الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

محمّد قبلان رضوان

وُلِد محمدّ رضوان عام 1942 ودرس المرحلة الثانوية في السويداء، في ثانوية الأمير شكيب أرسلان، ومن ثمّ درس الفلسفة في جامعة دمشق، وانقطع عن الدراسة في السنة الثالثة بسبب الظروف المادية الصعبة التي كانت تواجه الأسرة.
ظهرت مواهبه الأدبية مُبَكّراً منذ المرحلة الإعداديّة حيث كان يكتب الشعر والقصة القصيرة…
في عامه الثلاثين حصل على وظيفة في المؤسسة الاستهلاكية في السويداء، وبقي فيها إلى أن تقاعد عام 2001.
عُرِف بنشاطه الاجتماعي والثقافي والأدبي الملحوظ في السويداء، وانتسب فيما بعد إلى اتحاد الكتاب العرب.

  1. أوّل إصداراته الأدبية كانت عام 1994 كتاب «السؤال والإجابة المستحيلة»، دراسة نقديّة، تناول فيها روايات لكتّاب عرب تدور أحداثها في أوروبا، منهم المصري، توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، والسوداني، الطّيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»،… وكتب بعمق في أدب نجيب محفوظ عموماً، كما تناول بالنقد الأدب الصهيوني، ورواية خربة خزعة لـ يزهار سيملانسكي…
  2. مملكة الجحيم، 2001، دراسة في الشعر العربي المعاصر (الحكاية نموذجاً)، تناول فيها الحكاية عند صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأدونيس وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش، وسعدي يوسف والسيّاب.
  3. محنة الذات بين السلطة والقبيلة، 2002، درس فيها أشكال القمع في الرواية العربية.
  4. المساء الأخير، 2002، فازت مناصفة بالمرتبة الأولى بجائزة المزرعة للإبداع الأدبي والفني التي يرعاها المهندس المغترب يحيى القضماني، الذي يقول في غاية الجائزة: «إني أحترم الفنون بأشكالها كافّة، فأصحابها لا يتقاضَوْن إلّا العذاب والقلق والترقب»… وتبرير الجائزة أنّ الروائي (محمّد قبلان رضوان) امتلك الموهبة الواضحة والقدرة «على المُماهاة بين سيرة بطله «سليمان» وسيرورة الواقع العربي فيما بعد السبعينيّات من القرن الفائت»…
  5. رواية البراري، حيث تنتهي الرواية لتي تتناول الحياة العامة للرجال والنساء لمجتمع الجبل ضد المحتلّين وكفاحهم من أجل استقلال سورية بأسلوب أدبي روائي شيِّق إلى خيبات أمل لأبطالها عشية العقد الثالث من القرن الماضي. وحده، كان الشيخ زيدان، ولعلّه يرمز إلى روح المجتمع، يستمد القوة والأمل في عودة أزهاره من غربة مجهولة غامضة.. لا حدود لها.
  6. أعمدة الغبار، 2008، يحاور محمّد قبلان تاريخ مجتمعه، ويوثّقه أدبيّاً، لكن البطولات في مواجهة العدو تخلص في النهاية إلى عدم الرضى عن الاستقلال المسروق (ص 441)، وإلى موت الأحبّة (446)، والإحساس بالخيبة والانكسار (ص 438) …
  7. التجريب وتحولات السرد في الرواية السوريّة، 2013. في هذا الكتاب تناول أديبنا بالنقد الجاد عشرات الروايات، وقد اكتمل ناقداً أدبيّاً في عمله هذا، ويخلص إلى القول: «… فالرواية العربية باعتبارها رواية تجريبية استطاعت أن تحقّق ثراءً فنيًّا متميّزاً بعد خروجها من القميص البلزاكي وتلامذته، لاسيّما خلال الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع هذا القرن، حيث تمكّنت على يد جيل طموح توّاق إلى التجديد والتجاوز، من ملامح تجربة إبداعية وسرديّة متكاملة منشغلة بتكريس خطاب روائي مهووس بالبحث عن أشكال غنيّة وفضاءات تعبيريّة جديدة غير مألوفة وغير تقليديّة.
  8. زائر الليل، 2014، صدرت الرواية عن اتحاد الكتاب العرب. تناولت العلاقات الاجتماعية المعقدة في مرحلة ما بعد الاستقلال وما رافقها من صراعات ومخاضات شتّى حيث «لا يوجد كائن في المدينة والجبل دون انتماء إلى حزب أو عائلة أو زعيم في ظل فوضى المناخ السياسي الذي اتّسع وتفاقم في عهد الدكتاتور. الزعماء والبكوات وشيوخ القرى والبلدات ارتَدَوْا أقنعة جديدة في انتمائهم إلى أحزاب تحمي تعسّفهم واستبدادهم»….
  9. كائنات الخراب، 2018، رواية تنضح بالقلق، والخسران، تعود بداية أحداثها إلى زمن حكم الدكتاتور الشيشكلي. شرطة السلطة يبحثون عن الأب فيسجنون الأم والابن 12 سنة ومن ثمّ يقبضون على الأب. قلق عام يلف أحداث الرواية التي يسوق الكاتب أحداثها ببراعة، وينتهي الروي بعد أكثر من مئتي صفحة بأفق مسدود، يقول بطل الرواية: «.. ومع نهاية الصيف شحّت نقودي وانسدّت أمامي السُّبُل والأسوأ من ذلك أني تخلّيت عن البحث عن «فراس» وأقنعت نفسي مع مرور الأيام أنّه مات سواء أكان مفقوداً أم مُعْتَقلاً أم هارباً خارج البلاد، وشيئاً فشيئاً بدأت ألاحظ أنّ آلامي تتلاشى ونقودي تنفذ ولم يعد أمامي سوى العودة إلى الديار لأبدأ ما بدأت به «سراب»، وانتهت إليه».
  10. دموع الآلهة، 2019، يقول محمّد في صدر روايته: «في روايتي هذه، كما في رواياتي السابقة، أحاول أن أحرّر التاريخ من قدسيّتهِ الزائفة، وأمنحه مساحة من الحرّية». وبهذا يبرز أديبنا صاحب رسالة أدبية وفكرية ومجتمعيّة….

يبدو محمّد رضوان في روايته الأخيرة، وقد أحسّ بدنوّ أجله، أنّه أرادها بصمة راسخة وضربة معلّم في تاريخ الأدب في محافظة السويداء، فالرواية توثيق أدبي مرتبط بوقائع حياة مجتمع الجبل منذ جذوره الأولى في جبل لبنان، حيث قادت الصراعات المحليّة والدوليّة إلى تشظي المجتمع هناك، وبالتالي التهجير إلى جبل دروز حوران (كما دُعِيَ سابقاً) …
أبطاله من رجال ونساء يواجهون أقدارهم ببسالة ورضى عن المصير المرّ، يستمتعون بحيواتهم، يكتئبون، ويُحبَطون، لكنّهم لا ينهزمون، وتستمرُّ الحياة نابضة بقوّة عبر دورة غلّابة من القهر التاريخي…
شخصيّة «الربّان» في دموع «الآلهة» تكاد تذكّرنا بشخصيّة «الجبلاوي» في رواية «أولاد حارتنا لـ «نجيب محفوظ»….
أدب محمّد رضوان أدب مُفعَم بالاحتجاج والغضب الكامن من مجريات الواقع والتاريخ، وسيحتاج مستقبَلاً إلى نقّاد كبار مختصين للبحث فيه.

[Best_Wordpress_Gallery id=”25″ gal_title=”محمد قبلان رضوان”]

الشّاعرُ الحداثيّ نعيم تلحوق

آثَرَت “الضّحى” دوماً في القسم الثقافي والأدبي، أن تُفرِدَ مكاناً بارزاً لشعراء وأدباء بلغوا مرتبة عالية في فنونهم وإبداعاتهم، ولا سيّما من تجاوز منهم النّطاق اللبنانيّ إلى آفاقٍ إقليميّة ودولية، كالشاعر الحداثي الطليعي نعيم تلحوق. فمن هو هذا المُبدع؟ وعلى ما انطوى شعرُه؟ وبما تميّز أدبُه؟

منذ البدايات، أواسط الثمانينيّات ظهر نعيم تلحوق شاعراً مُختلفاً عمّا كان مألوفاً حينها، ثائراً في فكره المتوثِّب على كلِّ التراكيب الاجتماعية التي كان يرى ضرورة تغييرها (قيامة العدم).

وما لبثت الصورة الشعريّة الجديدة أن تبلورت لديه، واستقرّت أخيراً زاهيةً حرّة، سحابة نيِّفٍ وثلاثين عاماً مع مؤلّفاته الشعرية العشرة: قيامة العدم – 1986، هي القصيدة الأخيرة – 1990، لكن ليس الآن – 1992، وطن الرَّماد – 1994، هو الأخير – 1999، أظنُّه وحدي – 2001، يغنِّي بوحاً – 2005- 2013، فرس الكتاب – 2015، وغيرها.

ليست صياغات نعيم تلحوق الشعريَّة بأسلوبيَّته الجامحة خيالاً وفكراً، سهلة المأخذ، فهو اختطَّ لنفسه، تبليغيةً معيَّنة لا تشبه في مزاوجة المفردات غيره من الشعراء في قطفه المعاني والرُّؤى المُراد إيصالُها إلى عقل وقلب القارئ، فتتمّ الغاية منها تلقائياً وطازجةً، فيفوز الشّعرُ كما الأدبُ بالصور البيانية الفريدة، وهذه في ميزان الفنون الإبداعية، يقيّدها النقّاد لصالح العمل وصاحبه. ونعيم تلحوق صاحب خيال واسع يعينه على البراعة في قنص الأفكار والمعاني التي تحفل بها مؤلَّفاته… نعيم تلحوق الذي وصلت كتبُهُ إلى العالميّة، صاحبُ سيرةٍ عمليّة ناجحة، بدأها من عَيْتات، قضاء عاليه – لبنان مسقط رأسِهِ. أتمَّ دراساته العليا في الجامعة اللبنانية – 1986 – 1987، رأَسَ دائرة الإنتاج الفكريِّ والأدبي في وزارة الثقافة اللبنانية وما زال.
ترأس تحرير مجلة شؤون ثقافيَّة الصادرة عن وزارة الثقافة اللبنانيّة – عُضو الهيئة الإدارية لاتِّحاد الكتاب اللبنانييِّن، وعضو اتّحاد الكتاب العرب، ترأَّسَ تحرير مجلَّة “فكر” اللبنانيّة، الفصليّة، عَشْرَ سنوات، كتب في الصحف اللبنانيّة والعربية ما يزيد على ربع قرن، له برنامج في إذاعة لبنان الرسميّة بعنوان: “أوراق ثقافيّة”.

كُتُبٌ صدَرت عنه:
  • نعيم تلحوق، دراسة في شعره – رجاء كامل شاهين، دار الينابيع، دمشق، 2006.
  • أنطولوجيا الشعر اللبناني، بالفرنسيّة – ناديا كريت – مكتبة بيسان.
  • ديوان الشعر اللبنانيّ المعاصر – حمزة عبود – دار الفارابي – 2008 – بيروت.
  • التّجربة الشعريَّة عند نعيم تلحوق، بين المُزاوجات الصوتيَّة والانتهاكات اللُّغوية – دراسة بحثية – عصام شرتح – إدلب.
  • أنطولوجيا الشعر العربي الألماني – فؤاد آل عواد – دار شاكر ميديا، أخن، ألمانيا – 2011.
  • تُرجمت، مجموعته الشعريّة السابعة – يُغنِّي بوحاً 2011. والتاسعة “شهوة القيامة” 2015 إلى الألمانية، د. سرجون كرم وسيباستيان هانية وجويل هولاند.
  • تُرجمت مجموعته – وطن الرَّماد إلى الفرنسية – 2008 – ناديا كريت.
  • صدر عنه كتاب بعنوان “سيزيف، لعبة الدائرة في شعر نعيم تلحوق للكاتبة ناديا كريت -2015.
  • كتاباته الأدبية والشعرية محور أبحاث ورسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعة اللبنانيَّة.
أدب نعيم تلحوق وثقافته

إضافة إلى ما كَتَب هو وما كُتِبَ عنه، مِنْ كُتب، نلمسُ بالحديث معه، أمراً واضحاً، هو تمتُّعه بذاكرة قويَّة، ولَسَانَةٍ لافتة، وثقافة كبيرةٍ، وفكرٍ مُولِّد يتنقّل به في العصور قديمها وحديثها، مُطَّلعاً، هاضماً مُعظم الفلسفات الشرقيّة والغربيّة مُطَعِّماً كتاباته بها.

ولعلَّ ما كتبته ناديا كريت في مقدمة كتابها “سيزيف” لعبة الدائرة في شعر نعيم تلحوق، خير تأكيد على عمق تجربته الإنسانية وبما يتلاءم مع تحديد سترابونسكي، وهو ناقد غربي مشهور، أنَّ الدائرة هي الصورة الأكثر كمالاً بالنسبة للإنسان، لأنَّه ليس من شكل مُنجَز وتام أكثر منها، وهي أكثر الأشكال ديمومة، أمّا علاقة الدائرة في نتاج تلحوق الشِّعري، فهي تحتلُّ مكاناً أساسيّاً، بالغ الأهمية، حيث يُقسم شعره إلى مجموعتين دائريتين، كلٌّ منها تتضمَّن خمسة دواوين. فمن خلال مطالعاته الصوفيَّة عرف تلحوق معنى الدائرة عند ابن عربي، ومعنى النون، والنقطة في قلب الدائرة، وعرف أنَّ للأحرف الشمسيّة في النقاط مكاناً كرويّاً أو دائريّاً، ويتطوّر النّص والتحليل المعرفيَّين لديه، إلى أن نصل إلى نعيم تلحوق الأزيتريكي، وذلك بمعرفة النواحي الخفيّة اللّامنظورة في معناها اللّامحدود. هل حقّاً أنَّ التجربة الإنسانية التي رسمها نعيم تلحوق في دواوينه العشرة كانت من فيض المعاني العاصفة في ذاكرته. وهل لم يتغير نعيم تلحوق، لا بنظرته ولا بتوْقِه إلَّا نحو المزيد من التوحُّد وحِدَّةِ البهاء.

في ختام ما نصف به شعر نعيم تلحوق ما قاله الأديب محمّد زينو شومان: كلَّما تأمَّلْتَ عمارته الشعرية الشاهقة، ازددت يقيناً على يقين، بمهارة البناء، وروعة مشروعه الهندسي الضَّخم.

ولعلَّ مَن شاء أن يتبيَّن خصائص هذا المشروع يكتشف سرَّ العدد فيه وتحديداً العدد خمسة. هذا إذن هو الشاعر الفيتاغوري نعيم تلحوق وسرّ ثقافته الشعريَّة والأدبيَّة.

كلمةٌ في كتابٍ وشاعرة

 

مداخلة الشيخ سامي أبي المنى في حفل توقيع كتاب السيدة جمانة صلاح الدين “وجاءني البحر” في المكتبة الوطنية بعقلين بتاريخ 20-4-2013
جُمانة أبو مطر صلاح الدّين إنسانة مؤمنةٍ مُحبّة، ترسم شعورها في أبياتٍ منثورةً متلألئةً جمالاً وأنساً وذوقاً، وتنثر مشاعرها الرقيقةَ شعراً لطيفاً، تفلشُ جدائله المسترخية على أكتاف الحياة دون عُقَد الوزن والقافية وتعقيدات البحور وتكلّف المعاني.
في كتب السيدة جمانة ولوحاتها تقرأ روحيّة المرأة الأمّ المربيّة وسماتِها.. تقرأ الحنين والجدل وبسمةَ النّغم وخلجاتِ الفصول.. تقرأ الكلماتِ واللمعات ومواسمَ الحبّ وقناديلَ الذكريات، تقرأ الأمَّ والجدّةَ الفتيّة والأختَ الوفية ومحبّةَ الأب وحفيفَ الشعور وحِكَمَ القدر.. تقرأ وتقرأ وتقرأ، وتسافر معها في عالمٍ رائعٍ من اللطافة والأناقة واللباقة، وتنحني باحترام أمام حضورِها المُلفت الجذّاب، أدباً وأخلاقاً وفكراً نيّراً، وهي المُعذَّبةُ الفرحة بسنابل عشقها وطمأنينةِ روحها، والقلقةُ المفتّشةُ دوماً عن الألق الجميل وبريق الحبّ وألوان العطاء.
كأنكِ يا سيّدةَ البحر تأتين إليه راجيةً، وتعودين منه راضيةً، يجيئك البحر من جبال هملايا، من كهوف النسّاك، رذاذاً مُفْعماً بالبخور والورود والعطور وزهراتِ اللوتس المضاءةِ بالجمال، هكذا تقولين، يجيئك حكمةً تسطع بالحقّ، وترانيم صباحٍ آتية من ينابيع المحبة والصفاء.. تأتين إلى البحر أم يأتي البحر إليك، لا فرقَ عندك.. طالما أنّك تتألّمين وتتأمّلين، وكلا الطرفين سبيلٌ إلى صقل الذات، والمؤمنون يتّقون اللهَ فيقيهم، يناجونه فيهديهم، يأتون إليه فيسكن في قلوبهم، على قاعدة الحكمة الإنسانيةِ القائلة: “وأنْ ليس للإنسان إلاّ ما سعى”، وعلى قاعدة التوحيد في الإسلام التي تقول: “إنَّ للّه رجالاً إذا أرادوا أراد”.
تلك هي القاعدة وتلك هي فلسفة الحياة، ولذلك أنتِ مُطمئنةٌ إلى سلامة قلبك وصفاء روحك، ومُدرِكةٌ أنّ الطمأنينةَ تأتي من الإنسان ذاتِه وليس ممّا عداه، لقوله تعالى:”يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنونَ إلّا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم”، وها أنتِ تناجين حبيبَك الأوحد بهمس صلاتك، فيقذف في بصرك البصيرة، لتسْبَحي في بحارٍ صوفيةٍ بعيدة القرار، وتعودين كما أنت، مع تصفيق الأمواج العاتية على الرمال، تعودين براعمَ أملٍ” تنشر شذاها في فضاءٍ مداريٍّ”، وترجِين أن يرفعَك الحقُّ على سفوح حبِّه الكبير ويذريَك من عَلٍ، “أريجاً عابقاً يبلسمُ الجراح” و”يعتُقَكِ من العالم البرّاق”، هكذا تقولين وترتجين، وأنتِ تأملين أن تغسلي وجهَك بدموع السحاب العابر، وأن تَهيمي تحت شعاعاته وفي أنواره، وتتبخّري على مرآته، لتصبحي قطرةً في محيطه الهادر.. تأتين منه وتعودين إليه، في روعةٍ من التعبير والإخلاص والشفافية.
تحلِّقين بعيداً في فضاءات الرّوح، وترتحلين في خضمّ البحار العميقة، تبحثين عن الطمأنينة “والهُنَيهات النورانية”، وتنصهرين كالشمعة عندما تدخلين في حقيقة إشراقة الحق “وتذوبين كالعطر في وجوده العظيم”، وكأنما هناك “حفنةٌ من نورٍ” تشعُّ من داخل المحبّ، “فيرقُّ قلبُه بفرح” و”بسعادة مقدّسة”، ليقودَه الحبُّ إلى حبيبه الأوحد “؛ “مُجيبِ السائلين”، كما تقولين، وذاك هو ما يقولُه التوحيدُ، بأنّ السعادةَ تأتي من داخلِ الذاتِ وليس من خارجها، إذا ما عاشت “عطش الأماني” وطمحت لتحقيق “حُلُم الروح”، وتلك عناوينُ لكتبِك وقصائدك، قرأنا مثيلاً لها لكبار العرفانيين المُنشدين على أعتاب الحبيب، ككمال جنبلاط في ديوانَيِّ “فرح” و “السلام”، وللدكتور سامي مكارم في “مرآة على جبل قاف”، ولغيرهما من الأصفياء الذين سعَوْا من خلال مسلك العرفان إلى المسافرة الروحية في دروب الحبّ والولاء، حيث السكونُ في جنّة التّوحيد وحيث السعادةُ التي لا تغيب.
تحملين في روحكِ عبَقَ السويداءِ من جبل العرب، وتُنشدين من بعقلينَ قصائدَ من القلب والأعماق، وتحملين في عينيك وصدرِك رسالةَ الأمّ الفاضلة، تزرعين الفضيلة في بناتك ومجتمعك وتغنّين لمرابض الشجعان والشرفاء، للصخور الصلبة، جبلاً يعانق جبلاً وشعباً يثورُ لنصرة شعب، وتحلّقين بعيداً في معارج الحق والخير والجمال بكلمةٍ طيِّبةٍ وشعرٍ جميل…
شِعرٍ رقيقٍ يرتقي بعقولنا وقلوبنا نحو السعادةِ والسكينة..
ويُضيءُ فينا العمرَ، يُشعِلُ في شموع الروحِ والجسدِ الفتيلا..
شعرٍ كمثلِ حبائب البلَّورِ.. يلمعُ في ميادين الطفولة
شعرٍ يتوقُ إلى الحبيبِ بلهفةٍ وبرَفّة العين الخجولة
شعرٍ من الوجدان والعرفانِ.. يسبحُ في فضاءاتِ المدينة
وعلى بساط الريحِ يخترقُ الروابيَ والسواترَ والسهولا
شعرٍ يضجُّ سعادةً بهدوئه الروحيِّ.. يبعثُ في حنايا النفسِ والعينِ الفضولا.
الشعرُ عند جمانةٍ يختالُ.. يرسمُ لوحةً..
تزدانُ بالألوانِ… بالإيمانِ.. بالروح الأصيلة
واللونُ يكتبُ بيتَ شعرٍ مُترَفٍ.. يُوحي بأفكارٍ نبيلة
لكأنما الفنّانةُ المعطاءُ تغدو وردةً جوريّةً.. أو نجمةً مُضويّةً..
عطرٌ على عطرٍ، كما نورٌ على نورٍ..
تُرى.. وكأنها جاءت وجاء البحرُ.. يوحي بالأحاسيس الجميلة
مُذ أدركت بالحدس والإلهام ما خلف اشتدادِ الموجِ من مدٍّ وجزرِ..
إذ جاءها جاءته ترسمه.. تُلوّنه..
وتكتبُه بحبر يراعِها الممزوج من نورٍ وعطرِ..
فيصيرَ بحرَ سنابلٍ.. وبيادراً وحقولا..
ويقولَ إنّ الخيرَ يأتي من صميم الذاتِ طوعًا..
لا صراخَ ولا صهيلا..
وبأنّ ما بعد المشقّةِ ليس وهماً أو سراباً عند من يسعى..
وليس البحرُ شيئاً مستحيلا.

فؤاد الخشن

شــــــاعِرَ الرّيفِ وزَهـــــر اليـــــــاسمينْ والـــــهوى البِكْـــــرِ وَرَعْشَـــــاتِ الحنينْ
قُــمْ إلـــــــى الـشعْـــــــر تَبــــــوأْ سُــــــــدَّةً أَنْـــتَ فيـهـــــــا رائـــــــدٌ للـمـحـدِثـيـــــــنْ
إنّمـــــــا الشـعــــــــرُ لآلِــــــــئَ صُغــتَــــــــهُ من فتِيْتِ المِسْـــكِ فــي صِدْقٍ ولِيــــنْ
يستريـــــحُ السِحْــــرُ فــي ألـفــــــاظِــــــهِ مثلـمــــــا العِطْــــرُ بِزَهْــــرِ الياسمـيــــنْ

هذا هو فؤاد الخشن، كما عَرَفْتُهُ شخصياً، أَحَد كبارِ شعراءِ الضاد في القرن العشرين، وممّن نبغوا فتركوا آثاراً شعريّة بعدهم تدُلُ عليهم، خالدةً على مَرِّ العصور، بشهادة أكبر الشعراء اللبنانييِّن والعرب، «الأخطل الصغير»، «عمر أبو ريشة»، «الدكتور محمَّد مندور» «سليمان العيسى» وغيرهم. وفي هذه المقالة نحاول التذكير به، فلم يكن يؤتى على ذكره في وسائل الإعلام بما يتناسب مع ما أعطى من إبداع وتميُّز.

وُلِد فؤاد الخَشن يوم 13/1/1924 في بيروت، ولكنْ عندما هاجر والده إلى البرازيل عام 1926، عاد مع جدَّته ووالدته وأخيه إلى ضيعتهم الشويفات. هذا الريف الرائع الواقع بين الساحل والجبل، عرف طفولةً سعيدة، أغنت نفسه، وأَثْرَتْ مُخيّلتَهُ في سنوات عمره الأولى، وإلى أن استوى رجلاً متين الشخصيّة، لم ينفكّ إبّان تفجُّرِ موهبته، شاعراً يغرف من بحر، عن أن يسجّل ذكرياته، وأحاسيسَهُ، وافتتانه بجمال الطبيعة الريفية: «كنا نُمضي فرصَنا المدرسية، شاردين بين الكروم والضهور، تحت أشجار الصنوبر الفاتحة مظلاتها المخملية الخضراء مهسهسةً باحتكاك إبَرِها العطرية الدقيقة… أو في «وادي البير» حيث نمتّع البصر ربيعاً بالنجوم البيضاء المعلّقة قناديلَ صغيرةً على أشجار اللوز، وعقوداً على أشجار المشمش، ونسرق ما يطيب لنا من ثمار بستان العم حامد»… أمّا في مواسم قطاف الزيتون فكنّا نرافق الأهل إلى غابة الزيتون الواسعة الممتدّة بين الشّويفات والبحر، بحيرةً من الخضرة الدائمة، وهذا قبل زحف الفيل الحديدي عليها من مدينة أقفاص الإسمنت ليُردي أكثر أشجارها الدهريّة… أشجار الخير والنور والبركة… وها هو في قصيدة بعنوان «أصداء» في صفحة 36 من ديوانه، يتغنّى بالريف
كما كان يراه:

أنـــــا مــــن ريـــــفٍ علــــى تلك الرُبــــى أســبــــــغَ الــلــــــــــهُ عـلــيـــــــه فِتَــــنَـــــــهْ
نَشَـــــــــرَ الضّــــــوءَ عـلــــــــى تُرْبــتـــــــــه وبـــــأَزْهــــــــــارِ الأمـــــــــــاني زَيَّـــنَــــــــــهْ
أنــــــــا من أرضِ رُعَــــــــاةٍ جَـــــرَّحـــــــوا سَحْبَــــــةَ النـــــــاي الحـنــــونِ المُحزِنةْ
مـــن جـــــدودٍ عصــــــروا الكرْمَ دَمـــــــاً سَكِرتْ منــــه الـخـــوابـــــــي المدْمِنَــــةْ
وعلــــــى سُمْــــرِ الــــدوالـــــــي كـتـبــــــوا شِـــــرعة الحُـبِّ وخَــطُّـــوا سُنَـنَـــــهْ

وبعد أن عاد والده من البرازيل عام 1939 أعادَ العائلة إلى بيروت حيثُ تتلمذ في «مدرسة حوض الولاية» على يد الشيخ راشد عليوان اللغوي والشاعر. وهنا كتب أول قصيدة له باللغة الفصحى، وكان عنوانها «بلبل»، لحّنها وغنَّاها رفيقه في الصفوف الابتدائية ومطرب الإذاعة اللبنانيّة خليل عيتاني، ثم أعقبها بثانية بعنوان «ذكريات» نشرها في مجلة «المعارف» لصاحبها الشويفاتي «وديع نقولا حنَّا»، وعندما أصبح في الصفوف التكميلية، أعلنت «محطة الشرق الأدنى» من يافا، عن جائزة لأجمل قصيدة مترجمة عن الإنكليزية أو الفرنسية. فكانت المفاجأة الكبرى أنّه فاز من بين مئات الشعراء بالجائزة الأولى، بترجمته قصيدة «الخريف» للشاعر الفرنسي لامرتين، الذي عَشِقَ شِعْرَهُ، رَدْحاً من الزمن، بتأثير من زميله، الكاتب في ما بعد، محمّد عيتاني. وفي عام 1944 عندما أصبح فؤاد الخشن طالباً بدار المعلمين، راح يقرأ بِنَهَمٍ، بودلير، ورامبو، وفرلين، وفاليري، بلغتهم الأم، ويقرأ بترارك، وشلي، وبيرون، وطاغور مترجَمين إلى العربية، كما راح يكتب بعض القصائد التي كان منها قصيدة «الراقصة السوداء التي أعجبت أستاذَه في الرسم، الشيخ قيصر الجميٍّل، صاحب اللّوحات الرائعة، فرّسم لوحةً صغيرةً من وحيها وأهداها له:

نَمَّ عنها الستارْ…
طيفاً من الليلِ…
تمطَّى كلهثةٍ وتَرَقْرُقْ:
تتلوى التواءَ أفعى…
وتَنْزو تحت غيمٍ من الحرير
المُرَقَّقْ
تمسحُ الأرضَ مثلَ طيرٍ هلوعٍ
مَسَحَ الماءَ بالجَناح وحَلَّقْ
وتَمَسُّ الرُخَامَ مسّاً رفيقاً!!
مثلما اللّحنُ شاء أن تترفّق
وعلى غُلْمةِ الشفاهِ نداءٌ
رَفَّ من رِعشةِ الدماء وأَشرقْ

ثُمَّ قصيدة «إلى مُلهمتي الأولى» التي حَمَلَها بنفسهِ هذا الفنان الكبير، والوالد الروحي له، بحسب تعبيره إلى ألبير أديب ونشرها في مجلّته الهامة «الأديب» وعندما نُشِرتْ هذه القصيدة، ترجمها المستشرق البريطاني، والأستاذ في جامعة كمبريدج اللورد آربري إلى الإنكليزية، ثم اعتبرتها الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيّوسي أوّل قصيدةٍ حديثةٍ نُشِرَتْ في العالم العربي، وكان ذلك عام 1946، عام زواجهٍ من ابنة عمِّهِ الشاعرة أديل الخشن…

وبهذا يكون فؤاد الخشن بحق رائدَ الشعر الحديث في لبنان والعالم العربي. وفي عام 1951 فاز في مسابقة أجرتها محطة الإذاعة اللبنانية لأجمل قصيدة غزلية، وكان بين المتبارين بعض كبار المشاهير الذين غاظهم هذا الفوز. بعد قراءته، «الأخطل الصغير» و»أمين نخلة» و»عمر أبو ريشة»، و»سعيد عقل» و»صلاح لبكي»، وغيرهم من الكبار…. وتأثُرِه بأشكالهم وقواميسهم الشعرية، اختار لنفسه وهو في أواسط الأربعينيات شكله الشعريَّ الخاص الذي رأى فيه للشاعر مُتنفَّساً أعمقَ، ومدىً أرحبَ، بالتخلّص من القوالب الضيقة، والهلهلة، والتقرير، والوضوح المسطح، واعتمد التكثيف والتقطير، والبناء الهرميّ المتنامي بنغم سيمفوني متصاعد، والاستعانة للتوصيل غير المباشر، بالأساطير والرموز والغموض الآسر الذي يشعرُ القارئُ معه أنه يرى الأشياء بِسِحْرٍ أعمق من خلال غُلالةٍ نِصْفِ شفَّافة، أو قريةٍ تُغرِّدُ فيها سطوح القرميد، ونوافير النخل الخضر من خلال منديل ضبابةٍ صباحية… يقول بعض النقّاد إنّه لم ينَل الشهرة التي يستحقها، وذلك لزهده بالسعي لترويج اسمه، كما يفعل بعض الشعراء. ورفضِهِ السَعْيَ للتقرب بشتى المغريات من المسيطرين على أجهزة الإعلام من مكتوبة، ومسموعة ومرئية.

وفي عام 1951 كان فؤاد الخشن من مؤسّسي «أسرة الجبل الملهم» في شُلةٍ ساعدت على التغيير شكلاً ومضموناً في الأدب والشعر، بالقفز من تهويمات الرومنطيقية إلى جدِّيات الأدب الملتزم… ولقد عاشت هذه الأسرةً نحواً من سنتين… هاجر بعدها إلى فنزويلا مع زوجته هرباً من روتين الوظيفة. وفي هذا المغترَب النائي كتب قصائد قليلة، كان أهمها قصيدة حنين، التي قال نقيب الصحافة الأسبق رياض طه، في إحدى رسائله إليه، أنها أبكته… وقرأ فؤاد الخشن بإنعام شعراء أميركا اللاتينية، وإسبانيا باللغة الإسبانية، هذه اللغة التي قال عنها: إنها موسيقية، شبيهة بكرَّات الحساسين، وتغريد البلابل، وعلى ذكر الشعر وحالاته يقول: ليس لكتابته عنده ساعة معينة، وإن كانت ساعات الفجر الأولى هي ساعات الصفاء والتدفُّق، كما ليس لميلاد القصيدة مكان معيّن، فالمكتب، والعيادة، والحافلة والشارع يمكن أن تكون أماكن ولادتها غير المنتظَرة. وبعد ذلك راح يطوف في دنيا الله الواسعة، ويُدعى إلى أكثر مهرجانات الشعر العربية، وبزيارته الاتحاد السوفياتي «السابق» وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، شعر بانعطاف يشده من الغزليات والريفيَّات إلى كتابة الشعر الإنساني، والوطني، وكَرَّت حبات السُبحة بهذا النوع من الشعر وقلَّت الوجدانيات حتى نَدَرَتْ.

في عام 1966 كان للدولة اللبنانيّة التفاتها الوحيدة نحو منح جوائزها الأدبية للآثار الأدبية الصادرة عام 1965 – 1966، فكانت جائزة الشعر من نصيب ملحمته الشعرية «أدونيس وعشتروت» ثم أعقبتها جائزة أصدقاء الكتاب، عن منتخباته الشعرية التي صدرت عن دار المعارف، بمصر تحت عنوان «سنابل حزيران». وثمة بُعْدٌ آخر ينبغي ذكره عن فؤاد الخشن، وهو تضلُّعه باللغة العربية، وإتقانه الفرنسية والإسبانية، وتثقُّفُهُ الواسع في المسائل الأدبية والفكرية على اختلافها، فترى له خَوْضاً شعريّاً عبقرياً تُفاجأ به، ما يجعله جديراً بالمستوى السامي الذي بلغه، كما أنّه كان يؤكد مقدرته مراراً وفي كل أوان، على نظم الشعر المقفّى الموزون، كقصيدته إلى «الشاعر القروي» التي قيلت يوم الوفاء له من على منبر دار الطائفة الدرزية:

يـــــــا شـــــاعراً غنّـــــى بثورتـنــــــا التي مــــــا زال يذكرهـــــا الدخيــلُ ويُكـبــــرُ
فــــي يوم حَمْلَتِهِ علــــى «الجبل» الذي لا يُستبــــــاحُ لــغــــــاصـــب أو يـقـهــــــرُ
إذ هُوجم الجيشُ المقــيـــــــمُ بسهـلِـــهِ  والفجـرُ مفـتـــوحُ المــــــراوحِ أشـقــــــرُ
فـــــإذا الجــنـــــودُ مسمَّرون لـــذعـــــره بُكْمٌ… وفــرســـــانُ الــــدروز تزمـجـــرُ
وإذا بمــغـــــــوارٍ يحـمـحـــــــمُ تحــتَــــــــهُ ويَخِبُّ في الـوحــــلِ المخضَّـــب أبجرُ
يهــوي علــــى تلك الخصور… يقدُّهــا ويكُــــرُّ كــــالأســــد الغـضــــوب ويـــزأرُ
وعلى المـنـــــاكـــب من ضـــراوةِ سيفه تُــلــــــوى مُغَلَّـقـــــةُ الــــــرؤوس وتُبـتـــــرُ

وهكذا كان يكتبُ الشعر بكل معانيه، وكل أشكاله، مُقفّىً، وذا تفعيلة وحرّاً وموشَّحاً… فكيف يكون النبوغ الساطع. إن لم يكن هكذا وبهذه السويّة؟ زد على ذلك تبحُّره على طريقه المتصوّفين في العِلمين المادي والروحاني، كابن عربي، والسهروردي والحلاج، والفارابي.. فمراقي، العرفان والتوحيد.

كما في قصائده: «توحيد»، «شهقات في قنديل الشيخ سلمان»، و»صلوات الشيخ الأزرق»:

شيخي المتعبِّدُ ذو الثوبِ الأزرقْ
للعقل الكُليّ نذور
يفنى، صلواتٍ للمولى
ودعاءً ينداح غَمامَ بَخُورْ
لإلهٍ لا تعرف عيناه الغفوة
شيخي المتنسكُ يقْهَرُ في الخلوات النفسْ
والطينَ الهاجسَ… ثعبانَ الأمسْ
يتبتَّلُ للوجه الأبقى، بفُتات بالكِسراتْ
من خبز يُنْبِتُ أشجار العَفَنِ
مخبوءٌ تحت حصيرٍ رطبٍ
ويَبُلُّ الغُلَّةَ بالقطراتْ
من إبريق أعشبَ من أنفاسِ الزمن
ليصفّي الجسم الخاطئَ من أوشال الذّنب

فؤاد الخشن، يقول فيه المتفقّه في عِلم التّوحيد، الدكتور سامي مكارم: «إنّه يُنْشِدُ الحقيقة، وفي نشدانه لها، ينشدها أغنية أحدُ جناحيها خيال يطير به إلى خلوات الدُنوّ على حد تعبير الحلاج، وجناحها الثاني حبٌ هو بَدوٌ لعشقٍ إلهي تجلّى على قلب الشاعر لألاءً، هو سر الحياة الحق. وحتى نُدرك أكثر ماهية شعر فؤاد الخشن، ونبوغه فيه، فهو يتحلَّى على حد قول «عمر أبو ريشة»: بأصالةٍ ورقَّةٍ هما حِليَةُ الشعر ومطمحُ كلّ شاعر، إنّه يعرف كيف يُجنِّح الحرف ويُطلقه في دُنيا الحب والجمال، ليعود إلينا منه مُثقَلاً بالعطر والأنداء… هذا قليل من كثير عنه… فهل نكون أوفياءَ بَرَرةً به، فنُخَلِّدَه بما يستحقّ، على الأقل في مدينته الشّويفات أو في الوطن العربي الذي آمن به ودعا إلى نهضته؟

مبدعاتٌ استرجعْن آمالهنّ «المخطوفة»

تلاقيْنَ عند قارعة الطريق، وتراقصن بين حروف الشِعر وفلسفة الوجود. أديباتٌ، شاعراتٌ وفنّاناتٌ تشكيليّات من المجتمع التوحيدي المعروفي، تقاسمْن الآلام والأحلام، فأبحرْنَ في عالمٍ يعبق بالحبر والألوان. بات القلم رفيقهنّ والريشة خلاصهنّ لكسر ضجيج السكون وتحرير أفكارهنّ ورغباتهنّ المعتقلة داخل «سجون الصمت». نفضْن رائحة الحرب والدمار ومضَيْن على خطى الحب والسلام، فأبدعْن دواوين ونصوصًا شعرية وأدبية تمايلت بين الصوفية والغزلية، ومقالاتٍ وومضاتٍ استعادت حكاياتٍ وأمنياتٍ خطفها الزمن على عجل.

مبدعاتٌ كان لمجلة شرف لقائهنّ، كتبْن الوطن والهوية والانتماء وعبّرن عمّا ترتجيه المرأة من حقوقٍ ومساواة. تشاطرنْ عشق الحياة فبحثْن في جدلية الموت والوجود وصراع الخير والشر. سخّرن موهبتهنّ الشعرية والفنية للدفاع عن الإنسان فينا، ولسرد تجاربنا واختزال هواجسنا. سعيْن خلف الحقيقة والذات البشرية فَنَسَجْن قصائد ورسمْن لوحاتٍ قاربت مرفأ الحلم وأطلقت شراع تحرير النفوس قبل تحرير النصوص.


غادة الكاخي: أتغلغل في مسام الروح وأراقص حروف القصيدة
الكاتبة والشاعرة غادة الكاخي خطيبة المنبر.

تستهلّ الكاتبة والشاعرة والناشطة الاجتماعية غادة الكاخي كلامها لمجلة ، بتحيّة انحناءٍ واحترامٍ، قائلةً: «أنحني احترامًا لكلّ من يفكر بعقل قبل أن يتصرف بغباء، وتقديرًا لكلّ من يقدّر قيمة اﻹنسان في أخيه اﻹنسان. أنحني بمحبة لكلّ من يسعى لعمل الخير دون مقابل، وأنحني إجلالًا لكلّ من يساهم في خدمة المصلحة العامة».

انطلقت من بلدتها حاصبيا أكاديميةً عريقة تمرّست في تدريس اللغة الفرنسية ولا زالت في صفوف ثانوية «العرفان التوحيدية». تولّت تعريف وتقديم أكثر من احتفالٍ وندوةٍ وأمسية، حتى لُقّبت بـ «خطيبة المنبر». استهواها الأدب والشعر فنظمت أروع القصائد والكلمات. شاركت في مبارياتٍ عديدة لإلقاء الشعر فكان أن حازت جوائز تقديرية رفيعة المستوى وكسبت تنويهات كبار الشعراء اللبنانيّين والعرب.

في حوزتها أربعة كتبٍ قيد الطباعة، تندرج تحت عناوين: «ضجيج السكون»، «فواصل الكلام»، «كلمات ونبرات»، و»عبرات وعبارات»، فتقول في صفحاتها: «حين يوجز الحرف مأساة بحجم الكون… تنحني مطأطئًا رأسك، خجلًا من نفسك أولًا، وعاتبًا ثانيًا، وشريكًا في الجريمة ثالثًا…». وتردف: «علّمتني الحياة أﻻ شيء يستأهل دمعة واحدة… أن أهتم بالجوهر ﻷنه اﻷبقى، وأﻻ شيء يدوم، فدوام الحال من المحال والبقاء لله وحده، وما زلت طفلة صغيرة على مقاعد مدرسة الحياة، أتلقى فيها كلّ يوم درسًا جديدًا…
وأنتم ماذا تعلّمتم من الحياة؟».
«تربصّت بنا الحرب، فهجّرتنا ودمّرت مستقبلنا وبدّدت أحلامنا، والتحقنا كلٌ بجماعته، ببلدته، ببيئته»، تقول الكاخي بحسرةٍ وأسى، غير أنّها تستطرد لتعرب عمّا اختلجها من اندفاعٍ اجتماعي لخدمة محيطها، ولا سيّما الفئات المهمّشة والمستضعفة، فكان أن ساهمت في إنشاء جمعيات عدة تُعنى بخدمة الطفل ومناصرة المرأة في ظلّ ما تواجهه من حرمانٍ وعنفٍ وتمييز.
شغلت غادة مناصب إدارية عدّة، حيث عُيّنت منسّقة جمعية تنظيم الأسرة في لبنان في منطقة حاصبيا، وعضو اللجنة الثقافية في نادي الجبل الرياضي – حاصبيا، من مؤسّسي مركز المطالعة والتنشيط الثقافي التابع لبلدية حاصبيا، وهي عضو في جمعية «ميدال» – النبطية Midal Organization بالتعاون مع Mepi، وفي الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، إذ شاركت في مراقبة العديد من الانتخابات النيابية والبلدية وفي ورش عمل ودورات وندوات متنوّعة حول تمكين المرأة وتعزيز قدراتها.

تولّت الكاخي منصب مسؤولة الاتحاد النسائي التقدمي في حاصبيا، فكرّست خمسة وعشرين عامًا من حياتها لتمكين المرأة ومساعدتها على مواجهة التحديات، من خلال إقامة الندوات التثقيفية والتربوية والصحية والاجتماعية. زاولت العمل الحزبي كأمينة عقيدة في الهيئة الإدارية لفرع الحزب التقدمي الاشتراكي في البلدة، وشاركت في ورش عملٍ حزبية قيادية، قبل أن يرشّحها الحزب للانتخابات البلدية عام ٢٠١٦، غير أنّ المجتمع الأُبَوي كان بالمرصاد. وتقول: «لم أستسلم للمعوّقات بل واصلتُ النضال من خلال قلمي الحر حيث طرحتُ مجمل الشؤون الاجتماعية والهموم المعيشية، ما شكّل محطّ أنظار للصحافة ووسائل الإعلام التي استضافتني أكثر من مرة للحديث عن تجربتي ورسالتي للمرأة اللبنانية».

وتردف بالقول: «نحن في زمنٍ، ينتصر الباطل فيه على الحق، ليس لعجز أهل الحق في الدفاع عن حقوقهم بل ﻷنهم ﻻ يجيدون السباحة في الوحل وﻻ يتأقلمون مع العيش في المستنقعات، فيحيلون أمرهم إلى العدالة السماوية، كونها المنقذ الذي يمهل وﻻ يهمل… فعجبًا لزمنٍ ينصف هوامش الناس على حساب أشرف الخلق، وعجبًا لزمنٍ ﻻ يشبه أي زمن».

غادة، الزوجة والوالدة لثلاثة أبناء، تسطّر عبر تمنيّاتها وآمالها، فتقول: «جلّ ما أطمح إليه أن تكون حياتنا خبرة لبناتنا من بعدنا، أن تتحرّر النفوس قبل تحرير النصوص، أن تُحترم المرأة وتُنصف كما أنصفها الدين، أن تكرّس الأحزاب السياسية مفهوم الشراكة والمساواة فعلًا لا قولًا، أن تتعلّم وتعتمد على نفسها، أن تعي حقوقها في الشّرع وتُعامل على أساس الإنسان فيها، وبعد كلّ هذا، فهي حتمًا ستحسن تربية أبنائها وبناء مجتمع العدل والازدهار». وتختم شاعرة حاصبيا بنفحةٍ شعرية، فتقول: «دعني أتغلغل في مسام الروح، دعني أراقص حروف القصيدة وأهمس لعيون الليل الحزين إسهر معي، فلقد تعبت أجنحتي من ترداد اﻷنين…!».


رامونا يحيى: حياتي عبارة عن أقلامٍ وبعض ورق
الأديبة والشاعرة رامونا يحيى.

«كتبتُ ليس لأتحدّث عن الأنا، بل لأحكي بكلماتي حكايات كلّ شيء. لأكتب عن الحب، عن الفرح والحزن، فأصبحت حياتي عبارة عن أقلامٍ وبعض ورق»، بهذه العبارات تختصر الأديبة والشاعرة رامونا يحيى مسيرة حياتها وإنجازاتها الفكرية والثقافية في حديثها مع مجلة «الضحى». عشقتْ المطالعة والقراءة فكان الكتاب جليسها الدائم، رافقها شغف الكتابة فأبدعت منذ صغر سنّها ونافست كبار الشعراء والأدباء.

«منذ المرحلة التعليميّة المتوسطة كانت الكتابة ملجأي إلى أن أصبحت هويٍّتي وفضاء خلاصي الذي يحتويني بعيدًا عن ضوضاء الحياة وصخبها»، تقول رامونا التي اختارت أن تصدر ديوانها الشعري الأول تحت عنوان «كلمات»، واصفةً إيّاه بأنّه «مشروع جنونٍ لا يمكن أن يكون إلا فوق العادة، كما كلّ شيء أحب أن أكونه». نالت دبلوم فلسفة من الجامعة اللبنانية، عملت في مجال الإعلان والتسويق ومارست مهنة التدريس وساهمت في الأبحاث والدراسات الفلسفية، قبل أن تبحر في كتابة خواطر ومقالات وقصائد شعرية احتلّت مساحةً بين سطور الصحف والمجلات المحلية والعربية ومختلف وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي.

في جعبتها العديد من المقالات الفلسفية بينها: تأثير اللّغة على الفكر، السؤال عن معنى الكون، الفلسفة وإبداع الأفاهيم، فلسفة الحوار النقدي، الحرية في التفكير والاختلاف حق طبيعي، علاقة الفن بالأخلاق من الناحية الفلسفية. كما تنوّعت قصائدها بين «اللقاء المنتظر»، «لقاؤنا الحياة»، «أغنيات المنى»، «حلم البراءة» و»رماد الحلم «، لتمتدّ إلى مقاربة «جنون العشق»، «حكاية الأحلام»، «ذاكرة الحلم» و»اللّيل والرحيل». وتختصر يحيى مشاعرها بقصائد عديدة بينها: «أحلام قلبي»، «دموع الفراق»، «حين فقدتك»، «فسحة رجاء»، «كنت وحيدة»، «صمتي أحبّك»، «العمر العاشق» و»أسطورة الهوى» إلى «حكاية الأحلام والسنين»، «لغة العيون» و»رحيلك واغتيال الأماني». كتبت رامونا، الشاعرة والأم، عن الحزن والفراق وعن الحب والأمل:

«بكّرت طيور الحزن في القلب الذي مازال يرنو للأفق تمضي رياح الحب بين عيوننا لنعيش أزمنة الأرق لا وقت للأحلام في هذا الجنون، في هذا الشبق
البحر صار أمامنا والحزن يركض خلفنا أين المفر من الفراق؟
هي لحظة سنكونها، أو لا نكون … كلمح برقٍ قد برق الوقت ليس بوقتنا حلم البراءة ينتهي والفجر خاننا وافترق لكنكَ… ما زلتَ في عينيّ بدءًا للمسافة والطُرق».

تختزن إبنة بلدة البنّيه في الشحار الغربي، ثقافةً عميقة وشخصية متجذّرة، أثمرت كتاباتٍ متنوّعة وجريئة لامست أحاسيسنا وقاربت أحلامنا بإنسانية وجدلية راقية. فتجدها تقول في قصيدة «حنين العودة»: «إذا أتيت في غدٍ بغير موعدٍ/ لا تسألني ما الذي أتى بي هكذا بلا سبب/ وتُفلت اندهاش وجهك البريء في ملامحي/ فسوف تلمحني أحار في الجواب! / وربما أحاول الكذب/ لا تفعل… / وإنما ابسم لوجهي الحزين ما استطعت/ فإنني شبعتُ من عبوس كلّ من قصدته/ ومن جهامة انتظاري عند بابه/ وهدّني التعب!».

شاركت رامونا في العديد من الأمسيات الشعرية والفعاليات الثقافية على صعيد لبنان والعالم العربي، فكانت خير ممثلٍ للبنان والمرأة في شتّى المنتديات الأدبية والفكرية. عُيّنت مؤخرًا مديرة مكتب جريدة «السياسي الدولي» في بيروت ومديرة ‎مكتب مجلة «أمارجي» الأدبية في بيروت.‎ شاركت في إصدار ديوان «شهرزاد» عن دار «أمارجي السومرية»، والذي تضمّن سيرًا ونصوصًا لمجموعة من الأدباء والشعراء العرب.
حازت شاعرتنا شهادات تكريميّة من الدرجة الأولى ودرع «الإبداع والتميّز» عن أفضل مقالة أدبية من مجلة «أمارجي الأدبية»، كما مُنحت وسام «التميّز»، تقديرًا لانسيابيّة شِعرها وجمال قصائدها وعمق كتاباتها. فتقول: «يمضي الزمان والأرض نفس الأرض/ لا شيء يحدث أو سيحدث/ كلّ ثانية تمرّ بنا كما مرّت/ وتتركنا…وتنظر في ازدراء/ ماذا بوسع النائمين/ وليلهم يحلو مع الأحلام والهمسات/ وهل لاحظت…أنّ مسافرًا لم يستطع صبرًا على الذكرى/ يفارقها/ ويُمعن في البكاء؟». وتختم يحيى بالقول: «أحرارٌ ولكن تبقى بعض مشاعرنا في سجون الصمت مقيّدة».


سناء البنّا: لن أكون امرأة في آخر سطر الأنوثة
الشاعرة سناء البنّا.

«قاسيةٌ ورهيفةٌ سناء إلى حد الجنون، نصّها يباغت صورتها لتدرك أنك أمام احتمالات من الانشطارات والخيبات المتلاحقة، يحتوي عالمها الكثير من الألم، يبدأ بطفولتها وصولًا إلى رحلتها مع الشعر. سناء امرأة قلقة، يتحول هذا القلق خوفا في لحظة انسيابية عطرة تعيشها، كأن الموت دَيْدَنها أو كأنها في رحلة مع الغياب…». كلماتٌ استهلّها ناشر الديوان الثالث للشاعرة سناء البنّا، الصادر عن دار «فواصل للنشر» تحت عنوان «أشجار الليل – بين العرف والعقل».

ترعرعت سناء في المتن الأعلى وسط بيئة مختلطة تلاقت تحت سمائها مختلف الأطياف والمذاهب والانتماءات الحزبية والسياسية. قرأت القرآن والإنجيل. أمضت حياتها بين الكنيسة والخلوة والمسجد، قبل أن تندلع الحرب الأهلية اللبنانية بما حملته من مآسٍ وجراحٍ جعلت من طفولتها طفولة عابقة برائحة الحرب والدمار، ومخيّلة مثقلة بالتساؤلات والإشكاليات. طرحت في قصائدها وكتاباتها جدليّة الحياة والموت، وتعمّقت في مسألة الوجود والعدم وصولًا إلى صراع الخير والشر. وتنوّع شِعرها بين الحديث عن الإنسان والوطن والانتماء، إلى التناغم مع مشاعر الحب والذات البشرية.

أتقنت الكتابة الشعرية الصوفية، فمزجت بين إحساسها الراقي واللاوعي الحقيقي، حتى اختلطت كلماتها وحروفها بالفلسفة والرؤية الوجودية، فكانت سبيلًا نحو الارتقاء بالنفس للاقتراب من الخالق. تُرجمت بعض قصائدها إلى اللغة الألمانية في أنطولوجيا الشعر اللبناني- الألماني، معهد الدراسات الشرق أوسطية في جامعة «بون»، كما تتمّ حاليًا ترجمة بعض كتبها. وتقول البنّا في حديثها إلى مجلة «الضحى»: «الشاعر لا يمكن أن يصنع قصيدته، بل يبدعها حين تفرض نفسها عليه، وتلحّ لتشكّل أسلوبها. كما لا يمكن فصل الشعر عن بقية العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة، ولا بدّ من مساحات تأملية تتناسب مع طبيعة الحياة، ولو كانت شطحات خيالية وفلسفية وفكرية بثوبٍ شعري جميل».

«… وأرقصُ في خفة رصاص
طاعنةً في الموت البليد
كشعلة قنديل مغمور بالشموس
وتنهمر موسيقاك الجنائزية رشيقة
ترشقني بلسعة صوت
أموتُ وأحيا مرارًا
ثم أموتُ حتى المنتهى الملقب بالعدم
تأتيني بالدمع والكفن
وكفين فوق جبيني من تراب اللا ندم
وأنا مكاني أرقص حتى الشجن
لا أراك، ولا تراني».

كافحت إبنة بلدة الخريبة المتنية من أجل ترك بصمة نسائية عربية مميزة، فتطرّقت في قصائدها إلى وضع المرأة اللبنانية والعربية، معتبرةً أنّها «بحال أفضل ممّا كانت عليه، لكنها لا تزال في وضع صعب. وعلى الرغم من الحضور النسائي العارم في جميع المجالات والحقول العلمية والأدبية والإبداعية، إلا أنها ما زالت مضطهدة من قبل المجتمع والسلطة الذكوريين، ناهيك عمّا تتعرّض له من عنفٍ وقسوة في الحياة الأسرية وما تلاقيه من تشرّد ومعاناة جرّاء الحروب والأزمات». وبين سطور شِعرها تحاكي البنّا دور الرجل تجاه المرأة، وتحارب بشراسة عندما يكون اضطهاد المرأة العنوان الأساس.

في ديوانها الأول «آدم وتاء الغواية» الصادر عام ٢٠١١، جمعت قصائد متراكمة من مراحل عمرية مختلفة كان معظمها بين العاطفية والوجدانية، بحيث عالجت طروحاتٍ تخطر في بال كل أنثى تدرك أهميتها الغائبة في مجتمع ذكوري. وفي مجموعتها الشعرية الثانية «رسائل إلى مولانا» – ٢٠١٥، تبحر سناء في الفضاء الصوفي. ويشير الغلاف الداخلي للكتاب إلى مولانا جلال الدين الرومي، حيث تقدم رسائلها على شكل مقاطع متتالية منفصلة متصلة معًا، دون ترقيم ودون تسمية. فتقول الشاعرة: «أدورُ في مدارات النفس بين أذرع متصوف / وأبتهل لأصابعه تدغدغ حواسي / ما زالت ظلالكَ تطوف هنا في كل الأمكنة / فوق رعشات شرشف السماء / فوق الجدران».

وتقف البنّا في ديوان «أشجار الليل – بين العرف والعقل» على ٣٨٠ فرزة حكمية أو تجاربية عايشتها خلال حياتها الاجتماعية والثقافية، بحيث تخوض صراعها مع الحب اللطيف، والوجود الكثيف بين المرأة والرجل، والثقافة والأدب وكل ما هو ضد العقل، محوّلةً الإشارات والأفكار إلى جماليات أدبية تذخر بالمعاني مثل: «حبيبي كالظل، دون ملمس أو كثافة، يدور حولي، ويختفي».


الفنانة التشكيلية الدكتورة هناء عبد الخالق.
هناء عبد الخالق:

أحلامنا لوحاتٌ تهيم في الأفق البعيد

بدأت مسيرتها الفنية بشغفٍ عندما قررتْ العودة إلى الجامعة وهي أمّ لثلاثة أبناء، ليس لشيءٍ سوى لتحقيق حلمٍ طالما تمنّته بعدما أعاقته الحرب الأهلية اللبنانية. فكان أن تبلور الحلم وتمخّضت معه لوحات ومعارض ميّزت الفنانة التشكيلية الدكتورة هناء عبد الخالق، حتى باتت علامة فارقة في مجال الرسم والفنون. انضمّت إلى نقابة الفنّانين التشكيليّين في لبنان وانتُخبت مؤخرًا أمينة للسر لدى جمعية الفنانين اللبنانيّين للرسم والنحت.
أدركت إبنة بلدة الجاهلية اهتماماتها ورغباتها، فقرّرت خوض التجربة وكان أن قادها الشغف والإصرار إلى مقاعد الدراسة محاطةً بدعمٍ معنوي من عائلتها الصغيرة والكبيرة. اجتازت المرحلة تلو الأخرى فنالت شهادة الدكتوراه في الفن وعلوم الفن وعادت إلى الجامعة اللبنانية أستاذة جامعية محاضرة في كلية الفنون والعمارة – الفرع الرابع، لترسّخ بذلك نموذجًا في المثابرة والنجاح. «لم تكن الجامعة والدراسة عبئًا، بل كانت متعة وفائدة يكتنز منها عقلي وتتفاعل معها
أحاسيسي، كل هذا كنت أستعيده مع كل لوحة أبحث عنها، مع كل فكرة أجهزت علي وأطاحت النوم من عينيّ حتى تقترن بالتنفيذ، عندها أشعر بالاكتفاء وبأن هذا ما كان ينقصني، وأعود لتهاجمني الأفكار وأبحث من جديد»، تقول عبد الخالق على صفحات .

في لوحاتها، تروي قصصًا وحكاياتٍ تتناغم فيها الألوان وتسافر بك إلى عالمٍ من الإبداع والخيال، وتطرح في معارضها مفاهيم مبتكرة ومتجدّدة. ففي معرضها الفردي الأول عام ٢٠١٠ بعنوان: «انعكاسات Reflexions»، خرجت عن التوصيف المادي للمنظور، وطرحت تجربة محض ذاتية فيها إحساس قويّ باللون والضوء ومعالجة تفصيل معيّن. وتشرح الدكتورة هناء بالقول: «المقصود هو رؤية ما لا يرى، فالذهن البشري ينشغل عادة عن التفاصيل إلى صورة العامة، هكذا تتوارى تلك عن العين حتى المهمة منها. إن تدريب العين على البحث عن التفاصيل في الأماكن التي من حولنا، يقودنا إلى اكتشافات بصرية مذهلة تكتشفها العين قبل اليد، ونحسّها من داخلنا قبل ترجمتها».

عام ٢٠١٤، أقامت إبنة الشوف معرضها الفردي الثاني بعنوان: «أحلام في زمنٍ هارب»، التقطت لحظات طفولتها التي انتُزعَت منها عنوة، فتنوّعت لوحاتها بين «أحلام ورقية»، «مرفأ حلم»، «لحن هارب» و«أحلام ليلكية»، وجاءت رسالتها لتقول: «أنا امرأة من جيل الحرب الأهلية التي أبعدتني عن مكانٍ عشقته وترعرعت به طفلة. كانت الحرب بدايةً هي الخاطفة لأحلامنا وأمانينا، فأردت استرجاعها عبر اللون وجسّدتها من خلال الطائرة الورقية التي كانت رمزًا للطفولة الحرة. كنت أركض خلفها لتعلو في الجو وتكون حرة، ومن خلالها تطوف عيناي وتهيم في الأُفق البعيد. فكان الهدف الأسمى للمعرض إطلاق صرخة مفادها: «أوقفوا الحرب لنسترجع ولو ظلالًا أحلامنا. إلى متى سيبقى الظلّ قائمًا بداخلنا إذا لم يرَ للشمس بزوغًا؟».

أمّا معرضها الفردي الثالث عام ٢٠١٩ بعنوان «رؤى محدبة»، فتتناول فيه فكرة المرآة المحدبة Miroir Convexe التي تعكس صورة مفارقة للواقع، بالغة الإثارة ومحرّكة فعّالة للخيال. «أردتُ في معرضي أن أتقصّى ذلك الخيال الوهمي الذي لا يخلو من دلالاتٍ مجازيَّة وشعريّة يُغْنِي عالم الفن، وينقل الرؤية من المشهد الجامد إلى الحركة المتنوعة التي تُكَبِّر الصورة أو تُصغِّرها كلما غيّرنا زاوية النظر واقتربنا أو ابتعدنا من بؤرة الأشعة»، تستطرد عبد الخالق، وتضيف: «تنقلنا المرآة المحدبة إلى مستوى التجربة الإنسانية الحيَّة والمعيشة، حيث يتضخم أشخاص ويتقزّم آخرون، بفعل المايسترو اللاعب بالمرآة، وتضيع الحقيقة التي نشقى في البحث عنها، ويتشوّه المشهد».

شاركت الدكتورة هناء أيضًا في العديد من المعارض المشتركة في لبنان والخارج. وتَعزّز شغفها بالفن مع كل رحلة قامت بها إلى أوروبا، بينها فرنسا، جنيف، إيطاليا وهولندا، حيث زارت باريس مرات عدّة حتى باتت تجاريها في الشغف والجنون، وتلمّست عظمتها محاولة الدمج بين النظري والواقعي، خصوصًا بعد بحثها في الماجستير عن تطوّر فن التجهيز في فرنسا الذي قادها إلى التعرف على فنون ما بعد الحداثة وتطورها. وتوالت أبحاثها في هذا المجال، حيث أصدرت لاحقًا كتابها الأول بعنوان: «فن التجهيز: إشكالية العلاقة بين المبدع والمتلقي».


لارا ملّاك: الشّعر اتصالٌ كونيٌ بالجمال

«أيّتها الأنثى القابضة دائمًا على نار الجمال ونور الحقّ.. لكي تكوني امرأةً تشعّ بأنوثتها، ويكتمل في تكوينك رسم الله، ابحثي دائمًا عن وسيلتك الأجدى واهدمي بها الجدران.. حينها فقط سترين مرآتك صافيةً خاليةً من الشوائب، فينعكس فيها واقعٌ أجمل تنتفي فيه المسافات بين القلب والقلب»، بهذه الصرخة تناجي الكاتبة والشاعرة لارا ملّاك كل امرأة وتختزل رسالتها لها عبر مجلة .

من حارة جندل الشوفية، سطعت موهبة إبنة الثمانية والعشرين عامًا، فكان أن حصدت جائزة الإبداع من مؤسّسة ناجي نعمان الثّقافيّة عام ٢٠١٤ التي رُشح لها أكثر من ١٦٠٠ مؤلف من ٥٨ دولة. فالشعر في قاموسها «اتصالٌ كونيٌ بالجمال، وهو وسيلتي نحو اكتشاف نفسي، غير أني في هذا الاكتشاف أقترب أكثر من الآخر، وأهدم الجدران الّتي بنوها بيني وبينه».

أتقنت ملّاك فنون الشعر والأدب، فنهلت من لغتها الأم حروفًا وعبارات ونصوصًا شعريّة، قبل أن تصدر ديوان «أنثى المعنى» عام ٢٠١٧، الذي نشرت عقبه ست دراسات قصيرة أعدّها نقّاد لبنانيّون وعرب حول الديوان. وللكاتبة مقالات ثقافيّة ونقديّة وشعريّة نُشرت في مجلات وصحفٍ عديدة منها: اللواء، النّهار، البناء، الأنوار، الحصاد، ومجلة بوهيميا. كما أُجريت معها مقابلات عبر عددٍ من وسائل الإعلام والمواقع اللبنانية والعربية.

وفي ومضةٍ شعرية، تقول لارا:
«لكي أحبّك عليك أن:
تفهم حركة قصيدتي..
تجعل كلّ لقاءٍ بيننا بداية نصّ..
تزيد شَعري الطويل ملائكيّةً وأنوثة..
وبعدها إلى حيث جحيمك أمضي
يا أيّها الجالس على كتف المستحيل…».

ثابرت لارا منذ خمسة أعوامٍ على تدريس اللغة العربيّة في ثانوية رأس المتن الرسمية، بعد أن حصدت شهادة دراسات عليا في اللّغة العربيّة وآدابها وشهادة كفاءة في تعليم لغة الضاد، وهي تتابع حاليًا مرحلة نيل الدكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها.

الشابّة العشرينية التي حازت أيضًا شهادة الدبلوم في الشؤون الدوليّة والديبلوماسيّة، تشغل حاليًا منصب عضو هيئة إدارية في «ملتقى الأدب الوجيز»، حيث شاركت في تنظيم وإدارة مؤتمر عربي عُقد هذه السنة ضمن أعمال الملتقى في بيروت. كما نشطت ملّاك في مجال تنظيم الأمسيات واللقاءات الثقافية الشهرية في بيروت، وشاركت في ندواتٍ أدبية في كلّ من تونس وسوريا.
اختارها المركز الدولي لترجمة الشّعر والأبحاث في الصّين (International Poetry Translation and Research Centre) لترجمة ونشر خمسة نصوصٍ من تأليفها، سبق ونُشرت في لبنان عام ٢٠١٤، وذلك في الكتاب العالميّ للشّعر بنسخته الإنكليزية (World Poetry yearbook 2014). وهو كتاب يتضمّن نصوصًا شعريّةً لمئتي وثلاثة وستين مؤلفًا من مئة دولة، ويتمّ توزيعه على أهمّ المؤسّسات والمنظّمات الثّقافيّة والجامعات والمكتبات في أنحاء العالم. فلقد كانت ملّاك بين كتّاب عرب قلّة، الوحيدة من لبنان الّتي نالت هذا الشرف، آملةً أن تسهم دومًا في «نقل الكلمة العربيّة إلى العالم».
تنساب حروف ملّاك لتخطّ مشاعر وأحاسيس تختلجنا كلّ يوم، فتقول: «كأني المؤجّل إلى الغياب.. أموت كثيرًا كضربة فأس…»، وفي خاطرةٍ ثانية تتحدّث عن الغياب: «ينوءُ الغياب.. أنت هنا/ كأيّ كتابٍ/ تستريح.. / وأنا ضوءٌ وظلٌّ/ لا يلتقي فيّ إلا الأوان..»، وفي أخرى عن الحب: «أحبك انعكاس ماءٍ/ الضوء يلمع من غير بكاء.. / يكرّر نفسه/ ولا يطالب عينًا/ بملحها أو بمائها…».

رائدات من مجتمعنا

اخترنَ الحياة، كافحنَ وقاومنَ شتّى المعوّقات والصعاب، فانسابت أحلامهنّ وآمالهنّ إبداعاتٍ أدبيّة، نثريّة وشعرية، وفنونًا تشكيلية، رسمت جسر العبور إلى حيث النور والأمل. شاعرات وروائيات ورسّامات من طائفة الموحّدين الدروز، اجتمعن حول المعاناة والعذاب، فكانت «انتفاضة الروح» و»خربشات على جدران الواقع». تسلّحن بالإيمان والإرادة، آمنّ بقدراتهنّ ومواهبهنّ، فكان لهنّ «حقُّ التوقيع» وأشعلن نورًا في غياهب الظلام.

من الاعتلال العصبي إلى الشلل الدماغي، فصعوبة النطق وفقدان البصر والسمع، محطات تستعرضها مجلة الضّحى، للوقوف على لمساتٍ مضيئة في تاريخ جبلنا وطائفتنا الكريمة، علّها تفي تلك المناضلات جزءًا من حقّهن، فتجمع معهنّ «حروفًا مبعثرة على أرصفة العمر، يكمّلن بها قصائدهنّ التي لم تكتمل بعد».


سوسن حسن الرمّاح: «من لا يصادق الحزن يهزمه»

«أفتح دفاتر قديمة أهملتُها لزمنٍ، أقرأ عليها بعض ما خطته فتاة مجروحة مهملة، من أفكار لا تدرك مَن هي. هي ككلّ فتاة تحلم يومًا ما أن تحصد الشهادات العليا، أن ينتظرها حبيب على مفترق الطريق، ليهديها وردة حمراء، أن تتزوّج وتنجب، أن تجد عملًا تحقّق فيه ذاتها وطموحها». تمنياتٌ وأحلامٌ بسيطة تطرحها الشاعرة والروائية سوسن حسن الرمّاح في حديثها إلى الضّحى ، متسائلةً: «أين كل هذه الأحلام؟ هل تجرؤ أن تبوح بها، حتى لأقرب الناس إليها؟!».

سوسن التي شاء القدر أن تخسر نطقها السليم، جرّاء خطأ طبي أثناء الولادة، لم تردعها مصاعب الحياة عن تحقيق أهدافها، فاتّخذت الورق صديقًا لها. كافحت منذ ولادتها في العام ١٩٧٧، تمسّكت بإرادة التحدي وآمنت بقدراتها، فكان أن خطّ قلمها كتابين من الشّعر الحر: الأول بعنوان «لكَ حقُّ التوقيع»، الذي غيّر مجرى حياتها، والثاني بعنوان «نساءٌ شرقيّات – الجزء الأوّل»، وهي تُعِدّ رواية بعنوان «ذاكرة الأنا»، لا تزال قيد الطباعة، وستكون بمثابة انتقال إلى عالم آخر.

«من لا يصادق الحزن، يهزمه»، كما تقول الرمّاح، «لقد صادقتُه وانتصرتُ عليه، حيث إنّ بعض الأحلام حققتُها بالتّحدي والإصرار والقوة. أكملتُ دراستي ولم أكترث لكلام البعض ومحاولته إحباط عزيمتي بالقول إنّه لا داعي للتعلّم، لأنّني لن أجد عملًا، كوني لا أجيد الكلام بشكلٍ سليم. فلقد كانت نظراتهم تجرحني، منهم مَن كان يسخر مني حين أبدأ الكلام، ومنهم مَن كانت ترتسم في عينيه نظرة شفقة، عدا التهميش والألفاظ المؤلمة والجارحة التي نعتادها مع مرور الوقت».

إثنان وأربعون عامًا من النضال والطموح، لم تقف سوسن برهة أمام العوائق طيلة هذه الأعوام، إنّما تمكّنت بفضل مثابرتها وجهود الداعمين لها، من أن تتخصّص في مجال الإدارة والتسويق، وأن تنضمّ إلى أسرة الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم MUBS، فرع عاليه، حيث أثبتت جدارتها وكفاءتها «لقد استطعتُ بإصراري تحقيق حلمي القديم، وهو الجلوس خلف مكتبٍ»، تقول الرمّاح التي استهوتها الكتابة، فبدأت بخواطر نشرتها عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ولفتت بها أنظار الكثيرين، بينهم سيدة من أقربائها، كانت تحادثها عن أحلامها وجراحها، فاقترحتْ عليها جمع خواطرها في كتاب، وهذا ما حصل، فكانت تلك السيدة الداعمة الأولى لمسيرة إبنة بلدة المشرفة في عاليه.

كتبت سوسن وجع الحبّ الجميل، فجعلت من الدمعة كلمة، ومن الجراح فاصلة، ومن الموت عبارة. حاولتْ بعد توقيع كتابها الأول، أن تبحر في ميدان الأمسيات الشعرية، غير أنّ أحد الشعراء رفض انضمامها إلى منتداه، بحجّة أنها لا تملك المقدرة على الإلقاء، ولا على المشاركة في أمسيات بعيدة، غير أنّ صاحبة «صالون بنت الأرز الأدبي»، بادرت إلى التجاوب مع طلب سوسن بالقول: «أهلًا وسهلًا بكِ، أنتِ اكتبي ونحن نلقي عنكِ». هكذا انطلقتْ في قطار الأمسيات، فأحيتْ العديد منها، صانعةً عالمها الخاص.

«الجراح لا تُنسى، لكنّنا نحاول أن نتناسى، وحياتنا نحن نقرّرها مهما كانت الظروف»، تضيف الرمّاح، مبديةً أسفها كون «مجتمعنا يعاني الفشل، يرى الإنسان بالحواس وليس بالفكر، لكن عزائي الوحيد محبة من تعرّف إليّ وجالسني من أهل الأدب والشعر وكلّ مَن صادفته ورمقني بنظرة إعجابٍ تتماهى مع إمكانياتي». وتختم سوسن بالقول: «إنْ لم تجد حقوقك في مجتمعك، انفتِح على العالم». وفي قصيدتها «بالمُختصَر»، تختزل آهاتها بالقول: «أجمعُ حروفي المبعثرة على أرصفة العمر لكي أكمل بها قصائدي التي لم تكتمل…».


غادة جهاد بو فخر الدين: «ما زلتُ في أوّل الطريق»
لم تكن تعلم أنّ شهر نيسان (أبريل) من العام ١٩٩٧، سيكون نقطة التحوّل الجذرية في حياتها، غير أنّها مضت غير آبهة بفقدانها القدرة على المشي إيمانًا منها أنّ «الله يضع أمامنا إشارات لتسهّل علينا الحياة، وأنّ الله عندما يحرم عبدًا من شيء يكافئه بأشياء».
من بلدتها المتنية، قبّيع، وبصحةٍ متقلّبة، أمضت الشاعرة غادة جهاد بو فخر الدين سنوات عمرها تصارع مرضًا مستترًا، لم يلحظه أحد غيرها، إذ عانت من الانطوائية والخجل وتزعزعت ثقتها بنفسها، إلى أن ظهر مرضها وكأنه ظهر ليخفي قلقها النفسي.
وفي حديث إلى مجلة ، تقول غادة: «وُلدتُ في الرابع من آب عام ١٩٧٨، وكان قدري أن أعاني من مرض خلقي وراثي، هو مرض الاعتلال العصبي الطرفي (Peripheral Neuropathy) وأن أفقد القدرة على المشي، وأنا تقريبًا في سن الثامنة عشرة، غير أنّني اعتبرتُ كلّ ما مررتُ به تمهيدًا لما ينتظرني».
وتتابع: «لم أكن متميّزة في المدرسة فحسب، بل كنت مثال الطالبة الخلوقة، حيث كنتُ أخبّئ ضعفي من خلال تصرفاتي اللّبقة.  ثابرتُ على العلم والمعرفة، وشرعتُ في دراسة إدارة الأعمال، قبل أن يأتيني عرض للسفر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث أُتيحت لي فرصة الخضوع لدوراتٍ في السكرتارية والـ Graphic Design. عشقتُ الكتابة والشعر والرّسم، إلى المواضيع الباطنية والأساطير، وبدأت تتبلور لديّ الأفكار، فباشرتُ الكتابة على شكل نثريّات، وتطوّرت قدراتي الأدبية، فلطالما كنتُ إنسانة حالمة، خطّت أناملي نثرًا انساب وكأنّني أحادث صديقًا أو صديقة».
«… يا ملهمتي 
أعيريني صوتك 
لكي أكتب 
وأنثره في الفضاء 
ليزهر ورودًا 
ويفوح عطره 
همسُ أيل ما عاد يلبيني 
صادر شِعرَه وهرب 
حاولت أن أجسّدَه برسمة 
كي أحتفظَ به 
حاولت أن أقيّدَه على الورق 
لكنه هرب 
ما عاد لي إلّاكِ  
لا تتركيني».
ولعلّ وسائل التواصل الاجتماعي فتحت الباب أمام غادة، الشابّة الأربعينية، لتعبّر عن أفكارها، لتشارك وتعلّق وتتفاعل مع شريحة واسعة من الأشخاص، بكلِّ جرأة وثقة، فكان أن طبعت كتابها الأوّل بعنوان «خربشات على جدران الواقع».
«من حظّي الوافر أنّني آتية من بيت زَجَلي عريق» تضيف بو فخر الدين: «حيث أنّ بيت جدي، أهل والدتي، جميعهم «قوّالون»، وأصواتهم رائعة، ما جعلني أتأثَّر بجلساتهم، فوجدتُ نفسي أكتب نوعًا بسيطًا من الزّجل وهو الموشّح، وذلك بتشجيعٍ من أخي، وانطلاقًا من حبّي العميق للفنانة فيروز، لا سيّما قولها موشّح «دار الدّوري عَ الداير… يا ستّ الدار»، الذي دفعني لأكتب على نسقه.  وبعد أن رأيتُ موشّحًا مقلوبًا على لحن «وينك يا جار… شرّفنا عَ الصُّبحية»، بادرتُ أيضًا لكتابة ما يشبهه، وبحكم العادة شرعتُ في كتابة «القرّادي»، وأصبحتُ عضوًا في موقعٍ زجلي، فطبعت كتابي الثاني «انتفاضة روح»، الذي تضمّن تشكيلة من كتاباتي». وتستطرد بالقول:
صار عمري فوق الأربعين
وبقلبي طفلة زغيري
كيف هيكي مضْيِت السنين 
وبغفلة صرت كبيري
تـَ حتّى يرضى قلبي 
وحسّ بأمان
بدي يخلِّدني حبِّي
بْأَرزة لبنان.

وتختم شاعرة المتن بالقول: «كلّ إنسان يملك طريقًا خاصًّا، غير أنّ اتّباع الإشارات التي يرسلها الله له سترشده إلى غايته، وأنا لا زلتُ أحلّل الإشارات، ولا زلتُ في أول الطريق».


جنان اسماعيل سعيد: «نفتقد للثّقافة وهذه بحدِّ ذاتها إعاقة»
«في سَكِينتي دموع صارخة، وفي وجهي ابتسامات قاهرة، وفي جسدي حركات تتمايل متحدّية صامدة» تستهلّ الشاعرة والكاتبة جنان اسماعيل سعيد، كلامها لمجلّة ، لتختصر معاناتها مع الشلل الدماغي الذي أصابها منذ ولادتها عام ١٩٨٩، نتيجة خطأ طبّي، وما رافقه من تداعيات صحيّة ونفسيّة وخيمة، لولا تحلّي جنان بالإصرار والعزيمة.
كان أقصى طموحها أن تجد مدرسة تلبّي احتياجاتها الخاصّة، لكنّها لم تجد مدرسة تستقبلها، ما اضطرّها إلى الالتحاق بمركز «شعاع الأمل» الطبِّي النفسي التربوي الذي يُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة في زحلة، والذي خصّصها بِصَفٍّ يراعي حالتها الصحيّة. حملت أحلامها من بلدتها البقاعيّة، «مكسة»، وانطلقت ملؤها الشغف لتلقّي المعرفة والعلوم. تحدّت نفسها وتحدّت المرض، «فأنا إنسانة واقعيّة، أعشق الحياة والعمل والإرادة»، تقول جنان.
الشابّة الثلاثينيّة التي دخلت قلوب مَن حولها وشقّت طريق نجاحها وتألّقها، وُلدت وسط بيئة متميّزة احتضنت أحلامها، فتمكّنت من متابعة دراستها لغاية مرحلة التعليم المتوسط، قبل أن تخضع لدوراتٍ مهنية عديدة في الكمبيوتر واللغة الإنجليزية والـ PowerPoint والـ AutoCAD والـ Adobe والـ Graphic Design. هي مَسِيرة محفوفة بالصِّعاب، واجهتها جنان بطموحٍ وإيمانٍ، إلى أن أصبحت فردًا من أفراد الكادر التعليمي في مدرسة «شعاع الأمل»، نظرًا

لأسلوبها الشيّق وحسن تعاملها مع التلامذة الذين يعانون صعوبات تعلّمية، فانطلقت منذ سبعة أعوام في تعليم الكمبيوتر واللّغة الانجليزية.

«دخلتُ معهد اتحاد المُقعَدين في برِّ الياس، وأصبحتُ اليوم ناشطة حقوقية في اتّحاد المُقعدين اللبنانييّن»، تضيف سعيد، التي تروي رحلتها مع كتابة القصص القصيرة والخواطر «فقد اكتشفتُ موهبتي من خلال ما كنتُ أكتبه من مذكرات، جمعتها في كتابي الأوّل بعنوان «أنوار في الظلام» الذي جرى توقيعه خلال حفلٍ أُقيم برعاية وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك سليم الصايغ، وسط حضور حاشد، وكنتُ حينها لا أتجاوز العشرين عامًا.

همسات جنان لم تتوقّف عند حدّ الكتاب الأول، بل بادرت إلى إصدار كتابها الثاني بعنوان «همسات الروح… جنان والأمل»، وهي في سن الرابعة والعشرين. كما أنّها تحضّر حاليًّا لمسرحية حول التحدّيات التي يواجهها أصحاب الاحتياجات الخاصة، قصصهم وصرخاتهم، بالإضافة إلى رواية تعمل على حَبْك تفاصيلها ووقائعها. «طموحي لا ينتهي، لطالما حلمتُ بالتخصّص في مجال الأدب العربي، وسأثابر لتحقيق ذلك الحلم».

وتضيف جنان: «كلّنا نشكو من احتياجات خاصّة، فالكمال لله وحده، والأهمّ أنّنا نفتقد أحيانًا للثقافة، وهذه بحد ذاتها إعاقة. أمّا نحن كحالة خاصة، فإنّنا نفتقد إلى الكلمة «الحلوة»، ولقد كتبتُ مرّة: «نعم هكذا خُلقْت، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني الأكثر منك إكرامًا، نعم بهذا نجحتُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني الأقوى منك إرادة، نعم صرختُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني تحدّيتُ نخر الجراح في العظام، نعم حلمتُ ورجوتُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنّني الأعند منك حياة…».

وتتابع سعيد: «لعلّ كتاباتي تعبّر عمّا أودّ أن أختم به، حين أقول: شعور شارد تستكين به الدموع، هناك عشق دفين، هناك نظرات مشرقة، هناك أمل يصارع بتحدٍ وتصميم، هناك فرحة لا زالت بعيدة، هناك جرح صارخ، هناك خيبة منتظرة، وهناك شوق عظيم، هناك حزن يختبئ خلف الابتسامة، وهناك نبض يتكلم عن خفايا الروح… في كلّ هذا أسكن أنا، وبين الأنا والأنا هناك أحلام بريئة وإرادة عنيدة وهناك رجاء يؤمن بالله العظيم، وهناك جنان والأمل».

جنان والأمل.

تغريد يوسف ضو: «بين التخاذل والعزلة… اخترتُ الحياة»

«لعلّ من أصعب الأمور أن نكون في الضوء، ونجد أنفسنا فجأة في الظلام الحالك»، بهذه الكلمات تصف الشاعرة تغريد يوسف ضو معاناتها، وتختزل طفولتها القاسية، بدءًا من مأساة الحرب الأهلية وما رافقها من أحداثٍ انتهكت براءتها كما غيرها من أبناء جيلها، وصولًا إلى فقدانها نظرها بشكل كامل.

«وُلدتُ عام ١٩٧٧ في بلدة القريّة، المتن الأعلى، من دون أي مشاكل صحية تُذكر، قبل أن تفاجئني الحياة بالتهابات في شبكية العين، ولم أكن أتجاوز حينها عشرة أعوام، غير أنّني واظبتُ على تحصيلي الأكاديمي، فكنتُ أدرس على السمع، وتمكّنتُ من التفوّق، فحجزتُ مقعدًا بين الأوائل»، تقول تغريد التي تروي معاناتها مع المياه الزرقاء في العين اليسرى، واضطرارها إلى إجراء عملية جراحية وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وهنا كانت عتبة الانتقال إلى الظلام الجزئي، حيث فقدت نظرها فورًا بعد العمليّة.

«واصلتُ الحياة بعينٍ واحدة»، بهذه الجملة تسرد تغريد حياتها المرّة، وتقول لمجلة «الضّحى»: «كافحتُ وتابعتُ دراستي، غير أنّ مشاكل عينيّ تطورت وبسبب خضوعي لعمليات متكرّرة ونتيجة ارتفاع ضغط العين، تركتُ الدراسة عند مرحلة الشهادة المتوسطة (البروفيه)، والتزمتُ المنزل لمتابعة علاجي الطويل، إلى أن انتقلت المياه الزرقاء للعين اليمنى، وأنا في الثانية والعشرين من عمري. عندها خضعتُ لعملية جراحية في روسيا، أعادت لي نظري، قبل أن أُصاب بعد نحو عام بنزيفٍ، تكرّر ثلاث مرات، وكان في كل مرة يفقدني نظري لمدة خمسة أيام، إلى أن فقدتُ النّظر بشكلٍ نهائي».

تغريد، الشابة الوحيدة بين إخوتها الأربعة، والتي فقدت والديها، وقفتْ أمام خيارين إمّا الاستسلام أو المقاومة ومواصلة العيش «ففي أوج المعاناة كان لا بدّ من قرار، إمّا التخاذل والعزلة أو المواجهة والحياة، وأنا طبعًا اخترتُ الحياة، واجهتُ معاناتي بالضحك، لأنّ «الزعل» لا فائدة منه»، كما تقول. وتضيف: «لقد وقف الأهل والأصدقاء بجانبي، فكانوا الداعم الرئيسي لمسيرتي، لكنّ الحافز الأكبر هو الإيمان بالله والثِّقة بالنّفس والتمسّك بإرادة الحياة»

.منذ صغرها، عَشقتِ اللّغة العربية وكتابة القصائد، وكان طموحها أن تتخصّص في اللغة العربية وآدابها، لو أنّها وصلت إلى المرحلة الجامعية. وقد دفعها هذا الشغف إلى كتابة مقال عن المعلم الشهيد كمال جنبلاط، ساعدها في نشره الصحافي أنور ضو، الذي شجّعها على تنمية روح الكتابة لديها. انطلقت تغريد من صفحةٍ على الفيسبوك نشرت عبرها خواطر نثرية قصيرة، أو ما يُسمّى «ومضات»، قبل أن تجمعها في كتابٍ صدر مؤخّرًا عن دار «الفارابي» بعنوان «تغريد الروح»، جرى توقيعه خلال حفلٍ أقامته جمعية «الأيادي المُتكاتفة» في بلدة القريّة برعاية وزير الثقافة محمّد داوود داوود، وحضور العديد من الفعاليات الاجتماعية والثقافيّة والفنيّة. كما من المحتمل أن يشهد الكتاب حفل توقيع ثانٍ في معرض الكتاب الدولي في بيروت.

وتقول ضو: «هذا الكتاب هو عُصارة روحي وشهيقي وزفيري، هو جُهد ثلاثة أعوام، أعبّر خلالها ليس فقط عن معاناتي وأوجاعي بصدقٍ وتجرّد، إنّما أيضًا عن الحب والأحاسيس والمشاعر، فكلّ فردٍ منّا هو إنسان عاشق، وأنا من الأشخاص الذين يجمّلون الوجع. لم أكتب مرة عن وجعي بحزنٍ، بل طرحت تساؤلاتٍ من مثال «أيها الضوء، هل من ثأرٍ لكَ عندي؟!»، وكتبتُ كذلك للحب، فقلتُ: «عندي من الشوق ما يحملك إليّ دون سفر». كما كتبتُ عن الأمومة والذّات البشرية، ونهلتُ من أسلوب الشاعر الكبير محمود درويش، الذي عشقتُ كتاباته وقصائده».

تستخدم تغريد تطبيق «قارئ الشاشة الناطق» (voice over) الذي يسعفها في القراءة والكتابة، وهي تحضّر حاليًا لكتابٍ ثانٍ، من المتوقع أن يتضمّن قصصًا قصيرة وخواطر طويلة ومقتطفات من الشعر الحر. وربّما يأتي يوم تكتب فيه قصة حياتها، وفق قولها «حيث أنّ الكثير من الأشخاص بحاجة لأن يقرأوا ويتعلّموا ويقتدوا بتجارب الآخرين وإرادتهم، لأنّنا جميعًا معرّضون».

عتبها على المجتمع أنّه بجزئه الأكبر «ينظر إلى ذوي الاحتياجات الخاصة بعين الشّفقة والعطف، وليس بعين التضامن، وهذه نظرة تذبحنا، غير أنّني ومن خلال كتابي نجحتُ في سحب نظرة الشفقة من عيون الناس»، تقول تغريد، خاتمةً ببضع كلمات: «أتشبّث بما تبقَّى منّي، كي أكمل بين مدِّ الحياة وجزرها حياة. أحمد الله أن في قلبي قلبًا يحبّني، فالحب يمنحني هذا الدافع للتمسّك أكثر بالحياة، لرؤيتها بعينٍ أفضل».


هيفاء سليم معضاد: «قادرون على تحقيق المستحيل»

رسمَتْ بالألوان وجع الحياة، آلامها وآمالها، فاختصرت تسعة وعشرين عامًا من الصراع مع الحياة، بحلوها ومرّها. أعوامٌ ارتأت الفنانة التشكيلية هيفاء سليم معضاد، أن تجسّدها من خلال لوحاتٍ ورسوماتٍ مضيئة، فجعلت من الريشة رفيقة دربٍ ومن الفن أداة للتعبير عن مكنوناتها ومشاعرها، وكانت أن رَوَت حكاية طفلة بريئة لم تنطق حروفها الأولى ولم تُمنح فرصة سماع أصوات ذويها ومحبّيها، ولا حتى صخب الطبيعة بغاباتها وطيورها وجريان مياهها.

من لوحات هيفاء معضاد.

هيفاء، الشابّة المتنية التي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، شاء القدر أن تفقد حاسّتَي السّمع والنطق على عمر صغير، بعد أن تعرّضت لحالاتٍ مُتكررة من مرض «الإنفلونزا» والالتهابات ودرجات الحرارة المرتفعة.

«فقدتُ سمعي على عمر السنة، وبدأتْ منذ ذلك الحين معاناة أهلي ومن ثمّ معاناتي»، تسرد ابنة بلدة بزبدين تفاصيل حياتها لمجلّة «الضّحى»، من خلال الكتابة، فتذكر الصدمة التي أصابتْ أهلها عند اكتشافهم فقدان ابنتهم للسمع، خصوصًا أنّها أولى أبنائهم، حيث حاولوا جاهدًا علاجها، فخضعت لعمليّتين جراحيّتين، وهي في السابعة من عمرها، لكن من دون أي جدوى تُذكر.

وتضيف معضاد: «تعرّضتُ للكثير من المواقف الصعبة، لعلّ أبرزها التنمُّر اللفظي والنفسي، ما دفع بأهلي إلى النهوض ومواجهة القدر والمجتمع بأسره، من منطلق أنّ مستقبل ابنتهم أهمّ من كلام الناس وذرف الدّموع، وأنّ الاستسلام لا يعدو كونه لغة الضعفاء. هكذا، احتضنتني عائلتي الصغيرة، رغم وضعنا المعيشي الصّعب، حيث بادر والداي إلى تسجيلي في «مدرسة رفيق الحريري» – دوحة عرمون، وأنا في الثامنة من عمري».

وتتابع: «تعلمتُ القراءة والكتابة باللّغتين العربية والانكليزية، كما أتقنتُ لغة الإشارات التي أتاحت لي التواصل مع الآخرين، لا سيّما مع أخي وأختي. غير أنّ حكايتي مع الرّسم والفن التشكيلي بدأت قبل ذلك بكثير، فقد برزت موهبتي وأنا في الخامسة من عمري، وتطوّرت على مقاعد الدراسة، حتى باتت وسيلتي الوحيدة للتعبير عمّا يخالجني من مشاعر وأحاسيس ومن آلامٍ رافقتني منذ نعومة أظافري».

لم تكن هيفاء بمنأى عن التنمُّر والمضايقات، حتى بعد عودتها من المدرسة إلى بلدتها، ما أدّى إلى تراجع وضعها النفسي، فما كان من ذويها إلّا أن قصدوا معالجًا نفسيًّا أشرف على حالتها، فكان الداعم والمحفّز لنجاحها وتحوّلها إلى شابّة طموحة تثق بنفسها وبقدراتها، ترسم أحلامها وتستشعر نبض الطبيعة بألوانٍ متناغمة كسرت جدار الصَّمت وقساوة العذاب.

ولعلّ تسلّح معضاد بالإيمان والسلام الدَّاخلي، كان العامل الأساسي لانطلاقها وتفوّقها في مجال الرسم، حيث احتفلت مؤخّرًا بأكثر من مئة لوحة ضمن معرضٍ خاص تضمّن كذلك زاوية للأعمال اليدوية، وهي بصدد إنجاز لوحاتٍ جديدة، تشارك عبرها في معارض للرّسم والفن التشكيلي. كما أنّها تعمل لدى جمعية «حلمنا» للمسنّين، في بلدتها بزبدين، حيث ترسم لكبار السنِّ عبق الحياة والطبيعة، ليضفوا بدورهم لمستهم، معبّرين عن واقعهم ومشاعرهم وأحلامهم من خلال الرّيشة والألوان.

وتختم هيفاء بعبارة خطتها أناملها، لتقول: «ليست الإعاقة أن نكون من أفراد ذوي الاحتياجات الخاصّة، إنّما عندما نستسلم للمصيبة ونخضع للأمر الواقع، مع العلم أنّنا قادرون على تحقيق المستحيل».

من لوحات هيفاء معضاد.

تحقيق عن بلدة عرمون

كبرت.. وكبرت مشاغلها
عرمون عاصـمــة التنوخـييــن زاخــــرة بآثــــار الماضـــي،
لكـــن الحاضـــــر اكتـــــظاظ ومشاكــــل بيئـــــة وعَطَـــــش

 

يعتبر بعض المؤرخين بلدة عرمون أول عاصمة للتنوخيين، كما أنَّها تُسمَّى عرمون الغرب لتمييزها عن عرمون أخرى تقع شمال بيروت في قضاء كسروان. يعود الاسم إلى اللغة الآرامية السامية، وهو يعني مصغر العرم أي الأكمة أو التلال. وتنطبق التسمية على جغرافية البلدة المُطلَّة على البحر والعاصمة عبر 3 تلال هي: “القبة”، “البيادر” و”المونسة”، لاسم البلدة أصل سرياني في الكلمة “أرما ” وتصغيرها “أرمونا “، وهي تعني أيضاً الأرض ذات التضاريس العالية والمنخفضة، أي التلال.

 

عائلاتها

عائلاتها المنتمية إلى طائفة الموحِّدين الدروز هي: أبو غنَّام، أبو خزام، الجوهري، حلبي، الحلواني، دقدوق، قبلان، المهتار، يحيى ومحاسن.
أما العائلات المنتمية إلى طائفة الروم الأرثوذوكس، فهي: شيبان، طبنجي، عرموني، عبد الله، عبد الكريم، خير الله وناصيف.
ومن العائلات التي لم يعد لها وجود في القرية: آل تنوُّخ، وآل إرسلان، وآل أبي الجيش، الصائغ وسري الدين. يشار هنا إلى أنَّه تمَّ مؤخراً وضع حجر الأساس للكنيسة في عرمون ترسيخاً للعلاقة الأخوية وللمُصالحة التي وَضَعت حدّاً لآثار الحرب الأليمة والتهجير.

 

سُكَّانها

يبلغ عدد سُكَّان عرمون المُسجلين ما يقارب الـ 7 آلاف نسمة بحسب إحصاءات العام 2006، ويتوقَّع لهذا الرقم أن يرتفع في نهاية هذا العام إلى ما يقارب الـ 12 ألف نسمة. وتضمُّ البلدة نحو 3043 مسكناً ممَّا يعطيها مرتبة ثالث أكبر بلدة في قضاء عاليه. ونظراً للتوسّع العُمراني خصوصاً في منطقة الدوحة، فَقَد اتَّسعت القاعدة السُكَّانية للبلدة. ويقطن في عرمون العديد من الجنسيات المختلفة، كما انتقل للعيش في ساحلها الكثير من

أهالي: بيروت، حاصبيا وبعلبك الهرمل، وذلك لقُربها من بيروت وبُعدها عن الضجيج ومشاكل المدينة.

 

الموقع والمساحة

تقع عرمون الغرب في قضاء عاليه، محافظة جبل لبنان، وهي تبعد عن بيروت 15 كلم، ويبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر 450 متراً، ويمكن الدخول إليها عبر طريق بيروت – المطار، أو عبر طريق الأوزاعي مدخل طريق الحدث الشويفات، أو عبر محور بيصور وعيناب عبر قبرشمون.
تبلغ المساحة الإجمالية لبلدة عرمون 10288 هكتاراً، وهي خامس بلدة من حيث المساحة في قضاء عاليه.
لكن، وعلى الرغم من مساحتها وتلالها الحرجية، الخضراء، فإنَّ عرمون لا تشتهر بزراعات مُعيَّنة، لكن الزيتون هي الشجرة الأبرز فيها، وتمتاز بينابيع عديدة أشهرها عين البلدة في وسط وادي البلدة، والتي يقع مجراها بين جبلين. هناك ينابع أخرى إمَّا ارتوازية أو طبيعية تتوزَّع بين أحيائها، وتستمدُّ مياه الشرب من مصلحة مياه الباروك.

%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%8a%d8%ad%d9%83%d9%8a

 

المناطق التابعة لها جغرافياً وإدارياً
  •  دوحة عرمون التي كانت مُلك آل سلام، وأصبحت الآن تجمُّعات سُكَّانية ضخمة تحوي آلاف المباني والمحال التجارية، ويقدر حجمها بنحو 3 أضعاف حجم قرية عرمون الأصلية.
  • دوحة الحُصّ: سُمِّيت كذلك لأنَّ رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص كان يقطنها مع كبار رجال الأعمال؛ وهي منطقة حديثة تزخر بالفيلات الضخمة والفخمة، ويقع فيها مقرُّ السفير المصري ومدير اذاعة نيو تي في NTV، وغيرهم من الشخصيات السياسية والديبلوماسية.
  • خلوات المونسة: هي منطقة بعيدة عن الضجيج السُكَّاني تحيطها أشجار وحدائق، وهي في أعالي البلدة كانت شبه قرية صغيرة يقصدها رجال الدِّين ليختلوا في العبادة وطاعة الله.
  • مناطق الدوير والخلة والبستان: وهي مناطق زراعية مهمة ومواقع طبيعية خلاَّبة.
  • منطقة البيادر: هي المنطقة المُستحدثة التي تقام عليها الآن مشاريع سكنية ضخمة، مثل: “أبراج الكمال” ( 5 أبراج كلِّ منها بعلو 25 طابقاً)، و”مشروع القرية الكندية” (37 مبنىً بارتفاع 3 طوابق)، ومشاريع “الرابية 1″ و”الرابية 2” و”مشروع السعيد”، وكلها مشاريع ضخمة توحي بوجود بلدة حديثة صاعدة إلى جانب القرية التاريخية.
تاريخها

تحتلُّ عرمون موقعاً خاصاً في تاريخ لبنان والجبل، لاعتمادها ولقرون طويلة كعاصمة للتنوخيين، وذلك قبل سرحمول وعبيه. وقد استوطنها آل تنوخ فأحبُّوا طبيعتها، وبنوا فيها القصور والقلاع وجعلوا منها مركزاً لحُكمهم من القرن الثامن للميلاد وحتى السادس عشر. وما زالت هناك آثار المباني والقلعة في تلَّة القبة عرمون.
ويمكن العودة بتاريخ عرمون إلى الحقبة الرومانية، وقد قطنها الرومان وخلَّفوا فيها أثاراً، مثل: بقايا سور القلعة، النواويس الحجرية المزخرفة، وقناة المياه الفخَّارية في خريبة الدوير؛ كما تحتوي البلدة على آثار بيزنطية، منها: لوحة فسيفساء مملكة الملك مرتغون في الدوحة، وقيل أنَّ هيرودوس، ملك فلسطين استخدمها سنة 27 قبل الميلاد (تحت اسم بلاتانو) مُعتقلا

 

” أنجبت عرمون عدداً كبيراً من رجالات الحُكم والفِكر والأدب والدين، ومن السابقين الذين لا يزال ذكرهم حيّاً في ذاكرة البلدة ولبنان “

 

لسجناء وُجِّهت إليهم تهمة الخيانة.
ومع بروز دعوة التوحيد في مصر، وفي العهد الفاطمي اعتنق أمراءُ عرمون التنوخيون الدعوة، وانضمَّ أمير عرمون المنذر بن النعمان إلى جيوش الخليفة الفاطمي سنة 968م. وبرز من أمراء عرمون الأمير شجاع الدولة عمر بن عيسى التنوخي، وهو الذي أتمَّ بناء حارة العين والحمَّامات في عرمون، كما أنه بنى المسجد المعروف باسمه قُرب عين البلدة، وما زالت آثاره قائمة حتى يومنا هذا.
وبرز من الأمراء البحتريين التنوخيين الأمير علي بن بحتر الذي وَلاَّه الملك الصالح بن نور الدين الاتابكي على إمارة الغرب سنة 1172 م، وكان سكنه في الحارة التي بناها على طريق العين، والتي تبقى آثارها قائمة.

 

مقامات وآثار عرمونية

مقام الشيخ سعد الدين أبوغنَّام، مقام الشيخ سيف الدين الجوهري، مقام

الشيخ صالح الحلبي، دار النائب (في عهد القائمقاميتين) حسيب أبوغنَّام، عين البلدة الأثرية، بقايا جامع الأمير مسعود الإرسلاني – دار زين الدين يحي، بقايا قصر الأمير جمال الدين صبحي التنوخي، السرايا الأرسلانية، قصر الأمير جمال الدين، دار الشيخ حسين فخور المهتار، مغارة السرج ومغاور الفحم، دار أسعد دقدوق، دار الشيخ سعيد سلوم ، والعديد من البيوت الأثرية المُرمَّمة والمسكونة، والتي ضاعت المعالم الأثرية لبعضها بين هدم وترميم.

 

حِرجُ الضيعة

على الرغم من المشاكل البيئية التي نجمت عن الاكتظاظ السكاني في عرمون، فإنَّ حِرج الضيعة الذي يمتاز بأشجار الصنوبر الشاهقة ويربض على تلَّةٍ تُطِلُّ على عرمون البلدة وبيروت، لا يزال شامخاً رغم تعرُّضِه مراراً للحرائق؛ لكن صغر مساحته جعلت منه موقعاً مميَّزاً ومقصداً للمُتنزِّهين. فقامت البلدية مؤخراً بالتعاون مع الجمعيات بترميم حائط الطريق المؤدِّي إليه، وتمَّت إضافة كمِّيات كبيرة من الأتربة بهدف تخصيب أرضه وإنعاشها. ويجري الحفاظ على الحِرج الآن كمحطة طبيعية خلاَّبة للقاء العائلات العرمونية والبيروتية في جوٍّ من الخضرة والظلال والهدوء.
كما استحدثت البلدية مؤخراً سلسلة من الحدائق العامة وهي صغيرة المساحة، ولكنها مهمة جداً بحيث تحوَّلت مناطق عدَّة من مَكبَّات متفرِّقة للنفايات أو الأنقاض إلى ساحات خضراء تملؤها الورود وأشجار الزينة.

 

مشروع المُجمَّع الرياضي

وضع المجلس البلدي الجديد لعرمون خطَّة لبناء مركز صحِّي ومجمَّعٍ رياضي وثقافي كبير، يؤمل أن يُنشِّطوا الحركة الرياضية والثقافية في البلدة والجوار. ويعتبر ترميم الملعب الرياضي وافتتاح المكتبة العامة خطوتين مهمتين في المسيرة الإعمارية للبلدة وتطوُّرِها؛ كما أنَّ انجاز مبنى الثانوية العامة الرسمية الجديد أعطى دفعةً قوية لقطاع التعليم؛ وبعد أن كان عدد طلاَّب الثانوية لا يتجاوز الـ 100، فقد ارتفع هذا العام إلى أكثر من 300 طالب وطالبة.

 

المؤسسات التربوية

أصبحت عرمون، وبسبب قُربها من بيروت العاصمة، مقراً مهماً لعدد متزايد من المؤسسات التعليمية التي تخدم ألوف الطُلاَّب والطالبات ومن أبرز هذه المؤسسات المتواجدة حالياً:

  • معهد الحكمة التوحيدي
  •  مدرسة الادفنتست السبتية الانجيلية (تأسَّست العام 1852)
  • مدرسة عرمون المتوسطة الرسمية (تأسَّست العام 1990)
  • ثانوية عرمون الرسمية (حديثة)
  • ثانوية العلوم والآداب (تأسَّست العام 2002)
  • مجمَّع نازك الحريري التربوي
  • المدرسة اللبنانية الأوروبية – يونيفرسال تكنيكال سكول (دوحة عرمون)
  • مبرة الإمام الخوئي الدوحة
  • مدرسة النشىء السليم عرمون
  • مدرسة البيادر، عرمون
  •  دار الأيتام الإسلامية
  • معهد التعليم المهني لجمعية المبرَّات الخيرية
  • معهد علي الأكبر المهني
  • مركز مؤسسة مخزومي للتدريب والتأهيل المهني
  • مدرسة الجواهر
  • مدرسة النجمة.

 

بعض رجالات وشخصيات عرمون السابقين

أنجبت عرمون عدداً كبيراً من رجالات الحُكم والفِكر والأدب والدين، ومن السابقين الذين لا يزال ذكرهم حيّاً في ذاكرة البلدة ولبنان، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

  • الشيخ شمس الدين الصائغ التنوخي (فيلسوف وشاعر، ومن تلامذة السيد الأمير جمال الدين التنوخي)
  • الأميرة أم علي، ابنة جمال الدين أحمد الإرسلاني (زوجة الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير)
  • الشيخ معضاد بن نجم أبوغنَّام (أشتهر بالصلاح، وكان شيخ صُلحِ إمارة عرمون، وهي تشمل بلدات كثيرة)
  • الشيخ جمال الدين بن ابراهيم المهتار (مرجعية دينية، ومؤسِّس خلوات المونسة)
  • الشيخ سليمان بن إبراهيم الجوهري (رجل دين توحيدي بارز، وله مواقف ذائعة).
  • النائب حسيب أبو غنَّام (نائب مجلس الإدارة الأوَّل الذي تأسَّس بموجب بروتوكول 1861 م)
  • الشيخ سليمان بن حسن الحلبي (شيخ دين بارز امتاز بمسلكه الورع ونفوذه الكبير)
  • السيد أسعد ناصيف (أحد قادة الجيش في الولايات المتحدة الأميركية)
  • الشاعر عجاج سليمان المهتار (شاعر وكاتب وأديب، وله مؤلَّفات عديدة)

 

عرمون تضخَّمت.. وتضخَّمت مشاكلها

النموُّ الكبير والمستمرُّ في التجمُّع السكني والعُمراني لبلدة عرمون، حمل معه كلّ المضاعفات الجانبية للنموِّ العمراني، ولاسيما النموّ غير المُخطَّط والسريع. ومن أبرز القضايا التي نجمت عن الازدهار العمراني والنموّ السُكَّاني لعرمون، نعرضها في القسم التالي من هذا التحقيق.
– مشكلة الاكتظاظ السُكَّاني والبناء غير المُخطَّط: فالمنطقة التي لحظ مشروع إيكوشار الشهير أن تكون ضاحية راقية لبيروت، مُخصَّصة للسكن الراقي وللفيلات الجميلة والتي لا ترتفع أكثر من طابقين، أصبحت الآن غابة من الأبنية التي أُقيمت بصورة غير قانونية خلال الحرب الأهلية؛ وقد استغلَّ المطوِّرون العقاريون كلّ فترة اضطراب أمني أو انفلاش سياسي، ليقيموا المزيد من تلك الأبنية حتى أصبحت هذه هي المنظر المهيمن على مداخل عرمون وساحلها بشكل خاص.

 

عرمون تضخَّمت.. وتضخَّمت مشاكلها

النموُّ الكبير والمستمرُّ في التجمُّع السكني والعُمراني لبلدة عرمون، حمل معه كلّ المضاعفات الجانبية للنموِّ العمراني، ولاسيما النموّ غير المُخطَّط والسريع. ومن أبرز القضايا التي نجمت عن الازدهار العمراني والنموّ السُكَّاني لعرمون، نعرضها في القسم التالي من هذا التحقيق.
– مشكلة الاكتظاظ السُكَّاني والبناء غير المُخطَّط: فالمنطقة التي لحظ مشروع إيكوشار الشهير أن تكون ضاحية راقية لبيروت، مُخصَّصة للسكن الراقي وللفيلات الجميلة والتي لا ترتفع أكثر من طابقين، أصبحت الآن غابة من الأبنية التي أُقيمت بصورة غير قانونية خلال الحرب الأهلية؛ وقد استغلَّ المطوِّرون العقاريون كلّ فترة اضطراب أمني أو انفلاش سياسي، ليقيموا المزيد من تلك الأبنية حتى أصبحت هذه هي المنظر المهيمن على مداخل عرمون وساحلها بشكل خاص.

 

مشكلة مياه الشفة – مصلحة مياه الباروك

كبرت بلدة عرمون وتوسَّعت، ونشأت فيها مناطق حديثة مثل……. لم تكن مشمولة بأيِّ مصادر مياه. ومع تزايد السُكَّان وتنامي عدد البيوت، تضاعف الطلب بصورة هائلة على موارد المياه وباتت الحصَّة التي تأتي إلى البلدة من مصلحة مياه الباروك غير كافية لسدِّ عطش الناس المتزايد إلى المياه، وبات سُكَّان البلدة لا يحصلون على المياه أكثر من 4 ساعات يومياً، وهذا بالنسبة إلى الذين تصلهم الشبكة؛ علماً أنَّ 40 في المئة من سُكَّان عرمون داخل البلدة طبعاً يستفيدون من مياه الشرب، وأمَّا بقيَّة سُكَّان البلدة، وخصوصاً منطقة المونسة والجوار وشارع آل جوهري، فإنَّهم محرومون منها، ممَّا يعني أنَّ مئات المنازل في هذه الأحياء الجديدة مضطرة لإنفاق المبالغ الكبيرة على شراء المياه الصالحة للشرب في معظم أشهر العام.
وبهدف معالجة مشكلة المناطق الجديدة، فقد تمَّ قبل فترة 5 سنوات، إنشاء خزَّان كبير في أعالي عرمون بهدف استقبال مياه الباروك الإضافية، وتتمّ تمديد شبكة مياه تمرُّ بالمناطق المذكورة. ولكن، لسبب مجهول لم يُستكمل الخزَّان (الذي امتلأت بعض جوانبه بالأتربة الآن)، ولم تصل المياه الإضافية إليه، وبقيت صنابير البيوت في تلك المنازل جافَّة، بل ربَّما علاها الصدأ.

 

ولادة ثانوية عرمون الرسمية

بين أهم الإنجازات التي تحققت لبلدة عرمون، إنشاء مبنى الثانوية الحديث على أرض تقارب مساحتها الـ 10 آلاف متر مربع، وعلى إحدى التلال الجميلة عند مدخل القرية. وقد تسلّمت إدارة الثانوية المبنى الجديد هذا العام، وانطلقت رغم ذلك بمجموعة طلاب ثانويين تجاوز عددهم الـ 170 طالباً، بعد أن كان عددهم لا يتجاوز الـخمسين، علماً أن المدرسة بنيت لاستيعاب ما يقارب الـ 400 طالب. لكن على الرغم من إنجاز المبنى الكبير، فإن المدرسة ما زالت في حاجة إلى تجهيز المكتبة والقاعة العامة وإلى ملعب كرة سلة مسقوف، فضلاً عن تجهيز المكتبة الإلكترونية التي تسمح للطلاب باستكشاف الإنترنت واستخدامها كوسيلة مباشرة للبحث وتوسيع المعارف والمهارات.

الأستاذ نظام الحلبي، مدير الثانوية، والذي عمل لمدة طويلة من أجل تأمين إنجاز المبنى يبدي سروره بهذا الإنجاز الذي خلق صرحاً تربوياً مهماً لبلدة عرمون ولمختلف البلدات المحيطة. وحرص الحلبي على توجيه الشكر “للزعيم وليد جنبلاط الذي لولا دعمه لما أمكن تأمين اتخاذ القرارات وتوفير الإعتمادات لتنفيذ أعمال الثانوية.”

تاريخ الموحدين الدروز والموارنة

في ضوء مؤلَّفاتهم القديمة

تاريــــــخ الموحِّــــدين الــــدروز والموارنـــــة

السجل الأرسلاني – قواعد الآداب حفظ الأنســـــاب – تاريــخ بيـــروت تاريخ ابن سباط- زجليات ابن القلاعي

لا بُدّ من الإشارة أولاً إلى أن ما سيرد ذكرهُ ليس تاريخاً للموحِّدين (الدروز) والموارنة، نكتبهُ في ضوءِ المصادر والمراجع القديمة والحديثة، ونتطرّق فيه بالتالي إلى تاريخ سائر الطوائف التي سكنت معهم أو جاورتهم في المناطق اللبنانية، وإنما هو خلاصةُ قراءةٍ متأنّية ومعمّقة لما جاء في خمسةِ مصادر تاريخية دوّنها أبناؤهم في القرون الوسطى، مع ذكر بعض الإيضاحات والتصويبات والشروحات، من أجل وضع ما جاء في هذه المصادر في السياق التاريخي العام.
الموحِّدون (الدّروز) في لبنان
بعد أن انتشرت الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية كلها، إنطلق العرب المسلمون في الفتوحات لنشر الإسلام خارجها، فتمَّ لهم – وفي فترة قصيرة- انتزاع بلاد الشام ومصر من الروم البيزنطيين، وانتزاع العراق من الفرس، كما توسَّعوا خارج هذه الأقطار، وقد فتح القائد أبو عبيدة بن الجرّاح البقاع، وفتح يزيد بن أبي سفيان، بمعاونة أخيه معاوية، مدن الساحل اللبناني، لكن الجيوش العربية لم تتوغّل في المناطق الجبليّة اللبنانية، في البداية. ومن أجل ملء الفراغ السكاني الذي أحدثه جلاء الروم البيزنطيين وجلاء بعض السكان معهم، ومن أجل حماية سواحل بلاد الشام ومدنها من غارات الروم البيزنطيين الذين ظلوا يحاولون العودة إليها، أعاد العرب إعمار هذه المدن، وشحنوا السواحل بالمرابطين والمثاغرين.
وفي سنة 758م استقدم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المناذرة اللخميين للمرابطة في جبل بيروت المعروف أيضاً بـ”جبل الغرب” من أجل الدفاع عن بيروت وساحلها، من هجمات الروم البيزنطيين، ومن أجل حمايةِ الطرق البرية المؤدية إليهما من اعتداءات من سمّاهم المؤرّخ طنوس الشدياق:”المردة المتحصّنون في الجبال العالية”، ومنذ ذلك الحين أصبح المناذرة اللخميون: الأرسلانيون، والتنوخيون، وبنو فوارس، وآل عبد الله – وهم بعض أجداد الموحِّدين الدروز- النواة التي استقطبت جموع النازحين الدروز إلى جبل لبنان من مناطق حلب ووادي التيم وفلسطين، وأبرزهم النازحون الذين جاؤوا إلى لبنان في سنة 820م، بحسب ما يذكر أحد المصادر التي سنتحدّث عنها.

إن أصول الموحِّدين الدروز من عرب اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ومن عرب نجد والحجاز في شمال الجزيرة، أي أن أصولهم عربية يمنية وقيسية كانوا على مذهب السُّنّة، وتشيَّع بعضهم عند سيطرة الدولة الفاطمية على بلاد الشام وغدَوا منذ النصف الأول للقرن الحادي عشر الميلادي على معتقد “التوحيد” أو “مسلك التوحيد” الذي هو أحد المذاهب الإسلامية، والذي اشتق اسمهم الحقيقي منه (الموحِّدون)، فيما اسم “الدروز” تسمية خاطئة لكنهم اشتهروا وعُرفوا بها عبر التاريخ.
توطّن الموحِّدون (الدروز)، من لبنان، جنوب كسروان ومناطق المتن والجرد والغرب والشوف ووادي التيم، وأسَّسوا في هذه المناطق إمارات امتدَّ نفوذها إلى غيرها من المناطق اللبنانية، وإلى خارج لبنان أحياناً كما في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، وأكّدوا عروبة لبنان وإسلامه، ولم يتخذوا من مواقعهم فيه ملاجئ حصينة يحتمون بها فقط، بل أيضاً خطوط دفاع عن ساحل الشام وداخلها ضد غزوات الروم والفرنجة، مما جعلهم سيوفاً مشهرة للعروبة والإسلام.
شكَّل الموحِّدون الدروز مع جيرانهم الموارنة النازلين في جبل لبنان الشمالي، ثم المُساكنين لهم في مناطقهم منذ القرن السابع عشر، ثنائيّة صبغت بسماتها تاريخ لبنان الوسيط وتاريخه الحديث، وأسَّست لكيانه الذي عُرف من سنة 1861 وحتى سنة 1920 بـ”لبنان الصغير”، وعُرف بعد ذلك بـ”لبنان الكبير”.

الموارنة في جبل لبنان
الموارنة في المعتقد الديني هم أتباع القدّيس مارون الذي عاش في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، وتوفي سنة 410م، ويُقال إنه دُفن في براد في جبل نابو سابقاً الذي هو جبل سمعان في سورية اليوم. والموارنة من المسيحيّين القائلين بالطبيعتَين والمشيئتين للسيد المسيح، لذا بدَوا مختلفين عن اليعاقبة القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، وعلى نزاع معهم، واضطرُّوا جرّاء اضطهاد هؤلاء لهم للنزوح سنة 669م من وادي العاصي، حيث يقيمون، إلى جبل لبنان الشمالي، ولحق بهم أخوان لهم في سنة 685 جرَّاء اضطهاد الروم البيزنطيين لهم.
تزامن قدوم الموارنة إلى جبل لبنان مع قدوم الجراجمة إليه، وهؤلاء نُسبوا إلى جرجومة في جبل اللكام، وقد سخَّرهم الروم البيزنطيون وأرسلوهم لإشغال الدولة العربية في بلاد الشام بعد جلائهم عنها، لذا سمّاهم بعض المؤرّخين المسلمين “خيل الروم”. وممن سخّرهم الروم أيضاً لإشغال الدولة العربية: المردائيون الذين عُرفوا باسم “المردة”. وقد بقيت أقلّيّة من الجراجمة والمردة متوطّنة في جبل لبنان بعد صلح الإمبراطور البيزنطي يوستنيان مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، واختلطت مع الموارنة، ومن هنا كان منشأ إشكاليّة الموارنة والمردة والجراجمة التي عالجها المؤرِّخون الذين تكلَّموا عن أصل الموارنة واختلفوا فيه.
إن أوّل من ذكر المردة –وبإسم المردائيتاي- هو المؤرِّخ البيزنطي تيوفانس المتوفَّى سنة818م، وهم من أصل فارسي. وأول من أطلق على الموارنة اسم “المردة” هو البطريرك إسطفان الدويهي (1630-1704) الذي قال إن الموارنة لقِّبوا بالمردة لأنهم تمرَّدوا على الإمبراطور البيزنطي يوستنيان. وبما أن المجال لا يتّسع هنا لذكر سائر المؤرِّخين وأقوالهم عن أصل الموارنة وعلاقتهم بالمردة والجراجمة، سنكتفي بذكر أسماء معظمهم مع مؤلَّفاتهم، وهم إضافة إلى البطريرك إسطفان الدويهي ومؤلَّفَيْه: “تاريخ الأزمنة” و”تاريخ الطائفة المارونيّة”، المطران يوسف الدبس في “الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، والأب بطرس ضو في “تاريخ الموارنة”، والخوري ميخائيل غبرئيل الشبابي في “موسوعة تاريخ الموارنة”، وميشال شيحا في “لبنان في شخصيّته وحضوره”، وبولس نجيم (جوبلان) في “القضيّة اللبنانيّة”، وكمال سليمان الصليبي في “بيت بمنازل كثيرة”، وعادل إسماعيل في مؤلَّفَيْه: “المردائيّون (المردة) من هم وما علاقتهم بالجراجمة والموارنة، و”انقلاب على الماضي”. وقد أوضح المؤرِّخ عادل إسماعيل أن المردة والموارنة والجراجمة شعوب مختلفة لغةً وعِرقاً ومذهباً، وأنّ الموارنة ساميّون من أصل عربي أو آرامي أو سرياني1.
كان الموارنة مع الدروز من أبرز مالئي الفراغ السكاني الذي حصل بعد الفتح العربي في لبنان عموماً، وفي جبل لبنان خصوصاً. وبما أن الموارنة لجأوا إلى جبل لبنان تجنُّباً لاضطهاد مخالفيهم في المعتقد الديني (اليعاقبة)، ولاضطهاد الروم البيزنطيّين لهم في فترة معيّنة، نشأت عندهم وتعزَّزت مع الزمن مقولة “لبنان الملجأ” التي يأخذ بها العديد من المؤرِّخين، ذلك لأنهم حمَوا أنفسهم من الاعتداء، وحمَوا معتقدهم من الأفكار الهرطقيّة اليعقوبيّة.
أقام الموارنة في مناطق بشرّي والبترون وجبيل، وجعل بطريركهم مار يوحنّا مقرّه في كفرحي، وكان عليهم حكّام منهم، لقبهم “المقدّمون”، وتوسَّعوا في السكن جنوباً حتى بلغوا نهر الجعماني (نهر بيروت) وهو الحد الجنوبي لكسروان سابقاً، وأصبحوا متجاورين مع أجداد الموحِّدين (الدروز) ثم مساكنين لهم، وشكّلوا معهم الثنائيّة التي وردت الإشارة إليها.

مؤلَّفات الدروز والموارنة القديمة
تكلّم الكثيرون عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة في معرض حديثهم عن التاريخ العامّ، أو تاريخ بلاد الشام عموماً، وتاريخ لبنان وسورية خصوصاً، كما أصدروا عشرات الكتب تحت عناوينهم، أو العناوين الخاصة بكل منهما.
وبناءً على ذلك، وعلى أن الحديث عن هذا التاريخ الطويل زمنيّاً،

دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد
دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد

والغنيّ بمواضيعه، لا تتَّسع له مقالة أو مقالتان، سنقصر الحديث فقط على مرحلة زمنيّة منه هي التاريخ الوسيط، وسنحصر تناوله في ضوء مؤلَّفات الدروز والموارنة التي تعود إلى العصور الوسطى.
وصلتنا من المؤلَّفات القديمة خمسة مصادر تاريخيّة من العصور الوسطى، هي السِّجل الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، وزجليّات ابن القلاعي. وهذه المصادر تضيء على تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة منذ توطّنهم في جبل لبنان بعد الفتح العربي لبلاد الشام، وتسدُّ النقص الحاصل في الكتابة عن تاريخ هذا الجبل، ذلك أن المؤرِّخين العرب والمسلمين لم يتناولوه وسواه من المناطق الجبليّة إلاّ بالقليل من الإشارات، وركّزوا في كتاباتهم على الحواضر، كما إنهم لم يتناولوا جميع الأحداث التي جرت بين أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي، وهي المرحلة الزمنيَّة التي شهدت انتقال بلاد الشام من المماليك إلى العثمانيِّين.
جاء معظم ما في المؤلَّفات الأربعة الأولى عن جبل لبنان الجنوبي، وعن مكوِّنه الرئيس الموحِّدين (الدروز) الذين أعطوه اسمهم لتكاثرهم فيه ولشهرتهم “جبل الدروز”، لكن هذه المؤلَّفات ركَّزت على بلاد “الغرب” وعلى الإمارات المنذريّة اللَّخميَّة التي قامت فيها، ولم تذكر سائر البلدان المأهولة بالدروز إلاَّ بإشارات قليلة، حتى إنها لم تتكلم عن الأمراء المعنيِّين، إلاّ بإشارات في تاريخ ابن سباط، وهم الذين كانوا مقدّمين في الشوف، ثم أسَّسوا أقوى الإمارات الدرزية. وجاء المؤلَّف الخامس عن جبل لبنان الشمالي، وعن مكوِّنه الرئيس (الموارنة)، فارتسمت به وبالمؤلَّفات الأربعة الأخرى صورة متكاملة لتاريخ هاتين الجماعتَين.
وبما أن المؤلّفات الأربعة الأولى مدوّنة من الموّحدين الدروز، كان هذا مما يخفِّف عنهم الملامة بسبب القول الشائع عنهم إنهم يصنعون التاريخ ويدَعُون لغيرهم كتابته. فإذا كان في هذا القول شرف صنع الحدث، وتطابقٌ مع قول بسمارك: “إن المهم صنع التاريخ لا الكتابة عنه”، فإن فيه خطأ إهمال الكتابة عنه، وترْك ذلك إمّا للضياع، وإمّا لكتابة الآخرين المشوبة أحياناً بالنّقص والأدلجة والتغرّض، كما إنه تجدر الإشارة هنا إلى أن قِدم المؤلَّفات المذكورة يدلُّ على أن الدروز كانوا أسبق من غيرهم في جبل لبنان إلى كتابة التاريخ إضافة إلى صنعهم لبعض أحداثه.
وفي ما يلي سنتكلَّم عن المؤلَّفات التاريخيّة الخمسة -وبإيجاز-وبحسب تسلسلها الزمني بادئين بالسِّجلّ الأرسلاني، محاولين ما أمكن التعريف بالمؤلِّفين وبالمخطوطات ونسخها، وذلك من قبيل إيفاء الموضوع حقَّه.

السِّجلّ الأرسلاني الإثباتات
لا يقترن السِّجلّ الأرسلاني بإسم مؤلِّف ما، لأنه مجموعة إثباتات، أو سجلاّت، أو مضبطات شرعيّة، بلغت 21 إثباتاً حتى اليوم، طلبها أمراء أرسلانيُّون بغية الحفاظ على النسب وتسلسله، ومعرفة تواريخ الولادات والوفيات، أوّلها موقَّع عند قاضي معرَّة النعمان في 2 شعبان سنة 141هـ= 8 كانون الأوّل سنة 758م، وآخرها في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بيروت بتاريخ 15 شعبان سنة 1419هـ= 4 كانون الأوّل سنة 1998م، بتصديق رئيس هذا المجلس سماحة آية الله الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وبين هذين الإثباتَين مجموعة من الإثباتات موقَّعة من قضاة الشرع في بيروت ودمشق وصيدا وطرابلس وقاضي جبل لبنان، منها 15 إثباتاً بين سنة 758 وسنة 1519م، مما يدلُّ على أن معظمها يتناول تاريخ ثمانية قرون تعود إلى العصور الوسطى، وهي المرحلة الزمنيَّة التي تعنينا، لأن سائر المؤلَّفات التي سنتكلَّم عنها موضوعة قبل سنة 1519.
نُقلت هذه الإثباتات في سنة 595هـ= سنة 1198م، من الخط الكوفي القديم إلى الخط المتعارف عليه، وجُعلت في سجلٍّ واحد جرى تجديده في سنة 1095هـ= سنة 1682م، وانتهى حديثاً سجلاً واحداً طوله بضعة أمتار.
أول من أخذ عن السِّجلّ الأرسلاني هو المؤرِّخ حيدر الشِّهابي المتوفَّى سنة 1835، وذلك في تاريخه المعروف أيضاً بإسم “الغرر الحسان في أخبار أبناء الزّمان”، ثم المؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق المتوفَّى سنة 1861، وذلك في تاريخه المسمَّى “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، كما أخذ عنه مؤرِّخون عديدون غيرهما، وبعد ذلك أورد الأمير شكيب أرسلان معظم نصوصه في تعليقاته على ما ورد في ديوان أخيه الأمير نسيب “روض الشقيق في الجزل الرقيق” الصادر في سنة 1935. وقد حقَّق الدكتوران محمد خليل الباشا ورياض حسين غنَّام السِّجلّ الأرسلاني، وصدر بكامل إثباتاته في سنة 1999.
وفي ما يتعلَّق بالمؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق، فقد كتب فصلاً عنوانه “في نسبة الأمراء الأرسلانيِّين”، سمَّى في آخره السّجلّ بإسم “النسبة”، وقال إنها منقولة عن نسب قديم موجود بيد الأمراء الأرسلانيِّين، موروث عن الآباء والأجداد، مثبت عند القضاة والحكّام عصراً فعصراً2. وكتب فصلاً ثانياً عنوانه “في أخبار الأمراء الأرسلانيِّين” وسمّى في آخره السّجلّ “النسبة” أيضاً، وأعاد ما قاله عنها، مضيفاً تواريخ الإثباتات وأسماء القضاة الذين أثبتوها3.
تعرَّض السِّجلّ الأرسلاني للنّقد على أساس أن بعض إثباتاته تضمَّنت ألفاظاً لم تكن متداولة في زمنها، مثل “المرحوم” و”المردة” و”الفرنج” و”أرسلان”، كما تضمّنت أسماء وتواريخ للأحداث في غير مكانها، ومنها ما هو غير موجود في المصادر الإسلامية، وبلغ النقد عند من اعتمدوا على ذلك حدَّ القول إن السّجلّ من صنع الأمراء الأرسلانيين لأهداف سياسيّة هي إظهار أنفسهم متميِّزين عن الأمراء البحتريِّين التّنوخيّين، وتقديم الإمارة الأرسلانية على الإمارة البحتريّة التنوخيّة، في إطار التنافس على التاريخ الدرزي، وعلى تاريخ بيروت و”الغرب”.
ولسنا هنا في صدد مناقشة السّجلّ، ولا في صدد ذكر مناقشات الآخرين له، بعد أن قمنا بذلك في كتابنا “التّنوخيّون والمناذرة اللخميّون والمعنيُّون. الفصول الغامضة من تاريخهم والإشكاليّات”، وإنما لا بدَّ من القول إن السِّجلّ الأرسلاني ليس مصطنعاً، ولا يعود فقط إلى تاريخ حديث، وإنما هو معطيات تاريخيَّة قديمة وصحيحة أسقط عليها الناسخون الألفاظ غير المتداولة في زمن الإثباتات، وسقط منها، من دون قصد، أسماء بعض الأمراء الأرسلانيِّين فخلا السّجلّ المحقَّق منهم. وشأن السّجلّ في ذلك شأن سائر المصادر التي تعرَّضت نُسَخها المتعدِّدة للزيادة والنقصان جرَّاء النقل المتكرِّر.
صحيح أن هناك ما يدعو إلى نقد السجلّ الأرسلاني، وتكوين الملاحظات على نصوصه بالصيغة التي وصلت إلينا، ولكن الصحيح أيضاً هو أنه مصدر تاريخي قديم يشتمل على معلومات يؤخذ بها، ويُركن إليها، وتؤكِّد مصداقيّته، ومنها ما هو متوافق مع التاريخ العامّ أو مذكور فيه، ومنها ما فيه الدليل على أنه لم يوضع بهدف تحقيق المصلحة السِّياسيّة، بل من أجل ذكر الوقائع إذ ليست هناك من مصلحة في الأساس عند واضعيهِ سوى تدوين الولادات والوفيات وذكر الأعمال الحاصلة، وليس عندهم بالتالي ما يدعو إلى ذكر أشخاص ومواضيع لا صلة لهم ولها بالأرسلانيِّين – إذا كان القصد بحسب ما اتَّهمهم الناقدون- إبراز أهميتهم، وتأكيد أسبقيتهم على الأمراء البحتريِّين التّنوخيِّين.
وإذا كان المجال هنا لا يتَّسع إلاَّ لما ذكرناه عن السِّجلّ، فإنه من المفيد مناقشة الاسم الذي نسب إليه الأرسلانيُّون.

بين الاسم “أرسلان” والاسم “رسلان”
عُرف الأرسلانيُّون بإسم جدِّهم أرسلان بن مالك بن بركات، الوارد اسمه هكذا في جميع إثباتات السّجلّ الأرسلاني، إلاّ أنهم حملوا أيضاً اسم بني أبو الجيش، وحمل بعض أمرائهم الاسم “رسلان”، وذكروا في بعض النصوص بإسم “بيت رسلان” ومن ذلك ما يلي:
1. ورود اسم “رسلان” كجدٍّ أعلى للأمراء الأرسلانيِّين في كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وورود ذكره في الكتاب نفسه كأسرة بالصيغة التالية: “بيت الأمير رسلان”4.
2. ورود أسماء أربعة أمراء فيها الاسم “رسلان” في تاريخ صالح بن يحيى، هم: شجاع الدين رسلان بن مسعود، وجوبان بن رسلان، وعلي بن رسلان بن مسعود، وعماد الدين موسى بن حسان بن رسلان5.
3. وجود الاسم “رسلان” في الكتابة المدوّنة على مدخل السراي الأرسلانيّة المشادة في عين عنوب سنة 1117هـ= سنة 1705م.
الاسم “أرسلان”، وحاليّاً أصلان، هو في الأصل اسم فارسي معناه: الأسد، أخذه السّلاجقة الأتراك عن الفرس، وحمله القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله المعروف بالبساسيري، الذي انقلب على الخليفة العبَّاسي القائم، وقُتل سنة 451هـ= سنة 1059م، وحمله ملك الدولة السّلجوقيّة الشهير ألب أرسلان ومعنى اسمه: المحارب الأسد، وهو الذي هزم إمبراطور الروم البيزنطيِّين هزيمة ساحقة في ملازكرد وأسرَهُ، وكان ذلك في سنة 463هـ= سنة 1071م، الأمر الذي أدَّى إلى وصول نفوذ الأتراك السّلاجقة إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام.
والاسم “رسلان” هو إمّا تصحيف للاسم “أرسلان” بحذف حرف الألف منه، وإمَّا أنه اسم عربي من فعل “رسل” بحسب ما جاء في معجم “لسان العرب” لابن منظور، ومعجم “تاج العروس” للزبيدي، فهو إذاً على وزن الأسماء العربية التالية: عدنان وقحطان وغسَّان ويقظان ونعمان وغيرها من الأسماء، وقد ورد عند ابن ماكولا المتوفَّى سنة 486هـ= سنة 1093م، اسم لجَدّ أحد رجال الحديث، المتوفَّى في القرن الرابع الهجري، وهو أحمد بن صالح بن رسلان الفيُّومي، مما يعني أن رسلان من أبناء القرن الثالث الهجري.
حمل الاسمَ “رسلان” أشخاصٌ كثيرون غير الأمراء الأرسلانيِّين، وحملتْهُ أُسر عديدة، منها أُسَر في بعلبك عُرفت به منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وهنا تبدو صعوبة معرفة ما إذا كانت أسماء هؤلاء الأشخاص وتلك الأُسَر أسماء عربيّة في الأصل أم هي تصحيف للإسم الفارسي (التُّركي السّلجوقي لاحقاً): أرسلان. وبالنسبة إلى الأمراء الأرسلانيِّين يقول أمير البيان شكيب أرسلان في تعليقه على ديوان أخيه الأمير نسيب: “روض الشقيق في الجزل الرقيق” ما يلي: “رسلان وأرسلان واحد وإنما رفعوا الألف للتخفيف وله نظائر”6، وهذا الكلام يعني أن الأصل هو الاسم “أرسلان” وأنه صُحِّف في بعض الأقوال والكتابات فغدا “رسلان”.
وبناء على قول الأمير شكيب أرسلان نرى أن الأمير الذي نُسب إليه الأرسلانيُّون حَمل الاسم “أرسلان” وحده، أو حَمل هذا الاسم، كلقبٍ يعني الأسد، بعد اسم سقط من السِّجلّ لاحقاً عند

الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب
الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب

نسخه، وذلك كما حمل الأمير مسعود بن عون لقب”قحطان”، وحفيده الأمير المنذر لقب “التنوخي”، وكما حمل قبلهما الملك المنذري اللخمي امرؤ القيس لقب “المحرّق”، والملك النعمان الأوّل لقب “الأعور”، والملك المنذر بن النعمان لقب “المغرور”، وفي كلتا الحالتين فإن الإسم لم يأتِ اقتباساً عن الأتراك السلاجقة وإنما عن الفرس الذين أخذه السلاجقة عنهم.
إن الاسم “أرسلان” في رأينا معروف عند المناذرة اللخميِّين قبل قرون من ظهور القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله (البساسيري)، والملك السّلجوقي ألب أرسلان، وذلك جرَّاء احتكاكهم بالفرس الذين سادوا في العراق وتبعت لهم المملكة التي أنشأها المناذرة في الحيرة بالعراق ودامت 364 سنة، وانتهت بآخر الملوك المناذرة الملك المنذر بن النعمان (المغرور) الذي أسلم عند ظهور الإسلام، وقد شكَّلت هذه المملكة خط دفاع عن مملكة الفرس كما شكَّل الغساسنة خط دفاع عن الروم البيزنطيِّين أعداء الفرس، وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يتأثَّر المناذرة بالفرس في نواحٍ عديدة منها أخذ الاسم أرسلان عنهم.

نسب الأرسلانيِّين وسائر المناذرة
ركَّز العرب على معرفة أنسابهم، وحثُّوا على تعليم النسب وتعريف كل امرئ نسبه الذي يعود إليه لإيجاد الصلة بين الأجيال المتعاقبة، ولكي لا يكون هناك خطأ في التنسيب، فكانوا يحفظون أنسابهم كحفظ أرواحهم ما لم تحفظه أمَّة من الأمم. وكان الرسول (ص) يحضُّ على تعليم النسب، ونظراً الى أهميته والاهتمام به دوَّن النَّسَّابون الكثير من الكتب عنه بدءاً بأقدمهم ابن الكلبي المتوفَّى سنة 204هـ= 819م، ودوَّن الموحِّدون الدروز بعض أنسابهم في أربعة مؤلَّفات، هي السِّجلّ الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، كما دوَّنوا مع هذه الأنساب بعض تاريخهم وحوادثهم وهم يفتخرون في دخولهم التاريخ بما صنعوا، ويفتخرون بأنسابهم المتوارثة، وأنسابهم الحاصلة بالأعمال والصنائع.
يرد في الإثبات الأول من السِّجلّ الأرسلاني، أن الأمير المنذر وأخاه الأمير أرسلان حضَرَا في سنة 758م إلى قاضي المعرَّة ليكتب لهما وفاة آبائهما في رق (سجلّ) “ليحفظاه عندهما من حوادث الزمان وتحفُّظًا من السَّهو والنسيان لأنهما عزما على الرحيل إلى جبال بيروت”. إن الأمير أرسلان الذي ينتسب إليه الأرسلانيُّون هو –بحسب ما جاء في هذا الإثبات- ابن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون ابن الملك المنذر (المغرور) ابن الملك النعمان (أبو قابوس) الذي يتَّصل عبر أجداده وأجداد أجداده بيعرب بن قحطان جد العرب العاربة7.
إذاً إن الأرسلانيِّين هم من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين الذين حكم منهم 17 ملكاً في الحيرة، وهذا النسب الرفيع الذي كان لهم بلقب “الملوك” استمرّ بعد ذلك، ولا يزال مستمراً حتى اليوم، بلقب “الأمراء”.
وبناءً على ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وتقاطعه مع ما جاء في تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، هناك ثلاثة فروع أخرى من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين توطَّنت مع الأرسلانيِّين في جبلَ بيروت بعد انتقالهم إليه من جهات المعرَّة، أوّلها بنو فوارس وهم من نسل فوارس بن عبد الملك، وعبد الملك هو أخو الأمير أرسلان، وثانيها آل عبد الله وهم من نسل عبد الله بن النعمان، والنعمان هو الأخ الثاني للأمير أرسلان، وثالثها التّنوخيّون الذين سنتكلّم عنهم عند الحديث عن تاريخ بيروت، والذين يلتقون مع آل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس عند الجَدّ الأعلى الملك النعمان (أبو قابوس).

الإمارة الأرسلانيّة في “الغرب”
أخذ المؤرِّخون – إلاّ قلّة منهم- بمقولة “حلف تنوخ” في الحديث عن المناذرة اللّخميِّين، أو عن أحد فروعهم المتأمِّرة في لبنان، فنسبوهم خطأً إلى التنوخيِّين بمعنى أنهم من حلف تنوخ الذي نشأ في البحرين أو من قبيلة تنوخ، فيما الحقيقة أنهم من سلالة الملوك المناذرة اللّخميِّين، كما أوضحنا في كتابنا:”التنوخيون والمناذرة اللخميون والمعنيون” وأن الشرف المتأتِّي لهم من هذه النسبة هو أكبر من شرف الانتماء إلى قبيلة تنوخ أو إلى حلف تنوخ. وجانَبَ بعض المؤرِّخين الحقيقة أيضاً حين جعلوا المعنيِّين تنوخيِّين منتمين إلى الحلف المذكور، ذلك أنهم ينتسبون إلى الأمير معن بن ربيعة، وهم قيسيُّون فيما المناذرة اللخميّون يمنيُّون. وبناءً على كل ما ورد صار الأرسلانيُّون في نظر هؤلاء المؤرِّخين تنوخيِّين، وضاع تاريخهم القديم، أو كاد يضيع في تاريخ التنوخيّين الذين سنتحدث عنهم والذين تأسّست إمارتهم في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، كما غابت الإمارة الأرسلانيّة التي تأسّست قبل هذا التاريخ.
اعتماداً على السِّجلّ الأرسلاني هناك إمارة أرسلانيّة منذريّة نشأت في بلاد “الغرب” بعد توطُّن المناذرة اللخميِّين فيها، وقبل قيام الإمارة البحتريّة التنوخيّة بقرون، عُرف أميرها بعدة تسميات، هي: أمير الغرب، وأمير الجبل أي جبل بيروت أو جبل الغرب، وأمير جبل الغرب وبيروت، وأمير صيدا وبيروت والغرب، وأمير بيروت وجبل لبنان، وقد وردت هذه التسميات في السّجل اعتماداً على عهدات أولي الأمر للأرسلانيّين بتسلّم الإمريّة على “الغرب” وعلى مدينتَي بيروت وصيدا8.

طلال ارسلان
طلال ارسلان

وبهذا، يصبح الأرسلانيون القادة الأوائل والأقدمين لأجداد الموحِّدين الدروز في لبنان، إلاّ أن قيادتهم هذه لم تكن إلغائيَّة لنفوذ أمراء أبناء عمومتهم من المناذرة (آل عبد الله وآل تنوخ وبنو فوارس) الذين كان في كل أسرة من أُسَرهم أمير مقّدم على سائر أمرائها، كالأمير الأرسلاني الأول المقَّدم على سائر أمراء أسرته، والذي له الإمرية الكبرى، ولم ينحصر نفوذ الأمير الأرسلاني في “الغرب” ومدينتَي بيروت وصيدا، بل إنه تعدَّى هذه المناطق إلى غيرها، إذ وُلّي الأمير النعمان بن عامر على صفد، والأمير رشد الدولة أبو الفوارس زنكي على اللجون وبعلبك وصفد وغيرها، والأمير تميم بن المنذر بن النعمان على طرابلس، والأمير هارون بن حمزة على صور9.
من وجوه تسلُّم الأمراء الأرسلانيين عهداتهم تسلّم الأمير ناصر بن منصور الأرسلاني العهدة على “بيروت وجبل لبنان” في سنة 383هـ= سنة 993م، من منجوتكبن الذي يذكر أحياناً بنجوتكبن، وكان والياً على الشام من قبل الخليفة الفاطمي العزيز بالله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ورود لفظة “جبل لبنان” في هذه العهدة، هي مما يدلّ على أن هذه التسمية كانت تُطلق قديماً على جبل لبنان، ومما يدحض مقولة إن الموارنة نقلوها معهم بعد انتقالهم من جبل لبنان الشمالي إلى مناطق الدروز المسمَّاة “جبل الدروز”، والواقعة في جبل لبنان الجنوبي.

إمارة بني فوارس في “الغرب”
كانت الإمرية الكبرى، أو إمارة “الغرب” هي للأمير الأوّل والأكبر شأناً من بين الأمراء المناذرة اللخميّين، أنه كان المقدّم بين المقدّمين، وكما غُيِّبَت الإمارة الأرسلانيّة من التاريخ بالرغم من استمرارها من المنتصف الثاني للقرن الثامن إلى المنتصف الأوّل للقرن الثاني عشر الميلادي، هكذا غُيِّبت: إمارة بني فوارس على “الغرب”، وإمارة أخرى عليه هي إمارة آل عبد الله، وما كانت هذه الإمارات الثلاث عُرفت لولا السِّجلّ الأرسلاني.
جاء في السِّجلّ الأرسلاني أن أهل “الغرب” انقسموا، بعد موت الأمير مطوع الأرسلاني، إلى فريقين: “الواحد يطلب إمارة عماد الدّين موسى ابن الأمير مطوع، والآخر يطلب إمارة الأمير أبو الفوارس معضاد من بني فوارس، وهو ابن الأمير همَّام ابن الأمير صالح ابن الأمير هاشم الفوارسي، ثم ولّي الأمير موسى، وبعد سنة نزل عنها للأمير أبي الفوارس”10.
تسلَّم الأمير أبو الفوارس إمارة “الغرب” من سنة 1020 إلى سنة 1040م. وتشير أدبيَّات الموحِّدين (الدروز)، التي تعود إلى تلك الفترة، إلى بعض جهاتها، وهي فلجّين والبيرة وعين صوفر والمروج وعين عار11، وإذ انتهت إمارة بني فوارس على “الغرب” مع الأمير معضاد استمرَّ وجود بني فوارس كأُسرة ثم كأُسَر تفرّعت منها وحملت أسماء مختلفة، منها آل الخضر وآل المغربي في كفرسلوان، ومنها آل أبو اللمع الذين تحوَّلوا تباعاً من الدرزيّة إلى النّصرانيّة بعد موقعة عين داره سنة 1711. أمَّا السِّجلّ الأرسلاني، فهو يذكر عدا الأمير أبي الفوارس ثلاث أميرات وأميرين من بني فوارس.

إمارة آل عبد الله في “الغرب”
كما أدَّى انقسام الأمراء الأرسلانيِّين في سنتي 1019و1020م إلى تسلُّم الأمير أبي الفوارس معضاد إمارة “الغرب”، هكذا كان اندثارهم على يد الفرنجة سبباً في تسلُّم آل عبد الله هذه الإمارة بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني الذي يرد فيه أن الأرسلانيِّين نكَّل بهم الفرنجة عند احتلالهم مدينة بيروت سنة 1110م ومهاجمتهم “الغرب”، وقد ذهب ضحية ذلك 21 أميراً أرسلانيّاً إضافة إلى غيرهم من أمراء سائر الأُسَر المنذريّة، وغيرهم من أهل “الغرب”.
لم يبقَ من الأمراء الأرسلانيِّين سوى أمير صغير اسمه بحتر، غير مؤهَّل لتسلُّم الإمارة، فتسلَّمَها الأمير مجد الدولة من آل عبد الله الذين هم أبناء عمِّ الأرسلانيِّين، وبقي متسلِّماً لها حتى مقتله سنة 1137م في إحدى المواقع مع الفرنجة. لم يذكر السِّجلّ الأرسلاني بعد هذا الأمير سوى ستّ أميرات من آل عبد الله مع الإشارة إلى أن منهم أسرة آل علم الدين التي تأمَّرَت مراراً على “الغرب” والشوف في عهد المعنيِّين، ومنهم أسرة آل تقيّ الدين.

ترجمة الأمراء الأرسلانيِّين
تَرجم السِّجلّ الأرسلاني لجميع الأمراء الأرسلانيِّين البالغ عددهم، من تاريخ الإثبات الأوّل في سنة 758م حتى الإثبات الأخير في سنة 1998، 356 أميراً، منهم أمراء لم تُعرف عنهم إلاَّ أسماؤهم وصلتهم بسائر الأمراء الأرسلانيِّين، ومنهم من بلغوا شأناً كبيراً، وقاموا بدور بارز في التاريخ كان القديم منه ضاع وضاعت أسماء القائمين به لو لم يحفظه السجلّ الأرسلاني.
وذكر السِّجلّ الأرسلاني أن الأمراء الأرسلانيِّين كانوا يتنافسون أحياناً على الإمارة، ويتصارعون على النُّفوذ، ويكيد بعضهم لبعض ويتآمر عليه، وقد تقاتلوا في سنة 838م في خلدة، وفي سنة 1002م في مرتغون الواقعة إلى الشمال من خلدة، كما إنهم تقاسموا الأراضي، وانقسموا بشأن الولاء للقوى المتصارعة في بلاد الشام، كالصراع بين الفاطميِّين والعبّاسيِّين واضطرار الأمير المنذر بن النعمان الذي تسلَّم الإمارة سنة 936م إلى مبايعة الخليفة الفاطمي12، وتأييد الأمير درويش بن عمرو للقائد العبَّاسي هفتكين وتأييد الأمير المنذر المذكور، في المقابل، لابن الشيخ وابن موهوب والي دمشق من قبل الفاطميِّين. وكان انتصار قوة على أخرى يؤدِّي إلى تسلُّم الأمير الذي يواليها إمارة “الغرب”، كمايذكر السّجلّ أيضاً تضرُّر الأرسلانيِّين من غزو التركمان (أمراء كسروان) للغرب.
وذكر السجلّ الأرسلاني إقبال الأمراء الأرسلانيِّين على التعلُّم والتفقُّه، مما يدلّ على أنهم منذ القدم كانوا أرباب العلم كما هم أرباب السيف، وقد كانت لهم مساهمة في إعمار “الغرب”، من وجوهها بناء قرية الشويفات على مجموعة تلال، واسمها عربي هو جمع شويفة أي تلّة مشرفة، وقد غدت اليوم مدينة، ومن أبرز ما يُذكرون به هو مشاركتهم في الجهاد الإسلامي.

المشاركة في الجهاد الإسلامي
ينفرد السِّجلّ الأرسلاني عن المصادر الإسلامية بذكر مشاركة أجداد الأرسلانيِّين في الفتوحات الإسلاميّة، فهو يذكر أن الأمير عون ابن الملك المنذر (المغرور) حضر مع المسلمين فتح بصرى، وشارك في وقعة أجنادين وتوفِّي بعد أيام قلائل بسبب جرحه فيها، وأن ابنه مسعود تابع مسيرته فحضر فتح دمشق، وكان أوّل من دخلها، ثم حضر وقعة مرج الديباج ووقائع اليرموك، وكان معه من لخم 1500 فارس. وحضر مع أخيه عمرو فتح بيت المقدس، ثم شارك في فتح حلب وقلعتها، وكان ممن شاركوا في فتح أنطاكية، كما إن الأمير عمرو، وابن عمه الأمير همّام ابن الأمير عامر ابن الملك المنذر (المغرور)، شاركا في فتح قيساريه وفي فتح مصر.
تابع الأرسلانيُّون هذا الدور الجهادي بعد قدومهم إلى لبنان، وقد كان قدومهم أصلاً إلى جبل بيروت أو جبل “الغرب” للقيام بهذا الدور، إذ استقدمهم الخليفة العبّاسي إلى جبل مدينة بيروت للدفاع عن هذه المدينة وعن ساحلها ضد اعتداءات الروم البيزنطيِّين.
من وجوه جهاد الأرسلانيِّين ضد الروم البيزنطيِّين تحصين الأمير النعمان بن عامر لسور مدينة بيروت وقلعتها، وانتصاره على الروم حين نزل جندهم في رأس بيروت. ومن وجوه جهادهم ضد الفرنجة تصدِّيهم لحملات هؤلاء عند نهر الكلب، وفي مدينتَي بيروت وصيدا، وفي منطقة “الغرب”، وتكبّدهم الخسائر البشريَّة الكبيرة في ذلك، مما أدَّى إلى اندثارهم كما وردت الإشارة إلى ذلك.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرسلانيِّين كانوا قادة أجداد الموحِّدين (الدروز) في هذه المحطَّات الجهاديّة، وكان معهم أبناء عمومتهم من المناذرة اللّخميِّين، ومن يتبعهم ويتبع هؤلاء من الأهالي، وأن جهاد الأرسلانيّيِن حديثاً هو استمرار لجهادهم قديماً، ويأتي في طليعة المجاهدين منهم حديثاً الأمير شكيب أرسلان، الملقَّب بـ”داعية العروبة والإسلام” لجهاده من أجل القضايا العربية والإسلاميّة، وأخوه الأمير عادل (أمير السيف والقلم) المناضل من أجل القوميَّة العربيَّة، كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الجهاد الذي بدأ بقيادة الأرسلانيِّين واستمرَّ فصولاً معهم، استمرَّ أيضاً فصولاً بقيادة سواهم من أعيان الموحِّدين (الدروز).

قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت
قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت

الصراع مع المردة
يذكر السِّجلّ الأرسلاني قتال الأرسلانيِّين لمن يسمّيهم “المردة” و”أهل العاصية”، وهو لا يتكلَّم عن قتال الأميرَين المنذر وأخيه أرسلان، وقتال الأمير مسعود بن أرسلان، لهم، فيما يذكر المؤرِّخ طنّوس الشِّدياق ذلك، إمَّا نقلاً لمعلومات سجلٍّ لا ترد في نصّ السِّجلّ المحقَّق، وإمَّا اعتماداً على مصدر غيره، فهو يذكر موقعة جرت بين الأمير أرسلان والمردة عند نهر الموت بالقرب من سن الفيل حيث يقيم الأمير، وموقعة جرت بين هذا الأمير وأخيه الأمير المنذر وبين المردة في انطلياس، ويذكر انتصار الأرسلانيِّين فيهما.
لكن السِّجلّ الأرسلاني يذكر في الإثبات الثالث المؤرَّخ في 4 شعبان سنة 252هـ (سنة 866م) أن الأمير هاني ابن الأمير أرسلان حارب في سنة 845م “المردة وأهل العاصية لعنهم الله حروباً عظيمة حتى كاد أن يدمِّرهم” فلّقب بالغضنفر، وبلغ خبره الأمير خاقان التركي والخليفة العباسي المتوكِّل على الله، كما يذكر السِّجلّ الأرسلاني في الإثبات الرابع المؤرَّخ في 10 شوال سنة 269هـ (سنة882م) أنه كان في سنة 262هـ (سنة 875/876م) “بين الأمير النعمان والمردة الحروب العظيمة التي أهلكهم فيها وبلغ خبرها أمير المؤمنين المعتمد على الله، رحمه الله، فكتب له كتاباً بخطّه يقرّره على إمارته هو وذرّيته”.
استطاع الأرسلانيُّون إبعاد خطر المردة عن طريق بيروت دمشق، وذلك بزحزحتهم نحو الشمال إلى أنطلياس ثم إلى نهر الكلب، إلا أن شوكة هؤلاء لم تنكسر بل ظلُّوا يشكِّلون خطراً على الأرسلانيِّين، وكانوا رجال حرب وأحياناً هم المهاجمون والمبادرون إلى القتال كما جرى عند مهاجمتهم للأرسلانيِّين وخوض موقعة نهر الموت معهم، وكما جرى بعد ذلك عند هجومهم مع الفرنجة على “الغرب”، وهذا الهجوم لا يذكره السِّجلّ الأرسلاني فيما يذكره الشّدياق إمَّا نقلاً لمعلومات لم ترد في السِّجلّ المحقق، وإمَّا اعتماداً على معلومات وردت في غيره من المصادر.

كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” مجهول، إمَّا لأنه لم يشأ ذكر اسمه، أو أن اسمه دُوِّن في الأصل لكن الذين نسخوا مخطوطه لم يذكروه.
وإذا كان اسم هذا المؤلِّف مجهولاً، فإن أصله ومنطقته وصفته أمور نستشفّها من عبارات كتابه، وهي أنه من “الغرب”، ومن الموالين لأمرائه البحتريِّين التنوخيِّين، وهو من الموحّدين (الدروز) بناءً على أدلة كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تكلَّم عن جدود أُسَر الموحِّدين (الدروز)، وعاش بينهم، وسمّى بعض المناطق المسكونة بغيرهم، أي بالسُّنَّة والشِّيعة.
2. أورد عبارات من أدبيات الموحِّدين (الدروز)، ومنها قوله عن حصول بعض الأمور قبل ما سمَّاه “الكشف”، وحصول بعضها الآخر بعد “الكشف”13.
3. أظهر حبّه للأمراء البحتريين وموالاته لهم وقربه منهم بذكر مواضيع وردت عند صالح بن يحيى البحتري التنوخي، وبقوله إن “أمراء عبيه”، وهم الأمراء البحتريُّون، يبغضون بني أبو الجيش الأرسلانيِّين “وهم وإيَّاهم على السيف”، وبوصفه بني أبو الجيش بأنهم ثقال الطبع.

نِسَخ مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
يعود تدوين مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب” – بالصِّيغة التي وصلت إلينا- إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وتحديداً إلى ما بعد سنة 1389م بقليل، لأن فيه إشارة إلى قريتَي البيرتَين اللَّتَين خربتا في هذه السنة، وهما البيرة التحتا والبيرة الفوقا الواقعتان بين بلدتَي بيصور وكيفون، يضاف إلى ذلك ذكر سنة 785هـ= سنة 1383م في المخطوط.
عُرف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” بإسم آخر هو “النسبة” ذلك لأنه متعلِّق بالنسب، ولأن مدوِّنه سمّاه “النسبة” فقال: “ نقلتُ هذه النسبة المباركة عن نسبة نُقلت في شهر رجب سنة 505هـ. [وهذا التاريخ يوافق يناير سنة 1112م]، مثبتة عند قضاة الشرع في دمشق وحلب” بدءاً بسنة 710هـ (سنة 1310م) وانتهاء بسنة 785هـ (سنة 1383م)
إن أول من أشار إلى كتاب “قواعد الآداب …” هو القنصل الفرنسي في لبنان هنري غيز الذي نشر ذلك بين سنتَي 1843و1847، ثم الأمير شكيب أرسلان، وكان منه خمس نُسَخ أو نسب، هي النسخة الموجودة في مكتبة بلدية روان الفرنسية، ونسخة عند المؤرِّخ عيسى إسكندر المعلوف، ونسخة عند المؤرِّخ سليم أبو إسماعيل، ونسخة مجزوءة ملحقة بتاريخ الأمير فخر الدين الذي وضعه الشيخ الخالدي الصفدي، وقد ألحقها محقّقا هذا التاريخ به، وهما الدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد إفرام البستاني، وهي خمس صفحات مخطوطة وثلاث صفحات مطبوعة، والنسخة الخامسة هي بإسم “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”.
اطَّلع بعض الباحثين على نسخة مدينة روان الفرنسيَّة، ونقل المستشرق جان سوافاجيه – وهو أستاذ التاريخ الإسلامي في كوليج دي فرانس- نسخة عنها وأهداها إلى حسن قبلان المحامي العامّ في محكمة التمييز اللبنانيّة، وقد حقَّق الدكتور الياس القطّار نسخة مدينة روان في سنة 1986 وهي النسخة التي سنتكلّم عنها، والتي وصلتنا مكتوبة بلغة عصر الانحطاط، فيها الكثير من الجمل الغامضة والركيكة، وفيها العديد من الأخطاء، لكننا قبل أن نتكلَّم عنها، نرى من المفيد التكلُّم عن النسخة الخامسة، أي “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”14.
إن النسخة المذكورة منقولة عن نسبة كُتبت سنة 940هـ (سنة 1533م)، منقولة بدورها عن نسبة كُتبت سنة 890هـ (سنة 1485م)، وقد أضاف ناسخ النسبة المسماة “كتاب العجائب…” إلى النسبة الأصليَّة قصة سيلار نايب كرك الشوبك، التي جرت في سنة 710هـ (سنة 1310م)، وأخبار فيضان نهرَي الصفا والباروك في سنة 963هـ (سنة 1556م)، وأضاف إليها أيضاً ذمَّ بني أبو الرجال الذين يكرههم لأسباب شخصيَّة، فيما هم ممدوحون في المخطوط الأصل، ومحمودون عبر العصور، ومنهم شيوخ دين ثقات بينهم الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) الشيخ عزّ الدين أبو الرجال، ومنهم الصدر الأجلّ الشيخ سليمان، ورجل اسمه غازي هو أحد أبدال الحراسة على ثغر بيروت في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الميلادي، وهذا مما يدلّ على أن مخطوط “قواعد الآداب” تعرَّض للتهديم والزيادة والنقص والتعديل على يد بعض ناسخيه، وقد حقَّق المحامي سليمان تقيّ الدين بالاشتراك مع الأستاذ نائل أبو شقرا، النسبة المسمّاة “كتاب العجائب..” بعنوان “الأُسَر في جبل الشوف من خلال مخطوط قديم، وصدر هذا الكتاب في سنة 1999.

أنساب العشائر وصفاتها
وُضِع كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” من أجل معرفة أنساب الطوائف (العشائر) وتحديد صفاتها، لحفظ ذلك والعمل بقواعده، وورد فيه أن بعض هذه الأنساب مثبت عند قضاة الشرع في دمشق وحلب، وهو في هاتين الناحيتَين يلتقي مع السِّجلّ الأرسلاني الذي وُضع من أجل الحفاظ على النسب، وعدم ضياعه مع الزمن وتقلّبات الحوادث، كما يتقاطع معه، ومع ما ورد عند صالح بن يحيى عن تاريخ أسرته البحتريّة التنوخيّة في القول التالي: “فأول النسب الشريف الطاهر العالي الأمير نعمان الجميهري اللَّخمي بن لخم ابن أبيت اللعن ابن قابوس ابن ماء السماء ابن المنذر ابن النعمان الأكبر…الذي هو أكبر الملوك وأكبر البيوت وأكبر أهل الزمان من الجاهليّة إلى الآن”15. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سلسلة هذا النسب وصولاً إلى آدم عليه السلام تختلف في “قواعد الآداب…” بعض الشيء عما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وفي تاريخ بيروت لصالح بن يحيى وفي المصادر الإسلاميّة.
إن عدد الطوائف (العشائر) المذكورة في كتاب “قواعد الآداب..” هو في الأصل 12 طائفة عربيّة يمنيّة، ثم بلغت في جبل لبنان مع فروعها ومع من انضم إليها من العشائر 111 عشيرة. أمّا العشائر الاثنتا عشرة فهي تعود إلى ثلاثة أمراء، وتسعة أسياد، مما يعني أن لقب “السّيِّد” دخل في أدبيّات الموحِّدين (الدروز)، وهو يعطَى لأعيان القوم من روحيِّين وزمنيِّين، وقد أُعطِي لأكبر وأقدم وأشهر أولياء الموحِّدين وعلمائهم ورؤسائهم الروحيِّين، الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي (ق)، والأمراء هم الأمير شهاب، والأمير مسعود بن رسلان بن مالك، والأمير فوارس، والسادة هم السيد عزايم، والسيد عبد الله، والسيد عطير، والسيد حصن، والسيد هلال، والسيد كاسب، والسيد شجاع، والسيد نمر، والسيد شرارة.
إن هذا النسب الرفيع لأجداد الموحِّدين (الدروز) هو – مع المفهوم التاريخي لعقيدة التوحيد التي اعتنقوها- محل فخرهم واعتزازهم، وهذا حمل أحد رؤسائهم الروحيِّين، الشيخ أبا علي قسّام الحنَّاوي من جبل العرب، على القول التالي:
أفضل نسب في الأرض تلقى نسبنا متـــــجنّــــــــــــــــــــبين العــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار والمعيــــــــــار
إن صفات الطوائف (العشائر) بحسب ما جاء في “كتاب قواعد الآداب..” هي التالية:
• بنو فوارس: شجعان وأصحاب غيرة وكرماء وأوفياء وفصحاء، لا يفوقهم أحد في ذلك، ولا يتزوَّجون إلاَّ من بعضهم، وهم يُعرفون بالنعمانيّة نسبةً إلى معرّة النعمان.
• آل عبد الله (العبادلة): علماء وصادقون وحلماء.
• بنو أبو الرجال: خيَّالة ورجال، ولا أخيل ولا أرجل منهم.
• بنو أبو الجيش (آل أرسلان) وبنو حرب: ثقال الطباع.
• بنو الشويزاني وبنو فضل وبنو الشاعر وبنو نمرو وبنو روق: شعراء وحلفاء وجمَّاعون للمال.
• بنو الحصن وعمّار وأبو النصر وأبو الفتوح: علماء وحلماء وصادقون وأدباء.
• بنو ملهم وبنو عجل: أخَّاذون بالثأر.
ومن سائر الطوائف (العشائر) التي لا شأن لها كالطوائف المذكورة، يسمِّي مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب..” بني صيدان وبني طرطور وبني قبع، ويصفهم بأنهم “جلب” أي جيء بهم بعد العشائر الأولى الرئيسة.

قواعد الآداب حفظ الأنساب 2
قواعد الآداب حفظ الأنساب

برز المواضيع
يتضمّن كتاب “قواعد الآداب…” مواضيع كثيرة بالرغم من قلة عدد صفحاته وخلوِّه من العناوين. ومن المواضيع ما يلتقي فيها مع السِّجلّ الأرسلاني ومع تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، ومنها ما ينفرد به كالحديث عن أسرة بني الشويزاني، ومنها ما هو خاطئ كالقول إن عمارة حصن الأكراد هي من شغل أجداد الأمراء بيت معن الذين يتحدَّرون “من سلالة بني أيوب سلاطين بغداد وثغورها وحلب وثغورها والشام وثغورها ومصر وثغورها”. وبما أن المجال لا يتّسع لذكر جميع مواضيع الكتاب نكتفي بذكر أبرزها.
• أسباب قدوم العشائر إلى لبنان: يرد في “كتاب قواعد الآداب…” قدوم اثنتي عشرة طائفة، أي عشيرة، من اليمن إلى العراق، ثم انتقالها منه إلى معرَّة حلب بسبب قتل الملك كسرى للنعمان، وبما أن حكم الملك كسرى للفرس بدأ في سنة531م، فإن نزوح هذه الأُسَر هو بعد هذا التاريخ وهذه الأُسَر عادت وانتقلت من معرَّة حلب، أي معرَّة النعمان، إلى “بلد بيروت” بسبب اعتداء مشدّ المغل على إحدى نسائها، مما دفع بأحد أبنائها (نبا) إلى قتله والخروج من جهات حلب مع بعض النساء والأولاد إلى كسروان ولحق بهم أقاربه. وكان خروج هذه الطوائف من المعرَّة بتاريخ شهر المحرّم سنة خمس ومايتي سنة” وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران820م.
• توطُّن العشائر: ورد في كتاب “قواعد الآداب…”أن نبا كان أوّل القادمين من معرَّة النعمان إلى جبل لبنان، ثم قدمت إليه سائر الطوائف (العشائر) عبر المغيثة، أي ضهر البيدر، ومنها من نزل أوّلاً في حصن أبي الجيش في وادي التيم. وقد توطَّنت العشائر الاثنتا عشرة مناطق المتن والجرد والغرب والشوف، وتقاسمت بعض قراها. وورد في الكتاب أيضاً اسم المكان الذي نزلت فيه كل عشيرة من العشائر القادمة أوّلاً، ومن العشائر التي تفرّعت منها أو لحقت بها، فبلغ مجموع هذه الأمكنة 140 قرية، أكثريتها الساحقة في جبل لبنان الجنوبي، ولا يزال منها 121 قرية عامرة حتى اليوم، فيما هناك 19 قرية دارسة، وهذا مع توطُّن العشائر التي قدمت إلى لبنان في سنة 758م، ساهم في إعماره، وملء الفراغ السّكَّاني الذي حصل فيه بعد الفتح العربي له وجلاء الرومالبيزنطيين عنه، كما ساهم في نشر الدين الإسلامي فيه، واللغة العربية التي حلّت مكان اللغة السّريانية، مع بقاء آثار الأخيرة ظاهرة في العديد من أسماء المكان القديمة.
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” الذي هو من الموِّحدين (الدروز) لا يكتفي بذكر القرى التي يقيمون فيها، بل يذكر المقيمين بينهم، أو بالقرب منهم، من أصحاب المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فيقول إن السُّنَّة موجودون في قرى سبلين والوردانيَّة والجيّة وشحيم ومزبود وعانوت والناعمة وبطلّون وبحمدون ومجدل معوش، وإن الشِّيعة (المتاولة) موجودون في البرج القريبة من بيروت، وفي إقليم الخرُّوب وجبل عامل، لكنه لا يذكر شيئاً عن النصارى، لأنهم كانوا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مقيمين في جبل لبنان الشمالي.
ذِكْر الملك العادل نور الدين محمود زنكي: يرد في كتاب “قواعد الآداب..” أن أحوال المسلمين والبلاد تغيَّرت في عهد الملك العادل الذي قهر الفرنجة وكان “أعدل الرعية وفتح بعض البلاد وعمّر القرايا”، والذي نادى في الناس “من أراد السكن بالحماية والرعاية والعزّ والعدل والقوة عليه بكنيسة حمام [الكنيسة في وادي التيم] فانبث الخبر في البلاد” ورحل بعض المتوطِّنين في جبل لبنان إلى الكنيسة16.
والملاحظ أن مدوِّن كتاب “قواعد الآداب..” يُطلِق على الملك العادل نور الدين لقب “سيدي”، ويترحَّم عليه بقول: “قدّس الله روحه”، وهذه عبارات معتمدة عند رجال الدين من الموحِّدين (الدروز) يعطونها للرجل التقيّ الصالح، وقد كان الملك العادل ديِّناً وصالحاً، جاء عنه في تاريخ ابن سباط، الذي سنتكلَّم عنه لاحقاً، ما يلي:

كفرمتى وعبيه وقرى الغرب
كفرمتى وعبيه وقرى الغرب

“كان نور الدين لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلاَّ من ملك اشتراه من خالص ماله ومن عمل السكاكر [الأقفال] للأبواب… وكان يستفتي الفقهاء في ما يحلُّ ويحرم، ولم يلبس حريراً ولا ذهباً ولا فضة، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان يحدُّ شاربَها”.
• غَدْر الفرنجة بأبناء الأمير كرامة بن بحتر التنوخي: إن قصّة غدر صاحب بيروت الفرنجي اندرونيكوس كومنينوس بثلاثة من أبناء الأمير كرامة بن بحتر واردة عند المؤرِّخ صالح بن يحيى في تاريخ بيروت، وهذه من المعلومات المتقاطعة بين مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” وبين صالح بن يحيى البحتري التنوخي الذي كتب بعده، مما يدلّ على أن هذا المؤلّف كان على صلة بالبحتريين، ويعرف تاريخهم كما وردت الإشارة إلى ذلك. ومفاد قصة الغدر هذه أن صاحب بيروت الفرنجي دعا أبناء كرامة إلى عرس ابنه في بيروت، فنزلوا من حصن سرحمور، وحين أصبحوا داخل بيروت ووسط الفرنجة غُدر بهم وقتلوا، وعندما فتح السلطان صلاح الدين بيروت، وكان معه الأخ الأصغر الرابع للمغدورين، أمر السلطان بالإحسان عليه وأقرَّه على أملاك أبيه وأقاربه.
• أسرة بني الشويزاني: المتداول عن تاريخ هذه الأسرة في لبنان، قبل تحقيق كتاب “قواعد الآداب…” ونشره، معلومات قليلة، منها أنها أصل أربع أُسَر درزيّة، هي: آل عبد الملك، وآل أبو هرموش، وآل حماده، وآل أبو حمزة ومنها إهمالها الحراسة في ثغر الدامور سنة 1302م مما تسبّب في قتل أمير بحتري تنوخي وبعض المرابطين معه، ومنها اسم منطقة في الشوف هو الشوف السويجاني، واسم حصن هيلنستي فيه هو قصر السويجاني. ولفظة “السويجاني” هي تصحيف للفظة “الشويزاني”17.
إلاَّ أن كتاب “قواعد الآداب..” أضاء على أسرة بني الشويزاني، حين تحدَّث عنها في 4 صفحات كاملة، وأشار إليها في 3 صفحات، من أصل الكتاب المطبوع الذي تبلغ صفحاته 24 صفحة ونصف. فلقد ذكر فروع هذه الأسرة، وأماكن نزولها. كما توسَّع في الحديث عن حادثة جرت بينها – حين كانت في تيروش إلى الشمال الشرقي من عين داره- وبين الدرغام (مقدّم سبعل القريبة من بحمدون) والبقاعيّين، وتحدَّث عن انتصارها على البقاعيِّين، وعن تسمية بني نمر وبني روق للقائد المنتصر (فهد الشويزاني) بالمقدام (المقدّم) والعقيب18.

محمود دلال

مجلّــــــةُ «الضُّحـــى» تفقـــــدُ أحـــدَ أمنائِهــــــا المؤسّسيــــن

رجلُ الأعمال والمُحسن
محمـــود سَلمـــان دَلال
صَرْح نجاحــات وريــــادة في العمل الاجتماعــيّ

كفاءته فـي التّنفيــذ والمواعيـــد قرّبــاه من الحكومــة السّعوديّــة
فصُنِّفت شَرِكتُه في الفئة الأولى ومُنِحت المشاريــــع

“الضُّحى”: راشيّا
فقدت بلدة راشيّا والوطن ومجلّة “الضّحى” ركناً من أركان العمل الاقتصاديّ والخّيْريّ في لبنان هو رجل الأعمال المهندس المرحوم محمود سلمان دلال أحد مؤسسي عمليّة إعادة إطلاق المجلّة في العام 2010 وعضو مجلس الأمناء فيها. كما أنه أحد أبرز المغتربين اللبنانيين في المملكة العربيّة السّعوديّة في حقل المقاولات وصناعة الألومنيوم وله مشاريع عقاريّة وأعمال واسعة في لبنان كما أنّه من أبرزالنّاشطين في العمل الخَيري والاجتماعي.
انتقل الفقيد إلى جوار ربّه بتاريخ 4 شباط من العام 2016 عن عمر ناهز 66 عاما مُخَلّفاً أسرة كريمة تضمّ زوجته السيدة ليلى مكارم وأولاده كريم وريّان ونادين وناتاشا وتانيا الذين يتابعون إدارة أعماله ورسالته الاجتماعيّة على أتمِّ وجه ليكونوا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلف. وقد أقيم للفقيد مأتمٌ مهيب في بلدته راشيّا وتقاطرت الوفود والشّخصيّات للتّعزية بفَقْده في راشيّا وفي دار طائفة الموحّدين الدروز في بيروت.
والد الفقيد هو المرحوم سلمان دَلال، أحد المهاجرين الأوائل إلى فنزويلّا حيث تمكّن بجهاده وصيته الحسن من جمع ثروة عاد بها إلى لبنان ليستثمرها في شراء العقارات والأبنية في منطقة الحمرا بيروت خصوصا في شارع المكحول إضافة إلى منطقة مارمخايل حيث أُطلق على أحد الشّوارع اسم شارع دلال نسبة إلى المغترب سلمان دلال نظراً لما يمتلكه من عقارات وأبنية في تلك المنطقة. وبعد عودته من المهجر عمل سلمان دلال في مجال المقاولات وشراء العقارات وتشييد الأبنية التي كان يقوم بتأجيرها أو بيعها. وقد رُزِق سلمان دلال بعشرة أولاد هم محمود وتوفيق ومنير وزياد وبسام ورجا وسمير وأحلام وأميرة وسميرة التي توفّيت منذ زمن سَهِرَ على تعليمهم وحَرِص على متابعتهم حتى تخرّجوا من الجامعة الأمريكيّة كما توفّيَ أحدُ الأخوة وهو رجا في حادث أليم في بيروت قبل سنوات.
محمود هو الابن البكر لسلمان دلال وُلِد في بلدة راشيّا في 12 تشرين الثّاني من العام 1949 لتنتقل العائلة في ما بعد إلى بيروت. درس في مدرسة المنصف ثمّ في ثانوية الـ “ آي سي “ (IC) حيث تابع دراسته الثّانويّة لينهي هذه المرحلة بتفوّق، ولينتقل بعدها إلى الجامعة الأمريكيّة ليتخرّج منها مهندساً مَدنيّاً
بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية انتقل محمود الى المملكة العربية السعودية فعمل أولا في “شركة الحافظ للمقاولات” وارتقى سُلم النجاح ليحظى بمكانة مرموقة داخل الشّركة بسبب تفانيه في العمل وحسن تعامله مع الجميع. بعد ذلك انتقل محمود إلى العمل الخاصّ فأسّس أولى شركاته وكانت شركة المقاولات التخصّصية المحدودة في مجال البناء والتعهّدات في مدينة جدّة السّعودية إلّا أنّ أعمال الشّركة توسّعت في ما بعد لتشمل كافّة أنحاء المملكة.

طلاب كثيرون استفادوا من برنامج محمود دلال للمنح الجامعية
طلاب كثيرون استفادوا من برنامج محمود دلال للمنح الجامعية

كفاءة عالية وأخلاق
وبسبب كفاءته والتزامه بأعلى مواصفات العمل والتّسليم على الوقت حظي محمود دلال باهتمام الحكومة السّعودية التي بدأت تكلّفه بتنفيذ المشاريع الحكوميّة مثل المستشفيات والمدارس والأبنية الحكوميّة فنالت شركته تصنيف الدّرجة الأولى بين شركات المقاولات وكان المرحوم يعمل على تشييد جامعة “ أبحُر “ عندما هاجمه المرض وأدّى إلى وفاته بعد فترة قصيرة. وأسس محمود أيضاً مصنعاً للألومنيوم في مدينة جدّة أصبح أحد أكبر المصانع في المملكة من حيث الطّاقة الإنتاجيّة.
في لبنان أسّس محمود دلال شركة “مجموعة دلال للاستثمار العقاريّ” التي تستثمر في تشييد الأبنية ومركزها بيروت وهي تمتلك فندق سكاي سويت “ sky suit“ إضافة إلى محفظة عقارات وأبنية في بيروت وضواحيها.
وكان لمحمود دلال دور كبير في الاهتمام بأخوته نظراً لأنّه كان كبيرهم وتسلّم أكثر الأعمال من والده وتدرّج في الأعمال الحرّة وأسّس أعمالا جديدة وتمكّن كلٌّ من أشقّائه بذلك من شقِّ طريقه وتأسيس أعماله. كما أنّه وفّر لشباب المنطقة والخرّيجين اللّبنانيين العديد من فرص العمل في شركاته في المملكة العربيّة السّعوديّة وفي لبنان.

رائد في رعاية الشباب
يُعتَبّرُ محمود دلال رائداً في رعاية الشّباب وتقديم المنح الدّراسيّة لأبناء منطقته راشيّا، وهو الذي تبنّى تعليم عدد كبير من الطّلبَة في الجامعة الأميركيّة وغيرها، كما أنّه من بين المتبرّعين الدّائمين للجامعة الأميركيّة وللعديد من المؤسّسات التّعليميّة في منطقة راشيّا، ومن أبرز أعماله تقديم مساعدات السّكن للطلّاب الذين لا تسمح ظروفهم بالسّكن في بيروت.
على الصّعيد الاجتماعيّ اضطلع محمود دلال بدور بارز في دعم جهود التّنمية في منطقة راشيّا بما في ذلك إنشاء عدد من القاعات العامّة في بعض قرى وبلدات القضاء كما اهتمّ بالمحتاجين خصوصاً في فصل الشّتاء وقدم المعونات الماليّة للكثير من العائلات.

توفيق عساف

تَوْفيق عّساف

قِصّةُ رجلِ أعمــــــالٍ أحــــبَّ النّــــاسَ
فأحبّـــــوه وحفــــــــظ ودَّ الوطــــــــن

غسّان عسّاف:

آمنَ باقتصادٍ حُرٍّ لكنْ ليس للأغنياءِ وحدَهم
وكان رائدًا في الاهتمام بالمؤسّسات الصّغيرة

ربطتهُ صداقةٌ فكريّةٌ بالشّهيد كمال جُنْبُلاط
وذات يوم سأله: لماذا لا تترشّحُ نائبًا عن عاليه؟

يُقدّم المرحوم الشّيخ تَوْفيق عسّاف في الكثير من جوانب مَسيرة حياته الحافلة نموذجًا لحياة الكفاح التي تميّزت بها حياة المهاجرين اللّبنانين في كلّ البلاد التي ذهبوا إليها، فهي حياة البدايات الصّعبة والتّرحال والكفاح والسّهر لكنّها في الوقت نفسه المهارة اللّبنانية في أخذ الفرص واقتناص اللّحظة، وقد نجح توفيق عسّاف بتوفيقٍ من الله في إنشاء مؤسّسة كبرى ماليّة صناعيّة لكنّ نجاحه لم يغيّر فيه على الإطلاق طبيعته الإنسانيّة وشخصيّته الدّمِثة المهتمّة بقضايا النّاس، وهو الذي اعتبر نفسه على الدّوام واحدًا منهم وتعلّم من تجربة كفاحه الصّعب احترام كفاحهم والسّعي بكلّ وسيله لمساعدة ضعفائهم. لكنّ توفيق عسّاف كان أيضًا رجل مواقف وصاحب شخصيّة طيّبة، لكن صريحة فكان بالتّالي صادقًا صدوقًا في مواقفه العامّة، وعلى هذه الصّداقة بُنِيَت في ما بعد صداقاته مع زعامات البلد مثل المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان وغيرهم. ولقد أصبح الرّجل في وقت معيّن نقطة التّلاقي بين القطبين الدّرزيّين ورجل المواقف الذي يعتمد عليه في الدّفاع عن حقوق العشيرة والوطن في آن. كما قَيِّض القدر للشّيخ توفيق عسّاف أنْ يلعبَ دورًا مهمًّا في تمثيل الموحّدين الدّروز في اتّفاق الطّائف بتنسيق مع القيادة السّياسيّة للطّائفة، وقد لعب دوره كاملًا خصوصًا في الدّفع باتّجاه تأسيس مجلس للشّيوخ يكون برئاسة شخصيّة درزيّة. فماذا نعرف عن تَوفيق عسّاف وعن إنجازاته العمليّة والدّور المهمّ الذي لعبه في الاقتصاد الوطنيّ وفي الحقل العامّ؟

بيتُ فَضيلةٍ وكفاح
وُلِدَ تَوفيق عسّاف في العام 1915 في بلدة عَيتات قضاء عاليه لـ “عائلة أجاويد مُتَواضعة” كما يصفها ابنه الأستاذ غسّان الذي يَتولى منصب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية، افتقد منذ وقت مبكّر حنان الأب عندما اضطُرّ والده، وسط ظروف الضّنك والفَقر التي نجمت عن الحرب العالميّة الأولى وكوارث أخرى مثل الجراد للهجرة إلى أميركا الجنوبية، وكان توفيق الثّالث بين خمسة أطفال تحتّمَ على والدتهم أن تهتمّ بأمر تربيتهم ومعيشتهم. ويبدو أن تَوفيق الشّابّ تأثّر كثيرًا بأمّه التي ربّته على حُبّ النّاس والأخلاق الرّفيعة منذ نعومة أظفاره، إذ كان توفيق ما زال صغيرًا عندما توفّي والده فعاش فترةً من حياته يتيم الأب، لكنّه تلقّى رعاية تامّة من والدته القديرة والتي اعتبر دومًا أنّها لعبت أكبر دور في حياته. ومع دخوله مرحلة الشّباب استشعر توفيق القوة والبأس في جسده فمال إلى الرّياضة ولاسيّما لعبة الملاكمة وصعد في صفوف أبطالها ووصل به الأمر إلى منافسة بطل لبنان في الملاكمة في ذلك الوقت إدمون زعنّي.

“شنَّت «كوكا كولا» حربَ أسعارٍ على تَوفيق عسّاف فردّ بـ «حرب جوائزَ» فوريّة زادت شعبيّة الببسي ومكّنتها من أخذ نصــــف السّـــــوق في 15 عامًا”

الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية
الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية

في أرضِ الله الواسعة
مع وفاة والده واجه توفيق الشّاب وضعًا جديدًا ودقيقًا إذ إنّه كان مازال فتًى يافعًا عندما اضطُرّ إلى تحمّل المسؤوليّة رغم صِغَر سنّه، وقد مارست والدته ضغطًا قويًّا عليه لتَرْك لعبة الملاكمة والبحث عن مهنة يستطيع من خلالها أنْ يساهم في تَكلفة معيشة الأسرة وأشقّائه الأصغر سنًّا. تقلّب توفيق الشّاب في عدد من الأعمال لكنّه قرّر في العام 1935 (وكان في العشرين من العمر) الهجرة الى أفريقيا وتوجّه إلى ليبيريا، لكنّه لم يمكث هناك أكثر من سنة إذ شجّعه أخوه الكبير يوسف، الذي كان بمثابة والده،على الانتقال إلى فنزويلّا حيث كان يعمل في تجارة الأقمشة.
كانت فنزويلّا وقتها من أكبر الدّول المنتجة والمصدِّرة للنّفط في العالم وتعوم على ثرَوات كبيرة كما أنّ نظامها الاقتصاديّ كان ليبراليًا ومفتوحًا لمختلف أنواع الهجرة من الخارج

“نجاحُهُ العمليُّ وسمعتُه الطّيِّبةُ جعلاهُ المرشّحَ المفضّلَ للمشاركةِ في تأسيس بنك لبنانَ والبلادِالعربيّة و80% من أسهم البنك أصبحت ملكًا لآلِ عســـــاف”

الثّروةُ الأولى
كان لتوفيق عسّاف بُعْد نظر تجاريٍّ، فلاحظ أنّ السّوق في حاجة لأنواع وكميات محدّدة من الأقمشة، لكنّه لم يكن يملك رأسمالًا كافيًا لتوسيع تجارته، وبسبب موهبته في بناء العلاقات وشخصيّته الموثوقة وجد من يقبل بتسليمه البضائع على الحساب، إذ إنَّه عرف كيف يلبّي طلبيّات السوق، ولمسَ بعض التّجار مهارته تلك فأمدّوه بكلّ ما يحتاج، وعلى أثر ذلك نمت تجارته بسرعة وبات من اللّاعبين الكبار في السّوق، كان ذلك النّجاح المصدر الأوّل لبناء ثروته الاغترابيّة. لكنّه بينما كان يحصد ثمار عمله وثقة النّاس لم ينشغل عن المهنة الأهمِّ التي يحبها وهي: خدمة النّاس، إذ حفَّزه نجاحه للاهتمام بشؤون الجالية اللّبنانية ومساعدة أبنائها، كما أنّه وجد نفسه أيضًا في بؤرة الضّوء عندما انبرى للردِّ على حمَلاتٍ أرادت تشويه صورة العرب واللّبنانيّين، حينها كان قد أصبح شخصيّة عامّة بين المهاجرين من بلاد الشّام بوجه الإجمال.
هل كان نجاح توفيق عساف في فنزويلّا نتيجة عمله فحسب أم حالفه الحظُّ أيضًا؟
هذا هو السّؤال الذي يطرحه البعض عادة في محاولة تفسير بعض النّجاحات ، وهم يشيرون مثلا إلى أن كثير من الناس يبذلون الجُهد ويكافحون لكنّ النّتائج لا تأتي متساوية، كما أنّ النّجاح والشّهرة لا يكونان إلّا نصيب قلّة.
يَعتبر الأستاذ غسان عسّاف أنّ من الصّعب الفصل بين ما يُسمّى عامل الحظّ وبين عامل الموهبة أو الجهد الشّخصيّ. فتوفيق عسّاف كان شخصًا مكافحًا وطموحًا لكنّه أوتيَ زيادة على ذلك شخصيّة محبّبة وأخلاقًا رجوليّة طيِّبة تجتذب النّاس إليه وتجعله يستحقُّ ثقتهم، وربّما يعتبر البعض هذه الصّفات بمثابة عامل “الحظِّ” وهذا قد يكون صحيحًا بشرط امتلاك موهبة المبادرة والفاعليّة الشّخصيّة والتّميُّز بين الآخرين.
جميع المهاجرين كانوا مكافحين فعلًا لكنّ معظمهم حصر اهتمامه بتأمين لُقمة العيش أوبناء ثروة صغيرة ولم تكن لهم موهبة بناء العلاقات الشّخصيّة وكسب ثقة النّاس كما فعل “الوالد الذي توسّعت علاقاته إلى أن عقد صداقة مع أكبر رجال الأعمال في فنزويلّا”. ويَعتبر غسّان عسّاف أنّ “هذا النّجاح في بناء شبكة العلاقات والصّداقات والسّمعة الطيّبة التي بناها الوالد ساعداه كثيرًا في تنمية أعماله، لأنّ الثّقة مع الموهبة هي أهمّ أسباب النّجاح. وكلّ شخص يضع نفسه في المكان المناسب يجذب الحظَّ إلى ذلك المكان”.

مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون
مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون

العَوْدةُ إلى الوطن
على عكس ما يتوقّع المرء فإنّ جَمْعَ تَوفيق عسّاف لثروة مُحترمة في المهجر لم يجعله يتعلّق بالاغتراب أو يستبدل وطنه الذي ترعرع فيه بالمُغْتَرَب البعيد. بالعكس، فقد تحولت ثروة توفيق عسّاف إلى حافز قويٍّ له للعودة به إلى البلاد التي يعرفها جيّدا ويحبّها ويعلم أيضًا أنّها بلد الفرص والأُلفة والعيش الأصيل. ورغم أنّ فنزويلّا كانت يومذاك تعوم على ثروة النّفط فإنّ توفيق عسّاف قرّر يومًا أنّ الوقت قد حان للعودة إلى الوطن
حدث أمرٌ جعلَ المغتربَ النّاجحَ يحزم قراره في عودة عَجْلى إلى الوطن، إذ انفتحت أمامه فجأةً فرصة الحصول على اميتاز شركة الببسي كولا للسّوق اللبنانية. كان ذلك بفضل علاقته الوثيقة بعائلة “سيسنيرو” الذين كانوا من أثرياء فنزويلّا وكانوا وكلاء البيبسي كولا في تلك البلاد.
كانت الببسي آنذاك في طَوْر توسيع انتشارها في العالم، وكانت السّوق اللّبنانية سوقًا واعدة بسبب الازدهار اللّبناني، والحركة السّياحيّة آنذاك ، لكن السّوق كانت حينها حِكرًا على شركة كوكا كولا، الأقدم والأعرق تاريخيًّا والمهيمنة عالميًّا. لكنّ توفيق عسّاف لم يتردّد لحظةً في السّعي لنيل ذلك الامتياز، فسافر إلى نيويورك برفقة بعض أصدقائه من أسرة سيسنيرو الذين دعموه مباشرة لدى الشّركة الأمّ، وكانت النّتيجة أن عاد من سَفرته الموفّقة تلك بعقد امتياز البيبسي كولا في السّوق اللّبنانيّة. كان ذلك في العام 1949 وفي ذلك العام عاد توفيق عسّاف إلى لبنان لتأسيس شركة الببسي، وإطلاق أعمالها.
لكنْ بمجرّد تأسيس الشّركة وإنشاء مصانعها في الحازميّة شنَّت شركة كوكا كولا على الشّركة النّاشئة حربًا قاسية لأنَّها كانت تريد حماية حِصّتها الضّخمة في السّوق، وكان ردّ فعل كوكاكولا جزءاً من سياستها ضمن الصّراع الذي بات عالميًّا مع شركة بيبسي كولا، ولأنّ شركة كوكا كولا كانت قد تأسَّست قبل عَشْرِ سنواتٍ في لبنان فإنّها كانت تستحوذُ على معظم السّوق وجميع نقاط البيع والتّوزيع. وفي سبيل توجيه ضربة قاضية إلى شركة بيبسي كولا النّاشئة قامت كوكاكولا بخفض أسعارها بشكل كبير ممَّا أدّى إلى هبوط مبيعات الشّركة المنافسة التي مُنِيَت بخسائر كبيرة، لكنَّ توفيق عسّاف صاحب العزيمة قرّر الرّدّ على الحرب بحرب مماثلة وأثبت في وقت قصير أنّه نَدٌّ قويٌّ بل خصم متفوّقٌ على منافسيه. لقد قرّر وبدعم من الشّركة الأمّ في نيويورك شنَّ حملة تسويقٍ كبرى في لبنان استخدمت إغراء “الرّبح الفوريّ” وذلك من خلال الهدايا الموجودة تحت الغلاف الدّاخليِّ لسِدَادة زجاجة البيبسي، وكانت الهدايا مهمّة مثل الكاميرات أو السّاعات أو الأدوات المنزليّة أو السّيارة أو حتّى الشّقة السّكنيّة، وغير ذلك، وبدأت عناوين الصّحف اللّبنانية تنشر الأنباء المثيرة عن جوائز الببسي كولا والرّابحين، وتهافت النّاس على زجاجات البيبسي وارتفعت مبيعات الشّرِكة، وفي أقلّ من خمسةَ عشَرَ عامًا كانت الشركة قد حصلت على نِصف السّوق اللّبنانيّة من المرطِّبات. ولفتت تلك النّجاحات الصّحافة اللّبنانيّة فكتبت عن تَوفيق عسّاف،”رجل الأعمال النّاجح ذي الأخلاق الحسَنة والسّمعة الطّيّبة”.
وبفضل تلك السّمعة الطّيّبة، ولا سيّما الموثوقيّة والصّدق في المعاملة التي يتمتّع بها توفيق عسّاف فقد ارتقى به سعيُه إلى مهنة تقوم على قيم من الثقة والمصداقيّة، ألا وهي مهنةُ العمل المصرفيّ. ورغم أنّه لم يكن يمتلك خلفيّة مصرفيّة فإنّ بروزه كرجل أعمال وصناعيٍّ ناجح جعل منه شريكًا مناسبًا لمجموعة من رجال الأعمال كانوا يعملون على تأسيس “بنك بيروتَ والبلاد العربيّة” ومن أفراد تلك المجموعة نَشْأتْ شيخ الأرض وهو سعوديٍّ من أصل سوريٍّ وجمال شحيبر وهو لبنانيّ من أصل فِلَسطينيّ. تردّد توفيق عسّاف بادئ الأمر، انطلاقًا من كَوْنه لا يمتلك خبرة في الصّناعة الماليّة، لكنّه اقتنع في ما بعد، وقَبِلَ في العام 1954 المشاركةَ في تأسيس البنك الذي انتُخِبَ ألفرد نقّاش أوّل رئيس مجلس إدارة له. وفي العام نفسه تزوّج توفيق عسّاف من عايدة ابنة شاكر صعب، التي وفّرت له سندًا قويًّا في حياته العائليّة والاجتماعية. يقول الأستاذ غسّان عسّاف في ذلك: “والدتي لم تكن تشبهه بل كانت تُكَمّله، وفيما فُرِض على رجل بمكانته أن يكون صارمًا وقاسيًا عائليًّا، كانت هي الوجه اللّيّن ومصدر الحنان كما حملت عنه بعض الأعباء الاجتماعيّة التي لم يكن بمقدوره تلبيتها خصوصًا بعدما تطوّرت أعماله وانخرط في السّياسة”.

الصّناعة والمؤسّسات
بعدما أخذت السّياسة ألفرد نقّاش، طلب من تَوفيق عسّاف تَرَؤس البنك نظرًا لمكانته في المجتمع ولثقة النّاس به، فقبل المهمة لكن على أن يكون له في الوقت نفسه الاستعانة برجل يثق به للإدارة الفعليّة. في ذلك يقول الأستاذ غسّان: “كان والدي متواضعًا ولا يدّعي أنّه يعرف كلَّ شيء، وهو رأى أنّ تَرَؤس إدارة مصرِف يجب أن يعهد به إلى شخص متخصّص ولديه الخبرة في الشؤون المالية،لذلك، قبل بتسلّم المنصب، لكنّه استقدم الشّيخ أمين علامة الذي كان موظفا كبيرا في البيبسي كولا نظرًا لثقته به، وأرسله إلى أميركا حيث تدرّب لمدّة سنة، وكان مثابرًا أحبّ عمله، وعند عودته كلّفه بالإدارة العامّة – وكان البنك وقتها صغيرًا – لكن أمين علامة تطور ورافق تطور البنك وكان من المصرفيين الذين يحظون باحترام في أوساط الصناعة المالية. ونتيجة النّجاحات التي حقّقها بنكُ بيروتَ والبلاد العربيّة بقي توفيق عسّاف رئيسَ مجلس الإدارة إلى حين وفاته”.
أمّا على صعيد المساهمة فقد زادت حِصّة توفيق عسّاف مع الوقت أوّلًا إذ قرّر آل شحيبر بيعه حِصَّتهم ممّا جعل منه المساهم الأكبرَ في المؤسّسة، ولا زال نشأتْ شيخُ الأرضِ شريكًا مساهمًا لغاية اليوم رغم أنّ أولادَ توفيق عسّاف اشترَوْا مزيدٍا من الأسهم وهم يملكون حاليًّا 80 في المئة من بنك بيروت والبلاد العربية.
دعمَ الشيخ توفيق على صعيد الصّناعة أيضًا أكثر من شركة كما شارك في تأسيسها، وكانت هذه الشّركات متخصّصة في صناعات عديدة بعضها يعتمد على شركة البيبسي كولا، مثل صناعة الزّجاجات وسِداداتها الحديديّة والبلاستيكيّة وغيرها. كما دخل الشّيخ توفيق مجال التّأمين كمساهم أساسيٍّ في شَركة SNA التي بيعت في ما بعد.
ولم يقتصر عمل ونشاط توفيق عسّاف على قِطاع الصّناعة والأعمال المصرِفيّة إذ امتدَّ ليشمل الإعلام، فكان مساهمًا رئيسًا في تأسيس “تِلِفزيون لبنانَ والمشرق” وقدّم الأرض في الحازميّة لإقامة مبنى التِّلِفِزيونَ. كما كان من مؤسّسيّ نادي الصَّفا الرَّياضيِّ ورئيسه الفخريّ لسنوات عدّة.

رجلُ المواقف
بسبب مساهماته الكثيرة ومشاركته المتزايدة في الحقل العامّ اختير توفيق عسّاف رئيسًا للجنة تأسيس دار الطّائفة الدّرزيّة في فردان، وتسنّى له بعد ذلك التعرُّف على القيادات الدّرزيّة، فبنى صداقة مهمَّة مع المرحوم كمال جُنْبُلاط الذي رأى فيه رجل مواقف إنسانيّة ووطنيّة قبل أنْ يراه رجل أعمال. أمّا بالنِّسبة لتوفيق عسّاف فإنَّ كمال جنبلاط كان الصّديق الذي يتشارك معه في التأمُّل والتّصوُّف بعيدًا عن أجواء الحياة اليوميّة والأعمال.
نتيجةً لتلك الصّداقة اقترح كمال جنبلاط على الشّيخ توفيق في العام 1960 التّرشّحَ للانتخابات فلم يتحمّس بدايةً للفكرة، لكنّه عاد وقبل من منظار رغبته في مساندة الزّعيم كمال جنبلاط في نضاله السّياسيّ، وقال يومها في شرح قبوله بفكرة دخول النّدوة النّيابيّة “لم أفكّر يومًا في الانتقال من المَيْدان الصِّناعيّ والتِّجاريّ إلى العمل السّياسيّ، غير أنّ الصّداقة التي تربطني بكمال حنبلاط والمحبّة المتبادلة بيننا دفعتا بي إلى دخول المعترك السّياسيِّ”. هذه الصّداقة ترافقت في الوقت نفسه مع رابطة وثيقةٍ بالمرحوم الأمير مجيد أرسلان، والمفارقة أنّ توفيق عسّاف لم يكن مجرّد نائب عن دائرة عاليه، بل كان في العام 1972 المرشح التوافقيّ بين الرّاحلين كمال جنبلاط والأمير مجيد. وهكذا أمضى عشرين عامًا في النّيابة، كما أصبح وزيرًا للاقتصاد والنّفط ، فأهّل الوزارة وسنّ تشريعات من أجل تطويرها.
خلال الحرب الأهليّة كانت زوجته والأبناء في الخارج لكنّه لم يترك لبنان سوى لزيارة العائلة ولم يَغِبْ عن وطنه أكثرَ من شهرٍ واحد.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط بقي توفيق عسّاف على تنسيق تامٍّ مع النّائب وليد جنبلاط وفي العام 1989 كان توفيق عساف النّائب الدّرزيّ الوحيد الذي بقي على قيد الحياة والممثّل الوحيد للطّائفة التي دافع بشدّة عن حقوقها في اجتماعات الطّائف وكان لوجوده ومشاركته الفاعلة أثر مهمٌّ في الموافقة على إصلاح دستوريّ أساسيّ هو إنشاء مجلس للشّيوخ في لبنان برئاسة درزيّ.

مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان
مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان

“بسبب شخصيّته الموثوقة اقترحه كمال جنبلاط نائبًا عن عاليه ثم أصبح نائبًا بتوافق جنبلاطيٍّ أرسلانيّ لمدّة 20 عامًا”

بَصمات ذهبيّة
كانت لمدينة عاليه مكانةٌ خاصّة في قلبه، كما كان له بدوره في كيانها بصمات ذهبيّة، وكان البنك في عاليه الواسطة التي من خلالها تمّ توفير التّمويل للعديد من الشّرِكات الصّغيرة والمشاريع الفرديّة سواء للبدء في الأعمال أم لعمليّات التوسّع والاستمرار. يقول الأستاذ غسّان :”آمن والدي بأنَّ النّظام الحرَّ ليس لإغناء الأغنياء بل لخلق الفرص والمجالات أمام الأفراد وخصوصًا الفقراء لتطويرهم ورفع مستوى معيشتهم، وتأمين العمل لأكبر عدد ممكن من النّاس… أقصد أنّه كان يؤمن بالرّبح المعقول ويرفض الطّموح المتوحّش، من هنا قضت خطّته بانتشار فروع البّنك في كلّ المناطق والقرى المهمّة خصوصا في الجبل. وفي وقت كانت فيه المصارف تهتمّ بالشّرِكات الكبرى كان همّ توفيق عسّاف مساعدة وتمويل المؤسّسات الصّغيرة والفرديّة، فكان بذلك رائدًا في مجال دعم المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة وفي مجال المسؤوليّة الاجتماعيّة التي باتت اليوم على جدول أعمال كلّ مصرِف. ويتميّز بنك بيروتَ والبلاد العربيّة لغاية اليوم بأنّ جزءًا كبيرًا من موجوداته موزّعًا في المناطق بينما يتركّز 45 في المائة فقط منها في بيروت”.

الصّديق المُنفتح
كما سبق وذكرنا كان توفيق عسّاف رجلًا مُنفتحًا واجتماعيًّا منذ صِغَرِه، ولم ترتبط صداقاته بأهل طائفته أو منطقته بل تخطّت ذلك فكان إدمون كسبار نقيب المحامين آنذاك رفيق دربه، كما صادق فوزي مارون وطلب منه أن يكون عضو مجلس إدارة في البنك، ومن أبرز أصدقائه وزير الماليّة في ذلك الوقت علي الخليل. صاحب البيت المفتوح والمائدة الدّائمة، حافظ على أصدقائه وعلاقاته الاجتماعيّة طوال عمره، ورغم أنّه تعرّض لبعض الخَيبات إلّا أنّه لم يندم قَطُّ على مبادئه وانفتاحه واتّساع دائرة الأصدقاء. ذلك أنّه على العموم قليلًا ما كان يُخطئ في اختيار النّاس المناسبين في كلّ مراحلَ حياته.

رحيلُه ووصيّتُه
في العام 1992 تراجعت صِحّتُه ممّا فرض عليه أن ينكفئ، ويقلّل من التزاماته الاجتماعيّة وفي فجر التّاسع من أيّارَ من العام 1996 رحل توفيق عسّاف إلى دنيا الحّقِّ عندما كان برفقة زوجته ورفيقة عمره في قبرص. وكانت إحدى وصاياه، تحويل أرض منزل والدَيه إلى مبنى للبلديّة ومكتبة عامّة، “نفذنا وصيّتَه وجرى وضعُ الحجر الأساس للمبنى في احتفال الذكرى السّنويّة الأولى لرحيله في العام 1997. وفي الذّكرى الثّانية تمّ تدشين مبنى البلديّة والمكتبة العامّة”، وقد جُهّزت المكتبةُ وفقًا للمواصفات العالميّة. وهي تقدّم لطالبيّ العلم والثّقافة مجموعةً واسعةً وشاملةً من الكتب والمجلّدات. وتضمُّ آلافَ العناوينَ في اللّغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة لكلّ الأعمار. أمّا البلديّة فقد أطلقت على الشّارع الذي يقع وسط البلدة اسم “شارع الشّيخ تَوفيق عسّاف”

أميرة في مسيرة الجهاد

“الست مي”
علامة فارقة سياسيّاً وإجتماعيّاً وعائليّاً

انتقدت بشدة “مذهبة” الأحزاب والصراعات السياسية
وأسفت لإنزلاق العرب بإتجاه الإستهانة بكرامة الإنسان

وقفت إلى جانب نجلها وليد في أصعب المراحل السياسيّة والأزمات
ولم تبخل بالنصح وإبداء الرأي بمواقفه السياسيّة سلباً أو إيجاباً

إلتقت مع المعلم كمال جنبلاط في مسيرته الفكريّة
المرتكزة على الحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة

إبتعدت عن الأضواء لتقترب أكثر من الناس وهمومهم
واهتمت كثيراً بالوضع الاقتصادي للمرأة وبتطورها

صعبة هي الكتابة عن سيدة دار المختارة التي تركت أثراً كبيراً في ثناياها، كما في ثنايا الحياة الوطنيّة اللبنانيّة. وصعبة هي الكتابة عن أميرةٍ ناضلت طوال عقودٍ في سبيل الحداثة وتحرر المرأة وخروجها من القيود المصطنعة والموروثات القديمة التي عطلت مسيرة تقدمها وإشتراكها بدور مكتمل العناصر في المجتمع.
مي أرسلان جنبلاط كانت علامة فارقة سياسيّاً وإجتماعيّاً وعائليّاً. كانت بعيدة عن الضوضاء والأضواء، إلا أنها كانت في صميم الأحداث السياسيّة لا سيّما أثناء الحقبات السوداء في الحرب الأهليّة القاسية، تقدّم النصح والمشورة لنجلها الأستاذ وليد جنبلاط في المنعطفات المفصليّة ومحطات التحوّل السياسي الكبير.
أن تكون سيدة كريمة أمير البيان شكيب أرسلان وقرينة المعلم كمال جنبلاط ووالدة الأستاذ وليد جنبلاط، فهي ثلاثيّة إستثنائيّة. وبقدر ما أتاحت هذه الثلاثيّة للراحلة أن تكون في قلب الحدث، كما أتاحت لها أن تكون مشاركة ولو عن بعد في صنعه في الكثير من الأحيان، بقدر ما فرضت عليها مصاعب وتحديات وصعوبات.
إمتلكت رؤية سياسيّة واضحة وثاقبة. رفضت الاعتراف بإسرائيل، وقالت حرفيّاً: “يستحيل أن أعترف بإسرائيل مطلقاً”. تمسكها بالقضيّة الفلسطينيّة كان واضحاً، وموقفها من عروبة لبنان لا تراجع عنه. ومع إدراكها إستحالة سلخ لبنان عن محيطه العربي، إلا أنها لم تخفِ قلقها يوماً من تراجع الحريات، لا بل إنعدامها، في الكثير من البلدان العربيّة، مع ما يعنيه ذلك من إنعكاساتٍ سلبيّة على لبنان الذي دفع دائماً، من وجهة نظرها، أثمان الصراعات الدوليّة والاقليميّة التي كانت من مصلحتها إستدامة الصراع فيه.
وملفتٌ جداً ذاك الموقف الشهير الذي إتخذته السيّدة مي أرسلان جنبلاط في مقابلة مع فرنسواز كولين في سنة 1988 عندما قالت: “العالم العربي في حالة تراجع تدريجي”، مشيرةً إلى ظاهرة تراجع التيارات الليبراليّة لصالح التيارات الظلاميّة، ومعتبرة أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى أن يغيّر العالم العربي ويعيده إلى القرون الوسطى ما لم يتم تدارك ذلك. وفعلاً، لم يتم تدارك ذلك، وهذا ما نشهده اليوم من صراع مذهبي وطائفي متنقل بين الدول العربيّة ترافقه ثقافة التفجيرات الانتحاريّة التي لا تصبّ إلا في خدمة إسرائيل.
هي إبنة الأمير شكيب أرسلان، أحد أبرز المفكرين المتنورين الذين تتلمذوا على يدّ الامام محمد عبده، وعاصروا جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وكبار المفكرين والكتّاب العرب والمسلمين الذين رسموا بأقلامهم معالم النهضة العربيّة، بالاضافة إلى معاصرته لأعلام السياسة في تلك الحقبة من أمثال الحاج أمين الحسيني ورياض الصلح والحبيب بو رقيبة وسواهم. كان صديقاً للملك فيصل الأول وعضواً في وفد السلام بين المملكة العربيّة السعوديّة واليمن، واجه الاستعمار بكل أشكاله ورفض قيام وطن قومي صهيوني في فلسطين، كما كان عضو شرف في المجمع العلمي العربي في دمشق ونائباً عن حوران في مجلس المبعوثين العثماني، لقب بأنه “كاتب الشرق الأكبر”.
هذه هي الخلفيّة الفكريّة والعائليّة التي ترعرعت فيها مي أرسلان جنبلاط ما جعلها تتمسك بعروبة لبنان من حيث الارتباط الحتمي للعوامل التاريخيّة والجغرافيّة والسياسيّة والقوميّة، وأدركت أهميّة ذاك الترابط العضوي الذي جعل لبنان يتفاعل مع محيطه الاقليمي والعربي ويتأثر بموجاته السياسيّة المتلاطمة.

مع المعلم كمال جنبلاط
مع المعلم كمال جنبلاط

وكانت رؤيتها أيضاً ثاقبة في المقابلة الفرنسيّة إيّاها، عندما قالت إن الحروب تستخدم الدين كسلاح فعّال وقوي لتنمية وتغذية الصراعات المذهبيّة، وهو ما لم يكن قائماً في السابق. وكأنها بذلك تشير إلى تبدّل شكل الصراع في المنطقة العربيّة مبدية إمتعاضها الشديد مما وصفته بمذهبة الأحزاب والقوى السياسيّة للصراع، ما يجعله يأخذ أبعاداً دمويّة وقاسية.
هذا الموقف الرؤيوي أعلنته مي أرسلان جنبلاط سنة 1988، وقبيل رحيلها، قالت لنجلها الوحيد، وليد جنبلاط، إن “هذا العالم العربي والاسلامي بات مليئاً بالمجرمين والقتلة!”، ما عكس إشمئزازها من دمويّة المشهد في كل البلدان العربيّة التي شهدت تحولات غير مسبوقة ولّدتها الديكتاتوريّات التي لطالما إنتقدتها الراحلة بفعل قمع الحريّات وتفريغ المجتمعات السياسيّة من النخب الليبراليّة والديمقراطيّة بصورة منهجيّة.

مي-أثناء-سكنها-مع-والدها-الأمير-شكيب-في-جنيف
مي-أثناء-سكنها-مع-والدها-الأمير-شكيب-في-جنيف

تمسُك السيدة جنبلاط بالحريّة كان غير قابل للمساومة أو التجزئة. وحرية المرأة بالنسبة إليها أيضاً كانت ركناً من أركان ثقافتها السياسيّة والفكريّة. رأت أن الحريّة هي بمثابة فعل إيمان داخلي، تتطلب قناعةً داخليّةً حاسمةً، وأن على المرأة أن تمتلك أولاً حريّة التفكير. وشغلت مسألة الحريّة الاقتصاديّة للمرأة جانباً واسعاً من إهتمامها، إذ إعتبرت أن العوائق الاقتصاديّة للأسر يجب ألا تقف في طريق حريّة الأفراد ومن ضمنها المرأة التي دعتها لتكسير القيود التي قد يفرضها الخضوع لصاحب القرار الاقتصادي.
هذا النمط الفكري التحرري الذي تميّزت به مي أرسلان جنبلاط هو ما يفسّر شغفها السابق في أن تكون صحافيّة، مبررة رغبتها العارمة في خوض غمار هذا الخيار بأن فيه الكثير من الحريّة مرتبطة بشيء من الخطر على حد سواء. وهذا يعكس شخصيّتها الفذة والقويّة وإرادتها بأن تشجع الآخرين على ممارسة الحريّة، حتى لو جانبت شيئاً من الخطورة. وفي معرض تمسكها العميق بالحريّة، عبّرت عن خوفها من الواقع العربي الأليم واصفة إياه

بأنه بمثابة الخروج من سجن للدخول في آخر، ومنه إلى سجن ثالث

الأمير شكيب أرسلان
الأمير شكيب أرسلان

وبذلك، إلتقت مع المعلم كمال جنبلاط، الذي رفض دخول “السجن العربي الكبير” ودفع حياته ثمناً لتمسكه بمبادئه ورفضاً للإستسلام لتلك التيارات الظلاميّة التي تحدثت عنها “الست مي”. صحيحٌ أن السنوات المشتركة التي جمعت المعلم والست لم تكن مديدة، ولكنهما إلتقيا في مسيرتهما الفكريّة المرتكزة على الحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. كانت تبتعد عن الأضواء لتقترب أكثر من الناس وهمومهم، تشاركهم فيها، وتساعدهم على تخطيها، وتبذل الجهد في كل الاتجاهات لتخفيف الألم عنهم، على طريقتها الخاصة، بهدوء وثبات، بعيداً عن الضوضاء والصخب. بإستقبالها اللبق، ودماثة الخلق، والابتسامة الساحرة، إستقبلت زوار دار المختارة حيث أشعلت ثورات وأطفئت ثورات، وحيث صنع رؤساء وأسقط رؤساء، وحيث تشكلت حكومات وأسقطت حكومات.
بعيد إستشهاد المعلم كمال جنبلاط في السادس عشر من آذار 1977، تلقت “الست مي” إتصالاً من نجلها وليد، طلب منها العودة إلى المختارة التي كانت غادرتها منذ سنواتٍ، وهكذا كان. فكان وقوفها إلى جانبه في أصعب المراحل السياسيّة والعسكريّة له الأثر الكبير في نفسه. لم تبخل عليه بالنصح والمشورة، وحرصت على إبداء رأيها الصريح والواضح بمواقفه السياسيّة سلباً أو إيجاباً.
بقي نجلها الوحيد إلى جانبها طوال فترة مرضها، ذهاباً وإياباً من كليمنصو إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، تجمعهما علاقة متميزة، كرساها من خلال سنواتٍ طويلة من المحبة والاحترام. يفهم وليد جنبلاط معنى الأمومة التي جسدتها “الست مي”، وفهمت هي أيضاً معنى البنوّة التي مثلها نجلها وليد.
رحم الله “الست مي”.

الأميرة-مي-أرسلان-جنبلاطa
الأميرة-مي-أرسلان-جنبلاط

ابنة الأمير شكيب أرسلان، وزوجة كمال جنبلاط، ووالدة وليد جنبلاط. ثلاثة أسماء – قامات، اجتمعت لتؤلف كنية سيدة اشتهرت بـ “الست مي”.
لم تشأ هذه الأميرة بالحسن، والثقافة، والذكاء، واللباقة، والأناقة، وبالحضور الخفيف الظل، أن تأخذ مكانها المتقدم في إعلام المجتمع اللبناني، والعربي، والأوروبي.
كأنها كانت ملأى بالمجد الذي جمعته من أطرافه، وهي مُعرضة عنه.
ظلت قانعة بذاتها، وبما تختاره، هي، لملء حياتها، التي ما كانت تتسع لمزاجها الراقي، وذوقها الرفيع، وحسها المرهف النقي.
تلك الأريستوقراطية، المنحنية على كبرياء التواضع، والاحترام، أمام كل ما يدعو إلى الافتخار بالعلم، والإبداع، والتميز، ملكت من الشجاعة ما كان يؤهلها لمواجهة الأخطر من الصعاب وتحمل العواقب.
دخلت الست مي دار المختارة في سنة 1948، متأبطة ذراع كمال جنبلاط، وهو في مطلع صعوده
إلى عتبة الإطلالة على عالم الشهرة بأبعادها الثلاثة: الزعامة، والخُلق، والقضية.
وإلى دار المختارة حملت العروس الست مي إلى عريسها كمال جنبلاط، هدية من تراث والدها، عنوانها: العروبة المنبثقة من الإسلام المُشرق من عصر النهضة على عصر الصراع بين قوى التقدم وجحافل التخلف.
وفي دار المختارة، حيث حار الأهل، والمقربون، في مناداة العروس بلقب الأميرة، أو الست، حسمت هي الأمر ببلاغة، فقالت: لا أميرة بوجود الست نظيرة…
عاشت الست الأميرة النبيلة عمرها ببساطة الغنى، وطمأنينة الرضى.
ويوم رحلت في العاشر من شهر آب 2013 أضافت شمعة إلى زاوية الفراغ المليء بنور شهادات من سبقها، لتستمر دار المختارة عامرة بالحياة والشجاعة وبالشهادة، مع الصبر والرجاء بقيامة الحق.

عزت صافي

الأرض في مناهج التعليم ما الذي ننتظره من مدارس الجبل؟

هل يعقل أن يعرف الطالب طول نهر الميسيسيبي، ولا يعرف شيئاً عن الساقية أو الينبوع في وادي قريته؟
ما هي مسؤوليات المدارس والمعاهد القائمة في الجبل في رعاية الرابطة بالأرض لدى الأجيال الجديدة؟ السؤال قد يبدو مفاجئاً للكثيرين لكنه في صلب عملية التقييم التي يجب أن نجريها لأسباب الجفاء المتزايد بين أهل الجبل وبين البيئة التي يعيشون فيها.

 

الواضح أن مدارس الجبل على اختلافها تعتبر واجبها الأول تطبيق المناهج التربوية، ومن ثم تحقيق أكبر نسب من النجاح في الامتحانات الرسمية، لأن هذه النسب تأتي إليها بالمزيد من الطلاب وتحقق للمستثمر المزيد من الأرباح.
لا اعتراض بالطبع على أن تحقق المدارس الخاصة أرباحاً، ولسنا هنا في معرض فتح هذا الملف الحساس، فهذا سيكون له شأن آخر في المستقبل، لكن لا بدّ للمدرسة أن تدرك وجود حاجات إضافية في بيئة الجبل لتربية الثقافة البيئية والزراعية لدى الطلاب منذ نعومة أظفارهم عبر إدخال نشاطات خارج المنهج تتعلق بتعريف الطلاب بمكونات البيئة التي يعيشون فيها وبما تحمله من فرص وإمكانات يمكن أن تجعل الأرض على الأقل جزءاً من حياتهم في المستقبل .
ومن البديهي القول إن تعليم الطالب في الجبل لا يمكن أن يكون نسخة عن تعليم طالب المدينة وإن تعليم الطالب في لبنان الذي يتمتع بميزات بيئية خاصة لا يمكن أن يتم وفق النسق نفسه الذي يتم في الكويت أو الأردن. لكن صناعة المناهج التربوية الجديدة أصبحت معولمة، وهي مصممة وفق نظريات توضع في الغرب وتبنى على حاجة النظام الرأسمالي لتخريج العمالة التي يحتاجها، ومستهلك المستقبل الذي سيأتي منه الطلب على سلع شركات الصناعات الغذائية، وكل شيء معلّب وجاهز تطرحه الشركات في السوق.

 

بمعنى آخر، أن آخر هم المناهج التي يرعاها نظام العولمة الاقتصادية هو تأهيل المواطنين في المناطق الريفية أو في البلدان النامية لتعلّم سُبل الاعتماد على النفس وخلق القيمة الاقتصادية من الأصول الزراعية التي يمتلكونها. على العكس، فإن الهدف النهائي هو بدء عملية السلخ -وتهيئة مستهلك المستقبل- من على مقاعد الدراسة من خلال إدخال الأطفال في دهاليز التعليم النظري والحشو الفكري، وإغفال العلوم النافعة المتعلقة ببيئتهم الطبيعية، وعلى الكوكبة المجلية منهم أن تتقن فن حفظ هذه المواد وتجتاز امتحان البراعة فيها على أفضل وجه لكي يتم التصفيق لها وتمنح الجوائز وتصبح في عداد “جيل المستقبل”!

 

هل يدرك أرباب المدارس –الخاصة والعامة- في الجبل هذه الحقيقة؟ وهل من المنطق أن يتعلم الطالب ما هو طول نهر الميسيسيبي، ولا يعرف شكل ساقية المياه أو ينبوع المياه الذي ينبع في وادي الضيعة؟ هل من المنطق أن يعرف كل شيء في العلوم ولا يعرف شيئاً عن تركيبة البيئة التي تحيط به ويتفاعل معها: نباتاتها، أشجارها، حيواناتها البرية وحشراتها المفيدة والضارة؟ وهل هناك إقرار بأننا كأهل جبل نحتاج إلى التعامل ومنذ الطفولة، وبصورة أساسية أو جزئية مع الطبيعة ومع الأرض ومكوناتها، وفي هذه الحال أليست النتيجة الطبيعية هي أن للمدرسة دوراً مهماً في تهيئتنا منذ الصغر لهذا الجانب المهم في حياتنا.
ألا يوجد الكثيرون من أهل الجبل بمن فيهم الشباب الذين يتمنون العمل في حديقتهم ورعاية أشجارهم وتقليم داليتهم والعناية بزيتونهم أو زرع خضارهم أو غير ذلك؟ وهؤلاء غالباً ما يكتشفون أن خبرتهم في هذه الأمور تكاد تكون معدومة فيخبطون خبطاً عشوائياً أو يتعلمون القواعد الخطأ، علماً أنها شؤون بسيطة كان يتعلمها الأولاد على يد آبائهم في الماضي عبر مرافقتهم إلى الحقل أو المشاركة في القطاف أو التقليم أو الحراثة وغيرها من الأعمال؟ أما الآن فإن الآباء الذين تخرجوا وفق مناهج التعليم المنمطة وغربية الأهداف هم أنفسهم فقدوا علم الأرض، بل فقدوا معه احترامهم للبيئة –كما نشهد في القتل العشوائي للطيور المهاجرة وغير المهاجرة- وفي إهمال الحقول وتركها نهباً للشوك والبوار.
حاصل الأمر أن على المعاهد الرسمية والخاصة في الجبل واجباً خاصاً يجب عليها أن تفكر في سبل الوفاء لمجتمعها ولطلابها على حدّ سواء، فلا تكون عن غير قصد طرفاً في استراتيجية السلخ والتنميط البشري الذي يتم طبخها من الشركات متعددة الجنسيات ومن يلف لفها. والمطلوب في هذا المجال ليس كثيراً ولا يجب أن يؤثر في أداء تلك المدارس التي تعلم حق العلم. فالمناهج المقررة تحتوي على الكثير من الحشو الذي لا فائدة منه لا الآن ولا في المستقبل، المطلوب هو القليل، تصميم نشاطات أسبوعية تتضمن إخراج الطلبة إلى الطبيعة والحقول وتعريفهم بالمحيط والبيئة وتطوير ثقافتهم النباتية والطبيعية، وفي الوقت نفسه تدريبهم تحت إشراف مرشدين وممارسين بعض المبادئ الأساسية في الزراعة والاقتصاد الزراعي، بل ودفعهم لاستغلال مباشر لبعض قطع الأرض فيكون لكل مدرسة بستان ويحصل التنافس والمقارنة بين المعاهد على هذا الصعيد أيضاً، ولا يقتصر على مقارنة النتائج الأكاديمية.

تحقيق ثقافي