الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قراءة أفلاطونيّة صُوفِيّة لتاسُوعَات أفلوطين

«إِنّي ربّما خَلَوتُ بنفسي، وخَلَعتُ بَدَنِي، وصِرتُ كأنِّي جوهرٌ مُجرَّد بلا بَدَن، فأكونُ داخلاً في ذاتي راجِعاً إليها، خارجاً من سائر الأشياء، فأرى في ذاتي من الحُسْنِ والجَمال والبَهاء ما أبقى له باهتاً مُتعجّباً، فأعْلَم أنّي جزءٌ مِن أجزاء العالَم الأعلى الفاضِل الشريف…»، هذه التجربةُ الرُّوحيّة ذات البُعد الأفلاطوني هي ما نقله القدماءُ عن كتاب «أثولوجيا-الرُّبُوبيّة» ونَسَبُوه خطأً إلى أرسطو، وهو في الحقيقة مختارات باللغة العربية من كتاب «التاسُوعَات» (Enneads) للفيلسوف المصري-اليوناني أفلوطين (Plotinus) (القرن الثالث للميلاد)، الذي شاركَ مُعلِّمَه أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) (انظرْ العدد السابق من «الضّحى») في تأسيس مدرسة «الأفلاطونية المُحْدَثة»، ذاك الكتاب الذي جَمَعه تلميذُه فورفوريوس الصُّوري (Porphyry) في ست مجموعات تتألف كلٌّ منها من تسع مقالات.

وإذا ما وُسِمت هذه التجربة الرُّوحيّة بالبُعد الأفلاطوني ذلك أنّ مفاهيمَ أفلاطون في المُثُل وخلود النَّفْس و«الواحد» والفضيلة، والعدل والحب والخير والجَمال، قد تركت تأثيراً كبيراً لدى أفلوطين وتلامذتِه «الأفلاطونيين المُحْدَثين» من بعده. فقد حَرَص أفلوطين في مشواره الفلسفي الرُّوحي على تحليل المبادئ والفضائل الأفلاطونية الأساسية، حيث نجد تعاليم أفلاطون الأخلاقية، خصوصاً من مُحَاورات «فيدون» (Phaedo)، و«فايدروس» (Phaedrus)، و«الجمهورية» (Politeia)، و«المائدة» (Symposium) في صميم نظريات أفلوطين في تاسوعاته لا سيّما حول الفضيلة بكونها الصفة الجوهرية المُتَأصِّلة في النَّفْس البشريّة، وطَهَارة النَّفْس وصَفَائها في تَأمُّلِ المُثُلِ العُليا والحقائقِ الخالدة الأزلية وارتقائها نحو «العالَم الأعلى الشريف»، عالَم العقل الكونيّ «نوس» (Nous)، بحسب المفهوم الأفلاطوني.

وهناك إشارات إلى مُحَاورات ومبادئ أفلاطونية في جميع أعمال أفلوطين، وهو قد اعتمدَ «الصُّوفِيّةَ الرُّوحَانيّة الإصطِفَائيّة» (Eclectic Mysticism)، أي تلك التَّوفِيقيّة الرَّاقِيَة، لِمَا هو أَقدس وأرقَى في جميع التعاليم، وتَحدَّثَ عن «الحِكْمَة المُقَدَّسَة» (Theosophia) التي ثمة رموز وإشارات إليها لدى أفلاطون، وفي كُلّ التعاليم والأديان.

استِنَارة وجدانية

لكن كيف تغذّى أفلوطين على رحيق تعاليم أفلاطون التي هي جوهر فلسفته؟ قال فورفوريوس في كتابه «حول حياة أفلوطين وترتيب أعماله» إنّ شَغَف مُعَلِّمه بالفلسفة دَفَعَه للإستماع إلى العديد من محاضرات المُفَكِّرين في الإسكندرية لكنّه كان يعود حزيناً ومُحبَطاً إلى أنْ أرشَدَه صديقٌ إلى أمونيوس ساكاس، فَسُرَّ بمُحاضَراته أيما سرور: «هذا الرجل هو ما كنتُ أبحثُ عنه». فقد استمالَه بتعاليمِه عن النَّفْس وخُلودِها ورُقِّيَها و«التَأمُّل العقليّ» (theoria) الرُّوحاني، فَلَزَمَهُ أحدَ عشرَ عاماً، لينضمّ فيما بعد إلى حملة الإمبراطور الروماني غورديان الثالث (Gordian III) الفاشلة ضدّ الفُرْس أَمَلاً بتَقَصِّي أثر التعاليم الفارسية والهندية. وقال فورفوريوس إنّ أفلوطين «كان يَعْلَم الأسرارَ بَديهيّاً وتلقائياً من خلال استِنَارَتِه الوجدانية».

في الفترة الأخيرة من حياته، كَسَبَ أفلوطين احترامَ الإمبراطور الروماني غالينوس (Gallienus) وزوجته سالونيكا (Salonica)، وحاول إقناعه بإعادة إعمار مستوطنة مهجورة في «كامبانيا» (Campania) في إيطاليا لتكون مدينة للفلاسفة على أن تحمل اسم «مدينة أفلاطون» (Platonopolis) يعيش فيها السُّكّانُ وفق المبادئ والسُّنَنِ التي تَحدَّث عنها أفلاطون في مُحَاورة «القوانين» (Nómoi)، لكنّ الإمبراطور تراجع عن مَنْح هِبَة ماليّة لتمويل هذا الهدف المنشود لأسبابٍ لم يَطَّلِع عليها فورفوريوس، الذي نَقَل هذه المعلومات، غير أنّ صديقاً من أصل عربي اسمه زيثوس (Zethios) (زيد؟) وهبَه قبل وفاته جزءاً من ميراثه وقطعةَ أرضٍ ومنزلاً في «كامبانيا»، ذلك الذي قَضَى فيه آخر أيام حياته.
وكَتَبَ أفلوطين مادة «التاسوعات» على مدى 17 سنة، بدءاً من العام 253 ميلادي وحتى فترةٍ قصيرة سَبَقَت وفاته في العام 2070 ميلادي، وجَمَعها تلميذُه فورفوريوس، كما سبق القول، في مجموعاتٍ ست تتألّف كُلٌّ منها من تسع مقالات، ولهذا السبب سُمِّيَت «تاسوعات» (Enneads). ولم يكن أفلوطين قادراً على مراجعة نصوصه لشِحٍّ في نَظَرِه، فترك هذه المهمة وترتيبها لتلميذه فورفوريوس، الذي قام بدوره على أكمل وجه.

فورفوريوس الصُّوري

أنْ نصبح مُقدَّسين كالعالَم العُلُوي!

أضاء فورفوريوس الصُّوري على الفضائل الأفلاطونية كما شَرَحها أفلوطين في التاسوعتَين 1 و 2. وأشار إلى تدرُّجٍ رباعي للفضائل: الفضائل السياسيّة المُتَعلِّقة بالنِّطَاق العَمَلِي والمدني، والفضائل التطهِيريّة المُتَّصِلة بتَنقِية النَّفْس وصفائها وارتقائها من طينيّة الجسد، والفضائل النظرية المُتَعلِّقة بتأمُّل النَّفْس في المُثُل، ومن ثم تلك الفضائل الأرقى المختصّة بتأمُّل النَّفْس مباشرةً في عالَم «العقل الكونيَ» الشريف.

وصنَّف فورفوريوس المقالات التسع في المجموعة (التاسوعة) الأولى من «التاسوعات» بأنّها تختصّ بالأخلاقيات. فنظرية أفلوطين الأخلاقية تُناقَش في المجموعة الأولى، المقالة الثانية من «التاسوعات» تحت عنوان «الفضائل»، حيث يُحلِّل أفلوطين الفضائلَ الأساسية الأربع لدى أفلاطون: «الحِكْمَة العَمَلِيّة» (phrónēsis)، و«الشَّجَاعة» (andreía)، و«العَدَالة» (dikaiosýnē)، و«ضَبْط النَّفْس» (sōphrosýnē)، مُشدِّداً على طبيعة النَّفْس العقلانيّة والتأمُّلية. ويُضِيء أيضاً على أهمية الجَدَل المنطقي الحِواري (ديالكتيك) (Dialectic) لدى مُعلِّمه المُلهِم أفلاطون في ما يتعلّق بـ «التطهير العقلي للنَّفْس» (katharsis) وهدفه الإرتقاء بها.
وفي المقالة السادسة من المجموعة الأولى أيضاً من «التاسوعات» الموسومة بـ «حول الجَمَال»، يشير أفلوطين أيضاً إلى تلك الفضائل الأفلاطونية قائلاً: «فإنّه كما قيل في الأيام الخوالي، ضَبْط النَّفْس والشَّجَاعة والعدالة وكُلُّ فضيلة هي تنقيّةٌ وتطهير، وكذلك الحكمة بحدّ ذاتها… فضَبْط النَّفْسِ ما هو إلَّا النأي عن المُتَع الجسدية، والشجاعة هي عدم الخشية من الموت، وتكمن عظمة النَّفْس في التَرفُّع عن كُلّ تلك الأمور، فالحكمة هي نشاطٌ عقلي ينأى عن تلك الأشياء في الأدنى ويقود النَّفْس رقياً إلى تلك في الأعلى»، فأَرقى مَراقِي العدالة في النَّفْس لديه هو عروجها نحو العقل الأسمى.
ويفتتح أفلوطين المقالة الثانية «حول الفضائل» بسؤالٍ عن تحرُّر النَّفْس من الشُّرور في العالَم الدُّنيويّ: «بما أنّ تلك الشُّرور هي هنا، وباقية هنا بالضرورة، والنَّفْسُ تنشد الفرار من الشُّرور، فينبغي أن نفرّ من هنا، لكن كيف يكون هذا الفرار؟». لقد وجدَ أفلوطين الإجابة على سؤاله في مُحَاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) الأفلاطونية: «أَنْ نصبح قَدَر الإمكان مُقدَّسين كالعالَم العُلُوي»، ولا سبيل إلى هذا التماثُل إلَّا بفضيلة الحكمة، أي أسمى المبادئ في الكون.

الوَجْد الصُّوفي العِرْفَاني

أمّا من ناحية التجربة الرُّوحانيّة الفريدة لأفلوطين، فهي تُماثلُ الوَجْدَ الصُّوفي العِرْفاني، الذي هو بمثابة تأمُّلٍ عقليّ فِكْرِيّ رَاقٍ (Noetic ascent)، ترقى فيه النَّفْسُ الفاضِلَة المُتَعَالِيّة (Transcendental) إلى المَلأ الرُّوحاني العقلاني الأعلى، أولاً بطَهَارتها، ومن ثمّ بالإستغراق في حقيقتها (على خُطَى «إِعْرَفْ نَفْسَك»)، من ثمّ في «شُهُودها العِرفاني». ويشير أفلوطين في مقاربته الماورائية إلى إمكانية أن تَرتَقِي النَّفْس بهذا التأمُّل إلى أعلى مَراقِي عالَم المعقولات من دون محدودياتٍ، بل بصفائها وطهارتها وتأمَّلها في العُلُويات. فالفضائل بالنسبة إليه هي قوى من المعقولات موجودة في النَّفْس تستمدّ وجودَها من عالم العقل الأعلى، لذا تكون النَّفْس قادرة للعودة إلى عالَم المُثُل العقلية والتشبّه به. فهدفُ الإنسان الفاضل الحكيم إذاً هو أن يصبح أشبه بالعالَم العُلُوي، عالَم المعقولات المثالية، بصفائه ونقائه.
والفضيلةُ بالنسبة إليه «تُعَقلِن» النَّفْسَ «بجزئها الأعلى» في تأمُّلها الذاتي لعالَم المعقولات. فكُلُّ فضيلة لدى أفلوطين هي تنقيّةٌ وتطهير، وكُلُّ نَفْسٍ نقيّة تغدو كمبدأ المُثُل. فالنَّفْسُ الفاضلة ترتَقِي عقليّاً من دون الجسد إلى العالَم الأعلى الشريف، عالَم الخير والحَقّ والجَمَال.

أفلوطين

أفلوطين الأفلاطوني

وأمام هذا الحضور القوي لمثالية أفلاطون، أجرى الباحث دايفيد يونت (David Yount) مقارنةً بين «ماورائيات» (metaphysika) أفلاطون ومثيلتها لدى أفلوطين لا سيّما في المجموعة الأولى من تاسوعاته، حيث يُقارِن بين مفهوم «الواحد» في محاورة «بارمينيدس» (Parmenides) الأفلاطونية (انظرُ عدد «» رقم 31) و«الواحد» لدى أفلوطين (التاسوعة 1 المقالة 3، والتاسوعة 6 المقالة 5)، ومن ثمّ التَّماثُل بين «الواحد» و«الخير» لدى الفيلسوفَيْن. فأفلاطون يُؤكِّد في «الجمهورية» أنّ «الخير» أرقَى من كَينُونَة الوجود الماديّ (einai)، و«فوق كلِّ ماهية» (Ousia)، وذلك ما ردّده أفلوطين في أكثر من «تاسوعةٍ» له.

مدرسة «توبانغن»

تؤكّد مدرسةُ «توبانغن» (Tübingen) الفلسفية المُتخصِّصة بأفلاطون منذ خمسينات القرن الماضي، أنّ «ماورائيات» أفلوطين تُشبه إلى حَدٍّ كبير «العقائد غير المُدَوَّنة» لأفلاطون (راجِعْ العدد الأسبق من «الضّحى»)، التي أشار إليها أرسطو وألمحَ إليها تلامذةُ الأكاديمية الأوائل وعلى رأسهم سبيوسيبوس (Speusippus)، بما يُثبِت أنّ «الأفلاطونية المُحْدَثَة» (Neo-Platonism) هي قراءة في عقائد أفلاطون غير المُدَوَّنة التي كان ينقلها إلى الخاصة من تلامذته شَفَهِيّاً. وترى هذه المدرسة الفِكْرِيّة أنّ أفلوطين كان استمراراً لفِكْرٍ ماورائي إنّما بدأه أفلاطون وتَبَلوَر في مُحَاوراته واستمرّ مع نُخبْة تلامذته، ويُؤكِّد ذلك وجهة نَظَر أفلوطين بحدّ ذاته الذي شَدَّدَ على أنّه فحسب مُفَسِّرٌ مُخلِصٌ لعقائد أفلاطون، ولو على طريقته الخاصة.

لكنّ معظمَ الباحثين المُخَتصّين بفلسفة أفلوطين دأبَ على التَّغافُل عن تجربته الرُّوحانيّة الصُّوفِيّة أو أنّ هؤلاء قد أخفقوا في تفسيرها وفَهْم أعماقها – فطريقة أفلوطين في وَصْف هذه التجربة الفريدة والشُهود الوَجْدي لا سابِقَة لها في تاريخ الفلسفة اليونانية.

التأمُّل الجَمالي الشُّهُودي في «الواحد»

«الواحد» عند أفلوطين مُتَعالٍ فوق الكِثرة والصِّفات والأرقام والأعداد وفوق كُلّ كينونةٍ، يفيضُ بالموجودات، بدءاً من الفيض الأول «العقل-نوس» الذي يُقارِن مع الـ «ديميورج» (Demiurge) في مُحَاورة «تيماوس» (Timaeus) الأفلاطونية، الذي يتأمَّل (يَعِي) «الواحدَ» أبداً، وهذا «العقل الكونيّ» يحوي كُلّ شيء من واحدٍ رياضيّ وأزواجٍ وكِثْرة وتَعَدُّدية وإمكانات، مستودع المعقولات والموجودات المُمكِنَة والأفكار وبالتالي المُثُل، وغاية تأمُّل الكائنات هي الإتّحاد به.

وإنّما هذا الارتقاءُ الرُّوحاني نحو «الإتّحاد بالعقل» يتمُّ بالتأمُّل الجَمَالي الذي أضاء عليه أفلاطون في مُحَاورتِه «المائدة»، لا سيّما عند تَحدُّثه عن «سُلَّم الحُبّ الارتقائي» (Ladder of Love) تَدَرُّجاً في تأمُّل «الجَمَال»، وهو مِثالٌ من أرقَى المُثُل. وقد وَضَع أفلاطون وصف هذه التجربة الروحية على لسان الفيلسوفة ديوتيما (Diotima) في المُحَاورة المذكورة مع مراحل رقي ذلك السُّلم نحو «بحر الجَمَال»، أي إلى مِثَال «الجَمَال» (وأقصى الجَمال هو «أن نصبح ذلك الجَمال بحد ذاته» بحسب قوله)، ومن ثمّ إلى ما هو أعلى وأرقَى، أي مِثَال «الخير الأسمى» (كما في «الجمهورية»)، الهدف النهائي للإرتقاء «الشُّهُودي»، كمثل نورٍ يظهر مُشِعَّاً للنَّفْس المُتَرَقِيّة على هذا النحو، وهو أشبه بـ «الفَيْض العِرفاني» أو «التَّبَدِّي النُّوراني» كما لدى أهل التصوُّف. وثمة تَشابُه مع الفِكْر الأفلاطوني أيضاً في التاسوعة 5 – المقالة 8 تحت عنوان «حول الجَمَال المُدرَك بالعقل».

إذاً، التجربةُ الرُّوحيّة عند «الشيخ اليوناني» (كما أسماه العرب) أفلوطين هي انتقالٌ من المفهوم النظري في الفلسفة إلى المنحَى العَمَلِيّ التطبيقي في مسائل مثل «تطهير النَّفْس» وتزكيتها، والإرتقاء تأمُّلاً في عوالِمِ الحقيقةِ والوَجْدِ والذوقِ الرُّوحاني. وهذا المنحَى الدِّيني الصُّوفيّ عند أفلوطين يُشبِه «النَّشْوَة الرُّوحانية» (Ékstasis) أو الإنجذاب أو الوَجْد الصُّوفيّ في نوعٍ من «الرؤية أو الكَشْف الإِلهَامِي الحَدْسِي» (بما يُشبِه «وحدة الشُّهود» Intuitive unveiling vision)، فتَتَحقّق فضيلة كاملة في نَفْسِ مَنْ يَتَأمَّلها. كما لدى الفِكْر الصُّوفيّ الذي تأثَّر به لاحقاً واستقى من مَنَاهلِه.

انتقلت مسحةُ أفلوطين الصُّوفية ببُعْدِها الرُّوحِي الأفلاطوني إلى أوغسطين (Augustine) والأكويني (Aquinas) ومن ثمّ إلى الفلاسفة المُسلمين، الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، بل نجدها حتى في إشراقات الأفلاطونيين المُحْدَثين العرب، وفي الشُّروحات على أخلاقيات أرسطو، وقد تركت تأثيراً عميقاً لدى أهل التصُّوف ومواجيدهم، وعند «إخوان الصفا»، ومَنْ جاء بَعدهم… ونقِفُ هنا!

السلسلة الذهبيّة لروحانيّة أفلاطون:
من أكاديمية أثينا إلى حاضِرة الإسكندرية!

من أثينا إلى الإسكندرية، امتدّت في القرونِ الأولى للميلاد «سلسلةٌ ذهبيّةٌ» انتقلت من خلالها الفلسفةُ المِثاليّة، والحِكمةُ الصُّوفيّة الرُّوحانية، والعلومُ الإِلَهيّة لدى أفلاطون إلى حَاضِرة العلوم والثقافات وملتقى الشعوب والحضارات، بعدما كانت تلك السلسلةُ قد نقلت فيما مضى العلومَ الهِرمِسية والفيثاغورية والأُورفية إلى الواحة الأفلاطونية. وتواصلت هذه «السلسلةُ الذهبيّة» بعدئذ عبر القرون من خلال صَفوةٍ من الفلاسفة الحكماء الذين حَمَلوا هذه «الأمانة»، وأبقوها للنُّخبة بعيداً عن غوغاء الفكر ومُلوِّثاتهم، إلى أن تلقّفها في الإسكندرية فلاسفةُ الفيثاغوريين الجُدد والأفلاطونيين المُحدثين، ليُتابعوا بإثراءاتهم الخاصة النَّهجَ الرُّوحاني لأفلاطون نحو معرفة الإِلَهيات والوحدانية بفلسفةٍ صوفية من دون الانغماس في الجَدَل العقيم والمَتاهات العقلية المُؤدِّية إلى الحيرة، كما فعل بعضُ المُتَفَلسِفين في ذلك الحين.

الأكاديمية بعد أفلاطون

كانت أكاديميةُ أفلاطون قد حافظت على نشاطها بعد وفاة سيِّدها في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث واصل الطلابُ الجُدد الدراسات في الرياضيات والهندسة على خُطَى منهجيّة فيثاغورس وفلسفة أفلاطون، بينما انخرط الطلابُ الأكثر نُضْجَاً في نقاشاتٍ استكشافيّة في المُثُل العليا والهندسة الحَيَّة للكون. وحافظ كبارُ التلامذة أمثال سبيوسيبوس (Speusippus) وإكزينوكراتيس (Xenocrates) وبوليمون (Polemon) على التقليد الفيثاغوري في الأكاديمية، وحاضروا بدورهم في مختلف مواضيع محاورات أفلاطون. لكن في القرن الثالث قبل الميلاد، تراجعت الأكاديمية في ظل كرايتس (Crates) وأركيسيلاوس (Arcesilaus)، وتَحوَّلَت ما يُسمَّى بـ «الأكاديمية الوسطى» إلى الاهتمام فحسب بالجَدَل الفلسفي مع «الرُّواقيين» (Stoics). وإنّما هذه «الأكاديمية الوسطى» أو الجديدة هي التي تخلّت عن المفاهيم الفيثاغورية والأفلاطونية المثاليّة لتدخل في جَدَلٍ تَشَكُّكِي فلسفيّ على النمط الإغريقي، بل أصبح الجَدَلُ غايةً في حدِّ ذاته لا تمهيداً لاستقراء حقائق، فوصلَ الأمرُ إلى حدّ أنّ أولئك الذين كانوا يُعتَبرون وَرَثَةَ أفلاطون قد تخلّوا عن تعاليمِه الأصليّة فعلياً. وبحلول القرن الأول قبل الميلاد تراجعت أهمية أثينا كمركزٍ ثقافي وفلسفيّ بل تقلص حتى دورها الاجتماعي والسياسي، وفَقَدَ فلاسفتُها أصالةَ الفكرِ والرأي، فسعَى النَيِّرون منهم إلى الابتعاد عن بلاد اليونان، فانتقلَ بذلك مِشْعَلُ الفكرِ «الهِرمِسي-الأُورفي-الفيثاغوري-الأفلاطوني» من أثينا إلى رحاب مصر، إلى الإسكندرية، حيث كُتبَ للفكر الحِكْمَويّ انطلاقة جديدة.
وقد ساهمت الإسكندرية، الحَاضِرَةُ العالمية آنذاك التي جَمَعَت مختلفَ الأَعراقِ والفلسفات، وشكّلت صِلَةَ الوصلِ ما بين الفكرِ الإغريقي العقلاني وعُمقِ حكمةِ الشرق وبُعْدِه الدِّيني، في تَهْيئةِ الأجواءَ لإعادة الاهتمام بتعاليم فيثاغورس وأفلاطون، وباتت المدينةُ مستَعِدّةً لظهور شخصياتٍ فكرية تصوغ ذلك الاهتمام بلغةٍ راقية.

أمونيوس ساكاس

على أرصفةِ ميناءِ الإسكندرية، وفي ظِلالِ منارتِها الشهيرة وبجوارِ مكتبتِها التي أغنَت الأجيالَ والفكرَ البشري، تَنَقَّلَ «حَمَّالٌ»، وُلِدَ لأبوَيْن مسيحيَيْن نحو العام 175 ميلادي، يُدعَى أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) سعياً وراءَ كَسْبِ الرّزق (وينسب البعضُ اسمَ عائلته «ساكاس» Saccas إلى «حامل الأكياس»، بينما يرى البعضُ الآخر أنّ اسمَه يعني «درع أمون»)، وسط صَخَبِ تلاقي الشُّعوب والثقافات في مركز الحضارة العالمية آنذاك. لكنَّ العقلَ الوَقَّادَ لأمونيوس ساكاس جَعَلَه يرفضُ العقائدَ الدُّغمائيّة والميولَ الخُرافيّة السَّائدة لدى أتباع الفلسفة من جهةٍ والمعتقدات من جهةٍ أخرى، وأخذ يبحث في طبيعة الأشياء والحقيقة، بتَكرُّسٍ شديد وتأمُلٍ عميق في تعاليم أفلاطون، فضلاً عن فهم فلسفة أرسطو وفيثاغورس واستقراء البُعد الديني، فاكتسبَ من تأمُّلاته بصيرةً مُستَنيرة. وقد أطلقَ عليه هايروكليس (Hierocles) المعاصرُ اسمَ «ثيوديداكتوس» (Theodidaktos)، أي «المُتَعَلِّم إِلَهِيّاً»، بفضل بصيرتِه المُشرِقَة وحَدْسِه المُتَيقِّظ أبداً. ومن خلال استيعابه للتعاليم والأسرار الأفلاطونية والفيثاغورية، باتَ يُعتَبر عموماً أحدَ مؤسِّسي، ما لم يكن المُؤسِّسَ الأول، لِمَا يُعرَف حديثاً بـ «الأفلاطونية المُحدثة» (Neo-Platonism)، تلك التي تركت تأثيراً كبيراً على الفلاسفة والمُفكِّرين الدِّينيين لقرونٍ تَلَت.

وهذا التلاقي مع البُعْد الدِّيني الرُّوحاني الشرقي قد حَفَّزَ في تلك الفترة العودةَ إلى الفكر النَّقِي لكُلٍّ من فيثاغورس وأفلاطون والدَّعوَة إلى إعادة تجديد تعاليمهما. وكان أودوروس الإسكندري (Eudorus of Alexandria) قد وضع شروحات على محاورة «تيماوس» (Timaeus)، بينما فسّر ثيون السميراني (Theon of Smyrna) العقائدَ الرياضيّاتية لأفلاطون في دراسةٍ لا تزال موجودة، ورَتَّبَ عالِمُ الفلك ثراسيلوس (Thrasyllus)محاورات أفلاطون على نحو يسهِّل للقارئ استيعابها. أمّا جالينوس (Galenus) الطبيبُ الشهير، فقد استغرقَ في الفلسفة الأفلاطونية بأدقّ التفاصيل، وسادَ توقٌ للاطّلاع على تعاليم الحكمة الدِّينية القديمة.

حكمة القدماء الإِلَهيّة المقدّسة

وبعد تعمُّقٍ لفترةٍ طويلة في الفكر الأفلاطوني، أسّس أمونيوس ساكاس مدرسةً فلسفيّة في الإسكندرية نحو العام 193 ميلادي، وكانت تعاليمُه شَفَهيّةً إذ رفضَ رفضاً تاماً أي تدوينٍ وأَلزمَ تلاميذَه بعهودٍ ومواثيق بألَّا يُفصِح أحدٌ منهم عن تعاليمه السرّية. وكَتَبَ فورفوريوس الصُّوري (Porphyry of Tyre) بأنّ أبرزَ تلامذةِ أمونيوس هم إيرينيوس (Erennius) وأوريجينوس (Origen) وأفلوطين (Plotinus) وقد قَطَعوا وعداً بعدم إفشاء العقيدة الحقيقية لأمونيوس، ولو أنّ «إيرينيوس نَكَثَ هذا العهد». وهذه الدائرة الداخلية من أتباع أمونيوس التي انتمى إليها هؤلاء الثلاثة، قد نَقَلت القدرَ الكبير من تعاليم أمونيوس، وعلى الأخص أفلوطين وأوريجينوس (أبرز آباء المسيحيين الأوائل)، لكنّهما نَسَجَا تلك التعاليم ضمن صياغة أفكارهما الخاصة، مع مُراعاة عهدهما للحفاظ على «الأسرار». وهذا ما أكّده كليمنت الإسكندري (Clement of Alexandria)، الذي كان يُبجِّل أمونيوس، وتحدَّث عن وجودِ مدرسةٍ تتَّبِع الأسرارَ لدى المسيحيين الأوائل، وهو كان عضواً فيها، وذلك يُظهِر مدى سعة وشفافية تعاليم الأفلاطوني أمونيوس الذي احتضنَ تلاميذَ مُوالين له من مختلف الانتماءات والعقائد.

وتَركَّزَت تعاليمُه، بما عُرِفَ منها، على وحدانيّة الواحد، المبدأ المُطلَق، المُتَعال، فوق الوصف، وفوق الإدراك البشري، وخَلُصَ إلى أنّ النفس البشريّة هي إشعاعٌ خالدٌ من النفس الكونيّة وبالتالي هي خالدة ومن أصلٍ عُلويّ، كما كَتَبَ الأفلاطوني المُحدَث نيميسيوس الحمصي (Nemesius of Emesa) (أواخر القرن الرابع للميلاد)، وأنّ هناك جوهراً أخلاقياً في قلب كُلّ امرئٍ، بل وكُلّ نظام ماورائي، وأنّ التفكير المجرّد في العُلويّات يُحوِّل طبيعةَ البشر من خلال النور المُقدَّس الذي يكشفه.

وأكّد أمونيوس أنّ «حكمة القدماء الإِلَهيّة المقدّسة» (Theosophia) هي أُمّ كُلّ الحقائق، ومَنْ يَتَّبِعها يرقَى بحياةٍ ملؤها الاحترام والإنسانية والتعاطف مع كُلّ المخلوقات. وقد أَصرَّ في مدرسته على أقصى الانضباط الأخلاقي المُتَّفِق مع روحانيّة تلك الفلسفة، وشَدَّدَ على تَنقِيَة الفكرِ والرُّوح والجسد بالتأمُّل الفلسفي. ويَذكُر نيميسيوس اثنَيْن من التعاليم التي تشتمل على وجهات نظر أمونيوس، وهما يتعلّقان بطبيعة النفس وخلودها وعلاقتها بالجسد، مُشدِّداً على أنّهما من التعاليم الشَّفَهِيّة فحسب.

لقد عَلَّمَ أمونيوس تلاميذَه أنّ الحكمةَ الأكثر عُمقاً وصدقاً نجدها حقاً في فلسفات الشرق، وأنّ مصدرَ تعاليمِ مدرستِه يعود إلى الأصل ذاته كتعاليم فيثاغورس وأفلاطون، أي إلى الحكمةِ المصرية، كُتُبِ «تحوت-هِرمِس» المقدّسة.

ومن هذا المنطلق اعتبرَ أمونيوس أنّ ثمة تناغماً بين فلسفات أفلاطون وأرسطو، إذا ما فُهِمَت على نحو صحيح، وقد حذا بذلك حذو نومينيوس الأفامي (Numenius of Apamea).

«مُحبِّو الحقيقة» والدُّرُّ الهِرمِسيّ المَكنون

لقد كان طُلّابُ المعرفةِ يوفدون إلى مدرسة أمونيوس واحداً تلو الآخر، بعدما كانوا يجدون التعاليمَ التقليدية السائدة آنذاك غير ذات نفعٍ، ومن ثمّ كان كُلُّ واحدٍ منهم يُنهِي تعليمَه وينطلق في رحاب العالم ناقِلاً تلك التعاليم لكن بحسب فَهْمِه الشخصي. وجديرٌ بالذكر أنّ هذه المدرسة كانت تنقسم إلى ثلاثِ درجات – المُبتَدِئين، المُلَقَّنين، والأسياد – وجميعهم مُلزَمون بعهودٍ للحفاظ على سرّية التعاليم في كُلٍّ من هذه الدرجات الثلاث، وقد استُمِدّت هذه القواعد من «أسرار أورفيوس» (Mysteries of Orpheus)، تلك التي جاء بها من الشرق، بحسب «أب التاريخ» هيرودوتس (Herodotus).

وسعى العديدُ من تلامذة أمونيوس الأفلاطونيين إلى إثبات وجود الحكمة الكونيّة داخل جميع التقاليد. ومن بين هؤلاء الفيلسوف لونجينوس (Longinus)، الذي نَقَلَ أفكارَ أمونيوس إلى عالم السياسة كوزيرٍ لمَلِكَة تدمر الشهيرة زنوبيا. ويُعتَقد أنّ فورفوريوس الصُّوري قد دَرَسَ على لونجينوس قبل أن يصبح تلميذاً لأفلوطين.

وكان لهؤلاء التلامذة النجباء تأثيرٌ على المسيحيين الأوائل. فقد وضع أوريجينوس المنوّه عنه آنفاً، وأحد أبرز تلامذة أمونيوس في الإسكندرية المعروف أيضاً باسم أوريجين أدمانتيوس (Origen Adamantius)، شروحاتٍ رمزيّة وروحيّة مكثّفة على نصوص العهدَين القديم والجديد مُمَهِّداً الطريقَ أمام التأويلات الثلاثيّة للنص: الحرفي، والرمزي، والرُّوحاني، بل إنّ هذا التأثيرَ ترك بصماتِه لاحقاً على مُفكِّرين في عصر النهضة، من بينهم بيكو ديلا ميراندولا (Pico della Mirandola).

وكان أنْ طمَحَ الفيلسوفُ الإغريقي سيلسوس (Celsus) إلى قراءة العقيدة المسيحيّة الأصيلة تحت أضواء تعاليم أفلاطون، فأَمَرت الكنيسةُ بإتلاف جميع كتاباته، ويُقال إنّ هناك نسخةً من كتابه «العقيدة الحقيقية» تقبع في غياهب دير جبل «آثوس» (Athos) في اليونان.

وأُطلِقَ على تلامذة أمونيوس لقب «أصدقاء الحقيقة» (Philaletheans) أو «مُحبِّي الحقيقة» (Theosophists) لأنّهم كانوا يسعون إليها أينما وُجِدَت، ويرقون بالتأمُّل فوق محدوديات المادة وعالمها. وأُطلِقَ عليهم أيضاً لقب «أتباع المُمَاثَلة والمُطابَقة» (Analogeticists) لأنّهم فَسَّروا جميعَ الأساطيرِ والتعاليم والأسرار اتباعاً لمبدأ المُمَاثَلة والمُنَاظرة والمُطابَقة أو المُقارَنة.

بل إنّ أمونيوس أطلقَ على فلسفتِه الرُّوحانيّة «الحكمةَ الإِلَهيّة الاصطفائية» (Eclectic Theosophy)، لأنّه كان يَستَشِفُّ الحكمةَ المقدّسة في جميع التقاليد، إذ بَقِيت محفوظة ضمن عقائدها حيث أُسدل عليها لِثَام السرّيّة، وكذلك في شَذَراتٍ من الحقائق التي انتظرت طويلاً مَنْ يُسلِّكها كالدُّرّ المَكنُون. وبقيت مدرسةُ أمونيوس في الإسكندرية بعد وفاته، وواصلت تعاليمُه تُلقِي بظلالها الفلسفية الوارِفَة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط حتى مطلع القرن السادس ميلادي، في تلك الفترة التي أَمَرَ فيها الإمبراطورُ البيزنطي جوستنيان (Justinian) بإغلاق الأكاديمية، وكُلّ مدرسةٍ حَذَت حذوها. وقيل إنّ سبعةَ حكماءٍ من الشرق، من أرض الكِنَانة، من «المدرسة الأفلاطونية المحدثة»، تركوا الإسكندرية وغادروا إلى بلاد فارس والهند، لتَتَوشَّح تلك الحكمة الفلسفيّة بوشاح الخَفاء، ولتبقى كُتُبُ هِرمِس المقدّسة من دون مُفسِّرين لها في أوروبا المسيحية.

خاتمة

لكن مَنْ تَلقَّفَ المِشْعَلَ الأفلاطوني من أمونيوس؟ لقد كان أفلوطين التلميذَ الأكثر استنارةً واقتداراً، ودرس على أمونيوس لمدّة أحد عشر عاماً قبل أن يُؤسِّس مدرسةً له في روما مُتّبِعاً خُطَى مُعلِّمِه في النزاهةِ والنقاء والعُمق الرُّوحاني، والارتقاءِ بالنفس إلى المَلأ الأعلى. وللبحث صلة في الدراسة المقبلة.
ويبقى السؤالُ، ما هي الأسرارُ أو التعاليم التي أصرّ أمونيوس على أن تبقى خفيّةً من دون إفشاء؟ وهل نقل «حَمَّالُ» الإسكندرية أمانتَه الأفلاطونية إلى تلميذه أفلوطين؟ سنرى في العدد المقبل.


المراجع:

– Plotinus of Ammonius Saccas, Karel Hendrik Eduard Jong, E.J. Brill, 1941.
– Ammonius Saccas and His “eclectic Philosophy” as presented by Alexander Wilder, Author: Jean-Louis Siemons, , Institut National Agronomique, 1988.
– Essai Historique Sur La Vie Et La Doctrine D’ammonius Saccas, Louis Joseph Dehaut Publisher, Nabu Press (October 19, 2013). ‎
– The Heirs of Plato, A Study of the Old Academy, By: John Dillon January 30, 2003. Publisher: Clarendon Press.
– Karamanolis, G., (2006), Plato and Aristotle in Agreement?: Platonists on Aristotle from Antiochus to Porphyry, Oxford University Press.

أفلاطونُ الفيثاغوريّ

 

«الضرورة تُطيعُ حُبّاً أو قَسْراً العَلِيَّ، الذي يُبدِع كُلَّ شيءٍ في الكون تَناغُماً وفقاً لتَناسُبٍ دقيق»، قالها أفلاطون في مُحَاورَتِه الشهيرة «تيماوس» (Timaeus) مُردِّداً أصداءً عريقة للمفاهيم الفيثاغورية التي تُصوِّر العالَمَ بتناغُمٍ رياضيّاتي، وانسِجامٍ مُوسيقي، وصوفيّةٍ عَدَدِيّة. وانتشرت هذه الرمزيّةُ الفيثاغورية في شتى مُحَاورات أفلاطون الذي كتبَ بغزارةٍ وثراءٍ للعامّة لكنّه أخفَى الحقائقَ و«رَسائِلَه للمستقبل» طَيّ تلك الكلمات. بل إنّ أفلاطون لم يَستلْهِم التناسُبَ المُوسيقي الرياضيّاتي في فَلسفتِه فحسب، بل اعتمده أيضاً في صَوغِ مُحاورَاتِه التي أخْفَت إيقاعاً رياضيّاتيّاً مُوسيقيّاً يتردّد في ما بين عَدَدِ الكلمات والأسطر، والتَناسُقِ الصوتي للكلماتِ والعبارات في كُلّ مُحَاورة، وكأنّما ثمة لَحنٌ خَفِيّ ما وراء ظاهِر الكلمات لا يسمعه إلَّا المُهَيَّأون.

وانطلقَت تأثيراتُ الفِكرِ الفيثاغوري على مبادئ أفلاطون الفلسفية، لا سيّما المُثُل العُليا وخلود النفس، منذ أنْ زار أفلاطون جزيرةَ صقليّة بحثاً عن فيلولاوس (Philolaus)، تلميذ فيثاغورس المُسِن، والسَّعِي جاهداً للحصول على كُتُبِه، التي أشاعت بعض المصادر التاريخية بأنّه اعتمدَ عليها في كتابة أهم مُحَاورَاتِه وعلى الأخص «تيماوس»، وكذلك في تعاليمه أو «عقائده السرّية» التي خَصَّ بها نُخبةً من تلامذته كي ينقلوها من بعده (انظرْ العدد السابق).

والمُعلِّمُ الفيثاغوري فيلولاوس هو مُفكِّرٌ عَاصَرَ سقراط والتقى في آخر سنوات حياته بأفلاطون، الذي أشار إلى تعاليمه في مُحَاوَرة «فيدون» (Phaedo)، إذ إنّه دَعَمَ في أعمالِه المَقولةَ الفيثاغورية عن الأُسس العَدَديّة لكُلِّ الأشياء. وتردّدت أصداءُ هذه العقائد الفيثاغورية لدى أفلاطون عند تَحدُّثه عن أهمية المُثُل وعَجْز الكلمات عن التعبير عن الحقائق الكونيّة المجرّدة مقارنةً بها وبالأعداد، خصوصاً عند تَطرُّقه في مُحَاوَرتِه «فايدروس» (Phaedrus) إلى قصة «تحوت-هِرمِس» (Thoth) في مصر، وكذلك في تَحدُّثه عن خلود النفس في مُحَاوَرة «مينون» (Meno). ونستَشِف تلك الفيثاغوريات أيضاً في «الجمهورية» (Politeia) عندما يؤكِّد أفلاطون أنّ الرياضيات هي مفتاحٌ للفَهْم الحقيقي، وفي مؤالَفَتِه بين «الواحد» ومفهوم «الخير»، في تناغُمٍ ما بين المُثُل العليا والأعداد، تلك المعادلات الدينامية بين المُثُل وهندسة الكون الحَيَّة. بل إنّ المقولة السُقراطية الأفلاطونية الشهيرة «إِعرَفْ نفسَك» إنّما هي تتماثل مع قولٍ يُنسَب إلى فيثاغورس: «أيُّها الإنسانُ إِعرَفْ نفسَك، ومن ثمّ ستَعرِف الكونَ وربَّك».

فيثاغورس ومُحَاوَرة “فيليبوس”

تظهر العناصرُ الفيثاغورية في مُحَاوَرة «فيليبوس» (Philebus) في تناولها لمفهوم «الواحد» و«العديد»، و«المحدوديات» و«اللامحدوديات»، تلك التي تُشبِه ما وَرَدَ لدى فيلولاوس تلميذ فيثاغورس، ونجدها أيضاً في مُحَاوَرات «فيدون» و«فايدروس» و«تيماوس».

وتُدلِّل مُحَاوَرةُ «فيليبوس» على آراءٍ وعقائد فيثاغورية أساسية، بل إنّ هذه الرمزية الفيثاغورية متأصِّلة في نسيج صياغة المُحَاوَرة، وقد نُسِجَت مُحَاوَرات أفلاطونية عديدة أيضاً كشأنها وفق نِسَبٍ جَمَالِية وتآلُفٍ فيثاغوري في موسيقى التردُّدِ الصوتي للكلمات، كما سبق القول، انسجاماً مع الموضوع.

ويقول أفلاطون على لسان سقراط في مُحَاوَرة «فيليبوس» مُشيراً إلى فضل الفيثاغوريين ونقلهم لمعرفة سيِّدهم إلى مَنْ بعدهم:
«لقد أخبرنا هؤلاء القُدامى (الفيثاغوريون) المُتَفوِّقون علينا المُقرَّبون من العالم العِلوي، هذه القصة، بأنّ كُلَّ ما هو موجود يتألّف من «واحد» «وعديد»، ويملك في طبيعته «محدوداً» (peiras) و«لامحدود» (apeirõn)».

وذلك ما يُذكِّرُ أيضاً بـ «جدول الأضداد» لدى فيثاغورس، وكذلك أيضاً التناسُب أو التناغُم الفيثاغوري، فمزيج العناصر من «المحدود» و«اللامحدود» في توليفةٍ تناسُبية إنّما يُنتِج توافقاً رياضيّاتياً مُتَناغِماً وبالتالي يختصر الموسيقى بكُلّ كمالها الرياضياتيّ، والصِّلة دائماً مع تناسُب الموسيقى هي سِمَة طاغية في هذه المُحَاوَرة.

وإنّما هذه النِّسَبُ الموسيقيّة بحدّ ذاتها تنطوي أيضاً على بُعدٍ أخلاقي وماورائي، فمختلفُ الأنغام الموسيقية تُؤثر في الطِّبَاع والسُّلوك والمشاعر، بل إنّها تؤثِّر في مستوى التفكير، وهي كما لدى الإنسان كذلك في الكون تُمثِّلُ «تناغُمَ الأفلاك». ويؤكّد سقراط في مُحَاوَرة «فيليبوس» أنّ الجمالَ المُطلَق للموسيقى إنّما يكمن في كَمَالها الرياضيّاتي.

في مُحَاوَرة «فيليبوس» أيضاً يؤكّد أفلاطون أنّ «التناسُبَ ضروريٌّ لأجل الخير»، فيما يُعلِن في «تيماوس» أنّ «التناظُرَ» (symmetry) «والتناسُبَ» (proportions) ضروريان لأجل الخير، وأنّ غيابهما يُسبِّب الشر. ويطلب في مُحَاوَرة «فيدون» توضيحاً لعالَمٍ يتماسك بفضل قوةِ الخير المُتَجَلِّي من ناحية تناسُبٍ هندسي..

البُعد الفيثاغوري للتحليل الهندسي الأفلاطوني

 

الفيلسوف الألماني لايبنتز

ومن ناحية هذا التناسُب الهندسي الرَّاقِي نحو الخير، اختار أفلاطون في مُحَاوَرة «مينون» مسألةً هندسيّة من وَحِي تعاليم فيثاغورس لإقامة حُجّتِه، حينما رسَمَ سقراط خَطَّيْن قُطريَيْن (Diagonals) بين الزوايا المُتَقابِلة لمُربّع كبير فتبدّى لعَبْدٍ أُمِّي في حاشية الحاكم مينون مربّعٌ هو ضُعْف مساحة المُربّع الأصلي، تماماً كما كان مطلوباً، وأَقرَّ العَبْدُ أنّه قد استعادَ تلقائياً معرفةً «بدهية».

هذه «التجربة الرائعة» كما وصفها الفيلسوف الألماني لايبنتز (Leibniz) جاءت بعد اعتماد أفلاطون على لسان سقراط الفَرَضِيّةَ الفلسفية والإثبات الجَدَلِي المنطقي، ومن ثم اغتنامها في «التحليل الهندسي» (Geometrical Analysis) الأفلاطوني الفيثاغوري. فالفَرَضِيّة الفلسفية هي كشأن الفَرَضِيّة الهندسية تبدأ بافتراض ما يتعيّن بُرهانه ومن ثم الإثبات أنّ الافتراض يؤدّي إلى حقيقةٍ راسخة لا خاطئة.
وقد صِيغَت الفَرَضِيّات الفلسفية لتتَّبع النهجَ الرياضياتي للتحليل وحل المسائل تدريجياً. ولماذا اعتمدَ أفلاطون التحليل الهندسي الرياضياتي على خُطَى فيثاغورس فلأنّ الرياضيات تستمدّ موضوعاتها من التصوُّرات الذهنيّة لقضايا مجرّدة مجالها فحسب التصوُّر العقلي المُبدِع المَحْض، في حين أنّ العلوم التجريبية ترتكز على وصف الأشياء الحِسّية. والعقلانية الأفلاطونية ترى في استنادها إلى الحقائق الهندسية الرياضياتية والمجرّدة أنّ مبادئ المعرفة فطريّة. فها هي مبادئ الرياضيات قائمة في العقل أي مُتَأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً (a priori) من غير تعليم ولا استدلال تجريبي (a posteriori). فالخط المستقيم والمثلث والمستطيل والدائرة والمُربّع هي تصوُّرات رياضياتيّة هندسية بَدْهيّة، وقد سعى سقراط إلى استخراجها من نفس العَبْد بطرح الأسئلة فحسب. فالنفسُ في تصوُّراتها الهندسية تُحلِّق في عالم التجريد إلى مَراقٍ فيثاغورية عُليا حيث تلوحُ لها هناك ظِلالُ المُثُل الأفلاطونية.

وهنا بَدَت الرياضيات الفيثاغورية لدى أفلاطون «أشرف العلوم» لأنّها علم عقلي مَحْض مستقلّ عن الأمور الحِسّية، وبناءٍ فكري تجريدي يرتكز إلى فرضيات لا تحتاج في إثبات صدقيّتها سوى إلى الخلو من أي تناقض داخلي.

فكما تشتمل الدائرة وتحيط بالأشكال الأخرى كذا تندرج أفكار محدودة نهائية ضمن أفكار لا محدودة ولانهائية. وهو ما يمثّل العلاقة بين فكرة تجريدية عِلوية مثل المعرفة، وفكرة متغيّرة مثل الرأي أو إمكانية التعليم.

واستلهاماً لذلك، سعى الفيلسوف هنري مور (Henry More)، زميل العالم التجريبي الشهير إسحق نيوتن (Isaac Newton) في «جامعة كامبريدج» (القرن السابع عشر)، إلى أن يُضفِي بُعْداً هندسياً على العالَم الأفلاطوني، بل أن يُضفِي على العالَم الهندسي بُعْداً روحانياً. فهو اعتبرَ أنّ «العالم الرُّوحاني» (Spiritual Realm) يتمدّد هندسياً في «بُعْد رابع» (4th dimension) أطلق عليه تسمية Spissitude.

نومينيوس الأفامي

 

بعد انتقال تعاليم أفلاطون عبر تلامذتِه المُخلِصين إلى الأجيال التالية، سعى الفيلسوفُ نومينيوس الأفامي (Numenius)، مُلهِمُ «المدرسة الأفلاطونية المُحدثة» (Neo-Platonism)، في القرن الثاني الميلادي إلى المُؤَالفة والمُوَاءمة بين تعاليم فيثاغورس وأفلاطون، مؤكِّداً المصادرَ الفيثاغورية للفكر الأفلاطوني، وأنّ حكمةَ هذَيْن الفيلسوفَيْن مُستَمدّة في الأساس من حكمة الشرق القديمة ومن الحكمة الهرمسية المصرية العريقة و«الحكمة القديمة النقيّة» (prisca theologia)، مُقارِناً ما بين مفهوم «الواحد» الفيثاغوري و»الديميورج» (Demiurge) الأفلاطوني.

أيامبليخوس

وتُشير المصادر المعاصرة إلى نومينيوس على أنّه فيثاغوري، لكنّ أيامبليخوس (Iamblichus) الفيلسوف العربي الأفلاطوني المُحدَث يصفه بـ «الأفلاطوني»، وهي صفةٌ تُماثِل «الفيثاغوري» في ذلك العصر إذ إنّ أفلاطون كان يُعتَبر تلميذاً لفيثاغورس.
نعم، لقد سعى الفيلسوفُ الأفامي إلى أن يُعيد أفلاطون إلى جذوره الفيثاغورية، وأنْ يُعيد فيثاغورس بنفسه إلى حكماءِ الشرق (وثمة إشاراتٍ كثيرة في المصادر الكلاسيكية القديمة إلى حكيم الشرق الغامض الآتي من أقصى شمال الشرق خلف الجبال المُكلَّلة بالثلوج، أباريس هايبربوريوس (Abaris the Hyperborean)، «طبيب الأجساد والأرواح»، القَادِم من ذلك العالم الأُسطوري الكامل المُبارَك المَخْفِي وراء الجبال الذي أشار إليه أفلاطون في مُحَاوَرة «كارميديس» (Charmides)، وكان هَدَفُه أن تستعيد الفلسفةُ الأفلاطونية-الفيثاغورية نقاءها الأصلي وتتحرّر من «الأفكار الدَّخِيلَة». وقد أدّى دوراً كبيراً في تطوُّر «المدرسة الأفلاطونية المحدثة»، لا سيّما من خلال عمله الفلسفي «حول الخير».

ويقول أوريجانوس (Origen): «إنّ نومينيوس الفيثاغوري، الذي شَرَح أفلاطون، والذي كان مُتَعمِّقَاً بفلسفة فيثاغورس، يستَشهِد في مواقع عديدة من أعماله بمقاطع من أديان الشرق، مُستَجلِياً المعاني الخَفِيّة».

يَتَّسِم فكر نومينيوس بأهمية خاصة نظراً إلى الأثر الكبير الذي تَرَكَه على فلاسفة «المدرسة الأفلاطونية المحدثة»، ولا سيّما أفلوطين (Plotinus)، وكذلك فورفوريوس الصُّوري (Porphyry of Tyre) والفيلسوف بروكلوس (Proclus).

بالنسبة إلى نومينيوس، ثمة خطٌّ حِكمَوي متَّصِل ينبثق من المَرجَع الفلسفي الأول فيثاغورس وصولاً إلى أفلاطون مروراً بسقراط، وقد استمر بشكلٍ ما من بعده.

خاتمة

 

نعم، لقد واصل تلاميذُ أفلاطون المُقَرَّبون، وعلى الأخص سبيوسيبوس (Speusippus) وإكزينوكراتيس (Xenocrates) وبوليمون (Polemon)، نَهْجَه الفيثاغوري بعد وفاته، وفي تطبيق الأعداد على الكلمات، والرياضيّات على المفاهيم المجرّدة. وبغض النظر ما إذا كان نومينيوس قد استقَى أفلاطونياتَه من نُخبةِ التلاميذ الذين حملوا مشعلَ مفاهيم أفلاطون الفلسفية المِثالية، فإنّه قد التقطَ هذا المشعل بالفعل ونقله إلى الأفلاطونيين المُحدثين، لكن هل استحقّ هؤلاء ذلك المشعل، وهل نقلوه فيما بعد إلى المُهَيَّأين له؟ للبحث صلة وتتمة.


المراجع

– Philebus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Meno by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Timaeus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedrus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedo by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Kennedy, J. B. The Musical Structure of Plato’s Dialogues. London: Acumen, 2011.
– Kennedy, J. B. “Plato’s Forms, Pythagorean Mathematics, and Stichometry”. Apeiron: a Journal for Ancient Philosophy and Science 43, no 1 (2010): 1-32.
– Lynch, Greg. “Limit and Unlimitedness in the Philebus: an argument for the Gadamerian reading.” Apeiron 46, no. 1 (2013): 48-62.
– R. S. Bluck: ‘Plato’s Life and Thought”.

العقائد غير المكتوبة عند أفلاطون:

تناولت المُحاوَراتُ الأفلاطونية التساؤلاتَ الأساسية لحقائقِ الوجودِ، والنَّفْسِ، والفضيلةِ، والمُثُلِ، والمعرفةِ، والحقِّ والخيرِ والجَمَالِ والسعادةِ والمحبّة والعَدْل، ووقفت عند تلك الحقائق بعُمقٍ فلسفي أذهلَ البشريةَ عبر التاريخِ ولا يَزال يُذهِلها. لكنّها كثيراً ما كانت تُلمِّح ولا تُصرِّح، تُشير تلويحاً بالحقائق ولا تَبُتُّ فيها بالإجابة النهائية، بل هي أحياناً تنتهي بـ «حَيْرة فلسفية» (aporia)، فيما هي في الحقيقةِ تُمهِّدُ المعرفةَ لمَنْ هم مُهَيّؤون لتلقِّيها وفَهْمِها الفهم الصحيح. فما هي هذه الحقائق؟ ولمَنْ احتفظَ أفلاطون بها؟ ولمَنْ نَقَلَها شَفَهِيّاً؟ ومَنْ حَمَل هذه الأمانةَ المعرفيّة الحِكْمَويّة ونَقَلها للأجيال التالية؟ وهل كانت هناك نظريةٌ رئيسية توحيدية في ما بينها؟ إنّ أوّلَ مَنْ تحدَّثَ عن تلك «العقائد غير المكتوبة» لدى أفلاطون هو تلميذُه أرسطو وعددٌ من التلامذة الآخرين في أكاديميّته، فضلاً عن فلاسفة أقدمين.

«العقائدُ الأفلاطونية غير المكتوبة» هي مفاهيم ميتافيزيقية لاهوتية نَقَلَها أفلاطون شَفَهِيّاً لنخبةٍ من تلامذته المُهيَّئين في أكاديميّته وعلى رأسهم أرسطو، التي أشار إليها في أكثر مِن مؤلّفٍ له، لا سيّما «في الطبيعة» (physica)، وفي مقاطع أخرى مِن مُؤلِّفه الشهير «في الماورائيات» (metaphysica)، وهي بمثابة «النظرية الرئيسية» المحورية لجميع مفاهيم أفلاطون الفلسفية.

أرسطو .. “أغرافا دوغماتا”

وقد استخدم أرسطو في إشارةٍ إلى «العقائد غير المكتوبة» لدى أفلاطون (ولأرسطو أيضاً عقائد سرّية غير مكتوبة.. وهذا بحثٌ آخر!!) العبارةَ اليونانية «أغرافا دوغماتا» (agrapha dogmata γραφα δόγματα)، موضِحاً أنّ أفلاطون علَّمها شَفَهِيّاً في أكاديميّته. وكتب أرسطو يقول إنّ أفلاطون استخدم مفهوماً ما في إحدى محاوراته على نحو مختلف ممّا كان يُعلِّمه شَفَهياً «في ما يُدعَى العقائد غير المكتوبة»، وقد اعتبر العلماء وباحثو الفلسفة هذه الشهادة من تلميذه الأول أرسطو خيرَ دليلٍ على وجود تلك الحقائق غير المكتوبة المخصّصة لنخبة من التلاميذ.

للمُهيَّئين فقط!

بل هناك إثباتاتٌ أخرى في الأدبيات الفلسفية القديمة، منها ما ورد في نصٍّ لأحد تلامذة أرسطو يُدعَى أرستوكزينوس (Aristoxenus)، الذي نقل عن معلِّمه أرسطو أنّ ثمة محاضرة لأفلاطون حول «الخير» تشتمل على براهين رياضياتية وفلكية تُثبت وجود «الواحد» كمبدأ أسمى. وكانت هذه المحاضرة مُعدَّة للمُهيَّئين، في حين أنّ «السَّامعين غير المُهيَّئين لم يفهموا شيئاً» منها! وهناك كذلك مقاطع لـ ثيوفراستوس (Theophrastus)، أحد تلامذة أرسطو أيضاً، يتحدّث فيها عن عقائد أفلاطونية سرّية.

ويعزو الباحثون إلى أفلاطون نصّاً فلسفياً يُدعَى «الرسالة السابعة» (Seventh Letter) يُسهِب فيه بالتحدُّث عن العقائد المُنتَقِلة شَفَهِيّاً لمَنْ هم أَهْلٌ لها، وهو ما نجده أيضاً في مقاطع من أعمال تلامذة نخبويين في أكاديمية أفلاطون أبرزهم هيرمودورس السرقُسطي (Hermodorus of Syracuse)، وكذلك تلميذه الآخر سبيوسيبوس (Speusippus)، وثمة إشارة واضحة إلى أُصولها الفيثاغورية. أمّا الإشارات في مُحاوَرات «بارمينيدس» (Parmenides)، «وتيماوس» (Timaeus)، و»الجمهورية» (Politeia)، التي تناولناها في أبحاثٍ سابقة، وكذلك في مُحاوَرة «فيليبوس» (Philebus)، فثمة حقائق فيها لا يمكن فهمها إلَّا تحت أضواء مفهوم «العقائد غير المكتوبة».

«العقائد الأفلاطونية غير المكتوبة هي مفاهيم ميتافيزيقية لاهوتية نَقَلَها أفلاطون شفهيّاً لنخبةٍ من تلامذته المُهيَّئين في أكاديميته وعلى رأسهم أرسطو».

تحفُّظ «على ما هو أثمن»

في مُحاوَرة «فايدروس» (Phaedrus)، على سبيل المثال، يؤكّد أفلاطون بالتفصيل تفوُّق التعليم الشَّفَهِي على ذلك المكتوب في نقل الفلسفة والحكمة لأنّه أكثر استجابة ومرونة وتفاعلاً مع المتلقِّي، وكيف أنّ الكتابة ربما تُضعِف الذهن، وهي تنفع للتذكير وليس للإضاءة على الحقائق الحِكْموية. ويؤكّد أنّ مَنْ بوسعه أن يُعلِّم بهذه الطريقة الشَّفَهِيّة هو الفيلسوف الحقيقي الذي بإمكانه أن ينقل للمُستحقِّين «ما هو أثمن» ممّا يتعذَّر الإفصاح عنه خطّياً، وهي إشارة واضحة إلى «العقائد السرّية غير المكتوبة».

كما أنّ هناك أسلوب «التحفُّظ» (Reservedness) في المُحاوَرات، حيث ينقطع النقاشُ الفلسفي فجأة عندما يبلغ ذروته، في مسائل معرفية هي في غاية الأهمية. ويشير بعض الباحثين إلى أنّ ما جرى التحفُّظ عليه إنّما «احتُفِظ به» لنقلِه شَفَهِيّاً لمُستحقِّين، إذ إنّه غير ملائم للنقاش الظاهري العام، وهذا ما أكده أرسطو أيضاً.

أسرار من أثينا إلى الإسكندرية!

وفيما سادت بعد عهد أرسطو القراءةُ الحرفيّة لمُحاوَرات أفلاطون، انتقلت عقائدُه الشَّفَهِيّة من أثينا عبر نخبةٍ من التلامذة إلى الإسكندرية وغيرها من المدن على المتوسط، حيث انتشرت بعدئذ القراءةُ الرمزية المجازية وفقاً لتلك العقائد، وتزامَن ذلك مع إعادة إحياء المبادئ الفيثاغورية، في ظلال مدرسة «الفيثاغوريين الجُدد» (Neo-Pythagoreans)، وعلى الأخص الفيلسوف نومينيوس الأفامي (Numenius) (القرن 2 بعد الميلاد) الذي ألمحَ إلى أنّ محاورات أفلاطون تنطوي رمزياً على عقائد فيثاغورس، لا سيّما في عمله الشهير «في الأسرار أو العقائد المحفوظة عند أفلاطون» (On the Secrets or Reserved Doctrines in Plato).

ويبدو بذلك أنّ «المدرسة الأفلاطونية المُحدّثة» (Neo-Platonism)، ولا سيّما في القرن الميلادي الثالث، مع مؤسِّسها الفيلسوف أفلوطين (Plotinus) الذي يعتبر نفسه مُفسِّراً مُخلِصاً لعقائد أفلاطون لا سيّما في الماورائيات، قد استندت في فلسفتها المثالية الروحية إلى تلك العقائد غير المكتوبة المُشار إليها.
أمّا الأفلاطوني المُحدَّث ماكروبيوس (Macrobius) (القرن 5 بعد الميلاد) فسلّط الضوء على التفسير الرمزي الماورائي غير الحرفي لأعمال أفلاطون، لا سيّما حينما يتطرّق في مُحاوَراته إلى مِثال «الخير»، وهو ما أكّده الفيلسوف بروكلوس (Proclus) (القرن 5 بعد الميلاد)، في إطار شرحه لمُحاوَرة «بارمينيدس»، حيث يشير إلى «أسرار» المُحاوَرة أو «معانيها العميقة» الماورائية والدينية.

جامعة توبينغن
«مدرسة توبينغن» .. إثباتات

في مقابل تلك المصادر التاريخية العريقة، هناك إثباتاتٌ علميّة حديثة حققتها «مدرسة توبينغن» (Tubingen School) الفلسفية، والباحثون الرئيسيون فيها مقرّهم «جامعة توبينغن» في جنوب ألمانيا، وقد سعوا إلى إجراء تقصٍّ في المقاطع الفلسفية الكلاسيكية والتاريخية لاستبيان تلك العقائد الأفلاطونية السرّية.

جيوفاني ريالي.. «عقيدة الواحد» شفهيّاً!

أبرز المُدافِعين في المدرسة المذكورة عن وجود العقائد الأفلاطونية غير المكتوبة هو الباحث الإيطالي جيوفاني ريالي (Giovanni Reale)، ويُعرَف نَهْجُه بـ «المدرسة الميلانوية» نسبة إلى مدينته ميلانو، وقد أشار إلى أنّ تلك العقائد تتمحور حول أصل الوجود وعقيدة «الواحد»، المبدأ الأفلاطوني الأرقى. وتؤكّد هذه المدرسة أنّ العقائد التي احتفظ بها أفلاطون للنقل الشَّفَهِي إنّما تتعدَّى بشكلٍ كبير المفاهيمَ الفلسفية التي عَبَّرَ عنها في محاضراته العلنية في أكاديميّته أو في مُحاوَراته المكتوبة، وتعتبر أنّ تلك «العقائد غير المكتوبة» هي ثمرة منطقية لفلسفة أفلاطون نحو تفسير التعدُّدية أو الكثرة التي يتسم بها الكون في «وحدة»، وهو في نظرية «المُثُل» يُحاول أن يُخفِّض تلك التعدُّدية إلى عددٍ أقل نسبياً من المُثُل الأساسية ذات التراتبية العليا، وأنّ طَرْح نظرية المُثُل إنّما كان خطوة تمهيدية لوحدةٍ أرقى، لم يُعبِّر عنها أفلاطون كتابياً للعامّة بل تركها للخاصّة من تلامذته في إطار «مهمّته» الأخلاقية والمعرفيّة السَّامية.

تُوضِح هذه المدرسة أنّه ربّما لم يُفرَض على النخبويين «المُهيَّئين» ضمن الحلقة المُختارة أن يلتزموا السرية والصمت إزاء تلك الحقائق، لكنّ هؤلاء التلامذة المُخلِصين لم يكتبوا أي شيء عن تلك العقائد ولم يستخدموها في أعمالهم، بل ألمحَ بعضهم إليها تلميحاً، فيما تحدَّث بعض المؤلِّفين القدامى عن عقائد نقلها تلامذة أفلاطون المُختارين شَفَهِيّاً فحسب. وقد سَعَت «مدرسة توبينغن» إلى تحرِّي تلك الإثباتات والأدلّة المتناثرة في بطون الأدبيات القديمة لإعادة ربط تلك المبادئ، المتصلة بوشائجٍ منطقية وثيقة، بالعقائد الأفلاطونية المكتوبة، والخروج بمفهومٍ واضح يُجلي غوامضَ الماورائيات التي تكمن في المُحاوَرات الأفلاطونية كمصدرِ «المُثُل»، و»الكائن المتعالي»، و»الواحد الفيثاغوري» الذي تنطوي فيه هذه المُثُل الكونية، كما أشرنا في تناولنا لمُحاوَرة «بارمينيدس» (يُميِّز أفلاطون ما بين أرقام الرياضيات في عالمنا الأرضي، والمُثُل الماورائية للأرقام، وهذا ينطبق على «الواحد»)، ومفهوم «الأُصول العُلْوية» (aitia – ατια) للوجود، والمبدأ «الفعّال» (poietikos) والمبدأ «المُنفعل» (pathetikos). كلُّ هذا يَفرض قراءةً جديدة لمُحاوَرات أفلاطون على ضوءٍ فلسفي جديد، إنّما يُفضِي إلى نظريةٍ توحيدية مُوحَّدة.

قراءة مُوحَّدة وفلسفة توحيدية

على سبيل المثال، تشرح مُحاوَراتُ أفلاطون المكتوبة نظريةَ «المُثُل» والوجودَ وعالَمَ الظواهر، لكن في عقائده غير المكتوبة إنّما هناك حقائق حول أصل عالَم «المُثُل» والمبدأ المُتَحكِّم به، الـ «ديميورج» (Demiurge)، الذي أشار إليه أفلاطون في مُحاوَرة «تيماوس»، و»الواحد المُتَعالي» (Transcendent One) عن كلّ الوجود.

نعم، تشير «مدرسة توبينغن» إلى تفسيرٍ توحيدي بديل في العقائد غير المكتوبة للواحد الماورائي المتعال فوق كلّ العِلل والمبادئ المُتَحكِّمَة بالكون، في فلسفةٍ توحيدية تتراءى أطيافُها بشكلٍ خاص في محاورات «بارمينيدس» و»تيماوس» و»الجمهورية» و»فايدروس». ونحن نعلم كيف أنّ أفلاطون مَنَحَ «مِثالَ الخير» في نظريّته في «المُثُل» مكانةَ المبدأ الأول في ما يتعدَّى الوجود المادي، بل هو أصله والمُتَحكِّم به كما في «الجمهورية». ونتذكر ما يقوله في «الجمهورية» إنّ فكرة «الخير» هي كالشمس، مصدر الحقيقة والمعرفة وأنّ «الخير» يقع في ما يتعدّى الوجود الكائن علواً وقوةً.

فندلاي وتشيفر .. تجربة دينية

هذه الخلاصة هي تماماً ما أشار إليه الباحثان جون نيميير فندلاي (John Niemeyer Findlay) وكريستينا تشيفر (Christina Schefer)، اللذان اعتبرا أفلاطون في نهجه الفلسفي بالتالي «مُوحِّداً» (monist). وتُلمِح كريستينا تشيفر إلى أنّه كما في عقائد أفلاطون المكتوبة كذلك في تلك غير المكتوبة لا مجال للإدراك الفلسفي لـ «الكائن المُتَعال»، إنّما أفلاطون يشير إلى تلك الإمكانية فقط في تجربةٍ دينية «لظهورٍ» أو «تراءٍ إِلَهي» (theophany) أشبه بتجربة وحدة الشُّهود الصوفيّة، وهذه تكمن في صميم عقائده غير المكتوبة، ولو أنّه ترك إلماعاتٍ وإلماحاتٍ وإشارات إلى ذلك في مُحاوَراته الرئيسية.

أفلاطون .. رسالة للبشرية

كم مِن باحثٍ في محاولته لتفسير أفلاطون شددّ على أنّ هذا التفسير لا بُدَّ أن يتعدَّى الحرفيّ المكتوب، فأفلاطون هو كاتبٌ عبقري، وعُمق وبُعد وشمول كتابته وعبقريّته أدهشت العلماء عبر العصور. ولا ريب أنّ أفلاطون كان يستشعر عظمة وأهميّة رسالته المعرفيّة، ولطالما أكّد أنّه يكتب «للعصور الآتية»، وهو على لسان سقراط في مُحاوَرة «الدفاع» (Apology) يقول إنّه يستشعر أنّ «الإِلَه قد خصَّهُ بمهمّة أخلاقية» للبشرية. وهذا ما دفع الباحثين إلى التأكيد بأنّ تفسير مُحاوَرات أفلاطون ينبغي أن يتم معاً على الصُّعُد الفلسفية والسيكولوجية والدينية بشكلٍ خاص.
لكن هل هناك تفاصيل أكثر عن عقائد أفلاطون السرّية التوحيدية المحفوظة دون نشر؟ نعم، لكنّنا سنُحافِظ على نَهْجِه ونُبقيها غير مكتوبة، وإذا ما نُقِلَت شَفَهِيّاً.. فللخاصةَ!.


المراجع

– Apology, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– The Republic, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Parmenides, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Timaeus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedrus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Majid Fakhry, Philosophy and Theology: from the Eighth Century CE to the Present, Oxford University Press 2000, pp. 271-273.
– W. T. Jones, The Classical Mind: a History of Western Philosophy (Second Edition) -Harcourt Brace Jovanovich, Publishers, New York, 1970.

اللّاهوت العقلاني والعناية الإِلهية لدى أفلاطون

«الإلَهُ» الواحِدُ (Theos – θεός) هي الكلمةُ الافتتاحية التي استهلَّ بها أفلاطون مُحَاوَرةَ «القوانين» (Nomoi – Νόμοι)، تلك المُحَاورة الأخيرة والأطول التي كَتبَها في سنٍّ متقدِّمة، وجاءت تتمةً لمُحَاوَرة «تيماوس» (Timaeus)، وقد ارتقَت مِنْ الفلسفةِ السياسية والتشريع إلى فلسفةٍ لاهوتية أنطولوجية تتناول الوجودَ والعنايةَ الإِلهية المُقدَّسة «برونويا» (πρόνοια) والتدبير الإِلهي (epimeleia) للكونِ وحياة الإنسان والمخلوقات، وتصلُ إلى ذروتِها في «الكتاب العاشر»، الأكثر إثارةً للتحدِّي الفكري واللاهوتي بين كُتب المُحَاورة الاثني عشر.

تبدأ المُحَاوَرةُ الأفلاطونية الأطول في جزيرة كريت بمُحادثةٍ فلسفية بين ثلاثة رجال مُسنِّين، الأوَّل يُعرَف بـ «الغريب الأثيني»، والثاني إسبارطي يُدعَي ميغيليس (Megilles)، والثالث مُشرِّع وسياسي كريتي يُدعَى كلينياس (Clinias)، وذلك من أجل وضْعِ دستورٍ لمستعمرة كريتية جديدة اسمها «ماغنيزيا» (Magnesia). واللافتُ هو غياب سقراط عن هذه المُحَاوَرة، ولو أنّ ثمة مَنْ أشار إلى وجه الشَّبَه بينه وبين «الغريب الأثيني»!

وعلى الرّغم مِن المَنحى التشريعي لكُتُب «القوانين» الاثني عشر، فإنّ هذه المُحَاوَرة هي كشأن «الجمهورية» (Politeia – Πολιτεία) لا تختص فحسب بفلسفة سياسية أو تشريعية إذ إنّها تُناقِش بإسهاب البُعْدَ اللاهوتي للوجود وعِلْمَ النَفْس الأخلاقي، بل تضع أُسسَ الأخلاقيات الأفلاطونية، وحقائقَ إبستمولوجية وماورائية، فيما يمكن أنْ يُطلَق عليه «عِلْم لاهوت عَقلاني» (Rational Theology).

روبرت مايهيو
عُمق لاهوتي

 

يحتلُّ موضوعُ الوجودِ الإلهي والعِناية الإِلهية موقعاً محورياً في «القوانين»، وربما لهذا السبب أهملها معظمُ الباحثين الغربيين لا سيّما المعاصرين منهم، فيما أساءَ البعضُ الآخر ترجمتها وتفسيرها (وهذا ما أشار إليه الباحث روبرت مايهيو Robert Mayhew، الذي شدّد على الحاجة لترجمةٍ أكثر مُراعاة للمعاني الضمنيّة في النص الأفلاطوني) بسبب طغيان البُعد المادي على مفهوم الكون والطبيعة والوجود عند مَنْ تناول هذه الفلسفة، بدلَ أنْ يُسلِّطوا الضوءَ في المقابل على حُجَج أفلاطون في إثبات وجود الإله الأوحد وحكمته وعنايته في الكون المخلوق بإرادةٍ منه. إذ إنّ هؤلاء الباحثين لانغماسهم في المفاهيم المادية لم يقرؤوا هذه المُحَاوَرة بصبرٍ، وبُعْدِ نظرٍ معرفي، وحُكْمٍ عقلاني في محاولةٍ لفَهْم عُمقِها اللاهوتي الماورائي، سيّما وأنّ المُحَاوَرة تبدأ مِن كلمتِها الأولى بمفهوم الوجود الإِلهي:
الإلهُ أم الإنسانُ هو مَنْ يَضعْ القوانينَ أيُّها الغَريبان؟ يسألُ الغَريبُ الأثيني.
كلينياس: الإِلهُ أيُّها الغَريب .. حقّاً هو الإِله!

دلالات ما وراء اللغة

وفيما كُتِبَ نصُّ مُحَاوَرة «القوانين» بلُغّةٍ يونانية صعبة ذات عباراتٍ وإيحاءاتٍ ودلالاتٍ «فيلولوجية» (philology) لغوية لا يَفْقَهُها إلَّا مَنْ استشفَّ ببصيرته مغزى أفلاطون الحقيقي، أساءَ الباحثون في الغرب استخدام المعنى الفعلي للمصطلحات الإغريقية التي اعتمدها في هذه المُحَاورة، لا سيّما ما بين صيغة الفرد أو الجمع. فعلى سبيل المثال، كلمة «ثيوس» (Theos)، التي يستخدمها أفلاطون للدلالة على الإِله الأسمى، الخالِق المُتَعالِي الذي لا يعتريه تغيير، واستخدامه مِن ثم هذا المصطلح في تصريفٍ فيلولوجي بصيغة الجمع «ثوي» (Theoi – θεοί) في دلالة إلى الكائنات العُلويّة، العِلل الأُوَل (aitia – αἴτια)، فيُصيغها هؤلاء بأنّها «آلهة» (وذلك حسب أهواء المُتَرجِم الغربي عن اليونانية فلا يُراعِي السياق، فهي على سبيل المثال قد استُخدِمَت في الترجمة اليونانية للإنجيل للدلالة على الحُكّام البشر!)، متغافِلين عن العبارات الدقيقة التي تُوضِح مفهوم أفلاطون لخالِق الكون المُدبِّر بعنايته الإِلهية للإنسان وجميع المخلوقات. بل إنّ أفلاطون قد استَهلَّ «الكتابَ العاشر» بدوره بفقرةٍ ذات مغزى بالتأكيد، تُشدِّد على الحاجة إلى وضع قانونٍ خاص ضدّ انعدام التَّقوى (impiety)، أي عدم الإيمان بالعَلِيّ، وهو ما سَعَى إلى صَوْغِه ومناقشتِه بإسهاب في نهاية هذا الكتاب الفريد.

«كان لأفلاطون تأثيرٌ كبير في تطوُّر عِلْم اللاهوت من خلال إثباته الأنطولوجي لوجود “الإله الواحد الحق”».

إثبات أنطولوجي

تُشكِّل مُحَاوَرةُ «القوانين» أقدمَ حُجَجٍ عقلية لإثبات وجودِ الخالق العَلِيّ وعِنايتِه المُقدَّسة للكون والإنسان، فيما يُشكِّل «الكتابُ العاشر» منها مَصدراً أساسياً ومُنطلقاً لفَهْم التطوُّر الأوَّليّ للفلسفة اللاهوتية.

ومِن هذا المُنطلق، كان لأفلاطون تأثيرٌ كبير في تطوُّر عِلْم اللاهوت لاحقاً، وذلك من خلال إثباته الأنطولوجي لوجود «الإله الواحد الحق» (Ho Theos) والإضاءة عقلانياً على مفهوم «الأَحدية» (Monotheism) بمواجهة أباطيل «تعدُّد الآلهة» (Polytheism).

فالإثباتُ الأنطولوجي يتوضَّح في قراءتِه الفلسفية للحركة المُتَناغِمة بدقّةٍ رياضيّاتية للكواكب والأفلاك والنظامِ العام للكون، بما يؤكد وجودَ مبادئ عُليا أُولَى مُحرِّكة هي بدورها عِلل مَخلوقة: كلُّ حركةٍ أو تغيير إنّما يعود إلى كينونةٍ مُتحرِّكة بذاتها، وهي كينوناتٍ حَيَّة أي تملك القوة على إحداث الحركة أو التغيير، وأنْ نقول حَيَّة فهي ذات نَفْسٍ خالدة مصدر كلّ حركةٍ أو تغيير. وهكذا فإنّ المبادئ الأُولَى للكون المادي هي نفوسٌ تُحرِّك الكينونات المادية، وتلك النفوس، أصل حركة الأجرام السماوية، ترقَى بحركتها إلى «نَفْس الكون» (psyche – ψυχή)، كما أشار في «تيماوس»، وإلى عِلّتها جميعاً العقل الكوني «نوس» (nous – νόος)، كما أوضح في مُحاوَراتٍ عديدة، وهكذا تكون تلك المبادىء الأُولَى أرقَى مِنِ الجسد والمادة وقد أَوجَدَها خَالِقٌ مُتَعال يُدبِّر الجميعَ بعنايته الإِلهية، كما أثبت في «الكتاب العاشر» من «القوانين».

لكن لا مجالَ لفَهْمِ هذا المَنحى اللاهوتي للكون إلَّا بوحيٍّ من التَّقوى، والعِفَّة، وصفاء العقل، وطهارة النَّفْس والتكرُّس الرُّوحاني. فأنَّى لمَنْ افتقدَ التُّقَى أنْ يَفهمَ ذلك؟ لذلك سعى أفلاطون هنا إلى تصحيح المفاهيم تجاه «الإِله الواحد» من خلال الإضاءة على مفهومِ التَّقوى والإيمان الصحيح، تماماً كما فعل في مُحَاورة «يوثيفرو» (Euthyphro).

وما تغافل عنه الباحثون الغربيون هو أنّ أفلاطون يشير في معظم أنحاء «الكتاب العاشر» إلى وحدانيّة الإِله لا إلى تعدُّد الآلهة، وهم لا ينفكّون يُسيئون تفسيرَ إشاراتِه إلى «النُّفوس» العُليا التي تُحرّك الأفلاك السَّمَاويّة بإرادةٍ من العقل الكوني. وإنّما هو يؤكِّد أنّ تلك المُدبِّرات هي «عِللٌ» مَخلوقة «لا آلهة».

فعلى سبيل المثال، حينما يريد سقراط أن يُقسِم في مُحَاوراتٍ أفلاطونية مثل «الدفاع» (Apology) (حيث يقول إنّه حاول طوال عمره أن يُطيعَ «أوامرَ الإِله»، بانتهاج حياة فلسفية حكموية) و»كريتون» (Crito) و»فيدون» (Phaedo) وغيرها، فإنّه يُقسِم باسمِ إلهٍ واحد وليس آلهة، فلماذا إذاً حوكِمَ بتهمة حَثَّ الشباب في أثينا على عدم الإيمان بتعدُّد الآلهة لدى الإغريق؟ أليس هذا ما أدَّى إلى إعدامه بالسُّم؟ ذلك يبدو جلياً أيضاً في «الكتاب الثاني» من «الجمهورية» حيث يُفنِّد أفلاطون «أكاذيبَ» أساطير تعدُّد الآلهة.

نقش للكتاب العاشر

فلو تعدَّدت الآلهة لبَات لِزاماً أن تتعدَّد التَّقوَات والعِبَادات، بل التّوبات والثوَابات والعِقابات، واستحال الأمرُ هَرَجاً كونياً! (وهذا ما استدركه أرسطو لاحقاً على هُدَى معلِّمه أفلاطون بقوله «لا بُدَّ أن يكون هناك حاكمٌ واحد للكون»).

فهؤلاء الآلهة عند الإغريق، بحسب أساطيرهم، كانوا يفتقدون إلى الأخلاق والحِسّ الإنساني والرَّحْمَة بل يتحاسدون ويتنافسون في ما بينهم، ويذكُر أفلاطون التَّورِية السَّاخِرة للكاتب المسرحي الإغريقي أوريبيدس (Euripides) حينما قال في إحدى مسرحياته في إشارةٍ إلى أساطير الآلهة الشخصية المتعدِّدة: «إذا كانت الآلهةُ تقوم بمثل تلك الأشياء (أي الأعمال المُفتَقِدة إلى الأخلاقيات) فهي لم تعُد آلهة!».

والإشارةُ واضحة في «القوانين» كشأنها في «تيماوس» الذي مهَّدَ بها لمفهومه اللاهوتي: «إنّ اكتشاف خالق الكون هو حقّاً مهمّة صعبة، لكن بعد ذلك التحقُّق سيكون من المُحال أنْ تُنقَل هذه المعرفة إلى الآخرين»، وهو أشبه بالتحقُّق الذَّوقي الصُّوفي!

دين وإيمان وقداسة!

 

هذا الإِلهُ في المفهومِ الأفلاطوني، المُتَعال عن الموجودات، اللامتغيِّر، المُتَّسِم بالكمال المُطلَق (وقد لَفَت الباحثون إلى مدى تأثير مفهوم أفلاطون هذا على علم اللاهوت فيما بعد)، الأرقى من التسمّيات (توقيراً وتقديساً وتعالياً، ولا سبيل لفهم هذا المنحى الديني لدى أفلاطون إلا بقراءة مُتأنّية لجميع مُحَاوراته لتكتمل الصورة!)، كما في «الجمهورية» و»بارمينيدس» (Parmenides) و»تيماوس»، هو وفق ما يؤكّده في مُحَاوَرة «القوانين»: «مقياسُ كلّ الأشياء»، في ردٍّ واضح على المَقولة الشهيرة للفيلسوف السُّفسطائي بروتاغوراس (Protagoras) «الإنسان هو مقياس كلّ الأشياء»، وبذلك يعود أفلاطون كشأنه في أبرز مُحَاوراته إلى الجانب الدِّيني الرُّوحي والأخلاقي لفلسفته.

وهو كان قد أشار في مُحَاورة «فيدون» إلى أنّنا مِنْ دون نُور هذا الإيمان بالإِله الواحد نَغْرَق في ظَلامٍ على غير هُدَى، حيث يقول جملته الشهيرة: «هناك في داخل كُلٍّ منّا طفلٌ يخشَى جميع الأشياء، غارقٌ في ظَلامٍ دامِس» موضِحاً أنّ لا نُورَ ولا هُدَى له إلَّا الإيمان بذلك الإِله المُتَعال، الذي تتوق النُّفوس والعقول للعودة إلى مملكته العُلوية المقدَّسة، ولا سبيل إلى ذلك سوى بالتشبُّه بالمُثُل الإلهية الأخلاقية، وأنْ نغدو حُكماء وعادِلين ومقدَّسين! وهذا ما عاد وأوضحه تماماً في مُحاوَرة «القوانين»، محور هذا البحث، كشأنه في مُحَاوَرتي «ثياتيتوس» (Theaetetus) و»الجمهورية».

ويختصرُ أفلاطون في «الكتاب العاشر» مغزَاه مِن مُجمل مُحَاوَرة «القوانين» بقوله على لسان كلينياس: «الدفاعُ عن الإيمانِ بالإِله الواحد هو خيرُ مُقدِّمةٍ لجميعِ القوانين!» وبالتالي المُقدِّمة لإرساء العَدْلِ والحُكْم العادِل، في دلالةٍ سياسيّة واضحة للعودة إلى مَنْبَعِ الإيمان. ويقول في إلمَاعَاتِه التي لا يَسبر أغوارَها إلا الراسخون في «حُبِّ الحكمة»: «حيثُ يسودُ الحُبُّ، لا حَاجةَ للقوانين»، وكذلك «الصَّالِحُون لا يَحتاجون إلى قوانين لتُعلِّمُهم كيف يَتصرَّفون بمسؤولية..».

إثباتٌ للوجودِ الإلهي بالحُجَجِ العقلية، وإيمانٌ بصُدقٍ ديني.. لهذا يستحقُّ أفلاطون القولَ عنه إنّه: «أبُو عِلْمِ اللاهوتِ العقلاني»، وها هو في خُلاصة «القوانين» يتساءلُ بإيمانِه الدِّيني: «أيُّ مَعنى للكَونِ وأيُّ مقياسٍ للحياةِ يكون مِنْ دُونِ الغايةِ الدِّينية الأخلاقية وهي مَنَارتُنا في السفرِ برحلةِ الوجود؟». إنَّ معنى الكونِ والحياة هو حقاً الإيمانُ الدِّيني «بإلهٍ مُتَعالٍ، خَالقِ الكَونِ والعِلَلِ والإنسان، ومُدبِّرِ مَصيرِه بعِنايتِه الإِلَهية!».


المراجع

– Laws, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Robert Mayhew, Plato: Laws 10, Oxford University Press, 2008.
– Friedrick Solmsen. Plato’s Theology. New York: Cornell University Press, 1942.
– I.M. Crombie, An Examination of Plato’s Doctrine. Vol.2. New York: Humanities Press, 1963.
– U. Von Wilamowitz, Platon, vol. 1 (Berlin 1920).
– W. K. C. Guthrie, A History of Greek Philosophy, vol. 2 (Cambridge 1965).
– J.N. Findlay, Ascent to the Absolute. New York: Allen and Unwin Ltd, 1970.

أفلاطون والبُعْد الهَندسي الرُّوحاني للكون في مُحاورة “تيماوس”

 

لطالما أَسَرَت صورةُ الكونِ المَخلوق بإرادةٍ إِلَهيّة، وبحكمةٍ عقلية عُلْوية، خيالَ أجيالٍ عديدة من الفلاسفة والمُفكِّرين واللّاهوتيين عبر العصور، لا سيّما كما تتراءى في مُحاوَرة «تيماوس» (Timaeus – Τίμαιος)، التي سعَى أفلاطون من خلالها إلى الردّ على الأسئلة الفلسفية التي سادَت قبل عصر سقراط، حول نشأة الكون وأصل العالم المادي المحسوس، بحقائق ميتافيزيقية متناغمة وموحَّدة، آلفت ما بين العناصرَ التقليدية الأربعة، الماء والهواء والأرض والنار، كما تصوّرها الفلاسفة طاليس (Thales) وأنكسيمندر (Anaximander)، وأنكسمينيس (Anaximenes)، وهراقليطس (Heraclitus) وجمعها معاً إمبيدوقليس (Empedocles)، لكنّها بحد ذاتها مؤلّفة مِن أشكالٍ رياضيّاتية هندسية تُحدّد كينوناتها مُثّلثات متشابهاتٍ وغير متشابهات، وهذا بالطبع تأثُّراً بالفكر الفيثاغوري. ولذلك شكَّلت مُحاوَرة «تيماوس» مُنطلقاً أساسياً لعِلْم «الكونيات» و»نشوء الكون» وحتى عِلْم الذرّة!.

الـ «ديميورج» والبُعد الأخلاقي الديني

يُوضِح أفلاطون في هذه المُحاوَرة سرَّ النظامَ والجَمال والتناغُم والتناسُب في الكون، فهو بالنسبة إليه تُحفةُ «صانعٍ» إِلَهي، و»أبٍ» عَقلانيّ، يسمّيه الـ «ديميورج» (Demiurge – dēmiurgós – δημιουργός)، الذي أَوجدَ الكون (Cosmos) «الحي» صورةً عن نموذج أزلي لا متغيِّر (منطوٍ فيه كما تشير محاورات أخرى ووفق تفسير الأفلاطونيين الجدد لاحقاً)، وعمّم فيه نظاماً رياضياتيّاً ونفْساً كونية وأوجد «الزمن» بحركة الكون الوليد. وهذا «الديميورج» عاقلٌ للمُثُل الأُوَل ومحرِّكٌ لكلّ قِوَى الكون دونَه وفق مبدأ «غائي» (teleological) عقلاني. وهو بالتالي «خيرٌ أسمى» عُلْوي لا مثالبَ فيه (في انتقادٍ واضح لمفهوم الآلهة الإغريق الوثنيين، وعلى رأسهم زيوس، الذين تملأهم الغيرة والحسد والكراهية والشّر والتنافس). ولأنّه خيرٌ سعَى إلى أن يكون الكون الذي أوجدَه «بديعاً وجميلاً بقدر ما أمكنه»، متَّخذاً نموذجاً له عالَم المعقولات، المُثُل الأزلية، لا المحسوسات، ظلالها المادية على الأرض.

تنطوي مُحاورة «تيماوس» بالتالي على بُعدٍ أخلاقي وديني. وقد اعتبر الباحثون أنّ هذه المُحاورة هي ذروة الإنجازات الفكرية والفلسفية لأفلاطون (ولذلك حرَصَ الرسّامُ الإيطالي رافاييل على رسم أفلاطون في لوحته الشهيرة «مدرسة أثينا» مُمسِكاً بكتابه «تيماوس») بل نقطة مِفصَليّة في تاريخ الفلسفة، وهي تُثبِت أنّ الغاية القصوى لجميع أعمال أفلاطون دينية!

لوحة «مدرسة أثينا»

تبدأ مُحاورة «تيماوس» مع أربع شخصيات: سقراط وتيماوس وكريتياس (Critias) وهيرموكراتيس (Hermocrates)، حيث يسعى الثلاثة إلى الردّ على خطابٍ لسقراط ألقاه قبل يومٍ من وحي «الجمهورية». فوصل الدور إلى تيماوس فاستهلّ خطابَه مستَعرِضاً المبادئ الميتافيزيقية التي سيستند إليها في سَرْدِه عن نشوء الكون المُفضِي إلى خلق الإنسان. فبدأ بالحديث عن شخصية «الصَّانِع» ذلك الوسيط الإِلَهي العاقل «نوس» (العقل الكوني وهو المبدأ الذي تحدَّث عنه الفيلسوف أنكساغوراس Anaxagoras) وكذلك عن النموذج الأزلي (المُثُل). وقد وجد شارحِو نصوص أفلاطون صعوبةً في استجلاء حقيقة موقفه من «الديميورج» وهو فوق المُثُل وصورها في مُحاورة «تيماوس» حيث يقول: «إنّ صانِع وأب الكون يصعُب اكتشافه وحتى عند التمكُّن مِن ذلك مِن المُتعذِّر توضيحه لجميع البشر». وعندئذ أكّد أنّه فقط يطرح سرداً مُرجَّحاً أو مُحتملاً (eikos) عن طبيعة الكون «فأنا السَّارِد فَانٍ وأنتُم المُستَمِعون فَانون». وهنا يشدِّد الباحثون على وجوب ألَّا تُقرأ مُحاوَرة «تيماوس» حرفياً بل مَجازياً، إذ ثمة إشارات في مُحاوَراته الأخرى (ومنها «بارمينيدس» Parmenides) إلى أنّ «الديميورج» هو أيضاً مخلوق و»وسيط للواحد» للمباشرة بهذه المهمة، وهو ما سادَ لدى الأفلاطونيين منذ تلامذة أكاديميته وصولاً إلى فلاسفة «الأفلاطونية المُحدَّثة» وعلى الأخص أفلوطين (Plotinus).
وتنتظم المُحاورة في ثلاث مراحل: الأولى تتحدَّث عن إنجازات «الديميورج»، ومن ثم عن تأثيرات «الضرورة»، وأخيراً عن الحقيقة السيكولوجية للإنسان.

ويتحدّث تيماوس بعدها عن الحكمة الغائية من وراء خَلْق الكون، فالكونُ خيّرٌ لأنّ مصدره «الخير الأسمى»، أي «الصَّانِع»، وهو كائنٌ حَي «لأنّه مهيَّأ للعقل»، وهو فريدٌ لأنّه على مِثَال نموذجٍ أعلى. وجسدُ الكون كروي مؤلّف من نار (للرؤية)، وأرض (للّمس) (لكن في ما بين هذَين العنصرَين هناك واسطة عُنصرَي الهواء والماء بالتناسُب لتدمُج في ما بينهما في كُلٍّ مُوحَّدٍ ومتناغِم). والأجرام السماوية مقدَّسة، وتتحرّك في أفلاكٍ مختلفة كعلاماتٍ للوقت، وكذلك النجوم الثابتة كدلالةٍ على الليل النهار، وحركة القمر مقدّرة للشهر القمري وحركة الشمس للسنة. وقد وُجِدَ الزمنُ بحدّ ذاته بفضل هذه الحركة السماوية بصفتها «صورة للأزلية».

ويقول «أوجدَ «الصَّانِعُ» الشمسَ، والقمرَ، والكواكبَ لكي يستحدث الزمن. وهذه الكواكب تُدعَى «سيَّارة» وتحرس الزمن… والناسُ يجهلون واقع أنّ الزمن هو حقّاً حركة تلك الأجسام السَّيّارة».
وبالتالي تؤكّد مُحاورة «تيماوس» بداية الكون في زمنٍ، وكذلك بداية الزمن بحدّ ذاته ببداية الكون وحركته (ويبدو الكون صورة متحرِّكة عن عالم المُثُل وكذلك الزمن هو صورة متحرِّكة عنه أيضاً أشبه بساعةٍ سماوية).

«إنّ هذا الكونَ البديع المُتناغِم بتناظُرٍ هندسي هو تحفةٌ لعقلٍ كوني لولاه لَمَا كان ثمة وجودٌ ولا نظام»
«مُحاورة تيماوس ببُعدها الهندسي الرُّوحاني هي مُنطَلقٌ لعِلم الكونيّات وعِلم الذرّة».

ومن ثم ينتقل إلى خَلْق «نَفْس الكون» بتناسُبٍ متناغِم، وقواها الإدراكية بالنسبة إلى «ما هو كائن» أو عالَم المُثُل العقلية، وما هو سيكون أو عالَم «الصيرورة» الفاني. والأَنفُس الفردية جزءٌ من هذه النفس الكونية تستوطن أجساداً مادية. ويقول أفلاطون إنّه بالتربية والتعليم المناسبَين تسترجع النَفْسُ ذكرى مصدرها العُلْوي، وإنّ الجسدَ وأعضاءه قد صُمِّموا لدعم هذا الهدف الأرقى، ويأخذ تيماوس مِثالاً على ذلك تصميم العينَين وآلية الرؤية. ليُلمِح إلى أنّه في ذلك التناغُم بين النفس الفرديّة ونفس الكون تكمن الفضيلة والسعادة.
ويُؤكّد تيماوس أنّ هناك فارقاً بين «ما هو كائنٌ دائماً ولا صيرورة له وما يكون أو يصير ولم يكن أبداً». ويُوضِح برابطٍ إبستمولوجي أنّ الأول يتم استيعابه بـ «الفَهم» (noèsis) و»التفكير العقلاني» (logos)، أمّا الثاني فعبر «الرأي والقياس» (doxa) الذي يعتمد على «الإدراك الحِسِّي»، وهو ما أشار إليه أفلاطون في «الجمهورية» بتمييزه بين الصور أو المُثُل العليا وعالم المحسوسات أي عالم الصيرورة بعد وجود الكون. ولم يُشِر تيماوس إلى الصور أو المُثُل إلَّا في وقتٍ لاحق من المُحاورة في إجابةٍ على ما سَبَق وجود المحسوسات.
وهذا البسط الميتافيزيقي وبُعده الإبستمولوجي يُمهِّدان لنظريّته في نشوء الكون المادي على أيدي «الصَّانِع»، «الخير الأسمى» لغايةٍ علوية.

الذرّات الهندسية

 

في الجزء الثاني الرئيسي من مُحاوَرة «تيماوس»، ينتقل أفلاطون إلى السؤال الفلسفي القديم: ممّ صُنِعَ الكون؟ وقد جاءت إجابته بمثابة تآلُفْ بين مختلف الأفكار الفلسفية التي سَبَقته.. بل تعلوها وترتقي فوقها لتُحلِّلها بأشكالٍ رياضياتيّة هندسية. يتحدَّث أفلاطون كيف بدأ «الصَّانِعُ» بإنشاء العناصر الأربعة للوجود المادي (النار الهواء الماء الأرض) لتكون لَبِنات البناء الرئيسية للكون. وكلٌّ من هذه العناصر يتألّف من جُزيئات أوّلية هي أشكالٌ هندسية منتظمة تملك أوجهاً تتألّف بدورها من نوعَين فحسب من المثلّثات ذوات الزوايا القائمة – وهما «المثلث المتساوي الأضلاع» (equilateral)، ويتألّف بدوره من مثلّثات «مختلفة الأضلاع» (scalene)، و«المثلث المتساوي السَّاقَيْن» (isosceles)، وإنّما هذان النوعان من المثلّثات هي بمثابة ذرّات الكون أو الجواهر البسيطة للوجود المادي. ونظراً إلى تشابُه هذه المثلّثات في عناصر النار والهواء والماء فيمكن أن تتحوَّل إلى بعضها البعض في حين أنّ الأرض التي تتألّف عناصرها من مثلّثات «متساوية السَّاقَيْن» فحسب لا تخضع لهذا التحويل. والتبايُن والتفاعُل ما بين هذه العناصر هو الذي يُسبِّب الحركة في هذا العالَم المادي الكروي الإحاطة.

إذاً، وبشكلٍ أكثر تفصيلاً، تتألّف الأجسامُ جميعاً من جزيئات هي أشكالٌ هندسية ذات عُمقٍ ثلاثي الأبعاد وبالتالي لها أسطح. وكُلُّ سطحٍ محدَّد بخطوطٍ مستقيمة مقسَّمة إلى مثلّثات، كلُّ مثلّثٍ منها ينقسم إلى مثلّثات قائمة الزاوية، هي إمّا مثلّثات «متساوية السَّاقَيْن» مع زاويتَين قائمتَين 45 درجة، أو مثلثات «متساوية الأضلاع» ترتسم من مثلّثات «مختلفة الأضلاع». وهناك نوعٌ واحد فقط من المثلّث «المتساوي السَّاقَيْن» القائم الزاوية (isosceles right triangle) وهو مثلّث بزاويا º45-º45-º90 درجة، في حين أنّ هناك أنواعاً لامتناهية من أشكال مثلّثات «مختلفة الأضلاع» لعلّ أتمّها هو الذي يبلغ طول وتره (hypotenuse) ضعف طول الضلع الأقصر، وزوايا هذا المثلّث هي º30-º60-º90 درجة. أمّا المربّع فيتألّف من مثلّثات «متساوية السَّاقَيْن» فحسب.

وبذلك تتكوّن جُزيئياتُ العناصر الأربعة الذرّية من تلك الأوجه. فعلى سبيل المثال جُزَيء عنصر النار هو ذو شكلٌ هندسي هَرَمِي «رُباعِي السُّطوح أو الأوجه» tetrahedron، وجُزيء عنصر الهواء هو ذو شكلٌ «ثُماني الأوجه» octahedron، وجُزيء عنصر الماء هو ذو شكلٌ «عشريني الأوجه» icosahedron (أي له 20 وجهاً)، أمّا الأرضُ فشكلُ جُزيء عنصرها هو «مكعّب» cube (ذو ستة أوجه مربّعة متساوية). وهناك شكلٌ هندسيٌّ أفلاطوني خامس هو «ذو اثنا عشر وجهاً» (dodecahedron)، وأوجهه ليست مثلّثات بل أشكال خُماسية الأضلع، ويُمثِّل شكلَ الكون لأنّه أقرب ما يكون إلى شكل الدائرة، أكمل وأقدس الأشكال في الفكر الأفلاطوني. وهنا كما سبق القول فإنّ التحوُّل بين العناصر لا يحصل إلَّا على مستوى المثلّثات «المتساوية الأضلاع» وهي عناصر النار والهواء والماء، أمّا الأرض التي شكلُ عنصرها «مكعّب» فلا تحوُّل فيها إلى العناصر الأخرى.

وبذلك تختلف «النظريةُ الذرّية» عند أفلاطون، التي تستوحي الأُسسَ الرياضيّاتية الفيثاغورية للكون في ذرّاتها الهندسية، عن نظرية ديموقريطس (Democritus) المستَنِدة إلى ذرّاتٍ مادية مختلفة الأشكال والأحجام.

الهندسة الفيثاغورية المقدَّسة

لقد جاء أفلاطون ليضع على خطى فيثاغورس أُسساً رياضيّاتية هندسية تُوازِي أرقامه كأساسٍ لوجود الكون المحسوس. ولذلك نفهم عبارتَه الشهيرة فوق باب أكاديميته: «لا يدخل أكاديميتي مَنْ لا يعرف الهندسة» (γεωμέτρητος μηδεὶς ε ἰσίτω) باعتبار الهندسة والرياضيات من العلوم المقدَّسة التي تُفضِي إلى معرفة حقائق الوجود ولا سيّما من ناحية ما يُسمَّى «الأشكال الهندسية الأفلاطونية» (Plato Solids) التي تُشكِّل لَبِنات العناصر الأربعة الرئيسية التي يتكوَّن منها العالم المادي. وذَكَرَت بعض المصادر ومنها الفيلسوف الأفلاطوني المُحدّث بروكلوس (Proclus) أنّ الأشكال الهندسية الأفلاطونية إنّما تعود في الأساس إلى مُكتَشِفها فيثاغورس. وفي هذا السياق تذكُر بعض المصادر الكلاسيكية أنّ ثمة كتاباً تأثَّر به أفلاطون في تأليف «تيماوس» وَضَعه الفيلسوفُ فيلولاوس (Philolaus) وهو حول فيثاغورس، وقد حصل عليه أفلاطون من حاكم سيراكوزا في صقلية، الذي كان قد اشتراه من فيلولاوس.

كيمياء وفيزياء ومعادلات رؤيوية

ما لفتَ العلماءَ المعاصرين حقاً هو تحدُّثُ أفلاطون عن إمكانية تحوُّل الجُزيئات المكوِّنة للعناصر الأربعة (عناصر إمبيدوقليس) فيما بينها وتلاقي زوايا المثلّثات في أوجهها الهندسية واتحادها بما يشبه الروابط الكيميائية بين الذرّات والجُزيئات، وهو ما اعتبروه أولَ نظرية للتفاعُل الكيميائي في التاريخ، لا سيّما وأنّ هذه الهندسة الذرّية هي على المستوى الجُزيئي والذرّي وما دون الذرّي. وقد كُتِبَت هذه المعادلات الأفلاطونية برمزيةٍ كيميائية تتماثل مع علم الكيمياء المُعاصر، بل أيضاً مع علم الفيزياء النظرية. فعلى سبيل المثال جاء الاكتشافُ الحديث (في العام 2014) لجُزيء الـ «بوروسفيرين» (Borospherene) السُّباعي الأوجه شبه الكروي وتركيبته الجُزيئية البديعة المؤلّفة من 48 مُثلّثاً تُشكِّلها 40 ذرّة «بورون» (Boron) مُتَحابِكة في تناظُرٍ مُثلّثاتي ليُعيد الذاكرة إلى الهندسة الذرّية «الرؤيوية» لأفلاطون في «تيماوس».

بل إنّ عِلم «الديناميكيا» الحديث يؤكد مصداقية هذه النظرية الأفلاطونية، فالشكلُ الهَرَمِي في «تيماوس» نُسِبَ إلى النار بسبب صغره وزواياه الحادّة وبالتالي حركيّته العالية، أمّا المكعّب فنُسِبَ إلى الأرض لأنّه مناسب للسطح المستقرّ وثقله. ونُسِبَ الشكل الهندسي الثلاثي الأبعاد «الثُماني السُّطوح» (octahedron) إلى الهواء بسبب حركيّته الأكثر خفّة، في حين بَقِيَ للماء الشكل «العشريني الأوجه» الأكثر انسياباً في لغةٍ تُشابِهُ، فيزيائياً وكيميائياً، علومَ الفيزياء النظرية الحديثة، من حيث عالَم ما دون الذرّة القابل للتجزئة والتحوُّل.

البُعد الرُّوحاني للتنظير الهندسي الأفلاطوني

اغتنمَ أفلاطون «التحليل الهندسي» لتوضيح الفَرَضِية الفلسفية والإثبات الجَدَلي المنطقي، فالفَرَضية الهندسية تبدأ بافتراض ما يتعيّن برهانه ومن ثم الإثبات أنّ الافتراض يؤدِّي إلى حقيقة راسخة لا خاطئة، وأفضل ما يتجلَّى ذلك في استجواب سقراط للعَبْد في اختبار المربّع الشهير في مُحاوَرة «مينون» (Meno) في محاكاةٍ للأبعاد الهندسية لعالَم المُثُل.

ولماذا اعتمد أفلاطون التنظيرَ الهندسي الرياضياتي للحقائق فلأنّ الرياضيات تستمدّ موضوعاتها من التصوُّرات الذهنية لقضايا مجرّدة مجالها فحسب التصوُّر العقلي المُبدع المحض، في حين أنّ العلوم التجريبية ترتكز على وصف الأشياء الحسيّة. والعقلانية الأفلاطونية ترى في استنادها إلى الحقائق الهندسية الرياضياتية والمجرّدة أنّ مبادئ المعرفة فطرية. فها هي مبادئ الرياضيات قائمة في العقل أي متأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً (a priori) من غير تعليم ولا استدلال تجريبي (a posteriori). فالخط المستقيم والمثلث والمستطيل والدائرة والمربّع هي تصوُّرات رياضياتيّة هندسية بَدْهيّة، والنفسُ في تصوُّراتها الهندسية تُحلِّق في عالم التجريد إلى مَراقٍ فيثاغورية عُليا حيث تلوح لها هناك ظِلالُ المُثُل الأفلاطونية.

وبذلك بَدَت الرياضيات الأفلاطونية «أشرف العلوم» لأنّها علم عقلي محض مستقلّ عن الأمور الحِسّية، وبناء فكري تجريدي يرتكز إلى فَرَضيات لا تحتاج في إثبات صدقيّتها سوى إلى الخلو من أي تناقض داخلي. إنّه ذلك البُعد الهندسي الذي ينتقل بالحقائق إلى عالم المُثُل الرُّوحاني الأفلاطوني.
وفي القرن السابع عشر، سعى الفيلسوف هنري مور (Henry More)، زميل العالم التجريبي الشهير إسحق نيوتن (Isaac Newton) في جامعة كامبريدج، إلى أن يُضفي بُعداً هندسياً على العالم الأفلاطوني المثالي الرُّوحاني، بل أن يُضفي على العالم الهندسي الرياضياتي بُعداً روحانياً أفلاطونياً. فهو اعتبر من وحي أفلاطون أنّ «العالم الرُّوحاني» (Spiritual Realm) يتمدّد هندسياً في «بُعدٍ رابع» (4 dimension) أطلق عليه تسمية Spissitude.

ومن وحي هذه المُحاوَرة، قال العالِمُ الفيزيائي ألبرت أينشتاين (Albert Einstein): «إنّ قناعتي الوجدانية العميقة هي بوجود قوة عقلانية متعالية ومتفوِّقة تتبدَّى في هذا الكون البديع بأدقّ تفاصيله ونظامه والغاية من وجوده». وهذا ما أشار إليه الكاتب والعالِم الأميركي لنكولن بارنيت (Lincoln Barnett) حينما أكّد أنّ هذه الدقّة الرياضيّاتية لحركات الكون ونظامه هي التي تتيح للعلماء وضع معادلاتهم ونظرياتهم. ويقول إنّ النظريات العلمية المعاصرة أخذت تنحو منحى أفلاطون في هذه التصوُّرات الحسابية للكون، وأنّ مفاهيم مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية والطاقة وعالَم الذرّة وحتى النيوترون والإلكترون إنّما هي أيضاً بُنَى نظرية، وابتكارات فكرية ومجازات اضطرَّ العقلُ البشري لتصوُّرها كي تساعده على رسم صورة للحقيقة خلف مظاهر الأشياء.

خاتمة

 

إنّ الأصلَ الخيِّر الغائي للوجود واضِحٌ في مُحاوَرة «تيماوس» ميتافيزيقياً وإبستمولوجياً، لا سيّما حينما يُحَثُّ أفلاطون الإنسانَ في عبارةٍ، ربّما تُشكِّل زُبْدَة المُحاوَرة، لكي يُكرِّس كلّ اهتمامه وتفكيره للحفاظ على ذلك الخير في نَفْسه الخالدة والعقلانية تناغُماً مع «الخير الأسمى»، وبذلك يُحقِّق «الحياة الأرقى التي يُتيحها الإلهُ للبشر».

ونستخلص من المُحاوَرة أنّ هذا الكونَ البديع المتناغِم والمتوازِن بدقّةٍ رياضيّاتية وتناظُرٍ هندسي إنّما هو تحفةٌ لعقلٍ كوني لولاه لَمَا كان ثمة وجودٌ للكون وللنظام فيه ولاستَحالَ إلى فوضى وتلاشَى. وقد أكّدَ أفلاطون على لسان تيماوس أنّه من خلال فَهْم هذا التناغُم في الكون يمكن للإنسان أن يصل إلى تناغُمه الفردي داخل نفسه، ويعكس الحقائق العُلْوية في مرآة نفسه، وهذا هو الخير بعينه. وأشار أفلاطون في هذا السياق إلى سرّ رؤية العين الشّحمانية: «لقد خَلَقَ الإِلَهُ لنا العينَ والبصرَ لغاية أنْ نُشاهِد جَمال إبداعِه في السموات ونعكسه في ذواتنا…» ونتيَقَّن من الصورة التي «تعكس تمامَها» في بُعدِه الميتافيزيقي أشبه بانعكاسٍ على مرآة!


المراجع

  1. Timaeus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Broadie, S., 2012, Nature & Divinity in Plato’s Timaeus, Cambridge: Cambridge University Press.
  3. “On the Metaphysics of the Image in Plato’s Timaeus,” Monist, 50: 341–368 – 1966.
  4. Patterson, R., 1985, Image & Reaility in Plato’s Metaphysics, Indianapolis: Hackett Publishing Co., 1985.
  5. Carone, G. R., 2005, Plato’s Cosmology and its Ethical Dimensions, Cambridge: Cambridge University Press.
  6. Gill, C., 1979, “Plato’s Atlantis Story and the Birth of Fiction,” Philosophy and Literature, 3: 64–78.
  7. Hackforth, R., 1965, “Plato’s Theism,” in Studies in Plato’s Metaphysics, R. E. Allen (ed.), London and New York: Routledge and Kegan Paul.
  8. Lee, E. N., 1976, “Reason and Rotation: Circular Movement as the Model of Mind (Noûs) in the Later Plato,” in Facets of Plato’s Philosophy, W. H. Werkmeister (ed.), Assen: Van Gorcum.
  9. Barnett, Lincoln. The Universe & Doctor Einstein. New York, Bantam Books 1975: pp. 109-115.
    .

مُحاورة بارمينيدس

فيما سعى الفلاسفةُ اليونانيون الأوائلُ أمثال طاليس (Thales) وأنكسيمندر (Anaximander) وأنكسمينيس (Anaximenes) وهراقليطس (Heraclitus) وأمبدوقليس (Empedocles) إلى استكشافِ أصلِ الكونِ وتوصيفه ماءً أو هواءً أو ناراً أو عناصرَ ماديّة أربعة، وقفَ الفيلسوفُ الإيلي بارمينيدس (Parmenides – Παρμενίδης) في القرن الخامس قبل الميلاد يتأمَّل الكونَ، ويتفكَّر في خَلقِه، ويتلمَّس عِلّةَ وجُودِه، فرأى عالَماً مُتقلِّباً مُتغيِّراً، مُتحوِّلاً ومُتكثِّراً وفَانياً، فأخذَ يسْتَشْرِف ما وراء هذه الظواهر الحِسيّة والمتغيِّرات حقيقةً وجوديةً دائمةً وسرمديةً وثابتة، لا تعرف تغيُّراً ولا تبدُّلاً ولا فَناءً، هي بالنسبة إليه «الوجود»، أصلُ الموجودات والكائنات ما فوق الصفات والتحوُّلات، والصيرورات والزمن، والحركة والتغيُّر، والتجزُّؤ والتكثُّر، بل هو «وجودٌ واحد»، مسترشداً في ذلك مبادئ مُعلِّمه الفيثاغوري كزينوفان (Xenophanes).

هذا التجريدُ التوحيدي العقلاني الذي لم تعرفه الفلسفةُ مِن قَبل كان بدايةً لفلسفةٍ عقلانية مثالية تنشُد التوحيدَ ما وراء عالَم الحَواس الزائف والخادع والمُوهِم بالمظاهر الماديّة الحِسّية، ليستقرئ بارمنيديس أنّ لا سبيلَ لمعرفة ذلك الوجود إلَّا بالعقل، «عين الوجود»، وهو هُداه في «الطريق إلى الحق». وقد كان سعي بارمينيدس لمعرفة كُنه حقيقة الوجود، بعيداً عن الفكر اليوناني الوثني المعاصر له وتخبطه في مفاهيم تَعدُّد الآلهة وظواهر عالَم الحِس، نحو جوهرٍ واحد ثابت، في تطوُرٍ لمفهوم «الواحد» فلسفياً في الحقبة ما قبل سقراط، كون هذا الواحد مُتعالياً فوق كلّ الأشياء وهو مبدؤها ومصدرها، وذلك استلهاماً لفلسفة فيثاغورس.
وبقيت فلسفةُ بارمينيدس متَّسِمة بشيءٍ مِن التعقيد والغموض، لا سيّما من ناحية صدور الكون عن ذلك الواحد، وماهية ذلك الواحد، وهو قد ترك لمَنْ سيأتي بعده على درب الفلسفة مُهمة استجلاء حقائق التوحيد أكثر فأكثر. فتلقَّفَ أفلاطون توحيدَ أو «واحد» بارمينيدس وأضاء على أبعاده في محاورتِه التي تحمل اسم هذا الفيلسوف.

نص مُلهَم من عالَم العقل!

لقد قِيلَ في هذه المحاورة «فيما نَثَرَ أفلاطون بذورَ الحكمة في جميع محاوراته، فإنّه قد جَمَع مبادئ الفلسفة الأخلاقية في محاورة «الجمهورية» (The Republic)، وقراءتَه العلمية
الكونية في محاورة «تيماوس» (Timaeus)، لكنّه وضعَ رؤيتَه اللاهوتية في «محاورة بارمينيدس»»، وفق توصيف الفيلسوف الإنساني مارسيليو فيتشينو (Marsilio Ficino) لهذه المحاورة المثيرة التي تُشكِّل تحدّياً للفكر البشري. ويضيف «فيما ارتقى أفلاطون بأعماله الأخرى فوق جميع الفلاسفة الآخرين، فإنّه في هذه [محاورة بارمينيدس] يتخطَّى حتى نفسه ليستحضر هذا العمل المُبدِع من عالَم العقل الكوني وقُدس أقداس الفلسفة الحقَّة. فكلّ مَنْ يقرأ هذا الكتاب الأرفع عليه بدايةً أنْ يُهيِّئ نفسَه بعقلٍ صافٍ وروحٍ متعالية، قبل أن يسبر غورَ أسرارِ هذا النصّ المُلهَم من علٍّ!».

المفكرُ التونسي يوسف الصّديق

الطريق إلى الحق

يُعتبر الفيلسوفُ الإيلي بارمينيدس «أبَ الميتافيزيقيا» وأبَ التصوُّف العقلاني المنطقي من حيث إيمانه بإمكانية إدراك الحقيقة بالعقل والمنطق فوق الإدراك الحسّي، وكان يُشدِّد على الإيمان بالواحد الأحد الثابت الذي لا يتغير ونكران كلّ ما سواه (وقد سعى المفكرُ التونسي يوسف الصّديق في حوارٍ له مع مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» إلى إجراء مقارنة بين هذا القول
لبارمينيدس وسورة الإخلاص في القرآن الكريم!).
وفي قصيدته الفلسفية الشهيرة «في الطبيعة»، ميَّزبارمينيدس ما بين الوجود المادي الحسّي الذي يُعرَف بواسطة «الطريق إلى الظن» (doxa) وبين الوجود الأسمى الذي لا يُعرَف سوى بالعقل أو ما يُسمِّيه «الطريق إلى الحق» (aletheia) وقد ميَّز في هذا الجزء من قصيدته بين الوجود الموجود يقيناً واستحالة عدم وجوده (بما يذكّرنا بمفهوم «واجب الوجود»)، وما بين اللاوجود غير الموجود يقيناً واستحالة وجوده، رابطاً ما بين العقل وعالَم الوجود الواحد هذا وكأنّما يتحدَّث هنا في «الواحدية الفيثاغورية» وليس الأحدية اللاهوتية، حيث يشير إلى هذا الوجود العقلاني الواحد على أنّه مِثالٌ أوّل، أشبه بمُثُل أفلاطون. وهذه الكمالات للواحد لدى بارمينيدس هي للواحد العقلي مصدر عالم المُثُل جميعاً وهو أساس النظام في الكون، في وجوده وفنائه وحفظ نظامه.

وفيما يتساءل بعض الباحثين ما إذا كان بارمينيدس قد أسبغ صفات إِلهية على واحده الموجود فإنّه رغم صعوبة فلسفته يُوضِح أنّ هذا الموجود محيط بالموجودات محايث لها بل هو مصدرها. لكنّ البُعدَ الفلسفي لفكره يبقى مفتوحاً أمام وجودٍ أرقى لا صفات له ولا يُحدّ في مكانٍ أو زمانٍ أو جودٍ مادي بل هو وجودٍ إِلهي محض، وهو ما حيَّر شارِحيه ولا يزال: هل كان يشير إلى واحدَيْن؟ وقد تأثَّر أفلوطين بهذا المذهب لدى بارمينيدس وما ألمحَ إليه أفلاطون في «محاورة بارمينيدس» في تطوير فكرته عن الواحد العددي والألوهية الأحدية.

«واحد بارمينيدس»… فيثاغوري!

هنا نلمس صفات «الواحد الفيثاغوري»، وقد ذَكَر مُصنّف سِير الفلاسفة ديوجنوس اللايريتي (Diogenes Laertius) أنّ بارمينيدس كان تلميذ أمينياس (Ameinias) ابن ديوكايتيس (Diochaites) الفيثاغوري، وهو ما يؤكّده بعضُ الباحثين الذين يعتبرون بارمينيدس كشأن زينون الإيلي (Zeno of Elea) وكزينوفان من أتباع المدرسة الفيثاغورية. وتتبدَّى هذه السِّمَات الفيثاغورية في الجزء الأول من قصيدته «الطريق إلى الحقّ»، حيث يتحدَّث عن أنّ الحقيقة هي واحدة غير متغيِّرة وموجودة فوق الزمان والمكان، في حين أنّه في الجزء الثاني من قصيدته «الطريق إلى الظن» يوضِح عالَم الظواهرِ والحِسّ ويكشف سوءَ الإدراكِ والخداع في العالَم المادي.

وكانت لفلسفته الأثر الكبير في تحفيز الاتّجاهات الفكرية ما بين العقلانية المثالية، كفلسفة أنكساغوارس (Anaxagoras)، أو الاتّجاهات المادية التي سَعَت لنَقْض جَدَلِه على غرار ديموقريطس (Democritus) ولوسيبوس (Leucippus) وغيرهما من الفلاسفة الماديين من أتباع «النظرية الذرّية»، ومن ثم ما بين النَّهْج الاستقرائي بالمُسلَّمات البديهية والآخر الاستنباطي بالفَرَضِيات، بما شكَّلَ انطلاقةً ما للمنهجيّة العلميّة.

«يُلمّح أفلاطون في محاورة “بارمينيدس” إلى واحدٍ أحديّ متعالٍ عن الوجود والأعداد، وواحدٍ عقلي تنبثقُ منه الكثرةُ هو عِلّةٌ أولى للموجودات والكائنات يُماثِلُ الواحدَ الفيثاغوري»

استلهام روحانية فيثاغورس
فيثاغورس

تلوحُ روحانيةُ فيثاغورس في المَسحة الصوفية الدينية التي تتّسمُ بها قصيدةُ بارمينيدس، فضلاً عن عُمقها الفلسفي المنطقي والعقلاني، وكأنّ التجربةَ التي تحدث عنها في قصيدته هي نوعٌ من «النَّشْوة الصوفية» (unio mystica) أو الإلهام الإِلَهي، وهو ما ألمحَ إليه بلغةٍ رمزية أسطورية في بداية القصيدة، حيث يصف رحلته «مغادراً قاعات الليل على متن عربةٍ بعيداً عن مراتع البشر نحو هيكل النور والحكمة».. ولو أنّ الباحثين واجهوا صعوبةً في الإحاطة بشكلٍ وافٍ بالمعنى المعقَّد لأفكاره المُتَسلسِلة:
كيف لِمَا هو كائنٌ [موجود] أن ينعدم؟ وكيف لِمَا هو كائنٌ أن يكون؟ .. فهو لا كان يوماً [أي لم يكن أو يوجد في زمنٍ محدّد]، ولا سيكون [أي ولا سيكون بعد أن لم يكن]، بل هو واحدٌ كائنٌ سرمدي ..!
لقد كان أفلاطون يتحدّث عن بارمينيدس بكلّ توقيرٍ، وقال في «محاورة السفسطائي» (Sophist) عن هذا الفيلسوف: «آبانا بارمينيدس»، أمّا في محاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) فقد قال عنه إنّه «من الحكماء النادرين»، ولذلك خصَّص له هذه المحاورة التي تحمل اسمه وتتناول مفهوم كينونة الوجود والواحد بجدليةٍ فلسفية تشحذُ العقلَ البشري للتفكُّر في هذه الحقائق الماورائية.

المحاورة ومغزاها الحقيقي!

تبدأ هذه المحاورةُ الأكثر عمقاً وتحدّياً للفكر من بين محاورات أفلاطون بلقاءٍ ومن ثم محادثةٍ في أثينا بين الفيلسوف الإيلي الجليل بارمينيدس (وعمره نحو 65 سنة) القائل بواحديّة الحقيقة والشاب سقراط (وعمره نحو 20 سنة) المتعطّش للمعرفة، وما استتبَع عنها من جِدالاتٍ متداخِلة دفاعاً من قِبَل سقراط عن «نظرية المُثُل» (مع تطوُّرها في محاورات أفلاطون في الفترة المتوسطة والمتأخِّرة من حياته) والتحدّيات التي يطرحها بارمينيدس أمام هذه النظرية، بما يُشكِّل رياضة فكرية تسعى للوصول إلى استنباطاتٍ إنّما هي في الحقيقة تساعد القارئ الحصيف على إيجاد سُبُلٍ لحماية «نظرية المُثُل» ضدّ هذه التحدّيات، ولو أنّ الشارحين الباحثين لهذه المحاورة قد وجدوا صعوبةً كبيرة في تحليلها ولم يصلوا إلى إجماعٍ على فهمها، لا سيّما من ناحية الهدف الرئيسي لتلك الاستنباطات الأنطولوجية (من ناحية تعريف الوجود الواحد والكينونة والصيرورة) وتبديد التحدّيات، ومن ثمّ المغزى الفلسفي الحقيقي لهذه المحاورة التي ألهَمت النظريات الميتافيزقية والصوفية للحركة الفلسفية التي عُرِفَت لاحقاً بـ «الأفلاطونية المحدَّثة»، وعلى الأخص لدى أفلوطين (Plotinus) ومن ثمّ بروكلوس (Proclus)، وتطوُّر مفهومُ «الواحد الأفلوطيني»، والواحد الأحدي المُتعال» كما سبق القول.

انتقاد بارمنيدس ودفاع سقراط

يسعى سقراط في ظل ما يطرحه محاوِره بارمينيدس من انتقادٍ لنظرية المُثُل إلى استعراض عقائد ماورائية وإبستمولوجية والدفاع عنها (كشأنه في محاورات «المائدة» Symposium، و»فيدون» Phaedo، و»الجمهورية»)، فوفقاً لهذه النظرية هناك مِثالٌ واحدٌ وأزليّ لا يطرأ عليه تغيير ولا ينقسم لكلّ شيء أو صفة أو خاصية.

ويُضيء أفلاطون بذلك على المشكلات التي تعترض نظرية «المُثُل» من أجل تخطِّيها، وجاءت هذه الانتقادات على لسان بارمينيدس عند انتهاء سقراط من خطابه من ناحية انفصال المُثُل عن الأشياء في نظرية «المُثُل»، ومفهوم السَّبَبِيّة والمشاركة بين المِثال والأشياء، كلّياً أو جزئياً.

والقصدُ من وراء هذا الانتقاد أنّ تعدُّد المُثُل لخاصيةٍ واحدة لا يتماشى مع فرادة «المُثُل» حيث يستنتج بارمينيدس أنّ كلّ مِثالٍ لم يَعُد بذلك واحداً بل متعدِّداً إلى ما لا نهاية، وكأنّما يقول إنّ وجود هذا العدد من المُثُل لكلّ خاصية إنّما يتناقض مع الواحديّة.
لكن في ختام هذا الجَدَل يقترحُ سقراط أنّه مِن المُمكن تجنُّب كُلّ هذه التباينات في صميم نظرية «المُثُل» بافتراض أنّ تلك «المُثُل» هي أفكار تكمن فقط في العقول، لكن بارمينيدس يرى أنّ ذلك لا يُجنِّب الغموض. وأخيراً يطرح بارمينيدس حُجَّتَيْن حول «الصعوبة الأكبر» القائمة في نظرية «المُثُل»، الأولى أنّ هذه «المُثُل» بسب انفصالها عن الأشياء التي تمثّلها لا يمكن أن تكون معروفة من قِبَل البشر، أمّا الثانية فتهدف إلى أنّ العالَم الإلهي بتعاليه لا يمكنه أنْ يدرك شؤون البشر. لكنّ أفلاطون يؤكّد جَدَلِياً أنّ البشر بإمكانهم أن يعرفوا بعض المُثُل على الأقل، كمِثال الجَمال والخير والفضيلة، كما وَرَدَ في محاورات «مينون» (Meno) و»فيدون» و»الجمهورية»، وأنّه من غير البديهي القول إنّ العالم العلوي لا يسعَه أن يطَّلِع على شؤون البشر وهو أصلُ الوجود.

لكن ما يُدهِشُ بَعدَ كُلّ هذه الحُجَج التي يظنّ البعضُ أنّها تُقوِّض نظرية «المُثُل»، أنّ بارمينيدس يخلُص من ثمّ بقوة الجَدَل إلى الدفاع عنها، وهكذا وضع أفلاطون الانتقادات والحلول الإنقاذية على لسان بارمينيدس بحد ذاته. لقد طرح الجزءُ الثاني من المحاورة استنباطات عقلية مطوّلة تُشكِّل تحدّياً منطقياً لعقل القارئ، لكن لا داع لاستعراضها نظراً لصعوبتها وتداخلها، وخلاصتها أنّ أفلاطون هَدَفَ من وراء هذه الاستنباطات إلى التأكيد أخيراً بأنّ المِثَال في عالم الكلّيات ينفصل عما يماثله في عالم الجُزئيات وأنّه يتَّسِم بالواحديّة على كثرة أشياء مماثلات، وبالتالي ثمة «واحدٌ» أو مِثالٌ أوّل أنطوى فيه، أو أُحْصِيَ فيه، كُّلُ المُثُل لجميع الأشياء والموجودات!.

الواحد .. مُتعال أو عِلّة الكثرة؟

وبالتالي يشير أفلاطون في محاورته “بارمينيدس” إلى نوعَين من الواحدية: واحدٌ مجرّد مُتعال، وآخرٌ عِلَّةٌ للكِثرة. وفي ذلك يقول إي. أر. دودس (E. R. Dodds) إنّ الفَرَضِيات الواردة في “محاورة بارمينيدس” هي المصدر الرئيسي لعقيدة أفلوطين في “الواحد المتعال” و”الواحد العقلي” (الفيثاغوري العددي)، أو “نوس” (Nous) كما يمكن أنْ نتلمَّس ذلك في كتابه “التاسوعيات” (Enneads).

من خِضم الصعوبة الفلسفية، والتعقيد الفكري، والغموض المنطقي في محاورة بارمينيدس، يسعى أفلاطون إلى القول بأنّ مفهوم “الواحدية” (Oneness) إنّما هو فوق التناقُضِ أو الثنائية يُدلِّلُ على واحدٍ أحديّ متعالٍ عن الوجود والأعداد، وواحدٍ عقلي “موناد” (Monad) تنبثقُ منه الكثرةُ وبالتالي هو عِلّةٌ أولى للموجودات والكائنات، وهذا “الواحدُ البارمينيدي” يُماثِلُ “الواحدَ الفيثاغوري”، ومن ثم لاحقاً “الواحد الأفلوطيني” (بعد تطوُّر مفهوم اللوغوس) وتنطوي فيه جميعُ المُثُل الأفلاطونية. أم كيف صَدرَ هذا الواحدُ العددي عن الواحدِ المُتعال فذلك ما سيسعى أفلاطون إلى إيضاحه لاحقاً في مفهومِه عن العقل الكوني “نوس” والوسيط العِلْوي “الديمورج”(Demiurge) … فابْقوا معنا!


المراجع

  1. – Parmenides, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. – The Republic by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  3. – E. R Dodds, The Parmenides of Plato and the Origin of the Neoplatonic One, Classical Quarterly 1928.
  4. – E. R. Dodds. The Greeks and the irrational. 1966. Berkeley: University of California Press.
  5. – Ficino Marsilio, Commentaries on Plato, Volume 2: Parmenides, Part 1, Harvard University Press, 2012.

“العدالةُ” عندَ أفلاطون

 

تَتَّسِمُ مُحاوَرةُ “الجمهورية”(Politeia -Πολιτεία) بالعُمقِ والدِّقّةِ في طرحها لسؤالَيْن جوهريَيْن: ما هي “العدالة”؟ وهل الحياة العادلة خيرٌ للإنسان أم خلاف ذلك؟ حيث يسعى أفلاطون إلى تعريف “العدالة” (dikaiosyne – δικαιοσύνη)، مستَنِداً إلى مِثال الخير، الذي يُعيننا على فَهْم هذه الفضيلة، معتمداً في ذلك على مبادئه الماورائية والنفسانية والأخلاقية لا سيّما نظريّة “المُثُل”. وما من كتابٍ كان له هذا التأثير الكبير في الفكر الفلسفي والنظريات السياسية بمثل مُحاوَرة “الجمهورية”، حيث يحاور سقراط مختلف الشخصيات حول معنى العدالة وما إذا كان الإنسان العادل سعيداً أكثر من الظالِم، ليستعرض أنواع أنظمة الحُكْم ومدى اتّسامِها بالعدالة أو افتقارها لها لتصل المحاورة في ذروتها إلى مفهوم مدينةٍ مُثلى فاضلة يوطوبياوية “كاليبوليس” (Kallipolis – Καλλίπολις) يحكُمها “مَلِكٌ فيلسوف” قائِمٌ بموجبات العدل.

تطرح المحاورة تساؤلات رئيسية وتسعى للإجابة عنها: هل يُقْدِم الإنسان على التصرُّف بعدالةٍ بدافع الخوف من المجتمع؟ أو خشية عقابٍ إِلَهي؟ أم أنّه يسعى إلى “العدالة” بعيداً عن الخوف أو الرجاء لكونها خَيراً في حدّ ذاتها؟ ينبري أفلاطون إلى تعريف “العدالة” في جمهوريّته هادفاً إلى إثبات أنّ “العدالة” هي فضيلة تستحقّ أنْ تُطلب لذاتها وأنّ ثمة ما يناظرها تناغماً وتوازناً في قوى النفس الثلاث. وتأتي عبقرية أفلاطون وسموّه الفكري والرُّوحي في طرحه لحلٍّ أمثل، وذلك بتعريفه لـ “العدالة” بأنّها متماثلة مع سيكولوجية الإنسان، أي مع قوى النفس البشرية، في مقاربة “نفسانية-اجتماعية”(psycho-social) بل حتى “نفسانية-سياسية”(psycho-political).

«العدالة تبدأ من النفس تناغماً في قواها وفضائلها وتصل إلى الحُكم المثالي بأنوارِ العقل على يدِ مَلِكٍ فيلسوف»

العدالة بين المدينة والفرد

من “الفصل الأول” وحتى “الفصل الخامس” من المُحاوَرة، ومكان أحداثها هو ميناء “بيرايوس” (Piraeus) بالقرب من أثينا، نجد كيف يسعى محاوِرو سقراط، وهم غلاوكون (Glaucon)، وبوليمارخوس (Polemarchus)، وسيفالوس (Cephalus)، وثراسيماخوس (Thrasymachus)، وأديمانتوس (Adeimantus) إلى تعريف “العدالة” كلٌّ من وجهة نظره. وتتضارب الآراء ما بين كونها “ليست سوى مصلحة الأقوى أو فن مَنْح الخير للأصدقاء والشر للأعداء”، إلى اعتبارها “مُجرّد ما نملك” أو حتى كونها “عقداً اجتماعياً يَقِي من الظُلم”، أو “خوفاً من العقاب”،فضلاً عن تساؤلات حول ما إذا كانت العدالة مرغوبة في ذاتها أو لأجل نتائجها.

العدالة.. صحة النَّفْس بهُدَى العقل

بين الحديث عن العدالة في “المدينة” والعدالة في نفس”الفرد” يتدخَّل سقراط. وبعدما يوصي بوجوب التحلِّي بالفضائل الأربع: العدالة والحكمة والشجاعة والحِلْم، مؤكِّداً بأنّ “العدالة” تصقل الفضائل الأساسية الثلاث الأخرى، ولعلّها أم الفضائل عنده، وهي ثمرة نَفْسٍ حَسَنة الانتظام والتناغُم بالفضائل، يرى أنّ الحكمة وجبَ أنْ تكون بين الحُكَّام، والشجاعة بين المحاربين، والحِلْم بين جميع فئات “المدينة الدولة”، وبالتالي تتم “العدالة” فيها،حيث تقوم كلّ فئة بأداء دورها الخاص بها من دون أنْ تتدخَّل مع الفئتَين الأخريَين. ويُجادِل بأنّ النفس المتَّزِنَة بقِواها غير المُنقَسِمة على نفسها سيكولوجياً لا تعيش التناقض بين قِواها العقليّة والغَضَبيَة والشَّهَويّة بل الانسجام والتناغم، وبالتالي تكون نَفْساً عادلة تماماً كشأن “المدينة” بفضائل فئاتها الثلاث.

وبالتالي فإنّ الإنسان الحكيم العادل بالنسبة إلى سقراط هو ذلك الذي يحكُمه الجزء العقلاني من النفس الذي يُدرِك ما هو خيرٌ لكلّ الأجزاء وللنفس ككلّ.ويخلص إلى القول: “إنّ النفسَ إذا كانت في نظامٍ صحيح بين قِواها فهي عادلة، وبالتالي تكون طبيعية. إذ إنّ العدالة هي صحّة النفس”.

إذا تخفّينا هل نعدل؟

يسأل غلاوكون وأديمانتوس سقراط: هل العادِل، الذي يراه الناس ظلوماً، أكثر سعادة من الظالم الذي يُخفي ظلمه ويراه الناس عادلاً؟ يُجيب سقراط مشدِّداً على القيمة الداخلية الجوهرية للحياة العادلة وأنّ العادل بالتالي أكثر سعادة من الظالم.ويدعم غلاوكون فكرته بلجوئه إلى ما يُسمَّى “أسطورة غيغيز” (Legend of Gyges)، وهو رجلٌ اكتشفَ خاتماً يمنحَه قوة التخفِّي. لكنّ غيغيز تمكّن بحسب الأسطورة من إغراء الملكة وقتل الملك والاستيلاء على حُكْم المملكة. والمغزى هو أنّ أي إنسان سواء كان عادلاً أم ظالماً إذا ما تسنّت له فرصة إخفاء ظلمه بسبب تخفِّيه فإنّه “قد يلجأ إلى الظلم ويبتعد عن العدل”. ويحتجُّ غلاوكون لإثبات ذلك بأنّ العلّة الوحيدة التي تمنع النفوس من أنْ تكون ظالمة وتتحلَّى بالعدالة وتتغنّى بها هي الخوفُ من العقاب.

أمّا أديمانتوس فيضيف إلى كلام غلاوكون أنّ الإنسان لا يكون عادلاً إلَّا طمعاً بالمكافأة التي تجنيها العدالة، كالثروة والشَّرَف والسُّمعة والمجد وغيرها، لا لقيمةٍ بحدّ ذاتها في “العدالة”، بل هي بمثابة وسيلة للوصول إلى غاية. وهنا يقود سقراط محاورِيه في نقاشٍ حول “العدالة” في “المدينة” أوّلاً أي على نطاقٍ كبير، من أجل أنْ يُسهِّل لهم رؤية “العدالة” في نفس المرء. ومن ثمّ يُوضِح كيف أنّ تلك الفضائل في “المدينة” تتناظر مع قوى النفس بحسب تشبيه سقراط. وهذا التناظر أو التشابه بين “المدينة الدولة” والنفس البشرية هو مفهوم انفردت به الفلسفة الأفلاطونية التي أضفت عليه بُعداً نفسانياً واجتماعياً وسياسياً..

مخطوطة من القرن الثالث الميلادي ، تحتوي على أجزاء من جمهورية أفلاطون
العدالة تناغمٌ في الجسم السياسي

 

يُلقي أفلاطون الضوءَ في “الجمهورية” بدايةً على المفهومِ الأوَّليّ للعدالة الاجتماعية والسياسية لينتقل بعدها إلى استنباط مفهوم تَمَاثُل تلك العدالة مع “العدالة الفرديّة”، ليتناول من ثم في الفصول الثاني والثالث والرابع، “العدالة السياسية” كتناغمٍ في جسمٍ سياسي منتظم، ويُقسِّم المجتمع المثالي إلى ثلاث فئات رئيسية. أولاً فئة المُنتِجين، من حِرَفيين وفنانين ومزارعين وغيرهم من أصحاب الصَّنْعَة والحِرَف، ثانياً فئة المحاربين، وثالثاً فئة الحُكَّام. ويكون هذا المجتمع عادلاً حينما تنتظم العلاقة بين فئاته الثلاث بشكلٍ قويم ولا يكون ذلك إلَّا إذا ما التزمت كلّ فئة بدورها المناسب في المجتمع وعلى نحو متناغمٍ ومتوازنٍ مع الفئتَيْن الأُخريَيْن.

فعلى المُنتِج أنْ يقصُر عمله على ما يتأتَّى من مهاراته الحِرَفيّة أو الفنيّة أو الزراعية أو الصناعية أو ما شابه ذلك. أمّا المحاربون فينبغي أنْ يتَّسِموا بالشجاعة والولاء والإيمان بقناعات الحُكَّام والذود عنها، أمّا هؤلاء الحُكَّام فينبغي أنْ يمارسوا الحُكْم بما فُضِّلوا على غيرهم من رجاحة العقل وسِعَة الأُفق والاتّزان النفسي وصولاً إلى حُبّ الحكمة والحُكْم من خلال ضياء هُدَاها، وبالتالي تصبح “العدالة” هاهنا تخصُّصية، أي كلٌّ يعمل باختصاصه وضمن نطاق دوره الاجتماعي والسياسي المؤهَّل له من دون التدخُّل في أدوار الآخرين.

العدالة في النفس أولاً!

بالنسبة إلى “العدالة الفرديّة”، يُماثلها أفلاطون في “الفصل الرابع” من “الجمهورية” مع “العدالة السياسية”، فالنفس البشرية بالنسبة إليه تنطوي على ثلاثة أجزاء تتناظر مع الفئات الثلاث للمجتمع. فهناك “الجزء العقلاني”(logistikon – λογιστικόν) من النفس الذي يرنو إلى الحقيقة والتفكُّر الفلسفي والتأمُّل الحِكْمَوي، وثانياً يأتي “الجزء الغَضَبِي الحَماسِي”(thymoeides – θυμοειδές) من النفس الذي يشتهي المجد والشَّرف ويستثير مشاعر الغضب والنَّخوة وحِسّ الكرامة، وثالثاً “الجزء الشَّهَوي”(epithymetikon – ἐπιθυμητικόν) من النفس الذي يشتهي كلّ الأشياء المادية والمقتنيات الدنيوية لا سيّما المال.وتكون هذه الأجزاء الثلاثة في النفس العادلة في حالةٍ تناغُمٍ بين قواها، كشأن التناغم بين فئات المجتمع العادل. فالجزء العقلاني من النفس هو الذي يحكُم، ويدعم حكمه ذلك الجزء الغَضَبي، في حين أنّ الجزء الشَّهَوي يخضع لحُكْم العقل ويتَّبعه حيثما يقوده، تماماً كما تتناغم في المجتمع العادل فئاتُه الثلاث تماثُلاً مع إرادة الحاكم المتَّسِم بالحكمة والعدل.

العدالة غَلَبة للعقلانية

 

وهنا يستفيض أفلاطون مجدّداً في عقد مقارنة بين أجزاء النفس وفئات المجتمع. فكلٌّ من تلك الفئات يهيمن عليها جزءٌ من قوى النفس المنوَّه عنها. فعلى سبيل المثال يهيمن على فئة المُنتِجين القوة الشَّهَويّة التي تدفع هؤلاء إلى جَنِي المال وتحقيق الرفاهية والمتعة. أمّا فئة المحاربين فتُهيمن عليهم القوة الغَضَبيّة التي تتَّسِم بها أرواحهم فتجعلهم شجعاناً مندفعين إقداماً وتوّاقين لتحقيق البطولة ومآثر المجد والسؤدد. في المقابل،تُهيمن على فئة الحُكَّام المَلَكَاتُ العقلية والتَّوقُ إلى التحقُّق بالحكمة، وبالتالي تحقيق “العدالة”. وهنا تتمحور الفصول “الخامس” و”السادس” و”السابع” حول فكرة تهيئة الحُكَّام ليصبحوا “مُلوكاً فلاسفة”!

وحدهم الفلاسفة الذين يُدرِكون مفهوم “المُثُل” (Forms) لا سيّما مِثال الخير، مصدر جميع المُثُل والمعرفة والحقيقة والجمال، بوسعهم أنْ يحكموا بعدالة.فالفلاسفة مُحبِّو الحكمة هم الفئة الوحيدة من البشر التي تمتلك المعرفة والحكمة وبالتالي هم أكثر الناس عدلاً، إذ إنّ نفوسهم تهدف أكثر من الآخرين إلى تحقيق أهداف الجزء العقلاني الغالِب فيها.

موقع أكاديمية أفلاطون الأثري
العدالة غاية مرجوَّة لأجل ذاتها

 

لكن هل تُطلَب “العدالة” لأجل ذاتها أم لِمَا يتأتَّى بفضلها من سعادةٍ أو خير؟ هذا ما يسعى أفلاطون إلى الإجابة عنه أيضاً في “الفصل التاسع” من “الجمهوريّة”، بجدليّةٍ يخلُص منها إلى أنّ العدل غاية مرجوَّة بحد ذاتها. فبعد استعراض الوضع النفسي لطاغٍ من الطُّغاة المستبدّين يُثبِتُ أنّ الظلم، نقيض “العدالة”، يُعذِّب نفسَ المرء، في حين أنّ النفسَ العادلة سعيدةٌ وسليمةٌ وهادئة ومتَّزِنة.

وحده “الفيلسوف الحكيم” قادرٌ على أنْ يحكُم على ما هو خيرٌ وعدلٌ بين الأنماط الثلاثة من البشر: مُحبِّي المال، ومُحبِّي المجد، ومُحبِّي الحقيقة لأنّه سَمَا في مراقِي الفكر إلى محبّة الخير والجمال والحقيقة، وبالتالي فإنّ السعادة الفلسفية الحقيقية تتمثَّل في الحياة العادلة. لكن ذلك لا يعني أنّ “العدالة” مرغوبة من أجل نتائجها والمُتع المترتِّبة عنها، بل إنّ مرغوبية “العدالة” تتّصل بالعلاقة الوطيدة الضمنيّة بين الحياة العادلة والمُثُل العليا في عالم العقل حيث وحده الإنسان العادل الحكيم يقتدي بمُثل الخير والاتّزان والعدالة وتطبيقها في حياته، ومن ثمّ تنعكس تلك من الفرد على المجتمع.

وهنا كالعادة تترابط الصورُ المجازية لدى أفلاطون كَدُرَرٍ متَّصِلة ذات ربطٍ منطقي: عربة النفس، والشمس، والخط، والكهف، وسُلَّم الحُبّ مع الفضائل العليا من خير وحق وجمال وحب وسعادة وعدالة، وصولاً إلى التناظر ما بين أجزاء النفس الثلاثة وفئات المجتمع الثلاث.

المَلِكُ الفيلسوف” مُحِبٌّ للحكمة ويتمتَّع بالذكاء والصِّدْق والحياة البسيطة.

“المَلِك الفيلسوف”.. هو الحل!

 

بين الفصلَين “السادس” و”السابع” يتناول أفلاطون مفهوم “المَلِك الفيلسوف”. ويتمحور الحديث حول “المدينة المثالية” التي يحكُمها فيلسوفٌ حقيقي يُحدِثُ تناغُماً وتعاوناً بين جميع مواطنيها عَدلاً وقسطاً وإنصافاً، وعقلاً وحكمةً وإرشاداً. وهذا “المَلِكُ الفيلسوف” مُحِبٌّ للحكمة ويتمتَّع بالذكاء والصِّدْق والحياة البسيطة، وقد اكتسب فضائله بالتعليم والتأمُّل الحكموي في مِثال الخير الذي يُضِيء وجدانَه تماماً كما يُضِيء النورُ معالمَ الأشياء. ويقول جملته الشهيرة “يَنبغي أنْ يُصبحَ الفلاسفةُ مُلوكاً، أو أنّ المُلوكَ يَنبغي أنْ يَتثقّفوا فلسفياً” فتزول تعاسة الدول والبشر!

ويتضمّن تثقيفُ “المَلِكِ الفيلسوف” الحكمةَ والفلسفة والهندسة والرياضيات وحتى الموسيقى لتهذيب النفس، والتدريبَ الجسدي والعسكري. ويتعلّم الفلسفةَ لمدّة خمس سنوات ومن ثمّ يتدرَّب على فن الجدل “الدايالكتيك”، إلى أنْ يتدرَّب على القيادة الحكيمة العادلة ليُخرِج الناس من ظلمة “الكهف” إلى رحاب النور، بفضل وعيه التام لمِثال الخير ومحبّة الحكمة.

“سفينة الدولة” والربّان الحكيم!

دعماً لهذا المفهوم المثالي، يُورِد أفلاطون هنا على لسان سقراط القصةَ الرمزية “سفينة الدولة”، حيث يُشبِّه الحُكْمَ بسفينةٍ رُبَّانُها مَلَّاحٌ حكيمٌ متبصِّرٌ وعارِفٌ بمواقعِ النجوم، وصاحبُها يفتقد إلى بُعد النظر، وبحّارتُها ديماغوجيون، وركَّابُها سياسيون لا يعلمون شيئاً عن الملاحة وطُرقها الآمنة وفنّ الإبحار بها وسط الغياهب والأمواج المتلاطمة، بل وحده ذلك الملّاحُ العَالِم هو مَن يصل بها بفضلِ حكمتِه إلى برّ الأمان، وذلك في إشارةٍ إلى “المَلِك الفيلسوف” وحُكْمِه المِثالي.

حرض السيبيديس الأوليغارشية على الانقلاب من خلال الوعد بدعم فارسي لأثينا إذا تم الإطاحة بالديمقراطية.
النقيض..تيموقراطية وأوليغارشية وديموقراطية واستبداد!

من أجل الإضاءة على مفهوم العدالة لدى “الفيلسوف الملك”، يُناقِش أفلاطون في “الفصل الثامن” إلى آخر “الجمهورية” وعلى لسان سقراط أنظمة الحُكْم الظالمة الأربعة: “التيموقراطية”(timocracy)، و”الأوليغارشية”(oligarchy)، و”الديموقراطية”(democracy)، و”الطُّغيان” أو الاستبداد(tyranny). والمجتمع يبدأ من أرستوقراطيةٍ راقية تنحدر إلى أوليغارشية التي تنحدر بدورها إلى ديموقراطية ومن ثم إلى أسفل دَرَك الطُّغيان الأكثر ظلماً. والحل البديل هو نظامٌ أرستوقراطيٌّ فلسفيّ حكموي، على رأسه “ملكٌ فيلسوف”، وحُكْمٌ تطغَى عليه محبّة الحكمة. ففي الحُكْم “التيموقراطي”، يُهيمن ذلك الجزء الغَضَبي في النفس، ويشتمل على محارِبين أو قادة كبار يهوَوْن المجد والشَّرَف والظَّفَر وامتلاك المقتنيات، وخيرُ مثالٍ عليه هو مدينة “أسبارطة”. وحينما يطغَى حُبّ جَمْع الثروة على الشَّرَف والمجد ينحدر هذا الحُكْم إلى “أوليغارشية”، الذي يُهيمن عليه أصحاب الرغبة الشديدة بالثراء، فتصبح الطبقة الحاكمة من الأثرياء والأغنياء والمستأثرين بالأموال، فيتَّسِع الفارق بين الأغنياء والفقراء ليبلغ ذروته بثورةٍ من الطبقة المسحوقة التي تسعى إلى إنشاء ديموقراطية.

ومن ثمّ تأتي “الديموقراطية” التي تنشد أقصى حرّية ومساواة بين الشعب لكن سرعان ما تُهيمن عليها الرغبة الدنيوية المادية بطريقةٍ غير مُنتظمة أو مقيَّدة تفتقد إلى الحكمة والعقلانية. ومثل هذه الشَّعبوية في الحُكْم الديموقراطي تُفضِي إلى حُكْم غوغاء يخشون الطبقات السابقة، وهذا ما يغتنمه “الديموغاجيون” للسيطرة على السُّلطة بحُكْمٍ طُغياني. ونصل إلى الحُكْم “الطُّغياني” حيث يصبح الشعب والدولة عبيداً لطاغٍ مستبدّ يستخدم قوته لإقصاء ذوي العقل والنَّخوة لكي تتسنَّى له السيطرة على السُّلطة من دون منازِع. كما أنّه يستحدث حروباً من أجل ترسيخ مكانته كقائد. ولهذا السبب يعتبر أفلاطون أنّ الطُّغيان أو الاستبداد هو الحُكْم الأكثر ظلماً وتغييباً للعدالة على الإطلاق.

السُّلطةُ تُفسِدُ النفسَ العادلة

عَوْدٌ على بدء، يُقارِن أفلاطون على لسان سقراط بين هذه الأنظمة وقِوى النفس لا سيّما في “الفصل التاسع”.ويشير إلى ميل البشر إلى أنْ تُفسِدهم السُّلطة والقوة فينحدرون تقهقراً في أنواع أنظمة الحُكْم تماشياً مع القِوى المضطربة لنفوسهم. فمن النظام الطُّغياني لـ “المدينة” ينتقل سقراط إلى المَنحَى الطُّغياني للنفس البشرية وبالتالي يُجيب على الجَدَل الأول لمحاوِره ثراسيماخوس في “الفصل الأول” الذي ادَّعَى أنّ الإنسان الظالم المفتقد للعدل، أي الطَّاغِي، ينعَمُ بحياةٍ أفضل من الرجل العادل، أي “المَلِك الفيلسوف”. ويؤكّد سقراط أنّ الطَّاغِي عَبدٌ لشهواته فيما هو سيّدٌ فحسب على مَنْ بإمكانه أنْ يستعبده. وبالتالي فإنّ الطَّاغِي يفتقد إلى الحرّية والسعادة بل هو الأكثر تعاسة، ويُشدِّد على عذابات الطَّاغِي المُستَبِّد وآلامِه وحياته المُجهِدَة بدنيّاً وفكريّاً على نقيض “المَلِك الفيلسوف” المُحِبّ للحكمة والحقيقة، إذ إنّ الطاغي لا يذوق طعمَ الحرّية الحقَّة أو الصداقة الراقية ولا يسعَهُ أنْ يحكُم بعدلٍ لأنّه لا يدرك مِثال الخير أو الحق أو الجمال.في المقابل فإنّ النفسَ المُحِبَّة للحكمة أكثر تهيُّؤاً للحُكْم العادل من خلال العقل، وهو ما يجعل الحكمة أفضل من المجد والشَّرَف والرغبة بالمال والسيطرة، وبالتالي فإذا ما قادَت الحكمةُ النفسَ البشرية أو “المدينةَ” فتصل بها إلى برّ العدالة والسعادة على نقيض الطُّغيان. وبذلك يكون سقراط قد فنَّدَ جَدَلَ ثراسيماخوس ليُثبِت أنّ الحكيمَ العادلَ هو مباركٌ، ومباركةٌ الأرض التي يحكُمها!.

خاتمة

إنّ التشبيه بين “النفسِ العادلة” و”المدينة العادلة” يُمثِّل اللِّبنَة الأساس في نظرية أفلاطون حول “العدالة”.فالعدالة تبدأ من النفس تناغماً في قواها وفضائلها وتصل إلى الحُكم المثالي بأنوارِ العقل على يدِ ملكٍ فيلسوف! فهل لهذا القول من تأثيرٍ في أيامنا هذه بعد ألفين وخمسمائة سنة من كتابته؟ هذا ما ستُبديه الأيامُ إذا ما تنامى الوعي العقلاني، فكريّاً وسياسيّاً، على هُدى أفلاطون!


المراجع

  1. The Republic by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Annas, J. 1999. Platonic Ethics, Old and New. Ithaca: Cornel University Press. An introduction to Plato’s Republic. Oxford: OUP, 1981.
  3. Brickhouse, T. C., and N. D. Smith. 1994. Plato’s Socrates. Oxford: Oxford University Press.
  4. Kraut, R. 1984. Socrates and the State. Princeton: Princeton University Press.(1979).
  5. Parry, R. D. 2003. “The Craft of Ruling in Plato’s Euthydemus and Republic”. Phronesis 48: 1–28.
  6. Vlastos, G. 1991. Socrates: Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press. (1981).
  7. Grote, G., Plato and the Other Companions of Socrates 1 (1865).
  8. Gulley, N., The Philosophy of Socrates (1968).
  9. Taylor, A. E., Plato, the Man and his Work 6 (1949).

السَّعَادةُ عِند أفلاطون

بين «السَّعَادة» و»الحِكْمَة» و»الأخلاق» عُرْوَةٌ وُثْقَى وتناغُمٌ مُتكَامِل في الفكر الأفلاطوني.يتوقُ جميعُ البشرِ إلى السَّعَادة في الحياة، إنّما بالحِكْمَةِ المُسْتَمدَّة من العقلِ يُدرِكُ المَرْءُ القِيَمَ الأخلاقيّة ومِنْ ثمّ يُطبِّقُها في حياتِه اليومية مُنتهِجاً حياةً صالحة، وبذلك يكون قد اختار دربَ الحِكْمَةِ والشجاعة والعِفَّة والعدل وهي أسبابُ السَّعَادة الفعليّة. ويستندُ مَفهومُ أفلاطون في «الأخلاقيّات» (ēthikós, ἠθικός) إلى أنّ «السَّعَادة» (eudaimonia, εὐδαιμονία) هي الهدفُ الأسمى للتّفكيرِ والمَسْلِك الأخلاقيَين ووسيلةُ تحقيقها هي «الحِكْمَة» (sophía, σοφία) و»الفضَائلُ الأخلاقية» (arête, ἀρετή).

ويتردَّد ذلك المفهومُ الحِكْمَوي الخُلُقي للسَّعَادة في العديد من مُحاوَرات أفلاطون التي تبدو كقِطَعٍ متناغمة في لوحة فسيفساء بديعة ومتكاملة تُمثِّل نظرةً موحَّدة في جوهرها، بدءاً من المُحاوَرات الأولى وصولاً إلى آخرها عند بلوغه سنَّاً متقدِّماً، وهي كاللؤلؤ المنضود في تطوُّرٍ مفاهيمي يتبلور من مُحاوَرة إلى أخرى ليتبدَّى بوضوح أمام عينَي القارئ الحصيف القادر على ربط الأفكار المطروحة في مختلف المُحاوَرات على ضوء تعمُّقه بالفكر الأفلاطوني، ويُدرِك أخيراً مغزى ما أَلمحَ إليه أفلاطون، على لسان سقراط، في مُحاوَرة «أبولوجي» (Apology) عن «مُهمّته المُقدَّسة».
ففي مُحاوَرة «الجمهورية» (The Republic) تبدو السَّعَادةُ كحالةٍ من الرُّقي الخُلُقي تستند إلى قناعاتٍ ميتافيزيقية تتّصل بالحقيقة العُليا ومعرفة مِثال «الخير الأسمى» مبدأ كلّ الخيريّة. وكذلك شأن مُحاوَرتَي «المائدة» (Symposium) و «فايدروس» (Phaedrus) اللّتَين تتمحوران حول النفس البشرية وسُبُل الارتقاء بها وصَقْل فضائلها، في حين تتَّخِذ مُحاوَرةُ «فيدون» (Phaedo) البُعدَ الصوفي الأُخروي، ويؤكّد أفلاطون فيها جميعاً أنّ البشر ينشدون السَّعادةَ لذا يسعَوْن إلى الخير بقدر ما أمكنهم، ذلك الخير الذي يكمن في صميم أخلاقياته كما في عمق ماورائيّاته، فالحياة الخَيِّرة المستندة إلى الحِكْمَة هي مصدر السَّعادة للفرد والجماعة.

في هذا السَّعِي الأخلاقي لتحقيق السعادة، يتردَّد قولُ أفلاطون بأنّ هدفَ البشر وجبَ أنْ يكون «التشبُّه بما هو إِلَهِي» (Homoiôsis Theôi) (مُحاوَرة «ثياتيتوس» (Theaetetus))، أي اكتساب الفضائل والأخلاقيات العُليا من العلوم الإِلَهيّة على طريق معرفة «الحقيقة» أو «الحَق» (aletheia, ἀλήθεια) بأبهى تجلّياته!

فلسفة الأخلاق الأفلاطونيّة

تتجذَّر «أخلاقيّات» أفلاطون في صميم فلسفته، فهي السبيلُ كما يقول إلى «العيش على نحو أمثل». فمنذ أعماله الأولى على غرار مُحاوَرة «بروتاغوراس» (Protagoras) وصولاً إلى ثراء الفترة الوسطى لإنتاجه الفلسفي مع «المائدة» (Symposium) و «غورجياس» (Gorgias) و «الجمهورية» (The Republic) ترتقي مفاهيمُ نظريّته الأخلاقية لتبلغ ذروتها في هذه المُحاوَرة الأخيرة ولا سيّما «الكتاب الرابع» منها.

فمع نظريّته في المُثُل يخلُص أفلاطون إلى أنّه ثمّة حقائق أوّليّة / صُور عُليا فوق الأشياء المحسوسة نتوقُ إلى إدراكها فتمنَحنا فَهْماً عقلانيّاً مطلقاً لقِيَمها وظِلالها في العالم المحسوس، وبالتالي فهي تمدُّنا بمعرفة ما هو الأفضل والأمثل. ومن ثمّ فإنّ هذا التفكُّر العقلاني والتَّوق الرّوحاني يقودان بنا تحت أنوار الحِكْمَة وهُدَاها على طريق السَّعادة. فالإنسان يسعى دائماً إلى السَّعادة كحقيقةٍ واضحة يُدرِك أين تكمن بالعقل والمَسلك الأخلاقي، كما يقول أفلاطون في مُحاوَرة «غورجياس»، فما نتوقُ إليه حقّاً هو»السَّعادة» ولا شيءَ غير السَّعادة التي نكتسبها مِن الحِكْمَة والفضيلة والأخلاق. وأيُّ تقصيرٍ في تحقيق هذا الهدف هو فشلٌ في الغاية من وراء وجودنا.الحِكْمَة والعقل والفضيلة

يؤكّد أفلاطون منذ مُحاوَراته الأولى أنّ الفضائل الأخلاقية، وأوّلها الحِكْمَة وحُسْن الخُلُق والعدل والتقوى والشجاعة، هي في حالةٍ وحدة وتناغُم، وسرّ ترابُطها هو الحِكْمَة بكلّ أبعادها. فالإنسانُ الحكيمُ الحصيفُ الفاضلُ يُدرِك ما هو حقٌّ وصائب وما هو باطلٌ وخاطئ، فيسعى إلى القيام بما هو حقٌّ، ويبغض ما هو باطلٌ، فيكون بالتالي سعيداً بحكمته، إنّها مهارة تحقيق الفضائل، حيث يُشدِّد أفلاطون في ذلك على دور العقل، فلا يكتسب الفضيلة الحقَّة فحسب إلَّا مَنْ أخضع نفسَه لحِكْمَة العقل، وبذلك يتردد صدى قول سقراط الشهير «الفضيلة معرفة».

وفي الفترة المتوسطة من إبداعه الفلسفي، يؤكّد أفلاطون في مُحاوَراته الإبداعية أيضاً أنّ الفضائلَ الأخلاقية هي الوسيلةُ التي تَحدو بنا إلى عالَم السَّعادة. ويُشدِّد على النفس الفاضلة وما تنعم به من تناغُمٍ في قواها إنّما يُفضِي إلى السَّعادة بُهدى العقل، وهذا تماماً ما نستخلصه من مُحاوَرة «فيدون» (Phaedo).
وقد تطرَّق أفلاطون إلى مفهوم السَّعادة بشكلٍ خاص في ثلاث مُحاوَرات هي «المائدة» (Symposium)، و «الجمهورية» (The Republic) و «أوثيديموس» (Euthydemus).

«سعيدٌ هو مَنْ اتَّخَذَ الحِكْمَةَ مَنْهجاً وصِرَاطاً، وسعيدٌ هو مَنْ يَرنو إلى تحقيقِ السَّعادةِ بالفضيلةِ ومَكارِمِ الأخلاق». أفلاطون

«المائدة»: السَّعادة رؤية جَمال الحَق

في «المائدة» يضع أفلاطون حديث السَّعادة على لسان الطبيب الأثيني إريكسيماخوس (Eryximachus) الذي يؤكّد أنّ حُبّ «الحِكْمَة» هو الأكثر قدرة على تحقيق السَّعادة، ويوافقه الرأي الكاتب المسرحي أريستوفان (Aristophanes) مؤكِّداً أنّه «يساعد البشرية على تبديد الشرور ويستجلب أقصى سعادة للجنس البشري». ومن ثم يرقى سقراط بهذه الفكرة إلى الحُبّ المَحض لمِثال الجَمال بحدّ ذاته في وَجْدٍ صوفيّ عَبَّر عنه فيما بعد الفيلسوف توما الأكويني (Thomas Aquinas) بروحيّة أفلاطونية حيث اعتبرَ أنّ أقصى سَعَادة هي الرؤية الجليّة للحَق.

«الجمهورية»: السَّعادة تناغُم نفساني

يُماثِل أفلاطون في مُحاوَرة «الجمهورية» أولاً بين صحّة الجسد وصحة النفس،فكما تتبدَّى صحةُ الجسد بنظامٍ بدنيٍّ بديع، كذلك صحة النفس تتجلَّى تناغُماً نفسانياً وسلاماً داخلياً هو سرّ السَّعادة المنشودة، في حين أنّ اعتلال النفس هو نوعٌ من «حربٍ داخلية» بين قِواها حيث يطغى ذلك الجزء الشَّهَوي فيها على قوة العقل. وهنا يُقارِن أفلاطون بين النفس والدولة ويتحدَّث عن وجه التشابُه في نظامهما أَلا وهو العدل، فالنفسُ المتناغِمة هي نفسٌ عادلة، أي مُتَّسِمة بفضيلة العدل، حينما يحكُمها العقل وبالتالي «تصبح النفس حصينة ومنيعة عن غزوات الحظ».

ففي «الكتاب الأول» من المُحاوَرة حينما ينجح سقراط في تفنيد آراء مُحاوِره السفسطائي ثراسيماخوس (Thrasymachus) يؤكِّد له أنّ «العيش بسَعادة يعني العيش باستقامة أي بمنتهَى الخُلُق».وبذلك يُعيد تعريف المفهوم التقليدي للسَعادة عند اليونان ما قبل سقراط، فهي لا تتحقق من المُتَع الحسّية الخارجية بل من المُتَع العقلية والنفسيّة والرُّوحيّة المتأتية من نور الحِكْمَة وتهذيب الأخلاق.

مُحبِّو الحِكْمَة… سعداء!

تَتَبدَّى النظريةُ الأخلاقية لدى أفلاطون بكاملِ مفاهيمها في الكتابِ الرابع من «الجمهورية»، وتشتمل على عناصر من مقاربته في الإثبات الأنطولوجي «للموجود» ونظريتَي المُثُل والمعرفة بالتّشديد على القِيَم الحقيقيّة التي هي قِيَم المُثُل العُليا، وهي لا تنجلي إلّا للعارفين، والعارفون هم الأفاضل الذين يُحقِّقون الفضيلة، والأفاضلُ هم مُحبِّو الحِكْمَة السُّعَداء، سُعَداء في حياتهم المتَّسِمة بالتفكُّر العقلاني والتحلِّي بالفضائل الأخلاقية والسَّعي إلى معرفة «الحقيقة» بأقدس تجلّياتها (وبالتالي هم الحُكَّام الصالحون للدولة المثالية، الذين يُحقِّقون سعادة الدولة وسعادة الجماعة بضمان سعادة الفرد، ولا يكون ذلك إلَّا بالمبادئ الأخلاقية العادلة وقِيَمُ الحِكْمَة العقلانية، وهذاموضوعٌ آخر!)، فإذا ما تسنَّت لنا معرفة ذلك نختارُ العملَ الصالح القويم لإدراكنا أنّ الفضيلة والمَسلك الأخلاقيين سَعادةٌ ما بعدها سَعادة.

سَعَادة العقل!

لمّا كان القانونُ الخُلُقي عند أفلاطون قانوناً مُنطبقاً على الجميع فلا بُدَّ أنْ يكون قائماً على ما هو شاملٌ للخلق أجمعين، أي المبدأ الأوّل، العقل العُلوي.

ومن أجل معرفة الفضيلة الأخلاقية الحقَّة ينبغي أنْ نعرف ما هو الحقّ انطلاقاً من فَهْمٍ عقلاني، تلك هي الفضيلة الحِكْمَوية المؤسَّسة على العقل فالنشاط الخُلُقي يبدأ ويزدهر وينتهي بالسَّعادة، وبالتالي ذو العقلِ يَنعمُ في السَّعادةِ بعقلِه! وبذلك تُشكِّل السَّعادةُ الخيرَ الأقصى الذي يمثّله ذلك العُلوي- وفلسفة أفلاطون الأخلاقية في الحقيقة ليست سوى تطبيق لنظرية المُثُل.

ويخلُص أفلاطون، على لسان سقراط، في «الجمهورية» إلى أنّ الإنسان الصَّالح والمستقيم أخلاقياً هو الأكثر سَعادة، وأنّ الصَّلاح شرطٌ ضروريٌّ للسَّعادة، وأنّه يشمل جميع قوى النفس، العقلانية والشَّهويّة والغضبيّة، في توازنٍ بديع وتناغُمٍ يحكُمه العقلُ بالخير والحِكْمَة. ويضرب مَثَل «خاتم غيغز» (The Ring of Gyges) ليصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مَنْ يفقد السيطرة العقليّة على نفسه يُصبح عَبداً لأهوائه أمّا ذلك الذي يُبقِي العقلَ سيّداً على قواه النفسيّة فهو ذلك «الإنسان السعيد». ويؤكّد أنّ مصادر السَّعَادات الأخرى في الدنيا كالثروة والمُتَع الدنيويّة الزائلة هي أشكالٌ متدنّية بل وهميّة من السَّعادة.

«أوثيديموس»: السَّعادة كفاية الحِكْمَة!

لمّا كان القانونُ الخُلُقي عند أفلاطون قانوناً مُنطبقاً على الجميع فلا بُدَّ أنْ يكون قائماً على ما هو شاملٌ للخلق أجمعين، أي المبدأ الأوّل، العقل العُلوي.

ومن أجل معرفة الفضيلة الأخلاقية الحقَّة ينبغي أنْ نعرف ما هو الحقّ انطلاقاً من فَهْمٍ عقلاني، تلك هي الفضيلة الحِكْمَوية المؤسَّسة على العقل فالنشاط الخُلُقي يبدأ ويزدهر وينتهي بالسَّعادة، وبالتالي ذو العقلِ يَنعمُ في السَّعادةِ بعقلِه! وبذلك تُشكِّل السَّعادةُ الخيرَ الأقصى الذي يمثّله ذلك العُلوي- وفلسفة أفلاطون الأخلاقية في الحقيقة ليست سوى تطبيق لنظرية المُثُل.

ويخلُص أفلاطون، على لسان سقراط، في «الجمهورية» إلى أنّ الإنسان الصَّالح والمستقيم أخلاقياً هو الأكثر سَعادة، وأنّ الصَّلاح شرطٌ ضروريٌّ للسَّعادة، وأنّه يشمل جميع قوى النفس، العقلانية والشَّهويّة والغضبيّة، في توازنٍ بديع وتناغُمٍ يحكُمه العقلُ بالخير والحِكْمَة. ويضرب مَثَل «خاتم غيغز» (The Ring of Gyges) ليصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مَنْ يفقد السيطرة العقليّة على نفسه يُصبح عَبداً لأهوائه أمّا ذلك الذي يُبقِي العقلَ سيّداً على قواه النفسيّة فهو ذلك «الإنسان السعيد». ويؤكّد أنّ مصادر السَّعَادات الأخرى في الدنيا كالثروة والمُتَع الدنيويّة الزائلة هي أشكالٌ متدنّية بل وهميّة من السَّعادة.

لا سَعَادة من دون الحِكْمَة!

ما مِن طرحٍ فلسفي يستأثرُ بموقعٍ مِحْوَري في فلسفة أفلاطون مثل القول إنّ «الحِكْمَة كافيةٌ» لتحقيق السَّعادة، فمَنْ اكتسبَ الحِكْمَةَ كان سعيداً أيّاً تكن تقلُّبات الحياة التي تواجهه. وأكثر ما تبدّى ذلك في مُحاوَرة «أوثيديموس» المذكورة حيث يؤكّد أفلاطون أيضاً الأهميّة المحورية لكفاية الحِكْمَة في تحقيق السَّعادة. فبشكلٍ عام يُحقِّق المرءُ السَّعادة باكتساب العديد من «الخيرات» لكنّ الخير الوحيد الذي نحتاجه ويكفينا هو الحِكْمَة. فالحِكْمَةُ فيها الكفاية أيّاً تكن الظروف. و»الخيرات» الأُخرى إذا ما استُخدِمَت من دون حِكْمَة فلا خيرَ فيها لتحقيق السَّعادة.

ففي هذه المُحاوَرة يوضح أفلاطون على لسان سقراط: «الحِكْمَة هي حتماً حظٌ جيد «توفيق»، حتى الطّفل يعلم ذلك». ويقول سقراط إلى مُحاورِه الشاب كلينياس (Clinias): «إذاً، إنّ الحِكْمَة تجعل الناس محظوظين. فالحِكْمَةُ حتماً لا تُخطئ، بل هي بالضرورة صائبةٌ وتتيح النجاح». ويستدركُ قائلاً: «حينما تكون الحِكْمَة حاضرة، في مَنْ هي حاضرة، لا حاجة للحظّ الجيد».

فالحِكْمَةُ مثلاً لدى عازف الناي البارع، والنّحويّ المتميِّز، والربّان الماهر، هي التي تجعلهم محظوظين في عملهم وبالتالي سعداء. ويوافق سقراط وكلينياس على افتراضٍ أساسي: الجميع يرغب في أنْ يكون سعيداً، والسعادةُ تتأتَّى من الحصول على الخيرات «الدنيويّة»، كالصحّة والمجد والحُسن، وتنطوي السعادة على الاستخدام الصالح لتلك الخيرات. ويستنتج سقراط هنا أيضاً أنّ المعرفة الحكيمة هي السرّ وراء الاستخدام الصالح لتلك الخيرات.

  ويقول لِمُحاوِره:
سقراط: «إذاً، في ما يختصّ باستخدام أُولى الخيرات التي تحدّثنا عنها، أي الثروة والصحة والجَمال، أليست المعرفة هي التي تُوجِّه أفعالَنا وتجعلها صحيحة من ناحية استخدام تلك الخيرات على نحو صحيح، أو هناك شيءٌ آخر؟».
كلينياس: بلى، المعرفة.
سقراط: إذاً، هل من فائدةٍ لامتلاكنا أيّ خيراتٍ من دون حِكْمَة؟

ومن ثمّ ينتقل إلى المرحلة الثالثة من المحاوَرة التي يؤكّد فيها «كفاية» و«ضرورة» الحِكْمَة لتحقيق السَّعادة، وأنّ كلّ الخيرات ليست كذلك طبعاً في حدّ ذاتها بل ما إذا كانت الحِكْمَة تقودها، وإلَّا انقلبت شروراً إذا ما كان الجهلُ قائدَها، بل الخيِّريّة فيها هي في استخدامها الحكيم المُفضِي إلى السَّعادة، ليخلُص استنتاجاً إلى أنّ الحِكْمَة هي وحدها الخير بحدّ ذاته، والجهل هو الشر بعينه. وبذلك يُثبت طرح كفاية وضرورة الحِكْمَة لتحقيق السَّعادة.

ويستدرك سقراط قائلاً: «إذاً، دعنا نتمعَّن في ما توصّلنا إليه. فإذا كُنّا جميعاً ننشدُ السَّعادة، وإنّما نُحقِّقها باستخدام الخيرات على نحو صحيح، وبما أنّ الحِكْمَة هي التي تدلّنا على الصِرَاط القَويم وسُبُل النجاح، فباتَ من الضروري لجميع البشر أنْ يُهيِّئوا أنفسَهم بشتَّى السُّبُل لأنْ يتَحلَّوْا بالحِكْمَة ما أمكنَ لهم»، أي يقصد ليغدوا سُعداء!

ليست السَّعادةُ بمُتَعٍ حِسّية ومادية بل هي ثمرةُ حياةٍ تتَّسِم بالصلاح والخير. لذا فإنّ السَّعادةَ تُكتَسب بالتحكُّم العقلي برغباتنا وأهوائنا وخَلْق تناغُمٍ في قوى النفس، بما يستحدث سلاماً داخلياً مُباركاً.وطالما بَقي عقلٌ يتوق بشدّة لاستكشاف وفَهْم العالَم، طالما بَقي هناك فرصٌ لتوسيع نطاق الوعي وتحقيق حالةٍ من السَّعادة العقلية المتزايدة.

وكان الفيلسوفُ الروماني شيشرو (Cicero) يقول إنّ سقراط «أنزلَ الفلسفةَ من السّماء وأحضرها إلى الأرض»، ذلك إنّه قد أكَّد لنا: إنّ بوسعنا تحقيق المعرفة وإدراك الحقيقة ونَيل السَّعادة هنا على الأرض بالحِكْمَة والأخلاق والفضيلة.

ليست السَّعادةُ بمُتَعٍ حِسّية ومادية بل هي ثمرةُ حياةٍ تتَّسِم بالصلاح والخير.

أرسطو: سَعَادةٌ من وحي أفلاطون!

جديرٌ بالذكر أنّ الفيلسوف أرسطو تحدَّث من وحي معلِّمه أفلاطون عن السَّعادة بكونها ممارسةً للفضيلة واتِّسَاماً بالخُلُق الكريم، أو ما يدعوه الفضيلة الكاملة، فالسَّعادة بالتالي هي الغايةُ القصوى والهدفُ الأمثل لكل سعي في حياة البشر، وذلك كلّه يعتمد على العقل والأخلاق والحِكْمَة.

خاتَمَة

إذاً، بالمفهوم الأفلاطوني، سعيدٌ هو مَنْ اتَّخَذَ الحِكْمَةَ مَنْهجاً وصِرَاطاً، وسعيدٌ هو مَنْ يرنو إلى تحقيقِ السَّعادةِ بالفضيلةِ ومَكارمِ الأخلاق، وحُبِّ الفلسفة بل حُبّ الحِكْمَة، وانتهاجِ الحياة الفاضِلة المُتَّسِمة بأرقى الفضائلِ والعِفَّةِ وحُسْنِ الخُلُق،والسَّعي إلى معرفةِ «الحَق».. تلك هي السَّعادةُ الحَقَّة، بل غايةُ وجودِ الإنسان!


المراجع

  1. Annas, J. 1999. Platonic Ethics, Old and New. Ithaca: Cornel University Press.An introduction to Plato’s Republic. Oxford: OUP, 1981.
  2. Brickhouse, T. C., and N. D. Smith. 1994. Plato’s Socrates. Oxford: Oxford University Press.
  3. Irwin, T. 1995. Plato’s Ethics. Oxford: Oxford University Press.Plato’s Moral Theory [1974] Plato’s Gorgias (1979).
  4. Kraut, R. 1984. Socrates and the State. Princeton: Princeton University Press. ‘Two Conceptions of Happiness’, Philos. (1979).
  5. Parry, R. D. 2003. “The Craft of Ruling in Plato’s Euthydemus and Republic”. Phronesis 48: 1–28.
  6. Vlastos, G. 1991. Socrates: Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press.Platonic Studies 2 (1981).
  7. Aristotle. Nichomachean ethics: Book VII.
  8. E. R. Dodds. The Greeks and the irrational. 1966. Berkeley: University of California Press.
  9. Ackrill, J., Aristotle the Philosopher, Oxford: Oxford University Press, 1981.
  10. Ross, Sir David (1995). Aristotle (6th ed).
  11. Dodds, E. R., Plato’s GORGIAS (1959).
  12. Grote, G., Plato and the Other Companions of Socrates 1 (1865).
  13. Gulley, N., The Philosophy of Socrates (1968).
  14. Hume, D., Enquiry concerning the Principles of Morals (1977),
  15. Taylor, A. E., Plato, the Man and his Work 6 (1949).

«الحُبّ» عند أفلاطون

يُضِيء أفلاطون على نظريّتِه في الحُبِّ ومستوياتِه في ثلاثِ محاورات هي «هيبياس الأكبر» (Hippias Major)، و «فايدروس» (Phaedrus)، و «المائدة» (Symposium) حيث يتبلور هذا المفهومُ بشكلٍ كبير. ففيما حاولت محاورةُ «هيبياس الأكبر» تعريفَ «الجَمال بنفسه» (Auto to Kalon) من دون صياغة مفهومٍ متكامل، فإنّ محاورة «فايدروس» تتحدَّث قبل الاستفاضة في فن البلاغة والخطاب عن الحُبِّ بكونه «الجنون المقدَّس» (Divine Madness) كوسيلةٍ تتفتَّحُ فيها للنفس أجنحةٌ تُحلِّق بها إلى العالَمِ الأعلى. ويُثار جنونُ الحُبِّ هذا لرؤية «الجَمال» في الأرضِ بما يُذكِّر بـ «الجَمال الكُلِّي». وبذلك يُشير أفلاطون في «فايدروس» إلى العلاقةِ بين الحُبِّ وما هو إِلَهي سرمدي، في حين أنّه في محاورة «المائدة» يُشير إلى الحُبِّ بكونه يرقَى بالنفس سُموّاً عبر حُبِّ الحكمةِ والسعادة على مَراقِي «سُلَّمِ الحُبِّ» إلى مِثَالِ الجَمالِ الأعلى.

تتَّسِم كلّ محاورةٍ أفلاطونية بثرائها وأبعادها الخاصة وصعوبة تفسيرها بالنسبة إلى الباحثين، ما لم تكن ثمة إحاطةٌ وشمول لأبعاد ورموز الفكر الأفلاطوني، وهذا ما ينطبق على محاورة «المائدة» (Συμπόσιον)، لا سيّما في تناولها لمفهومَي «الحُبّ» و «الجَمال». فالرُّقي في الحُبّ إلى عالَم الجَمال المِثالي إلى «الحُبّ الإِلهي» (Agape) إنّما يتوافق مع البُعد الميتافيزيقي للفكرِ الأفلاطوني كما يتبدَّى خصوصاً في محاورات «فيدون» (Phaedo) و «فايدروس» (Phaedrus) و «الجمهورية» (The Republic) فضلاً عن «المائدة» (Symposium). فالمفهومُ الأفلاطوني يُفرِّق ما بين «الحُبّ المادي» (Eros-ɛrɒs)، المشتَمِل على «الرغبة» (Epithumia)، و»الحُبّ الرُّوحي» (Philia-φιλία) المبني على السَّعِي إلى «الفضيلة» (Arête) و»الحكمة» (Sophia) و»الجَمال الأعلى».

الحُبِّ يرقَى بالنفس سُموّاً عبر حُبِّ الحكمةِ والسعادة على مَراقِي «سُلَّمِ الحُبِّ» إلى مِثَالِ الجَمالِ الأعلى. أفلاطون

«المائدة»… خطابٌ في «الحُبّ»

 

من أجل بلورة مفهومَي الحُبّ والجَمال، يجمع أفلاطون في هذه المحاورة كبارَ المفكِّرين والخطباء البارزين آنذاك في أثينا يتبارون في تعريف الحُبّ أو الثناء عليه. ومن ثمّ يضع الحقائقَ عن الحُبّ وأنواعه ودرجاته ورُقِّيه على لسانِ حكيمةٍ مُلهَمَة تُدعَى «ديوتيما» (Diotima) كانت قد أَطْلعَت سقراطَ عليها، وهي تعتبر الحُبَّ بكونه مَلاكاً روحانياً كبيراً «دايمون» (Daimon) كواسطةٍ بين العالم الإِلهي والبشر، لا سيّما في صورتِه الأرقى كحُبٍّ للحكمة (Philosophia)، الحكمة «بغايةِ جَمالها».

المحاورةُ تبدأ مع «أبولودوروس» (Apollodorus)، أحدِ أبرز تلامذة سقراط، الذي ينقل قصةً سمعها من تلميذٍ آخر يُدعى «أريستوديموس» (Aristodemus) عن مائدةٍ أُقِيمَت في منزل الكاتب التراجيدي «أغاثون» (Agathon) في أثينا كان حاضراً فيها، وكيف تَنادَى المشارِكون في «المائدة» من نُبلاء ومفكِّرين، بينهم الفيلسوف سقراط، للتباري في إلقاء خطابٍ عن الحُبّ والثناء عليه، وكيف نام الجميعُ قبل أنْ يُدرِكوا الصباح، فيما بَقِيَ سقراط يقِظاً لينهضَ ويُكمِل مشوارَه على دروب الحكمة.

«فايدروس»
الأرستقراطي الأثيني «فايدروس» (تحمل اسمه إحدى محاورات أفلاطون) كان أولَ الخطباء بين المشاركين في «المائدة»، فاعتبرَ أنّ الحُبَّ يُلهِم المُحبِّين نحو التحلِّي بالفضيلة، بل يُلهِمهُم الشجاعة والبطولة والتضحية وكذلك تحقيق النجاح المثير للفخر، ويمنعهم من أنْ يُقدِموا على أي فعلٍ يُشين صفاتهم كمُحبِّين بل يحدو بهم إلى تحقيق النجاح والشرف والمجد في عين محبوبه. فعلى سبيل المثال، إذا كان المُحِبُّ في معركة فلن يرضى بالذل والمهانة أمام مَنْ يُحِبّ كأنْ يفرّ من الصفوف أو يرمي سلاحه بل سيسعى إلى إثبات بطولته وشَرَفِه.

«بوسانياس»
من ثمّ يتحدَّث النبيلُ الأثيني «بوسانياس» (Pausanias) وهو يُقسِّم الحُبَّ إلى نوعَين، حِسّي عادي وآخر مقدَّس سماوي. الحُبّ الأول لِمَا هو ماديّ وجسديّ، أمّا الثاني لِمَا هو أرقى من الجسد والحواس. ويرى أيضاً أنّ الحُبَّ يحثُّ على الفضيلة في كلّ الخيارات. ويُعتبر خطابُ «بوسانياس» تمهيداً لِمَا سيقوله سقراط.

«إريكسيماخوس»
ألقى الخطابَ الثالث الطبيبُ الشهير «إريكسيماخوس» (Eryximachus)، حيث يتوسَّع بمفهوم الحُبّ ليتعدَّى نطاقه التقليدي إلى الطب والموسيقى والرياضة وتناغُم الطبيعة، إلخ.. وقد أكّد أهمية الحُبّ في الطب والمعالجة، فالسَّعي إلى الشفاء على سبيل المثال هو حُبٌّ، وكذلك شأن الدواء الشافي.

«أريستوفان»
أمّا الكاتبُ المسرحي الكوميدي «أريستوفان» (Aristophanes) فقد أخبرَ في خطابه قصةً «رمزيّة» مذهلة، عن أنّ البشر كانوا في البدء أزواجاً ملتَصِقين ظهراً إلى ظهر وقد انفصلوا، لذلك يبحث المُحِبُّ اليوم عن نصفِه الآخر في مَنْ أحبَّه!

«أغاثون»
الخطاب الخامس ألقَاه الكاتبُ والشاعرُ التراجيدي والمُضيفُ «أغاثون» (Agathon)، فكرَّر الفضائلَ التي يغرسِها فينا الحُبُّ، تلك التي تحدَّث عنها مَنْ سَبَقَه مِن الخطباء، مشدِّداً على السِّمَة الأخلاقية للحُبّ وما يُولِّده من شجاعةٍ وعدلٍ واعتدالٍ وحكمةٍ.

سقراط: حكمة «ديوتيما»
جاء أخيراً دورُ سقراط، فلخَّصَ جميعَ الخطابات وحلَّلَ خطابَ «أغاثون» وطرح عليه الأسئلة حول ماهية الحُبّ والجَمال ومن ثمّ استذكرَ ما سَمِعَه عن الحُبّ من حكيمةٍ تُدعَى «ديوتيما»، وكيف يكون الحُبُّ توقاً نحو الحكمة ومِثال الجَمال!

وهكذا بعدما رأى الحُبَّ كُلٌّ مِن رؤيته الخاصة، كحُبٍّ لكلِّ ما هو جميل بحسب قول «أغاثون» أو بحثاً عن النصف الآخر والاندماج معه في جسمٍ واحد وروحٍ واحدة كما في قول «أريستوفان»، على سبيل المِثال، يصل هذا المفهومُ إلى أعلى مراقيه مع سقراط، الذي يذكّر بحكمة «ديوتيما» التي تتحدَّث عن السَّعي إلى امتلاك الخير ومشاهدة الجَمال الأعلى!

تماثيل لكل من «فايدروس»، «بوسانياس» و«أريستوفان».

تتحدّث «ديوتيما» (Diotima) عن «سُلَّم الحُبّ» (Ladder of Love) حيث ترتقي هذه الحكيمة، بحسب سقراط، بأنواعه من الحُبّ الجسدي إلى حُبّ الجَمال في كلّ تبدّياته في العالم المادي وصولاً إلى حُبِّ الرُّوح، وحُبِّ جَمال الرُّوح الأرقى من جَمال الجسد في تَسامٍ فوق كُلّ ما هو مادي، وصولاً إلى مشاهدة الجَمال بصورته المُثلى. وفي هذه المرحلة الأخيرة التي تتحدَّث عنها «ديوتيما»، يسمو المُحِبُّ إلى أعلى درجةِ (Epanabasmos) على «سُلَّم الحُبّ» (لم يتحدَّث أفلاطون عنه سوى في محاورة «المائدة»)، ارتقاءً إلى مشاهدة «الجَمال المُذهل» وتحقيق الهدف الأسمى من وراء الحُبّ والاستغراق فيه، وبذلك يكتسب صفات ملائكيّة، حينما ينبُت له جانحان يُحلِّقان بنفسه إلى الأعلى نحو الجَمال الأعظم، كما في «فايدروس».

ويستذكر سقراط في خطابِه حوارَه مع «ديوتيما» حول ماهية الحُبّ:

سقراط: إذاً، ما هو الحُبّ، هل هو خالد؟
ديوتيما: لا.
سقراط: ما هو إذاً؟
ديوتيما: إنّه ليس خالداً ولا فانياً، بل وسطاً بين الاثنين.
سقراط: ما هو الحُبُّ، يا «ديوتيما»؟
ديوتيما: إنّه روحٌ عظيمة تتوسَّط بين الإِلَهي والفاني.
سقراط: وما هي قوته؟
ديوتيما: إنّه ينقل الصّلوات إلى الإِلَه وينقلُ أوامرَه وإشاراتَه إلى البشر، إنّه الوسيط الذي يجسر الهوّة التي تفصل بينهما… ولا يتواصل الإِلهُ مع الإنسان إلَّا من خلال الحُبّ… والحكمة التي تفهم ذلك هي حكمةٌ روحيّة… إنّها ولادةٌ جديدة في الجَمال… حيث يُجنَى حصادٌ ذهبيٌ من الحكمة من غِمار بحر الحُبّ… ذلك هو الحُبُّ الذي يُفضِي إلى حُبّ الحكمة… وعندما يُحقِّق المُحِبُّ هذه الفضيلة يُحقِّق فيه ذلك الحُبّ المقدّس… حينما ينظر إلى الجَمال جهاراً فيشاهد الجَمالَ السماوي وجهاً لوجه.

 

«ديوتيما» وسُلَّم الحُبّ

إذاً، ترى «ديوتيما»، بحسب ما قاله سقراط، أنّ الحُبَّ هو عمليةُ رُقِي في إدراكنا لمفهومه وحقيقته كصعودنا في درجات سُلّم يسمو بنا إلى الأعلى، من حُبٍّ مادي حسّي إلى حُبٍّ عقلاني روحاني مَبنِي على الفضيلة والحكمة، وذلك بازدياد مستوى وعينا لِمَاهية الحُبّ في الحقيقة.

يبدأ سُلَّمُ الارتقاء هذا لدى «ديوتيما» بحُبّ الجَمال الجسدي العادي، ومن ثمّ الجَمال أينما وُجِد. ومع الارتقاء خطوةٍ أخرى يُدرِك المرءُ أنّ الجَمال الجسدي لا معنى له وزائلٌ خلافاً لجَمال النفس أو الرُّوح. ومتى التقَى عندئذ بجميلِ الرُّوح فإنّه بغضِ النظر عن جَمال جسده ينجذب إلى جَمالِ روحه، رُقيّاً إلى ما هو غير مادي، إنّه حُبُّ الجَمال الرُّوحي والخُلُقي حينما تصل النفسُ في هذه الخطوة على سُلَّم الحُبّ إلى مستوى أنطولوجي جديد يلحظ الجَمال الرُّوحي الذي يتفوَّق على جَمال الجسد. ومن ثمّ يأتي حُبُّ الفضائل لا سيّما العدل والمعرفة ومن ثمّ الحكمة، إلى أنْ يصل الصاعِد على ذلك السُّلَّم إلى المرحلة الأخيرة في أعلاه حيث سيُدرِك مِثال «الجَمال بعينه» (Auto to Kalon)، محقِّقاً الفضيلة المُثلى في ذلك «الحُبّ العُلوي المقدَّس» (Agape). ومَنْ يرى مِثال الجَمال هذا سيرى مِثال الفضيلة والحقّ، وهي «رؤية» أو «رؤيا» من عالَم العقل العُلوي (Noetic Vision) لا تُعبِّر عنها الكلمات ولا تُشبهها أي معرفة عادية.

ديوتيما: كُلُّ مَنْ أُطْلِعَ على أسرارِ الحُبّ وعَرف جميعَ أوجه الجَمال تِباعاً، يقترب أخيراً إلى مكاشفةٍ نهائية. عندئذٍ يا سقراط تتبدَّى له رؤيا مذهلة هي عينُ الجَمال الذي طالما تاقَ إليه…

 

دلالات فيثاغورية دينية صوفية!

 

يتحدَّث الباحثون أنّ لسُّلَّمِ الحُبِّ دلالات دينية، حيث اعتمد أفلاطون على رسائل خفيّة فيثاغورية، ونقل فحواها «الصوفي» الرُّوحاني إلى النُّجَباء من تلامذته في إشارةٍ إلى غاية الرُّقي على سُلَّم الحُبّ إلى الجَمال الأبهى والأسمى والأمثل. وهو ما يُشير إليه الفيلسوف الألماني مارتن هيديغر (Martin Heidegger) بكونه «ما لم يُفْصَحْ عنه في المحاورات الأفلاطونية»، في إشارةٍ إلى التعاليم الأفلاطونية الرُّوحانية الصوفية الخاصة، لكنّ دلالته الفكريّة والرمزية تلوحُ لذوي البصيرة!

فهذا التسامي الصوفي الذي يتحدَّث عنه أفلاطون، على لسان شخصيات محاورته، إنّما يحثّ النفسَ على الارتقاء نحو جَمال أنقى وأصفى وأطهر من حُبّ الأجساد عبوراً بحُبّ الأرواح الجميلة ومن ثمّ المعرفة والفضائل والحكمة وصولاً إلى أرقى الدرجات وهو حُبّ سبحات الجَمال والجلال!

هذا ما يؤكّده الكاتب البريطاني سي. أس. لويس (C. S. Lewis) في كتابه «الأنواع الأربعة للحُبّ» (The Four Loves)، حيث يرى أنّ أفلاطون يحثُّ الإنسانَ على الارتقاء في «درجات سُلَّم الحُبّ» وصولاً إلى أرقاها، إلى الحُبّ الإِلَهي، حيث يكتشف الجَمالَ الحقيقي ومصدرَ كلِّ الوجود. فكلُّ حُبٍّ وكلّ نوعٍ من الحُبّ البشري، بحسب لويس، يرتقي من الحُبِّ المادي إلى الحُبِّ الرُّوحي إنّما هو تمهيدٌ لتحقيق هذه الغاية القصوى، أي ذلك الحُبّ الإِلَهي المقدَّس.

لوحة لـ «رافاييل سانتي» لأحد المجالس اليونانيّة.

ويعتبر أفلاطون «الجَمال» (Kalon-καλόν) هدفاً أسمى للفلسفة، حيث يتعرَّف محبّو الحكمة على هذا الجَمال في تجربةٍ يُتمِّمون فيها حُبَّهم الحِكْموي العميق فيما يستحصلون على أرقى معرفة. وقد تناول أفلاطون «الجَمالَ» بصفته «مِثالاً» (Form) نرتقي إليه بالحُبّ في محاورات «فيدون»، و«فايدروس»، و«فيليبوس» (Philebus)، و«الجمهورية» (The Republic)، و«بارمينيدس» (Parmenides)، و«القوانين» (Laws)، و«أوثيديموس» (Euthydemus)، و«كراتيلوس» (Cratylus)، و«هيبياس الأكبر»، حيث هو مِثالٌ نصبو إليه بالتأمُّل الفلسفي.

 

الحُبُّ والخيرُ والجَمال!

 

يتحدّث أفلاطون عن «الجَمال» (Kalon-φιλία) بصفته مبدأً أخلاقياً يُتمِّم «الخيريّة»، بل ثمة عبارة في اليونانية هي «كالوس كاغاثوس» (Kalos K’agathos) تجمع «الجَمالَ» Kalon و»الخيرَ» Agathon في صياغةٍ واحدة «جميلٌ خيِّرٌ»، فالفضيلةُ تتَّسِم بالجَمال وكذلك الحكمة وهي الجَمال الأرقى.

وهذا الهدفُ الأسمى لـ «الجَمال» للارتقاء بالنفس إلى عالم المُثُل هو ما جعل أفلاطون يسبغ عليه الخيريّة والنتائج الخيِّرية في حين أنّه يُماثِل بين «الجَمال» و»الخير الأسمى» في أكثر من محاورة، من بينها «المائدة»، و»فيليبوس»، و»القوانين»، و»الجمهورية»، فيما ماثلَ أفلاطون بين «الخير الأسمى» و»نوس» (Nous) أو العقل الكوني، بما يربط بالتالي «مِثال الجَمال» مع «نوس» أيضاً!

سقراط: لا بأس (يا أغاثون)، لقد كان خطاباً جميلاً، لكن ثمة حقيقةً أخرى. أرى أنَّكَ خَلِصتَ إلى أنّ الخيرَ هو جميلٌ أيضاً، أليس كذلك؟
أغاثون: بلى، هذا صحيح.
سقراط: حسناً، إذا ما كان الحُبُّ يتوقُ إلى ما هو جميلٌ، وإذا كان الخيرُ والجَمالُ سيَّان، فإنّ الحُبَّ لا ريب يتوقُ أيضاً إلى ما هو خيرٌ.
أغاثون: تماماً كما قلتَ يا سقراط. إنّ حُجَّتَكَ دامغة.

 

الحُبُّ الأفلاطوني في حَرَمِ “الجَمالِ” العُلوي

 

إذاً، في قراءةٍ تحليلية لنصّ «المائدة»، فإنّ رؤية «الجَمال» المطلَق هي المكافأة القصوى للمُحِبّ الأفلاطوني التوّاق للحكمة (باليونانية: Philosophos، كما صاغها فيثاغورس) الذي يتعدَّى «أمور الحُبّ العادي» لكي يُحقِّق حالةً من «التفكُّر والتأمُّل في بحر الحُبّ الشاسِع»، وهو تأمُّلٌ تتولَّد بفضله لدى التوّاق الأفلاطوني للحكمة ومعرفة «الجَمال» أفكارٌ نبيلة في ظل حُبِّهِ الذي لا حدود له للحكمة – «تلك الأفكار المتولِّدة النبيلة التي تبلغ ذروتها في رؤية التوّاق الأفلاطوني للجَمال المُطلَق منفصِلاً وبسيطاً ودائماً وهو من دون نقصانٍ ولا زيادة، ومن دون تغييرٍ ومتعالٍ عن كلّ جَمال الأشياء المنبثقة والزائلة في آنٍ»، كما جاء في محاورة «المائدة» – وهذا الجَمال المُطلَق هو المصدر بل هو المَنْهَل لكلّ أنواع «الجَمالات» الزائلة الأخرى لدى كلّ الأشياء.

ففي محاورة تيماوس (Timaeus) يتحدَّث أفلاطون على لسان تيماوس عن أنّ العناصر الأربعة للطبيعة، الهواء والماء والنار والتراب، تتكوّن بدورها من عناصر هي تكتُّلات لجزيئيات ذات شكلٍ محدَّد ومنتظم وهي بالنسبة لأفلاطون «الأكثر جَمالاً» (Kallistos)، ويتألّف منها الكونُ «الأكثر جَمالاً».

لذا فإنّ العاشقَ الصوفي الأفلاطوني الصَّاعِد على سُلَّم الحُبّ، بدافعٍ من الحُبِّ الحقيقي، حُبِّ الحكمةِ، والحقِّ والخيرِ والجَمال، يُسعِفه هذا الحُبُّ للارتقاء فوق كلّ الجَمالات (Aesthetics) الأرضيّة «يبدأ من الجَمالات الدنيوية العادية ويتعالى صعوداً إلى الجَمال بعينه»، أي مِثال الجَمال المُطلَق، حتى تتسنَّى له رؤية ذلك الجَمال ويُدرِك عندها ما هي حقيقته، ولا تتأتَّى تلك المعرفة إلَّا حسب تعبير أفلاطون «برؤية الجَمال بعينِ العقلِ»، ذلك العقلِ الأرقى «نوس» (Nous) الذي يُمثِّله هذا الجَمالُ، وبذلك يُحقِّق التوّاقُ الأفلاطوني الراقي الفضيلةَ الحقَّة بمشاهدتِه عُشقاً لذلك الجَمالِ السماوي العُلوي في غمرةِ جلالِ الحُبِّ الإِلَهي. هذا هو «الحُبُّ الأفلاطوني»، ألم تسمعوا به!


المراجع
  1. Symposium by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Phaedrus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  3. Hippias Major by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  4. Drew A. Hyland, Plato and the Question of Beauty (Indiana University Press – 2008).
  5. David R. Lloyd, Symmetry and Beauty in Plato (Trinity College, Dublin, Ireland).
  6. Laura Case, Human Love and Divine Love: The Platonic Matrix in C. S. Lewis (Western Kentucky University – 1975).
  7. C. S. Lewis, The Four Loves (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1960).

الخير الأسمى لدى أفلاطون

شكَّلَ مفهومُ «الخير» فكرةً محوريّة وجَدَليّة لدى العديد من الفلاسفة لكنّ أفلاطون هو مَنْ ارتقَى به إلى مَصَاف المبدأ الأسمى للمعقولات والموجودات، ومِثَال المُثُل، واعتبرَه أصلَ المعرفة والهدفَ الأرقى للإنسان.

أشارَ أفلاطون في أكثر من مُحاورةٍ له إلى أنّ وَضْعَ تعْريفٍ تامٍ للخير يتعدّى الطاقة البشرية، وإنّما الخيرُ يُعرَّف على نحو أفضل باستخدام المجاز والتشبيه. وهو يقول في الفصل السادس من مُحاورة «الجمهورية» (Republic) على لسان سقراط مخاطباً مُحاوِرَه: ما يمنح الحقيقةَ إلى موضوعات المعرفة، وللفكر العارِف القوةَ على المعرفة، هو مِثَالُ الخير. ومن حيث كونه علّة المعرفة والحقيقة، فهو أيضاً موضوعُ (Subject) المعرفة. فالمعرفةُ والحقيقة على السواء تتَّسِمان بالجمال، لكنّك ستكون مُحِقّاً بأنْ تُفكِّر بأنّ الخير أكثر جمالاً منهما. كما في العالم المرئي يتماثل النورُ والنظرُ مع أشعة الشمس، لكن من الخطأ التفكير بأنّهما الشمس، كذلك من الصائب التفكير بأنّ المعرفةَ والحقيقة هما أشبه بالخير، لكن من الخطأ التفكير بأنّ أيّاً منهما هو الخير، إذ إنّ الخيرَ وجبَ أن يكون أرقى شرفاً منهما… إنّ موضوعات المعرفة لا تعود معرفتهما فحسب إلى الخير بل وجودهما الحقيقي أيضاً، ولو أنّ الخير ليس وجوداً بل يتفوّق ويتعدّى الوجودَ كرامةً وقوة». ومن ثم يقول إنّ الخير هو «المصدرُ الأصلي للحقيقة والمعرفة… بل علّة كلّ شيء». إنّ الخير الأسمى لدى أفلاطون هو علّةُ المُثُل أو «الصور العُلْوية» (Forms).

إذاً، الخيرُ في العالَم العقلي هو كالشمس في العالَم المرئي، تماماً كما هي الشمس مصدرٌ لرؤية العين والمرئيات كذلك هو مصدرُ المعرفة في العقل ولكلّ المعقولات، يشعُّ حقيقةً ومعرفةً، وهو مصدر الحياة والوجود في العالم. فالمُثُل، هدف المعرفة، إنمّا تستمدّ وجودها وجوهرها من الخير كما تستمدّ الأشياء في العالم المرئي وجودها ونموّها من نور الشمس، وتستمدُّ خيريّتها منه. فالخير يوفّر المنطقَ العقلي والمعرفة اللذين يُمكِّنان النفسَ من إدراك المُثُل. فعلى سبيل المثال نحن لا نعلم ما إذا كان العدلُ عدلاً أو الشجاعةُ شجاعةً من دون الاستناد إلى الخير كمعيارٍ للخيريّة بحيث نعلم ما إذا كانت هذه الفضائل خيراً أم لا.

الخيرُ في معرفة مِثَاله الأسمى!

يتبدّى مفهومُ «الخير الأسمى» في «الجمهورية» كعقيدةٍ ميتافيزيقية أساسية للمُحاورة التي تُعتبر مُبكرة في أعماله الفلسفية، وكركيزةٍ أساسية في نظريته عن المُثُل، وإنّما هي مَنْ ألهمت الفلاسفة مذاك في التعرُّض لمسألة جدلية الخير والشر.

فكلُّ مَنْ يقرأ «الجمهورية» يلاحظ الأهمية القصوى للخير الأسمى بكونه هدف المرحلة الأرقى من المعرفة، فالمُحاورة تسعى إلى إيجاد الغاية القصوى لسعي الإنسان. ويصل أفلاطون إلى خُلاصة أنّ الخيرَ هو الهدفُ المرجو من وراء جميع أفعال البشر. وهذا المفهومُ يجد حلاً للعديد من المفاهيم المُغلقة التي لم يُقدِّم لها إجابة في محاورات أخرى. وهو يعتبر أنّ دراسة مفهوم الخير هي الدراسة الأهم، حتى من المنظور السياسي، ويوضِح الخطوات التي يعبرها العقل البشري من المستوى الأدنى، حيث ثمة جهلٌ للخير الأسمى، إلى قمة الوعي، وهي بالمعرفة الكاملة للخير الأسمى، التي هي وراء كلّ خير.

المِثَال الأعلى للمُثُل

إذاً، يرى أفلاطون أنّ الخيرَ هو المبدأ الأول، المِثَالُ الأعلى للمُثُل، ذلك المِثَال الذي تصدر منه جميع المُثُل الأخرى. إنّه المبدأ الأسمى بل هو الهدفُ الأسمى الذي تتوقُ إليه كلّ نفس. ويختصر الباحث يوليوس ستينزل (Julius Stenzel) هذا المفهوم بالقول «الخير بالنسبة إلى أفلاطون هو هدفُ الكمال الإنساني».

ويقع هذا المفهوم لمِثَال الخير الأسمى في صميم نظرية أفلاطون حول الخير والشر وما يُمثِّلانه من جدليّة الأضداد، تلك الجَدَليّة الفيثاغورية التي أكثر ما توضح نظريته. فوفق تعريف أفلاطون فإنّ الجَدَلَ «الديالكتيك» (Dialectic) هو وسيلة للاستكشاف والفهم عبر التحليل العقلي لوحدة جميع المُثُل في نظامٍ واحد، هو مصدرها، أي أنّ «الديالكتيك» هو نهجٌ للحصول على الخير الأسمى. وهذا ما نجده في محاورات «الجمهورية» (Republic)، و»المائدة» (Symposium)، والسفسطائي» (Sophist)، و»فيدروس» (Phaedrus)، حيث هناك ترابط بين الحق والجمال والخير كمِثالٍ أعلى.

أمّا من ناحية عقلانية مفهوم الخير لدى أفلاطون، ففيما نحن نسعى إلى حياةٍ متَّسِمة بالخير لا بالشر، فإنّنا نكون في ما بين هذه الأضداد الجَدَلية الديالكتيكية نسعى إلى تحقيق خيريّتنا الخاصة بنا، وبذلك نَعِي مفهوم المُثُل ومبدأ الخير الأسمى. وهنا يربط الباحثون بين نظرية الأضداد الجَدَلية لدى أفلاطون ونظريته في الخير
والشر، ومنهم جي. إي. مويلير (G. E. Mueller)، وآر. سي. لودج (R. C. Lodge). ففي داخل الطبيعة البشرية نزاعٌ دائم يعتمد على نتيجته ما إذا كان الإنسان سيّداً على نفسه أو غارقاً في عبوديّتها، مُرتَقِياً فوق الحِسّ المتقلِّب نحو مِثَال الخير، الذي يعتبره أفلاطون بذلك الحقيقة القصوى. والإنسان يتوقُ إلى صَقْل صفات مِثَال الخير المُنعكِسة فيه. وهو ما يُشير إليه الباحثُ مارتن بوبير (Martin Buber) أيضاً الذي يُوضِح أنّ أفلاطون في محاوراته يُطلِق على التفكير «مناجاةٍ صامتة» للنفس مع ذاتها. وإنّما الرُّوح هي «المحكمة الداخلية» التي تستمع وتحكُم استناداً إلى مفهوم الخيريّة. وفي مُحاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) يرى أفلاطون أنّ الفكر هو «جدالٌ صامت» للنفس مع ذاتها، تطرح أسئلة وتُجيب لتخرج بحُكْمٍ خيِّرٍ صحيح يدحضُ الشكّ باليقين.

إنّ أعظم الشرور هو اقتراف الخطأ والإفلات من العقاب، لأنّ مَنْ يُعاقَب يصبح أفضل لأنّه يتخلّص من شرور نفسه. أمّا مَنْ يفلت من العقاب فهو يزدادُ شرّاً. “أفلاطون”

غاية السَّعِي البشري

في مُحاورة «غورجياس» (Gorgias) يرى أفلاطون أنّ أعظم الشرور هو اقتراف الخطأ والإفلات من العقاب، لأنّ مَنْ يُعاقَب يصبح أفضل لأنّه يتخلّص من شرور نفسه. أمّا مَنْ يفلت من العقاب فهو يزدادُ شرّاً. إذاً، إنّ توق الإنسان نحو الخير إنّما يعكسُ علاقته مع المَثَال الأعلى له. فإنّ الخيريّة في حياة الإنسان تُحدَّد بمدى وعيه للشر، كما في مُحاورة «غورجياس». فمن أجل أنْ نُدرِك الخير ونُحقِّقه ينبغي أن نعرف معرفة حقّة مِثَال الخير الأسمى. فالخيرُ هو علّة كما هو غاية السَّعي البشري المِثَالي، أي هو ذلك المِثَال الذي يتوقُ له القلب دوماً.

ونرى هذه الفكرة في مُحاورة «غورجياس»:

سقراط: إنّما في السَّعِي إلى تحقيق الخير، حينما نمشي، نمشي ونُفكِّرُ بأنّ ذلك هو المسار الأفضل، أو خلاف ذلك حينما نقف، فإنّنا نقف للسبب ذاته، أي لأجل الخير من ورائه. أليس كذلك؟

إنّ الخيرَ هو الهدف الأسمى للسَّعِي البشري، «علّة غائية» (Teleological Cause) كما يتبدَّى في مُحاورة «المائدة»، و»علّة ذاتية» (Subjective Cause). وبما أنّ الخير يُشكِّلُ الفعل الذي تتحرّك النفس إلى تحقيقه فهو «علّةٌ كلّية» (Universal Cause). وهنا يرى أفلاطون أنّ الحياة وجبَ أن تكون وفقاً لمبدأ الخيريّة، فالفعل لا يكون مقبولاً إلا إذا كان ذا نتائج خيِّرَة. ويقولها بوضوحٍ تام في مُحاورة «المائدة»: علّة كلّ شيء نقوم به هو الخير «فما نُحِبُّه هو الخير ولا شيء سوى الخير». وبالتالي يكون مفهوم الخير لدى أفلاطون مبدأ «العلّة الغائية الكلية» (Universal Teleological
Cause).

ويخلُص أفلاطون إلى أنّه في ما يتعدّى الخير لا نحتاجُ إلى أي شيء آخر. فالخير يُبرِّر وجوده بنفسه، تماماً كما هو شأن السعادة. فلا حاجة إلى أن نسأل لماذا نريد أن نكون سعداء، فالإجابة واضحة، إذ يقول في مُحاورة «المائدة»: «ما الذي يتوق إليه مُحِبُّ الخير؟ أنْ يجعل الخيرَ فيه. وماذا يكسب إذا ما جعلَ الخيرَ فيه؟ .. سيكتسب السعادة … فالسعيدُ هو سعيدٌ بقدر ما يمتلك الخيرَ، وعندئذ لا حاجة لنا إلى أن نسأل لماذا يرغب الإنسان في أنْ يكون سعيداً، فالإجابةُ جَلِيّة».

وهنا تتبدَّى العقلانية (Rationality) وراء مفهوم أفلاطون للخير وأهميّتها في نظرية أفلاطون عن الخير والشر ككلّ. ويعتبر أفلاطون الفضائل والصفات الأخلاقية والحكمة العمليّة والفهم والصلاح جميعها خيرٌ، كما في «القوانين» (Laws) و»غورجياس» و»أوثيديموس» (Euthydemus)، لا سيّما إذا ما استُخدِمَت هذه الفضائل والمزايا لغرض الخير.

لذلك يؤكِّد أفلاطون أنّ الأشياء أو الصفات ليست خيِّرَة في حدّ ذاتها لكنّها خيِّرَة فحسب بقدر ما يتماثل استخدامها ووظيفتها مع مبدأ الخير الأسمى. وبذلك يمكن اعتبار الخير المبدأ الغائي الذي نتطلّع إليه لاتّخاذ أي خيارٍ أو قرار وتنفيذ أي فعل أو وظيفة، إذ إنّ قراراتنا تُبنَى على أساس ما هو أفضل. ولهذا السبب تعتمد مقدرتنا على أن نكون أخياراً أو أشراراً على مدى فَهْم عقلنا لمِثَال الخير الأسمى، وبالتالي أي فعلٍ لا يُحقِّق نتائج خيِّرَة إنّما هو نتيجة جهل أو عدم معرفة ذلك الخير. ولهذا السبب يُصِرّ سقراط في مُحاورة «مينون» (Meno) على أنّ اختيار فعل الشر «يُنافِي الطبيعة البشرية، بل هو جهلٌ للخير». وفي هذه النظرية الأخلاقية المِثَالية، يرى أفلاطون أنّ الإنسان الخيِّر يقوم بفعل الخير لذاته لأنّه غاية في نفسه وجزاؤه سعادة في باطنه لا كما كان يقول السفسطائيون إنّ غاية الأخلاق والخيريّة تكمن في اللّذة التي تنجم عنها أو خارجها.

“نوس” والخير الأسمى

ستتَّضِح الصورة الآن أكثر فأكثر. فيما يُشير أفلاطون في «الجمهورية» إلى أنّ مصدر نور المعرفة هو «مِثَال الخير»، فإنّه يُشير إليه في مُحاورة «فيليبوس» (Philebus) بالعلّة الأولى (First Cause) أو العقل «نوس» (Nous)، أي أنّ معرفةَ مِثَال الخيرِ الأسمى، أي معرفة «نوس»، مصدرِ كلّ خيرٍ وكلّ المُثُل والموجودات والمعرفة، هو أساسُ كلّ الخير للنفس.

في مُحاورة «فيليبوس» يقول أفلاطون على لسان سقراط إنّ «جميع الفلاسفة يوافقون على أنّ العقل «نوس» هو ملك السماء والأرض .. ولعلّهم مُحِقّون». وكان الفيلسوفُ الأفلاطوني الإغريقي ألبينوس (Albinus) (ت. 150 بعد الميلاد) مِن أول المُفكرِّين والكُتَّاب الذين قارنوا المحرِّك الأول للكون لدى أرسطو بمفهوم العقل «نوس» ومِثَال الخير الأسمى لدى أفلاطون. فالمحرّك الأول الذي لا يتحرّك لدى أرسطو هو «نوس» الأفلاطوني ومِثَال الخير الأسمى. فالخيرُ أساس المعرفة و»معرفة الخير أساس الخير كُلُّه».
والتلميحُ واضحٌ في مُحاورة «فيليبوس»، فذاك «النوس» الفردي مسؤولٌ عن الحياة الخيِّرَة وبالتالي السعيدة بقدر ارتباطه بذلك «النوس» الكوني، «واجب الوجود»، بخيريّته الأسمى!

لهذا السبب اعتبرَ أفلاطون الخيرَ هو أسمى المُثُل ومصدرَ الوجود والكمال وهو في أكثر من مكانٍ في مُحاوراته يُوازِيه بالعقل الأسمى «نوس». ويُجمِع الباحثون على أنّ مُحاورة «فيليبوس» (Philebus) هي من بين محاورات أفلاطون الأخيرة وربّما كُتِبَت في الوقت ذاته الذي وَضَعَ فيه مُحاورة «تيماوس» (Timaeus)، وهي حوارٌ بين سقراط وفيليبوس وبروتاركوس (Protarchus) ويتمحور معظمها حول الفرق بين اللّذة المادية واللّذة العقلية والتَّوق، لكنّها تعود إلى مفهوم التوق إلى الخير الذي لا يشمل البشر فحسب بل الكون بأسره.

وقد نقلَ أرستوكسينوس (Aristoxenus)، عن معلِّمه الفيلسوف أرسطو، أنّ أفلاطون ألقى في أثينا محاضرةً عامّة تحت عنوان «حول الخير»، لكنّه أوضحَ مفهومَه الفعلي للخير على نحو خاص لنخبةٍ من طلابه المهيَّأين لفَهْم الحقائق التي لا يفقهها العامّة.

ويقول الباحثُ الفلسفي وولتر ستايس (Walter Stace) إنّ غائية أفلاطون «تصل الذروة في مِثَال الخير، وذلك المِثَال هو التفسير النهائي لكلّ المُثُل الأخرى والكون كلّه. وإنّ وَضْعَ الأساسِ النهائي لكلّ الأشياء في الكمال نفسه يعني أنّ الكونَ يصدر عن تلك الغاية الكاملة التي تتحرّك نحوها الأشياء جميعاً»، وإنّ مِثَالَ الخير «هو الحقيقة القصوى»، لكنّه «مجرّد مخلوقٍ لله مُعتمدٍ عليه من أجل وجوده»، مُعارضاً بذلك مَنْ يشير إلى تطابق مِثَال الخير ومفهوم الله عند أفلاطون.

الضدُّ يُظهِرُ حُسنَه الضدُّ

هكذا يكون وجودُ الشر في هذا العالَم الناقص، عالَم الكون والفساد، ضرورةً جَدَليّةً كدافعٍ للنفس في أن ترنو دوماً نحو تحقيق الخيرِ بالتخلُّص من الشر والنقص فيها، وسببهما كما يقول ابن سينا «عَجْز الموجودات نفسها عن قبول الفيض الصادر عن واجب الوجود». وواجبُ الوجود في المفهوم الأفلاطوني هو الخيرُ الأسمى «نوس» وليس الخالق المُنزَّه عن جدلية الخير والشر والوجود والعدم. فوجود الشر في العالم هو الحافز للنفس لكي تُحقِّق كمالَها الخاص بها للعودة إلى مِثَال الخير الأسمى. فالشرُّ ليس علّةً فاعِلة بل إنّ العلّة المنفعِلَة هي سبب الشر بقدر ابتعادها عن العلّة الفاعِلة أي الخير الأسمى.

وهذه الفكرة قد تناولها القديس أوغسطين (St. Augustine) في القرن الخامس ميلادي، ويتّضح التأثيرُ الأفلاطوني على فلسفته، حينما اعتبرَ أنّ «الشر، خلافاً للخير، لا وجودَ جوهرياً له (Insubstantial)، بل هو غيابٌ للخير (باللاتينية Privitio Boni)»، وذلك في معرض سعيه لحل مشكلة «وجود الشر» حيث قال «نحن نُقدِّر الخيرَ أكثر حينما نُقارِنه بالشر (أي كما قال الشاعر: والضدُّ يُظهِرُ حُسنَه الضدُّ)… كما العتمة ُهي غيابٌ للنور، كذلك الشرُ هو غيابٌ للخير». ويبدو المفهومُ الأفلاطوني واضحاً في خُلاصته: «الخيرُ هو الأساسُ الأنطولوجي (إثباتاً وجودياً) للحقيقة والأساسُ الإبستيمولوجي (إثباتاً معرفياً) لإدراك الحقيقة».

وقد لَفَتَ العديدُ من الباحثين إلى استلهام القديس أوغسطين لمفاهيم أفلاطون لا سيّما في مسألة الخير، وعقدة وجود الشر في العالَم، والسَّعي البشري نحو حياةٍ متَّسِمة بالخير.

كامِل الخير!

يُكْمِلُ أرسطو المفهومَ الأفلاطوني للخير ويقول إنّ جميع الكائنات تتحرّك توقاً إلى الخير، وإنّ الخيرَ في العالَم مستمدٌ من العلّة الأولى «الكاملة الخيريّة»، الخير المُطلَق في جميع الوجوه.

إنّ الطبيعة المتعالية لهذا المبدأ الميتافيزيقي أي الخير الأسمى، المنطوي على جميع الحقائق، تجعل منه ذلك الكمالَ الذي يُوحِّدُ الأشياءَ بكمالِيّته (كامِل الخير)، بل غايتَها وسرَّ وجودها.

وبذلك تترابط دُرَرُ سُبحَةِ المفاهيم الأفلاطونية وتتَّضِح الصورة … فالخيرُ الأسمى هو المِثَال الأول للمُثُل، والمبدأ الأول، والعلّة الأولى (…)، ومصدر الخيرات والوجود والكائنات والهدف الأسمى لكلّ نفس.


المراجع
  1. Julius Stenzel, Plato’s Method of Dialectic. Oxford: Clarendon Press, 1940.
  2. Martin Buber, I and Thou. New York: Charles Scribner and Sins, 1970.
  3. G. E. Mueller, Philosophy as Dialectic. New York: Philosophical Library, 1965.
  4. Walter T. Stace, A Critical History of Greek Philosophy. London: Macmillan, 1968.
  5. R. C. Lodge, Plato›s Theory of Ethics. London: Routledge and Kegan Paul Ltd, 1928.

 

المعرفة عند أفلاطون

تمثِّل نظريةُ «المعرفة» مفهوماً محورياً في فلسفة أفلاطون لِمَا لها مِنْ صِلةٍ بمفاهيمِ خلودِ النَّفْس، و»المُثُل» الأوّلية، و»العِلْم تذكُّر». فالمعرفةُ بالنسبة إليه لا تُحرَز إلا بالرجوعِ إلى الحقائقِ المُطلَقة العُلْويّة الثابتة، عَالَم «المَعْقولات»، بمنأى عن العَاَلم المادي المُتَغيّر، عَالَم «المَحْسوسات». فالحواسُ البشرية تعجز عن معرفة حقيقة الوجود، بل هي تَمنّح الذِّهنَ انطباعاتٍ غير دقيقة ولا موثوقة عن عَالَمٍ مادي حِسّي، وينبغي إعمال العقل في تلك الانطباعات وتذكُّر المُثُل المُتأصِّلة في «النَّفْس الخالدة» من أجل تحقيق المعرفة. وفي بلورة نظريّته في المعرفة «إمبستمي» (episteme) أو بمعناها الأرقى («غنوسس») (Gnosis – γνῶσις)، ناغمَ أفلاطون بين مفاهيم في فلسفة سقراط حول الفضائل كـ «نماذج مِثالية ثابتة» (paradigms) مُستقلّة عن أي مسلكٍ، وكذلك تعاليم فيثاغورس، وبارمينيدس (Parmenides)، وهيرقليطس (Heraclitus)، وحتى تعاليم أورفيوس (Orpheus) الصُّوفيّة. فاستمدّ من فلسفة فيثاغورس وأورفيوس المَسْحة الدينية والرُّوحيّة وأبعاد خلود النفس ورمزية الكهف الصُّوفيّة، ومن فكر بارمينيدس استقَى النظرة إلى الحقيقة بأنّها سرمديّة، وأنّ كلّ تغييرٍ ما هو إلا وَهْم. أمّا من هيرقليطس فاستحضرَ وجهةَ النظر القائلة بأنّ لا شيء دائماً في عَالَم حواسِنا وكلّ شيءٍ في دَفْقٍ مستمر، وذلك في خُلاصةٍ إبستمولوجية بأنّ المعرفة لا تتأتَّى من الحواس بل تتحقَّق بالعقل يقيناً وهو ما تطرّق إليه أفلاطون في محاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) حيث أوضح أنّ سُبُل معرفة العَالَم المادي ليست من خلال الانطباعات الحِسّية بل في التفكُّر والتدبُّر بتلك الانطباعات، فيكتشف العقل حقيقتها.

استجلاء طبيعة المعرفة

تتمحور محاورةُ «ثياتيتوس» حول «الإبستمولوجي» (Epistemology) أو «طبيعة المعرفة»، وهو ما تناوله أفلاطون في محاوراتٍ عديدة لكنّ هذه المحاورة خصّصت نقاشاً حول المعرفة الحقّة، وهي تدور حول شخصية سقراط وخبير الرياضيات اللامع الشاب ثياتيتوس ومعلِّمه ثيودوروس (Theodorus) في تقصٍّ حول ماهية المعرفة، حيث يرفض سقراط خلال الحوار ثلاثةَ طروحاتٍ أو تعريفات للمعرفة مُفنِّداً إيّاها بمنطقٍ عقلاني، وهي: المعرفة إدراكٌ حِسّي، والمعرفة بمثابة «مُعتقدٍ» (Belief) حقيقي، ومن ثمّ المعرفة كمُعتقدٍ حقيقي مع تفسيرٍ منطقي، لتنتهي المحاورة في إشكالية بحثيّة (Aporia) تتطلّب مزيداً من التقصّي، وتركت تساؤلات أوضحها أفلاطون في محاوراتٍ أخرى عند تناوله لمسألة «المُثُل» و«العِلْم تذكُّر».

وفي محاولة لاستجلاء هذه الإشكالية المعرفية، يُشدِّد أفلاطون في محاورة «فيدون» (Phaedo) على أنّ المعرفة برمّتها، سواء كانت معرفة الكميات أو النوعيات والمقاييس والأشكال والألوان وحتى مفاهيم الجمال والأخلاق إنّما تتأتَّى عبر التفكُّر والتدبُّر العقلانيَين.

فأيُّ انطباعٍ تُثيره الحواسُ في الذهنِ حول شكلِ «مُربَّعٍ»، على سبيل المثال، لا يمنح معرفةً في «الماهية المُربَّعِيّة»، بل في تفكُّر العقل في الانطباعات التي يُثيرها المُربّعُ إنّما تتسنَّى له معرفة الطبيعة الحقَّة لتلك الماهية. وهذه المعرفةُ إنّما تنطبق على جميع المُربّعات، لا على مُربّعٍ محدّد تراه العينُ آنيّاً ومكانيّاً. وكان أفلاطون قد أضاءَ في محاورة «مينون» (Meno)، على هذه المعرفة الحقَّة المتأصِّلة في النفس، في قصة العبد غير المتعلِّم الذي أظهرَ معرفةً بحقائق هندسيّة حول المقارنة بين أحجام المُربّعات من دون معلِّمٍ أو مُرشِد، حيث أثبتَ سقراط لمينون نظرتَه في أنّ «العِلْمَ هو تذكُّر» أي تذكُّر تلك الحقائق العُلْويّة، التي سنتناولها في ما سيلي سواء تحت تسمية «مُثُل» أو «صور» أو «كُلّياتٍ أوّلية».

تفكُّر وتذكُّر

هذا التفكُّرُ العقلاني الذي يُحقِّق المعرفة، إنّما هو ذلك التذكُّر للحقائق العُلْويّة المتأصِّلة في «النفس الخالدة»، كما نتتبَّع أثرَ هذا الفكر في تعاليم فيثاغورس والتعاليم الهِرْمسية القديمة، المرتبطة بنظرية الصُّور والمُثُل، تلك الجواهر الكُلّية المُطلَقة. وهذ التذكُّرُ هو ما يُطلَق عليه في اليونانية (Anamnesis). وما تتذكَّره النَفْسُ إنّما هو كُلّيات المُثُل المُطلَقة (Universals) لا الجُزئيات الحيثيّة المُتغايرة (Particulars)، فأيُّ مثالٍ تفصيلي عن العدالة أو الجمال، على سبيل المثال، إنّما ندركه، لكنّ المثالَ الكُلِّي للعدالة لا يُعلَّم بل هو معرفة كُلّية بالمُثُل العُليا، إنّما هي متأصِّلة في النفس الخالدة بَدهِيّاً (a priori). ويثبت أفلاطون في محاورة «فيدون» وجودَ معرفة أوّليّة أسبقيّة في تلك الحقائق المُطلَقة العُلْويّة الكامنة في النفوس الخالدة، فأنْ نعرف يعني أن نستعيد تلك المعرفة الراسخة بَدْهياً في النَّفْس.

وكما في محاورة «ثياتيتوس» كذلك في محاورتَي «تَيماوس» (Timaeus) و»الدفاع» (Apology)، يعتبر أفلاطون أنّ العقلَ «نوس» (nous: νόος)، ذلك الجزء الأعلى والأرقى والأقدس من قِوى النفس هو مَنْ يُدرِك المُثُلَ العُليا، تفكّراً وتذكُّراً. فالمُثُل تُمثِّل فعلاً عَالمَ «اللوغوس» (Logos) الذي أُحْصِيت فيه الكائنات بالقوة، وهو ما طوَّره أفلاطون في مفهوم «الديميورج» (Demiurge) «الصانع» أو الوسيط العُلْوي بين مصدر عَالَم المُثُل وعَالَم الطبيعة، لا سيّما في محاورة «تيماوس». وتُبنَى نظرية أفلاطون في المعرفة على هذه المفاهيم: الحواس لا تجعلنا نُدرِك الحقيقة، والنفس الخالدة تتأصَّل فيها معرفة بَدْهِيّة أوّليّة، وهذه المعرفة إنّما هي معرِفة لحقائق عُلْويّة مُطلَقة، أو مُثُل أو كُلّيات أو صور «إيدوس» (eidos – εἶδος) أو أفكار أوليّة «إيديا» (idea – ἰδέα).

في المفهوم الأول، نرى أنّ عالِمَ الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) يشير في هذا الصدد إلى أنّ الأشياء هي «مجموع صفاتها»، تلك الصفات التي تُدرَك بالحواس ولذلك يستدرك أنّ العَالَم المادي بذرّاته ومجرّاته وطاقاته لا وجودَ له سوى في ما تبنيه الحواسُ غير الكاملة في انطباعاتها، وهذا ما يُردِّدُ صدى تعاليم أفلاطون.

ولا عجبَ إذا ما تحدَّث عالِمُ النفس الشهير كارل يونغ (Carl Jung) عن أنّ العَالَم المادي لا يوجد إلا كما يُختَبَر في الوعي، وبقدر ما نُنتِج صورةً عنه في ذهننا، فالمادة بالنسبة إليه فَرَضِيّةٌ و»رمزٌ لشيءٍ مجهول»، وإنّما ما نُدرِكه ونشعره ونُفكِّر به ما هو إلا صورة نفسانية، وذلك إشارة صريحة إلى المفهوم الأفلاطوني بوجود معرفة بَدْهِيّة في النفس الخالدة (فقد قارَن يونغ بين مُثُل أفلاطون والأنماط أو ما أطلق هو عليه تسمية «المُثُل الأوليّة البَدْئية» Archetypes النفسانية). حتى إنّ أرسطو رأى في ماورائيّاته أنّ النفسَ تُولَدُ وفي داخلها مجموعة مِن المُثُل الميتافيزيقية التي تسعى في الحياة الأرضية إلى تحقيقها.

ويجدر التنويه إلى أنّ مفهوم المُثُل يستند بحدّ ذاته إلى النظرية الفيثاغورية القائلة بأنّ البُنَى المُدرَكة بالعقل (Intelligible)، وهي أرقامٌ بالنسبة إلى فيثاغورس، لا العناصر المادية هي التي تمنح الأشياءَ سِماتَها المتميِّزة، وطوَّرَ أفلاطون هذا المفهوم إلى مبدأ «المُثُل السَّرْمَديّة» (Eternal Forms) تلك الجواهر الثابتة التي يُعتبر العَالَمُ المادي المحسوس ظِلالاً لها.

نظرية الصُّور أو المُثُل الأفلاطونية

لكن ما هي «المُثُل الأفلاطونية»؟
في محاورة «كراتيلوس» (Cratylus)، يتحدّث أفلاطون عن تلك المُثُل بكونها «الطبيعة الأزلية للأشياء»، أمّا في محاورة «أوثيفرو» (Euthyphro)، فيصفها بكونها «الصُّور الجوهرية»، أو «المُثُل الأوَل». ويعتبرها في محاورة «بارمينيدس» (Parmenides) «أفكاراً أو أشبه بالأنماط الأولية»، ومن ثمّ يعتبرها «جواهر» كُلّية، وهو ما يشير إليه أيضاً في الكتاب السادس من «الجمهورية» (The Republic)، حيث يعتبر الصورة «كينونة» أو «جوهر»،
وكذا يتحدّث عنها في محاورة «فايدروس» (Phaedrus) بصفتها «كينونة حقيقية»، تتبدَّى انعكاساتُها ماثلةً في الحيثيات الجزئية، تماماً كما وصفها في محاورة «غورجياس» (Gorgias).

وقد أطلقَ شارحو فلسفة أفلاطون، وعلى الأخص نيكولاس وولترسورف (Nicholas Woltersorff)، وأر. جي. كروس (R. G. Cross)، وأيه. دي. وزلي (A. D. Woozley)، وآر. سي. لودج (R.C Lodge)، وأر. أف. أيه. هويرنلي (R. F. A. Hoernle)، العديدَ من التسميات على هذه الحقائق العُلْويّة المُطلَقة، ما بين «الجواهر» و»النماذج المثالية الثابتة» (Paradigms) أو «المفاهيم المِثالية» و»المبادئ العُليا» أو «معايير الكمال» أو «الكُلّيات» و»الأمثلة الكاملة بحدّ ذاتها»، وذلك تفسيراً للكلمة الإغريقية التي يستخدمها أفلاطون للتعبير عن الصور أو المُثُل العليا وهي «إيدوس» (eidos)، والتي يُشار إليها أحياناً بـ «إيديا» (idea) أي الأفكار. وقد أجمعوا على أنّ الكلمة الإنكليزية Form أي «الصورة» و«المثل» هي أفضل تعريفٍ لمفهوم أفلاطون حيث إنّ هذه المُثُل العُلْويّة لا تُدرِكها الحواس بل يتفكَّر في انطباعاتها العقلُ، وإنّ المعرفةَ ليس في علاقة الجزئي بالكلّي أي الصور فحسب، بل في علاقة الفكر بالصورة. إنّ الأهمية الأوّلية هي قدرة العقل على فَهْم الصورة العُلْويّة للشيء المدروك بالفكر. وقد ألمحَ أفلاطون في «جمهوريّته»، وفي عددٍ من المحاوارات السقراطية، إلى أنّ الفلاسفة فحسب هم القادرون على معرفة عَالَم المُثُل ولذلك يستحقّون أن يكونوا حُكّاماً كنخبة متنوّرة حاكِمة.

وفي «الجمهورية»، صوَّرَ أفلاطون مفهومَه القائل بأنّ المعرفةَ مُستمدّةٌ مِن عَالَم المُثُل الجوهرية الأزلية في ثلاثِ قصصٍ مجازية (Metaphor)، وهي أُمثولات رمزيّة، الأولى أُمثولة «الشمس» كمجازٍ لمصدر التنوير العقلي الذي يدلُّ على صورة الخير الأسمى، ومن ثمّ أُمثولة «الخط المقسَّم» في إشارة إلى الأقسام الأربعة للوجود بحسب المفهوم الأفلاطوني، ومن ثمّ أُمثولة «الكهف» (Allegory of the Cave)، حيث يتناول أفلاطون مسألةَ العلاقة ما بين التجربة الحِسّية للإنسان وحقيقة الوجود، في رحلةٍ نحو الحكمة والعرفان والتحقُّق الصوفي تبدأ بالتفكُّر بالمُثُل الجوهرية تلك التي تتعدَّى الظِّلال الحِسّية للعَالَم المادي:

أُمثولة «الشمس»

يرمي أفلاطون في قصة «الشمس» إلى أنّ ماهية الحقيقة لا يمكن إدراكها بالحواس العادية، لذا ينبغي استخدام العقل لفَهْم الحقائق العُليا للوجود، والعقلُ كالنظر يحتاج إلى «وسطٍ ثالث» لكي يعمل، وبالنسبة إلى أفلاطون إنّه مِثالُ الخير. وهنا يقول أفلاطون على لسان سقراط إنّ «الشمس» تُضيء العَالَمَ المَرْئي بالنور كما يُضيء مِثالُ الخيرِ العَالَمَ المدروك بنورِ الحقيقة، وهو ما يتيح للإنسان أن يُحقِّق المعرفة. فكما تُتاح قدرة العين على الرؤية بفضل نور الشمس، كذلك قدرة النفس على المعرفة تُصبح متاحةً بحقيقةِ الخير، بل إنّ «الشمسَ» هي مصدرُ الحياة والنمو وكذلك مِثال الخير هو أصلُ وجود الأشياء وكينونتها، وهذا يتصل بمفهوم أفلاطون للعقل «نوس» والوسيط العُلْوي «الديميورج» كما سبق القول.

أمثولة «الخط المجزّأ»

العَالَمُ بالنسبة إلى أفلاطون، قسمان: «مَرْئي» وهو العَالَمُ المادي المُتغاير، وآخر «مُدرَك بالعقل»، أي عَالَم الصور أو المُثُل، وهو ما يتطرَّق إليه في «الجمهورية»، كما سبق القول، حينما يضربُ مَثَل «الخط المجزّأ» الذي يعكس هذين العَالَمَين. ينقسمُ هذا الخطُ إلى أربعة أجزاء متساوية، يُمثِّل القسمُ الأول المُثُلَ المُدرَكة بالعقل (المعقولات)، والثاني «الأرقام»، أمّا القسمُ الثالث في فئة العَالَم المَرْئي المُدرَك بالحواس (المحسوسات) (Sensible, Perceptible) فيُمثِّل الحيوانَ والنبات والجماد، فيما يتضمّن الرابعُ ظِلالَها وانعكاساتها. وتُدرَك هذه الأقسام الأربعة بقوى إدراكية مختلفة، «الفكر العقلاني» وهو أرقاه، و»الفَهْم»، و»المُعتقد»، و»التصوُّر الحَدْسِي» (Conjecture)، والقسمان الأوّلان يدعوهما «تفكُّراً عقلانياً» (Intellection)، أمّا القسمان الآخران فيدعوهما «رأياً» (Opinion). فبالرأي نعرف العَالَم المادي، وبالتفكُّر العقلاني واليقين نُدرِك الصورَ والمُثُل العُلْويّة الجوهرية.

فإذا ما أعملنا الفكر في «العَالَم المرئي» فحسب فإنّه لن يُحرِز سوى الرأي، لكن إذا ما انصبَّ هذا الفكر على الصور الجوهرية، فإنّه سيُحقِّق «المعرفة». ولو أنّ الرأي الصائب أحياناً، كما في محاورة «المائدة» (Symposium)، قد يكون «أفضل من الجهل»، أو ربّما يقود في الاتّجاه الصحيح نحو معرفة الصور الجوهرية، كما في محاورة «مينون»، لكنّه لا يرقى إلى تلك المعرفة البَدْهِيّة التي تُمثِّل بالنسبة إلى أفلاطون «حقيقةً ثابتة لا متغيِّرة»، لأنّ الرأي يستند إلى العَالَم المادي، عَالَم «الدَّفق الهيرقليطي» (Heracliean Flux) المُتغيِّر أبدا.

فمن وجهة نظر أفلاطون، فإنّنا لا نُحقِّق معرفة فضيلة العدل، على سبيل المِثال، إلا من خلال معرفتنا بمِثال العدل الجوهري، لا من خلال رأينا في تصرُّفٍ جزئي عادل. وبالتالي يعكس الخطُّ المجزّأ دلائلَ ميتافيزيقية. فالمستوى الأدنى أو ما يُسمّيه أفلاطون في «الجمهورية» عَالَم «الصيرورة، عَالَم الكون والفساد»، وهو نموذج ميتافيزيقي لعَالَم الدَّفق المتواصل الظواهري. أمّا المستوى الذي يليه، فهو عَالَم الأشياء المادية الثابتة وهو نموذج الميتافيزيقيا الأرسطوطالية. أمّا المستوى الثالث، فقد يشير إلى عَالَم فيثاغورس الرياضياتي اللامتغيّر، والمستوى الرابع هو عَالَم المُثُل الأفلاطونية وعَالَم «حقيقة» بارمينيدس، عَالَم المُثُل العُليا السَّرمديّة. وهنا يربط أفلاطون بين مفهومِ المعرفة كما خلُصَ إليه في محاورة «ثياتيتوس»، وبالتالي فَهْم المُثُل، وفَهْمِ علاقتها بالمستويات الأربعة الآنفة الذكر. فنَفِي احتمال المعرفة إنّما هو لعَالَم الكَوْن والفَسَاد المُتغيِّر أبداً، في حين أنّ المستويَين الآخيرَين، الرياضيات والمُثُل، أزليَان ولا مُتغيِّرَين.

أمثولة «الكهف» الرمزيّة

يختصر أفلاطون في الكتاب السابع من «الجمهورية» مفهومَه للمعرفة الحقّة بأمثولة «الكهف» الرمزيّة، حيث يضع سقراط لمَنْ يحاوره تصوُّراً عن سجناءٍ في كهفٍ تحت الأرض مقيَّدين بالأصفاد ورؤوسهم مثبّتة في اتّجاه جدارٍ، ولا يرون إلا ما ينعكس أمامهم من ظِلالٍ تتراءى لدُمَى تتحرّك وراءهم انعكاساً مِن ضوء نارٍ مُوقَدة خلفهم، لذا لا يرون من العَالَم غير صور تلك الدُّمَى المتعددة الأشكال. لكن إذا ما أُطلِق سراح أحدهم واصطُحِبَ صعوداً نحو فُتحة الكهف نحو عَالَم النور لينظر تجاه الشمس فإنّه سينبهرُ من سطوعها ولا يرى بوضوح لفترةٍ من الزمن حتى تعتاد عيناه على رؤية الأشياء الحقيقية في عَالَم النور والحقائق الجليّة تحت أشعة الشمس الساطعة، وسرعان ما يُدرِك أنّ ما يراه الآن هو الحقيقة وأنّ ما كان يراه في الكهف ما هو إلا ظِلال وهمية، ويتأمّل الشمسَ في حقيقتها ويعلم أنّها مصدرُ حياة كلّ ما هو في الوجود ومصدرُ الحقيقة والمعرفة.
نعم، في أُمثولة «الكهف» الرمزيّة كما في أُمثولة «الشمس» المنوَّه عنها أعلاه، إنّما يرمزُ أفلاطون إلى «المبدأ الأول» أو «الخير الأسمى» الذي هو مصدر كلّ المُثُل بـ «الشمس»، ذلك المصدر الماورائي لكلّ مُثُل الخير والحقائق والفضائل، وهي تماماً صفات «اللوغوس» كما بيّن في محاورات أخرى. لعلّ أُمثولة «الكهف» الرمزيّة هي الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة والفكر، ولو أنّ تناولها وفيرٌ في الأدبيات الفلسفية، فقلّما مَنْ يُدرِك أبعادها الإبستمولوجية والميتافيزيقية والصُّوفيّة الحقيقية. وقد أشارَ الفيلسوف وعالِم الرياضيات في القرن العشرين ألفريد نورثوايتهد (Alfred Northwhitehead) إلى أنّ الفلسفة الغربية على مدى 2،500 عام إنّما «تؤلّف سلسلة من الهوامش على فلسفة أفلاطون، لا سيّما أُمثولة الكهف».

مَعْرِفة وعرفان وعِلْم!

إنّ نظرية «الكهف» هي مفتاحٌ لفَهْم التحقُّق الصُّوفي، وكان لها تأثيرٌ عميق على الفلسفة بأكملها بل على الدِّين والعرفان بأبعادها الميتافيزيقية الصريحة ورمزيّتها الرُّوحيّة. فما يتغاضى عنه العديدُ مِن الباحثين الغربيين هو أنّ تعاليمَ أفلاطون كانت بمعظمها تقاليدَ شفهيّة سرّية مخصّصة للتلاميذ النُّجَباء المُهَيأين للاطّلاع على الحقائق (initiates) نهجاً حِكْموياً صُوفياً لا تنظيراً أكاديمياً فحسب، وهي جاءت لأجل هذا الغرض بلغة الرمز، ولذلك يُطلِق الصُّوفيون على أفلاطون لقب «أفلاطون الإلهي».

هل مهَّد أفلاطون، بما استقاه من الفكر الفيثاغوري والأورفي والهِرْمسي، في تحدّيه للفكر البشري حول «ماهية المعرفة»، لظهورِ مفهومٍ أكثر دلالةٍ روحيّة عن «المعرفة» في العصور التي ستليه؟ وهل كان أفلاطون في نظريّته هذه يرمي إلى أنّ ثمة مِثالاً أو صورةً أسمى للإنسان هي ما تسعى النفسُ إلى معرفتها معرفة قُدُسيّة هي فوق المعرفة بمُثُل المَعْقولات وكُلِّ رأي في انطباعات المَحْسوسات؟ وهل تُرِّسخ هذه الصورة «عِلْماً» قُدُسيّاً بما يتعالى تجريداً على الإدراك الحِسّي للموجودات والمُعتقدات والاعتقادات؟ وهل ثمة في التجريد فرقٌ بين «المعرفة» و «العِلْم»؟ ذلك بحثٌ آخر!


المراجع

Barnett, Lincoln: The Universe and Dr. Einstein. New York, Bantam Books, 1975.
Guthrie, W.K.C.: History of Greek Philosophy,
Vol. 4. and 5. Cambridge: Cambridge University Press, 1978.
Jung, C.G.: Psychology and Religion, Vol.2. New Haven: Yale University Press, 1938.
Hoernle, R.F.A.: Idealism as a Philosophy. New York: The New American Library, 1958.
Lodge, R.C.: Plato’s Theory of Ethics. London: Routledge and Kegan Paul Ltd, 1928.
Woozely, A.D.: Theory of Knowledge: An Introduction, New York, Hutchinson’s University Library, 1949.
Wolterstorff, Nicholas: On Universals. Chicago, University of Chicago Press, 1970.

من تراث العقل