الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

من اتَّكل على الله أغناه وأوْلاه

تقول الأساطير القديمة أنّ رجلاً في غابر الزمان من بني إسرائيل كان مُمَيَّزاً عن سواه أنّه بارٌّ بوالديه إطاعة وخشية. وقبيل وفاة والده دخل عليه وقال: «أوصني يا والدي بعد تجاربك في الحياة.»

قال الوالد: يا بني لا تحلف باسم الله لا بارّاً ولا حانثاً.

بعد وفاة والده علِمَ فُسّاق بني إسرائيل بوصيته لولده لذا دخلوا عليه مطالبين بأنْ لهم بذمة والده مبلغاً من المال كذا وكذا.. ثم أكملوا قولهم: إذا لم تدفع لنا فعليك بقسم اليمين.

التزاماً بوصية والده أعطاهم جميع ما يملك ولم يُقسم اليمين وهو مقتنع في ذاته أنهم كاذبون منافقون.

تشاور في الأمر مع زوجته قائلاً: علينا بالسفر كونه لم يبق بحوزتنا أي مبلغ من المال، وعندنا ولدان وهما صغار السن. إذاً لنركب البحر وننتقل إلى بلاد جديدة ربما يكون رزقنا في تلك الديار. أثناء ركوبهم السفينة إذ برياح عاتية تضرب تلك السفينة حيث تتكسّر ليذهب كل منهم على خشبة وفي اتجاهات متعاكسة.

الوالد رحل إلى جزيرة فوجد بها عين ماء وشجرة مُثقلة بالأثمار فأكل وشرب ونام من التعب. بعد أن نهض من نومه تجوّل في تلك الجزيرة فإذا به في أحد الكهوف أمام كنز كبير من ذهبٍ وجواهر وزمرد وعقيق. تبسم وقال: قد عوّضنا الله عما فقدنا فعمل آنذاك على بناء تلك الجزيرة بعد أن استقطب إليها العمال والبنائين حيث أقام مدينة أصبحت عاصمة مملكته.

أمّا ولداه وزوجته فكان نصيب الأول من الأبناء أن رست به الخشبة التي ركب فوقها عند الشاطىء الآخر لتلك الجزيرة فتلقاه أحد التجار وجعله من مديري أعماله الخاصة. بينما الولد الثاني تلقاه رجل ذهب به إلى بيته ثم أخذ يعلّمه القراءة والكتابة كي يتسفيد منه في عمله.

غير أن الزوجة كانت قد وقفت أمام منزل تاجر فأخذها وعاهدها أن تكون أختاً له بعدما تفاءل بالخير من حضورها في منزله.
ذاع صيت ربّ العائلة أن مدينة تُبنى في إحدى جهات الجزيرة وهي تطلب العمال والصناعيين والبنائين. الولد الكبير قال للشخص الذي تبنّاه: أتسمح لي أن أذهب إلى تلك المدينة للعمل بها؟ فكان له ما أراد. كذلك الولد الثاني سمح له معلّمه فاتجه أيضاً نحو تلك المدينة.

وأيضاً التاجر الكبير الذي آخى الزوجة قال لها أنه غداً سيبحر إلى الشاطىء الآخر من الجزيرة حيث تُبنى تلك المدينة فلعلّه يبيع بضاعته ويجعل منها سوقاً له. عند وصوله إلى المدينة دخل على مليكها طالباً منه السماح ببيع بضاعته في أسواقها. قال الملك: أهلاً وسهلاً وستبقى في ضيافتي. أجابه التاجر: لا أقدر كونه توجد داخل السفينة شقيقة لي مع بعض العمال. قال الملك: إذاً اِبْقَ أنت هنا وسأبعث حرّاساً لحمايتها.

كان الحارسان ولَدَيّ المرأة وأثناء تناوب الحراسة تحدّث كلٌّ منهما عن تاريخ حياته وكيف تكسّرت السفينة بهما مع والديهما وكلّ ذهب باتجاه معاكس للآخر، وكون تلك الحادثة قد مرّ عليها عقد من الزمن أو أكثر لهذا لم يتعرّفا على بعضهما.

الأم كانت تسترق السمع منذ البداية بين الحارسين، وبعد ان انتهيا من كلامهما تأكد لها أنهما ولداها الغاليان على قلبها، فاسودت الدنيا في وجهها وأخذها البكاء خلسة عن مراقبَيْها.

عند الصباح عاد التاجر إلى السفينة فوجد المرأة في حالة يُرثى لها فاستشاط غضباُ ثم ذهب إلى الملك وأخبره بأن الحارسين اللذين أرسلهما إلى السفينة قد أساءا إلى المرأة وجعلاها في موقف مذل حيث الدموع كانت تترقرق من مآقيها.

أحضر الملك الشابين للمثول أمامه ثم طلب إلى المرأة أن تُفصح عمّن أساء إليها فقالت: بالله عليك قلْ لهما أن يعيدا الكلام الذي تحادثا به أثناء حراستهما في الليلة الماضية.

بعد إعادة الحديث من قبل الشابين والمرأة تتأوّه وتمسح دموعها إذ بالملك ينهض عن كرسيه ثم يتوجه إلى الشابين والمرأة معاً قائلاً وصارخاً: بالله العظيم أنتم عائلتي وأنتم أحبائي، وأنتِ زوجتي والله تعالى قد جمع شملنا من جديد.

جــبران وإيمانُه بالقدَر

كان والد جبران خليل بن مخايل بن أسعد بن يوسف بن جبران أشقر البشرة أزرق العينين، قوي البُنية، يملك مزرعة مرجحين قرب الهرمل.

لما بلغ هذا الرجل السابعة والثلاثين من العمر تزوّج أرملة تبلغ السابعة والعشرين تدعى كاملة رحمه. تُوِّجَ هذا الزواج بولادة الأديب جبران خليل جبران ثم شقيقتاه مريانا وسلطانة. غير أن الأب خليل كان يفضل بطرس ابن زوجته من زوجها الأوّل على فلذة كبده جبران، ليس لشيء وإنّما لكون بطرس يطيع زوج أمه ويساعده في حرث الأرض وخدمتها على عكس أديبنا جبران إذ يفضّل جُلّ أوقاته في التصوير والرّسم والأحلام. أمّا أمه كاملة فكانت سمراء رشيقة ذكية جداً وجذّابة، وُلِدت في بْشرِّي وماتت في بوسطن.

جبران خليل جبران

تزوجت في صباها ابن عمها حنّا عبدالسلام رحمه فأنجبت منه ولدها بطرس وعند وفاته عادت إلى لبنان لتتزوج من يوسف سلامة جعجع، لكن هذا الزواج لم يعمّر طويلاً (أقل من شهر)، ويوماً وهي تشتري من دكان للعقاقير مرهماً لأصبعها المجروح التقت بزوجها الأخير خليل جبران وهو يدخّن سيجارته فأعجبتها أناقته وتبادلا النظرات كون الأخير قد عشقتها أذناه قبل عينيه لأنه سمع صوتها يوماً وهي تغني في أحد أعياد القرية.

هذا الإعجاب المتبادل انتهى وتكلّل بزواج خليل وكاملة، هذا الزواج وصفته كاملة «بصرعة غرام». هذان الشخصان ساهما بقسط وفير وكبير في تكوين أديبنا الكبير جبران أخلاقيّاً وأدبيّاً ونفسيّاً، حيث قال الأديب جبران لعشيقته مَيّ زيادة في إحدى رسائله: ورثت عن أمي تسعين بالمئة من أخلاقي وميولي، وإنني أذكر قولها لي مرة وقد كنت في العشرين من العمر:
– «لو دخلتُ الدّير لكان أفضل لي وللناس».
– «ولو دخَلتِ الدير لما جئت أنا»، أجابها جبران.
– «أنت مُقدّر يا بني في هذه الحياة»، أجابته والدته.
– «نعم ولكن قد اخترتك أمّاً قبل أن أجيء بزمن بعيد»، عقّب جبران.
– «لو لم تجئ لبقيتَ ملاكاً في السماء».
– عقّب جبران: «ولم أزل ملاكاً».
فتبسّمت والدته وقالت: «أين جوانحُكَ؟»
أجاب جبران بعد أن وضع يدها على كتفيه قائلاً: «هنا». قالت: «إنها مُتَكسّرة».
ومن هذه الكلمة غُزِلت ونُسِجَت حكاية الأجنحة المُتَكسرة لجبران خليل جبران.

“من لم يهزّه الرّبيع وأزهاره والعودُ وأوتارهُ فهو فاسدُ المزاجِ وليس له علاج.”

الإمام الغزالــــي

يقول الأديب ميخائيل نعيمة عن صديقه جبران في كتابه الذي يحمل اسمه: «كان جبران يلعب خلف البيت عندما رأى رجلاً غريباً يسوق بغلاً عليه (قربتان) وينادي (زيت حلو) أي زيت زيتون، فأطلّت من باب بيتها عجوز في يدها سبحة طويلة وسألت الرجل أن يذيقها زيته، ففعل. وبعد جدال عنيف اتّفقت وإيّاه على السّعر ثم دخلت البيت وعادت بزجاجة فارغة وقالت لبائع الزيت أن يكيل لها ثلاثة أواق. لكن عندما سألته عن دينه وأجابها إنه مسيحيّ ومذهبه أرثوذكسي أدارت في الحال ظهرها عنه وعادت بزجاجتها الفارغة إلى بيتها وأقفلت الباب وراءها بعنف وهي ترسم علامة الصليب وتتمتم بكلمات مبهمة. بعد قليل كان جبران بجانب أمه يسألها:
– «ما هو ديننا يا أمي..؟».
– «نحن موارنة يا بُنَي».
– «ومن هم الروم؟».
– «هم نصارى مثلنا».
– «ولماذا اسمهم روم واسمنا موارنة؟».
– «عليك أن تسأل الخوري يا بُني فهو ينبؤك أفضل مني».
– «وهل يخنقنا الرب إذا اشترينا زيتاً من رجل روم؟».
– «كلّا يا بني..».
يستخلص جبران في قوله عن الحقّ شعراً:
وَالحَقّ لِلعَزم وَالأَرواحُ إِن قويت
سادت وَإِن ضعفت حَلَّت بِها الغِيَرُ
وقوله في العلم:
وأفضلُ العلم حلــمٌ إن ظَفرتَ بهِ
وسرت ما بيـن أبنـاء الكرى سخروا
وفي السعادة:
وما السعادةُ في الدنيا سوى شبَحٍ
يُرجى فإن صار جسماً ملَّهُ البشرُ
وفي الموت:
والموت في الأرض لابن الأرض خاتمة
وللأثيريِّ فهو البـدء والظّـــفرُ

رَوَيت هذه الرواية وكنّا في جلسة عند معالي وزير الثقافة في حينه الأستاذ طارق متري، فضحك ملء فمه ثم استدرك وقال: «كيف لو كان درزياً أو شيعياً أو سُنياً».
آنذاك تصدى للقول أحد الحاضرين وقال: «حدثني جدِّي يوماً عن قصة مشابهة بها ومماثلة لقصة الأديب جبران إذ قال: «ونحن في طريقنا لزيارة أقارب لنا في احدى قرى كسروان، تشاء الصدف أن نصادف رجلان يتعاونان على تحميل دابة حملاً من القش كانت قد تعثّرت به وسقط عن ظهرها. وبعدما أعادا الحمل على ظهرها كما كان سابقاً سأله من كان يُساعده قائلاً: «الآن وقد فرغنا من مساعدتك لكن نسيت أن أسألك ما هو دينك؟» أجابه صاحب الدابة: «ديني مسيحي ومذهب ارثوذكسي».
تغيّرت ملامح وجه السائل ثم أدار ظهره نحو سائله وقال: «يا ريتني كنت أساعد درزيّاً أفضل بكثير».

معالي الوزير ألقى برأسه فوق وسادة كرسيه من الضحك ثم أدار بوجهه نحوي وقال:» أرجو أن لا تغضب يا أستاذ غالب».
قلت: «كيف سأغضب وقد فضلنا صاحبنا نحن الدروز على أبناء دينه من الأرثوذكس فشكراً وألف شكر».

غير أن صاحب الرواية نهض لتوّه بعدما تأكد من مذهبي دون أن يستأذن أحداً وكأنه ارتكب جُرماً أو أفصح عن سرّ كبير.
(حدثت عام 2006م)

أصدق صورة عن لبنان الماضي الجميل..

نزل الأديب المصري الكبير طه حسين في الثلاثينيّات في أحد فنادق الجبل وأصرّ أن يحضر حفلة زجل لفرقة شحرور الوادي التي سمع كثيراً عنها. وحضر وتعرّف على الفرقة (معروف أنّ طه حسين العلماني العبقري كان ضريراً)..

العميد طه حسين

افتتح الحفل الشحرور فقال:
أهلا وسهلا بطه حْسَين
وربي عْطاني ها العَيْنتَين
العين الوحدة بتكفيني
خذلك عين وخلي عين.
فقال علي الحاج:
أهلا وسهلا بطه حْسَين
لازم لك عَينين تْنين ..
تكرم شحرور الوادي
منّي عَين ومنّك عين.
فقال إميل روحانا:
لا تقبل يا طه حسين
تاخذ من كل واحد عين
بقدمْ لكْ جَوْز عيوني
هدية لا قرضة ولا دَين.

ثم ختم طانيوس عبدو..
مش لا زم لو طه حْسَين
عين ولا أكثر من عين
الله اختصو بعين العقل
بيقشع فيها عالميلين.

أعجب كثيراً طه حسين بهذا الإبداع وشكرهم كثيراً وحمل معه إلى مصر صورة لبنان الماضي الجميل.

كلّما رَقّ النّسيمُ كلَّما غَلُظ الطّبع

 

أدقّ ما أصاب السّهمُ هدفَه، القول الفلسفي الاجتماعي للفيلسوف الشهير ابن خلدون «كلّما رقّ النّسيم كلّما غلظ الطّبع» وذلك في مقدَّمته الشهيرة «ديوان العِبَر حول طبائع البشر» من حيث تأثير المناخ الجغرافي في الأماكن المرتفعة كالجبال والهضاب، كون النّسيم يرقّ ولا يسترق إلاّ في تلك المرتفعات وانعكاسها الكلّي على قاطنيها تصرّفاً وتفاعلاً وتخاطُباً وفي شتى ضروب الحياة وعبر التاريخ… وما جعلنا نؤمن كليّاً بهذا القول الفلسفي إذ بتنا نجد العديد من سكان القرى الجبلية، وبعد انتقالهم في العصر الحالي للسّكن في المدن الساحلية وتآلفهم مع بيئتها، قد تخلّصوا من تلك العادات والتصرّفات المستهجنة والتي كانوا يعيشونها لأزمنة طويلة.

أما الأمثال والعبر لفحوى هذا القول فهي متعددة وإن اختلفت مواقعها الجغرافية والقروية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وما وصل إلينا منها إذا ما استعرضنا تاريخهم وعبرهم نجد العديد من المناكفات والانفعالات والمشاحنات وصولاً إلى المنازعات الكبرى والتي تؤدي للقتل والدمار والتشريد واليتم والفقر المدقع وما مردّها سوى قصر النظر وضيق العقل وعدم الرّويّة والمخالطة مع سكان الحواضر والمدن الأقرب إلى التمدُّن والتعليم وسلوك طريق المعرفة والخلاص من خلالهما.

فمثلاً بعد معركة عين دارة المشؤومة عام 1711 بين الدروز أنفسهم والتي كشفت كليّاً عن عقول متحجّرة بين الغرضِيّات والجماعات القبلية والمحلّية دون التفكير في الخسارة الكبرى التي ألمّت بسكان الجبل جميعهم إذ أفقدتهم قوّتهم العسكرية وعزّتهم الكيانيّة وكرامتهم الذّاتية وحتى حكمهم للشوف وتوابعه ليصبح الجميع أتباعاً وليسوا متبوعين. هذا بالنسبة للوجهاء والزعماء والشيوخ فكيف حال الفلاحين والفقراء والمحتاجين الضعفاء والذين اسودّت الدنيا في وجوههم فيمّموا إلى جبل حوران حيث سبقهم إلى هنالك أهلهم وأقاربهم.
شوفانيّ ما، بعد أن ضاقت به سبل العيش قرّر الانتقال إلى تلك الديار، أثناء سيره في سهل حوران ترافق مع بدوي وعند وصولهم إلى أحد مضارب البدو في السهل المذكور تقدّم البدوي من أحدى الخيم وطلب شُربة ماء، فخرجت فتاة حسناء بقدّها ووجهها الجميل وناولته قربة الماء… شرب البدوي وقال: التي لا نعرف اسمها لا نرمي السلام عليها..

أجابته الفتاة الحسناء: «في قبضة سيفك يا أخوي». وكان يتدرّع سيفه في وسطه. أجابها البدوي: السلام عليك يا فِتنة، كون السيف في أغلب الأحيان فتنة للقتال والشّر. غير أن البدوية أرادت أن تردّ السؤال بالمثل فقالت: ونحن أيضاً لا نقول هنيئاً للذي لا نعرف اسمه. أجابها البدوي من جديد: في وجهكِ يا مزيونة. قالت الفتاة والانشراح بادٍ عليها: هنيئاً يا جميل. أجابها الشوفانيّ وبعصبيّته المعهودة: « أنا عمّك بو قاسِم عالدّغري وعلاك بدّاوي بدّاش». ثم أكمل طريقه فيما بعد إلى أن وصل إلى مشارف بلدة عتيل قرب السويداء حيث التقى براعٍ يرعى غنمه فما كان منه إلاّ أنْ بادره بما يشغل باله ويدقر عنده عقله فخاطبه سائلاً: هل أنت قيسي أم يمني..؟ ضحك الرّاعي مطولاً وبعد فراغه من ضحكه واستهتاره بسؤال صاحبه أجابه: «والله يا خوي أنا سارحٌ مع غْنِمي»..

أما العِبَر التي عاصرتها في منطقتنا المحاذية لجبل الشيخ فمنها: أنّ رجل دين مسالم قُتل عام 1950 وهو في طريقه إلى بلدة «عُرنة» في المقلب الآخر من الجبل ودون أيّ ذنب، والذي أقدم على قتله راعي ماعز متحجّر العقل والفكر وكان يُلقب «أبو الحِن»، وحيال مثوله أمام القضاء استدرجه المُستنطق للاعتراف بجريمته النكراء قائلاً: «حقاً وصدقاً قد تأكد لنا أن القتيل كان يهودياً كونه أشقر اللون والشعر ويستحق العذاب والموت، لكن استحلفك بالله كم عصاً ضربته حتى مات؟» الرّاعي وبغفلة منه أجاب على الفور: «والله يا سيدنا مئة عصا وعصا ثم (دركبته) من رأس الجبل حتى أسفله وعند تفقّده وجدته قد مات».

في هذا الصدد كان يردد ويقول النائب والمحامي الأستاذ نسيب غبريل والذي كان يتوكل في العديد من الدعاوى المقامة بين السكان من رعاة وفلاحين وسواهما قاطني تلك النواحي أنّ سبب قساوة التعامل وسوء التصرف والكلام الفجّ في التعبير بين الفرقاء والنتائج والعواقب الحمقاء مردّه إلى طبيعة أرضهم ووعورة مسالكهم، وارتفاع جبالهم وانخفاض وديانهم، مما ينعكس ذلك على طبع وتصرفات أبنائها، كما وأن حياة هؤلاء بأكملها في البراري التي يسرحون فيها مع طروشهم، فمن أين تأتي المعرفة واللّياقة ومن أين يتلقَّوْنها، فلا مدارس ولا تواصل بينهم وبين أبناء المدن في وطنهم لهذا كانت عقولهم وآفاقها لا تتعدى سوى مراعي حيواناتهم.

أمّا في العصر الحالي، فالجهل هو الجهل قديماً أم حديثاً، وحيث إنّ العلم والمعرفة قد أصابا الجميع ومنهم سكان الحواضر والمدن عند السواحل أو في السهول الشاسعة، يبقى الجهل عند البعض مسيطراً وملازماً وسببه أن الجهل هو الجهل، وأسبابه متعددة ومتشابكة لأنّ الذين يتضلعون به أناس إمّا لم يدخلوا المدارس أو المعاهد مطلقاً، أوهم فقراء ومحتاجون ممّا يشجع البعض من رجال السياسة على استغبائهم والسيطرة على عقولهم لحاجتهم المادية إليها، فيحملونهم على الإقدام لارتكاب أعمال مُشينة وخطرة تجاه أخصامهم كالاغتيال والتصفية والقيام بأمور مُستَغرَبة حيث تسيء لسيرتهم وتعرقل مسيرتهم الاجتماعية. كذلك مثل البعض يرَون كلّ من لم يتّبعهم ولا يأتمر بأمرهم هو عدوٌّ لهم، ومثال على هذا فإنّه عقب اغتيال أحد الرؤساء العرب؛ سأل القاضي القاتل: لماذا أقدمت على ذلك؟ فأجابه: لأنّه علماني.. قال القاضي ويعني أيه علماني؟ أجاب القاتل: إنه يكره الدين، قال القاضي غير أن الرئيس كان يؤم الجوامع ويصلّي نهار الجمعة مع الجماعة؟ أجاب القاتل: هذا لا يكفي فعليه محاربة كلّ من هو غير مسلم.

الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ

وفي حادثة محاولة اغتيال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ سأل القاضي المجرمَ الذي طعنه: لماذا طعنته؟ فقال الإرهابي: بسبب رواية أولاد حارتنا. قال القاضي: هل قرأت روايته أولاد حارتنا وما هو تعليقك عليها؟ أجاب القاتل: لا ولا أحسن القراءة..

وسأل قاضٍ آخر الإرهابي الذي قتل الكاتب المصري فرج فوده: لماذ اغتلت فرج فوده؟ أجاب القاتل: لأنه كافر. قال القاضي: وكيف عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: من كتبه. قال القاضي: أيّاً من كُتبه عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: أنا أميّ ولا أحسن القراءة.

العقل الضّيّق وحدوده

إنّه الجهل؛ وما أكثر أصحابه بين أبناء البشر قديماً وحديثاً وحيث إنّ العديد من أولئك البشر إنّما يكون إدراك عقولهم عند حدود أماكنهم البيئية، أو مساكنهم الريفية، لهذا فلا تجد مجالاً للمناقشة بل تقف أمام حائط مسدود، لا حول ولا قوّة ازاء ذلك. وما العبرة التي قدمها أبو علماء الاجتماع، ابن خلدون، عن هكذا حالات إلّا أصدق تعبير وأفضل تقدير:
قيل: «كانت ضفدعة تعيش في بئر صغيرة وُلدت فيها وبقيت تعيش فيها، وذات يوم سقطت في البئر ضفدعة أخرى كانت تعيش على شاطىء البحر، فدار بينهما الحديث التالي:
ـ من أين أتيت؟
– من شاطئ البحر؟
ـ هل هو كبير؟
– أوّاه طبعاً إنّه كبير جداً..
ـ وهل هو أكبر من هذه المسافة؟، بعد أن فتحت رجليها عن بعضهما..
– إنه أكبر بكثير..
فَغَرت ضفدعة البئر فاها من فرط الدهشة، ثم التفتت إلى رفيقتها سائلة: أتعنين أنّه بحجم البئر التي أعيش فيها؟ – أجابتها ضفدعة البحر: كيف يمكنك يا صديقتي تشبيه البحر ببئرك هذه..؟
عندها استغرقت ضفدعة البئر في تأمل عميق ثم قالت بينها وبين ذاتها: كلاّ لا يمكن أن يوجد مكان أكبر من هذه البئر، إنَّ هذه الضفدعة تكذب عليّ وتريد أن تتلاعب بعقلي وعليّ إمّا طردُها أو قتلُها فوراً…

أنا ما قلت أنك لن تصبح والياً،

أنا ما قلت أنك لن تصبح والياً، بل قلت أنك لن تصير شريفاً

رجلٌ من بلاد نابلس رزق بولد سيء السيرة والسريرة، وبعد أن استنفذ معه كل ترهيب وترغيب ووسيلة، اضطر لطرده من بيته ونسيانه وما باليد من حيلة.
الولد حطّ به الرحال في بلاد الشام، ثم ما لبث أن انخرط في سلك العسكر في أيام بني عثمان. وأخذ يترقى أن أصبح قائداً كبيراً.
بعدما حالفه الحظ في إحدى المعارك، حيث كان النصر بوجهه أو من تخطيطه، عينه الصدر الأعظم ولياً على الديار الحلبية.
فطن عندها بوالده الذي حكم عليه بالفشل حكماً مطلقاً. وإنه لن يصير ولداً حسن السيرة.
أرسل الجنود لجلبه تحت الحفظ دون أن يخبرهم أن المطلوب هو والده.
لهذا سيق كأي رجل مخفورٍ ذليل إلى مدينة حلب.
بعد أن استدعاه الوالي، مثل بين يديه وهو منحني الظهر يرتعد من الخوف حتى أنه لم يتجرأ على رفع نظره نحو من استدعاه.
عندها سأله عن ابنه الذي طرده سابقاً، فظن المسكين أن ابنه قد ارتكب جريمة عظمية وهذا ما استوجب سوقه بالطريقة المخزية التي جُلب بها. فقال: «سيدي الوالي، ابني المذكور كان سيء السيرة والسريرة، منحرف الأخلاق، فاقد الكرامة.
وحينما يئست من جعله شريفاً، تبرأت منه وطردته من زمن طويل، وأنا حالياً لست أعرف عنه شيئاً ولست مسؤولاً عن تصرفاته».
ضحك الوالي وقال: «أنا ابنك سيء السيرة والسريرة، وها قد أصبحت والياً».
رفع الرجل المخفور قامته، وحدّق ملياً في وجه ابنه الوالي: « أنا لم أقل أنك لن تصبح والياً، بل قلت أنك لن تصير شريفاً، وما زلت عند ظني»..

لَرُبَّما يلزمُك حجرٌ لِيَقظتِك

 

لَرُبَّما يلزمُك حجرٌ لِيَقظتِك

أحدُ رجال الأعمال الكبار والمُتخَم بالمالِ والمُمتلكات يسيرُ يوماً بسيارته الفارهة والباهظة الثمن، وإذ بحجرٍ يضربُ مؤخِّرةَ سيارتِه، فأوقفها ونزل مسرعاً ليتفقّد الضّرر الذي أصابها ومن فَعل ذلك؟
نظرَ يميناً ويساراً فإذا بولدٍ يقف إلى جانب الطريق، والظاهر أنَّه لَرُبَّما كان هو الذي رمى بالحجر إلى السيّارة، فأمسكه دافعاً إيّاه إلى جانب الحائط ثم رفع قبضة يده ليصفع وجهه مردِّدًا وقائلاً : يا لك من ولدٍ أزعر، لماذا قذفت سيّارتي بهذا الحجر، ألا تعلم أنّه سيكلِّفك أنت ووالدك مبلغاً كبيراً من المال..؟
انهمرت الدموع من عينيّ ذاك الصّبي، لكنّه تجاسر وقال: سيدي لا أدري ما العمل، لقد مرّ وقتٌ طويلٌ وأنا أحاول لفت انتباه أيِّ شخصٍ يمرّ من هنا لكن لم يكترث أحدٌ لي، ولم يتوقَّف أيّ شخص ليسألني ما بك وكيف أساعدك، ثم نظر وأشار بيده إلى الناحية الأخرى من الطريق وإذا بولدٍ صغير مرميّ على الأرض ثم تابع كلامه قائلاً : إنَّه أخي وهو لا يستطيع السّير فهو مشلول، وبينما كنت أقوده وهو جالسٌ على كرسيّه اختّل توازنه فإذا به يهوي في الحفرة من جانب الطريق، وأنا صغيرٌ وليس بمقدوري أن أرفعه مع أنني حاولت كثيراً. فهل من فضلك أن تساعدني وإنّي مستعدٌّ لأجلب لك ثمن ما تضرّر من سيارتك من والدي.
الرجل الثّري صاحب السيارة، وكأنَّه استفاق من غفلة بعد أن أصابته نوبة من التفكير والتأنيب لذاته مردّداً قائلاً بينه وبين خالقه: أحمده على عدم تَسرُّعي بضرب الولد وإهانته، ثم أسرع إلى الولد المشلول الساقط في الحفرة فأجلسه ووضعه في الكرسي ثم أخذ منديلاً من جيبه ليمسح جراحه والتراب الذي تعفّر به وجهه.

الولد الذي ضرب الحجر نظر نحو الرجل وقال: سيدي لا تَلُمني من جديد وإنني ذاهب إلى والدي كي أجلب لك ما تريد، وأرجو أن تنتظرني هنا إذ يلزمني بعض الوقت. هزّ الرجل برأسه مطوَّلاً وأجاب: أنا الذي سأعتذر منك يا بُنيّ، ثم قبّل وجنتيه قائلاً: سامحك الله، سامحك الله وإنني سأبقي سيارتي هكذا حتى إذا نظرت إليها أتذكّر خَطَئِي وأقول عسى ألّا يُضطرَّ شخصٌ آخر يرميني بحجر كي أنظر إلى حاله..
هنا أقول: أليست هذه العبرة تماثل حال الحِراك أو «الثورة كما يقولون» في وقتنا الرّاهن من ضرب للحجارة سواء أكانت للمسؤولين أم إلى سيّاراتهم أو حصارهم أو قطع الطّرقات أو رفع العياط أو الصّياح في وجههم؟ لكن المؤسف أنَّنا لم نرَ رجلاً أو زعيماً يماثل ذلك الرّجل، فيتوقَّف ثم يُضمِّد الجراح ويعتذر عمّا اقترفته يداه أو طمعه.

حقاًّ إنَّه بعد مشاهدتنا، وعبر التلفاز، لهؤلاء الشباب والشابات وجهدهم وعزيمتهم وتعرّضهم للمطر والإهانات من قبل السلطات العسكريّة، ورغم ذلك فهم صامدون مستمرّون في مواقعهم ومواقفهم كي تتحقّق مطالبهم وأقلُّها لقمة عيشهم، أمّا جشع المسؤولين السياسيين والمقاولين السّارقين، وحتى التجّار الكبار اللاّعبين بالدولار وسواه لإفقار الشّعب وجعل مصيره ومساره في مهبّ الرّياح ناسين ومتناسين، بل ضاربين عرض الحائط غير آبهين لصراخ هذه الفئة الكبيرة من شعبهم، فهمّهم الأوَّل فيما بينهم أن يُقالَ: فلانٌ يملك ملياراً وآخر يملك ثلاثة وذاك خمسة وهذا بنظرهم غاية الذكاء والمقدرة…
أخيراً لهذا الشعب المقهور والمُذَلّ، ونحن منهم، نقول: ما لكم غير الصّبر والثّبات ورمي الحجارة، وفي النهاية لا يصحّ إلاّ الصّحيح، والله تعالى حاضرٌ ناظرٌ ولكل ليلٍ نهاية.

احفظْ لِسانَكَ فهو حصانُك إنْ خُنْتَه خانَك

احفظْ لِسانَكَ فهو حصانُك إنْ خُنْتَه خانَك

 

أيامُ التُّرام الكهربائي ركب أحدُهم من ساحة البُرج إلى حيِّ وَطى المصَيطبه في بيروت لزيارة بعض أقاربه. ولما طَلب إليه قاطعُ التذاكر دفعَ بدل القسيمة وقيمتها آنذاك خمسة غروش حجر سورية، فما كان منه إلَّا أنْ مدّ يده إلى جيبه وناوله ليرة ذهبيّة بدل الخمسة غروش والتي تشبهُها بالشّكل واللون، ولكن بعد عودته إلى منزله وتفقُّده دراهمة وجد أنَّه فقد اللَّيرة الذهبية، ثم تذكَّر ذلك أنَّه أخطأ إذ دفعها بدل الخمسة غروش السوريَّة.

تضعضعت أفكاره واحتار في أمره ماذا سيفعل وكيف سيستعيد اللَّيرة، ثم أخذ يُردِّد أمام كلّ من يعرفه عن فقدانها علَّ يساعدُه أحدَهم على إعادتها، لكنْ أخيراً استقرّ رأيُه أن يذهب إلى مدير الشركة وكان يومها السيّد فيليب رزق الله ومركزُه ساحة البرج.

بعد أن دخل عليه أقسم اليمين فوراً أمامه أنّه يتكلم الصِّدق ثم أخبره بما حدث معه. أجابه المدير: “هل تعلم رقم الترام والساعة التي ركبت بها؟”

قال الرجل صدقاً يا سيدي لا أعلم عن ذلك شيئاً وحتّى أنَّ الموظَّف الذي قبض الأجرة منّي لا أعرفه إذا صادفته.

تأكّد المدير في ذاته أنّه صادق في أقواله، لكنّه أجابه قائلاً: استمهلني ساعتين ثم آتني بعد ذلك فلربَّما نكون قد اهتدينا إلى الموظّف المذكور ثم نعيد لك الليرة.

نهاية الوقت المُحدَّد رجع الرجل إلى المدير فنقده الليرة عينَها. تعجّب الرَّجل لهذه السرعة والتوقيت معاً ثم تجرَّأ وسأل المدير قائلاً : “الشُّكر الأول والأخير لجنابكم، رَدّ الله أمانتكم، لكن إذا سمحتم لي بالقول، كيف توصَّلتم إلى معرفة الموظَّف وكيف أعادها إليكم.”

قال المدير: “هذا شعارُنا حفظ الأمانات، وهذا ما نوصي به الموظَّفين والعاملين غير أنَّ الموظف الذي وجدها بعد أن أحصى الدراهم المُحصَّلة في يومه تأكَّد له أنّه خطأ من أحد الرُّكاب فناولني إيّاها قائلاً: إنّها ليست له وهي بذمَّة الشركة إلى أن يظهر صاحبُها. ”

قال الرجل: الحمدلله، الحمدلله إنّه لم تزل هناك أناسٌ أصحاب ضمير حيٍّ كهذا الرجل والحقيقة (إن خليت خَربت) كما يقولون. لكنني أُسائلكم مع بعض الاستغراب أنّه عندما أتيتكم صباحاً وقصصت عليكم الأمر طلبتم منِّي أن أغيب ساعتين ثم أرجع، فما الداعي إلى غيابي هذا واللّيرة كانت بحوزتكم؟

ضحك المدير وقال: لربَّما لسانُكم قد خانكم وسبّب لكم ما أهانكم وأقلق بالكم. قال الرجل: بالله عليك أخبرني كي أتعلَّم من أخطائي.

قال المدير لقد أخبرتم سواكم بما حصل معكم حيث أتى أحدُهم إلينا وطلب منا ما طالبتم به فأمهلناه الوقتَ عينه لاعتقادنا ربَّما لم يكن صاحبُها، وبعد أن أجبناه بأنَّه قد أتى أحدٌ سواه وسأل عنها، آنذاك انسحب ولم يعد.

وحيث إنَّنا اقتنعنا بإجابتكم وصدقِ أقوالكم وقَسَم يمينكم أعدنا إليكم الليرة وإن تأخّرنا ساعتين لكي يبقى بالنا مرتاحاً.

قال الرجل: سبحان الله ما أبصرَكم وما أدهاكم، وما أعلمكم أيها المدير النَّبيل، وصِدقاً ما قالته الكتب السماوية: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، وصِدقاً ما قاله بنو الإنسان: “احفظْ لسانَك فهو حصانُك وإنْ خُنْتَه خانَك”.


الأمير عليّ آل ناصر الدّين ووصيَّتُه إلى وَلَدَيه

 

إياكما وترك سُنن قومِكم وأُسرتكم، فإنَّ ترك هذه السُّنن يخفض منزلة المرء إيّاً كان، واحتفظا بصداقة المخلصين لنا أيّاً كان مذهبهم الدّيني، ولا تقاطعا أحداً حتى تُوقِنا بأنَّه ليس من أهل الوفاء والثّبات، فعندئذ لا يلومُكما في مقاطعته أحد.

لا تَرْكُنا إلى المُرائين المُتَحلّفين فالرُّكونُ إليهم غباوة، ولا تثقا بأصدقاء عدوّكما، إنْ كان لكُما عدوٌّ، فإنَّ صديق العدوِّ عدوّ، وتمسَّكا بالرَّجل بقدر ما يبدو لكما من تمسّكه بشرفه وكرامته، فمَن لا يحفل بالشَّرف والكرامة لا يحفل بالصداقة. ولا تتواضعا لِمُتكبّرٍ أيًّا كان، فليس أدلّ على ذلَّة النفس من التواضع لمتكبّر، ولكن تواضعا للمُتواضع فإنّ التكبُّر على المتواضع دليلُ خِفَّةِ العقل والغطرسة. لا تبطُرا بالثّروة وإن عظُمت، فإنَّ البطرَ بالمال أوضحُ برهانٍ على وضاعة النفس، وهو شأنُ ذوي النّعمة الحديثة، واحتمِلا الإساءةَ من أصغرِ صغير ولا تحتملاها من أكبرِ كبير.

لا تُعاشرا الذين ساءت سُمعتُهم وأخلاقُهم، ولا تمزَحا في المُجتمعات فإن المِزاح يُذْهِبُ الوقار، وليكُنْ سكوتُكما أكثرَ من كلامِكما، ولا تُكثرا التَّجوال فيقلُّ الناسُ إليكما، واستقبلا زوارَكما بمنتهى البشاشة والترحيب فإنَّ للزائر على المَزور حقّاً يجب رعايتُه، وإذا بدرت بادرة تسؤكما من زائر فظٍّ فاحتملاها ولا تُسمعاه كلمة عنيفة، فإنّ إهانةَ الرجل ومن يكن في منزلِكم عَيْبٌ.

وإذا عاندكما الزمان فاعتزِلا فإنَّ العزلَة صَوْناً لمرؤتكما، وإن عاتبكما الناس كونا شديديّ الثقة بالله تعالى. واجتنبا المُحَرّمات وكلَّ ما نُهي عنه، وحذارِ من الطَّمع فإنَّه أخو الدناءة. ولا تغضبا إلّا حين يكون الغضبُ واجباً، ولا تَعِدا إلَّا إذا كنتُما قادرَين على إنجاز الوعد. واعطفا على الأقرباء والأصدقاء المُخلصين كلّ العطف، وإذا شذّ أحدُ الأقرباء عن سواء السبيل فابذُلا النّصيحة لعلّه يرجِع عن غِيِّه، وإن لم يرجِع فالبراءةُ منه خيرُ ما تفعلان.

كما تزرع تحصد ولكلّ جميل جميلٌ يماثله

كما تزرع تحصد ولكلّ جميل جميلٌ يماثله

فلاح فقير معدمٌ يعيشُ في إحدى المزارع الاسكتلندية يدعى «فلمنج». ورغم الفقر الشديد لم يكن يشكو أو يتذمر لكن همّه الأوحد كان ولده الوحيد ومستقبله وكيف ينقذه من حياة البؤس والشقاء، ولا يستريح من التفكير إلاّ بإعادة الأمور إلى الرّب فهو الشفوق الرحيم. ذات يومٍ وبينما هو يتجول مع قطيعه في إحدى المراعى سمع صوت كلب وفيّ ينبح نباحاً مستمراً مما أقلقه، فأسرع ناحيته ليجد طفلاً كان يرافق الكلب ويغوص في بركة من الوحل وترتسم على وجهه علامات الرّعب والفزع وصراخه يفتت الأكباد. لم يستهب فلمنج الخطر بل قفز بملابسه في بحيرة الوحل وأمسك بالصبي من شعره ثم أخرجه وأنقذ حياته.

في اليوم التالي آتى رجلٌ إلى منزله وتبدو عليه علامات النعمة والثراء في عربة مزركشة تجرها خيول أصيلة ومعه حارسان. اندهش الفلاح فلمنج لزيارة هذا اللّورد الثّري له في بيته المتواضع، غير أنه وفي قرارة نفسه ظنّ أنه والد الصّبي الذي أنقذه من الموت المحتم. بعد أن ترجّل اللّورد الثري بادر الفلاح قائلاً له: لو بقيت أشكرك طوال حياتي فلن أوافيك حقّك، أنا مدينٌ لك بحياة ابني، أطلب ما شئت من أموال أو مجوهرات أو ما يٌقرّ عينك. أجاب الفلاح: سيدي اللورد أنا لم أفعل سوى ما يمليه عليّا ضميري وأيّ رجل مثلي كان سيفعل ما فعلته، فابنك هذا مثل ابني والمأزق الذي تعرّض له من الممكن أن يتعرّض له ابني أيضاً. أجاب اللورد الثري: حسناً طالما تعتبر ابني مثل ابنك فأنا سآخذ ابنك وأتولى مصاريف وتكاليف تعليمه حتى يصبح رجلاً متعلماً نافعاً يخدم بلاده وقومه.

لم يصدّق فلمنج ما سمعه وطار من السعادة والفرح في قلبه أن ابنه سيتعلم في مدارس العظماء. وبالواقع والحقيقة تخرّج ابنه الصغير الكسندر فلمنج من مدرسة (سانت ماري) للعلوم الطبية وأصبح دكتوراً كبيراً يتمايل بين العلماء الكبار من الأطباء والبيولوجيين وهو ذاته العالم الكسندر فلمنج (1881- 1955) مكتشف البنسلين Penicillin عام 1929، أول مضاد حيوي عرفته البشرية على الإطلاق، كما وأنه حصل على جائزة نوبل للطبّ عام 1995. لم تنته تلك القصة الجميلة هكذا بل حينما مرض اللورد الثري بالتهاب رئوي كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته وفي الحالتين الفضل لآل فلمنج.

المفاجأة الكبرى أن ذاك الصّبي الذي غرق في الوحل ابن اللورد الثري والذي يُدعى اللورد راندولف تشرتشل والذي يحمل لقب ونستون تشرشل أصبح أعظم رئيس وزراء بريطاني على مرّ العصور، والذي قاد بلاده والحلفاء ضد دول المحور بقيادة هتلر في الحرب العالمية الثانية بين عامي 1935 – 1945 وكان الفضل له بإنقاذ العالم من غطرسة هتلر وتعسّفه. وانتصر الحلفاء وهم (فرنسا، إنجلترا، الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي) على دول المحور (ألمانيا واليابان).

والقصة بمجملها يعود الفضل فيها لذاك الفلاح الاسكتلندي الفقير فلمنج، والعبرة منها: حقاً كما تزرع تحصد ولكل جميل يقابله جميل يماثله.


نَحْنُ يا إبني نعمل لآخِرَتِنا وليس لدُنيانا

للمروءةِ رجالٌ لا تُعرف مناقبُها إلّا في أوقاتها، وللشّهامة مواقف لا يُقَرّ بها إلا بعد وقوعها، وللأمانة ذِمَم لا يُشهد لها إلا بعد إقراراها، وللدّيانة والتديّن دلائل لا يُشار إليهما إلّا عند امتحان أصحابها.

نصف قرنِ مضى، وأرض شاسعة تزيد مساحتها على سبعة عشر ألفَ مترٍ مربعٍ مسجّلة (مُطوّبة) على اسم أصحابها غير الحقيقيين. واسترجاعُها كان أسرع من لمح الخاطر عند أصحاب اليقين. حتى احتار في أمرهم أصحابُها الشّرعيون.

قصّة ذلك أن شيخاً تقيّاً ورِعاً عُرف منذ مطلع شبابه وحتى غروب إيابه أنّه غني النفس، كريم الأخلاق، حميد الصفات، همُّه آخرته قبل دنياه، ورضى خالقه قبل سواه.

في الأربعينيّات من هذا القرن، يمّم السيد جورجي يَمِّين من بلدة حاصبيّا وجهه نحو المهجر اللئيم، بعد أن رَهن قطعة أرض تخصّه في محلّة «زغلة» إلى الشيخ أبو كامل سعيد أبو رافع من بلدة عين قنيا، بمبلغ مائة ليرة لبنانية آنذاك، والمعلوم أنّ قيمتها في تلك الأيام ربّما تعادل ألوف الدولارات في هذه الأيام.

توالت الأيام والسنون، وفاق عددها الستِّين عاماً، وإذا بأحد أولاد السيد جورجي يمّين الدكتور إميل يمّين يعود إلى بلدة آبائه وأجداده؛ حاصبيّا قصد التعرُّف على أملاك أبيه وإحصائها وإجراء حصر الإرث بعد وفاة والده. لكنّه فوجىء في الدوائر العقارية في مدينة صيدا أنّ أملاكه الشاسعة في محلة «زغلة» هي ملك الشيخ سعيد أبو رافع جَرّاء المسح القانوني في بلدة حاصبيا. وأكثر من ذلك ليس بحوزته أيّة حُجَّة أو وثيقة تُثبت هويّة تلك الأرض بأنّها ملكهم، أو على الأقل تابعة لإرثِ أبيهم.

بعدما قلقت أفكاره، وتشوشت مُخَيِّلته احتار في أمره، كيف أصبحت هذه الأملاك ملكاً للشيخ أبو رافع؟ وما العمل لاسترجاعها؟ وهي اليوم أرض غالية الثمن، لقربها من أماكن السكن وقيمتها المادية لا تقدر بثمن. تحقّق في الأمر، فإذا بها سُجّلت قانوناً بناء لأقوال المختار والنواطير أمام موظفي دائرة المساحة. حتى جيرانها، والجميع يعرفون، أنّها ملك من يستثمرها ويديرها منذ أمد بعيد. تفكّر الدكتور يمّين في ذاته، ثم عمد إلى مشورة العديد من أبناء حاصبيّا، قائلاً للعديد منهم إذا كانوا على صلة جيّدة مع المُسترهن، فإنّه على استعداد ليهبه نصف مساحة الأرض مقابل إعادة الباقي، أو نقده نصف ثمنها عند مبيعها، وليس من حلّ سوى ذلك وخصوصاً بعد استشارة المحامين، ورجال القانون ويأسه من إجاباتهم. اتصل دُعاة الخير بالشّيخ أبو رافع بطريقة لبقة دون إحراج لكرامته، أو إنقاص من أمانته، لكنهم فوجئوا بأول كلام نطق به : «عمَّ تسألونني يا أحبّائي، عن أرض السيد جورجي يمّين.. فهي ملكه. ونحنا استوفينا الرّهن من استغلالنا لها منذ زمن بعيد، فهل في الأمر من شيء غريب؟». تبسّم السائل، وهزّ برأسه، وأقرّ في ذاته أنّه أمام شيخ يجهل أنَّ الأرض أصبحت ملكه رسميّاً، أو قانونياً وإن لم تكن حقَّاً وحقيقة. لكنّه تجرَّأ فيما بعد وصارحه قائلاً: «شيخنا الكريم، إنَّ الأرض في محلَّة «زغلة» قد سُجّلت باسمكم في دوائر المساحة، ولا يستطيع أحدٌ أن يأخذها منكم، فهي ملككم عند الدولة وفي دوائرها».

انتفضَ الشيخ وكأن صاعقة وقعت عليه، ثم صرخَ في وجه محدّثه: « كيف تتجرَّأ وتقول ذلك، ألا تعلم يا ابني أنت والجميع بأنَّها ملك السيد جورجي يمّين؟ ألا تعلم أيضاً أنني أستعملها لقاء رهن استوفيتُه بعد أن طال أمده؟ أمّا إذا كنت تمتحن أمانتي وصدقي، فهذا رأس مالي في هذه الدنيا منذ إقراري بعهدي، لا خوفاً من أحد، ولا استرضاء لولد، بل إقراراً ورضاء لما كتبتُ وتصديقاً لما أعتقد، وإيماناً لما أُقرّ وأعترف.»

بعد أن علم الدكتور يمّين بما أقرَّ واعترف به الشيخ، قصد منزله في بلدته ومعه كاتب العدل، حيث أُعيد الحقُّ إلى نصابه بـ «شخطة» من قلم، ووقفة من ضمير، وليس أكثر من ذلك، ورغم محاولة الدكتور إرضاء المُسترهِن بالوفير من المال، وإذا لم يكن، فموقع بناء لأحد أبنائه أو أحفاده على الأقل. لكنَّ الشيخ أبى واستكبر أيَّ شيء، ثمّ أجابه: «يا بُنَي، قُلْ لمن تعرفه أو يحدّثك: إنّنا وإن كنّا فقراء في دُنيانا، فهذا لا يهمُّنا مُطلقاً، لأنّها ليست عندنا سوى مرحلة شقاء للعبور إلى دار البقاء. وما همُّنا الأول والأخير إلّا العمل لآخِرَتنا، ومرضاة خالقنا والضمير».

الدِّيك الفصيح منَ البيضةِ يصيح

في أحد الأيّام الدّراسية لعام 1928 قام مفتّش التّربية والتعليم في وزارة المعارف المصريّة بتفقُّد مدرسة قرية (الخطاطبة) ، ثم وجّه سؤالاً إلى طلّاب أحد الصفوف الابتدائية، ووعد من يُحسن الإجابة بأنّه سيقدّم له عشرين قرشاً مكافأة. أمّا السؤال فكان: «لو افترضنا جدلاً أنّكم ضعتم في إحدى الصّحارى ولم تتمكنوا من معرفة اتجاهكم، وفجأة ظهر أمامكم رجل ومعه بوصلة ثم طلب منكم عشرين قرشاً عن كل جهة يرشدكم إليها فكم تنقدونه؟» صرخ الأطفال جميعاً: نعطيه ثمانين قرشاً. غير أنّ طالباً وحيداً من بين خمسين طالباً خالف زملاءه وقال: «نعطيه عشرين قرشاً لا غير والسبب أنّنا متى عرفنا جهة واحدة أصبح باستطاعتنا معرفة بقية الجهات». أثار هذا الجواب العميق دهشة المفتّش واستغرابه في آن معاً وكان ذلك الطفل هو جمال عبدالناصر ولم يكن يخطر ببال أحد أنّ ذلك الطفل سيصبح عظيماً من عظماء العالم فيما بعد.

يا خضر «ابعث لي عَ راسي راس»!

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف، 46)

بتاريخ الثّلاثاء في 22 كانون الثاني 2009، قرأت في جريدة النّهار مقالاً للسيّدة ماري قْصَيفي تقول فيه: «في كلّ قرية من قرى لبنان عائلة تتوق إلى صبّي بعد سلسلة ولادات تكون نتيجتها مجموعة بنات. وفي الشّمال اللّبناني كنيسة تُسمّى «مار الياس الرّاس» أمامها بئر عجائبيّة، مياهها تَهَبُ البنين للمحرومات والمحرومين. كان على كلّ عائلة محرومة ترغب في الحصول على وليّ للعهد الذي طال انتظاره أن تذهب إلى هذه البئر وتربط آخر بنت وُلدت في العائلة بحبلٍ على خاصرتها ثم تُدلَّى الفتاة في تلك البئر حتى تغمرَها المياه إلى عنقها، إذْ ذاك وفي عتمة المكان وبرودة المياه وما يُحيق بالفتاة من برودة ورجفان ورُعب بين الحياة والموت لا يَسَعُ الطّفلة إلّا الصُراخ والتضرّع إلى مار الياس تنفيذ ما لقّنها ذووها أن تقوله: «يا مار الياس ابعث لي عَ راسي راس» والرأس المطلوب هو الصّبيُّ للعائلة الرّاجية.

وبالفعل قامت إحدى العائلات بما تقتضيه تلك التقاليد وأنزل رجال العائلة الطفلة الهَالِعَة إلى البئر بعدما وعدوها بإعطائها كلّ ما ترغب به، وحين أخرجوها وهي ترتجف من شدّة البرد والخوف، سألها أحدُهم عمّا تريده؟ فكانت إجابتُها بأنّها تطلب جزمة كاوتشوك! ضحك الجميع وقبّلها بعضهم، غير أنّ أحدهم صرخ قائلاً: اطلبي سواراً من الذهب». هذه الحكاية روتها الكاتبة «قْصَيفي» في جريدة النّهار تعود إلى حقبة الخمسينيّات من القرن الماضي.

رويت هذه القصّة أمام رجال كانوا يعاونوننا في قطاف موسم الزّيتون. ضحك أحدهم وقد تجاوز السّبعين من العمر ويدعى أبو طاهر شامية من بلدة عَين جرفا وقال: «ألم تسمع من قبل حكاية تماثلها في بلدتكم؟» أجبته: « بـ لا، فقال: إذا تكرّمت، اسمح لي أن أروي لك ما حدث في بيت جدّي منذ نحو خمسين سنة تقريباً».

في النهاية إنّ هذه التقاليد المتشابهة، كلّها، في المسيحيّة والإسلام، هي من قبيل الإيمان بقدرة الخالق وأولياء الزّمان، وما الخضرُ عليه السلام عند الطوائف الإسلاميّة إلاّ القديس جاورجيوس أو مار الياس عند الطوائف المسيحية، وحتّى الدروز وهم إحدى الطوائف الإسلاميّة يطلقون عليه لقب «أبو إبراهيم» والقصد من هذا أنّه لَقَبُ الرّجولة والإقدام لكون صاحبه، مار جرجس، أنقذ البشريّة من التنين الرّوماني الوثني القاتل كما تروي بعض الأساطير التاريخية.

حذارِ أن يطفو على نفسك ما ليس في قعرها

نـعــيـــــبُ زماننـــــا والـعـيــــبُ فينـــــــا                ومـــــــا لـزمـــــانـنـــــا عيـــب سوانـــــــا
ونهـجـــو ذا الزمـــــــانَ بغـيـــر ذنـــــبٍ                 ولـــــــو نــطــــق الزمــــــانُ هجـــــانــــــا
ويـــــأبى الـذئـــــبُ يـــــأكـــلُ لـــحـــــــمَ                ذئبٍ ونــــأكـــــل بعضنــــا بعضاً عيانا

هذا القولُ البليغ والذي اعتمده في أكثر كتاباته ومؤلفاته الأديب الكبير سعيد تقي الدين إنْ نمّ على شيء فأقلّه نفس صادقة وعقلٌ نيّر في التّعامل والتّخاطب. وممّا لا شكّ فيه أنّ من كان الصدق شعاره وقول الحقّ مبدؤه وإيمانه فهو لا يخاف ولا يهاب أيّ إنسان ولو كان سلطان زمانه، وبأمثاله يعلو شأن مجتمعه ويترسّخ بُنيانه.

إذاً الصراحة والصدق والأمانة في قول الحقّ مبدأ كل شريف، وبأمثالهم يسود التفاهم والتّفهّم. تداولتُ هذا القول مع أحد رجالات منطقتنا والمشهود لهم بالرأي السديد والنظر البعيد، فكانت إجابته أنَّ ما قالته الأمثال هو من واقع الحال، وأنَّه في كل بلدة وقرية نجد بعض الأفراد وحتى العائلات من صفاتها وعبر تاريخها اللّف والدوران وعدم قول الصراحة والصدق لتصح عليهم صفات هي أقرب إلى حقيقتهم وواقعهم، فمثلاً نقول عن عائلة فلان هم عائلة الحرباية أي يتلوّنون ألف لون ولون، وهم في الوجه مراية وفي القفا مذراية. أو هذه عائلة الثعالب لما يُعرف عن أفرادها من الدّهاء والخبث إمّا بالتلوّي أو التلطّي. أو هذه عائلة العدس إذ ليس لها ممسك أو مدخل أو لقولها مبدأ. أو هذه عائلة اليهود، خُبثٌ واستغلال وإنكار للمواثيق والعهود.

وفي هذا الصّدد حدّثني مهاجر كان قد خدم في الجيش الإنكليزي إبّان الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن انتهى من خدمته وإحالته على التقاعد إذ عاد إلى بلدته.

وممّا حدثنا به عن ضابط كان معهم في الجيش المذكور أنّه كان كاذباً ومخادعاً وسيّئ السيرة والسريرة من خلال تصرفاته… ففي قعر نفسه غير ما يظهره على وجهه حيث يتظاهر لجنوده أنّه يحبّهم ويغار عليهم وعلى سعادتهم، وكثيراً ما كان يردّد ويقول بأنّه فرد منهم وليس رئيساً عليهم وأنّه يفديهم بحياته قبل حياتهم.

أحد الجنود الذي يعمل في خدمته كان يعلم علم اليقين أنّ هذا الضابط بوجهين ولسانين متناقضين، وأنّ ما يضمره في ذاته غير الذي يظهره في تعامله وأنّه مخادع وكاذب كبير. ويوماً أراد أن يُعرّيه ويجرّده من تواريه بعد أن ضاق ذرعاً بتصرفاته، فدخل عليه طالباً إجازة كي يذهب إلى بيته ويُبرّر طلبه أنّه اشتاق لرؤية زوجته وأولاده حيث أصبح له مدّة طويلة لم يشاهدهم. أجاب الضابط: «أمهلْني أسبوعاً لأنظر في أمرك..»، وعند نهاية الأسبوع أتى الجندي وكرّر طلبه.

الضابط أجاب بعد أن هزّ برأسه قائلاً: «لقد استعلمت من زوجتك أنّها لا تريد ذهابك إلى البيت وبكتاب خطّي، وترجو أن لا أسمح لك مطلقاً بالذهاب كونك سكّير فظّ الطباع، تعذّبها وتضربها وتضرب كلّ من يحاول أن يردعك عنها وخاصّة أولادك وجيرانك، والأنسب أن تبقى هنا في ساحة القتال وخارج بيتك». الجندي عند سماع هذا الجواب أغرق في الضحك أمام الضابط ثم أخذ يردّد: لقد تأكّد لي ما كان يتداوله الجميع.

قال الضابط: لماذا تضحك، وماذا كان يردد الجميع؟
قال الجندي وبجرأة: سيّدي كيف أَجابتك زوجتي بكتاب خطّي وأنا رجل أعزب لا زوجة لي ولا أولاد!

والواقع كم من الرجال سواء أكانوا عاديين أم سياسيين يماثلون هذا الضابط قديماً وحديثاً.

عذوبةُ اللّسان

الإنسان لا لحمهُ يُؤكَل ولا جِلدهُ يُلبس فماذا فيه غيرُ طيب النيّةِ وحلاوة اللّسان؟!

صحيح أنَّ عذوبة اللّسان ولطف الكلام ونعومة التّعامل عند الإنسان أطيب وأشهى من العسل، وأنها وذلك يجلب التّقدير والاحترام وحتّى الرّزق وعلوّ الشّأن.

 إذ رُوِيَ أنّ صديقين متجاورين في السكن اتّخذ كلٌّ منهما مهنة يسترزق منها. الأوّل اتّخذ مهنة بيع العسل والاتجار به مُعَلّلاً نفسه بالرّبح الوفير والغنى السّريع ولَرُبّما ظنّ أنّه من خلالها يصبح من رؤوس المجتمع وجاهةً وكرامةً حيث إنّ المال عنده عصبُ الحياة وعلى قدر مال المرء يكون احترامه وتقديره
عند الكثير من الناس. أمّا الرّجل الثاني، وحيث إنّ رأس ماله قليل، لهذا اكتفى بأن يتاجر بالخلّ لرخصه وإمكان شرائه رغم قلّة احتياج الناس إليه، ولربّما أنّ البعض لا يقتنيه.

 سبحان الله، سبحان الله، فقد ثبتَ العكس، إذ ليس نوع البضاعة هو مصير النّجاح وزيادة الأرباح، وهذا ما سنعلمه بعد تصفّح حقيقة أمريهما. فالتاجر الثاني، تاجر الخلّ، كان دؤوباً في عمله، وكان شخصاً محبوباً وتعامله مع الناس فيه لطفٌ وسلاسة، فهو متواضع وقليل المشاكل، ونادر العيوب، لذا ازدهرت تجارته وتشجّع العديد من الزبائن إلى شراء بضاعته حتى وإن كان بعضهم من قبيل التّزاور والمودّة. فازدادت أرباحه وكثُر روّاده

وظهرت معالم الغنى والبحبوحة عليه، كاقتناء المنازل الفاخرة والمزارع الواسعة. غير أنّ التاجر الأوّل، تاجر العسل، وعلى ما للعسل من فوائد صحيّة ورغبة وشهيّة في تناوله صباحاً وعشيّة وليس أيّ طعام يماثله منفعة ورغبة عند العديد من أبناء البشر… لما له من منافع غذائية وصحية. ورغم ذلك فإنّ التاجر المذكور كسَدت بضاعته وقلّ زبائنه وغدا على شفير الهاوية مصيره، فاحتار في أمره، كيف سيكمل مشواره ويحافظ على رأس ماله وكيف سيَفي ديونَه؟؟ ما العمل، وما التّدبير وخصوصاً بعد مقارنة تجارته مع تجارة صديقه وكيف سيتمكّن من ذلك، وشتّان بين هذا وذاك في المقارنة من حيث كَثرة الزبائن، والتفاوت في البيع والأرباح. «إذاَ سأذهب إلى تاجر الخلّ»، قالها تاجر العسل لنفسه، ولأقف على حقيقة أمره ونجاحه وعلوّ شأنه، وطول باعه في حقله ومضمار عمله، وحقّاً أقرّله

تألّقه في عمله، لكن ما هو سرّه وصفاته وميّزاته في ارتقائه سلّم النجاح؟!

 حال وصوله إلى بغيته، بادره بالسؤال بعد السلام عليه: يا صاحبي ويا زميلي، ليس من قبيل الحسد بل من قبيل الاستفسار وحشريّة المعرفة، والله باعث الرّزق للجميع، هَلّا أخبرتني ما سرّ نجاحك في عملك وتجارتك، رغم الفرق الشاسع والكبير بين احتياج الناس لبضاعتك وبضاعتي..؟
ضحك تاجر الخلّ بعدما هزّ برأسه مقدّراً مجيء زميله وتواضعه في سؤاله إيّاه… استوى في مجلسه ثم أجاب: أوّلاً أقول أهلاً وسهلاً بصاحبي القديم والدائم، إن شئت القبول بصحّة قصدي، فيا أخي؛ إنّ رزقنا وأرباحنا وأرواحنا هي مِنّة من الله تعالى. لكن فلنعلم معاً وإن لم يكن من إحراجٍ لك في قول الحقيقة، فيا صاحبي، عليك أن تستمع لي وتتّعظ بما سأرويه وأقوله لك: «حقيقة الحال، أنكم تبيعون العسل، لكنّ كلامكم مع الناس خَلّ

وأكثر حُموضة منه. أمّا نحن يا سيدي فالعكس تماماً، صحيح أنّنا نبيع الخلّ لكنّ كلامَنا مع الناس وعلى مسامعهم وأذواقهم عسلٌ بشهده وطعمه».
وحيث إنني اتّخذت من هذه المأثرة حكمةً للكُتّاب بعد أن سمعتها من رجلٍ عاقلٍ في بلدة الماري وقد لَفَتَني استشهاده بها لكون مضمونها يتناسب مع مسالك بعض التّجار في بلدته.

 أمّا مقصدي من إشهارها فهو لاعتباري أنّ مغزاها يؤشّر لكتابنا الجديد «الخميرة» متمنّياً أن يكون فحواه عسلٌ بِشَهده وطعْمه عند القارئ العزيز، أمّا أسلوبنا فأرجو أن يماثل أسلوب بائع الخلّ لكون عذوبة الكلام كعذوبة اللّسان سواء أكان مكتوباً أم منقولاً…

أخلاقيّات ومأثورات
يروى أن سلمان الفارسي مرّ براعي غنم، فقال له: ماذا معك من العلوم أيها الراعي؟ فأجاب: “معي خمس كلمات، فزدني منك خمساً أكمل بها علومي”.
فقال له، وماذا معك لأزيدنك؟
قال، “يا سيدي:
الأولى، لا استعمل الكذب والصدق موجود.
الثانية، لا استعمل الحرام، والحلال موجود.
الثالثة، لا أذكر عيوب الناس، والعيب فيّ.
الرابعة، لا أعصى الله، وهو يراني.
والخامسة، لا أجحد نعمة، وهو يكفيني.”
فقال له سلمان:
لقد حويت علم الأولين والآخرين،
وليس على الخمس كلمات التي معك من مزيد

مآثر و حكم