي يتبع النظري؛ وبهذا المعنى الدين هو الذي يزود الأخلاق بالمبادئ والقيم العليا.

بدأنا بذروة ما يمكن أن تكون عليه الأخلاق، أي جعلها مساوقة، موازية، متلازمة مع الدين الحنيف نفسه.
هنا بدت الأخلاق استجابة إلزامية، لا بد منها، لحاجة اجتماعية ملحّة. ورغم ما يقال عن أصل عقلي للأخلاق، أو أصل اجتماعي، أو اقتصادي، وخلافه، لا يستطيع المرء إلا ملاحظة أن الأخلاق لم تكن لتقع ذلك الموقع الإلزامي الحاسم في حياة الأفراد لو لم تكن مستندة ومؤيدة صراحة بمصدر علوي، إلهي، قدسي، قطع الطريق على كل راغب بتجربة الخطأ أو الحرام أو الشرّ عموماً. وعليه، يمكن أن نفهم بسهولة قوة الصلة بين الأخلاق والدين وصدقيتها.

تقع الأخلاق في ثلاثة أقسام، بل مستويات متدرجة، صُعُداً:
الأخلاق الفردية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق المتسامية.
الأولى، وتتألف من القيم والفضائل التي تخص الفرد، أي التي تتصل بالخير الشخصي: من مثل المبادئ التي يؤمن بها ويعمل بموجبها، الشجاعة، والكرم، والتروّي، نزوعه إلى الخير وكره الشر، وتعلقه بما يتصل ويعزز العقل والضمير وينأى به عن الهوى والغريزة، وسلسلة طويلة من الخصال الشخصية من مثل الصدق، والأمانة، وعمل الخير، والإحسان، التواضع مع عزة النفس، والقناعة مع السعي لكسب الرزق بالطرق المشروعة، وسواها من القيم الفردية، أي المبادئ التي يؤمن بها الفرد، وتحكم سلوكه، ويسعى لتحقيقها.
ويدخل هنا على وجه الخصوص الدور الحاسم الذي تلعبه الأسرة في تنشئة أفرادها، وتزويدهم بالقيم والأهداف الحميدة. هو دور الأب والأم معاً، ولكن مع حيّز خاص للأم على وجه الخصوص، إذ هي التي تقضي الوقت الأكبر مع طفلها وتخلّقه عموماً بأخلاقها. وقد قيل الكثير في دور الأم هذه، وبحق؛ ومنها:
الأمُّ مدرسةٌ أذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
وقيل أيضاً:
تربية الطفل في الأسرة تبدأ قبل خمس وعشرين سنة من ولادته، أي في التربية التي حصّلتها الأم في أسرتها الأولى وقبل أن يكون لها أسرتها الخاصة.
ويجب أن يتذكّر المرء هنا المكانة الخاصة التي أفرزها الأمير السيّد التنوخي (ق) حين شدد على أهمية تنشئة المرأة الصالحة، ومن ثمة الأم الصالحة، كي تنشأ من بعدها الأسرة الصالحة، والفرد الصالح، والمجتمع الصالح في النهاية.

وهناك أقوال مشابهة كثيرة أخرى، مصيبة دائماً، إذ يتفق علماء التربية دون استثناء على أن جزءاً كبيراً من قيم الفرد – أي المبادئ التي توجّه أخلاقه – إنما تُكتسبُ في سني حياته الأولى. دون أن ننسى هنا أهمية المدرسة في المرحلة التالية، ودورها التربوي الحاسم، وهي المؤسسة التي يقضي فيها الناشىء معظم سنواته قبل بلوغه سن الرشد.

في وسع الباحث أن يتوسّع في أنواع الأخلاق الفردية ما رغب في ذلك، إذ هي في النهاية مجموع الإرشادات والنواهي المحفّزة لصنع ما هو خير، والنأي عمّا هو شر. وهو عين ما جاءت به الأديان أيضاً. وعليه فهما لا يتناقضان في شيء، بل متوافقان على أهمية أن ينشأ الناشئة في أسرة فاضلة، ثم ما يتدرب عليه الفتى في المدرسة الصالحة، والنادي الصالح، كيما يكون فرداً صالحاً يصنع مع أفراد صالحين آخرين: المجتمع الصالح – وتعريفه: المجتمع الفاضل والسعيد. وهو موضوع المستوى الثاني من الأخلاق.
الثانية، هي الأخلاق الاجتماعية، أو ما يمكن تسميته: أخلاق المعاملات.
تشتمل الأخلاق الاجتماعية هذه على كل ما اتصل بسلوك الفرد والدور الاجتماعي الذي يلعبه، أي علاقة الفرد بالمجتمع، وبمؤسساته المختلفة: الأسرة، الحي، البلدة، المدينة، مكان العمل، وأشكال العلاقة الاجتماعية الكثيرة، والتي لا مفر للفرد عموماً من الانخراط فيها طوال حياته – من الولادة والنشأة في كنف أسرة، في طقوس اجتماعية محددة، إلى حين مغادرته هذه الدنيا في النهاية، وفي مكان اجتماعي محدد ووسط طقوس اجتماعية محددة أيضاً. بين أهم المبادئ التي تنشأ منها القيم الاجتماعية التي يلتزم بها الفرد الصالح:

إبن طفيل

– التعاون مع الأفراد الآخرين في الجماعة الصغيرة (الأسرة، أو المدرسة، مثلاً) ثم في الجماعة الأكبر، المجتمع، لتحقيق الأغراض الخيّرة من قيام الجماعة والمجتمع، وحسن إدائهما لوظائفهما. فمن دون هذا التعاون القائم على الخير لا تقوم أسرة بما يفترض أن تقوم به من وظائف أولية تربوية وأخلاقية حساسة؛ ولا تقوم مدرسة بما يتوقع منها من تربية وتعليم وتثقيف بالمعنى الصحيح؛ ولا ينهض مجتمع في النهاية إلا أذا تعاون أفراده تعاون أعضاء الجسم الواحد، بحيث يقوم كل فرد فيه بالوظيفة التي يصلح لها أو اختارها لنفسه والتي يجد نفسه فيها، متكاملاً مع الوظائف الأخرى التي يقوم بها الأفراد الآخرون في المجتمع: لا تنقص ولا تفضل وظيفة من أخرى، أو على أخرى، إلّا بمقدار ما يُحسن صاحبُها إداءها والإخلاص لها بمعزل عن الكسب المادي الذي يتأتّى عنها، بالمعنى المباشر، إذ إنّ الغاية من الوظائف الاجتماعية هي في الأصل تكامل المجتمع، لينهض، ويكون مجتمعاً فاضلاً، يجد كل فرد فيه نفسه، ينال حاجته من تقديماته، ولا يبخل بعطاء يستطيع تقديمه – أمّا تلبية الحاجة المادية المباشرة للفرد وللأسرة فلا تغيب عن البال لكنها يجب أن لا تتقدم على تكامل الوظائف الجوهرية للمجتمع.
– يلحق بهذه الوظيفة الأصلية سائر القيم الاجتماعية، وقد نصّت عليها تفصيلاً مواثيق حقوق الإنسان في الأندية المختلفة – وبخاصة شرعة حقوق الفرد والمواطن التي أصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 11 كانون أول سنة 1949، والتي لا تتعارض في أي من بنودها مع ما جاءت الأديان من حقوق وموجبات – طبعاً خارج تفسير الجماعات المتطرفة والموجودة على هامش الأديان كافة والتي تفهم دينها على أنه إقصاء للآخر، بل وتكفير له. قائمة القيم هذه تتضمن طريقة النظر إلى الآخر، الرحمة والتراحم، قبول الآخر، الاحترام المتبادل، نظام الحقوق والواجبات التي يتضمن عموماً كل ما هو ضروري لتعزيز المجتمع واللحمة بين أفراده من غير إفراط أو تفريط.

أما المستوى الثالث من الأخلاق فقد أسميناها: الأخلاق المتسامية transcendental values، المستندة إلى قيم وأهداف أعلى مما هو فردي، ومما هو مجتمعي أيضاً.
قيمُ المجموعة الثالثة هذه، إنما تنشأ من حقيقة أن الإنسان ليس فرداً فقط، وكذلك ليس فرداً-في-جماعة فقط. هو أكثر من ذلك.

هو في الأصل والجوهر، كائن متسامٍ، أي فيه من الدوافع والتطلعات والمحركات والأهداف (أي القيم) أكثر بكثير مما يتضمنه الكائن البيولوجي (الأكل والشرب والتكاثر)، والكائن الاجتماعي (طلب الصحبة والتعاون والتجاور) – رغم عدم نفي وجود الكائنين فيه ولكن على نحو أوّلي (البيولوجي) ثم ثانوي زائل (الاجتماعي).

الإنسان هذا يملك فوق البيولوجي والاجتماعي مستوى ثالثاً أعلى، ويتفرّد به عن سائر المخلوقات، ألا وهو: مستوى البحث عن الحقيقة، مقاربتها ومحاولة بلوغها، ومن ثمة التماهي بها أو وفق هديها – إذا حالفه الحظ وتأتت له نعمة معرفة الحقيقة تلك.

ولا نأتي جديداً إذا كررنا مع الفيلسوف الأندلسي إبن طفيل (وآخرون) أن الطريق إلى الحقيقة العليا تلك يكون في واحد من اثنين: إما بالوحي (أي النعمة الإلهية) أو بالعقل (أي من خلال كمال التفكّر والتعقّل). كلاهما طريق صحيح، يوصل إلى الخاتمة نفسها، وعليه فواحدهما لا ينفي الآخر.

في الأخلاق المتسامية، يعود الباحث باستمرار إلى كانط (1724-1804) الذي جعل لموضوعة الأخلاق معظم كتبه الأخيرة، وبخاصة كتاباه «نقد العقل العملي» (أي الأخلاقي)، الذي صدر سنة 1788، وأعقبه سنة 1797 بكتابه «ميتافيزيقيا الأخلاق»، والذي وضع فيه أسس الأخلاق العملية، أخلاق الفضائل.

كانط

يمكن العودة إلى كانط، كفيلسوف أخلاقي نظري وعملي من الطبقة الأولى، ولكني أختصر هنا فكرته المركزية برؤيته إلى الأخلاق كمعرفة «قبْلية» apriori، أي تتجاوز، وسابقة، للمعرفة المنطقية الشكلية، من جهة، وللمعرفة التجريبية البحت من جهة ثانية. لا تستمد الأخلاق أولويتها، وقبليتها، من أي برهان منطقي، ولا من علم النفس، ولا من أية خبرة عملية تجريبة جزئية. هي بالعكس «قانون كلّي»، تقوم على فكرة «إلزامية الواجب»، الذي لا يستطيع أي عقل إلا التسليم به، كما لا تستطيع الطبيعة الإنسانية إلا الاستناد إليه، كما لا تستطيع الخبرة اليومية إلا الانصياع له.

هذا أعظم دفاع عن أولوية، وقبْلية، فكرة الأخلاق في العصر الحديث، وربما في كل عصر. وقد تركت أفكار كانط نفوذاً هائلاً في كل النظريات الدينية والفلسفية والأخلاقية التي جاءت بعده. ولعل أعظم برهان عليه ما نقوله هو الخلاصة التي انتهى إليها الباحث في أعمال كانط، الفيلسوف الألماني هرمن كوهين، حين انتهى إلى الخلاصة التالية: «حتى لو لم يوجد الناس، لبقيت الأخلاق مع ذلك موجودة» (من كتاب «الأخلاق عند كانط» للفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي، ص 36).

هذا القدر كاف، كما اعتقد، لتأسيس البحث في فكرة أولوية «الأخلاق»، بل أولويتها المطلقة، إلى الحد الذي ساوت فيه الآية الكريمة، التي مرّت معنا، بين الأخلاق والدين نفسه.
وللبحث صلة، وبخاصة في فضائل الأخلاق المتسامية.

2021