الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

التزوير في السردية الاعلامية الغربية المتصلة بحرب غزة
التزوير والإنحياز والتقصير

شكّلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد معركة طوفان الاقصى في السابع من تشرين الاول (اوكتوبر) من العام 2023 محطة مهمة في فهم ومعرفة السياسات الإعلامية الغربية تجاه القضية الفلسطينية وما يعانيه الشعب الفلسطيني من قبل العدو الصهيوني من جرائم انسانية وحرب ابادة تنتهك كل معايير حقوق الانسان والمعاهدات العالمية حول الحروب وكذلك كل المعايير الانسانية والاجتماعية، ان من خلال قتل واستهداف العدد الكبير من السكان الفلسطينيين والذي تجاوز عشرات الالاف ومن ضمنهم الاف النساء والاطفال او من خلال تدمير واستهداف المستشفيات والكنائس والمساجد وسيارات الاسعاف، وكذلك فرض الحصار لفترة طويلة على سكان القطاع ومنع وصول الماء والطعام والادوية والوقود.

لكن الخطير في هذه الحرب اللانسانية والمدمرة والتي وصلت الى ما يمكن وصفه «بحرب ابادة» بكل ما تعنية الكلمة، ان العديد من وسائل الاعلام الغربية ساندت العدو الصهيوني في هذه الحرب وبررّت جرائمه وعدوانه وعمدت الى شيطنة قوى المقاومة والشعب الفلسطيني وخصوصا حركة حماس.

وسنحاول في هذه المقالة تقديم بعض النماذج عن كيفية التزوير في السردية الاعلامية الغربية لحرب غزة وكيفية شيطنة قوى المقاومة وكيفية تبرير جرائم العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

وسنتطرق في هذه المقالة الى عدة نقاط ومنها:

أولاً: من يتحمل مسؤولية ما قامت به حركة حماس في معركة طوفان الاقصى وكيف تعاطت بعض وسائل الاعلام الغربية في هذا المجال .

ثانياً: كيفية مقاربات وسائل الاعلام الغربية للجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني ضد قطاع غزة .

ثالثاً: الحلول التي كانت تعرضها بعض وسائل الاعلام الغربية لانهاء الحرب والدعوة لانهاء حركة حماس وعدم الاخذ بالاعتبار لكل حقوق الشعب الفلسطيني .

أولاً: من يتحمل مسؤولية معركة طوفان الاقصى

من يتحمل مسؤولية ما قامت به حركة حماس في معركة طوفان الاقصى وكيف تعاطت بعض وسائل الاعلام الغربية في هذا المجال؟

منذ أن أطلقت المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها (كتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) – في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عملية طوفان الأقصى، أصبحت كثير من وسائل الإعلام الغربية تعتمد رواية الاحتلال الإسرائيلي على ما سواه متجاوزة في كثير من الأحيان الضوابط المهنية والحياد وقد ظهر ذلك في أكثر من مناسبة.

وعندما يتبني الاعلام الغربي والمسؤولون الغربيون كل الأخبار الواردة من الكيان الاسرائيلي دون استثناء، مثل خبر «قطع حماس رؤوس أطفال إسرائيليين»، والذي تحدث عنها الرئيس الامريكي جو بايدن، وتناقلته وسائل إعلامية غربية معروفة، وبقيت تكرره على انه حقيقة، رغم انه تم تكذيب الخبر لاحقا، بعد ان تبين ان مصدره جندي اسمه ديفيد بن زيون، وهو من عتاة المستوطنين المؤيدين لقتل الفلسطينيين، تناقلته قناة «إسرائيلية»، وتبناه الاعلام الغربي دون تردد او تحفظ.

كما تبنى الإعلام الغربي تحميل «حركة حماس» مسؤولية ما جرى في معركة طوفان الاقصى دون العودة الى ما كان يجري قبل السابع من تشرين الأول (أوكتوبر) من ممارسات عدوانية صهيونية ضد الشعب الفلسطيني، سواء من خلال محاصرة قطاع غزة لاكثر من 17 سنة او الاقتحامات المستمرة للمسجد الاقصى او وجود الاف السجناء الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية وعدد كبير منهم دون محاكمة وفي ظل معاناة كبيرة داخل السجون، وكذلك قتل الفلسطينيين من قبل الجنود الصهاينة او ممارسات المستوطنين الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وكل الممارسات اللانسانية طيلة عشرات السنين من قبل العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

في حوار تلفزيوني اجراه الصحافي ادم شمس الدين عبر قناة نيو تي في مع المسؤول الاميركي السابق دايفيد ساترفيلد حول ممارسات اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، اعتبر ساترفيلد انه من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها حتى لو ادى ذلك لقتل مائة الف فلسطيني او اكثر. وهناك مقابلة كاملة حول هذا الموضوع على موقع قناة نيو تي في.

ثانياً: الاعلام الغربي وجرائم العدو الصهيوني

كيفية مقاربات وسائل الاعلام الغربية للجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني ضد قطاع غزة.
رغم فظاعة ووضوح الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، سواء من خلال العدد الكبير من الشهداء والجرحى ومعظمهم من النساء والاطفال، او عبر استهداف المستشفيات وسيارات الاسعاف واخراج المرضى والاطباء بالقوة من المستشفيات واستهداف المدارس، فان بعض وسائل الاعلام الغربية حاولت تبرير جرائم العدو الصهيوني من خلال تبني الرواية الاسرائيليية بان المستشفيات هي ماركز عسكرية لحركة حماس او تحميل حركة الجهاد الاسلامي مسؤولية قصف المستشفى المعمداني، كذلك اللافت أن «بي بي سي» نشرت، قبل يوم واحد من قصف المستشفى تقريرا يتساءل: «هل تقوم حماس ببناء الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟.»

ويضيف التقرير أنه «من المرجح أن تتدفق شبكة الأنفاق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس، مما يمنح الاحتلال الإسرائيلي ميزة الشك عندما يتعلق الأمر بقصف مثل هذه الأهداف».

وجاء الجواب من الاحتلال في اليوم التالي بارتكاب مجزرة المستشفى وقتل المئات من المرضى وذويهم من النساء والأطفال، في مجزرة ربما لم يشهد التاريخ مثيلا لها.

وكررت مراسلة «سي إن إن» الأميركية ما قاله جيش الاحتلال، وقالت إن «حماس ربما أخطأت في إطلاق الصواريخ لتسقط على المستشفى في غزة، وفقا للجيش الإسرائيلي» ويمكن مراجعة تقرير حول هذا الجانب على موقع قناة الجزيرة.

ومن الواضح ان الاعلام الغربي عمد مرارا الى تبني الروايات الاسرائيلية والى منع وجود اصوات داعمة للقضية الفلسطينية وأحد أهم النماذج لقمع الاعلام الغربي لأي صوت عربي مؤيد للفلسطينييين طرد الإعلاميين العرب أو إيقافهم عن عملهم والتحقيق معهم كما حصل مع مراسة البي بي سي في بيروت ندى عبد الصمد وكذلك مع صحافيين عرب آخرين في مؤسسات إعلامية غربية في المانيا وكندا.

ثالثاً: حول الحلول المطروحة القضية الفلسطينية والدعوة لانهاء حركة حماس

الحلول التي كانت تعرضها بعض وسائل الاعلام الغربية لانهاء الحرب والدعوة لانهاء حركة حماس وعدم الاخذ بالاعتبار لكل حقوق الشعب الفلسطيني.

معظم المقالات في وسائل الاعلام الغربية التي كانت تطرح حلولا للقضية الفلسطينية بعد معركة طوفان الاقصى والحرب على قطاع غزة كانت تركز على كيفية انهاء حركة حماس وقوى المقاومة ومواجهة الجهات الداعمة لها، وتعتبر انه لا يمكن التوصّل الى حلول نهائية للقضية الفلسطينية دون القضاء على حركة حماس، وحتى عنكما كانت بعض الاوساط الغربية، سواء من مسؤولين رسميين او وسائل اعلام، من اجل تبني حل الدولتين واقامة دولة فلسطينية كانت تشترط ضرورة انهاء حكم حماس لقطاع غزة وصولا الى انهاء وجودها كليا، ويعتبر هذا الطرح اساءة للشعب الفلسطيني ومقاومته، ومن ابرز الصحافيين الغربيين الذين دعوا الى هزيمة حركة حماس ومن يدعمها الصحافي الاميركي توماس فيردمان والذي أشار في مقال له في صحيفة «نيويورك تايمز»: إلى أنّ هناك صيغة واحدة تعزّز فرص انتصار قوى الاعتدال والتعايش في الحروب الثلاث، وهي: هزيمة حماس، طرد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وحلفائه المتطرّفين، ردع إيران، وإعادة تنشيط السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بالشراكة مع الدول العربية المعتدلة، وإحياء خيار الدولتين. (عن مقال فيردمان المترجم في موقع اساس ميديا).

وهناك مقالات اخرى في الصحف الغربية تدعو لانهاء قوى المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان لان ذلك هو الطريق الوحيد لضمان أمن الكيان الصهيوني .

طبعا لا يعني ذلك انه لم يحصل تغير في مواقف وسائل الاعلام الغربية تجاه القضية الفلسطينية بعد الحرب على غزة وما ارتكبه العدو الصهيوني من ممارسات اجرامية، فقد برزت مقالات ومواقف غربية تدعو لوقف الحرب على قطاع غزة والعمل للوصول الى حلول سياسية، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في نشر صور ما يجري في غزة وهذا انعكس ايجابا على الاوساط الشعبية والطلابية في الدول الغربية وتغيير موقفها من القضية الفلسطينية والمشاركة في المسيرات الشعبية الكبرى في معظم مدن العالم لنصرة للشعب الفلسطيني.

وقد قامت العديد من المؤسسات العربية المختصة بالشأن الفلسطيني ومنها مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الزيتونة للدراسات والابحاث بنشر مقالات ودراسات تشرح حقيقة القضية الفلسطينية باللغات العربية والانجليزية والفرنسية وكان لها دور مهم في هذا المجال، اضافة لما قام به العديد من القنوات العربية والتي نجخت في الوصول الى الجمهور الغربي وخصوصا قناة الجزيرة، وهناك قنوات اخرى وصلت الى اميركا اللاتينية مثل قناة الميادين، اضافة الى دور اعلام المقاومة وما اعتمدته حركة حماس من اطلالات اعلامية وكيفية اطلاق الاسرى عندها، وبعض المواقف التي اطلقها عدد من الاطباء والدبلوماسيين العرب والغربيين والذين شرحوا حقيقة ما يجري في قطاع غزة، وهذا كله ساهم بالرد على السردية الاسرائيلية ولو بشكل محدود.

وفي الخلاصة نحن أمام معركة اعلامية وثقافية وفكرية إلى جانب المعركة العسكرية والنضالية من أجل شرح حقيقة ما يجري في فلسطين المحتلة ومواجهة الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، وقد تكون معركة طوفان الأقصى والحرب على قطاع غزة قد أتاحت للعرب والفلسطينيين إعادة طرح القضية الفلسطينية مجدداً على الصعيد العالمي، وهناك حاجة كبيرة لمواصلة الجهد في هذا المجال لان المعركة مستمرة ولن تنتهي بأسابيع او أشهر، وسيكون العالم في المرحلة المقبلة، وبغض النظر عما ستنتهي اليه الحرب العسكرية أمام تحديات كبيرة في كيفية مواجهة الجرائم الصهيونية ومحاكمة المجرمين الصهاينة وتوثيق ما جرى وإعادة كتابة تاريخ القضية الفلسطينية من وجهة نظر أصحابها الحقيقيين ولإعادة الحقوق الى أصحابها.

حرب غزة تفضح المعايير الزائفة في الإعلام الغربي
التزوير والإنحياز والتقصير

في أوقات الأزمات والحروب يبرز دور الإعلام وأهميته، إذ تشكل وسائل الإعلام الوجهة الرئيسية للمهتمين بمتابعة الحدث ومراقبة التطورات. ولا يختلف اثنان على مدى تأثير هذه الوسائل في تكوين وجهات النظر لدى المتلقين عن طريق السياسة التي تعتمدها في تسليط الضوء على الحدث، فهي تتحول من كونها مسؤولة عن نقل «الحقيقة» إلى المساهمة في تشكيل الرأي العام وصوغ مواقفه وتحركاته.

وللإعلام ضوابط ومعايير مهنية متعارف عليها تقتضي أن تلتزمها وسائل الإعلام، تتمثل في التقيد بمجموعة من المبادئ والقيم والسلوكيات، أهمها: نقل الواقع والحقيقة بتجرد، والدقة في نقل المعلومة، والشفافية، وتجنُب كل ما من شأنه إثارة خطاب الكراهية والعنصرية، وغيرها…

هذا من الناحية النظرية، لكنّ واقع الأمور بالنسبة إلى الإعلام، بصورة عامة، ربما لا يتطابق دائماً مع المعايير والضوابط، وفي كثير من الأحيان تصبح أخلاقيات المهنة مجرد مصطلحات نظرية، وهو ما جرى خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت.

فممّا لا شك فيه أنّ الحرب الشعواء التي أعلنتها إسرائيل على القطاع، في أعقاب عملية طوفان الأقصى، كشفت كيفية تعامل الإعلام الغربي مع الحدث، ومدى التزامه المعاييرَ المهنيةَ؛ إذ سارعت أغلبية وسائل الإعلام الغربية الساحقة إلى تبنّي السردية الإسرائيلية منذ الساعات الأولى للعدوان، وهي سردية تجاوزت المعايير المهنية والأخلاقية، فقامت على مجموعة من الأكاذيب مظهرة تحيُزاً واضحاً إلى جانب إسرائيل، وخصوصاً في المراحل الأولى من الحرب.

وعلى الرغم من بعض التحول في توجهات الرأي العام الغربي، وهو تحوّل فرضته حقائق ما يجري على أرض الواقع من همجية إسرائيلية فاقت الوصف وكشفت زيف الإدعاءات الصهيونية، فإنّه من المفيد التوقف عند عدد من السرديات الإسرائيلية التي تبنّاها الإعلام الغربي من دون مراجعة أو تدقيق، وفرضها على الرأي العام عبر تبنّيها بصورة مطلقة وتكرارها:

السّردية الأولى: «حماس» قطعت رؤوس الأطفال

كان من اللافت انزلاق الإعلام الغربي في ترديد هذه الأكاذيب، وفي مقدمها الروايات التي تحدثت عن مجازر ارتُكبت بحق الإسرائيليين، وعن «قطع رؤوس الأطفال»، وحرق جثث، واغتصابات وغيرها من دون تقديم أدلة. ومن الأمور التي ساهمت في انتشار هذه الروايات مسارعة الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤولين في إدارته إلى تبنّي الرواية وترديدها أمام الرأي العام العالمي قبل التأكد منها.

لكنّ المفاجأة كانت أنّه عندما سُئل مسؤولون في البيت الأبيض عمّا إذا كانوا يملكون ما يؤكد صحة هذه الأنباء، اضطرّوا إلى التراجع عن التصريحات، فنقلت شبكة «CNN» الإخبارية الأميركية عن مسؤول في الإدارة الأميركية قوله إنّ التصريحات كانت مبنية على «مزاعم» مسؤولين إسرائيليين، ولم يرَ بايدن والمسؤولون الأميركيون الصور التي تثبت الرواية الإسرائيلية، ولم يتحققوا من صحتها.(1)

وهذا الموقف قاد مذيعة الـ«CNN» سارة سيندر إلى الإعتذار بسبب تبنّيها المقولات الإسرائيلية قبل التأكد من صحتها، لكنّ موقفها لم يجرِ على آخرين واصلوا ترديد هذه الأكاذيب حتى رسخت في أذهان كثير من الجمهور في الغرب.

السردية الثانية: «شيطنة» حركة «حماس»

عمد قادة العدو الإسرائيلي، منذ اللحظة الأولى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى «شيطنة» حركة «حماس» وتشبيهها بتنظيم «داعش»، مستخدمين عبارة الأعمال «الإرهابية»، و»البربرية» في تصريحاتهم. وتلقف أغلب المسؤولين الأميركيين والغربيين هذه المقولات التي باتوا يردّدونها كمرادف لحركة «حماس».

هذه «الشيطنة» انتقلت بدورها إلى الإعلام الغربي، الذي استخدم المصطحات نفسها في نشرات الأخبار وفي الصحافة المكتوبة. أمّا بالنسبة إلى المقابلات على الهواء، والتي نشطت بصورة غير مسبوقة منذ بداية الحرب على غزة، فحدِّث ولا حرج، إذ أصبح السؤال بشأن «إدانة حماس» لازماً كمقدمة لأي حوار يتناول الحدث، وباتت الإدانة بمثابة جواز مرور يرضي وسيلة الإعلام والمذيعين.

وبرزت المشكلة عندما حاول بعض وسائل الإعلام الغربي لاحقاً استضافة شخصيات فلسطينية، أو مؤيدة لفلسطين، فعمد المحاورون إلى أسلوب منافٍ للمعايير المهنية، يُقصد منه إحراج الضيف وإملاء الإجابات، وهذا ما أدّى إلى نقاشات ومشادات شابت هذه المقابلات، فحنان عشراوي، على سبيل المثال، انتقدت بشدة السؤال الذي وجهته مذيعة في إحدى محطات التفلزة السويدية، معتبرة أنّه «سؤال في غاية العنصرية والتعالي»،(2) رافضة الإجابة عنه. كما كان لسفير فلسطين في بريطانيا، حسام زملط، جولات مع وسائل الإعلام الغربي، رد فيها على كثير من الأسئلة الملتوية بمنطق متماسك.

المقولة الثالثة: أكذوبة «الدفاع عن النفس»

تحت هذا الشعار، أعطى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل الحق في ارتكاب ما تشاء من مجازر في قطاع غزة. وإذا كان معظم زعماء الغرب قد تحدث صراحة أمام وسائل الإعلام عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فما بالك بردة فعل وسائل الإعلام؟

لقد شرّع الإعلام الغربي، عبر تبنّي مقولة «الدفاع عن النفس»، قتل أكثر من 15.000 مواطن غزي، بينهم أكثر من 6000 طفل، وتدمير المستشفيات ومقرات الأمم المتحدة والمدارس والجامعات ودور العبادة والأبنية والتجمعات السكانية، وهو ما أحدث دماراً أشبه بزلزال ضرب المنطقة، ناهيك بالحصار الكامل الذي فُرض على القطاع بمنع سبل الحياة كافة، من مياه وكهرباء وأدوية ومواد غذائية.

وتجاهل هذا الإعلام، بصورة منافية لأخلاقيات المهنة، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل خلال هذه الحرب، بل أيضاً برّر كل هذه الجرائم تحت حجة «الدفاع عن النفس».
فأي معيار أخلاقي مهني يجيز تبرير هذا الحجم من الجرائم التي تفوق الوصف؟

تداعيات التجييش الإعلامي

إنّ مجرد متابعة ما بثته وسائل الإعلام الغربي خلال هذه الحرب كفيل بأن يخدع المتلقين، وخصوصاً المؤيدين أصلاً لإسرائيل. وقد أدّى هذه التجييش الإعلامي إلى ردات فعل عنيفة جداً دفع ثمنها أبرياء لمجرد أنهم من العرب أو الفلسطينيين أو المؤيدين للقضية الفلسطينية. وشكلت ظاهرة المساواة بين «معاداة الصهيونية» و«معاداة السامية» تهديداً لكل من يعادي إسرائيل، إذ بات حكماً، نتيجة هذا الكم من التجييش والتسييس الإعلامي، معادياً للسامية ولليهودية. وهذه الظاهرة تنطوي على خلط في المفاهيم يتنافى مع الواقع، وينشئ التباساً لدى الرأي العام، ويشيطن كل من لا يؤيد إسرائيل. والأخطر من ذلك، أنّ هذه التهمة تؤدي بدورها إلى حرف الأنظار عن الجرائم المتواصلة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى 75 عاماً.
أمّا الاعتداءات التي تعرّض لها مواطنون في الغرب نتيجة هذا البث الإعلامي غير المهني، فلائحتها تطول، ونسوق في هذا المجال مثلين؛ فبعد نحو أسبوع على الحرب، أقدم عجوز أميركي على تسديد 26 طعنة أصابت طفلاً فلسطينياً في السادسة من العمر أدت إلى وفاته، بينما أصاب والدته بعدة طعنات أُخرى، وأُدرجت الجريمة تحت خانة «جرائم الكراهية»، بسبب الصراع الدائر بين إسرائيل و«حماس».(3)

وقبل أيام، أُصيب ثلاثة طلبة فلسطينيين في ولاية فيرمونت الأميركية بجروح بليغة، عندما أطلق مسلح النار على الشبان الثلاثة الذين كانوا يرتدون الكوفية ويتحدثون العربية. وقد طالب حسام زملط، سفير فلسطين في بريطانيا، تعليقاً على ما حدث بـ «وقف جرائم الكراهية ضد الفلسطينيين.(4)

ويضاف إلى جرائم الكراهية التي تسبب الإعلام بها انتهاكات أُخرى لا تقل خطورة طالت عاملين في وسائل إعلام غربية بحجة تأييد الفلسطينيين، أو معارضة إسرائيل؛ ومنها ما جرى مع الصحافية المخضرمة ندى عبد الصمد في محطة «BBC»، وما جرى مع المذيع الفرنسي ذي الأصل الجزائري محمد القاسي، والذي تعرّض لتوبيخ حاد من القائمين على محطة «TV5» الفرنسية بحجة توجيه سؤال إلى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي ينطوي على مساءلة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في مستشفى الشفاء في غزة.

هذا غيض من فيض لما يتعرض له العرب والمؤيدون لفلسطين والفلسطينيّون في الغرب، وهي ممارسات يتحمل الإعلام المتحيز الجزء الأكبر من المسؤولية عنها، فوجود سياسة إعلامية تقوم على إثارة المشاعر عبر نشر أخبار مضللة وتشويه للحقائق، وعبر تجاهل قضية احتلال بدأت قبل 75 عاماً، ستؤدي حتماً إلى مزيد من جرائم الكراهية والمعاداة، وهذا ما كشفته حرب إسرائيل على غزة، هذه الحرب الجهنمية، والتي عرّت ما تدّعيه مؤسسات الإعلام الغربي من مهنية عالية، وشفافية لا تقارن. وبرهن هذا الإعلام، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّه إعلام متحيّز ومروج للرواية الإسرائيلية، وشكّل إلى حد كبير جبهة حرب إعلامية موازية للحرب العسكرية.

إعلام الحرب والسلام؛ المسؤولية الاحترافية
التزوير والإنحياز والتقصير

أكثر ما يضغط على الإعلام في زمن الأزمات والنزاعات والحروب الميدانية، في فنون النقل والتغطية والتحليل والتصوير وأكثر الأمور دقة وتطلباً للإحترافية المهنية وتضلعاً من فنون الرصد والمتابعة والمقارنة والتدقيق، هو الإلتزام بالناموس وبأخلاقيات الإعلام وإتباع سلوكات الرصانة، ومراعاة مقومات الإتزان الخبري والتوازن التصويري، الأمر الذي يفرض على الإعلامي والوسيلة إتباع إستراتيجية عمل ظرفية متحركة تتناسب مع تطور وموقف كل حالة.

إن خاصية التكيّف اللحظوي مع متطلبات ومستلزمات البث المباشر والنقل الميداني في مسؤولية تحريك الكاميرا وكيفية تركيزها على زوايا دون أخرى من المشهد، تتطلب تخصصًا ودراية وحسًا إستباقيًا يتناسب مع الواقع، ويقاس مع مدى إنشغال المصور الإعلامي بأخلاقيات الكاميرا في زمن حرِجٍ دقيق، وكيفية الحفاظ على قيمة الصورة الخبرية ووجوب إتصافها بالحس المجتمعي من دون المس بكرامة الإنسان، فرداً أو جماعة، مع الحرص على حق المستعلم بالحصول على كامل زوايا المشهد من دون أي حذف أو تعديل أو تركيب أجزاء، بقصد التضليل والتشويه والكذب والإختلاق والتجاهل والتعمية والتضبيب (الضباب). من مثل ما يقترفه بعض الإعلام المسيس وغير المنتمي، من ممارسات قصدية أو عفوية تسيء إلى الإعلامي والمعلومة والمستعلم. وهذا ما يدخل في التصنيفات اللَّونية للإعلام، من الأسود والأبيض والأصفر والأحمر، وصولاً الى إعلام اللَّالَوْن الحائر تصنيفًا بين عدة معايير إعلامية متداخلة كالإنحياز والحياد والإلتزام واحترام الواقع.

إنّ القضية المهنية الأكثر إلحاحاً وحضورًا في زمن الأزمات، هي ناموس إدارة المعلومة وتقنية السيطرة على أجزائها وفنية تقديمها بصدقية وواقعية، مع تركيز على قيمتها الخبرية والدلالية، وتجاهل للخبر الضاغط والملتبس، والبقاء على حذر من نقل أو التعامل مع الشائعة الإختبارية التي تكون بمثابة فخ للإيقاع بالإعلامي والنيل من صدقية الوسيلة، والتي غالبًا ما تشيع في ظروف القلق والإضطرابات.

إن ضواغط الحالة الحربية تفرض على الصحافي التقيد بأخلاقيات المهنة وناموس العمل الإعلامي الميداني وغالبًا ما تؤثر على مهنية الإعلامي المبتدئ وغير ذي الخبرة، وبالتالي تتحول النقيصة المهنية إلى ضرر يلحق بالجمهور وينال من رصيد الوسيلة، ويصبح الخطأ خطيئة.

كما أن حق الإعلامي بالملكية الفكرية والفنية للصورة، يضعه بمواجهة الحقيقة وحمايتها وكيفية تحصينها وتقديم الإقناعات المرافقة لعناصرها، مع ما تتطلبه الفنية التحريرية من إتقان لصناعة العنوان الموضوعي والإختزالي، والعنوان الرقمي والعددي وأصول إستخدام النِسَبِ في الإخبار.

ويترافق مع ذلك، وجوب حرص الإعلامي الميداني على التأكُّد من مرجعية الخبر المنقول والتفريق بين المعلومات الأولية والمعلومات النهائية، مع مراعاة تأثيرات الوضع الأمني على مشاعر وأعصاب الإعلامي الميداني في أثناء النقل المباشر والذي يكون أمام الموازنة بين مردود الخبر على المؤسسة ومعنويات الناس، التي لا تقاس بحسب مردود الصورة الخبرية ولا بنتائج الفرصة التي أتاحتها له ظروف الميدان ارتكازاً على ثلاثية واقعية الميدان وأزمة الضمير العالمي ومأزومية القانون الدولي، تتكاثف التحديات التي تعترض مهام الإعلام الميداني في ساحات القتال وجبهات المواجهة، لتشكل مجموعة من الطروحات والأفكار التقويمية المساعدة على تظهير مشهديات الحرب بدقة تفاصيلها وكل أبعادها، ما يوفر للناقد المستعلم تكوين قدرة معرفية تمكنه من رسم أطر التقويم وتقديم الأفكار التي تسهم بإعداد مراسلين متخصصين بمواكبة الأحداث الحربية وتغطية مراحلها وتقديم قراءة هادئة لها بحرفية موصوفة ومسؤولية عالية.

إن مقاربة عقيدة الإعلام اللبناني في أزمنة الحروب هو موضوع شديد الإلتزام وعميق الإنتماء ويستجيب لمتطلبات المرحلة الميدانية المواكبة للتضحيات المُحْرَقَة، حيث البسالةُ تحكي، والدم يُؤرِّخُ الإستشهاد، والبطولةُ تفرضُ وضعيتها بعناد، لنقولَ: إنَّ إعلام ما قبل حرب لن يكون كما بعدها، على صعيد التعامل الإعلامي مع القضايا الوطنية في زمن النزاعات، حيث لا مكان للحياد في منطق الالتزام. وهذا ما يفرض تناول إعلام الحرب بكل فنونه، المباشرة والمدونة والمحللة والمصورة والموثقة، من مناظير مختلفة المستويات، ووِفقَ تحديداتٍ على مقاساتِ عقيدة الفكر الجهادي والنضال الإيماني والمقاومة الوطنية، وكرامة المقدسات وإلإفتداءات البطوليةِ المنسوجةِ راياتها بدفء الإيمان، والمتقويِّة رماحها بالقيم الروحية وسلوكات المواطنة الحقة.

في تقويم عملية النقل الميداني المباشر لإعلام الحرب تبرز إشكالات عدة على المستوى الإعلامي والأكاديمي والمهني، وأبرز توصيفات مُحْدَثة لمفاصل الحروب الإعلامية وفنونها، من نقليات الصورة الفيلمية المباشرة، إلى رصانة نشر الخبر وأصول التغطية المُحكمة الضبط على إيقاعات الميدان وبراعة التعليق، وصولاً إلى فن التحليل، الذي هو أبغض الحلال في إعصاراتِ القتل والذبح والقصف وتدمير البيوت على الرؤوس. إذاك يكون الكلام للصورة، ولها وحدها حقُ إصدارِ الحكمِ بإسم الإنسانية من على قوس محكمة القيم، مهما ضعفتِ العدالة وخفَّ منسوبُ العدلِ وإختفتْ نسبيةُ الإعتدال.


غالبًا ما تتحدد رزم ضحايا المجازر والإبادات، بأن الضحية الأولى، هو القانون الدولي ومعيارية تطبيقه، إذ يكون في بعض الأحيان أخرس من الصخر؛
والضحية الثانية، هي الضمير العالمي الرسمي، لا الشعبي، الميتُ من زمان، والساكتُ عن الحق ولمّا يزَلْ واقفاً على رأسه غرابٌ أدمسُ من قهر الظلم الأكبر وأعتمُ من ليلِ الجُرْم الأفجَر؛
وثالث الضحايا، هو الصمتُ الدولي الرسمي عن إجراماتِ القتل والقصف والسحل والتدمير والإبادة المجزرية بحق الإنسانية، وكأن المدن متروكةٌ للغُزاةِ، أو كأنها ساحاتٌ لإختبارات الأسلحة الإبادية.

مشهدياتُ دمٍ، وفصولُ حروبٍ تتوالى ولَيسَ من رادعٍ عن الشرّ، ولا من قائل بهدنة، ولا من نيَّةٍ لإسدال الستارة، للإعلان عن انتهاء فيلم الرعب الطويل، حيث الميدانُ واقعي، والضحايا حقيقيون، والركاماتُ تنطقُ، والاستشهاداتُ تُسجَّلُ في ديوان الذكرى للذكرى.

وأثبتت لغةُ الصورة وسلاحُ المشهد المباشر، إنهما الأبلغُ والأجرأُ والأفعلُ، في تكوين حالة التضامن الشعبي وصناعة الالتفاف المجتمعي العالمي حول إدانة بشاعات الحرب وتأكيد حق الشعوب بالحياة والسلام.
وسؤال المرحلة الذي يُطرح بإلحاح يتركز حول: أيُّ تفاضلية لإعلامٍ حرب الأقوى على الأضعفِ، سلاحاً ومقومات؟
تنسلُّ من هذا السؤال قضيةٌ محورية، هي في صلب تكوين إعلام القضايا والأزمات والنزاعات، ركيزتُها، هَلْ للإعلام اللبناني الرسمي، على إمكاناته الضئيلة، والإعلام الخاص رغم قدراته الواسعة، هل لهذا الإعلام عقيدة؟ وتجوُّزاً أقول؛ هل كان له عقيدة؟ الوضعُ الحالي يُظهرُ أن للإعلام اللبناني، بكل مؤسساته موقف معتبر نأمل أن يتطور إلى عقيدة إنسانية وقومية ووطنية تلتقي عفواً وبإرادةٍ طيبة على نصرة الحق جهراً وإدانة المعتدي صراحة، بلا تجميلات ولا محسناتٍ لفظية، مستخدمين مصطلحات تناسب المرحلة وتتوافق مع قاموس إعلام الحرب والإلتزام.

فالإعلام اللبناني منذ نشأته صحافياً وتأسسه إذاعيًا وتألقه تلفزيونيًا، أثبت أنه إعلامُ قيم ومواقف، وأنه قبل أي شيء هو إعلام لصيقٌ بالحرية، تظهيرًا لها تبشيراً بها ودفاعاً عنها.

وهذا موقفٌ مُقدَّرٌ وجهدٌ مُعتبَرٌ للمؤسسات الإعلامية وللإعلاميين اللبنانيين الذين يناضلون على خط النار ويستشهدون دفاعاً عن الحقيقة ويؤسسون لنهجٍ واضح من فنون «إعلام اللحظة الساخنة» بأعصاب هادئة وإندفاعية موصوفة مرتكزة على جرأة المشاركة الميدانية، وإحترام أساسيات «الموضوعية الواقعية»، ورصانة النقل الشارح، ودقة الملاحظة والابتعاد عن التنبوء القاتل للمعنى والمسيء لشرف المهنة.

وتقويمًا للاعلام الكلاسيكي المطبوع والإذاعي والتلفزيوني، فإن مَنْ يراقب للحالة ويتابع التطورات لا بد أن يحتكمَ إلى اصول صياغات الإعلام ووضوح خطه، والتعامل معه كمنظومة قيم خبرية ملتزمة ومتزنة، يُحكمُ لها تقديراً، ولا يُحكَمُ عليها جوراً. من دون إسقاط دور المواقع الإعلامية الالكترونية الجادة وذات الشخصية الحرة التي لها طبيعة مؤسساتية نظامية، فضلاً عن منصات التواصل والإعلام الإكتروني الشخصي، حيث كل فردٍ أصبح مُعلِماُ ومُعلّقاً وناشرَ رأي. وكلها قدرات إعلامية، تكاملت مهنيا ومادياً والتزامًا وطنيًا لتصوغَ إعلامًا لبنانيًا ذا «عقيدة إنسانية» ووطنية قاعدتها السيادة والحرية والكرامة. ما يثبت أن كرامة الإعلام من كرامة القضية التي يدافع عنها، وقيمته من قيمة العقيدة التي ينطق باسمها ويرفع بيرقها.

وإعلام الحرب اللبناني، وتحديدًا إعلام الجبهات ودور المراسلين، هي مهمة مهنية تنطبق عليها شروط ومواصفات المهمة العسكرية، من حيث دقة فنيّة التراسل وإتقان فنِّ التقاط اللحظة وتوظيف الكاميرا وإستصراح الشهود العيان الذين غالبًا ما يتحولون إلى شهداء عيان ينطقون ويلفظون ويوقعون محضر استشهادهم مباشرة على المحطات التلفزيونية والفضائيات، كأبلغ دليل على السَكْت الدولي وأدمَغِ إثبات لوقوع الجرم المُنّظَّم.

الإعلاميات والإعلاميون الشباب على الجبهات، كلهم مشروع شهداء، والخوف الدائم عليهم ينطلق مما عرفته في خلال عملي الصحفي كمراسل تجريبي لمرة يتيمة، من وجوب توفير التأهيل المهني والخبرات اللازمة والثقافة القتالية التي تمكن المراسل، على الجبهات وخطوط النار من معرفة أنواع الأسلحة المستخدمة ومفاعيلها وقدراتها تقريبياً، وبما يمكنه من تقديم معارف شارحة تساعد الجمهور على تبيُّنِ حقائق الأمور ومعرفة ما يجري من أحداث. إنها مواصفات المراسل الحربي، المتخصص والخبير والمتابع والمطلع، والذي تجتمع فيه قدراتُ فريق عملٍ كامل يوازن في المعرفة بين الثقافة التخصصية والخبرة المعرفية التي يكون اكتسبها في خلال خدمته ووظيفته.
فهل إعلاميونا المراسلون محميون أمنياً ومحصنون مهنياً ومزودون معرفياً بالمعاهدات والقوانين الدولية وبنود اتفاقات الهدنة وقراءة الخرائط الميدانية؟ وهل يعرفون حقوق المراسل الحربي وواجباته ومضامين المواثيق الناظمة لرسالتهم والمحددة لدورهم، بما يمكنهم من نجاح مهمتهم الميدانية والوقاية من الخطر، أم أنهم مغامرون اختباريون ومبادرون ومشاريع ضحايا؟

في التقويم التخصصي والمقارنة المهنية، فإن بعض المؤسسات الإعلامية الدولية تعتمد مراسلين حربيين من ذوي الخبرة والخدمة العسكرية، لأنهم الاقدر على توصيف حركة الميدان وتقديم معلومات حول مجريات المعارك وأنواع الأسلحة وتصنيفاتها، ما يضفي على العمل خبرة تخصصية وثقة موضوعية، هي اكثر ما يحتاجها المستعلم المتابع. وهذا واضح بين طواقم المحطات الدولية والمحلية. فالمحطات والفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، يعتمدون الاحتراف الميداني العسكري لتشكيل فريق عمل التغطية مع لحظ كبير للقدرات المادية اللازمة، في حين أن إعلاميينا يعملون جاهدين، مكلِّفين انفسهم بإندفاعية مقدّرة للقيام بالمهمة بعزيمة وتضامن وطني صحيح، مسجلين خطوات مشكورة في صناعة السبق الإعلامي وتحقيق إنجازات في إعلام الجبهات.

إنّ الاحتكام إلى منطق الامور يحرضنا على تقدير الإعلاميين اللبنانيين على الجبهات، وشكر المؤسسات الاعلامية والصحافية، التي اثبتت بصراحة مشهودة أنه في زمن الشدة والأزمات، يكون صوتها واحدًا، وصورتها واحدة وشاشاتها واحدة وحبرها واحدًا.

إنه لبنان. إنه تراثنا الصحافي وناموسنا الوطني ومسارُ إعلامنا مع الحرية والموقف الجريء، ومسيرة الدفاع عن الحق، بإندفاعية رسولية مُثبتة، بالعلم والخبر والصورة، وبإتباع المعايير الخلقية لإستخدامات الصورة، مع تركيز على إنسانية الصورة ومحتوياتها، وإحترام كرامة الموت، وعدم انتهاك حرمات جثث الضحايا لتوظيفات لخدمات اللحظة الساخنة التي تفرض تقنيات استثمارها بعيداً عن الإساءة إلى ضحايا الحروب ومشهديات الميدان .!

إن إعلام الحرب يجب أن يتوافق بتقنيّاته وأهدافه مع التحضيرات الموازية لإعلام السلام. مع التأكيد أن إعلام السلام الذي يصنع (على البارد) يستوجب وضع مخططات استراتيجية، هي أصعب وأكثر دقة من إعدادات إعلام الحرب الذي يصنع (على الساخن) ويكون وليد اللحظة وأسير ضواغط الميدان ومحكومًا بظروف المعارك.

لعلَّ أصعب أنواع الإعلام دقةً وتطلباً للإحترافية وثقافة الحوار والبعد القيمي والإنساني، هو (إعلام السلام) الذي لم يتم وضع خارطة هندسية لبنائه وفق معايير محددة تتوافق وظروف النزاعات وحدة الأزمات وإشكالياتها المعلنة وتلك المسكوت عنها، بقصد تضليلي أو عن جهل مقصود، وعن قلة معرفة، أو لأن (إعلام السلام) زيائنه قليلون، ورعاته نادرون !

العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، في أبعاده الميدانية، والقانونية، والإعلامية
التزوير والإنحياز والتقصير

حين أخرج الطفل، إبن الأعوام الستة أو السبعة، من تحت أنقاض منزل أسرته – وكم كان محظوظاً على عكس آلاف الأطفال الذين قضوا تحت ركام المنازل والمستشفيات والمدارس – تطلّع حوله ذاهلاً، قال: هذه عن جدّ أو لعبة!

نعم (يا حبيبي)، هذه «عن جد» للآلة العسكرية الإسرائيلية، لكنّها كما يبدو «لعبة» لدول الكوكب قاطبة: كلّ الحكومات، معظم وسائل الإعلام المعولم، وبخاصة الشبكات الكبرى (وفي طليعتها الـ CNN والـ BBC) التي تنقل عنها غالب الشبكات الإخبارية في العالم، فيما الرأي العام مغلوبٌ على أمره، وليس في يده أكثر من التظاهر ورفع الشعارات المندّدة بالتوحّش والتغوّل والحقد والرغبة الجارفة بالإنتقام من المدنيين في غزة التي أظهرها ردّ الفعل الاسرائيلي على عملية 7 أكتوبر 2023 العسكرية.

لكنّ ملاحظة بسيطة لطبيعة الرّد الإسرائيلي الوحشي على عملية 7 أكتوبر تظهر أن التغوّل الإسرائيلي هذه المرة تجاوز مستويات اعتداءاتها السابقة على القطاع والضفة الغربية وجنوب لبنان.

لقد بدا بوضوح أنّ الهجوم الحالي المستمر منذ أكثر من شهرين ونصف على القطاع لم يستهدف المقاتلين، إلّا بالنزر اليسير؛ فاستهدف ودمّر دون هوادة كلّ ما هو حيّ أو يخدم الأحياء في القطاع: إمدادات مياه الشرب، شبكات الصرف الصحي، البنى التحتية، المنازل (أكثر من خمسين ألف منزل حتى الآن)، عشرات المستشفيات، مئات المدارس، الأسواق التجارية، وسائر مظاهر الحياة في القطاع.

لكنّه أكثر من ذلك استهدف مباشرة هذه المرة وعلى نحو ممنهجٍ لم يتوقف، أطفال غزة !
بدا الأمر وكأنّه طقسٌ وحشي – خرافي ينفذّه مجانين مسكونين بأحقاد وأساطير بائدة ضد الشعب الفلسطيني، بهدف الإبادة المباشرة، الهدف القريب؛ «وقطع نسل» هذا الشعب في المستقبل، ما أمكن، فأطفال اليوم هم رجال الغد. ولطالما حذّر المتعصبّون في اليمين الإسرائيلي من الفارق الديمغرافي الذي يتعاظم بين أعداد المستوطنين اليهود من جهة والفلسطينيين من الجهة المقابلة.

بدا الأمر وكأنّ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن ، والمسكونة بعقل أسطوري خرافي، تستعيد حرفياً الإبادات التي جرت غير مرّة لليهود منذ ثلاثة آلاف سنة، وصولاً إلى المحرقة النّازية في أواخر الحرب العالمية الثانية، والتي لا يد للفلسطينيين فيها، بل هم كانوا مثل اليهود ضحايا الإحتلالات والإبادات بهدف التهجير، بل أكثر منهم.
تنفذ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن على أطفال قطاع غزّة نموذج أفران الغاز التي نفّذها النازيون بحق اليهود في ألمانيا – والتي أحسن العقل الصهيوني الإستثمار فيها لإجبار الحكومات الغربية، والألمان خصوصاً، على التصرف دائماً من موقع عقدة الذنب حيال إسرائيل، فكانت التعويضات المالية الخيالية وإمدادات السلاح الأحدث في العالم، وتأييد إسرائيل في كل مناسبة كما حدث، بعد عملية 7 أكتوبر.

تناسى هؤلاء أنّ الفلسطينيين ضحايا، بل ضحية الضحية، وفق تعبير المفكر الفلسطيني إدوار سعيد؛ فإذا الضحية الأولى (اليهود) تنفّذ في ضحيتها الآن (الفلسطينيين) من صنوف العنف ما لم تستطعه مع الجلاّد! المحرقة التي حدثت لليهود في أوروبا الغربية،على بعد 5000 كيلومتر من فلسطين، لا تُمحى بالمحرقة الجارية الآن بحق الفلسطينيين!

وفيما لا نستطيع تبرير أي اعتداء على المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء، تناسى العقل الغربي أنّ التوغّل الفلسطيني في غلاف غزة كان صرخة في وجه التجاهل الطويل لمطالب مليوني مواطن سجنوا في قطاع من الأرض لا تزيد مساحته عن 360 كيلومتراً مربعاً مطالبين بالعيش الكريم وفي رفع الحصار الظالم والأوضاع المعيشية المستحيلة التي لا تتحمله جماعة أخرى على وجه الأرض!

تجاهل العالم الغربي، وليس إسرائيل فقط، معاناة شعب بأكمله، فغدا كما قال مواطن من غزّة، بكل أسى، «عالم أعمى، أصم، أخرس»!

تلك هي معاني «محرقة غزة».
لا يملك الفلسطينيون، بالتأكيد، التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق؛ لكنّهم يملكون شرعية التمسك بأرضهم، وشرعية المقاومة، التي كفلتها القوانين الدولية، الوضعية والأخلاقية.
المحرقة الجارية لم تمنح إسرائيل أي حق إضافي، بل عرّتها أخلاقياً وسياسياً!

هذه محرقة ظالمة، بكل المعايير، ولا يجب أن يقبل بها أي ضمير أو صانع قرار.
وهي فوق ذلك استهتارٌ بالقوانين الدولية (ومتى احترمت إسرائيل، وهي دولة مارقة، القوانين تلك؟). مع ذلك يبقى واجبنا التذكير بها.

هذا هو الإطار العام لملف العدد المتمحور حول العدوان الوحشي الجاري بحق مواطني قطاع غزة في فلسطين.

أحداث غزّة فضحت الدول الديمقراطية… ليس هذا هو الغرب الذي نعرفه
الإنتهاك الصريح للقوانين الدولية

شكَّلت الأحداث المأساوية الأليمة التي حصلت في قطاع غزة وفي جنوب لبنان وفي الضفة الغربية في الربع الأخير من العام 2023؛ امتحاناً في غاية القسوة للديمقراطيات الغربية، وللدول الكبرى الأخرى. غالبية هذه الدول سقطت في الإمتحان، وبدت على واقعة نقيض مع ما تُعلنهُ، وهي تُمارس سياسة الكيل بمكيالين، حيث تقف الى جانب المُعتدي وتضطهد صاحب الحق استناداً إلى زبائنية مصلحية أو عقائدية غير مبررة. والمؤسف أن هذه الدول تنادي بإحترام حقوق الإنسان، وتطالب بالإلتزام بالقانون الدولي وبمعايير المساواة والرأفة والعدالة، وبحق الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية او العرقية او القومية او القارية؛ بالحياة وبالحفاظ على تراثها الثقافي والتاريخي، وبالعيش الكريم محفوظي السلامة الجسدية مع مُوجب أن يتأمن لهم سُبل الإستمرار.

غالبية حكومات الدول الغربية الكبرى – لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا – أشهرت انحيازاً غريباً الى جانب العدوان الوحشي غير المسبوق الذي شنَّته قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، ولاقى موقف هذه الدول استهجاناً لدى مئات الملايين من الناس الذين شاهدوا القتل العَمد للأطفال وللنساء وللعجزة، ورأوا الدمار والخراب الذي طال المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومنازل المدنيين، من دون أن يكون هناك أي مبرر لإستهداف هؤلاء العُزَّل الذين لا ناقة لهم بما جرى ولا جمل، بشهادة الهيئات المحايدة التابعة للأمم المتحدة والجمعيات الإنسانية الأخرى، الذين أعلنوا جهاراً: أن الذي حصل في قطاع غزة لم يشهد له التاريخ مثيلاً من قبل، حيث قُتل المرضى على أسرتهم عمداً، وتمَّ ترك الأطفال والنساء من دون طعامٍ ولا شراب ولا مأوى لأيام، كما بقيت جثث الشهداء على الأرض وتحت الأنقاض لمدة طويلة، ولم يتمكن المعنيون من دفنها وفق الأصول والتقاليد المرعية بسبب القصف العشوائي واطلاق النار على فرق الإسعاف الصحية وعلى مجموعات المتطوعين للقيام بالأعمال الإنسانية.

الدعاية الصهيونية سارعت الى تعميم مشاهد مُزورة وغير صحيحة عن عمليات ذبح للأطفال، قام بها المقاومون الفلسطينيون ضد مدنيين يقطنون في مناطق محتلة في محيط قطاع غزة، او فيما يسمى «بغلاف غزة»، وقد يكون هؤلاء المقاومين تجاوزوا حدود قواعد المقاومة في عملياتهم المشروعة التي حصلت ضد مقرَّات عسكرية كان فيها مدنيين، او أن ذُعر قوات الاحتلال الإسرائيلي مما جرى ليلة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ أدى الى سقوط عدد من الإسرائيليين غير العسكريين في المواجهة. لكن الدعاية الغربية التي تعاطفت مباشرةً مع رواية المحتلين؛ تجاهلت كل المعطيات المحيطة بالحدث، وتعامت عن كون ما حصل مقاومة مشروعة تقرُّها القوانين الدولية لفلسطينيين طُردوا من أرضهم، وهم يعيشون في سجنٍ مُطبق داخل جدران مُحكمة بناها الاحتلال الإسرائيلي، وحرم أصحاب الأرض من العيش بكرامة في وطنهم الأم فلسطين الذي ورثوه عن أجدادهم منذ مئات السنيين كما كل شعوب الأرض.

ردة فعل العدوان الإسرائيلي على عملية 7 أكتوبر؛ لم تكُن متناسبة مع حجم العملية البطولية للفلسطينيين، بل كانت حرب إبادة فعلية طالت الحجر والبشر بهدف دفع أبناء غزة الى خارج القطاع، وتهجير مَن تبقى منهم على قيد الحياة مرة ثانية من أرضهم الى مصر او الى الأردن او غيرهما. وهذا الفعل الإسرائيلي المتوحِّش؛ لم يكُن ليحصل لولا الدعم الذي لاقاه قادة «إسرائيل» من الدول الغربية الكبرى، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية التي أرسلت أساطيلها البحرية لمساندة العدوان، وكذلك المانيا التي تمادت في تأييد عمليات القتل التي قام بها الإسرائيليون، ومثلهما فعلت بريطانيا وبعض المسؤولين الفرنسيين. وقادة هذه الدول تراكضوا لزيارة إسرائيل وتقديم الدعم لها وتشجيع عدوانها، بينما كانت مشاهد القتل والتدمير التي ترتكبها إسرائيل تملأ الشاشات وتستثيرُ المشاعر.

– لماذا اتخذت الدول الغربية هذا الموقف؟

مراقبة تصريحات المسؤولين في هذه الدول، وتحليلات قادة الرأي الذين يدورون في فلك الحكومات المعنية؛ توضِّح بعض الدوافع التي تقف وراء موقفهم الصَلف. فجزء من الأسباب وراءها طموحات انتخابية، ويرى هؤلاء المعنيون: أن الحركة الصهيونية، وحراك «المسيحيون الجُدد» لديهم قدرة على تجيير أصوات تفيدهم في استحقاقاتهم القادمة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية التي تتحضَّر للإنتخابات الرئاسية التي يتنافس فيها الرئيس الحالي جو بايدن مع الرئيس السابق دونالد ترامب أو غيره من مرشحي الحزب الجمهوري. وواشنطن أجرت اتصالات مع حلفائها الغربيين، لاسيما مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ومع المستشار الألماني أولاف شولتز ومع رئيس وزراء بريطانيا – الهندوسي الأصل – ريشي سوناك وطلبت منهم مساندة إسرائيل، بحجة أنها مهددة، وقد تتعرِّض للزوال إذا لم يقف الغرب معها، على حد ما تمَّ تسريبه من المحادثات السرية التي جرت بين القادة الغربيين بُعيد وقوع العملية في غلاف غزة.

وبعض المعلومات التي ذكرتها تحليلات صحفية نشرت في دول غربية؛ تقول أن غالبية قادة هذه الدول مقتنعون: أن الشعوب العربية والإسلامية تكره الغربيين، وإذا ما تعرَّضت إسرائيل لأي هزيمة، سوف يؤدي ذلك الى إيصاد أبواب الشرق الأوسط والبلاد العربية وغالبية الدول الإسلامية في وجه النفوذ الغربي، كما تصبح الممرات المائية الدولية التي تربط العالم ببعضه مع البعض الآخر عن طريق بحور الشرق الأوسط؛ بخطر (ودائماً برأي هؤلاء). ووجود إسرائيل وبقاؤها قوية يشكل ضمانة لسياسة الدول الغربية ولإستثماراتهم وفق ما يقولون. لكن هذه التحليلات ليست صحيحة، وهي مبنية على دعاية تحريضية «صهيونية» سبق أن فعلت فعلها في تشويه صورة العرب والمسلمين لدى الغرب من خلال الصاق تهمة الإرهاب والتخلف بهم عن غير وجه حق، وحمّلوهم مسؤولية عمليات شنيعة وارهابية غالبيتها مدبرة من جماعات رعاها الغرب؛ لتأليب الرأي العام ضدهم. ولا تعني عدم صحة هذه الرؤى أن مشاعر الودّ بين شعوب هذه الدول والغرب على أحسن حال، ذلك أن الترسبات الأليمة الناتجة عن مرحلة الإستعمار؛ ما زالت تفعل فعلها في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية، لكن هؤلاء تجاوزوا غالبية المحطات السوداء في تاريخ العلاقة مع الغرب، ولولا امتعاض هذه الشعوب من دعم غالبية الغرب لإسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني؛ لكانت العلاقة بين العرب والغربيين على أفضل حال، نظراً لواقع الجيرة الجغرافي بينهم، واستناداً الى خاصية التقارب في لون البشرة وفي بعض العادات، ولما للثقافة الغربية (الفرنكوفونية والإنكلوفونية) من تأثير عند الكثيرين من شعوب الدول العربية والإسلامية.

وبدل أن يساهم وجود دولة إسرائيل التي أنشأتها بريطانيا منتصف القرن الماضي – في أهم منطقة من العالم – في تعزيز مكانة الدول الغربية في هذه المنطقة؛ أدى ذلك الى اثارة مشكلات متعددة لم تكُن موجودة في السابق بين هؤلاء وبين العرب والمسلمين الذين يتعاطفون مع اشقائهم الفلسطينيين الذين اُغتصِبت أرضهم، كما أن غالبية من المسيحيين الشرقيين وبعض الكنائس الغربية ترى أن إسرائيل تحتل المقدسات المسيحية في فلسطين كما تحتل المقدسات الإسلامية، وتحديداً في مدينة القدس ومحيطها. ولا ترى الأكثرية من شعوب المنطقة على تنوعها العرقي والديني والثقافي؛ أي مبرر للمواقف الغربية الداعمة لإسرائيل، سوى بهدف تعزيز مكانة قادة غربيين يحتاجون لمساعدة الحركة الصهيونية التي تتمتع بنفوذ واسع في الولايات المتحدة الأميركية وفي الدول الغربية، وظهور حراك «المسيحيين الجُدد» المتعاطفين مع اسرائيل في الغرب، هو وليد دعاية صهيونية تستند الى ميثولوجيا غير صحيحة، حيث يرى هؤلاء أن وجود إسرائيل ضروري كمؤشر على حصول استحقاقات تاريخية، لكن هذا التفسير ليس له أي أساس واقعي او منطقي لدى المراجع الإسلامية او المسيحية الرسمية.

موقف الدول الغربية من العدوان على غزة؛ أدى الى تداعيات واسعة. ودعم هؤلاء العسكري والمالي والإعلامي لإسرائيل أحدث خدوشاً سياسية وإنسانية لا يمكن تجاهلها، وهذه لن تكون في مصلحة الدول الغربية في المستقبل.

– كيف تراجعت سمعة دول الغرب من جراء مواقفهم من العدوان الإسرائيلي الأخير؟

يمكن الإشارة اولاً الى أن بعض الدول الغربية، وجزء واسع من المواطنين في هذه الدول؛ لم يقفوا الى جانب إسرائيل في عدوانها الأخير، وفي هذا السياق جاء الموقف المتوازن لحكومات اسبانية وبلجيكيا وإيرلندا والنروج على سبيل المثال لا الحصر، وشريحة واسعة من الرأي العام في غالبية الدول الغربية الكبرى تفاعل ايجاباً مع حقوق الشعب الفلسطيني كما لم يحصل من قبل، وشارك عدد كبير منهم بمظاهرات حاشدة تستنكر العدوان الإسرائيلي وتدعوا لوقف المجازر التي ترتكب بحق المدنيين في غزة. وقيل أن المسيرة التي حصلت في لندن لهذا الهدف التضامني؛ غير مسبوقة في تاريخ المدينة، وشارك فيها ما يقارب مليوني شخص، ومثلها حصل في مدينة برلين الألمانية وفي لوس انجلس الأميركية وفي باريس وغيرهم من المدن الأوروبية والأميركية. وفي هذه التحركات مؤشرات إيجابية على حرص قوى ومجموعات غربية – حتى داخل الأحزاب الحاكمة – على الديمقراطية بمفهومها العصري، وعلى حقوق الإنسان، وهي تمرُّدت على الفرضيات التي تروِّج لها الدعاية الصهيونية والتي تعتبر كل مَن يعارض سياسة إسرائيل «معادٍ للسامية» والواقع أن تصرفات الإحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين، والتمييز العنصري والعرقي الذي تفرضه سلطات الإحتلال؛ هي عداء فاضح للسامية بحد ذاته، وأبناء سام ليسوا اليهود كما تروِّج الصهيونية، بل هم العرب بالدرجة الأولى والكنعانيون والعبرانيون. وقد ساهمت وسائل التواصل الحديثة هذه المرة في الإضاءة على واقع الأحداث، وبيَّنت منافسة جدية لوسائل الأعلام الغربية الموجهة بغالبيتها، والتي تخدم سياسة الحكومات الغربية المنحازة، وفضحت هذه الوسائل تقصير الغرب – لاسيما الولايات المتحدة الأميركية – في السعي الجاد لحل سلمي للقضية الفلسطينية وفق القرارات الدولية. وقد قدمت القمة العربية في بيروت عام 2002 مبادرة إيجابية وفيها تنازلات مقبولة، وتقضي بحل الدولتين، والأرض مقابل السلام.

اما على ضفة الحكومات الغربية التي دعمت العدوان الإسرائيلي وشجعته على التنكيل بالفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وفي جنوب لبنان؛ فقد تأكد أن موقفها يتناقض مع غالبية الشعارات التي ترفعها، لاسيما فيما يتعلق بحرصها على حقوق الإنسان وعلى القوانين الدولية ذات الصلة. وتشوَّهت صورة هؤلاء لدى غالبية من الرأي العام العالمي، كما انكشفت ادعاءاتهم عند الشعوب العربية والإسلامية على وجه التحديد، كونهم يمارسون ازدواجية معايير تعتمد على تصنيف عنصري للناس، بحيث أنهم ينظرون الى حياة الإسرائيليين او الغربيين كأنها تسمو على حياة المواطنين الآخرين – لاسيما الفلسطينيين – وبينت مواقف قادة الدول الغربية الكبرى؛ أنهم حريصون على منع أي إساءة ضد المدنيين في إسرائيل، بينما يتجاهلون عمداً الإعتداءات الوحشية التي تُمارس ضد الفلسطينيين، وهذا ينطبق على المعتقلين او السجناء ايضاً.
وانكشفت ادعاءات هؤلاء القادة الغربيين الذين ينشدون الدفاع عن القوانين والأعراف الدولية، خصوصاً على القانون الدولي الإنساني الذي يجب أن يُراعىَ إبان الحروب العسكرية، بينما في الواقع تجاهلوا انتهاك إسرائيل لهذه القوانين، ولم يقدموا على إدانة تعرضها للطواقم الطبية ولسيارات الإسعاف، ولدخول قواتها الى حرم المستشفيات بعد أن دمرت العديد منها على رؤوس المرضى والمُحتمين فيها، بمن فيهم طواقم الهيئات الدولية التي تقوم بإعمال الإغاثة الإنسانية، ولم يسمع الرأي العام استنكار من قبل هذه الحكومات للأفعال الإجرامية التي ارتكبتها إسرائيل، بل تلهّى بعض قادة الغرب بالحديث عن التقديمات الإغاثية المحدودة التي خُصصت من دولهم للمنكوبين، وهي لا تقارن بالمبالغ الطائلة التي يقدمها هؤلاء كمساعدات عسكرية لإسرائيل، بحيث أقرت الولايات المتحدة الأميركية وحدها تقديمات لها للعام القادم بما يزيد عن 10 مليار دولار، ولولا منح هؤلاء الأسلحة الفتاكة لإسرائيل، لما استطاعت هذه الأخيرة ارتكاب الفظائع بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم.

تضررت صورة الغرب على شاكلة واسعة من جراء ما حصل في فلسطين مؤخراً، وتأكد بوضوح أن هذا الغرب الذي عمل جاهداً لإرساء قواعد القانون الدولي، وأسس للإنتظام على المستوى العالمي وفقاً لمعايير موحدة؛ يتجاهل تطبيق هذه المعايير، او أنه يريد تطبيقها في مكان ويتجاهل انتهاكها في أماكن أخرى. ويمكن ذكر مثال على هذه الوقائع؛ ما حصل في المدة الأخيرة، بحيث تحركت محكمة الجنايات الدولية الدائمة فوراً ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأصدر مدعي عام المحكمة مذكرة توقيف دولية بحقه – وهو رئيس دولة كبرى – بتهمة انتهاك حقوق أطفال اوكرانيين نقلتهم سلطات موسكو الى روسيا وابعدتهم عن ذويهم، بينما لم تحرِّك المحكمة ذاتها ساكناً ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم حرب موصوفة ضد الفلسطينيين، بما في ذلك قتل ما يزي عن 8000 طفل، وليس سراً، بأن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة تتأثر بنفوذ الدول الغربية الكبرى، ويخاف قُضاتها وموظفيها من عقوبات قد تفرض عليهم من قبل سلطات الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية الأخرى، وبدت المحكمة كأنها تكيل العدالة بمكيالين مختلفين.

لا يُحسد الغرب الذي ساهم في إغناء الحياة البشرية – بإبتكاراتٍ علمية وحضارية وقانونية فائقة الأهمية – على موقفه من التداعيات التي عكستها الأعمال الإجرامية التي حصلت بغطاء من هذا الغرب ضد الفلسطينيين. والمستقبل يؤشر الى تطورات تدفع العرب والدول الإسلامية والشرقية عامةً على تجاهل هذا الغرب، والشعوب التي تطلّعت اليه كسند وعضد للبشرية ضد البدائية التي هشَّمت بالناس، وقدَّمت الكثير منهم ضحايا اضطهادات عنصرية وطائفية وجهوية؛ خاب ضنها من مواقفهم الأخيرة. وعودة الغرب إلى التصرُّف بتهوُّر وبإنحياز؛ يشبهان العودة الى ما حصل إبان مرحلة الإستعمار ويخفيان حنيناً له، وسيشكل ذلك خسارة موصوفة لهذا الغرب، ويساهم في تراجع مكانته بين أمم الأرض، وهذه الأمم التي تفاعلت بمعظمها مع التطور الذي حصل في العالم، لاسيما مع ثورة التواصل والتكنولوجيا الحديثة؛ لن يستسلم لمقاربات استعمارية جديدة، ولن يخضع لنيّر الإستغلال والإستعباد من جديد.

السردية الإعلامية لحرب غزّة الجارية: الانحياز الإعلامي الغربي الفاضح!
التزوير والإنحياز والتقصير

الكلام على التزوير الإسرائيلي صحيح، لكنه لا يفاجئنا، ولا يتضمن جديداً. لكن المفاجىء حقاً، إنما كان التبنّي السريع من الإعلام الغربي للسردية الإسرائيلية، إلى أقصى حد، ودون مراجعة أو نقد – رغم أن ذلك مفهوم أيضاً ويفسّر للمرة الألف طبيعة الكيان الصهيوني باعتباره منصة غربية استعمارية استيطانية في الشرق، وبخاصة في قلب العالم العربي.

المفاجىء حقاً هو التخلي السريع من أهم شبكات الإعلام التلفزيوني الغربي عن أبسط قواعد الإعلام المعروفة، والمكرسة في مدوّنات ملزمة أخلاقياً ومهنياً وأحياناً قانونياً لكل أداة إعلامية. كلها اختفت في لحظات، لأن الموضوع إسرائيل! على عتبة مصلحة إسرائيل (والعداء للعرب) تصبح كل المدونات الأخلاقية والمهنية، وعنواناها الحياد والموضوعية، في الخارج، ولا من يسأل عنها.

وهو ما حاولت متابعته في الأسابيع الستة الماضية، مكتفياً بمتابعة لصيقة لتغطية شبكتين عالميتين، CNN&BBC، (الأولى بنسبة عالية جداً، وربما كاملة، والثانية أقل، لكنها تكفي كعينة لما يجري عرضه عموماً.) وخطورة ال سي أن أن على وجه الخصوص تكمن في أنها الأضخم على مستوى الإمكانيات البشرية والتقنية، والأكثر سرعة وشمولية في إنتاج الأخبار وبثها عبر السواتل الفضائية، ما حوّلها مصدراً لمعظم الأدوات الأخبارية عبر العالم. أي ما تقترحه من سرديات يتكرر من دون تعديل غالباً في معظم تلفزيونات العالم ومصادرة الإعلامية.

من ملاحظات اللحظات الأولى التي أعقبت الإعلان عن طوفان الأقصى، أظهرت القنوات الفضائية الدولية (وخصوصاً السي أن أن) على الفور ومباشرة تبنّيها شبه التام للسردية الاسرائيلية الإعلامية «الرسمية»، وجرى التعبير عنها لا باعتبارها سردية إسرائيلية، بل باعتبارها سردية موضوعية تنقل ما حدث فعلاً. تخلّت ال سي ان أن ومثلها القنوات التلفزيونية الغربية لأيام وأسابيع عن قفازات الحرية الديمقراطية والموضوعية والتوازن والحياد – وهي قواعد تفاخر القنوات الغربية باعتمادها في نقلها للأخبار – فكشّرت عن أنيابها وأظافرها وقدّمت ما حدث في منطقة غلاف غزة، خبراً وصورةً، على النحو الذي تضمنته السردية الإعلامية الإسرائيلية: هجوم وحشي مسلّح على مدنيين مسالمين يحتفلون بالغناء والرقص طوال الليل على الشاطئ، أو على العجّز والأطفال في المستوطنات، مع صور الجثث على الشاطىء، دونما أي ذكر لسيطرة حماس على النقاط العسكرية الاسرائيلية، دون أن يتخلى مقدّم أو مقدّمة الأخبار عن هدوئه وصوته المنخفض وانتفاء أي مؤشر لانفعال على الوجه، مما يوحي بالجدية والحيادية إزاء ما يُقدّم من أخبار وصور.

لاحظنا على مدار الساعة مدى تكرار نقل قنوات الإعلام التلفزيوني للخطاب الإسرائيلي، من دون مناقشة، ولا نقد، ولا محاولة التعمّق أو التوسع أو الاستناد إلى مصادر مستقلة، أو نقد السردية الاسرائيلية بأي شكل من الأشكال، واحتمال الكذب أو المبالغة فيه.

منذ اللحظة الأولى، انضمّ إلى حملة التضليل التي قادها الإعلام الاسرائيلي، معظم قنوات الإعلام العالمي المعولم ( CNN, FOXNEWS, CBS, SKYNEWS, BBC, وسواها ). كيف غطّت القنوات الدولية تلك هذا الحدث الرئيسي الأبرز من دون شك، بدليل دفعه تطورات حرب أوكرانيا إلى المرتبة الثانية أو الثالثة؟ كانت المهمة التقنية للقنوات تلك جعل المشاهد حول العالم، وخصوصاً، الغربي «بلع» السردية الإسرائيلية بالكامل من دون نقاش، والتعاطف مع إسرائيل موضع التهديد، من خلال صور منتقاة بدقة، وبعضها من ألأرشيف.
نقلت القنوات تلك منذ اللحظة الأولى السردية الإسرائيلية كاملة:
من المنصات والمواقع، من تل أبيب، أو من المستوطنات الأمامية الإسرائيلية؛
يندر أن ظهر مراسل غربي في غزة لأسابيع، واكتفي في أحسن الأحوال بمراسل خاص لا أكثر،
بل رافق بعض المراسلين (نك روبرتسون من سي أن أن، 14/11)القوات الإسرائيلية، في مقراتها كما في تحركاتها، وفي توغلها في غزة.

جرى نقل الموقف الاسرائيلي السياسي والعسكرية، وخصوصاً إحاطات الناطقين العسكريين، دقيقة بدقيقة، كلمة كلمة، حتى في الأكاذيب الفاقعة (من مثل تبرير الهجوم على مجمع الشفاء لقتل مسلح كان يحتجز ألف مدني)، (10/11)، إلخ.

في وسعنا نسيان كل تفاصيل روايات المحطات تلك، لأنها تشابهت على نحو غير مسبوق، في الأيام الأولى لعملية طوفان غزة، ثم مع تحوّل إسرائيل للهجوم البري على غزّة.

في الجزء الأولى جرى التركيز على المدنيين الذين كانوا في احتفال موسيقي قبل أن تهاجمهم «ميليشيا متعصبة متعطشة للدماء». وتعززت السردية كما قلنا بصور الجثث المتناثرة في غير مكان من المستوطنات، أو في المكان القريب من الشاطئ؛ مع إغفال تفاصيل ما حدث في المقرات العسكرية، قبل أن يجري تمرير المعلومات التي تفرج عنها الرقابة العسكرية الإسرائيلية.

في الجزء الثاني، مع القصف التدميري دون تمييز لأحياء غزة ومستشفياتها ومدارسها ومخابزها ومدارس الأنروا حيث لجأ عشرات ألوف المدنيين، جرى التعتيم على صور الفظائع ضد الحياة المدنية والمدنيين، دون أن يكون هناك ما يستحق التعاطف أو الإدانة وعلى قاعدة الخطاب الرسمي الإسرائيلي we kill the killers وعليه لا حاجة لنقد أو احتجاج أو اعتراض أو حتى تقديم وجهة النظر الفلسطينية المقابلة بأي حال من الأحوال. جرت تغطية المؤتمرات الصحافي للمسؤولين الاسرائيليين السياسيين والعسكريين لساعات، ومن دون أن يعطى الجانب الفلسطيني ما يوازي عشر ذلك لتقديم سرديته أو خطابه. جرى تبنّي خطاب ناتنياهو لما يجري من فظائع لا تصدّق بحق المدنيين باعتباره تحرير غزة من القتلة ورفع هيمنتهم على سكان غزة المسالمين، وفق مقابلة نتنياهو في Fox News في التاسع من نوفمبر:
Demilitarizing Gaza, liberating Gaza from killers, human beasts, who intimidate Gaza peaceful population

ويكمل في خطاب موجّه للغرب، (11/11 «أن اسرائيل يجب أن تنتصر في حربها على حماس، فإذا هزمت سينتقل إرهاب حماس إلى أوروبا وأمريكا».

والشواهد المماثلة بالعشرات، وكلها متشابهة: الاستناد التام إلى الرواية الاسرائيلية، مع القليل القليل من الرواية الفلسطينية، من الخارج، بتقطع، واختصار، وإبراز كل التناقضات المحتملة، وبخاصة تناقض رام الله – غزة؛ وبما لا يؤثر في كل الأحوال على السردية الأساسية المنحازة إلى الجانب الإسرائيلي. وفيما كان الجانب الفلسطيني يقدّم في صورة «الملثّم» المجهول- المخيف، كان التركيز على المخطوفات، وبخاصة صغار أو صغيرات السن، ونقل صورهم/ن العائلية يلعبن، يسبحن، يتمددن في حدائق منازلهن الخضراء، مع استصراح ذويهم. إلى ذلك، يجري تقديم الإسرائيلي في صورة الجيش النظامي؛ متجاهلين كلياً أخبار أو صور المستوطنين المتعصبين والمتدينين وهم يدخلون مخيم جنين بالحديد والنار ويعودون بالعشرات من المعتقلين والمعتقلات، أو صور المستوطنين المتدينين يوقفون سيارات المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ينكلّون بالمدنيين الفلسطينيين، ويحرقون قراهم القريبة؛ متناسين آلاف الغارات الجوية في 100 يوم من غزو غزّة، أُلقت خلالها أكثر من 50 ألف طناً من المتفجرات ما يعادل قنبلتين نوويتين، إضافة إلى 100 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ولا يزال تحت الأنقاض. كذلك تصريحات «وزير التراث» الإسرائيلي باحتمال إلقاء قنبلة نووية على غزّة، وتصريحات وزير آخر أن نقل الفلسطينيين من غزة إلى مصر ودول أخرى أمر حتمي، أو ثالث يطلب عودة الاحتلال إلى غزة.

كلّ ذلك لم تره، ولو في الحد الأدنى، عدسات كاميرات ال «سي أن أن» و ال «بي بي سي»، كما غيرهما من الشبكات التلفزيونية الغربية العملاقة، وقد بلغ انحيازهما وسواهما حد التقيّد الحرفي بالتعليمات الصادرة إلى غرف الأخبار، ومن يجرؤ على التعاطف ولو في الحد ألأدنى مع مأساة غزّة مصيرهُ الطرد – كما حدث لندى عبد الصمد بعد 27 سنة خدمة في أخبار ال بي بي سي.

بلغ انحياز قنوات الإعلام العالمي المعولم للسردية الإسرائيلية من دون مناقشة أو تداول، وطرد من يتجرأ على مخالفة حرفية السردية تلك، حد استفزاز الصحفيين الغربيين أنفسهم، إذ وقّع أكثر من 750 صحافي في أسوشيتد برس ورويتر وأي أف ب بياناً نددوا فيه بتبعية «غرف الأخبار» للسردية الاسرائيلية من دون توفير أية فرصة فعلية لأية رواية مقابلة (9/11).

لا نغادر التوصيف هذا من دون توقف للحظة مع ال CNN الأكثر مشاهدة، لي وفي المنطقة برمّتها كما يقال. لم أر إلا نادراً إن لم أكن مخطئاً مراسلاً لها في غزّة، هناك ربما من يرسل لها، تحت تعريف special. تقارير أحداث غزة هي بالكامل من إسرائيل أو من واشنطن. التقارير التي تبث لمنطقة الشرق الأوسط وفيها تغطية ما يجري من أحداث ليست بالضرورة هي التي تبث لباقي أقسام الكوكب، فله نشراته الإخبارية وتغطية مختلفة عن التغطية التي تبث لمنطقة الشرق الأوسط. الفكرة هنا هي أنه إذا كان لجمهور المنطقة العربي أن يفرض لدى المحطة بعض المراعاة لميوله ورغباته، فالتغطية التي تبث إلى أقسام الكوكب الأخرى ليست مقيدة بهذا الاستثناء وهو ليس مهماً أو كبيراً، وفي وسع شبكة السي أن أن أن تبث المحتوى الأقصى تأييداً لإسرائيل.

ومع ال سي أن أن أيضاً، نقول: هل يتخيّل عقل أن الشبكة العملاقة التي تبث ربما كل ساعة «أنقذوا هذا الحيوان أو ذاك save Tigers for example،» لم تجد في مقتل 30 ألف مدني في غزّة، ثلثاهم نساء وأطفال، وأكثر من 30 ألف مصاب، سبباً كافياً لجعلها تضع لثوان على الأقل: Save Gaza children، أو لتفكّر في الأكثر قسوة على الإطلاق ولم يحرك «ديمقراطية الشبكة» والتزامها «حقوق الإنسان»، والمرأة على وجه الخصوص، وهو الواقعة التي أثبتتها الممرضات الهاربات من غزة (قناة 24 الفرنسية 6/11) من أن 5000 إمراة فلسطينية حاملاً في قطاع غزة كان يفترض أن يضعن في شهر تشرين الأول لم يُعرف ماذا حدث لهنّ! أو لمواليدهن – إذا كانوا أحياء! هل من قسوة أكثر من ذلك؟ لكن شيئاً أيّاً يكن لم يبدّل في سردية ال «سي أن أن» المتطابقة إلى حد التماهي مع السردية الإعلامية الاسرائيلية «الرسمية»! أما مزاعم حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والأطفال، والمساواة والديمقراطية، فكلها شعارات للاستهلاك لم تجد في مجازر غزّة بحق المدنيين، وما فيها من قتل دون تمييز، يبلغ حد الإبادة، وتهجير لعشرات الألوف من المدنيين ومعهم حيواناتهم ينتقلون في قوافل تضم عشرات الألوف من شمال القطاع إلى جنوبة ما يستحق التوقف عنده، أو شجبه؛ بل ما يحدث العكس وهو التلذذ (غير المعلن) بصور وفيديوات مطولة للتهجير البطيء ذاك أو New Exodus!
(كأنما شبكة ال سي أن أن تحتفل على نحو ملحمي بنهاية عالم، وتباشير عالم جديد، كما يردد نتنياهو).

دون أن ننسى أخيراً كيف بثّت شبكة CNN صوراً من الإعلام الإسرائيلي لأطفال قطعت رؤوسهم باعتبارها من أعمال مقاومي عملية 7 تشرين أول في غزة؛ ثم سحبت الشبكة الخبر في اليوم التالي واعتذرت عن الخطأ، حسب زعمها. كذلك تبنيها لرواية ناطق عسكري إسرائيلي يشرح بالتفصيل كيف أن سلكاً كهربائيا كان كافياً ليثبت أن قيادة حماس جعلت المستشفى غرفة عمليات لها، قبل أن تعود في اليوم التالي لتقول ليس من أدلة كافية، ولكن في الحالين التأثير المباشر المطلوب من نشر الصور المزيّفة كان قد تحقق، ولا يخفف منه إلا قليلاً النفيُ والاعتذارُ اللاحقين. إذا كان تعريف الخبر في الإعلام، ومنه التلفزيون، هو نقل الواقعة في كلام أو صور مطابقة لما حدث، فإن ما جرى في الإعلام الغربي كانت انتهاكاً تاماً للتعريف الكلاسيكي ذات: بات الخبر هو ما يصنع الواقعة story، على نحو خرافي أو توجيهي، غير مباشر وإيحائي في الغالب.

هذه عينة من المنهج المتبع من طرف قنوات الإعلام المعولم في كل قضية تقريباً، وإلى الحد الذي لا تستطيع تمييزه من الإعلام الاسرائيلي بل ربما اتسع هذا لبعض النقد بخلاف قنوات الإعلام الغربي، الممولة من مراكز القرار السياسي والمالي العالمي – مع الاستدراك بأنه مع نهاية عملية غزة تقريباً واطمأنوا على النصر الإسرائيلي (المعيب) صار في وسع محطات التلفزة الغربية استضافة محاورين فلسطينيين واعتماد مراسلين فلسطينيين وعرب والكلام مطولاً عن مأساة الأطفال «الخدّج»، وهو ما لم نلمسه ابداً حتى في أثناء المجازر كما في مجزرة المستشفى المعمداني، حيث سقط أكثر من 800 مدني بين قتيل وجريح بقنبلة تزن طناً ألقتها طائرة حربية أسرائيلية، وبررها ناطق عسكري إسرائيلي أنها نتيجة عملية إطلاق صاروخ فاشلة من «الجهاد»، وكل صواريخه لم تقتل ربما أحداً في يوم من الأيام.

وأية موضوعية وديمقراطية وتنوع حين يجري طرد موظفة في أخبار ال بي بي سي العربية، ندى عبد الصمد، بعد 27 سنة خدمة في الشبكة لأنها تجرأت وأبدت تعاطفاً مع مقاومي غزة؟

تطول لائحة الانتهاكات تلك، وقد باتت على كل شفة ولسان، وهي ألقت ولفترة طويلة شكوكاً عميقة في مصداقية الخطاب الغربي الإعلامي، ومعه السياسي أيضاً، ليس في تغطية مذبحة غزة بل ربما حيال كل قضية في العالم، من أوكرانيا، إلى الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا الغربية، وغيرها. انهارت أعمدة أسطورة الموضوعية والتوازن والحيادية والديمقراطية والرأي والرأي الآخر في الإعلام الغربي، ولم يعد مصدراً محايداً موثوقاً للأخبار – كما زعم لعقود طويلة خلت – ولا مشروعاً للحرية Freedom project كما يحلو لل سي أن أن تكرار ذلك طوال الليل والنهار.

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات
أولًا: أسباب أخذ الأنظمة الديمقراطية بنظام المجلس في النظم البرلمانية بالعالم:

توجد قاعدتان بالنسبة إلى تكوين السلطة التشريعية.

القاعدة الأولى: أن يأخذ النظام البرلماني، بفكرة المجلس الواحد كما هو الحال في لبنان وفق منطوق المادة 16 من الدستور.

القاعدة الثانية: أن يأخذ النظام البرلماني بفكرة المجلسين. وهذان المجلسان يسميان بأسماء مختلفة. مثلًا في بريطانيا مجلس العموم (وهو يمثل نواب الأمة) ومجلس اللوردات (كان يوصف في السابق بأنه مجلس الأعيان).

أما في الولايات المتحدة فيوجد مجلس نواب يقابله مجلس شيوخ. وعلى رغم تعدد التسميات إلا أن السلطة التشريعية بمجلسيها(النواب والشيوخ) إذا اجتمعا مع بعضيهما البعض يطلق عليهما اسم (البرلمان).

بعد هذا السرد الموجز نطرح السؤال التالي: لماذا تأخذ بعض الأنظمة البرلمانية بنظام المجلسين؟
ليس الهدف هنا اتباع نمط محدد في تكوين السلطة التشريعية ولكن هنالك أسباب واقعية متصلة مباشرة بالتشريع وأخرى هي المغايرة في التكوين وهي:

أـ أسباب متصلة بالتشريع:

1. كبح جماح مجلس النواب في التشريع:
لا نقصد البتة أن كبح جماح مجلس النواب بالتشريع يعني عرقلة عمله، لكن يجب أن نعرف أن مجلس النواب بكونه يمثل الشعب بعمومه. وهو أشد اتصالًا بموجب ذلك بالشعب، لذلك يحاول الأخير تلبية المطالب الشعبية، التي تصل إليه إما من محتجين على تصرف حكومي أو متظاهرين ضد سلوك اعتبروه خروجاً عن الأصول المتعارَف عليها أو أحيانًا ترتقي الاحتجاجات إلى مستوى ثورة شعبية.
وتحت وطأة كل هذا يُصدر مجلس النواب قانون يلبي مطالب الجماهير. ولكن يتوجب وجود جهة أخرى تتصدى لمجلس النواب، وذلك بالاعتراض، وهذا ما يفعله مجلس الشيوخ.

2. عقلنة التشريع:
نلاحظ في بعض التشريعات في لبنان، وجود ثغرات قانونية، وصيغ غير واضحة، وأحيانًا يقر المجلس قانون يناقض في بعض جزئياته قوانين أخرى مما يؤدي إلى فوضى تشريعية. لكن في ظل وجود مجلس شيوخ مثل هذا التناقض والتضارب بين القوانين لا يمكن أن يحدث. حيث إنّ مجلس الشيوخ سوف يناقش القوانين ويسعى إلى عقلنتها، وجعلها منسجمة مع بعضها البعض ضمن المنظومة القانونية للدولة.

3. التروّي في التشريع:
قد يكون مجلس النواب صائباً في ما أقرّه لقانون ما. كَوْن ذلك القانون يعتبر كبارقة علاج وخلاص حتمية في المجتمع لكن المصلحة العليا للبلاد ومصلحة المجتمع تقضيان بعدم إقراره في تلك الفترة بالذات (حرب ـ ثورة ـ عدوان خارجي) فيكون من واجب مجلس الشيوخ، التصدي لما يقره مجلس النواب. فيتريث إلى حين تسمح الظروف إقرار ذلك القانون. لهذا كله تأخذ بعض الأنظمة الديموقراطية بنظام المجلسين.

ب ـ أسباب متصلة في المغايرة بالتكوين:

1. بالنسبة للسن: ترغب بعض الدول أن يكون سن العضو في مجلس الشيوخ أكبر من سن العضو في مجلس النواب وذلك كون الكبار يملكون الحكمة والتروي والعمل والدراية في الشأن العام لذلك ترفع الدول سن عضو مجلس الشيوخ.

2. المغايرة في التكوين: فقد يكون مجلس الشيوخ هو مجلس يمثل أقاليم الدولة حيث يكون لكل إقليم عدد مساوٍ لغيره من أقاليم الدولة.

3. المغايرة في العدد: دائمًا عدد مجلس الشيوخ أقل من عدد مجلس النواب.

4. المغايرة في بعض الصلاحيات: بعض القوانين لا تدخل في صلاحية مجلس الشيوخ فهي متروكة لمجلس النواب. أما بعض القوانين الهامة فيُعقد الاختصاص بها لمجلس الشيوخ.

5. المغايرة في الانتخاب: حيث يكون لمجلس الشيوخ أسبابه في انتخاب أعضائه تتماشى مع هدف من يمثّل (المقاطعات ـ الاقليات ـ الطوائف).
بعد كل هذا نسأل هل لبنان بإمكانه أن يأخذ بنظام المجلسين وهل هنالك نصوص حالية تشير إلى الأخذ بنظام المجلسين؟

ثانيًا: مجلس الشيوخ في لبنان بين النشأة والإلغاء الأول:

أـ نشأة مجلس الشيوخ اللبناني:
1.إنشاء ثم إلغاء لمجلس الشيوخ

الأمير فؤاد أرسلان

بعد الاحتلال الفرنسي المباشر الذي استمر من عام 1920 حتى عام 1926 وابتداءً من أول أيلول سنة 1926، تغير اسم البلاد من دولة لبنان الكبير إلى الجمهورية اللبنانية دون أي تبديل أو تعديل آخر.

وبذلك أبصر النظام الجمهوري في لبنان نور الوجود وسبق إعلان الجمهورية إعلان وضع الدستور في 23/أيار 1926 وهذا الدستور نص في مادته 16 على أن «يتولّى السلطة التشريعية هيئتان، مجلس الشيوخ ومجلس النواب».

حتى أن الدستور نص على أكثر من ذلك تحديدًا في المادة 22 « يؤلَّف مجلس الشيوخ من ستة عشر عضوًا يعيّن رئيس الحكومة سبعة منهم بعد استطلاع رأي الوزراء ويُنتخب الباقون وتكون مدة ولاية عضو مجلس الشيوخ ست سنوات ويمكن أن يعاد انتخاب الشيوخ الذين انتهت مدة ولايتهم وأن يُحدَّد تعيينهم على التوالي».

من هنا نستنتج أن المشرِّع حزم أمره، بالإعلان وبموجب المادة 16 من الدستور أن «يتولى السلطة التشريعية هيئتان مجلس الشيوخ ومجلس النواب». بل إنَّ المادة 22 من الدستور بينت عدد مجلس الشيوخ وكيفية انتخابهم وتعيينهم ومدة ولايتهم ومدى التجديد لهم.

وبالفعل أجريت انتخابات نيابية، ومثّل الطائفة الدرزية في مجلس الشيوخ الأمير فؤاد أرسلان ولكن وفي قرار مفاجئ، ألغى المفوض السامي النصوص الناظمة لوجود مجلس الشيوخ.

ب ـ أسباب إلغاء مجلس الشيوخ
1ـ الأسباب التمثيلية: خَلْق نظام مَجلِسي يمثل الطوائف وتمثيل المقاطعات والاختصاصات.

2ـ الأسباب التشريعية: وُضعت صلاحيات دستورية عدة لمجلس الشيوخ منها حق إحالة أي قانون إليه من مجلس النواب والبت في الموازنة وإبداء الرأي في شكل وعدد أعضاء الحكومة وغيرها من الصلاحيات.
أسباب دفع المشرّع إلى إلغاء مجلس الشيوخ:
ـ البطء في إقرار التشريعات
ـ عرقلة عمل الحكومة ورئيس الجمهورية.
ـ عرقلة تأليف الحكومة: حيث حصل أن أعلن مجلس الشيوخ صراحة أنه غير مستعد للتعامل مع حكومة يزيد عددها عن ثلاثة وزراء لأن البلاد ليست بحاجة لأكثر من هذا العدد.

3ـ الأسباب السياسية والاستعمارية:
أـ الأسباب السياسية:
ـ رأت بعض الأوساط السياسية، أن مجلس الشيوخ يشل عمل السلطة التشريعية. وفي الحقيقة هدفها الخفي، حرمان من هو من نفس طائفتها من التمثيل في مجلس الشيوخ، خصوصًا أنها أي تلك الأوساط ممثلة في مجلس النواب، ويمنع عليها الدستور أن تمثل في مجلس الشيوخ.
ـ عرقلة عمل الحكومة من خلال الاعتراض على مشاريع القوانين.

ب ـ الأسباب الاستعمارية:
ـ رغبة المستعمر الفرنسي في العمل السياسي السريع، فالتروِّي يزعزع وجوده ويحد من قدرته على التغيير السريع. فهو يريد إصدار القوانين بأقصى سرعة. لذلك وجدنا معظم قوانين لبنان قرارات صادرة عن المفوض السامي. وهذه السرعة مقصودة لأغراض استعمارية مثل تمرير المعاهدات والقوانين التي تخدم الوجود الفرنسي في لبنان.
ـ الثورة السورية الكبرى: تلك الثورة التي أشعلت سوريا ولبنان في بعض مناطق (جبل عامل ـ حاصبيا ـ راشيا) وقادها سلطان باشا الاطرش. وفهمت فرنسا الرسالة، وأرادت إقصاء دروز لبنان عن لعب أي دور محوري، وخصوصًا بدا أن رئاسة مجلس الشيوخ، قد تؤول إلى الطائفة الدرزية. رغم عدم البدء في تلك الفترة، في ترسيخ الأعراف الدستورية. فالدستور عمره حينها عام، وكان من المحتمل أن تؤول تلك الرئاسة للدروز، لذلك وعقابًا لهم ولثورتهم عليها، أعلنت فرنسا ممثلة بالمفوض السامي إلغاء مجلس الشيوخ.

ثالثًا: مجلس الشيوخ في لبنان وفق نصوص الطائف:

لحظت وثيقة الوفاق الوطني الموقعة بالطائف، ضرورة تعديل النظام السياسي في لبنان وبموجب القانون 18 لعام 1991، أقرت تعديلات الطائف في مدينة القليعات البقاعية ولكن السؤال هنا، لماذا لم ينشأ مجلس الشيوخ في لبنان بعد إقراره مند ثلاثين عاماً؟

هل السبب نصوص دستورية؟ أم السبب سياسي؟
في النصوص الدستورية وتحليلها:
أول نص في الدستور اللبناني بعد الطائف، يشير إلى إنشاء مجلس الشيوخ، هو نص المادة 22 «الذي ينص: مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
ولما كان هذا النص يشير إلى المرحلة التي يجب استحداث مجلس للشيوخ وإلى صلاحياته ومكوناته. جاء نص المادة 95 من الدستور ليشير، إلى أبعد من ذلك فهو يوجب «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».

مهمة الهيئة الوطنية هي دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

وبذلك يكون نص المادة 22 من الدستور، أعلن إعادة اعتناق النظام البرلماني اللبناني فكرة نظام المجلسين في السلطة التشريعية. ولكن وقع إنشاء مجلس الشيوخ بشرك التعجيز والاستحالة بموجب نصوص إنشائه. فما هي أخطار التعجيز والاستحالة في إنشاء مجلس الشيوخ؟ وما هي الحلول المقترحة لإنهائهما؟

1ـ بالنسبة لنص المادة 95 من الدستور:
لقد أرست هذه المادة قاعدة التمثيل النيابي مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وبالفعل انتُخبت عدة مجالس نيابية على أساس المناصفة فمنذ عام 1992 حتى يومنا هذا. وبذلك حُلّت أول العقد أمام إنشاء مجلس للشيوخ. خصوصًا أنّ المادة 95 أضافت ضرورة «اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية» وأضافت» مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».

لكن هذه المادة حددت المسار القانوني لإلغاء الطائفية وهي:
ـ اتخاذ الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية:
لم تحدد تلك المادة ما هي الإجراءات الملائمة. هل هي قوانين؟ أم هل هي تهيئة سياسية واجتماعية وفكرية مترافقة مع حملة إعلامية وطنية واسعة تبين أهمية إلغاء الطائفية في لبنان؟
فكان حَريِاً بالمشرع توضيح هذه النقطة بما لا يقبل الشك.
ـ الخطة المرحلية / إن الإجراءات التي تشير إليها المادة 95 هي « خطة مرحلية « وهنا وقع المشرع في صياغة غير واضحة ولا يسعفه نص المادة 22 من الدستور في تحديد نهايتها ولا حتى في بداية العمل بالخطة المرحلية.

على أن كل ما سبق، أي الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية والخطة المرحلية رغم صعوبة تحديدهما، إلّا أنهما مرتبطان تمامًا وفق نص المادة 95 بـ « تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».
وكما سبق الذكر فإنّ مهمة الهيئة هي دراسة الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية.

نستنتج من ذلك أن الهيئة شرط أساسي لإلغاء الطائفية السياسية وما التوسع في تشكيلها إلا أمر ضروري بموافقة الجميع، بل إن ما من دراسة إلّا ستكون عبر الهيئة الوطنية ولها وحدها، حق تقديم الدراسة إلى مجلسي النواب والوزراء، إذاً فمظاهر الاستحالة هنا واضحة في الدراسة لإلغاء الطائفية. وفي المرحلة الانتقالية وفي تكوين الهيئة الوطنية المشروطة بدراسة مستحيلة التحقق، وإنّ عدم وجود تلك الهيئة يعني عدم القدرة على متابعة الخطة المرحلية كون تلك الهيئة دون سواها، لها متابعة الخطة المرحلية وبذلك أفرغت الصيغ القانونية المادة 95 من معناها لجهة إلغاء الطائفية السياسية.

2ـ بالنسبة لنص المادة 22 من الدستور:
على أن الصيغ المستحيلة التي فرضتها المادة 95 بلغت ذروتها في نص المادة 22 من الدستور. سواء لجهة استحداث مجلس للشيوخ، أم لجهة الصلاحيات المنوي إعطاؤها لهذا المجلس. فنصّت « مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستَحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

فبعد آليات إلغاء الطائفية المستحيلة وفق نص المادة 95 من الدستور أتت المادة 22 منه لتقرن تلك الاستحالة باستحالة جديدة، مرتبطة كل الارتباط بإلغاء الطائفية السياسية وهي « مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ».
وهذا النص أغلق الباب نهائيًا على البحث في إنشاء مجلس للشيوخ. والأخير لا يمكن الوصول إليه دون تطبيق نص المادة 95 الذي دونه عقبات سبق شرحها.
إضافة إلى حصر مهام المجلس في قضايا مصيرية وهو معنى واسع يحتمل الكثير من التفسيرات.

3ـ الحلول المقترحة:
لجهة النصوص الهادفة لإنشاء مجلس الشيوخ، سواء كان نص المادة 22 أو 95 من الدستور نجد ضرورة الاستغناء عنهما، ووضع نص واضح مثل:
« يُنشأ مجلس للشيوخ، ويُحدَّد عدد أعضائه وفق قانون الانتخاب المَرعي الإجراء وتنحصر صلاحياته بما يلي:
تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، إقرار الاتفاقات والمعاهدات الدولية أو الغاؤها، الموازنة العامة، تعيين موظفي الفئة الأولى أو ما يعادلها، إعادة النظر في التقسيم الإداري، قانون الانتخاب، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، اطلاعه من خلال رئيسه على نتائج الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة، المصادقة على البيان الوزاري بعد إقراره في مجلس النواب فإذا استغنى المشرع عن نص المادة 22 و 95 من الدستور، فقط في الصيغ المتعلقة بإنشاء مجلس للشيوخ، يكون قد سعى حقيقة لإنشاء غرفة ثانية في البرلمان اسمها مجلس الشيوخ.
رابعًا: الأسباب الموجبة لإسناد رئاسة مجلس الشيوخ للطائفة الدرزية.
هنالك عدة أسباب توجب تولي الطائفة الدرزية رئاسة مجلس الشيوخ منها:
أـ الأسباب التاريخية والسياسية:
لقد حكم الدروز لبنان منذ عام 758 ميلادية حتى عام 1861 أي قرابة ألف عام لم يستطع غازٍ إنهاء سيطرتهم وحمايتهم للبنان، وبهم وبأمرائهم تكوّن لبنان السياسي. فهم أول من تمتع في الخلافة العباسية بالاستقلال الذاتي عن بغداد، وهم أول الفرق الإسلامية التي صدت الغزو الصليبي عن الشرق وانتصرت في معارك ضدهم في عهد الأمراء التنوخيين.

وبعد انقراض السلالة التنوخية، تابع الأمراء المعنيين بناء لبنان السياسي، ولكن بسمات استقلالية أوسع وأوضح وأثبت من ذي قبل، كلّفتهم الكثير من إبعاد واعتقال وإعدام بالجملة لأسرة الامير فخر الدين المعني الثاني الذي وصفه المؤرخون بـ أبو الاستقلال الوطني الأول. حيث تمكّن من بناء دولة مستقلة.

تابع الأمراء الشهابيون – انسباء الأمراء المعنيين – صناعة لبنان المستقل لكن انتهى حكمهم ومعه حكم الدروز للبنان. لهذه الأسباب كلها توجب إعادة الاعتبار السياسي للدروز في مجلس الشيوخ، لدورهم التاريخي والسياسي في قيادة هذه البلاد وحمايتها.

الأمير فخر الدين

ب- الأسباب الواقعية والقانونية
لقد وُزِّعت الرئاسات الثلاث فنال المسيحيون رأس الهرم (رئاسة الجمهورية) ونال المسلمون الشيعة الرئاسة الثانية، والمسلمون السنة الرئاسة الثالثة، ونالت الطوائف المسيحية منصبَي (نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس مجلس الوزراء) وهذا التوزيع الطائفي ليس فيه خلل فالكل حصل على موقعه لكن واقعيًا تعداد سكان لبنان كشف عن أن نسبة المسيحيين من مجمل عدد سكان لبنان تساوي الثلث أو أكثر بقليل مما دفعنا إلى القول إنّ رئاسة مجلس الشيوخ يجب أن تكون من حصة المسلمين الدروز. خصوصًا إن كل طائفة إسلامية حازت على رئاسة إلا المسلمون الموحدون الدروز.

ج ـ المساواة التي يطالب بها الدستور:
نصت المادة رقم 7 من الدستور على «كل اللبنانيين سَواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم».

وهذه الصيغة تتبعها صيغة نص المادة 95 التي تطالب «وفي المرحلة الانتقالية:
أـ تُمثَّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة من هنا الدستور يلتزم بعدم التمييز بين المواطنين وبأنهم سواء أمام القانون وفق المادة 7 منه وتؤكد المادة 95 وفي المرحلة الانتقالية تُشَكل الوزارة بصورة عادلة وهذا ما حصل في تشكيل الحكومات. ولكن السؤال هنا؟ هل إنْ طَلبَ اللبنانيون العدالة في التمثيل بالسلطة التنفيذية، سيقابله أيضاً المطالبة بالعدالة في السلطة التشريعية، والحال كذلك، أفلا يعني ذلك أن على الدروز طلب العدالة لأنفسهم من خلال حصولهم على رئاسة مجلس الشيوخ؟
نعم يحق للدروز بالرئاسة الرابعة في البلاد للأسباب السابقة التي عرضناها، مع أنّ الأمر سيبقى رهناً بالتجاذبات السياسية في هذ البلد.

مَجلِس الشّيوخ اللبناني: مقاربة دستورية – سياسية لإدارة التنوع والتعددية

ذهب العديد من الباحثين في الفكر السياسي والاجتماعي حول نمط الاجتماع في لبنان بعيداً في تقدير أهمية وخطورة تعدد فئات المجتمع اللبناني وانتماءاتها وولاءاتها، ومن دون أن يبذلوا بعض العناء للتدقيق في مدى صحة المعايير المستخدمة لتحديد «الطوائف الدينية» ومدى تناقض الفئات المكوّنة لهذا المجتمع بعضها مع بعض، فوقَعوا في شرك فهم الماضي على مقاييس الحاضر ومعطياته، آخذين مجرد الصراعات الدموية التي كانت تظهر إلى سطح العلاقات لتبرير أقوالهم وكمؤشر وحيد لدراساتهم من دون التدقيق أحيانا فيما إذا كانت هذه الصراعات تتخطى هذا السطح إلى الجوهر أم أنها كانت تمكث فيه. فلذلك تتكرر في العديد من الأبحاث مفاهيم تصف المجتمع اللبناني بأنه «مجتمع الفسيفساء» و«الفسيفساء الطائفية» و «وعاء الأقليات الدينية والقومية» والكلام عن «المشاريع والآمال المتناقضة للطوائف والمذاهب المختلفة» وصولاً إلى ما بات يشاع حول «التعددية الحضارية» و«الأصول الحضارية المتعددة» و«الخصوصيات المذهبية» وغيرها من المفاهيم التي لنا أن نشك في أسباب رواجها وفي غايات مروّجيها.

فما من «طائفة» أو «مذهب» نزعت جماعته، وتحديداً بعد اتفاق الطائف، باتجاه الانفصال عن المجتمع كليّة، وعملت على بلورة مشروعها الانفصالي بالانعزال والتقوقع، وحدّدت لنفسها المجال الجغرافي الخاص الذي يصبح الدفاع عنه وحمايته دفاعاً عن قيمها ومبادئها وخصوصياتها. أي أنّ ما من فئة تخطّت التمايز «الإيديولوجي» عن باقي الفئات باتجاه التحوّل إلى «أمّة» أو «وطن». فقد كانت كل العناوين التي تحملها الطوائف اللبنانية منتشرة في كل المناطق، وشبكة الولاءات والانتماءات قابلة للتبدل بشكل دائم وأحياناً على نطاق واسع. مما جعل كل فئة من فئات المجتمع اللبناني تلتقي مع الفئات الأخرى في قواسم مشتركة، بالقدر ذاته الذي تختلف جماعات كل فئة بداخلها. وبذلك تصبح الطوائف الدينية برمّتها مجموعة من الوحدات المتداخلة التي يصعب فصم عراها على أي أساس من أسس التمايز، تتفاعل فيما بينها، مع الاعتراف لكل منها بخصوصية معينة والتي تميّزها عن غيرها، دون أن تؤهلها بالطبع لممارسة الانغلاق على نفسها أو حتى الانعزال عن بقية الطوائف.

وبناء على ذلك، يمكن القول بأنّ المسألة الطائفية في لبنان ليست مشكلة أديان ومذاهب إذ لا يضر لبنان شيء إن كثر عدد طوائفه ومذاهبه أو قلّ. ذلك أن الديانتين المسيحية والإسلامية تقومان على الخير والمحبة والأخوّة والتسامح بين البشر، فهما بهذه القيم السامية إغناء للمجتمع، مهما تعددت طوائفهما ومذاهبهما. لكن الخطر في الأمر انخراط أربابهما في العمل السياسي وإعطاء الطائفية، عبر الدساتير والقوانين المتلاحقة، شخصية معنوية تُعنى بالشأن العام، باسم الدين الذي انبثقت أصلاً منه، في أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، وهذا ما أدى إلى ضياعها بين دورها الروحي الإنساني السامي والممارسات الزمنية التي تقوم بها في شتى المجالات وعلى مختلف المستويات. فضلاً عن استغلال المشاركة الطوائفية في السلطة لتقوية مواقع النفوذ وتحقيق المكاسب على حساب الصالح العام من خلال استنفار العصبيات الطائفية، وتحويل الطائفة إلى جماعة تقيم حواجز نفسية واجتماعية بينها وبين الطوائف الأُخرى المتحصنة أيضا بخصوصياتها وذلك بهدف تجذير الانقسامات الطائفية وتعزيز الزبائنية السياسية التي هي تبعية تتميز عن الطائفية وإن كانت تتلبّس بها كتمويه (1)، من خلال أسياد وزبائن وشبكة الأسياد والزبائن المتداخلة من كل الطوائف والمذاهب، متحالفين ومتنافسين في آن معاً على المنافع وحماية المستفيدين من المنافع والهدر(2).

وربما يكون المؤسس الدستوري عام 1998 قد انطلق من هذه النقطة عند الأخذ بنظام المجلسين، في محاولة منه معالجة المسألة الطائفية، حيث كانت عبقرية في فهمها للتوازن المنشود بين الحد المقبول من الطائفية والحد المطلوب من المواطنة، هي صيغة مجلسي النواب والشيوخ، وهي الصيغة التي يُفترض أن تولد فوراً من بعد تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، في إطار سلّة الإجراءات والخطوات والخطط التي تقرّها الهيئة ويتلقاها مجلس النواب والوزراء لتحويلها إلى قوانين ومراسيم.

فدستور الطائف 1990 وإن كان قد كرّس الاعتراف بالطوائف الدينية كركيزة أساسية للمنتظم السياسي اللبناني، فالعرف القاضي بتوزيع الرئاسات الثلاث أبقى عليه، كما أن المواد 9 و10 من الدستور المتعلقة بالطوائف وحقوقها لم يطرا أي تعديل عليها. إضافة إلى ذلك منح التعديل الدستوري في المادة 19 رؤساء الطوائف المعترف بها قانونا حق مراجعة المجلس الدستوري فيما يختص بدستورية القوانين في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني، إلاّ أنه وعد بالمقابل بإقامة نظام المجلسين وتخطي الطائفية السياسية، وبالتالي إلغاء الفيتويات الفئوية المعطّلة، والزبائنية السياسية، والمحاصصة الطائفية، والاستئثار المذهبي، فيكون مجلس الشيوخ الهيئة التي تؤمن الضمانات الأساسية للطوائف وإطار مشاركتها في الدولة كمجموعات طائفية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.

وإذا كان بالإمكان القول أن مجالس الشيوخ قد حلّت بعض القضايا الحساسة في بعض الأنظمة البرلمانية التعددية حيث تلعب هذه المجالس دوراً بالغ الأهمية في الحفاظ على وحدة تلك البلدان، وتأمين استقرار النظام، والاستمرارية في الحكم، وبناء الديموقراطية، وعصرنة النظام السياسي، واستيعاب التبدلات التي تحصل على مستوى الجماعات والولايات، وتأمين حضورها السياسي، وبوصفها كابحة لطغيان الأغلبية العددية، فربما ينطبق الأمر نفسه في لبنان، إلا أن ذلك يستلزم بعض الشروط لما يتمتع به لبنان من وضع خاص لجهة التركيبة الاجتماعية – السياسية وحتى تداخل أزمات أزماته الداخلية مع بعض الأزمات الخارجية.

ولكن بصرف النظر عمّا يمكن أن يحققه نظام المجلسين في بلد كلبنان الذي يساوي نظامه السياسي بين الطوائف الدينية وبين المواطنين الأفراد في آن معاً، فضلاً عن محاكاته للطبيعة الثنائية عند المواطن الذي ولّد عنده شخصية مزدوجة، بين إنسان يعيش مواطنة في التشريع لممارسة الحياة بأشكالها المختلفة من جهة، وبين إنسان طائفي ينتمي إلى جماعة لها خاصيتها والتي تختلف بالضرورة عن خاصيات المواطنة من جهة أخرى. فإن نجاحه مرتبط بقدرته على التوفيق بين مشكلتين: مشكلة التمثيل النيابي الشعبي من جهة، ومن جهة أخرى مشكلة المشاركة الطائفية في القضايا المصيرية من جهة أخرى، الأمر الذي تؤكد عليه المادة 22 من الدستور من خلال إطلاقها مشروع تخطي الطائفية السياسية مقابل تثبيت المحاصصة الطائفية في مجلس الشيوخ وليس إلغاءها.

إن الجدل القائم بشأن مجلس الشيوخ، أو بعبارة أخرى حول الجدوى من وجود غرفة ثانية في البرلمان اللبناني ليس جديداً، ولا خاصاً فقط بلبنان، بل يندرج ضمن فلسفة وتاريخ الحركة البرلمانية، التي انقسمت بين مؤيّد لنظام الغرفتين من جهة، وبين متمسك بنظام الغرفة الواحدة، غير أن المطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ في لبنان لم تشهد عبر التاريخ ضوابط معينة تجعله مطلباً ملحاً وثابتاً في برامج الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية.

وبينما يرى البعض، أن مجلس الشيوخ يمكن أن يشكل المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة المذهبية التي تقيده وتدفع الناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لاطائفية عند صندوق الاقتراع. وهذا من شأنه أن يحقق المساواة الكاملة بين اللبنانيين من خلال القضاء على المحاصصة السياسية، وتالياً الدفع في اتجاه دولة المواطنة. أمّا المكان الصحيح للطائفية السياسية، فهو مجلس الشيوخ حيث تنتخب الطوائف والمذاهب ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده ويتولون النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديته، الأمر الذي يتيح لها القدرة على تثبيت الضمانات والاطمئنان إلى أن وجه لبنان لن يتغير، من خلال إعطاء هذا المجلس صلاحية المناقشة والبت في الأمور والقضايا المصيرية المطروحة على مستوى الوطن.

بالمقابل، يخشى البعض الآخر، أن يتم تنظيم مجلس الشيوخ مع ضرب روحية الميثاق اللبناني، إذ ينتخب المقترعون من الطوائف المتعددة ممثلين لهم من أبناء طائفتهم ومذاهبهم مما سيؤدي إلى فرز اللبنانيين، وهذا يُعَدّ مخالفاً تماماً لمبدأ الهيئة الانتخابية الموحدة، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال الاندماج في العلاقات اليومية والتواصلية.

ولكن، كيف يمكن لوثيقة الطائف استحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني في ظل وجود شرطين أساسين يرتبطان بإنشاء مجلس الشيوخ: الأول يتعلق بآلية انتخاب الأعضاء وعددهم، والتحديد الدقيق لمفهوم «القضايا المصيرية» الذي لايزال يكتنفه غموض كبير. أما الشرط الثاني فهو مرتبط بضرورة التثبيت النهائي لطائفة رئيس مجلس الشيوخ، حيث أنّ هذه النقطة ما تزال مادة خلافية بين فريق يرى أنّها يجب أن تُعطى للمسيحيين وتحديداً للروم الأرثوذكس حفاظاً على المناصفة والعدالة في التمثيل الحقيقي لكل الطوائف، إذ لا يجوز وجود ثلاث رئاسات إسلامية مقابل واحدة مسيحية فيما يصر فريق آخر على «درزية» هذا الرئيس بالاستناد إلى المداولات في اجتماعات الطائف وما بعدها، وعلى اعتبار أن الطائفة الدرزية لا تشغل منصباً سياسياً رسمياً كبيراً على غرار الطوائف المسيحية والإسلامية الأخرى.

وفي حين أن الرئاسات ثلاث في لبنان، واحدة للموارنة واثنتان للمسلمين، لكن المؤسسات الدستورية تشمل المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي الاجتماعي اللذين تعود رئاستهما للمسيحيين، وهذا يعني أن من بين 5 رئاسات هناك ثلاث للمسيحيين واثنتان للمسلمين، هذا إذا استثنينا حاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى وقيادة الجيش.

لكن في مطلق الأحوال فإن هذه المطالب الفئوية تتنافى وحقيقة مجلس الشيوخ المقترح الذي لا ينشأ حسب وثيقة الطائف قبل انتخاب مجلس نواب «على أساس وطني غير طائفي»، وهذا يعني بأن رئاسة مجلس الشيوخ لن تكون محفوظة لأيّة طائفة معينة من الطوائف اللبنانية، إلّا في حال تحويل الرئاسات الثلاث وبنص دستوري غير موجود، إلى تحديد طائفي، بدلاً من الحالة العرفية القائمة، وهذا لا يستقيم بالطبع مع مشروع تخطي الطائفية السياسية.

إنّ هذين الشرطين لا يمكن العثور عليهما في النص وهما أساسيان لوجود هذا المجلس. ولكن من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن نسخة 1926 من الدستور قد فصلت هذه الشروط من خلال النص الموجود (نصف أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية)، وهذا يدل على غياب صارخ للدقة والوضوح في نص المادة 22 الجديدة من الدستور التي لا تقدّم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، دون التطرق لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد القضايا التي تنطبق عليها صفة «المصيرية» وقضايا أخرى، الأمر الذي يدفع برأي البعض – وفي حال أردنا تفعيل هذا المجلس – إلى طرح تعديل للدستور، خاصة وأن المادة 22 التي تقول بإنشاء مجلس الشيوخ هي من باب النص الانشائي وليست نصّاً ناظماً، أي إنها أنشأت مجلس الشيوخ كفكرة أو أسست لإنشائه لكنها لم تضع التفاصيل وتأثيراته على مجلس النواب، وبالتالي يجب إعادة النظر في كل ذلك ما يقتضي إجراء تعديل دستوري لتفعيل مجلس الشيوخ.

يضاف إلى ذلك، أنّ وثيقة الطائف لم تحدد مهلة زمنية لكيفية العبور من المجتمع الطوائفي إلى المجتمع الوطني من خلال تخطي الطائفية في تركيبة مجلس النواب، وإنما اكتفت بتحديد آلية غير مرتبطة بأجل معيّن حيث نصت الفقرة (ز) من بند الإصلاحات السياسية على تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية وتضم رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية لاقتراح الطرق الكفيلة بتخطي الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية مما جعل هذا المجلس لا يبصر النور حتى يومنا هذا.

وإذا كان هناك من يعتقد أن مفهوم الطائفية السياسية المطلوب معالجته منفصل عن الحق الذي تعطيه المادة 19 من الدستور لرؤساء الطوائف بمراجعة المجلس الدستوري، إلاّ أنّ أي مراقب محايد لوثيقة الطائف لا يمكنه إلاّ أن يتساءل عن مدى الانسجام بين النصّين: من جهة هنالك مادة تثّبت حق رؤساء الطوائف، ومن جهة ثانية مادة أخرى تنص عل مبدأ تخطي الطائفية السياسية. لذلك فإن أي اقتراح يؤدي إلى تخطي الطائفية السياسية كما جاء في المادة 95 من الدستور، قد يعترض طريقه رؤساء الطوائف أمام المجلس الدستوري، مشكلين معاً حاجزاً منيعاً للتقدم والتغيير وصولاً إلى مبدأ المواطنة والمساواة، بدلاً من الحالة المذهبية والطائفية.

بالطبع إنّ مثل هذه المسائل تحتاج الدخول في تفاصيلها لكي نعرف ما إذا كانت طبيعة تكوين الاجتماع اللبناني الذي يتألف من مجموعات من الطوائف والمذاهب الدينيّة، لا يستقيم نظامه السياسي إلّا بوجود نوعين من المؤسسات التمثيلية، يعبّر الأول منها عن وحدة أبنائه في مجلس وطني، والثاني عن تنوعهم في مجلس توافقي متوازن، فضلاً عن الانقسام الحاصل بين اللبنانيين حول مسألة تخطّي الطائفية السياسية والتي ارتبط إنشاء مجلس الشيوخ بتخطيها.
وفي حين يمثل مطلب تخطي الطائفية السياسية في مقدمة الدستور بوصفه هدفاً وطنياً أساسيّاً يقتضي العمل على تحقيقه، إلاّ أن مسألة الطائفية السياسية نراها تراوح بين مُؤيِّد مطالب بالإسراع في تخطيها، ومُستنكر مُذكّر، أو بالأحرى ملوّح، بالخطر المتربص بلبنان في حال الإبقاء عليها من جهة، ومن جهة أخرى بين من يعتبر أنه وفي ظل المجتمع اللبناني التعددي يصعب تخطي الطائفية السياسية نظراً لعدم وجود تمثيل سياسي على أساس وطني غير طائفي.

انطلاقاً من ذلك، كيف لنا أن نستولد من هذه المسائل الشاقة سياقًا لتخطي الطائفية السياسية عملياً؟
مرّة أخرى نعود إلى صيغة نظام المجلسين المقترحة في وثيقة الطائف بغية استيلاد مواطنية تزاوج بين ولاءين متناقضين مثلما تنأى عن مواطنة تمضي إلى الذوبان الكامل في بحور طوائفها ومذاهبها.

إنّ من صفات صيغة نظام المجلسين في لبنان، أنها تأخذ بسبيل الوصول إلى المواطنية الفاعلة، أي التي تدفع بالمواطنة إلى واقع ممكن التحقيق. إذ بينما تعترف هذه الصيغة بالمواطنة المركّبة كحالة موضوعية للبنان ترسخّت على امتداد زمن طويل من الحروب والتسويات والعقود السياسية، تروح تحفر مجراها المغاير للمألوف الطائفي، فإذا كانت القوانين والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام الطائفي، فإنّ تبديلها بقوانين وأعراف مدنية لاطائفية سيولِّد سيرورة جديدة من الآمال بوطن موحّد ومواطنية جامعة.

إن مستهل الطريق إلى مواطنية بهذا التوصيف تستلزم تثمير التسويات التي عادة ما تعقب النزاعات والحروب الأهلية. كأن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانين والمواثيق الجديدة، تطلق سيرورة من الخطوط والعمليات السلمية على قاعدة فك الاشتباك المزمن بين الطائفي والوطني، كعاملين منتجين لازدواجية الانتماء والولاء في البيئة التاريخية اللبنانية.

وإذا كانت المطالبة بإجراءات إصلاحية في قانون الانتخاب، وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس وطني لا طائفي تدخل في هذا السياق، فإن تربية المواطن على حضوره كفاعل في فضاء الوطن هي أساس العملية التغييرية المنشودة.

ذلك أنّ المواطنية الفاعلة هي التي تنتج المواطن المتواصل مع نظيره في الوطن، لا على أساس التقابل الطائفي، وإنّما على أرض الولاء لعقيدة أساسها المصلحة الوطنية العليا.

هذا ما أضاء عليه كثيرون من المفكرين، وعلماء الاجتماع، والمؤرخين اللبنانيين، حين وجدوا أنّ العنف الأهلي مصدره الاستبداد بالرأي، وأنّ من استبد برأيه كان مآله الهلاك، وأن الطغيان يبتدئ – حسب جون لوك – حيث تنتهي سلطة القانون، وتُنتهَكُ حُرمة الآخرين.
مستهل الرحلة باتجاه مواطنية الولاء، هو تظهير مكامن الفطرة الخيّرة في نفوس اللبنانيين، وترجيح العام الوطني على الخاص الطائفي، وكل ذلك بعقلانية مسدّدة بالأخلاق حتى يرجع اللبنانيون إلى بيت الحكمة. ولبيت الحكمة منازل كثيرة كما في مأثور القديس يوحنا في إنجيله. فإذا ما تم تنظيف السقوف اللبنانية بالمعاسف إذ يجب أن يتم تنظيفها مما عُلّق فيها على مرّ الزمان من نسيج العنكبوت فستكون هنالك طرق لا متناهية يمكن من خلالها إعادة النظر في تاريخ لبنان، وصياغته على نشأة الإدراك لحقيقة الوطن والمواطنة.

ونحن وإن كنا لا ننكر ما لصيغة المجلسين من حسنات وفضائل، فإننا نعترف أنها كغيرها من الصيغ الأخرى تبقى بالنسبة إلى نجاحها أو فشلها، رهن الظروف الموضوعية والأساليب التطبيقية، فقيمة أي صيغة لا تكمن في المواد الدستورية التي تتكون منها، وإنما في الإرادة المصممة على تطبيقها والرغبة الصادقة في رعايتها واحترامها والتوافق الشامل على وجوب إقرارها ووضعها موضع التنفيذ.

وعليه، يُطرح السؤال: هل يمكن إنشاء مجلس شيوخ وفق ما هو مطروح في صيغة الطائف؟ أم أن الطائفية هي قدَر اللبنانيين، وأن مسألة التصدي لها لا تزال تحتاج إلى القول الشجاع والموقف الحاسم؟

لقد دلّت التجارب العالمية على أن نظام المجلسين يشكل في بلد متعدد الطوائف كلبنان توفيقاً بين مسألة التمثيل النيابي الشعبي ومسألة مشاركة الطوائف في القضايا المصيرية، مع ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية كما هو الحال في التجربة الفرنسية، خاصة وأن اللامركزية الإدارية واللامركزية الإنمائية تشكلان في الدولة الحديثة قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية والمشاركة الشعبية في تسيير الأمور الحياتية وتسهيلها. كما أن الإنماء المتوازن يعتبر أحد أوجه العدالة الاجتماعية التي تساعد على الحد من الفوارق الطبقية داخل المجتمع.

ولكن أي بحث حول إلغاء « الطائفية « أو تخطيها أو معالجتها أو في قاعدة الكوتا، تطبيقاً أو تغييراً أو تعديلاً، لا فاعلية علمية له قبل البت بموضوع الهيئة الوطنية المنوي إنشاؤها بموجب المادة 95 الجديدة من الدستور التي توكِل إلى هيئة وطنية عليا وضع خطة لتخطي الممارسات الطائفية تجنُّباً لطرح هذا الموضوع في السوق السياسية للتحريض والتفجير وتغذية النزاعات (3).

وبالتالي فإن قضية مجلس الشيوخ مرتبطة إلى حد كبير بالهيئة الوطنية التي تتمتع بدور هام في مقاربة مسألة تخطي الطائفية من ناحية تحديد العلاقة بين الدولة والطوائف (4)، وضرورة تحديد مهل لهذا الموضوع تترافق مع لحظ ديناميكية اجتماعية وسياسية في التغيير، إذ إنّ قضايا التغيير السياسي في لبنان لا تُطرح في أجواء تحريضية وبهدف الفتنة السياسية (5). كما أن المهل القانونية المحض هي بمثابة انذارات لتغذية نزاعات في الفترات المسماة انتقالية وهواجس الاستقواء(6).

من هنا تبدو أهمية قانون الانتخابات على أساس النسبية والذي يشكل نقلة إصلاحية نوعية قادرة على تحسين التمثيل السياسي، وعلى استيعاب جانب من تعقيدات الواقع الطائفي، وتوسيع خيارات الناخبين، والتخفيف من هيمنة الطوائف على مجرى العملية الانتخابية، مما يقرّبنا بالتالي من تطبيق اتفاق الطائف الذي يتحدث عن تخطي الطائفية السياسية كهدف وطني، وأنْ «لا شرعية لأية سلطة تناقض العيش المشترك»، وأن الانصهار الوطني يتحقق في سياق إعادة النظر بالدوائر الانتخابية.لكن هل يعني هذا الكلام أن لبنان سيظل دون مجلس للشيوخ إلى حين تخطي الطائفية السياسية؟ ألا يمكن الاستئناس في هذا الخصوص، بالطرح الذي قدّمه رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي دعا فيه إلى إنشاء مجلس شيوخ لا يترافق مع تخطي الطائفية السياسية، وإشارته إلى أن تعبير «مجلس نواب وطني لا طائفي» الوارد في المادة 22 من الدستور يعني المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وبالتالي يجوز تفسير كلمة «وطني» على قاعدة المناصفة تلك؟

إنَّ اللبنانيين على مر العهود، ولاسيما في مراحل عهد الاستقلال لم يعتمدوا الوسائل الكفيلة بمعالجة مسألة الطائفية ومن خلال رؤية واضحة وتحليل علمي دقيق، وخلق وعي عام ثقافي وفكري وسياسي وخلق إرادة حقيقية في التغيير. فكل التسويات التي تحققت بعد الحروب التي اندلعت في البلد خلال عمره القصير، إنما حصلت على أسس طائفية، ولم يكن ممكنا أن تكون غير ذلك، طالما أن الحروب ذاتها تم خوضها تحت شعارات وبأزياء طائفية أدت إلى ترسيخ الكيان الطائفي والمفهوم الطائفي في النظام اللبناني، على كافة الصعد السياسية والإدارية والانتخابية، ما يجعل مطلب تخطي الطائفية السياسية أمراً متعذّراً في المدى القريب، خاصة وأن لهذه الطائفية جذوراً عميقة، تعود في بنيتها الفكرية والاجتماعية إلى عصور مديدة في الزمن. فبعد أن كانت سداسية الرؤوس في نظامي القائمقاميتين والمتصرفية (ماروني، أرثوذكسي، كاثوليكي، سنّي، شيعي، درزي)، أينعت في عهد الانتداب الفرنسي فبلغت سبع عشرة طائفة معترفاً بها رسمياً في قرار المفوض السامي رقم 60 تاريخ 13 آذار/ مارس 1936، ليرتفع هذا العدد إلى ثماني عشرة طائفة بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وقد أصبحت جزءاً من الممارسة اليومية في لبنان.

بناء على ذلك، يمكن القول إنّ الممارسة الطائفية منذ تطبيق اتفاق الطائف زادت حدّة واتسع نطاقها، وقد ساعدت على ذلك المتغيرات الديمغرافية، وتأثيرها على القيم العامة الثقافية والسياسية، وانعكاسها على القوى الموجودة في مواقع القرار، مثل المجلس النيابي والحكومة والإدارات العامة. كما أنه لا يمكن أن ننكر أن التنافس والصراع على السلطة بين الطوائف هو جزء لا يتجزّأ من التاريخ السياسي للبنان منذ زمن بعيد. وإذا كنا نشهد ما نشهده من صراع طائفي ومذهبي حول التعيينات الإدارية والوظائف العامة وتحديداً تلك التي نصّ اتفاق الطائف صراحة على إلغاء ارتباطها بالتمثيل الطائفي، فكيف سيكون الحال عندما يصل المعنيون إلى إلغاء الطائفية كليّاً من التمثيل النيابي؟

ومادام هناك من لا يرضى بمعالجة مسألة الطائفية أو حتى بمجرد طرحها في الوقت الحاضر، فهذا يعني أن موضوع مجلس الشيوخ حسب صيغة اتفاق الطائف أمر مؤجّل، إلاّ في حالة واحدة وهي تعديل الدستور والنص على إنشاء مجلس شيوخ مع الإبقاء على مجلس نواب طائفي على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وعندها يُطرح السؤال عن مبرر إنشاء مجلسين طائفيين في البرلمان اللبناني؟
ولئن يكن قيام مجلس الشيوخ وارتباطه بتخطي الطائفية السياسية عملية بالغة التعقيد، كمن يقول بأن الثلج لا يصلح وقوداً للنار ولا النار وعاء للثلج، إلّا أن ذلك لا يعفينا من الالتزام بنظام المجلسين. فالمطلوب هو إصلاح نظام المجلسين، وليس إلغاء نظام المجلسين. وبالتالي يجب البحث منذ الآن عن مقاربة استثنائية وقراءة واقعية لطبيعة ما نرمي إليه، حيث إنّ مسألة استحداث مجلس للشيوخ، على مركزيتها وأهميتها، يجب أن تكون مقاربتها مبنية على قاعدة وطنية تؤمّن تمثيل اللبنانيين على مستوى الأفراد والجماعات، وفي إطار المجتمع اللبناني الضامن للوحدة والتعددية. وذلك بهدف تحرير مجلس النواب في وقت لاحق من القيود الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيدا عن الحساسيات الضّيقة والمناكفات الفئوية. حيث يمكن للبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتورات) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، بشكل يؤمن حماية حقوق المواطن والطوائف والمذهب في آن معا.

وإذا كان التمثيل المتساوي لجميع الطوائف حلّاً مرضياً للطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة، الشيعة، السُنّة)، إلّا أن تمثيلاً لكل طائفة ومذهب يبقى أمراً أساسياً لتمكين مجلس الشيوخ من القيام بدوره كضامن لتمثيل الطوائف والمذاهب، ويمكن في هذا المضمار العودة إلى الحل العادل الذي اعتمده «الاتفاق الثلاثي» الآنف الذكر، للطوائف في المرحلة الانتقالية، أي المُثالثة ضمن المناصفة (أي التمثيل المتساوي للطوائف الرئيسية الثلاث مع المناصفة بين المسيحيين والمسلمين). أما فيما يختصّ بأصول انتخاب هذا المجلس فتبدو الضمانة الطائفية أكثر إلحاحاً، ولئن تكن الهيئة الانتخابية المختلطة طائفياً، كما يلاحظ «بيار روندو» بحق، تدفع نحو الاعتدال الطائفي في ظل المجلس الواحد، فهي أسهمت في إضعاف فعالية هذا المجلس ولا سيما في الفترات العصيبة وحملت الطوائف على البحث عن وسائل ومؤسسات أخرى للتعبير عن حقيقة آرائها ومصالحها، كان أهمها المؤسسات الدينية.
وعلى أيّة حال ليس هناك من ضابط للشهوات الفالتة إلّا التمثيل الصحيح والأمين «للعائلات الروحية» في مجلس الشيوخ، باعتباره المانع الأساسي، في الظروف الراهنة، لتحوّل السباق بين الطوائف والمذاهب إلى اقتتال. وليس عيباً، برأينا، إذا كان لبنان كما وصفه سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر بلد التعايش الإسلامي المسيحي وهو ما يجعله ثروة يجب التمسك بها أو كما نظر إليه الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وأوصى بالحفاظ عليه تجربة حضارية وإنسانية لا مثيل لها في هذا الشرق، بل العيب أن نظلّ نكذب على أنفسنا وعلى اللبنانيين جميعا بأنّ كل الحق على ممارسة الحكم بالتراضي، أو كما يسميه اللبنانيون «الديمقراطية التوافقية» التي قليلا ما تشبه، التجارب التوافقية التي اعتمدتها بلدان أخرى أو أن نضع كلّ اللوم على الطائفية السياسية مما يستدعي إلغاءها، كما لو أن بهذا الإلغاء تزول المخاوف والشهوات وتستوي موازين العدالة والمساواة، ويزول بزوالها التعايش الهشّ بين اللبنانيين والمشوب بالشك والحذر. إنّه كلام يقال منذ فترة الاستقلال، بل منذ الإعلان عن دولة لبنان الكبير عام 1920، حتى غدا أشبه بترهيب لكل من يرى العكس.

كما أنّ مقاربة مسألة « الطائفية» ذات المضامين الواردة في ست مواد أساسية من الدستور اللبناني ( 9-10-19-49-65-95)، يعتبره قانونيون ودستوريون وكأنه قانون مشوّه، droit perverti، ويعتبره أخصائيون في العلوم الانسانية عامة وكأنه علم اجتماع فاسد، في حين أن مجرد ورود نصوص في الدستور يعني بداهة أن «الطائفية» حتى في أسوأ مظاهرها هي خاضعة لمعايير وقواعد حقوقية وليست خارج القانون(7). فالنظام الذي نسميه طائفياً هو عملياً غير مطبّق في لبنان – قانونياً – في كل مُندرجاته حيث إنّ قاعدة الكوتا تخضع لشروط إدارية وقانونية وليس إلى علاقات نفوذ زبائنية، وحيث إنّ المادة 9 من الدستور تنص على أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة»، مما يوجب عدم إجبار أي شخص في الانتماء إلى طائفة واعتماد نظام منفتح في الأحوال الشخصية(8).

وعليه، فإن الثنائية البرلمانية التي تقوم كمرحلة انتقالية على إنشاء مجلس للشيوخ دون إلغاء الطائفية السياسية من جهة، إلى جانب مجلس نواب منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، هي ثنائية نموذجية برأينا، ينبغي التركيز على إصلاحها، وعلى تنفيذها، لتحقّق غاياتها المرجوّة منها، كما هي ليست ثنائية الضرورة، هي ثنائية الاختيار، وهي ثنائية مناسبة لطبيعة لبنان، لأنها توافق وتحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدّم والازدهار، وتعزيز الثقة والاندماج بين جميع مكونات الشعب. وهي ثنائية لا تلغي التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي اللبناني، بل تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على الاعتراف بحقوق الطوائف والمذاهب، وعلى احترام التنوع وليس على نفيه، حتى يشعر جميع اللبنانيين أفراداً وجماعات بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفياً لخصوصياتهم، وإنما مجالاً للتعبير عنها بوسائل منسجمة وواضحة. وهي ثنائية تمكّن الطوائف الدينية من التخلي تدريجيا عن الرعاية والحماية الخارجية، مقابل ضمانات من شركائها في الوطن.

لذلك، فإن مفهوم هذه الثنائية البرلمانية لا يكتمل على الصعيد الواقعي في لبنان، إلّا بتعزيز دولة الإنسان اللبناني تلك الدولة التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأفكار مواطنيها، بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله الطائفية أو المذهبية أو القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثّل في النهاية مجموع إرادات الأفراد والجماعات المكوّنة لها، وتؤمن الأمن والطمأنينة لكل المواطنين.

لسنا هنا بصدد محاكاة أحلام خيالية، فكما أنّ العداوات والحروب صار تركيبها على أيدي اللبنانيين فيما تولّت العوامل الاجتماعية والثقافية تقديسها، كذلك يمكن استئصالها من ذاكرتنا. ليس مستحيلاً، بل وليس صعباً، أن يعاد تكوين الولاءات المجتمعية في لبنان. فالمجتمع، متى تسنّت له قيادات حكيمة وأنتلجنسيا تتمتع بخطاب لا يثير القرف من كثرة ما استُهلك حول «الطائفية» و «الطائفية السياسية» و «العلمنة» وما إلى ذلك من الكلمات القذائف(9)، فعندها يمكن للبنان أن يشكل في إدارته العقلانية للتنوع أمثولة لدول عربية تتحكم فيها طائفية من لون واحد ويتقوقع فيها المواطن في الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.
إنّه التحدي والمصير الأكبر الذي ينتظر بلداً جَعَلْنا منه دولة ولكن لم نعرف كيف نرفعه إلى مرتبة وطن.


المراجع:

1- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 208.
2- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص: 207.
3- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سبق ذكره، ص:155.
4- المرجع السابق، ص: 336.
5- المرجع نفسه، ص:155.
6- المرجع نفسه، ص:94.
7- أنطوان نصري مسرّه، النظرية الحقوقية، مرجع سبق ذكره، ص: 404.
8- المرجع السابق، ص: 429-430.
9- أنطوان نصري مسرّه، النظرية العامة، مرجع سابق، ص: 356.

الذكرى الثالثة بعد المئة لمولد “المعلّم” كمال جنبلاط (2020-1917)

المعلّم كمال جنبلاط

ما سرُّ هذا الرجل؟ ما الذي يجعل من ذكرى مولده السنوية نقطة احتفاء وتلاقٍ بين المُثقَّفين وقادة الفكر، من اتجاهات فكرية وسياسية متباينة – ربما اختلفوا في أشياء أخرى كثيرة لكنهم يجتمعون في ذكرى مولده، كلٌّ يتناول جانباً منها، فيكتب صفحات مطوّلات، ثم يقول: اعذروني لم يسمح لي ضيق المجال بالمزيد من التوسّع في أفكار المعلّم، والمزيد من الإفاضة في تفسيرها وشرحها. أمّا الأكثر إلفاتاً في ذكرى مولده الأخيرة، فقد كانت العودة العفوية غير المسبوقة إلى أفكاره: قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً (أي منذ محاضرته في «الندوة اللبنانية» سنة 1946 تحت عنوان «رسالتي كنائب»)، ونصوص «ميثاق» الحزب التقدمي الاشتراكي الفلسفية، أيار 1949، إلى إصراره على معالجة الطائفية السياسية من خلال العلمنة وفصل السلطات واستقلالية القضاء والحياد الإيجابي التي تضمنها برنامج «الجبهة الاشتراكية» سنة 1952، وصولاً إلى مشاريعه الإصلاحية التفصيلية التحديثية، منذ سنة 1959 إلى البرنامج المرحلي لإصلاح النظام السياسي اللبناني الذي أعلنه في آب 1975، بحضور القادة الوطنيين، مسيحيين ومسلمين.

سأترك نصوص هذا الملف الاستثنائي في «»، التي تفضّل بها بعض كبار كتّابنا، تتحدث عن جوانب عدّة في فكر المعلّم؛ وليس في وسع نصّ واحد، ولا عشرة نصوص، أن تحيط بأبعاد فكره المتعدد الطبقات والاستشرافات، وفي كل مجال تقريباً.
وأخيراً، إذا سمحت لنفسي تفسير بعض أسباب الأهمية المتزايدة، سنة بعد سنة، لفكر كمال جنبلاط ومشاريعه الإصلاحية، لاختزلتها في ثلاثة:

1- اشتمال هذا الفكر، وكما لدى كبار المفكرين، على معظم الموضوعات التي تعني المجتمعات الحديثة، والإنسان الحديث، من هموم وأسئلة، وبخاصة تلك المتصلة باصطدام إنسان اليوم بالحضارة المعاصرة «المادية»، الرأسمالية والشيوعية، في آن معاً، ورفضه من ثمة كل الأجوبة، بل القوالب، الفكرية التقليدية الجاهزة.

2- الحفر المستمر لكمال جنبلاط في طيّات أفكار البشر واختباراتهم الروحية بحثاً عن الحقيقة، بعيداً عن «ثقافة عصر الصور» التي نحيا أشد فصولها توحّشاً، في ما سميّ بعصر «العولمة الاستهلاكية»، في الخارج، وعصر «الفساد الأسطوري»، في الداخل.
3- كمال جنبلاط، باختصار، هو فيلسوف الإنسان والحرية والتقدّم والبحث عن الحقيقة، دون ادّعاء أو احتكار أو إقصاء.

4- ولعل السبب الرابع «المحلي»، هو حال الاهتراء في نظامنا السياسي والفساد المستشري، اللذين أعادا إلى الواجهة، فكر «المعلم»، وسمعته الذائعة الصيت، ومشاريعه الإصلاحية.
لهذه الأسباب، وسواها، يتجدّد الاهتمام، في كلّ حين، بفكر كمال جنبلاط «المعلّم»، و«الضّحى» في هذا الملف إنّما تواكبُ، وكما حالُها دائماً، اهتمامات قرّائها.

.


تَحِيَّةٌ إلى المعلّم الشّهيد

د. بلال عبد الله

 

أكثر من أي وقتٍ مضى يتّضح أنّ فكر كمال جنبلاط الفلسفي والاجتماعي والسياسي هو فكر مبدع خلّاق متطوّر من تلقاء نفسه، صالح لزماننا وأوضاعنا في لبنان والوطن العربي، وذلك كله يعود لأن هذا الفكر يركّز على المحور الإنساني وعلى مفاهيم العدالة والقيم والأخلاق والسلام والبيئة.

إذاً نحن أمام منظومة فكرية مترابطة حاولت النبش عن الحقيقة في كل ميادين الكون والطبيعة والأمم والإنسان، فنسجت قراءة وتحليلاً لجوهر الحياة الاجتماعية الإنسانية، وليس فقط بظاهرها وفق اعتماد المعلم نظرة وحدة الأضداد، أي العلاقة بين الظاهر والباطن، بين المبدأ والممارسة، بين الالتزام وحسن التنفيذ.

هذا الميراث الفكري المتنوّع والغني، يشكل لنا البوصلة والجوهر في كل برامجنا وخططنا وعملنا، بغض النظر عن التفاصيل في البرامج والصياغات وخطط العمل والتكتيكات اليومية، إلّا أن الأمل كان ويجب أن يبقى الالتزام بالفكر الإنساني التقدمي الاشتراكي لكمال جنبلاط مهما تغيرت الظروف وتبدلت الوقائع، والتي على أساسها يجب أن تتغيّر وتتبدل البرامج بين الجوهر أي العقيدة والقناعة بالإنسان يجب أن تبقى الأولوية التي تحكم مسار العمل السياسي والحزبي.

على سبيل المثال، فإنّ المعلم الشهيد قد أشار إلى مبدأ المثالية الواقعية أي أن نحاول ربط مبادئنا وقناعاتنا وعقيدتنا بالواقع المعاش بتعقيداته وأزماته وظروفه لكيلا نبتعد عن الناس – الإنسان، ممّا يجعلنا أقدر على اقتراح المخارج للأزمات والحلول، لأنه في الربط بين المبدأ والواقع مع صعوبة ذلك أحيانا تكون الفروقات المنطلقة من القيم والمبادئ متلاصقة أكثر بالإنسان بحاجاته ومطالبه وتطلّعاته.

وفي مكان آخر، ربما استكمالاً لهذا المفهوم يطرح كمال جنبلاط مفهوم التسوية بكل معانيها وتنوعها وشموليَّتها وفي كل شيء لأنّ استمرار الحياة وحماية المجتمعات والشعوب تتطلب القدرة على صياغة التسويات، أكان على صعيد الممارسة الفكرية أو تعايش الأديان أو تعدّد الثقافات أو تقارب المصالح الاقتصادية وحصرية صياغة عقد اجتماعي عادل وغير ذلك…

كلّ هذه الأمور تُظهر صحّة مبدأ التسويات في الممارسة وتاريخنا يشهد البعيد والقريب على هذه الممارسة في الحياة السياسية وبالتحديد بعد كل الثورات والحروب الأهلية.

إلّا أنّ ما يميّز فكر كمال جنبلاط هو أنه استطاع أن يكرّس لونا جديداً لليسار وللاشتراكية تعتمد العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروة والضمانات وحماية الحقوق، ولكن مع بُعد إنساني قلّ نظيره يعتمد حرية الإنسان كمحور لكل المبادئ لا قيد أو شرط أو تضييق على هذه الحريّة مهما كانت الاعتبارات. إنها الحرية المسؤولة التي تبقي على الإبداع والتطور والعطاء وتبرز النخبة في المجتمع القادرة على التعادل في كل الميادين.

هذه الحرية التي وصفها المعلّم في صميم ميثاق الحزب وأدبيّاته جمعاء ورفض المساومة عليها بل أكثر، فقد دعا الحركة اليسارية العالمية آنذاك إلى الارتقاء واعتمادها نهجاً وممارسة.
وقد أطلق هذه المواقف في كلمة شهيرة له في محاضرة له في افتتاح مؤتمر للحزب الشيوعي اللبناني تحت عنوان «بما يطوّر ويستكمل الماركسية» حيث حاول أنسنة الفكر اليساري وجعله أقرب إلى التطبيق وعدم تضييق حرية الفرد والإفساح بالملكية الشخصية وتخفيف الاحتقان والصراع بين الطبقات، والعمل على إضفاء روح التعاون وإشراكنا بها أي ألّا نبقى أسرى الصراع الطبقي وما نتج عنه من تشوهات وممارسات ونتائج كارثية في العديد من المجتمعات.

وتبقى المسألة الأهم التي كانت وما زالت عند فكر كمال جنبلاط التقدمي اليساري ألا وهي تصالحه مع الأديان السماوية جمعاء، فهدف كتاباته يؤكد أن الفكر الاشتراكي الإنساني قد ولد مع الأديان السماوية والتي تُجمِع كلها على العدالة والتسامح والرحمة والأخلاق والقيم والتي من رحمها ولد المفهوم الاشتراكي الحقيقي قبل أن يتحول فيما بعد إلى فكر طائفي سياسي بعيد عن منطلقات الحدث الأساسي. إذاً فإنّ فكر كمال جنبلاط لا يتعارض بالمطلق مع الدين، وهو من هذا المنطلق آمن بالعلمانية، وخاصة في لبنان كحلٍّ نهائي للأزمة الطبقية المتوارثة من جيل إلى جيل والتي تمنع قيام الدولة العصرية الحديثة الموحَّدة.

فبقدر ما أحترم والتزم كمال جنبلاط بقيم الأديان ومنطلقاتها وعمقها الإلهي والإنساني بقدر ما وقف في وجه التطرف الديني والطائفي والمذهبي. ولذلك كان ينادي بالعلمانية للأنظمة السياسية وفصل الدين عن الدولة. ويتضح اليوم أنّ هذا الشعار وإن كان يتراءى للبعض أنه بعيد المنال ولكنه يشكل الحل الوحيد للبنان للخروج من مأزقه السياسي والوجودي ويخرجه من سياسات المحاور والارتباط بالخارج ويساهم في انصهار كامل لكل الشباب في البوتقة اللبنانية الواحدة بعيداً عن أي انتماءات أخرى.

سنبقى أبناء هذه المدرسة نؤمن بأنّ التقدمية الاشتراكية الإنسانية هي الطريق السليم لبناء مجتمع العدالة والحداثة والوحدة.


مع كمال جنبلاط: الإصلاح يجب أن يأتي من داخل الانسان

أ.رامي الريّس

 

في كل مرّة نستل فيها القلم للكتابة عن المعلم كمال جنبلاط، تتزاحم المصاعب والتحديات، وتتداخل الصور والمفاهيم بين النظري والواقعي، بين الخاص والعام، بين صفة الباحث والكاتب وصفة المؤمن بتعاليمه ومبادئه. ويتبادر إلى الذهن فوراً ما إذا كان ثمة إمكانية فعليّة للكتابة عنه وعن تراثه الكبير في الفكر والسياسة والفلسفة والأخلاق والاقتصاد وسواها من نواحي الحياة المتنوعة بما يوفق بين الالتزام بمقتضيات الكتابة البحثيّة والموضوعيّة، وبين إشباع تلك الرغبة الجامحة والحاضرة دوماً للاستزادة مما كتبه وعمل في سبيله.

ولكن بعيداً عن الوجدانيات التي تفرض ذاتها في كل مناسبة تتطلب العودة إلى فكره (وهي تتزايد بصورة مضطردة نظراً لحالات التحلل الاخلاقي والمجتمعي المتنامية لا سيّما في الوسط السياسي اللبناني)، ثمة مرتكزات يمكن الركون إليها في الموضوع قيد البحث ومنها عنوان لطالما رغبتُ بالتركيز عليه وهو يتصل بالأخلاق في السياسة.

إن الهوّة السحيقة اليوم بين المواطن والدولة وبين المواطن والمكونات السياسيّة إنما تولد الانطباع العارم بأن السياسة هي لعبة قذرة يتقاذفها من لا يستحقون الثقة ولا يتمتعون بالمصداقيّة ولا يحسنون تدبير الأمور ولا يقدّرون الوكالة الشعبيّة التي مُنحت لهم.

قد يكون ذلك محقاً في جانب منه، إلا أنه قد لا يصحّ على كل الأطراف بالتساوي. فثمة قوى تقبض على السلطة بكل مفاصلها وهي التي تتحكم بمسار الأمور صعوداً وهبوطاً وفي كل الاتجاهات والمجالات. لكن ليس المهم الآن الدخول في تبرئة ساحة أحد أو إثبات الاتهام على أحد، بقدر ما المهم العودة إلى النقاش في عمقه ألا وهو ممارسة السياسة بأخلاق، انطلاقاً من أنها مهمة شريفة ترمي في الدرجة الأولى إلى خدمة المواطن ورفع مستوى عيشه الاجتماعي والانساني وتطبيق المساواة بين الناس بمعزل عن انتماءاتهم الطائفيّة او المذهبيّة أو العرقية أو سواها من الحواجز التي تنتصب للتفريق بين أبناء الشعب الواحد وإيهامهم بأن ثمة انتماءات لا بد لهم أن يحافظوا عليها على أنها تسمو فوق الانتماء إلى الوطن والدولة. وفي ذلك خلط هائل للمفاهيم وتشويه للعمل السياسي والوطني بكل مرتكزاته.

لقد شكلت فلسفة الأخلاق عند كمال جنبلاط مدخلاً لكل آداب الحياة وسلوكياتها، وهو نجح في مؤلفاته وكتبه بالتوفيق بين المقتضيات النظريّة للوجود وأسراره وبين مستلزمات الواقع بكل تعقيداته ومنعطفاته.

في أدب السياسة، قال كمال جنبلاط: «لا يُبنى وطن على التكاذب المشترك، ولا على التسويات المبطنة التي تُظهر شيئاً وتستبطن شيئاً آخراً، وكأنها هدنة بين معركتين أو استراحة بين حربين».

من قال أن السياسة والأخلاق يجب أن يكونا على طرفي نقيض؟ من قال أن ما كتبه كبار الفلاسفة في مجال حقوق الانسان والديمقراطيّة وصحة التمثيل الشعبي وأسس المشاركة في السلطة غير صالح للتطبيق في عالم تطغى على الممارسة السياسية فيه كل أشكال الزبائنيّة والرأسماليّة الجشعة والمحسوبيات؟ أليس العكس هو الصحيح؟ ألا يفترض العودة إلى كمال جنبلاط وسائر المفكرين الأحرار الذين رسموا خارطة طريق لكيفية النهوض بالمجتمعات وإعلاء شأن الإنسان أولاً وأخيراً؟

كل فكر كمال جنبلاط يتمحور حول الانسان ورفعته وسبل تطوير أحواله وتحريره وإخراجه من قعر الحرمان والتخلف والجهل والأمية. لذلك، ركّز على الوعي بشكل كبير كمدخل حتمي وممر إلزامي لإصلاح المجتمع ودفعه نحو التقدم والتطور. وللتذكير، هو الذي قال: «الإصلاح يجب أن يأتي من داخل الانسان»، كما أنه هو الذي اعتبر أنه من المفترض جعل الانسان هدفاً للسياسة وليس العكس، والأمر نفسه ينطبق على الدين.

الختام مع قول لكمال جنبلاط يختصر الكثير: «الإنسان منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا… يبحث بعطش محموم عن الاستقرار والسعادة.. والاستقرار شرط من شروط السعادة (…). يطلب الانسان السعادة خارج نفسه، ولا يعلم أن السعادة التي يطلبها من الأشياء ليست موجودة أصلاً في الأشياء.. إنها موجودة في صميمه».
هذه العبارة تختصر كل الكلام، ولا كلام بعدها.


كمال جنبلاط التّوحيدي المُتَعدّد: في تذكُّرِ دقائقَ معه حول برغسون

د. أنطوان سيف

 

المناسبة: دعوة كمال جنبلاط من قِبل «رابطة طلاب كلية التربية» في الجامعة اللبنانية، التي كنتُ أرأسها في العام 1968، لإلقاء محاضرة في الكلية للطلاب والأساتذة في موضوع يختاره في الشأن العام الراهن، حينذاك، في لبنان والعالم العربي، وهي واحدة من سلسلة محاضرات اتَّخذنا قراراً بتنظيمها تضمُّ تباعاً أحد ممثِّلي القوى السياسية الفاعلة في لبنان، أو علَماً فكرياً سياسياً. وكان وفدُ الرابطة مؤلّفاً من ثلاثة أو أربعة أعضاء، بالإضافة إلى الزميل الصديق الشهيد أنور الفطايري الوسيط الذي تولَّى الاهتمام العمليّ بهذا اللقاء والاتفاق على موعده… وقد أعلَمَنا عن الموافقة المسبَقة والترحيب. وكانت الزيارةُ بروتوكوليةً، وفرصةً من قِبلنا، للالتقاء بشخصية فريدة ونادرة في حقول متداخلة متعدّدة جَمعَها ووحَّدَها في ضميمٍ منسجم: في القيادة السياسية والحزبية، والمعارف والأفكار الفلسفية، والشعر والكتابة، والروحانيات العرفانية، وفي المواقف والمسلك الخاص والعام… وعندما وصَلْنا، كانت القاعةُ لا تزال تضجُّ بمن تبقَّى من الزائرين من أهل المطالب من الزعيم الذي انتصبَ واقفاً لاستقبالنا، ولم يَعُد للجلوس إيذاناً بتوديع الباقين. وما زلتُ أذكرُ من ذلك المشهد آخرَ المودِّعين، وكان بلباسه القرويَ قائلاً: بَعدنا يا بيك ناطرينك تتشرّفنا بتلبيتك لعزيمتي لك على الغداء، التي ما زلتَ تؤجِّلها. فردَّ كمال جنبلاط، المعروف بظرفه، وعلى مسمعٍ من جميع الحاضرين: إنسيها هلّق ها لعزيمة، لأني بها الأيام عم بَعمل ريجيم! وألحقَ هذا الردّ بضحكةٍ خفيفة تدلُّ على المداعبة، نظراً إلى أنَّ البيك، النحيلَ أصلاً، معروفٌ بتقشُّفه في المأكل، واجتناب تلبية العزائم قدرَ الإمكان!

عقبذاك تفرّغَ لنا. وبعدما عرضتُ له الغايةَ من زيارتنا، وخلفياتِ قرارها الوطنية والديمقراطية، ونلنا الموافقة السريعة، مع ترك بعض التفاصيل الخاصة باللقاء الموعود إلى فترةٍ لاحقة، بادَرَنا بالسؤال عن ميادين تخصُّصاتنا الجامعية، ومعلِّقاً عليها وعلى إشكالياتها الأساسية، وروى لنا كيف عالجَ نماذجَ منها على مستوى السلطة التنفيذية في الوزارة، وفي النيابة. وانتقلَ إلى الكلام العام في الاجتماع والسياسة والثقافة انطلاقاً من ثنائية مفهومَي «المجتمع المنغلق» «والمجتمع المنفتح» عند الفيلسوف برغسون، وإمكانية قراءة هذه النظرية وحدود تطبيقها في المجتمع اللبناني، والمجتمعات العربية عموماً. وانتقلَ بعدها مركِّزاً على نظرية برغسون في الأخلاق، وموقفِه من المعرفة والعلم، وبخاصةٍ علم النفس: الوعي بالزمان والذاكرة، وموقفِه من الحضارة المادّية المنتشرة في الغرب، ونزعتِه الروحانية… وموضوعاتٍ أخرى لم أعد أذكرها، وكأننا كنَّا في درسٍ جامعيّ ينمّ عن عمقٍ لافتٍ في فلسفة برغسون وإلمامٍ واسعٍ بتفاصيلها! والأهمّ في كل ذلك، والمدهش أيضاً، هو مواقفُه الفكريّة منها، وردوده الجاهزة على مواقفَ انتقاديةٍ وُجِهت ولا تزال تُوجَّه إليها، ومحاولته قراءة أُسُس هذه الفلسفة الغربية بقاعدتها الروحانية على كونها ذاتَ أبعادٍ تُضيء على تاريخ الحكمة الشرقية، والديانات، والروحانيات الإشراقية العرفانية، وضرورة التقدُّم بالمعرفة العقلية والعرفانية، وعلى إيقاع «التطوُّر الإبداعي الخلّاق» في جانبها الإنساني، كما في كل الكائنات الحيّة، وكذلك في الحضارة …
في ذاك «الدرس الخصوصيّ» المفاجئ غيرِ المتوقَّعِ وغيرِ المعهود، وجدتُني تهيَّبتُ الموقفَ كوني، كما بدا لي، المعنيَّ الأكثرَ بهذا الشرح، وإنّي أُعامَلُ من سيِّد الشرح على هذا الأساس، إذ كنتُ وحدي، من بين زملائي أعضاء الوفد الطلّابي، من قسم الفلسفة الذي أعلنتُ عن انتمائي إليه في بداية اللقاء. وما عزَّزَ ذلك الانطباع مداخلةٌ منِّي أظهرتْ اهتمامي بهذا الشرح ودرايتي بجوانب من الموضوع، ما وفَّرَ لتلك الجلسة، على ما أظنُّ، شروطاً لحوارٍ فكريّ وفلسفي، وللاسترسالٍ تالياً في التفسيرٍ، بدا لنا جنبلاط يجد فيه متعةً، ويُظهِر به، تلقاءً ومن غير قصد، الجانبَ الأساس من هوّيتِه بأنه «مُعلِّم»، اللقبُ الأكثرُ مطابَقةً لكينونته الشخصية ولحضوره كقائدٍ وكمرجعٍ ثقةٍ لشعبه، لقبٌ ملازِمٌ له، بالسليقة وبالدربة المكتسَبةِ باستمرارِ المزاولة. فالتعليمُ إذ يقوم على نقل المعارف والعلوم، هو، بعُرفه، واجبٌ ورسالةٌ والدربُ الوحيدُ لسموّ الإنسان باتجاه غايةِ إنسانيّتِه القصوى بالمعرفة، «المعرفةِ التوحيدية الأخيرية، هذه الحكمة…التي تلتزم بمنطق العقل الأرفع دون الاستنارة بأيِّ وحيٍ سوى تعليمِ وإرشادِ الشيخ أو القطب، أو المعلِّم الحكيم»، كما قال في كتابه «مصادر الحكمة في التاريخ» (الدار التقدُّميّة ص 16)… لم يكن يُعطي معلوماتٍ مدرسيةً عن فلسفة برغسون، بل كان يدلُّ على حكمةِ علاقتها بأكثر من حقلٍ معرفي، وعلى كيف ينبغي أن تُفهَم بأبعادها المختلفة، «هذه الحكمة، هذا التحقُّق، وهذا الإشراق هو اختبارٌ كأيّ اختبارٍ علميٍّ آخر، كما بدا لوليم جيمس ولبرغسون…في مستوى الظواهر النفسية، لأننا في علم النفس نمتحنُ طاقةً لطيفةً خفية…» (ص 17). هذه «الرسالة التعليمية» هي صادرةٌ عن قائد مسؤول عن شعب، ومنه عن الإنسانية جمعاء. قال بوضوحٍ تام: إنَّ «أشرفَ مهنةٍ على وجه الأرض هي تمثيلُ الشعب وقيادتُه، حيث لا يوجد أشرفُ منها مهنةٌ، إذا عرفنا أن نضعَها في مستواها اللائق» (كمال جنبلاط، كتاب «الإنسان والحضارة»، الدار التقدمية، ص 66). شرعيةُ قيادته لم يُنزلها يوماً عن قوس المساءلة الصارمة بمقاييس أخلاقية رسولية حول واجبات القائد في الخدمة آمنَ هو بها، لا بحسب قوانين رسمية ومراسيم وضعية وحسب، وهو سليل العائلة الإقطاعية التي تتوارث الزعامةَ جيلاً بعد جيل! ألم يتساءل في محاضرة له في بيروت، مفتتحاً بها عهد «الندوة اللبنانية»، ندوةِ ميشال أسمر، بأوّل نشاطٍ لها، التي باتت بعدذاك، وعلى مدى ثلاثة عقود، المنبرَ الثقافيَّ المُجلَّ الصيتِ وطنياً وعربياً وعالمياً، محاضرةٍ بعنوان: «رسالتي كنائب»؟ أي، لماذا أنا نائب في البرلمان اللبناني؟ وقدَّم فيها ذلك النائبُ الشابُ الذي كانَه، ابنُ التاسعة والعشرين يومذاك، (18 تشرين الثاني 1946)، نصّاً أخّاذاً في الأدب السياسي، والفكر السياسي، والمسؤولية السياسية الكبرى «كرسالة»، بل «أمثولة» في العمل السياسي، كما لم يفعل أيُّ سياسيٍّ آخر؟
تلك الجلسةُ مع إنسانٍ نادرٍ بتمايُزه، ثريٍّ بشخصيَّته، بدقائقها القليلة، وبتذكُّرها المشوَّش، بعد نصف قرن، لكثيرٍ من تفاصيلها، لم يحجب حقيقةَ دلالاتها الواسعة العاتية على الامِّحاء. لاحظتُ مُذ ذاك أنَّ مدلول هذا الفيض في معرفة برغسون، ومن دون أيَّة إشارة نقدية سلبية منه، يشير إلى أنَّ لهذه الفلسفة مكانةً لافتةً في فكر كمال جنبلاط لم يتوقف عليها، مع ذلك، في بحثٍ مستقلٍ من مؤلفاته العديدة! وبدت هذه الفرضيةُ مؤكدةً بمطالعتي المعمَّقةِ لأفكار الفيلسوفَين: برغسون وجنبلاط، والأثر البالغ، ولكن ليس الأوحد بطبيعة الحال، الذي تركَه الأوّلُ في الثاني. وهذا ما أظهرتُه في مداخلتي المطبوعة بعنوان «كمال جنبلاط: الحرية وتحديات العصر» التي أَلقيتُها في «منتدى الفكر التقدمي» في بيروت، وبدعوةٍ من هيئته الإدارية، في 31/3/1993 في ندوةٍ بعنوان: «كمال جنبلاط القائد والمفكِّر»، بمناسبة الذكرى السنوية السادسة عشرة لاستشهاده، شاركَ فيها الأساتذةُ: إدمون نعيم، محسن إبراهيم، أنطوان سيف، مُنح الصلح، كريم مروّة، وأمين مصطفى. ونشرتُها كاملةً لاحقاً في كتابي: «ثلاثة حكماء من جبل لبنان: بطرس البستاني «كمال جنبلاط» عادل إسماعيل»، ط 1999، وخصَّصتُ فيه حوالي عشر صفحات (ص 135-144) للكلام على هذا التأثُر(التناص) الذي يعني قراءةً خاصةً لأفكار برغسون في صرح فلسفة جنبلاط المتعدّدة المصادر، الغنيَّة بتنوُّعها وتأويلاتها وإبداعاتها، ككل الفلسفات الكبرى!(وأُذيعت بصوتي في تلك الندوة، في إذاعة «صوت الجبل»، أكثرَ من مرَّة)، وفي كتابي إشارةٌ عابرةٌ إلى تلك الجلسة المذكورة، صغتُها منذ ثلاثة عقود ونيَّف، على النحو التالي: «… برغسون (1859 – 1941)، الأستاذ الروحي لكمال جنبلاط، وأكثرُ أساتذته حضوراً في أطاريحه ومقولاته… كان جنبلاط يشرحُ نظرياتِ برغسون ويؤوّلُها بشغَفٍ ظاهر. كانت مادةَ تدريسِه المفضَّلةَ التي يَبرعُ فيها بامتياز، هو الذي كان يُدعى بين مريديه والمقرَّبين منه، وعن جدارة، «المعلِّم» (ثلاثة حكماء…، ص 135).

ويُعطَف هذا التقريظُ لفلسفة برغسون على تقريظٍ لآراء عالم الأنثروبولوجيا تيار دو شاردان التطوُّري، مع كونه رجلَ دين، الذي أعلنَ أنَّ أهداف التطوُّر ثلاثة:

1- «الزيادة في طاقة الوعي: الفهم أو الوعي الخارجي من جهة أي الحرية، والوعي الداخلي أي الارتفاع في فهم الانسان لذاته الحقيقية ولقيَمه وقيَم الوجود.
2- نزعة التطوُّر إلى التجمُّع البشري Socialisation humaine
3- وإلى أنسنة الانسان».

وجنبلاط يوافق على أنَّ التطوُّر ليس محصوراً في الأجسام الحيَّة، كما يقول شاردان (نزوع الكائنات اللّاحيّة إلى الحياة)، إلاّ أنه يتحفَّظ على تفاصيل مواقف شاردان من هذا التطوُّر (كمال جنبلاط، الإنسان والحضارة، ص 117 – 118)، ويقول جنبلاط أيضاً في كتابه «مصادر الحكمة في التاريخ»: «والإحسان هو تمامُ توفية الإنسان، عبر تطوُّره من المادة إلى العقل الأرفع، ومن الظلمة إلى النور، ومن الحيوانية البهيميّة إلى الإنسانية المُشرِفة على عالَم المِثالات الإلهية، لحقيقة وجوده وأصالة فضيلة طبيعته» (ص 54).أشاد جنبلاط بفكرة برغسون عن «الأخلاق المغلَقة» في «المجتمع المغلَق» (التي تستحضر التقاليدَ التي لم تَعُد مفيدةً في الحاضر، وباتت عبئًا عليه وعائقاً أمام تقدُّمه) وعن «الأخلاق المنفتِحة» (التي يقرِّرها ثوّارٌ كبار: كالأنبياء والقدّيسين والأبطال الشعبيِّين) فيجدِّدون بها المجتمعَ والحضارة ويعطون دفعاً عظيماً للتقدُّم. ولكنَّ هذه «الأخلاق المنفتحة» لا تلبث أن تغدو، على مَرّ الزمن، منغلقةً، ولا بدَّ من تغييرها بأخلاقٍ منفتحة جديدة. وهكذا دواليك.
هذا التعاقُبُ بين المنفتحة والمنغلقة، قرأه جنبلاط بشكلٍ جدليّ (ديالكتيكي)، بخلاف برغسون، وهذا ما ميَّزه أيضاً عن جدليّة (ديالكتيك) الاشتراكيين المادِّيين. وكان يرى دوراً أساسياً في التغيير والتقدّم يقوم به القادةُ الروحيون والسياسيون والحزبيون (وهو منهم) في الثورة التي ستخلِّص المجتمعَ من الانغلاق، والناسَ من الجهل، عن طريق المعرفة. ويوضح: «لستُ بداعٍ إلى ثورةٍ معلومة، بل إنّا نريدها ثورةً روحية، نريدها جامحةً كالأعاصير، تُلهب النفوسَ، وتمحو القيود، وتصهر الأمّة، وتوحِّدُ وطناً، وتبني دولة»… «لأنَّ الاقتصاد، في الحقيقة، نتيجةٌ ومظهرٌ لمجموع قوى وإمكانات مادية وعقلية وروحية» (كتاب «الإنسان والحضارة»، كمال جنبلاط، ص7، محاضرة في بيروت 15-4-1947). وتأثّر أيضاً بالمفهوم البرغسوني: «دُفعة الحياة»، أي جوهر الحياة المتطوّرة باستمرار، ويسمّيها أيضاً «حيويّة الحياة»، التي تتلازم وتتماهى عنده مع الحرية والعقل والحكمة التي هي عقل العقلاء. كل ذلك في مسيرةٍ يتداخل فيها التناقضُ والتسامي بوجهةٍ صوبَ «العقل الأرفع».

لقد انفتحَ جنبلاط بمواقفه الفكرية والعمليّة على أكثر من مصدرٍ على مرّ التاريخ منذ أقدم القديم حتى المعاصَرة مع العلوم الحديثة. فالثابتُ الجوهري فيها هو الإنسان الذي يجب أن ننمّيه باستمرارٍ بالمعرفة…

في ختام هذه المداخلة المقتضبة، المداخلة / الشهادة، أُشيرُ إلى المكابدة في الكتابة، المقتضبةِ خصوصاً، عن جنبلاط المتعدّد والمتنوّع والمنفلش على أصقاع شتى من المعارف والعلوم والفلسفة والمعتقدات والأديان والمذاهب والطرائق والاشراق والأدب والشعر و«فيما يتعدّى الحرف» وغيرها، وإضافة مكابدةٍ أخرى تتعلق بكونه قائداً سياسياً واجتماعياً وروحياً… وقد عانيتُ هذه المكابدةَ، ومتعتَها، مرَّتين: الأولى، منذ ثلاثة عقود، وبعدما سقطت عندي فيها منهجيةُ «الإحاطة»، واستعصتْ عليَّ منهجيةُ «لا يدرك الشبيه إلّا الشبيه»، واستغلقتْ عليّ منهجيةُ «غير السالكين»، قلتُ بتهيُّبٍ وقتذاك:»فمن يَجرؤ، بوعيٍ تام، على أن يتحمَّلَ تبعاتِ ضغط هذه الآفاق (الجنبلاطية) المفتوحةِ، في قمقمٍ من الأسطر، ويدَّعي، مع ذلك، إيضاحاً، أي إخراجاً من الليل إلى الضحى…؟». وهذه الثانية، أخترتُ لها حلَّةَ شهادةِ شاهدٍ أَحيَيتُها من ذاكرةٍ منهوكةٍ، شهادة ذاتية، معه، في ومضةٍ مستدامة، تأتي في سياق معاناةٍ عامة وطنية غيرِ مسبوقة في إطار كارثةٍ فاجعة ثلاثية يكابدها اللبنانيون منذ سنة ونيف هي، بأحد معانيها القاسية، اغتيالٌ ثانٍ له!

وعلى الرغم من كل هذا الترهُّل العام، بل بسبب هذا الترهُّل، يبقى كمال جنبلاط مشروعَ أملٍ وتقدُّمٍ وفرحٍ وكلامٍ نقيٍّ لا ينضَب.


الدِّيمُقراطية في نظر كمال جنبلاط

د. رياض شـيّا

 

قد تكون الكتابة في الديمقراطية عملاً فيه شيء من الرتابة، لكثرة الذين كتبوا فيها، وكثرة ما كُتب عنها، وما أمعنوا وعالجوا فيها من زوايا متعددة. لكنّها قليلة نسبياً تلك التي تناولت معالجة كمال جنبلاط للديمقراطية ونظرته إليها. وهذا الأمر بالذات كان الدافع وراء هذه المحاولة، مع العلم المُسبق أنّها لن تكون الأخيرة، ولن تكون الشاملة. فالذي يقترب من فكر كمال جنبلاط، كمن يقترب من بحرٍ مترامي الأطراف وبعيد الأعماق، كيما تدرك أبعاده ونهاياته. فإذا ما اقتربتَ من أحد شطآن فكره الشمولي، محاولاً إدراك أحد موضوعاته، تجدك مدفوعاً إلى البعيد والعميق، فترى نفسك أمام عالم أكثر واقعية وأشد عقلانية وأكثر اقتراباً من الحقيقة، التي كان يراها هو ساطعة كالشمس. من هنا كانت المحاولة تفرض ارتياد رحلة معرفية بعيدة وعميقة، وصولاً إلى حيث تكتشف قدراً من الحقيقة التي ستبقى نسبية بقدر زادك من المعرفة. وهكذا سنسلك معه درب الديمقراطية الجديدة التي شادها على ركام الزيف الذي ألقي عليها في مسيرتها الطويلة، منذ بداياتها، فابتعدت الشعوب والأفراد عن روحها الحقيقي.

ولمّا كانت الديمقراطية هدفاً سامياً تسعى إليه الشعوب للتعبير عن سيادتها ولكفالة حقوق أفرادها، لتكون أملاً بتحقيق حياة أفضل حرّة وكريمة، فإنّها قد ارتبطت منذ القدم بفكرة الحرية. وأول صورها ظهرت كنظام للحكم في المدن الإغريقية، ولا سيّما في أثينا. وكلمة ديمقراطية مشتقة في اللاتينية من دمج كلمتي (Demos أي الشعب، وCratos أي حكم) التي تعني حكم الشعب، أي استبعاد الحكم الاستبدادي وهذا النموذج الأصلي من الديمقراطية، لم يكن يومها متاحاً إلّا لمجموعة محددة من سكان المدينة – الدولة، الذين ينطبق عليهم وصف «المواطنون الأحرار»، مستثنين في ذلك النساء والعبيد، في الوقت الذي كانت تطبّق فيه الديمقراطية المباشرة التي تعتمد الأكثرية في قراراتها. ومن ثمّ سارت الديمقراطية في رحلتها قُدماً، فتطورت إلى الديمقراطية التمثيلية وبأشكال متعددة، ولتنتشر بعد الثورة الفرنسية عام 1789 في كثير من دول أوروبا والعالم، معتمدة القيم الليبرالية التي كان ينادي بها الفلاسفة والمفكرون في عصري الأنوار والنهضة كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الأفراد.

لكنّ الإقبال على الديمقراطية أخذ أشكالاً مختلفة، ومتناقضة أحياناً كثيرة مع أصولها، سواء بسبب القصور في إدراك وفهم جوهرها، أو بسبب استخدامها للتمويه على بعض أنظمة الحكم لإضفاء الشرعية الشعبية عليها. فقد حاول منظّرو الأنظمة الكلّية تزيين تزيّي أنظمتها الدكتاتورية بالديمقراطية كما لو أنّه خدمة للأمة أو للبروليتاريا، كما في النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا وإسبانيا، والنظام الماركسي في الاتحاد السوفياتي والصين وغيرهما. أمّا الأنظمة الليبرالية في الغرب، وهي الأقرب إلى النموذج الديمقراطي، فقد وصلت بها الرأسمالية إلى حدود الإساءة إلى الديمقراطية نفسها بخيانتها لمبادئ المساواة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي. ولكمال جنبلاط آراء حادّة ترفض كل الانتهاكات التي تعرَّض له مفهوم الديمقراطية، وتدين السلوك المضلل والغوغائي في الشرق كما في الغرب. وهكذا سنرى أنّ مفهوم كمال جنبلاط للديمقراطية يبدو مختلفاً عما هو تقليدي وسائد، حتى أنّه يذهب بها الى أبعد من المفهوم الكلاسيكي المتداول في الأوساط الأكاديمية.

في تعريفه للديمقراطية بدايةً، يستعير جنبلاط من الفيلسوف الفرنسي برغسون قوله «إنّ الديمقراطية الحقيقية هي مبدأ توحيدي، عقلاني بحت»، على اعتبار أنّ الأنظمة الديمقراطية، كما يراها برغسون، تقوم على الامتثال الطوعي لتفوق العقل والفضيلة، متناقضةً في ذلك مع الأنظمة الأخرى المبنيّة على القوة أو العاطفة أو التقاليد.

المفكر الفرنسي لوفور

من هذا البعد التوحيدي والعقلاني للديمقراطية، يرى جنبلاط أيضاً مع المفكر الفرنسي لوفور Lefûr، في كتابه «الشريعة وقضاياها الكبرى»، أنّ الأسس الأولية التي قامت عليها الديمقراطية المعاصرة تكمن في حرية الإنسان والمساواة الطبيعية بين البشر، وذلك لأنّ الإنسان يتمتع بروح خالدة ولا يخضع ضميره لأي سلطة بشرية، فالناس متساوون بحكم طبيعة وجودهم المشترك مهما كانت صفتهم، أحراراً أم عبيداً، إغريقاً أم برابرة، ويهوداً أم وثنيين.
إلاّ أنّ هذه المساواة في الحق والجوهر تترافق مع تنوع مذهل بين البشر على الأصعدة العقلية والأخلاقية والجسدية. فالإنسان، على قول هكسلي Huxley، هو إلى حدٍّ بعيد النوع البرّي الأكثر تقلباً. فيعتبر جنبلاط هذا التنوع مرتبطاً بنمط التطور الإنساني وبدور البيئة المادية المحيطة بالإنسان. لكن برغم ذلك يذهب مع برغسون ولوفور إلى اعتبار أنّ الديمقراطية الحديثة هي رسولية في جوهرها، وأنّ المحبة هي دافعها وليس الإكراه.

من هذا الفهم لجوهر الديمقراطية، يرى جنبلاط أنّ الديمقراطية في بعدها الاجتماعي تعني الأخذ بمبادئ العدالة الاجتماعية في تنظيم قيم الجماعة وتكوين تراتبيتها ونخبها وقياداتها. فيراها مجتمعاً اشتراكياً خالياً من الطبقات الاجتماعية، لأنّ التفوق الاجتماعي والفضيلة، برأيه، لا يفترضان التكتل ضمن تجمعات أو طبقات تدافع عن مواقعها وامتيازاتها. فالنخبة الحقيقية تستمد مكانتها القيادية من قوانين التطور البيولوجي-الاجتماعي، أي من جوهر الحياة نفسها، التي دفعتها إلى المرتبات الأولى، كما حددت لها شروط انحلالها وتساقطها. فالفرديات القوية والشخصيات الخلاّقة هي مصدر فعل التقدم في المجتمع، وهي التي فعلت في التاريخ والحضارة، فهي الأساس الفاعل والخميرة في المجتمع. لذلك يرى أنّ الديمقراطية السياسية والاجتماعية قد جرى تشويهها وانحرافها تحت تأثير الأفكار المسبقة على صعيد المساواة البرلمانية القائمة وسوء تفسير وتشويه نظرية السيادة الشعبية. فقد رأى أنّه من الواجب السعي إلى تحقيق ديمقراطية اجتماعية صحيحة تسمح بإبراز القيادات الحقيقية من خلال بنية تنظيمية فاعلة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتكريساً لذلك جرى النصّ في ميثاق الحزب التقدمي الاشتراكي، في تحديده لبنية هذا النظام، بوجوب ارتكازه على المساواة الجوهرية في الحقوق والواجبات، كمبدأ مثالي يحدد جوهر الديمقراطية، ويبنى على العدالة المستوحاة من الإخاء والتعاون والتضامن، وعلى احترام جميع حريات الفرد المحدودة بحريات الآخرين وبمقتضيات الخير العام، وعلى المساواة السياسية بين المواطنين التي تأخذ بعين الاعتبار قيمتهم وإمكانية انتفاع المجتمع بهم.
إنّ مبدأ المساواة الوظيفية، برأي جنبلاط، مبنيّ على التفاوت الطبيعي بين البشر، أي بمعنى آخر مبدأ الانتخاب والاختيار القائم في الطبيعة، على عكس مبدأ التجمع الفوضوي ونظرية العدد. فهذه المساواة التي يرقى اليها النظام ترتكز على «وضع معتدل متوازن آخذ بالتنوع في الوحدة وبالفردية النازعة الى تحقيق الشخصية»، كما ينصّ الميثاق أيضاً. فالتنوّع في الوحدة، في قول جنبلاط، هو من المستلزمات الأساسية في الطبيعة. ويتعاكس هذا المبدأ مع النظرية الكلّية الهادفة إلى عملية توحيد وتجانس وتبسيط مصطنعة للأطر الحياتية. لذلك يعلن جنبلاط رفضه لأي نظرية تدعي إمكانية إخضاع التعقيد الاقتصادي-الاجتماعي لصيغة أحادية المعنى تهدف إلى صهر الوقائع كلها وبأي ثمن في إطار هذه الصيغة. ولتعزيز فكرة التنوّع في الوحدة، يدعو جنبلاط في الميثاق إلى «الفردية الشخصانية» وذلك للتميّز عن الديمقراطية التجمّعية التي تأخذ في حسابها الفرد وليس الشخص. فالفرد برأيه ليس سوى «إمكانية بسيطة» قياساً بالشخص «الذي هو الفرد المنصهر في المستوى الاجتماعي وعبره في التراث الحضاري أي في المستوى الإنساني». وعملية تكوين «الشخص»، برأي جنبلاط، هي بالتحديد «رهان» العالم. فعلى ضوء هذه الحقيقة، يرى جنبلاط الخطأ الأساسي والمأساوي الذي ترتكبه الديمقراطية التجمّعية (ديمقراطية العدد)، التي لا تأخذ بعين الاعتبار لا المستوى الاجتماعي ولا «الشخص»، بل الفرد، كونه وحدة في عدد لا يحصى في الوحدات الشبيهة ببعضها.
ورغم التنوّع وإبراز قيمة الشخص، يدعو جنبلاط في الميثاق إلى «تضامن أخوي نتيجة للتخصص الوظيفي ولترتيبٍ مرتكزٍ على المواهب بين المواطنين»، فيعتبر هذا التضامن هو صيغة الانصهار الفضلى في العالم الذي يشهد سيطرة متصاعدة للآلة، وهي التي بنى عليها دوركهايم مدرسته الاجتماعية، والذي يقول «إنّ ارتهان الفرد للمجتمع يتزايد كلما ازداد تقسيم العمل».

هذا التضامن الذي لا بد له من أن يترجَم في مؤسسات الدولة التي ستوفر وتؤمّن العدالة الاجتماعية، فتسمح للديمقراطية الاجتماعية بالتوسع إلى الديمقراطية الاقتصادية التي تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على الملكية الفردية، التي تُعتبر مرتكزاً للحرية السياسية وللحرية المهنية والأخلاقية.

والعدالة الاقتصادية هي على رأس قائمة العناصر الضرورية لإنشاء ديمقراطية اجتماعية، إذ إنّ أفكار العدالة والإخاء والمساواة، التي هي ملح الأرض، على حدّ تعبير جنبلاط، هي صيغ يجب أن تتحقق في المستوى الاجتماعي، وأن يعيشها الفرد في حياته الزمنية، لا أن تبقى صيغاً نظرية. فالديمقراطية الاجتماعية ومؤسساتها الجماعية سوف تنمو في إطار ديمقراطية اقتصادية تعمل على تأمين الخبز والعمل ضمن العدالة والحرية. وعندها سيتحوّل شعار «لا حقوق ولا امتيازات دون واجبات مقابلة» من شعار فارغ إلى حقيقة قائمة. وعندها أيضاً يكفي الديمقراطية الاجتماعية المبدأ الضروري القائل «بتأمين تكافؤ الفرص والامكانيات بين المواطنين لتتمكن المواهب الفردية المتفاوتة على صعيد الذكاء والأخلاق من أن تبرز وتنمو بشكل طبيعي». فيصبح العمل مقياساً لكل تقسيم وتراتبية، وبهذا المفهوم يعاد رفع شأن العمل وتطهيره من الشوائب التي رافقته عبر التاريخ. هكذا رأى كمال جنبلاط «العمل، شرعة الحياة البشرية ونبالتها، وهو الشرط الجوهري لإمكانية الإنتاج والجدوى في المجتمع. فمن يقدر ولا يعمل لا يحق له أن يأكل».

وبهذا الفهم للعمل تكون الديمقراطية الاقتصادية قد وفّقت بين حقوق الشخص وحقوق المجتمع، وبين مبدأ العدالة ومبدأ الحرية: «الخبز والعمل من ضمن العدالة والحرية». وهكذا تصبح الديمقراطية الاقتصادية إحدى الأسس الجوهرية للديمقراطية الاجتماعية. فالمساواة والحرية، كي يصبح لهما مضمون عملي ولا تكونان وهماً، يجب أن تبدأ بالخبز والعمل.
إلاّ أنّه بالإضافة إلى هذا البعد الاقتصادي الأساسي في الديمقراطية الاجتماعية، لا بد من أن يُضاف إليها مجموعة من الشروط الضرورية كتأمين العناية الصحية والجسدية لكل المواطنين، والمحافظة على بيئة سليمة، وأن تكون المعرفة والتربية في متناول الجميع. «فتحقيق وتأمين هذه العناصر هو مسألة أساسية، إضافة لإيجاد نظام سياسي ملائم ليكون هناك تكافؤ بالفرص والإمكانيات ولتتأمّن العدالة والنزاهة في المنافسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي الصراع من أجل الحياة ومن أجل مكانتنا في هذ العالم».

إنّ شرط وجود نظام سياسي ملائم لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية، كما رأينا، يقودنا إلى التعرف إلى الديمقراطية السياسية كما يتصورها كمال جنبلاط. ففي فهم عميق لجوهر الديمقراطية، انطلاقاً من فهمه للإنسان وللوجود، يعتبر أنّ الديمقراطية هي الوضع الطبيعي الذي يجب أن يكون في البشر. وانطلاقاً من تعريفه لها الذي بدأنا به هذ البحث، هي كما ردد برغسون «مبدأ توحيدي عقلاني بحت»، أي إنّها مشروع ينطلق من العقل. فيرى جنبلاط إنّه في إطار العقل La Raison بمفهومه القديم الأصلي الذي حدده فيثاغورس وأفلاطون، حيث تصبح الحكمة تكويناً وحدساً للإدراك الصرف، فإنّ السياسة، أي فن قيادة البشر، تصبح عملاً إنسانياً نبيلاً. والديمقراطية السياسية هي فعل انسجام، إذ إنّ الكون برأيه ليس إلاّ فعل انسجام، والانسجام هو محور أي شيء، وهو أساس الحرية. والحرية هي قانون الكيان العميق، وقانون كل كيان. ذلك أن لا وجود للتعارضات والصراعات والازدواجية في باطن الأشياء وأعماقها. ولا وجود للتنوّع إلاّ على مستوى معين من المعرفة في «قطعة صغيرة جداً» من الكيان.

ومن هذا الفهم العميق للكيان الإنساني، يرى جنبلاط أنّ السياسة هي، في واقعها، تنظيم لهذا التنوّع في المجتمع البشري. أما لعبة التعارضات والصراعات والازدواجية الظاهرية فتخفي الانسجام الأصلي للكيان. إذن، فالديمقراطية السياسية كما يراها جنبلاط، هي انعكاس لهذا التنظيم، وتكاد تكون نوعاً من العودة إلى «الانسجام» الملازم للأشياء، ونوعاً من التعبير الخارجي لحرية الكائن.

وهكذا، فمن كون الديمقراطية السياسية هي عمل عقلي، عمل الانسان المدرك، يعتبر جنبلاط أنّه يجب بناء ديمقراطية تقدمية حقيقية تعني الشخص وليس الفرد، لأنّ الفرد يشكل نقطة الانطلاق وليس نقطة الوصول، ولأنّ الفرد وسيلة وليس غاية، وهو بالنسبة للشخص نوع من الإمكانية البحتة. والشخص بلغة أرسطو، هو الفرد في حقيقته وجوهره. والشخص في هذا الإطار هو الدائرة المحورية التي يدور حولها دولاب الديمقراطية. وعليه، فإنّ كل مشروع بناء لديمقراطية جديدة وسليمة يجب أن يكون هدفه الانسان، وليس الفرد.

وهنا يسأل كمال جنبلاط، ما هو الدور المحدد للديمقراطية في إطار هذا التحديد لتطور الفرد باتجاه «الشخص» على ضوء روح التجرد والامتثال الطوعي للقوانين؟ فيجيب: إنّ على الديمقراطية أن تغرس في الانسان – المواطن روح الواجب الحقيقية، وتوضح له المدى الفعلي والغاية العليا لحقوقه كما أنها تحدد له تكامل حقوقه مع واجباته. وبهذا المعنى ستكون الديمقراطية بالفعل نظاماً «لتمهيد الأنا» ومحاولة لترفيع الانسان… إنّ الديمقراطية السياسية سوف تكون هذا التيار التجديدي الذي يهدف بواسطة المؤسسات الى إعادة آدم إلى ما كان فعلاً عليه قبل سقوطه في «الأنا». فكيف ينظر كمال جنبلاط الى هذه المؤسسات؟

يبدأ جنبلاط تصوره للمؤسسات السياسية، كونها أجهزة هذه الديمقراطية السياسية، بشكل الدولة بدايةً. الدولة العلمانية هي المطلوبة، وهي التي ستكون جوهر هذه البنى والمؤسسات. لكنّ هذه العلمانية، كما يراها، ستكون علمانية أخلاقية، جوهرها ديني – وليس شكلها – فتحترم «حرية المعتقد» وتنطوي طبعاً على مفهوم «إلغاء الطائفية السياسية».

ويتابع جنبلاط عملية بناء مؤسسات النظام السياسي الديمقراطي، بضرورة إعلان ميثاق جديد يتضمن حقوق وواجبات المواطن. بل على الميثاق، وكنتيجة طبيعية له، إعداد دستور يكون بمثابة «الضمانة» للحقوق والواجبات المُعلنة في الميثاق ويرتكز على المبادئ التي من شأنها ضمان ممارسة فعلية لهذه الحقوق وتحقيق فعلي لتلك الواجبات. ويأتي مبدأ فصل السلطات على رأس قائمة هذه المبادئ. وسوف يُفهم ويطبق فصل السلطات بروحية جديدة تعني:

1- قيام سلطة قضائية حقيقية متساوية بالحق والفعل مع السلطة التنفيذية ومستقلة تماماً عنها، ومهمتها المراقبة الفعلية لأعمال هذه السلطة خاصة بواسطة النظر في دستورية المراسيم والقوانين. ويرى جنبلاط، أنّ الذي يضمن حرية المواطن الفعلية ليس المؤسسة البرلمانية، بل سلطة قضائية قوية ومستقلة ذاتياً، مجسدةً عملياً سلطة الدولة المطلقة. فبرأيه، كم من مجالس تمثيلية (برلمانات) تحوّلت إلى أدوات مطيعة لدكتاتورية معينة أو لنظام قائم على العنف بسبب فقدان الضمانات التي يقدمها هكذا قضاء، كما كان الحال في الاتحاد السوفياتي أو كما هو الحال في بعض البلدان العربية.

2- تقوية وتثبيت السلطة التنفيذية الى حدٍّ ما على حساب السلطة التشريعية، على اعتبار أنّ الذي يحكم ويبدع هو الذي توفرت فيه صفات القائد حيث لديه انسجام وتعادل المسؤولية السياسية والأخلاقية من جهة والعبقرية الخلاّقة من جهة أخرى. ويرى جنبلاط أنّ حكومة «المجالس والأكثريات» لا معنى لها، وهي نوع من الخدعة. فالحكومة القائمة على هذا الأساس لن تكون سوى حكومة الضعف والرداءة. فالنخبة فقط مُقدَّر لها أن تفعل أشياء وأعمال كبيرة على صعيد الدولة والحضارة. ويتساءل جنبلاط، أليست السيادة الشعبية التي تمثَّل بأسلوب «الانتخاب العام» نوعاً من الخدعة هدفها إرضاء أنانية الذين يُنتخَبون ويقبلون؟ فيسارع للقول إنّ هذه الخدعة تحجب جزئياً الدور المؤثر الذي يلعبه بعض المنبثّين بين الجماهير تقتصر مهمتهم على ترجمة ارادات هؤلاء المتنوعة؟
3- أمّا التمثيل الشعبي فيُفترض أن يتطور أكثر فأكثر باتجاه تأمين «تمثيل النخبة والهيئات المهنية والاقتصادية والمعنوية تمثيلاً موافقاً في المجالس، تمكيناً للأكفّاء من تولي الحكم». لذا سيكون المطلوب وجوب البحث عن صيغة مختلفة «للتفويض»، تكون متلائمة أكثر مع مصالح ومتطلبات إدارة الأمة. إنّ صيغة كهذه تفترض قيام «نظام معتدل ومتوازن»، أي: «لا أنظمة كلية ولا فوضوية، بل شورى ديمقراطية عليها واجب الإشراف التوجيهي غير المتحكّم ولا المستأثر في كل النشاط الشعبي العملي».
وهذا يعني تثقيف الشعب سياسياً واجتماعياً، بغية التوصل الى وضع ديمقراطي بفضل تنمية رابطة محض اختيارية.

4- اعتبار المجتمع ليس مجموعة أفراد فقط بل كلاً عضوياً حيويته في تنوّعه، لكل عمل فيه كرامته، ولا أفضلية لمهنة على مهنة إلاّ في تأمين انتظام المجتمع واستمراره وترقيه.

5- مكافحة الطبقية والإقطاعية والتمهيد لقيام القيادات الصحيحة، وإيقاظ الشعور بالتضامن والمسؤولية الاجتماعيين.

وفي تصور جنبلاط لتطبيق الديمقراطية بصورة صحيحة، يعتبر أنّ الديمقراطية السياسية الحقيقية هي حكم القانون، بما يتوافق مع حقوق الإنسان وواجباته. وهذه الحقوق تتطور مع الزمن لتبرُز في أوضاع متكاملة، فتعكس أكثر فأكثر وجوه حقيقة الإنسان. والحفاظ على هذه الديمقراطية، لا يتحقق إلاّ في ظروف ملائمة، أهمها:
– أن يكون من يتسلم مسؤولية الحكم في مستوى هذه المسؤولية كي لا يفلت زمام الحكم من يده.
– وعلى المجلس النيابي بشكل خاص، والحكم المنبثق منه، أن يكونا في وضع من الكفاءة والقدرة على العمل والجرأة في مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ما يمكّنهما من القيام بأعباء التشريع والحكم كما يتوجب.
– قيام أجهزة حكومية سليمة يشتد بها على الدوام التطهير وتصفّيها الملاحقة، وترفع الحصانة عن الموظفين والمسؤولين مهما كانت صفتهم والموقع الذي يحتلونه. فبدون التوجيه والعقاب والتطهير لا يمكن أن يستقيم حكم، ولا تصلح أجهزة.

وختاماً يرى جنبلاط، في تأمله لواقع الأنظمة السياسية في محيطنا العربي مقارنة بلبنان الديمقراطي الذي يحلم به، أنّه وسط عالم عربي مشحون بالتناقضات، ويسيطر عليه حكم لا ينتسب إلى حكم القانون ولا إلى حكم الشعب، بل إلى الانقلابات العسكرية المستمرة أو إلى النظام الأوتوقراطي الملكي، تبدو هذه البقعة الصغيرة، كأنّها بقية باقية من حلمٍ غابرٍ أو استباقاً – على نطاق صغير نسبياً؛ طبعاً – لما ستكون عليه الديمقراطية في عالم الغد.


كمال جنبُلاط في بداية مسيرته السّياسيّة

د. حسن أمين البعيني

 

في السادس من كانون الأول 1917 بدأت حياة كمال جنبلاط مولودًا في دار المختارة للزعيم فؤاد جنبلاط ولزوجته الست نظيرة جنبلاط. وفي حزيران 1943 بدأت مسيرته السياسية وريثًا للزعامة الجنبلاطية التي تسلّمتها الست نظيرة بعد غياب زوجها فؤاد بك جنبلاط سنة 1921، واستعانت بصهرها حكمت بك جنبلاط منذ سنة 1934. وبهذا تحوَّل كمال جنبلاط من عالم الفكر والثقافة والروحانيات الذي يريد أن يحيا فيه إلى عالم السياسة الذي أُدخل فيه قسرًا حفاظًا على الزعامة الجنبلاطية، وكان يفضّل الابتعاد عنه.

إنّ بداية المسيرة السياسية لكمال جنبلاط – موضوع هذه الدراسة – تمتد بين تاريخ وفاة حكمت جنبلاط في 4 حزيران سنة 1943، وتاريخ استقلال لبنان؛ حياة كمال جنبلاط السياسية التي بلغت 34 سنة، ولكنها ذات أهميّة ومدلولات، لأنّها كانت بداية ناجحة، برهن فيها عن قيادة حكيمة واعية، واتخذ قرارات شجاعة ومسؤولة، بالرغم من حداثة تجربته السياسيّة، ولأنه ظهرت فيها، كما في محطّات قليلة قبلها، جذور مبادئه التقدميّة والإصلاحيّة، ومبادئه الاشتراكيّة، وكانت بداية تحويله الزعامة التقليدية التي ورثها إلى زعامة حديثة متطوِّرة ومُطوَّرة، كما ظهرت فيها ملامح دوره الكبير الذي سيتعملق مع الأيام، ويتجاوز حدود الطائفة والمنطقة ولبنان.

بين الثقافة والسِّياسة كخيارَين ومجالَي عمل، فضَّل كمال جنبلاط الخيار الأوّل. وليس هنا مجال المفاضلة بين الثقافة والسِّياسة، ولا بين كمال جنبلاط المفكِّر والعالِم والمعلِّم والفيلسوف، وكمال جنبلاط السِّياسيّ، ذلك لأنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر لتكاملهما في شخصه وفي أعماله وفي مسيرته. فالوعي السِّياسي جزء من الوعي الثّقافي، والسّياسة عنده هي وسيلة لخدمة الإنسان الذي هو الغاية، وهي لا تكتسب قيمتها الحقيقية إن لم تكن جزءًا من الثقافة، وعاملًا من عوامل تطوير المجتمعات، وصنع الحضارات، وتمدين الشُّعوب.

كان كمال جنبلاط، منذ تفتُّح عينه على كنوز المعرفة، استثنائيًّا في حياته الدراسيّة، كما غدا استثنائيًّا فيما بعد في حياته السّياسية. شُغف بالعلم فنهل المزيد منه، ونجح في كلِّ الامتحانات بدرجة عالية، وأخذ أكثر من اختصاص في نفس الوقت، كانضمامه إلى معاهد الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع إضافة إلى دراسة الحقوق التي كان يتابعها في جامعة باريس. كان يريد التحليق كالطائر لا أن يصعد السُّلَّم درجة درجة. وفيما كان يرى نفسه مشروع زعيم سياسيّ. وقد وضعته والدته ونشّأته في دار المختارة في هذه الأجواء شيئًا فشيئًا بالرغم من عدم ميله إليها، وتفضيله أجواء العلم عليها، وحبه للعزلة والابتعاد عن الناس.

كانت الست نظيرة جنبلاط تعلم أن ابنها كمال لا يميل إلى السياسة، وإنما يظهر اهتماماته في شؤون أخرى، ويريد التخصُّص في الهندسة. لقد استشارت في السابق صديق البيت الجنبلاطي، المطران أوغسطين البستاني، بشأن المدرسة التي يتعلّم فيها ابنها، فنصح بمدرسة الآباء اللعازاريِّين في عينطورة، وهي حاليًّا توسّطه لإقناعه بالتخصّص في المحاماة، لأنها أفضل السبل للنجاح في ميدان السِّياسة، الذي تراه مجالًا طبيعيًّا له. وبناءً على نظرتها إليه كزعيم سياسيّ مستقبلي سيأخذ دورها، كانت تدخله – ما أمكنها ذلك – الأجواء السِّياسيّة، وتغتنم وجوده في قصر المختارة أثناء عطلة الأسبوع وعطلة الصيف ليشارك معها، ومع شيخ العقل حسين طليع وذوي الشأن، في استقبال كبار الزائرين من أجل أن يتعرَّفوا عليه. وكانت تقدِّمه أحيانًا خطيبًا باللغة الفرنسيّة أمام المسؤولين الفرنسيِّين. وقد اصطحبته معها عندما كبر لردّ الزيارات، ومنها، مثلًا، زيارة المفوّض السامي الفرنسي ورئيس الجمهورية اللبنانيّة في شباط 1939 حيث كان برفقتهما حكمت بك جنبلاط (1).

فيما كان كمال جنبلاط يستزيد من العلم والثقافة، كان يكتسب المعرفة السِّياسيّة منهما، ومن خلال مواكبته للأحداث المتلاحقة، وخصوصًا أحداث الحرب العالميّة الثانية التي كانت لها انعكاساتها القويّة عليه وعلى لبنان. فهو لم يكن آنذاك فقط الطالب الذي يتابع دراسة المحاماة، ولا المحامي الذي يمارس مهنة المحاماة بعد تخرُّجه، بل كان أيضًا المُتتبِّع بكل اهتمام لما يجري على صعيد العالم، ولما يجري حوله في لبنان، وينخرط هو نفسه أحيانًا بحلّ بعض المشكلات، حتى إذا ما جاء يوم تسلُّمه للزعامة، وبدء ممارسته للعمل السِّياسي مرغمًا، كان عنده من الوعي ما يكفيه للبدء بنجاح في مسيرته السياسيّة.

المبايعة بالزّعامة 

توفِّي حكمت جنبلاط في 4 حزيران 1943 في مستشفى عطيَّة في بيروت، ونُقل جثمانه إلى المختارة حيث أُقيم له مأتم حاشد تقاطرَت إليه، بالإضافة إلى الوفود الرسميّة، وفود وجماهير من لبنان وسورية وفلسطين، يتقدَّمها الأعيان، أحْيَت المأتم بالمظاهر السائدة آنذاك: إنشاء النَّدب، عزف النّوبة، حمل البيارق. وتكلَّم الخطباء فأشادوا بصفات الفقيد، وبدور الزعامة الجنبلاطيّة في تاريخ لبنان، وهم: جواد بولس (وزير الخارجيّة والأشغال والصحة العامة) – الشيخ بشارة الخوري (رئيس الكتلة الدستوريّة، رئيس الحكومة والوزير والنائب سابقًا، ورئيس الجمهوريّة لاحقًا) – حبيب أبو شهلا (نائب بيروت) – محيي الدين النصولي (نائب بيروت) – جورج عقل (عضو المكتب السياسي لحزب الكتائب اللبنانيّة) – الشيخ خليل تقي الدين – أمين بك خضر. وتكلّم كمال جنبلاط باسم العائلة الجنبلاطيّة، وباسم والدته الست نظيرة، فشكر ممثِّلي السلطة، والخطباء والمشيِّعين.

توقَّع الكثير من المشيِّعين الإعلان عن اسم الزعيم الذي سيخلف حكمت جنبلاط على قاعدة: «مات الزعيم، عاش الزعيم» ورجّحوا أن يكون كمال جنبلاط، وتمنَّوا ذلك، بحسب ما أوردته الصحف الصادرة آنذاك (2). لكن الإعلان عن هذا الأمر لم يحصل في المأتم. وحدهُ الشيخ شاهين المصري من صليما تطلَّع إلى كمال جنبلاط، حين كان نعش حكمت جنبلاط يُوارى الثَّرى في المقبرة العائلية، وقال: مات الملك، عاش الملك.

أمَّا لماذا لم يُبايَع كمال جنبلاط بالزّعامة الجنبلاطية في مأتم حكمت جنبلاط، بالرُّغم من أنه المرجَّح لتسلُّمها، فذلك لأن هذا الموضوع لم يُبحث سابقًا، ولأنه يتطلّب الأمرَين التاليَين: أوّلهما اتِّفاق البيت الجنبلاطيّ، وثانيهما موافقة كمال جنبلاط التي تقتضي منه المباشرة بمزاولة العمل السياسيّ من خلال الترشُّح للانتخابات المُزمع إجراؤها آنذاك. وبالنسبة للأمر الأول، أي موافقة البيت الجنبلاطيّ، فقد جرى التعبير عنها بتصريح للصُّحف أدلَى به نجيب علي جنبلاط بعد أسبوع من تاريخ وفاة أخيه حكمت هو التالي:

«إن هدف الأسرة الجنبلاطية هو المحافظة على الرِّسالة التي سار عليها بيتنا وخدمها منذ القدم. وكما أن امرأة عمِّي (الست نظيرة) قد عطفت على صهرها شقيقي حكمت وفضَّلته على ابنها، فإنني بدوري أفضِّل نجلها ابن عمِّي كمال بك على نفسي، وأتمنّى له التوفيق ليتمِّم الرّسالة التي خدمها أخي حتى النَّفس الأخير» (3).

وبالنسبة إلى الأمر الثاني، أي موافقة كمال جنبلاط على مزاولة العمل السِّياسي، فقد تردَّد في البداية بالرُّغم من إلحاح والدته والأصدقاء، لأنه لا يميل إليه في الأصل، وسيَحول بينه وبين متابعة تحصيل العلم الذي يرغب به أكثر من أي شيء آخر، ودون نيل شهادة البولتيكنيك من جامعة باريس ليفيد بها وطنه. استشار والد صديقه كميل (نجيب بك أبو صوّان) وزير العدليّة سابقًا وأوّل رئيس لمحكمة التمييز، وصديق دار المختارة، فنصحه بتسلُّم المهمّة، وخوض غمار السِّياسة، ومتابعة دور آل جنبلاط التاريخي، كونه الوحيد القادر منهم على ذلك (4) فقبِل النصيحة.
بعد شيوع نبأ موافقة كمال جنبلاط تقاطرَت الوفود إلى المختارة تعلن البيعة له، وتبدي استعدادها لنصرته وتأييده في الانتخابات. وتهتف «عاش الزعيم». ومنذ ذلك الحين لبس عباءة الزّعامة وحمل أعباءها. وإذا كان إلباس هذه العباءة يعني توريثًا للزّعامة في المجتمع الإقطاعي والعشائري، فإن كمال جنبلاط لبس عباءة قيادة حديثة، وطنيّة وعربيّة، حاك خيوطها بنضالاته وأفكاره العابرة للحدود، وشاد على تاريخ مجيد، وعلى بناء قائم متين، بتعديل يتماشى مع قيمه ومبادئه وروح العصر.

الفوز بالنِّيابة 

تزامَنَ تسلُّم كمال جنبلاط الزّعامة في حزيران 1943 مع الاستعدادت لخوض الانتخابات النِّيابيّة التي وافق الفرنسيّون الأحرار على إجرائها نزولًا عند طلب حلفائهم البريطانيِّين وضغطهم، ونزولًا عند طلب السوريِّين واللبنانيّينن بعد أن أرجأوا إجراء هذه الانتخابات لمدّة سنتَين بحجّة ظروف الحرب.

بعد مضيّ أيام قلائل على مأتم النّائب والوزير حكمت جنبلاط، بحثَت الست نظيرة موضوع ترشُّح ابنها كمال، مع ريمون إميل إدّه والطبيب يوسف حتّي اللَّذَين بقِيا في المختارة للتداول في هذا الأمر. وحين وافق كمال جنبلاط على خوض المعترك السياسيّ بدأ يستعدّ لخوض معركة الانتخاب.

أسند مندوب فرنسا الحرّة الجنرال كاترو إلى الدكتور أيوب ثابت سلطات رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وحصر بحكومته مهمّة الإشراف على الانتخابات. وكان الدكتور أيوب ثابت من أبرز الأمثلة عن المحافظين المتشدِّدين من المسيحيِّين، وجعل بمرسومَيه الصادرَين في 17 حزيران 1943 عدد النوّاب المسيحيِّين 32 نائبًا، وعدد النوّاب المسلمين 22 نائبًا، أي بفارق 10 نوّاب بين المسلمين والمسيحيّين على أساس احتساب أصوات المغتربين، وأكثريّتهم آنذاك مسيحيّون. وهذا أثار احتجاج المسلمين الذين كانوا يطالبون بإنصافهم وزيادة عدد نوّابهم، فهدَّدوا بمقاطعة الانتخابات، وكادت تحصل فتنة طائفيّة في البلاد (5). وحين لم يتراجع أيوب ثابت عن مرسومَيه، أقاله السفير الفرنسي هلّلو في 21 تموز، وعيّن مكانه بترو طراد الذي أصدر مرسومًا حدَّد فيه عدد النوّاب بـ 55 نائبًا: 30 للمسيحيِّين و25 للمسلمين، على أن يجري إحصاء عامّ لأهالي لبنان في مهلة لا تتجاوز سنتَين (6).

زاد عدد النوّاب الدروز نائبًا بموجب مرسوم بترو طراد، فزار كمال جنبلاط وجميل بك تلحوق والمقدَّم علي مزهر السراي في 29 تموز، وقابلوا أركان الحكومة، وطلبوا أن تُصان حصة الدروز، وهي أربعة مقاعد (7).

كانت هناك كتلتان يتمحور حولهما العمل السياسيّ في لبنان، هما الكتلة الوطنيّة التي أسّسها إميل إدّه سنة 1932، والكتلة الدستوريّة الّتي أسّسها منافسه القوي على النفوذ، بشاره الخوري، سنة 1943، وسُمّيَت بهذا الاسم لأنها طالبت بإعادة الحياة الدستورية التي عطّلها المفوَّض السامي هنري بونسو سنة 1932. وكان من الطبيعي أن يخوض كمال جنبلاط المعركة الانتخابيّة في لائحة الكتلة الوطنيّة، نظرًا للتحالف التاريخي المبنيّ على المصلحة المشتركة، والقائم بينها وبين الست نظيرة وحكمت جنبلاط. وليس هناك دليل يؤيِّد ما جاء عند الرئيس بشاره الخوري من أنّ السلطة الفرنسية منعت كمال جنبلاط أن يخوض الانتخابات إلى جانبه سنة 1943 كما منعت من قَبل حكمت جنبلاط (8).

ورث كمال جنبلاط، بتسلُّمه الزّعامة الجنبلاطيّة، زعامة الغرضيّة الجنبلاطيّة الملازمة لها آنذاك. كانت انتخابات سنة 1943 مرحلة يتحدَّد فيها مصير لبنان، واستقلاله، واختلفت عن سابقاتها في التعبئة لها، وفي الشِّعارات المطروحة والتدخُّل الخارجي. ففيما كانت الكتلة الدستورية ترى ضمان استقلال لبنان بالتّعاون بين مسلمِيه ومسحيِّيه بصيغة ميثاق وطنيّ بينهم، وبتعاون لبنان مع الدول العربية وعدم انحيازه إلى أيّ منها ضد الأخرى، كانت الكتلة الوطنية ترى ضرورة استقلال لبنان مع ضمان الحماية الفرنسية لاستقلاله ولحدوده، وتخشى ذوبانه في المحيط العربي والإسلامي الواسع. وقد أحدثَت تصريحات رئيسها إميل إدّه، السابقة، نقزة عند المسلمين (9) بمختلف طوائفهم، إذ يُنسب إليه أنه صرَّح عن ترحيل المسلمين إلى مكّة المكرّمة وترحيل الدّروز إلى جبل الدروز (جبل العرب).

جرت الانتخابات النِّيابيّة في أجواء ديمقراطية، في المحافظات اللّبنانية على مرحلتَين، في 29 آب و5 أيلول 1943، ولأوّل مرّة لا يستطيع الفرنسيون أن يتدخَّلوا تدخُّلًا فعّالًا لمصلحتهم لضعف وجودهم العسكري، ولوجود المنافس البريطاني المتفوِّق عليهم عسكريًّا وسياسيًّا، إذ كانت المعركة الانتخابية في أحد عناوينها تجري بين الجنرال كاترو ممثِّل فرنسا الحرّة ومؤيّد الكُتْلوِيِّين، والجنرال سبيرس ممثِّل بريطانيا العظمى ومؤيِّد الدستوريِّين، الذي يعمل لإحلال نفوذ بلاده في سورية ولبنان مكان النفوذ الفرنسي، ويوحيٍ لِلُّبنانيِّين أن زوال الانتداب الفرنسي، واستقلال لبنان، يتمَّان عبر التحالف معها (10).

أظهرَت نتائج الانتخابات فوز الكتلة الدستورية في كل المحافظات باستثناء جبل لبنان حيث فازت الكتلة الوطنيّة بأكثريّة المقاعد فيه، حتى إن قطبَين من أركان الكتلة الدستورية لم يفوزَا بالدورة الأولى في جبل لبنان، وهما الشيخ بشاره الخوري والأمير مجيد أرسلان. أمّا كمال جنبلاط فقد فاز عن الشوف في محافظة جبل لبنان في الدورة الأولى (11)، وبدأ يستقبل المهنِّئين. إلَّا أن مظاهر ابتهاج مُناصرِي دار المختارة لم تكن كعادتها في سائر المناسبات بسبب غياب حكمت جنبلاط عنها. وكان كمال جنبلاط أصغر النوّاب سنًّا (25 سنة) لكنه سيغدوَنْ من أنشطِهم، ومن أبرز المجدِّدين بأطروحاته الإصلاحيّة. وبهذا انتقل من ميدان الثقافة وصفائها إلى ميدان السِّياسة وألاعيبها، ومن عالم الفلسفة والروحانيات إلى عالم الواقع المعيوش وما فيه من تناقضات ومساوئ.

في انتخاب رئيس الجمهوريّة
تعديل الدستور اللبناني لتحقيق الاستقلال 

شهدت مرحلة ما بعد الانتخابات النّيابيّة تعاوُنَ أبرز شخصية سياسيّة مسيحيّة مارونيّة، وهو الرئيس الشيخ بشاره الخوري، مع أبرز شخصية سياسيّة مسلمة سنّيّة، هو رياض بك الصلح، النّائب عن صيدا في لائحة الكتلة الوطنيّة. درس الرَّجلان أسس الميثاق الوطني الذي هو دستور غير مكتوب، كان له – منذ تبنِّيهِ في سنة 1943- دورهُ في تنظيم العمل السياسي وتوجيهه كدستور لبنان المكتوب الموضوع في أيّار 1926، وقد وضَعَا الميثاق باسم جميع اللّبنانيِّين، وانضمّ إليهما أكثريّة الفعّاليات السياسيّة وبينهم كمال جنبلاط، لأن الميثاق ركّز على استقلال لبنان التامّ والناجز دون الالتجاء إلى حماية من الغرب، أو اتِّحاد مع الشرق، ولأن فيه اعترافًا بعروبة لبنان وضرورة تعاونه مع الدول العربيّة. بيْد أنه كان لكمال جنبلاط مفهوم للعروبة أوضح وأفضل من المفهوم المُعطَى لها في الميثاق.

كلّف رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري رياض الصلح بتشكيل الحكومة، فشكَّلها من خمسة وزراء، هم حبيب أبو شهلا (نائب رئيس مجلس الوزراء وزير العدليّة ووزير التربية الوطنية)، سليم تقلا (وزير الأمور الخارجيّة ووزير الأشغال العامّة)، الأمير مجيد أرسلان (وزير الزراعة ووزير الدفاع الوطني ووزير الصحة والإسعاف العام)، كميل شمعون (وزير الداخلية ووزير البرق والبريد)، عادل عسيران (وزير الإعاشة ووزير التجارة والصناعة) أي وزير الاقتصاد الوطني.

مثَلت الحكومة أمام المجلس النيابي بتاريخ 7 تشرين الأول 1943، وألقى رئيسها رياض الصلح بيان الثقة الذي سُمّي ميثاق الاستقلال، لأن فيه الطلب من المجلس النيابي إجراء التعديلات الدستوريّة، وذلك بإلغاء المواد المتعلِّقة بالانتداب وبصلاحيّات السُّلطة الفرنسية المُنتدَبة من الدستور «لكي يصبح دستور دولة مستقلة تمام الاستقلال»، فنالت الحكومة الثقة على أساس بيانها بأكثريّة النوّاب وبينهم كمال جنبلاط.

كان كمال جنبلاط يستمع إلى مناقشات النوّاب لبيان الحكومة، ويسجِّل الأفكار والنّقاط التي لم يتناولوها. وقد لفته خلوُّ مناقشاتهم من استعراض الحلقات التاريخية لاستقلال لبنان، وتطوُّر إطاره الجغرافي، وخلوُّها من الإشارة إلى الأمير فخر الدين موسِّع هذا الإطار، وإلى الموحدين (الدروز) ضامنِي استقلاله سابقًا، وإلى من يضمنه حاليًّا. وحين تكلّم قال إن لبنان لم يبلغ يومًا ما حدوده الحاليّة إلَّا في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني الكبير. ومن بعده صغر وتقلَّصت حدوده، إلَّا أن السيطرة الدرزيّة «ظلّت تضمن له الرَّخاء والاستقلال والكرامة مدّة مائتي سنة».

وأضاف كمال جنبلاط قائلًا: وحين وسَّع الفرنسيون حدود لبنان ضمَّت حدوده مقاطعات «لم يكن لِلُبنان علاقة بها كما أنها لم تكن ترغب أن يكون لها مع لبنان علاقة». وهو يقصد بذلك الملحقات التي ضمَّها الجنرال غورو بشخطة قلم إلى متصرّفيّة جبل لبنان في 31 آب 1920، وأعلن في اليوم التالي قيام دولة لبنان الكبير. ثم توجَّه كمال جنبلاط إلى النوّاب قائلًا:
«أنتم لا تُدركون تمامًا أهمّية هذا الوضع من وجهة الحقوق الأساسيّة والدوليّة، فإنه لأوّل مرة في تاريخ لبنان يعترف أهل لبنان الكبير بلبنان مسلِمِه ومسيحيّه ودرزيّه وشيعيّه. فإنني والعزّة تملأ نفسي، أحيِّي هذه البادرة، وهذا العهد الجديد، أُحيِّي لبنان وأحيِّيه بصفته العربية، لأن العروبة وحدها تكفل لهذه البلاد الوحدة القومية والاستقلال المُصان». ثم منح الحكومة الثقة قائلًا إنه «يترفَّع عن روح الحزازات والعنعنات مُؤْثِرًا مصلحة البلاد الكبرى على كل مصلحة» (12).

وهو يعني بالجملة الأخيرة ترفُّعَه عمّا رافق الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس الجمهورية من اتّهامات وشائعات مُغرضة، وإيثاره المصلحة العليا للبلاد على مصالح الأحزاب والتكتُّلات والفئات والمصالح الشخصيّة.

بدا كمال جنبلاط في كلمته نائبًا متفهّماً جيِّدًا لتاريخ، ولتطوُّر لبنان من مرحلة الإمارة الكبيرة والقوية في عهد الأمير فخر الدين، إلى مرحلة الإمارة الصغيرة في العهد الشِّهابي، إلى مرحلة المتصرِّفيّة أو «لبنان الصغير». وقد رأى أن الدروز العرب هم الذين صانوا في الماضي حدود هذا البلد وكرامته ورخاءه بحدوده الموسَّعة أم بحدوده الضيّقة، فهم كما كان يردِّد سيوف لبنان. كما رأى أن العروبة وحدها هي التي تضمن ذلك في الحاضر والمستقبل.

كانت سمات العروبة بارزة في أقوال كمال جنبلاط ومواقفه قبل ذلك التاريخ. وقد ظهرت أثناء سنوات الدراسة تعاطفًا مع القضايا العربيّة، وإيمانًا بالقوميّة العربيّة. ومن وجوه ذلك طلبُه من رئيس مدرسة عينطورا إعلان ذكرى استقلال مصر سنة 1934 بموجب المعاهدة المصريّة البريطانيّة: يوم عطلة رسميّة.

بعد تثبيت الفرنسيِّين أقدامهم في لبنان توطّدَت العلاقة بينهم وبين دار المختارة زمن فؤاد جنبلاط، واستمرّت متوطّدة مع الست نظيرة وحكمت بك، وقد علَّق المفوَّض السامي الجنرال ويغان، وهو راكع، وسام الاستحقاق على صدر كمال جنبلاط يوم 9 تشرين الثاني 1923، عندما زار مِنطَقتَي الشوف وجزِّين وخصّ دار المختارة بتناول الطّعام على مائدة الست نظيرة، ومن البديهي اعتبار هذا الوسام المُعطَى لابن ست سنوات وسامًا لدار المختارة (13).
وفي سنة 1943 رغب المندوب السّامي في استمرار العلاقة الفرنسية مع كمال جنبلاط حين قال في رسالة التعزية بحكمت جنبلاط، المُرسَلة بتاريخ 11 حزيران ما يلي: «المرحوم حكمت بك من أرومة اشتهرت بأصالتها وبسالتها وتمسُّكها بالصداقة الفرنسية اللبنانية. وكنت ألمس أكثر من غيري حدّة ذكاء الوزير حكمت بك وإدراكه العميق لواجبه». وكأنّ المندوب السّامي يريد بذلك لفت كمال جنبلاط إلى ضرورة التمسُّك بهذه الصّداقة.

عندما كبر كمال جنبلاط ونضج تفكيره وتوسّعَت معارفه، تكوّنَت عنده الآراء الشخصيّة المستقلّة والاتّجاهات السياسيّة المبنيّة على القناعات. كان عند نُشوب الحرب العالميّة الثانية متعاطفًا مع فرنسا وبريطانيا في مواجهتهما لألمانيا وإيطاليا لأن الدَّولتَين الأولَيَين ذات نظام ديمقراطي فيما الدولتان الأخرَيان ذات نظام فاشيٍ دكتاتوريّ. إلّا أنه كان في الوقت نفسه يعتبر فرنسا وبريطانيا دولتَين استعماريَّتَين لطَّفَتا استعمارهما لدول المشرق العربي بصيغة الانتداب. لذا لم يشأ التمسُّك بالصّداقة الفرنسية اللبنانية التي تعني عند المندوب السّامي استمرار الانتداب الفرنسي وقبول اللبنانيّين به، بل أراد إنهاء هذا الانتداب. وبمنحه الثقة للحكومة على أساس بيانها الوزاري الاستقلالي أعلن قطع العلاقة نهائيًّا مع الانتداب الفرنسي الذي كان البيت الجنبلاطي يستظلُّ بظِلّه، كما أعلن تأييده المطلق للحركة الاستقلاليّة، وتحوُّله عن الكتلة الوطنية التي لم ؟؟؟ إلا في الانتخابات النّيابيّة.

مع الحكومة الوطنية 

عارَض المندوب الفرنسي العام هلّلو، بإيحاء من «لجنة التحرّر الوطني» الفرنسية الموجودة في الجزائر، جميعَ إجراءات تعديل الدستور اللبناني، وعدَّها مؤامرة على فرنسا وعلى لبنان، وفاجأ الجميع بإصداره في 10 تشرين الثاني 1943 القرار رقم 464 الذي يعدُّ تعديل الدستور غير شرعيّ، ويحلّ المجلس النِّيابي، ويوقف تطبيق الدستور إلى ما بعد إجراء انتخابات جديدة، ويوكل السُّلطة التنفيذية إلى رئيس دولة، رئيس حكومة، يعيِّنه المندوب العامّ، ويؤازره وزراء دولة يعيّنهم المندوب العامّ أيضًا، ويكونون مع الرئيس مسؤولين أمامه. وعيَّن هللو بموجب القرار رقم 465 إميل إدّه رئيسًا للحكومة. وأصدر الأمر باعتقال أركان الدولة، فاعتقل الجندُ الفرنسي ليل 10-11 تشرين الثاني رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، والوزراء كميل شمعون وسليم تقلا وعادل عسيران، والنائب عبد الحميد كرامي، ونقلهم إلى قلعة راشيّا، لكن المندوب العامّ هللو لم يأمر باعتقال حبيب أبو شهلا الصديق القديم لإميل إدّه على أمل اكتسابه، ولا باعتقال الأمير مجيد أرسلان خوفًا من إثارة الدروز ضد الفرنسيِّين كما فعلوا في سنة 1925، وكان ذلك السبب المباشر لقيام الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش.أنهى إميل إدّه حياته السِّياسيّة بخطأ كبير حين قبِل السير بعكس التيّار الاستقلالي الجارف، وتسلَّم رئاسة حكومة لا شرعية من يد المندوب الفرنسي هللو، بالرّغم من نصيحة ابنه ريمون له بألّا يفعل ذلك. وباشر بتشكيل الحكومة مراهنًا على أصدقائه وحلفائه السابقين، متوقِّعًا اشتراك بعضهم فيها، لكن معظم هؤلاء لم يناصروه، وبعضهم – ومنهم كمال جنبلاط – تخلَّوا عنه، ونُقل عنه لاحقًا أنه فعل ذلك ليُجنِّب لبنان قيام حكومة عسكريّة فيه يفرضها الفرنسيون عليه.

وقفت أكثريّة اللبنانيِّين ضد الحكومة اللاشرعية، وزادت تدابير هللو من وحدتهم وتأييدهم للحكومة الوطنية، وقاموا بالتظاهرات الضخمة في مدن بيروت وطرابلس وصيدا، التي أَقفلَت كلها أسواقها. واجتمع أكثر النوّاب في 12 تشرين الثاني في منزل النّائب صائب سلام، بعد تعذُّر اجتماعهم كلهم في المجلس النيابيّ، وأجمعوا على إعطاء الثقة للحكومة الوطنية الشرعية الممثَّلة بالوزيرَين حبيب أبو شهلا ومجيد أرسلان، واعتبروها حكومة مؤقّتة تقوم مقام رئيس الجمهوريّة، ويمكنها ممارسة السلطة التنفيذيّة، كما اعتبروا حكومة إميل إدّه باطلة وغير شرعية.

انتقلت الحكومة الوطنيّة المؤقّتة إلى بلدة بشامون التي شاءها الأمير مجيد أرسلان معقلًا لها حيث أصبحَت بحماية مئات المسلّحين، وفشل هجوم الفرقة الفرنسية على هذه البلدة لإخماد الانتفاضة المسلَّحة الموجودة فيها، وجاء الجنرال كاترو من الجزائر ليُصلح ما أفسده المندوب العامّ هللو بتدابيره المتسرِّعة والفاشلة، واستدعى رئيس الجمهوريّة من معتقله في راشيّا وقابله في شتوره وعرض عليه إطلاق سراحه في حال تخلِّيه عن الحكومة الوطنية التي يرأسها رياض الصلح، فرفض الرئيس ذلك. ثم استدعى الجنرال كاترو رئيس الوزراء من معتقله وعرَض عليه إطلاق سراحه إذا استقال من الحكومة، فرفض ذلك، وإزاء وحدة الرئيسَين وعدم تنازلهما عن الاستقلال، وإزاء صمود الحكومة الوطنية في بشامون، وتوحُّد اللبنانيِّين حولها، وإزاء ضغط الجنرال سبيرس وإلحاحه على الفرنسيّين بوجوب إطلاق سراح المعتقلين في راشيّا، نزل المندوب السّامي كاترو عند طلبه في 22 تشرين الثاني. فكان ذلك تاريخًا للاحتفال باستقلال لبنان.

ماذا كان موقف كمال جنبلاط في هذه المرحلة، وهو الحديث العهد في السِّياسة، والسائر في طريقها منذ بضعة أشهر؟ إنه لم يقف إلى جانب حليفه في الانتخابات النيابيّة، إميل إدّه، ويشترك في الحكومة التي أسّسها، ولم يقف على الحياد وينسحب من الميدان كما فعل في انتخاب رئيس الجمهوريّة، بل إنه استنكر موقف إميل إدّه، وكان من بين النوّاب المجتمعين في 12 تشرين الثاني، وممّن منحوا الثقة للحكومة الوطنية المؤقّتة. كما كان من المشتركين ميدانيًّا لإسقاط حكومة إميل إدّه. فقد صرّح في مقابلة صحفيّة بما يلي:
«اشتركتُ فعلًا في لجان المقاومة في بيروت مع السيد حميد فرنجيّة وغبريال المرّ، وكنا نواصل العمل في بيروت لاتّخاذ التدابير اللازمة في سبيل التخلّص من الحكومة التي فرضها الفرنسيون على لبنان».

وأضاف كمال جنبلاط إنّ الجمهور استقبله وجميل تلحوق بالهتافات المدوِّية وبكاء الفرح لدى انضمامهما إلى المجتمعين في 12 تشرين الثاني «لِعِلمهم أن انضمامه إلى الحركة الوطنيّة يعني في الواقع وحدة الدروز في مطالبتهم بالاستقلال المنشود وقطْع كل أمل بنجاح الحركة المعاكسة. فوحدة الدروز خاصة، والوحدة اللبنانية بصورة عامّة، هي التي كان لها التأثير الفعّال في إرجاع الأمور إلى نصابها في لبنان» (14).

إذن اتَّخذ كمال جنبلاط الموقف المنسجم مع أفكاره وقناعاته وتطلّعاته، والذي أمْلَته عليه المصلحة الوطنية يوم وُضع لبنان أمام استحقاق استقلاله السِّياسي، ويوم وُضع اللبنانيون للحصول عليه أمام فرصة استقلال تناقض مصالح البريطانيّين مع مصالح الفرنسيّين، فأحسنوا ذلك ووقفوا على أرجلهم.

أمّا رأي كمال جنبلاط في ما حصل آنذاك، فهو رأي المؤرِّخ الدقيق والموضوعي، إذ اعتبر أن اللبنانيِّين حصلوا على الاستقلال بأهون السبل، وبدعم البريطانيين، فقال: «لا نزال نذكر الإنذار السِّياسي والعسكري الذي وجّهتْه الحكومة البريطانية لقوى فرنسا الحرّة في لبنان بضرورة إخلاء سبيل بشارة الخوري ورياض الصلح ورفاقهما المعتقلَين في راشيّا، وتطويق القوات البريطانية للفصائل الزاحفة لاحتلال مواقع الحكومة المؤقّتة اللبنانية في بشامون». كما اعتبر أن ما جرى هو أحد المشاهد عن التحوُّل الذي حصل إبّان الحرب العالميّة الثانية بعد سقوط فرنسا وصيرورتها ضعيفة منهكة محتلّة من الألمان، والذي أخذ خلاله عدد كبير من الوجهاء والزعماء المسيحيين وغير المسيحيين «يتحوَّلون عن فرنسا إلى بريطانيا وسياستها، كميل شمعون، الكتلة الدّستورية، الكتائب اللبنانية، الزّعامات التقليدية الإسلامية كأحمد الأسعد وصبري حمادة والأمير مجيد أرسلان وهنري فرعون وحبيب أبو شهلا وسواهم» (15).

ذهب كمال جنبلاط أبعد من ذلك في حكمه على الرّجالات الذين حقّقوا الاستقلال سنة 1943، إذ اعتبرهم رجالات بريطانيا التي ساعدتهم في معركة الاستقلال، لأنها كانت تعمل على إنهاء الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان لِتَرث فرنسا فيه، فقال في إحدى مقالاته إبّان انتفاضته عليهم بعد ذلك، وسعيه للتخلّص من مساوئ حكمهم: «جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب»، ذلك أنهم حقّقوا استقلال الدولة بمساعدة الأجنبي، وفشلوا بتغليبهم مصالحهم على المصلحة الوطنية العليا في بناء دولة الاستقلال، فسادَ الفسادُ في عهدهم إلى درجة جعلت اللبنانيين يترحَّمون على زمن الانتداب الفرنسي، الذي، بالرّغم من مساوئه، كان فيه (ما يحول) دون شتّى التجاوزات في الإدارة، في القضاء، في المصالح العامة، وكان يحاول العودة إلى القانون وحكمه» (16).

التعابير الأولى عن الاشتراكية والإصلاح 

منذ أن تفتّحَت عينا كمال جنبلاط على آفاق المعرفة، ومنذ أن وُضع على احتكاك مع الناس والتجارب، عاش التعاليم التي آمَن بها، والقيم الخلقية التي جعلها أساسًا لسلوكه، واستهواهُ الخير فعمِل له، وكانت الرّغبة في مساعدة الآخرين من جملة المشاعر الإنسانيّة التي عبَّر عنها في مجالات عدة.
حين كان كمال جنبلاط يتابع دراسته في مدرسة عينطورة تكفّل بتعليم خمسة من رفاقه الذين يعجز أهلهم عن تحمّل نفقات دراستهم. وحين كان يتابع دراسته في باريس تأثَّر بالأفكار الاشتراكية، وأبدَى تعاطفًا مع اليساريِّين ومنظّماتهم الطالبية، ومنها منظّمات شيوعية. وبعد عودته من باريس أبدى المزيد من التعاطف مع الفقراء والمعوزين من أهالي الشُّوف خلال الحرب العالميّة الثانية التي أسفرَت عن أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة جرّاء الاحتكار، وارتفاع الأسعار.

عاش كمال جنبلاط أحداث الحرب العالمية كما عايش الناس خلالها، وعرف تفاصيل ظروفهم ومعاناتهم ومشكلاتهم. كان يرى جموع المؤيِّدين تأتي حادية هازجة إلى دار المختارة، وتُحْيِي حلقات الرقص والدّبكة فيها، وبينهم الكثير من الفقراء والمعوزين. وكان يرى أنه مقابل ولاء هؤلاء الناس للزّعامة الجنبلاطية الممثَّلة آنذاك بوالدته الست نظيرة، وبصهره حكمت بك جنبلاط، هناك واجب على هذه الزّعامة إزاءهم، بل كان يحسّ أكثر من ذلك، أي بواجب الغنيّ، مُطلَق غنيّ، نحو الفقير أيًّا كان، بمعزل عن الولاء والمصلحة الشخصيّة.

كان لدار المختارة أراضٍ في كفرفالوس وماروس وسبلين، فجمع كمال جنبلاط محاصيلها من القمح واشترى كميات منه من سوريّة، ووزّعها على الفقراء والمحتاجين. وحين قلَّت مادّة القطرون التي تدخل في صناعة الصابون، عمد – وهو المُلمُّ بعِلم الكيمياء – إلى تأمينها باستخراجها من المِلح ومن موادّ أخرى.

ومن أجل تخفيف معاناة الناس من البطالة تحدَّث كمال جنبلاط عن فتح ورشات وإنشاء معامِل لخلق فُرص عمل لأهالي الشُّوف تكسبهم أجرًا يتراوح بين 15 و25 غرشًا، يُضاف إليه كيلوغرام من القمح، وقرن ذلك بإيجاد أوراق سُمّيَت «العملة الجنبلاطيّة»، إذ رسم بخطّ يده على ورق مُقوّى فئات من التذاكِر تُسلَّم للعمّال من فئة 5 و10 و25 غرشًا.

جرى خلال تحرير الحلفاء لسوريّة ولبنان بين الفئتين معارك عنيفة، وحصلت أضرار بشرية وأضرار بالمزروعات والحيوانات وبالبيوت، كما جرى قصف الجسور ومنها الجسر الواقع على نهر الباروك (الأولي) بين قريتَي المختارة وجديدة الشُّوف، وشُكِّلَت لجان لإجراء مسح شامل بالأضرار وتحديد التعويضات، فقدّم المتضرِّرون طلبات التعويض عليهم إلى هذه اللجان، ومنهم من قدمها إلى الجنرال كاترو. ثم أمَّن الحلف القمح وسائر المواد الغذائية، ونظّموا التوزيع بواسطة الميري، وخلقوا الكثير من فرص العمل بإعادة الجسور المهدمة، وبمدِّ خط سكة الحديد الساحلية، مما أراح اللبنانيي من بعض الهم الاقتصادي.

في خطابه السياسي الأول سنة 1941 أمام مندوب فرنسا الحرّة الجنرال كاترو، في منزل شيخ العقل الشيخ حسين طليع في جديدة الشوف، طرح كمال جنبلاط قضايا عدة تهمّ الناس، وعلَّق السيد بارت (Bart) على طرحه هذا بهمسه في أذن حكمت جنبلاط، قائلًا: «ابن عمْكُم اشتراكي». والقضايا التي طرحها هي مسألة القمح، ومسألة تناقص السكّان في الأرياف، ومسألة الاتّصال مرورًا إليها بإعادة بناء الجسر المهدم بين المختارة والجديدة، ومسألة تأمين فرص العمل للفلّاحين والعمَّال.

أوّل البرامج السياسيّة

حين قرَّر كمال جنبلاط مزاولة العمل السِّياسي والترشُّح للانتخابات كان عنده نهج سياسي ومبادئ وأفكار يريد تحقيقها من خلال ذلك، وكان أول تعبير له عن نهجه حينذاك عندما وقف خطيبًا في الحفلة التأبينيّة المقامة لتكريم صهره حكمت جنبلاط في الجامعة الأميركية ببيروت مساء الأربعاء الواقع فيه 7 تموز 1943، حيث قال:
«هذه كلمتي فيك إذا أجزتُ لنفسي مع هذا الحفل، ورغم القربى والأسى أن أذكرك، وهذه الذّكرى قَسم عليّ وعهد، عهد قطعتُه بيني وبين ربِّي، وقَسم بيني وبينك. سنُتمّم ما بدأت، ونبني فوق ما أسَّسْت، ونشيد بإذن الله على سواعدنا العالم الذي يضمن للعامِل حقّه، وللفلّاح جهده، وللغنيّ واجبه، وللزعيم إيمانه، ويكفل للبلاد الكرامة والعمران» (17).

إن كلمات كمال جنبلاط هذه هي مبادئ إصلاحيّة وأهداف نبيلة سيعمل لتحقيقها، جذورها في أفكار اشتراكية آمَن بها، وبما أنه يدرك أن النّيابة ليست غاية وتشريفًا، بل هي تكليف ووسيلة للإصلاح ولخدمة الناسن طلب في خطابه، أثناء الحملة الانتخابيَّة، من أهل جبيل تأييد إميل إدّه على أسس معيّنة، هي بمثابة برنامج انتخابي، فقال:
«إنكم تطلبون ونطلب منه الإخلاص لتلك القضيّة التي أخذ على عاتقه الدفاع عنها». «نطلب منه وتطلبون، أن يعالج مشاكل الأمّة على ضوء المصلحة العامة والوطنية الصادقة وأن يرذل سياسة الأنصار والمحاسيب التي كانت علينا وبالًا في عهد المجالس النِّيابية السابقة».
«نطلب منه وتطلبون أن ينهض بمرافق البلاد الاقتصادية فيروي الوهاد ويسقي العباد ويمد الأسلاك الكهربائية وينشئ المعامل ويبني المدارس ويشيد المعاهد ؟؟؟ من زراعية وصناعية».

«نطلب منه وتطلبون تحوير الدستور بشكل يجعل السلطة ثابتة قادرة على أن تتمشّى على منهاج عمومي وأن تحققه دون أن تخشى مناوأة في المجلس تسقط الوزارة كل شهر أو كل يومين لأسباب تافهة أو لمجرد غايات شخصية ممقوتة».

«نطلب منه وتطلبون فوق كل شيء راحة الفقير ورفاهية العامل وسعادة الفلاح والمنتج الصغير، لأن في سعادة العامل ورفاهية الفلاح وراحة الفقير الضمانة الوحيدة للسّلم والتقدم والعمران.. ولن تتم راحة العامل والفلاح والمنتج إلّا بتنظيم هذه الدولة تنظيمًا اقتصاديًّا يستوحي مبدأه من نظام النقابات الخيرية والجمعيات التعاونية».

«على هذه الأسس وحدها يبايعك الجبليون مني وينتخبونك منذ هذه اللحظة، وعلى هذه الأسس سينتخبك الدروز باسمي.. والدروز سيف لبنان» (18).

بداية الدور الكبير

مما ورد ذكره نرى بداية دور كبير لكمال جنبلاط سيزداد كبرًا وعملقةً مع تواصل مسيرته السياسيّة التي انتهت في 16 آذار 1977، ونرى جذور مبادئه التقدميّة الاشتراكيّة التي ظهرت في أطروحاته وأعماله قبل أن تظهر في مبادئ الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسّسه في أيار سنة 1949. كما نرى بداية الاختلاف عن والدته الست نظيرة، وعن سائر الزعماء الجنبلاطيِّين السابقين، إذ كانت زعامتهم إقطاعية وتقليديّة، تمَوْرَنت في عهد الست نظيرة، فيما هو جعل هذه الزعامة، التي ورثها عنهم، زعامة وطنية قومية حديثة، وأدخلها في العالم العربي الواسع، زعامة تُعالج المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتُدافع عن حقوق الطبقات العمّاليَّة والفقيرة، وتساهم في خلق مجتمع أفضل، وتجعل السياسة سبيلًا لبناء الإنسان، وقد قال في ما أرادت والدته الست نظيرة له، وما أراده لنفسه ما يلي:
«أنا لستُ حجرًا مزخرفًا يوضَع في قصر المختارة، بل حجر أساسي لبناء مجتمع فاضل في سبيل الأجيال القادمة. لا أريد شيئًا من ؟؟؟ (الست نظيرة( ولا أريد ان أتحمّل مغبَّة سياستها» (19).

وكما لم يشأ كمال جنبلاط أن يكون حجرًا مزخرفًا في قصر المختارة الذي تمشَّى قبله على سياسة تقليدية، هكذا لم يشأ أن يكون حجرًا حتى عمودًا في قصور الأحزاب الوطنية واللبنانية الموجودة آنذاك، ولا عمودًا في قصرَي الكُتلتَين السياسيَّتَين الرئيستَين اللَّتَين استقطبَتا معظم الشخصيات البارزة: الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية لأنه لم يجد فيهما وفي سائر الأحزاب سبيلًا إلى بناء المجتمع الفاضل والوطن المستقرّ المزدهر. وآثر أن يكون بانيَ حزبٍ يحقِّق مبادئه وأفكاره، ويكون هو قائده وموجِّهُه وصاحب الدور الرئيس فيه. وقد باشر بعد معركة الاستقلال مباشرة بتأسيس حزب نيابيّ مستقل عن الدستوريِّين والكُتلَوِيِّين سمّاه «حزب الشَّعب» لكنه ما لبث ان تخلَّى عنه لأنه غير مؤهَّل لتحقيق الغاية التي يريدها.

منذ أن وُضع كمال جنبلاط أمام معالجة القضايا الاجتماعيّة والسِّياسيّة، بدأ متميِّزًا في كيفية النظر إليها، ووضْع الحلول لها، واتّخاذ المواقف منها، إذ تميَّز، وهو ابن الأسرة المقاطعجيّة، بأطروحاته الإصلاحيّة الاجتماعية المتقدّمة. كما تميّز في نهجه السياسي عن النهج الذي سارت عليه والدته طوال عقدَين ونيّف، وسار عليه صهره حكمت جنبلاط طوال تسع سنوات وأبرز مشهد لهذا التميُّز على الصعيد السياسي ظهر خلال الإعداد للانتخابات النيابيّة سنة 1943.

جرى تشكيل اللائحة الانتخابيّة في لقاءات عدّة حضرها كمال جنبلاط، كان آخرها الاجتماع الذي حصل في قصر المختار لحسم الموضوع، والذي ضمّ والدته الست نظيرة، وإميل إدّه وجورج عقل وكسروان الخازن وإفرام البستاني وجميل تلحوق. كان كمال جنبلاط مستمعًا خلال الاجتماع الذي شهد نقاشات طويلة، وتداولًا في الأسماء، وكانت الست نظيرة هي التي تتولَّى الحديث عنه لأنه كان أمام أولى التجارب السياسية، ولأنها كانت خبيرة في فن السياسة. وعن خبرتها هذه قال رياض الصلح، رئيس الوزراء لاحقًا: «كنا نظنّ أنفسنا كبارًا في ألاعيب السِّياسة، ولكن لما التقينا نظيرة جنبلاط رأينا أنفسنا صغارًا».

توافَق المجتمعون كلهم على لائحة الأسماء بعد جدال حادّ، وكتبوا اللائحة بصيغتها النهائية التي توصَّلوا إليها، وقدّموها إلى كمال جنبلاط، فطواها ووضعها في جيب جاكيته الصغير، وسحب من هذه الجاكيت ورقة أخرى قدّمها لهم قائلًا: هذه لائحة كمال جنبلاط، وعلى أساسها أشارك في الانتخابات، وكان فيها تعديل في الأسماء مع ترك اسم إميل إدّه على رأسها. فتفاجأ الحاضرون بمن فيهم الست نظيرة، ودهشوا من موقفه المتحوِّل من مستمع طوال الجلسة إلى معلن في نهايتها للائحة أسماء أعدَّها مسبقًا، وكان ذلك أول المشاهد السياسيّة المعلنة التي يختلف فيها موقفه عن موقف والدته بعد مبايعته بالزعامة، فبدت غاضبة ومحرجة، وسألته: لماذا لم تضع اسمك في رأس اللائحة؟ فأجاب بهدوئه المعاد: وضعتُ اسم إميل إدّه في رأس اللائحة لأنه رئيس جمهوريّة سابق. ولكي تسوِّي الأمر، وتحلحل العقدة التي أوجدها بطرحه المفاجئ، وسّطت الأصدقاء والمقرَّبين لإجراء بعض التعديلات على لائحته (20).

نرى في هذه الواقعة الأمرَين التاليِيَن: أولهما بداية الاختلاف في الرأي بين كمال جنبلاط والست نظيرة، وتميُّز نهجه السياسي عن نهجها، وثانيهما بداية الدور الكبير الذي يراه أكثر من اسم يدرج في لائحة الكتلة الوطنية بعد اسم رئيس هذه اللائحة، وأكبر من حيثية سياسية تتكامل مع سائر القوى لإنجاح اللائحة في جبل لبنان.

لم يكن تصرُّف كمال جنبلاط، المذكور، عملًا انفعاليًّا أو ارتجاليًّا، إنما هو حصيلة معرفته لدور آل جنبلاط التاريخي كقادة وزعماء أوائل في لبنان. اطلّع على التاريخ العام، وعلى الدراسة التي كان يعدُّها صهره حكمت جنبلاط عن آل جنبلاط، فرأى من أجداده الشيخ علي جنبلاط الداعم الأقوى للأمير الشِّهابي الحاكم، والشيخ بشير جنبلاط المنافس للأمير بشير الشهابي الثاني على الحكم، بل الحاكم الفعلي للجبل، ورأى من آل جنبلاط في شمال سورية، المعتبَرِين عنده أجداد جنبلاطِيِّي لبنان، الكثيرين من العظماء ومنهم حسين باشا والي حلب، وعلي باشا المتمرِّد الكبير على الدولة العثمانيّة. وبناءً على كل هذه الاعتبارات كان يرى نفسه المخوَّل الأول لتشكيل اللائحة، والمؤهَّل لإتمام دور مهمّ بدأه الأجداد واستمرّ لقرون. وإذا كان هذا الدور قد ضعف بعد نكبة الشيخ بشير سنة 1825 وموت ولده سعيد سنة 1861، فإنه سيتجدَّد أقوى ممّا كان عليه كمال جنبلاط الذي سينطلق في مسيرته مدعومًا بقاعدة شعبيّة تعتبره زعيمها الشابّ، وتعتبر دار المختارة دارها.

كان موقف كمال جنبلاط، عند تشكيل اللائحة الانتخابيّة في سنة 1943، أجدَّ المؤشرات لمرحلة سيكون فيها مشكِّل اللوائح الانتخابية ورئيسها، والمقرِّر البارز في مسار تاريخ لبنان، والمتحكِّم بأمر انتخاب رئيس الجمهورية بحيث لُقِّب بـ «صانع الرؤساء». وقد عبَّر عن ذلك بالقول في 12 نيسان 1953، بمناسبة استقبال الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، في بيت نجيب جنبلاط ببيروت، إذ قال: «قلنا لذاك زُلْ فزال، وقلنا لهذا كُن فكان». وقد عنى بالقِسم الأوّل من كلامه رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري، وعنَى بالقِسم الثاني رئيس الجمهوريّة كميل شمعون الذي كان حاضرًا هذه المناسبة.

المراجع:

1- النهار، عدد 23 شباط 1939.
2- البيرق، عدد 6 حزيران 1943.
3- البيرق عدد 13 حزيران 1943.
4- أيغور تيموفييف، كمال جنبلاط الرجل الأسطورة، ص90-91.
5- للمزيد من المعلومات انظر كتابنا: دروز سوريّة ولبنان في عهد الانتداب الفرنسي ص325- 33.
6- انظر كيفية توزيع النواب على الطوائف اللبنانية: النشرة الرسمية للمفوضيّة العليا الفرنسية، مجلد عام 1943،
ص149- 151.
7- البيرق، عدد 30 تموز 1943.
8- بشاره الخوري: حقائق لبنانية، الجزء الأول، ص255- 256.
9- انظر وليد عوض: رؤساء لبنان، الأهلية للنشر والتّوزيع، بيروت1977، ص171، 176.
10- للمزيد من المعلومات انظر يوسف سالم: 50 سنة مع الناس، دار النهار، بيروت 1975، ص 121، 122، 146.
11- للمزيد من المعلومات عن عدد الأصوات التي نالها النواب سنة 1943، انظر فارس سعاده: الموسوعة
الانتخابية، الجزء الثالث، ص464 وما بعدها.
12- انظر كلمة كمال جنبلاط عند يوسف خزما الخوري: البيانات الوزارية ومناقشاتها في مجلس النواب، مؤسسة
الدراسات اللبنانية، بيروت 1986، المجلد الأول، ص135.
13- خلّد الشاعر شبلي الملاّط المناسبة بالأبيات التالية:
وبيت رفيع قد وقفنا بظلِّه به شبل وفيه لبؤة لها
ولاح وسام الطفل بالطفل فرقدًا ومن حوله جمعٌ يقوم ويقعُدُ
كل أهل الفضل بالفضل يشهدُ كما أن هذا البيت بالشُّوف فرقدُ
14- الصفاء، عدد 24 أيار 1946.
15- مقدّمة كمال جنبلاط لكتاب “ربع قرن من النضال” إعداد مركز البحوث الاشتراكية سنة 1974، ص33- 34.
16- المرجع نفسه، ص34.
17- البيرق، عدد 9 تموز 1943.
18- البيرق، عدد 25 آب 1943.
19- خليل أحمد خليل: كمال جنبلاط، ثورة الأمير الحديث، ص60.
20- للمزيد من المعلومات انظر شوكت اشتي: الست نظيرة جنبلاط، دار النهار، بيروت 2015، ص227- 228.


قراءة في المجموعة الشعرية “سعادة الروح”، أو “آنندا السلام”
لـ “المعلّم” كمال جنبلاط

أ. د. محمد شيّا

 

قبل الدخول إلى عالم المعلّم كمال جنبلاط المتفرّد في مجموعته الشعرية «سعادة الروح»، وإلى عميق أفكار المجموعة، وتساميها، وإلى صورها الشعرية المبتكرة بامتياز واقتدار، يجب التأسيس أولاً بموقف كمال جنبلاط من مسألة الدين بعامة، والفهم المتفرد الذي أظهره، ليس فقط للدور المركزي الذي يضطلع به في بعده الميتافيزيقي الأقصى – وهو ما سنعود إليه – وإنما على المستويات العملية، الاجتماعية والتربوية والأخلاقية تحديداً. فبخلاف موقف ماركس المتشكك في الدين ودوره وجعله مجردَ ظاهرةٍ تاريخية مشروطة، كان المعلّم حاسماً في تأكيد دور الدين، والإيمان الديني، شرط أن يكون إيماناً مبصراً منفتحاً قابلاً لكل صورة، لا إيماناً طارداً لإيمان الآخرين، وللصور والاجتهادات الأخرى في معرفة الله، وعبادته. وجنبلاطإنما يستند في ذلك إلى تاريخ طويل من الحكماء الأوائل، ثم أفلاطون، إلى هيجل حديثاً. لهيجل (الفيلسوف الألماني الأكثر أهمية مطلع القرن التاسع عشر)، في «فينمنولوجيا الروح» و»موسوعة العلوم الفلسفية»، الدين جزء جوهري ورئيسي وحتمي في تطور العقل والحقيقة والمطلق. هو الخطوة قبل الأخيرة في انكشاف العقل لذاته، واتحاده بذاته، بعد رحلة انشطار طويلة؛ وحدةٌ لن تتحقق إلا بالدين والفلسفة حسب هيجل.

وعليه، فالدين للإنسان، حسب المعلّم، حاجةٌ وضرورة، «فهو باقٍ ما بقي الإنسان». وقد جعل المعلّم ذلك في صلب «ميثاق» الحزب التقدمي الاشتراكي (الذي أعلن بزوغ فجره في الأول من آيار 1949 مع كوكبة من كبار مفكري زمنه مثل العلايلي وألبير أديب وآخرون). في «الميثاق»، الدين إسّ جوهري من أسس المجتمع البشري، يقول النص:
«اعتبار الدين إسّاً جوهرياً في قيام المجتمع الأسمى، والترحيب بعمل رجاله في نشر ميادئ الكمال الإنساني». (الميثاق)

لقد كان للمعلم من المعرفة النظرية، والخبرة التاريخية، ما سمح له بأخذ الموقف الصحيح، والذي جاءت التحولات التاريخية مصداقاً له. يقول المعلم بكثير من الدقة والدراية والمعرفة الواسعة:
«لقد تحوّل الغرب عن الأديان وأبدل المعتقدات الدينية بالفلسفة – فلسفة هيجل وكانت وفيتشه والتومائي وماركس وغيرهم ممن لا يعدّون ولا يُحصون وفلسفة انبياء القومية والدولية والوجودية والطبقية على السواء – فإذا بالغرب وبعد جهد المحاولة وتحقيق الرغبة، يتطلع إلى نفسه فيجد ذاته حيث كان: لم يتقدّم خطوة ولم يتأخر خطوة من جهة حل معضلته الأساسية مع ذاته، معضلة المعرفة، معضلة السعادة….» (ثورة في عالم الإنسان، 319-320)
لكن كمال جنبلاط، المفكّر الواقعي لا المنظّر فقط، نبّه إلى أن الدين عند بعض رجال الدين ليس دائماً على هذا المستوى المتسامي الحتمي والضروري، لذلك قال صراحة:
« الخطر كل الخطر في الدين إذ يُنزّل إلى مستوى التجمع الطائفي الطقسي، أي في الحقيقة مستوى التعصّب السياسي، فلا يعود ديناً بل حزباً.» (المصدر نفسه، 321)

ومن ذلك محاولة البعض، في غير زمان ومكان ونصّ، فرض شكلهم الديني الخاص على سائر البشر واعتبار أنفسهم «شعب الله المختار»، يقول:
«… عندما نعتقد أنه يجب أن نفرض ديننا على سائر البشر، وأنه أفضل الأديان، فهذا الاعتقاد يجعل فكرة «الشعب المختار» – الفكرة العنصرية للشعب المختار – بالإضافة إلى محاولة كل جماعة منتمية إلى دين من الأديان الكبرى فرض دينها على أفراد وجماعات أخرى (… بالتبشير والحرب كذلك)… هذه الفكرة بدأت في اليهودية لأنها أول من أحتضن فكرة شعب الله المختار وأبرزت مفهوماً يميّز هذا الشعب من سائر الشعوب…». (جوهر الإبداع ووحدة التحقق، 115)

وينقل جنبلاط عن المؤرخين أنه وبفعل التعصّب للفكرة الواحدة والاجتهاد الواحد حتى داخل الدين الواحد حدثت «مجازر في شوارع الاسكندرية بين أنصار الطبيعة الواحدة وأنصار الطبيعتين وسقط فيها 300 ألف قتيل من جرّاء الهرطقات التي كانت قائمة. وفي لبنان يحدّثنا المؤرخون أنهم شاهدوا في أكثر من ليلة جبال لبنان ساطعة بنور المساكين الذين كانت تُطلى أجسادهم بالقطران ويولِعون بها النار لتصفيتهم فكانت مشاعل حيّة».(المصدر نفسه، 113-114)

وبعض ما جاء به المعلم، وعلى نحو لم يسبقه إليه أحد حلاً للتعصب والتفرّد والرغبة بالإقصاء، اقتراحه التربية على قبول الآخر المختلف من خلال التربية الدينية الواحدة، قال:
«في رأينا يتوجب جعل التعليم الديني إلزامياً في المدارس العامة والخاصة (وفي صف الفلسفة تحديداً) فعلينا واجب عرض الحقيقة كما خلُصت ووصلت إلينا من خلال مناحي الوحي، على أن يكون للطالب حرية القبول أو الرفض … أما أن يظل لا يعرف الذي يتوجب عليه رفضه، أو اختياره، فأمرٌ غير معروف ولا معقول.» (ثورة في عالم الإنسان، 27)
هو اقتراح بجعل المعرفة بالدين متاحة، كأية معرفة أخرى، وللطالب بعدها حرية أن يقبل أو يرفض. كما أنه اقتراح ينزع عن التعليم الديني الفئوية وإلغاء الآخر، بجعله الدين في الموقع نفسه لجهة الجوهر، وتقديمه بهذه الصورة للناشئة، كل الناشئة.

تلك مجرد إلماحات تأسيسية كي نفهم الموقع الخاص الذي احتله الدين في فكر المعلّم، وفي ممارسته العرفانية بالتأكيد؛ وهو ما يجعلنا نفهم على نحو أفضل تفرّد كمال جنبلاط في فهم الدين خارج كل تعصّب وكل ضيق في التفكير أو أطر تطرد كل ما هو خارجها: «لقد أضحى قلبي قابلاً كل صورة….». هذا الفهم الجنبلاطي الديني/المتسامي يجد تعبيره الشعري الأخّاذ في مجموعته الشعرية، موضوع هذه المقالة، «سعادة الروح».

سعادة الروح هو المصطلح الصحيح لوصف الحال الذي عاشه المعلّم الفذّ، غير الاعتيادي، منذ نعومة أظفاره تقريباً، وفي خلال سنوات حياته المثيرة من الخارج /الهادئة من الداخل/ وصولاً إلى لحظة استقباله الخاتمة الحزينة:
أموتُ ولا أموتُ فلا أبالي
فهذا العمر من نسجِ الخيالِ

للمعلّم، السعادة الحقيقية هي للروح، وليس للجسد، أو الغريزة،
أو الانفعالات العارضة العابرة. في الثلاث الأخيرة، ما يُظنّ أنه سعادة، هو وهمٌ عارض زائل، يدوم لحظةً ويتبدد ليعقبه الألم، بكل المعاني. ألمُ الجهل، ألمُ الشرّ، ألمُ الغريزة، ألمُ المادة. إذ ليس من السعادة في شيء برقٌ يلوح للحظة ثم يرحل. وليس من السعادة في شيء انفعالٌ يطفو لثانيةٍ أو نحوٍ منها ثم يتبدد كأنه لم يكن. وليس من السعادة في شيء أن تبحث عنها في الجسد، أو المادة، وأعراضهما الآنية المتبدّلة الزائلة. هو في أسوأ الأحوال وهمُ السعادة، وفي أحسنها مجردُ طيفٍ ظاهرٍ عابرٍ لكنه يذكّركَ بنقيضه، أي بضرورة البحث عن السعادة في الروح لا في الجسد، في العقل لا في الغرائز، في التوازن لا في الفوضى، في ما لا يموت، وفي ما منحنا الله من ملكات متسامية هي هوّية الإنسان الحقيقية في البدء وفي النهاية. والسعادةُ هنا ليست في الخاتمة السعيدة الأبدية فقط – وهي غاية الإنسان الأبدية وفق أرسطو – ولكن على الطريق أيضاً، أي في كل خطوةٍ نخطوها في الدرب الصحيح المفضي إلى سعادة الروح، السعادة الحقيقية الأبدية. ففي سعادة المادة والجسد الموهومة لا لذة إلاّ ويعقبها فوراً الألم – لا شبعَ إلا ويعقبهُ جوعٌ مبرّح ولا ارتواء إلا وبعده عطشٌ قاتل، وهكذ دواليك في سلسلة مضنية لا تنتهي من وهمِ الارتواء ثم زواله، وهم الراحة ثم تبدده، ووهم اللذة وآلام تعقبه، فإذا الفرد في دوامة يدورُ ويدور حول نفسه، يتقدّم خطوة إلى أمام ويعود خطوات إلى الوراء، ويمضي العمرُ سريعاً فلا يكتشف إلاّ في نهاية حياته القصيرة أنه إنما كان يلاحق وهماً لا قرار له، ولا حقيقة فيه. وإذ يواجه في النهاية الموت، كان يحزن ويرتعب لأن الحياة الواهمة العارضة التي عاشها يجب أن تنتهي في موت الظاهر الواهم العارض ذاك؛ ولا يكتشف مبلغ ما كان عليه من وهم إلا بعد فوات الآوان؛ وصحّ هنا تماماً القول الكريم «لو أخّرتني» لفعلت كذا وكذا، ولما غرّني الظاهرُ والسطحيُ والعابرُ الزائلُ، ولكنتُ بحثتُ طوال العمر عن الحقيقة، ولتمسكتُ بها حين أعثرُ عليها تمسّك الغريقِ بخشبةِ الخلاص، بل لكنتُ وجدتُ رضاي وطمأنينتي، وسعادتي، في مجردِ البحث عنها – فنعمةُ، بل متعةُ، البحثِ عن الحقيقة لا تقلّ كثيراً عن متعة بلوغِ الحقيقة والتماهي بها، أمرٌ ليس مستحيلاً لكنه ليس متاحاً دائماً، وليس متاحاً بسهولة إلاّ لمن كرّسوا النفسَ بما فيها والحياةَ القصيرةَ وما احتوت لهدف أعلى وحيد: بلوغ الحقيقة، أو ما تيسّر منها، والتماهي بها، ما وسعَ المرءُ ذلك – وهي قصةُ المعلّم كمال جنبلاط، وغيره من «الواصلين»، مع الحقيقة، جوهر سعادة الروح.

من الجميل جداً أن يقول المترجم – فيصل الأطرش – في مقدمته للمجموعة:
«….. شخصياً كنت على شبه يقين أنني، بسبب عزمي على القيام بعمل مبارك كهذا، سوف تحلّ بركته في ذهني، فتكشف لي خباياه، لا لأنني – كإنسانٍ عادي – أستحقُ هذه البركة…. بل لأن العمل الذي أزمعتُ على تنفيذه يستحقها….»(ص 7)

وقبل الانتقال إلى مضمون المجموعة، نقول يستحق المترجم ما رجاهُ كما نعتقد، فترجمة كمال جنبلاط في الأصل ليست بالأمر السهل، فكيف بترجمته عن الفرنسية، شعراً؛ جهدٌ كبير لهُ من القارئ كل الثناء.

يبدأ المعلّم مجموعته بقول مختصر بسيط عميق، أخّاذ:
«من خَبِرَ السعادة لا يعرف الموت.»
من سعى إلى المعرفة الحقيقية، معرفة الحق، وعاشها، وتماهى بها، فزالت من عقله، بل عن عينيه، حُجُبُ المادة وأعراضُ الظاهر والباطل والعدم، وأوهامها، سيلتقي الموتَ يوماً ما، شأن كل من خالطه بالولادة الجسدُ والمادةُ؛ ولكن أيّ موت ذاك؟ هو موتُ الظاهر والوهمي والزائل، موتُ الجزء الذي كان من تراب ويعودُ إلى التراب. أما الجزءُ الأسمى فيه، بل الجوهر، فهو الروحُ: الجوهرُ أو السرُّ المكنونُ الخفيُ، الذي لا يظهر، وبه يقوم كل ما يظهر، ثم يموتُ كلُّ ما يظهر، وهي سنّة المادة والتراب والجسد – وهو لايموت. هوذا تفسير قول المعلّم كمال جنبلاط في ديوانه «فرح»: «أموتُ ولا أموتُ..»، وقوله في مجموعته «سعادة الروح»: «من خَبِرَ السعادة لا يعرف الموت.» الظاهر والمادي والعارض والآني والزائل هو ما يموت فينا، أما الجوهر والحقيقي والحق فينا فلا يموت، لأنه في الأصل غير مصنوع من مواد أو مكوّنات تفنى أو تموت. يقول المعلّم في مجموعته المترجمة هذه:
« إن مركز اعتمال العقل الذي يعجز عنه الوصف يشبه بلورة تنعكس عليها صورُ الأغراض المحيطة. لا تؤثر به الأفكار، ولا أحاسيس الألم واللذة، ….
اللونُ المنعكسُ لا يدخلُ في تركيبة البلّورة، تماماً كما لا تدخلُ الغيومُ في تركيبة الماء الذي تتمرّى به السماء.
الجاهلُ تلتبسُ عليه ذاتُه الخاصة مع اللون الذي يصبغها، أما الرجلُ الحكيم فالمعرفة تحرره من كل التباس: فهو يعرف أنّه بلّورٌ صرفْ». سعادة الروح، 20.
(لو كنتُ أنا أترجم هذا النصّ لقلت «بلّورٌ محض»، لا بلّور صرف)
وإذ يصل المريدُ إلى مقام الحق، تبطلُ عنده كل ثنائية وكل ازدواج، ولا يبقى غير الحق، لا شيء غير الحق، وما عداه بعضٌ منه، تجلٍ له، أو إشاراتٌ للعاقل أن يراها فيتبعها صُعُداً إلى مراتب الحقيقة والحق:
«ما كان قطُّ سواكَ الحتمَ والوكَدَ
ولا المرايا سواكَ استعكست أحدا» (سعادة الروح، 74)
أو قوله في «فرح»:
«…..
هل الشمس التي تدور
في عناية الفلك،
أو في فلك العناية،
فتسجدُ ركعة الصلاة الكاملة،
كل ليلٍ ونهار،
هل هي تُبطئ خطوها
لتنظر إلى الزهور،
ولتشهدِ الأنهار…
وليكتحلَ شعاعها بتفتقِ البراعم،
ولتتمتع بتألقِ الندى،
وهديرِ البحار، وتأويبِ الجبال،
وتصوّر الخيالات؟
لا إله إلاّ الحق، ولا وجود إلاّ هوْ،
وهل الأرض سوى ذرةٍ
تدورُ في أفق الحق الواسع،
يحتويها
وهي تحجّ إليه…» (فرح، 38)

أنّى توجهتَ، فقِبلتك الحق:
«…..
فاسجد وإياي
في صلاة المسلمين،
وفي استشراف صورة النور
عندما يعلو لهب الشعلة
في المشكاة،
في معراج فؤاد نور زجاجه،
فيتألقُ الكون
«كوكباً درياً»
في مشكاة زيت الحكمة،
والحكمةُ ليس لها وطن….
ولنرفع مع النصارى
قربان الوجود،
هذا القرصُ البدرُ،
في يدي الكهّان،
في يدي المسيح الحقيقي،
العقل الأرفع،
……..
ولنعرّج في صلاة إخواني
أبناء التوحيد، أهل الحق،
وفي هجعات شهودهم،
عندما يتسلّق فيهم العقلُ الأرفع
حدود التكوين،
حدود الهيولى الأولى،
المندرجةُ إليهم، وفيهم،
في شجرة تكوينِ الإبداع،
فيلقون الحق،
في شهود ذواتهم لذاتهم،
فتضمحل الذوات،
فلم يكن في المنزل
أحدٌ سواه». (فرح، 46-48)

ويختمّ المعلّم الكبير سوناتا الوجود الرائعة بحركة أخيرة:
«حنانيكَ مولاي…
أطلق قبساً من شعلة قدسك،
لكي نرتوي….
مولاي ربيعنا يمضي مع الفصول،
أما ذاك الربيع
فلا تبصرهُ العيون،
ولا تغمضُ عنه جفونُ العقل،
ولا تغربُ فيه شمسُ الأزل» (فرح، 48)

أو كما في آنندا السلام، (في ترجمة خليل أحمد خليل)، وسعادة الروح (في ترجمة فيصل الأطرش):
«أنت الحقيقة،
خلف ورقة الشجر،
أنت غلافُ الحياة
في الثمرةِ الفجّة،
أنت عطرُ قد انطوى
في الزهر!»(آنندا السلام، 98)

أنّى تلفتّ فثمة حقيقةٌ واحدة، الله. لا فرق، في لبّ الثمر أو في قشرته، في قلب الحياة أو في غلافها. سيّان، فأنت روحُ الأشياء، ظاهرها وباطنها، وأنت نسغُ الحياة في كل ما هو حيّ.
وإذ يكتشف المعلم الحقيقة، يتماهى بها، فتبطلُ المسافاتُ بين المحب والمحبوب:
«لأجلك عشتُ،
ولأجلك أُعطِيتُ
الحبّ
كما يُعطى الفرحُ
لكل الناس،
ولم يبق شيء مما أحببت،
لم يبق ولو ظلٌّ
حتى تستدعي الظلال الأخرى
المضمحلة في ذاتي،
المتخفية في قلبي.
لا شيء.
لا شيء سواك-
من قبل، وإلى الأبد.» (26)

ما عسى المرء أن يزيد من معرفة في معبد العارف وقد جعله كعبة لكل عابدٍ، وبستاناً في الآن نفسه مفتوحٌ لكل محب»:

«لا أملكُ إلاّ قيثاراً
أنّ…فتركتُ له الأوتارَ
تُبدي ما طاب لها تبدي
كالعطرِ يفوح من الورد،
وتركت الباب ببستاني
مفتوحاً….». (سعادة الروح، 28)

بابُ البستانِ الرائع
لا يسكنه غير الحقيقة، والحب،
وهما واحد،
بستانٌ مفتوحٌ
لمريدي المعلّم،
مريدو الحقيقة،
يَسعون أن يكونوا شهوداً لها أيضاً.
أيها العارفُ،
بلغتنا حكمتُك، وتملّكنا حبّك،
لقد كنتَ المعلّم بحق، على طريق الحق،
فيا لحظِ من عرفك، واستمع إلى صوتك الاستثنائي،
تجربة شخصية، لا تُنسى.

(ترجمة فيصل الأطرش عن الفرنسية، بيروت، دار النهار، 2002، تنضاف إلى ترجمة خليل أحمد خليل تحت عنوان «آنندا السلام»).

مجلس الشيوخ

 

مجلس الشيوخ خطوة نحو الاستقرار

أ. د. محمد شيّا

أظهرت الأزمات الدستورية المستعادة في لبنان، المرّة تلو المرّة، وآخرها اثنتان خطيرتان:
1- الفراغ الرئاسي بين 2014 و2016،
2- الفراغ الحكومي المتجدد، غير مرّة، والذي يستمر لأشهر، وربما، أكثر على حساب استقرار البلاد ومصالح بنيها الملحّة.

هاتان الأزمتان، وغيرهما الكثير، أضف إليهما، وبصراحة، انقسام اللبنانيين منذ فترة من الزمن حول قضايا مصيرية، بل وجودية عدّة، تشير كلها، بالقلم العريض، إلى أن شيئاً ما يجري على نحو خطأ، وأن نقصاً «تأسيسياً» ما يقوم في مكان ما، وأن تداركهما من الضرورة بمكان.

مجلس الشيوخ الروماني

وعليه، ما الذي يمنع اللبنانيين من استدراك النقص ذاك بتعديلات وخطوات موجودة في كثير من البلدان المتقدمة وتختصر بـ: استحداث «مجلس شيوخ»، كان موجوداً في فينيقيا، ثم في أثينا، ثم في روما، وبعد في عشرات البلدان الحديثة، تناطُ به، أو إليه، القضايا الوطنية المصيرية التي يجوز مقاربتها بمنطق أغلبية وأقلية، أو بمنطق الحشد الشعبي الذي يعمّق الأزمات ولا يعالجها. باختصار، لقد كانت الوثيقة التي خرجت بها مداولات «الطائف» المطوّلة من الحكمة بمكان أن اقترحت على نحو صريح مباشر استحداث مجلس للشيوخ في البرلمان اللبناني، بل العودة إلى مجلس الشيوخ الذي كان موجوداً في النسخة الأولى من الدستور اللبناني ولبضع سنوات، مكاناً لتضع فيه جميع المكونات التي يتألف منها المجتمع اللبناني أفكارها واقتراحاتها، بل وهواجسها ومخاوفها أحياناً، إلى سائر القضايا المصيرية أو الأساسية، فيجري التداول بها والنقاش فيها وجهاً لوجه، لا بالمراسلة والرسائل، ولا في الشارع، وهو الطريق المتحضر لحل الأزمات – وسيكون هماك دائماً أزمات في بلد بل في شرق شديد الحركة والتحوّل.
لا ترغب “الضّحى” بمصادرة النقاش سلفاً، وهي تكتفي بطرح الإشكالية أعلاه. لكنها ستفتتح النقاش باستعادة مشترك متقدم نصٍ اقترحه ووقّعه قبل نحو من ثلاثين سنة كلُ من: معالي الأستاذ وليد جنبلاط، المغفور له عطوفة الأمير مجيد أرسلان، والمغفور له سماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا في الفترة تلك.

وإلى النص أعلاه، تقدّم “الضّحى” في هذه الحلقة الأولى من ملف مجلس الشيوخ مقالة مختصرة للبروفيسور أنطوان مسرّة، ومقالة مطوّلة للدكتور هشام الأعور (الذي أنجز دكتوراه دولة بموضوع «مجلس الشيوخ»).

والملف مفتوح لمساهمات أخرى لاحقة، ومن باب وطني جامع، وعلمي موضوعي، ديدنُ “الضّحى” في ملفاتها كافةً.


ليسَ مجلس الشيوخ غرفةً برلمانية ثانية: كيف ولماذا؟

د. أنطوان مسرّه

 

1. لا جدوى من أي اقتراح أو تعديل دستوري إذا كان الدستور أساسًا معلّقًا وغير مطبّق ومُخترق يوميًا. تُشكل بالتالي الطروحات والمداولات والسجالات حول المنظومة الدستورية اللبنانية طمسًا لمعضلة الدولة في لبنان التي تتلخص في مسألتين:
أ. وجوب تمتّع الدولة اللبنانية بالمواصفات الأربعة المسمّاة ملكية وهي:
– احتكار القوّة المنظمة،
– احتكار العلاقات الدبلوماسية،
– فرض وجباية الضرائب،
– إدارة السياسات العامة،
ب. الدستور اللبناني، في نصّه وروحيّته، مُعلّق وغير مُطبّق ومُخترق يوميًّا، بخاصة من خلال تأليف حكومات برلمانات مصغّرة، ممّا يخرق مبدأ الفصل بين السلطات. الحكومة موصوفة قصدًا في الدستور اللبناني «بالإجرائية». والحكومات في لبنان تُمثل «الطوائف»، كما هو وارد في المادة 95، وليس قوى سياسية ولا «أحجام»…! وليس للحكومات عالميًّا صفة تمثيلية بالمعنى الانتخابي.2. يتوجّب في مُجمل ما يتعلق بالطوائف الانطلاق من تشكيل الهيئة الوطنية لوضع خطة مرحليّة في تخطِّي «الطائفية» (المادة 95 من الدستور). أمّا معالجة الموضوع «بالقطعة» فهو اختزال واجتزاء للطابع الشمولي والمتعدّد الجوانب حول تطوير النظام الدستوري اللبناني.

3. توجب وثيقة الوفاق الوطني – الطائف، التمييز في بنودها بين اثنين:
– الثوابت الدستورية التي وردت في معظمها في مقدمة
الدستور اللبناني.
– الشؤون التنظيمية: قانون الانتخاب، اللامركزية، مجلس
الشيوخ… التي يتوجّب العمل بها استنادًا إلى ظروف المكان
والزمان والتحوّلات، كما «مقاصد الشريعة» وليس حرفية الشريعة.

4. مجلس الشيوخ هو التجسيد للقِمم الروحية المشتركة في لبنان والتي لها دور بارز في كل تاريخ لبنان، بخاصة خلال 1975-1990، في ترسيخ الوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي.

5. من أبرز مخاطر معالجة تخطّي الطائفية «بالقطعة» وخارج الهيئة الوطنية الواردة في المادة 95 من الدستور اللبناني مزيدٌ من تطييف النظام.
يتطلّب تكوين وتنظيم مجلس الشيوخ مقاربة من منطلق طبيعة النظام الدستوري اللبناني والأنظمة البرلمانية التعددية، وبالتالي بدون اغتراب ثقافي aliénation culturelle وبدون مقاربة استنادًا إلى مجالس الشيوخ في أميركا وفرنسا وبريطانيا وفي الدول ذات التنظيم الفدرالي الجغرافي.

6. إذا كان تعيين أعضاء مجلس الشيوخ من خلال انتخابات عامة، فهذا قمّة التطييف لأنه يحمل كل ناخب إلى انتخاب عضو من طائفته مما يؤدي إلى فرز مُصطنع في العائلة الواحدة استنادًا إلى الانتماء المذهبي! إنه تكريس لما سُمّي بـ «مشروع أورثوذكسي» وهو مشروع جهة محدّدة ولم يتبنَّه المجتمع اللبناني.
يتم تعيين أعضاء مجلس الشيوخ من قبل هيئة ناخبة مُصغّرة Collège électoral restreint من قبل الهيئات الرسمية للطوائف، واستنادًا إلى معايير يتوجب التقيّد بها بشكل دقيق وصارم، في الاختصاص والخبرة، لأن الموضوع يتطلب اختصاصًا وخبرة على نمط لجنة برنار ستازي Bernard Stasi حول العلمانية في فرنسا (2003) ولجنة بوشار-تايلور Bouchard-Taylor (2008) في كندا وليس على أساس قوى سياسية وأحزاب.

7. إنّ المادة 65 من الدستور التي تفرض أكثرية موصوفة majorité qualifiée في ما يتعلق بـ 14 قضية مُحددة حصرًا هي الضامنة أساسًا لحماية حقوق كل مكوّنات المجتمع اللبناني. تَحُوْل المادة 65 دون طغيان فئوي minority control ودون طغيان أقلية وطغيان أكثرية abus de majorité/ abus de minorité. تم التلاعب بهذه المادة في التطبيق وخرقها من خلال شعارات «الثلث» و «التعطيل و «طغيان فئوي…» تطبيقًا لنظرية إسرائيلية، بخاصة لـ Sammy Smooha تستند إلى حالات إسرائيل بالنسبة إلى عرب اسرائيل وسوريا وأفريقيا الجنوبية في عهد التمييز العنصري وإيرلندا قبل «اتفاقية الجمعة» Friday agreement.

8. ليس مجلس الشيوخ اللبناني غرفة ثانية Seconde Chambre، بل هيئة مساندة وليس لها صفة تشريعية.
إذا كان لها صفة تشريعية فهذا يؤدي إلى مزيد من تطييف كل القضايا بدون استثناء: سوف نطيّف الضرائب والتنظيم المدني، وأسعار السلع الاستهلاكية والإدارة…!.

9. لا يتوجب أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ متفرّغين ولا يتقاضون تعويضات ثابتة، وربما يتقاضون تعويضات رمزية ويجتمعون في سبيل التخطيط الدائم لمجتمع الدولة الضامنة للعيش المُشترك والسيادة الوطنية والثقافة اللبنانية الجامعة وحماية الثوابت اللبنانية والدفاع عن لبنان «عربي الهوية والانتماء» ورسالته العربية والدولية.

10. إنّ ضمان الحريات الدينية والإدارة الذاتية في ما يتعلق بالمادتين 9 و 10 من الدستور هو مُحقق بفضل المادة 19 من الدستور حيث يحقّ لرؤساء الطوائف الطعن بأيّ قانون متعلق حصرًا بهاتين المادتين. وهو محقّق أيضًا بفضل المادة 65 في اشتراط أكثرية الثلثين في 14 قضية أساسية. لا يجوز بالتالي لمجلس الشيوخ أن يتضارب في صلاحياته مع المادتين 19 و65 من الدستور.

11. من الأفضل أن تكون رئاسة مجلس الشيوخ وأغلبية أعضاء مكتب مجلس الشيوخ من الطوائف الصغرى. كل الطوائف في لبنان أقليّات ولكن لدى بعضها وهم أو إدراك أكثري أو ممارسة طغيان فئوي.


لماذا مجلسُ الشّيوخ اللّبناني؟

د. هشام الأعور

 

تتميّز بعض المجتمعات العربيّة، وخصوصاً المجتمع اللبناني منها، بكونها مجتمعات مركّبة عرفت تنوعاً كبيراً في الانتماء الديني – المذهبي الذي يعود تشكلّه إلى منتصف القرن الخامس الميلادي، حيث تتواجد في لبنان الأعراق والمعتقدات والشعائر والطوائف والمذاهب وأساليب التفكير والأعراف، وهذا ما دفع بميشال شيحا إلى وصف المجتمع اللبناني على أنه ائتلاف «العائلات الروحية» مع ما ينتج منه ضرورة تعزيز تنوّع التمثيل في المؤسسات الدستورية والمرافق العامة كوسيلة لتلافي العنف خارج المؤسسات، واستبداله بحوار بنّاء ومنفتح داخل المؤسسات بعيداً عن الشارع.

ولما كان لبنان، كما يعتبره البعض من أكثر البلدان الذي يضم في تركيبته الاجتماعية «أقليات طائفية متشاركة» وبالتالي لا تُحكَم إلا بالتوافق والتوازنات، فهذا الأمر استدعى وجود مؤسسة دستورية تتمثل فيها جميع مكوّنات المجتمع اللبناني، وتخلق للطوائف الدينية إطاراً من العيش المشترك، لذلك جاءت نشأة مجلس الشيوخ في لبنان في سياق تطور تاريخي لمبدأ مشاركة الطوائف في السلطة من خلال هيئات ذات طابع تمثيلي. فلبنان الذي احتفظ خلال مرحلة طويلة من تاريخه بطابع خاص في بنيته الاجتماعية وتعدد طوائفه الدينية، دون سائر بلدان الشرق الأدنى، قد أخذت الطائفية فيه وضعاً قانونياً تسرّب إلى أنظمة الحكم منذ قيام نظام القائمقاميتين في الجبل عام 1842 ونظام المتصرفية عام 1864، من بعده، مروراً بنظام الجمهورية اللبنانية عام 1926، وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989 حتى أصبحت الطائفية تشكل كينونة مجتمعية – سياسية للمذهب الديني، إضافة إلى كونها ظاهرة نفسية ودينية واجتماعية واقتصادية وسياسية شاملة لجميع مستويات البناء المجتمعي اللبناني.

وفي حين عُبّر عن هذا الانقسام الطائفي من خلال نظام القائمقاميّتين الذي شكل كيانين طائفيين تم الاعتراف بهما في نص رسمي في نظام شكيب أفندي. إلّا أن هذا الانقسام سرعان ما تكرّس في النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان (1861-1915). ففي 9 حزيران 1861، وعلى أثر الاضطرابات الطائفية التي اجتاحت جبل لبنان، وَضعت لجنة مؤلّفة من ممثلي خمس دول أوروبية بالإضافة إلى مندوب السلطنة العثمانية نظاماً جديداً لجبل لبنان عُرف «بالنظام الأساسي» أو «نظام المتصرفية». فجاء هذا النظام يكرّس نوعاً من «الكونفدرالية» الطائفية تمثّلت بتشكيل أعضاء المجلسين الإداري والقضائي اللّذين تألّف كل منهما من 12 عضواً توزّعوا طائفيًّا كما يلي: 4 موارنة، 3 دروز، 2 روم أرثوذكس، سني واحد، كاثوليكي واحد، شيعي واحد. وقد تولّى مجلس الإدارة الأول، مساعدة المتصرف في القيام بمهامه الإدارية، في حين نصّت المادة الثانية من النظام الأساسي على تولي المجلس توزيع الضرائب ومراقبة الواردات وإعطاء رأيه الاستشاري في كل القضايا التي يحيلها عليه المتصرف. وقد اعتُبر مجلس الإدارة ممثلاً للطوائف وكان الاقتراع في المجلس يتم على أساس الطوائف وهذا يعني أنه كان للطائفة صوت واحد في المجلس.

وبعد أن انتقل لبنان من حكم السلطنة العثمانية إلى الانتداب الفرنسي وإعلان دولة الكبير في العام 1920، أصدر المفوض الفرنسي الجنرال «غورو» قراراً يقضي بإلغاء مجلس الإدارة وإقامة لجنة لبنان الإداري، عُيّن أعضاؤها من قبل المفوّض السامي على أساس انتماءاتهم الطائفية، قبل أن يعود المفوض الفرنسي ليعلن في 23 أيار / مايو عام 1926 عن دستور للدولة اللبنانية ليتحوّل المجلس التمثيلي، الذي أنتخَب لجنة من النواب لإعداد الدستور، إلى مجلس تأسيسي ومن ثم نيابي، في حين عيّن المفوض السامي إلى جانب مجلس النواب، مجلس شيوخ وعدد أعضائه ستة عشر شيخاً، قبل أن تعود السلطات الفرنسية في العام 1927 وتلغي مجلس الشيوخ، وتوحّد الهيئتين اللتين يتألف منهما البرلمان في هيئة واحدة هي مجلس النواب بحجة أنّ مجلس الشيوخ لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة، فيصبح البرلمان اللبناني مكوّناً، منذ ذلك الوقت، من مجلس واحد هو مجلس النواب حسب ما نصت عليه المادة 16 من الدستور اللبناني.

وبينما تؤكد وثيقة الوفاق الوطني التي اُقرّت في الطائف في العام 1998 على حرفيّة هذه المادة الدستورية التي ما زالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، إلّا أنّه وبموجب الاتفاق المذكور فقد أقرّ القانون الدستوري رقم 18 بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر عام 1990 إعادة إنشاء مجلس الشيوخ بموجب المادة 22 من الدستور التي ربطت عملية استحداث مجلس الشيوخ بانتخاب أول مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، حيث يُشكّل مجلس الشيوخ كصيغة حل لتجاوز الطائفية السياسية المتعاقبة فصولاً منذ أن ارتسم في أفق الاجتماع اللبناني مشروع دولة متعددة الطوائف.
لقد جسّد اتفاق الطائف عام 1989 ميثاقاً جديداً للسلام بين اللبنانيين، وأعاد الوحدة السياسية إلى البلاد، والمؤسسات إلى نشاطها، وأبقى التوزيع التقليدي السابق لكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء بعد تحديد صلاحيات كل منها، وجعل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلسي النواب والوزراء.

لا مجال هنا لاستعراض كل ما أدخله اتفاق الطائف من تعديلات على الدستور، إلا أننا، ضبطاً للبحث الذي نحن بصدده، ومراعاة لحجمه وأغراضه، سنلتزم فيما نص عليه هذا الاتفاق على صعيد البرلمان وتأكيده على إنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه «العائلات الروحية» وتنحصر صلاحياته في «القضايا المصيرية»، بالشكل الذي يجعل من إنشاء المدخل الطبيعي لتحرير مجلس النواب من التركيبة الطائفية التي تقيّده، والدفع بالناخبين في اتجاه خيارات عملانية وطنية لا طائفية عند صندوق الاقتراع. ما يطرح السؤال حول جهوزية بلد كلبنان، والمؤلَّف من ثماني عشرة طائفة مختلفة معترف بها، وتتحكم فيه موازين قوى داخلية وخارجية، عن تجاوز الطائفية السياسية عبر مجلس شيوخ يمثل الطوائف مقابل تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي وبالتالي تحوّل الإنسان اللبناني من هويته الطائفية السياسية وتالياً الدفع به في اتجاه المواطنة الحقيقية.

في العام 1990، وعندما تقرّر إدخال «إصلاحات» الطائف في صلب الدستور اللبناني، تمّ تعديل 31 مادة من مواده، كما أضيفت إليه مقدَّمة تضمَّنت المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، وقد توافق النواب يومئذ، بالإجماع، على مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية» الذي جعل منه الدستور «هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» وإن كانت هذه الترتيبات المتعلقة بمسألة الطائفية لم تكن، في ذهن واضعي اتفاق الطائف – برأي البعض – ترتيبات انتقالية، بل إنها جاءت لتمهِّد وتُحضِّر لمرحلة لاحقة، لحظها الطائف، وصولاً إلى الهدف وهو تجاوز الطائفية بالتدرّج وعلى مراحل، بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولاً إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي، وعندئذ يُنشأ مجلس شيوخ تتمثَّل فيه جميع «العائلات الروحية» وتكون صلاحياته محصورة في «القضايا المصيرية».

ولكن كيف يتجلّى مجلس الشيوخ المقترح في دستور الطائف؟ وهل أن التعديلات الدستورية في الطائف قد أحدثت تغييرات جذرية على المجلس أو أنها أبقت على روحية دستور 1926 وخطوطه العريضة لجهة تركيبة مجلس الشيوخ وصلاحياته؟ ولماذا ميَّز المؤتمرون في الطائف بين استخدام تعبير «الطوائف» و «العائلات الروحية»، وما هو المقصود بـ «العائلات الروحية» التي تتمثل في مجلس الشيوخ؟ وهل أن «القضايا المصيرية» هي نفسها «المواضيع الأساسية» التي وردت في المادة 65 من الدستور وتتطلب موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء، وما معنى هذه وتلك؟.

بعض هذه الأسئلة لا نجد جوابا عليها في المواد الدستورية بشكل مباشر، لكنها وفق مبادئ التفسير وقواعده، فهي تفسر في ضوء ارتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي. هذه هي الفكرة الوحيدة الواضحة من الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. فاتفاق الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة من هي «العائلات الروحية» التي سيكون لها تمثيل في مجلس الشيوخ، وكذلك الأمر بالنسبة لصلاحيات المجلس، إذ إن عبارة «تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» كما وردت في المادة 22 من الدستور، لا تفيد شيئا في تعريف «القضايا المصيرية» التي سيعالجها مجلس الشيوخ.

وربما يكون ذلك قد أدّى إلى خلق جدل واسع بين فقهاء القانون الدستوري الذين تصدَّوْا لهذا التعديل بالتحليل والمناقشة والتمحيص، لاسيّما وأن المشرع الدستوري لم يعدّل المادة 16 والمتعلقة بالهيئة المشترعة والتي بقيت على نصها القديم: الهيئة المشترعة واحدة هي مجلس النواب. فهل المقصود أنّ نظام المجلسين في لبنان لا يعني ثنائية السلطة التشريعية، أم أن المقصود فعلاً أن يكون مجلس الشيوخ عبارة عن هيئة نقض ومراجعة ورقابة على مجلس النواب المنتخب على أساس غير طائفي؟

إن التباين الشديد للمواقف السياسية حول قبول ورفض نظام المجلسين يثير الكثير من التساؤلات حول العوامل التي تقف وراء هذا الاختلاف والتباين في المواقف ووجهات النظر من جهة، ومدى ملاءمة هذا النظام مع احتياجات المجتمع اللبناني، انطلاقاً من الرؤية الموضوعية التي تراعي المصلحة العامة للبنانيين وصولاً إلى تقدير جدوى إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان من عدمه.

ثمة أسباب متعددة تفرض على المجتمعات والشعوب المتعددة اللجوء إلى خيارات كانت معتمدة في الماضي القريب، والتي تحكم عمل المؤسسات الدستورية في العالم ومن بينها لبنان الذي شهدت بنية البرلمان فيه بموجب اتفاق الطائف عام 1989 تحوّلاً نحو استحداث غرفة ثانية، أخذت مسمّى مجلس الشيوخ إلى جانب مجلس النواب، فنصت المادة 22 من الدستور المعدلة بالقانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

وخلافاً لتجربة الثنائية البرلمانية السابقة في مرحلة
الانتداب الفرنسي، التي جعلت من مجلس الشيوخ توأمَ مجلس النواب بحيث يكوّنان السلطة الاشتراعية عندما يلتئمان معاً، أو أن ينعقد كل منهما منفرداً في العقود العادية والاستثنائية، ويكادان يتشابهان في معظم صلاحياتهما الاشتراعية- بل هي نفسها – على نحو يوحي بأنّ كلّاً منهما يكمّل الآخر، من خلال مواعيد الانعقاد، والنصاب القانوني للالتئام والتصويت فضلاً عن التصويت الشفوي والاقتراع السرّي والمناداة بالأسماء، والجلسات السرية والعلنية، وحصانة العضو وملاحقته، وآلية طرح الثقة بالحكومة، وملء الشغور، ومواعيد تجديد الهيئة المشترعة المزدوجة، وهو ما جعلهما يشكلان معاً البرلمان عندما يلتئمان، صورة منسوخة عن البرلمان الفرنسي إذ يجمع الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. بالمقابل اعتبر اتفاق الطائف مجلس الشيوخ المقترح مؤسسة دستورية مستقلة في ذاتها وصلاحياتها وتميز دورها عن مجلس النواب، رابطاً عملية إنشاء مجلس الشيوخ بشرط إلغاء الطائفية السياسية حيث اشترطت المادة 22 من الدستور أن يسبق مجلس الشيوخ انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي.

وفي حين تنص المادة المذكورة على أن يكون مجلس الشيوخ المُقتَرح هيئة لتمثيل الطوائف التي اتّخذت لأول مرة تسمية «العائلات الروحية»، يستخدم الدستور اصطلاح «الطائفة» و»الطوائف» في المادة 24 عند الحديث عن تأليف مجلس النواب. بالمقابل تتحدث المادة 95 عن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وتمثيل «الطوائف» بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الأولى. فيما تنص مقدمة الدستور فقد نصت في الفقرة (ح) على إلغاء «الطائفية السياسية» كهدف وطني، ما زالت المادة 16 من الدستور تنص بعد التعديلات الدستورية سنة 1990 على أن تتولّى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب، بعد أن عدلت هذه المادة سنة 1927 وكانت تنص: يتولى السلطة المشترعة هيئتان: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. أما الصلاحيات التي نص عليها الدستور لمجلس الشيوخ فهي تنحصر في «القضايا المصيرية». بينما استخدمت المادة 65 من الدستور الفقرة 5 مصطلح «مواضيع أساسية» للتصويت الموصوف في مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين.

وعلى الرغم من أن نظام المجلسين الذي ظهر بداية، في المملكة المتحدة، ثم في الولايات المتحدة، وفرنسا، وتناقلته الكثير من دول العالم لاحقاً، يشكل خلفية عامة من الصعب تجاهلها، إذ يستحضرها لنا القانون المقارن استحضاراً لا بدّ منه، على الأقل لعراقتها، إلاّ أنّه لا يمكن الاكتفاء بإسقاط المقترح اللبناني على هذه التجارب المقارنة دون البحث عن مضمون مجلس الشيوخ اللبناني الذي ينفرد عن غيره ببعض الخصائص والتي تتعلق بطبيعة المجتمع اللبناني ونظامه السياسي، لذلك يلفت أحد الخبراء الدستوريين إلى أن «من يُرِد أن يدرس مجلس الشيوخ المقترح في الدستور يجب أن يتجرّد تماماً من البرمجة الذهنية لمجالس الشيوخ في بلدان أخرى حيث عملها يأتي كغرفة ثانية لمجلس النواب، أما في لبنان، فيجب النظر إليه في إطار إدارة التعددية الدينية والثقافية وضمان حقوق الطوائف بما يتعلق بالمواد 9 و 10 و 95 من الدستور، المرسِّخة للقيم اللبنانية والسلم الأهلي».

لقد جاء اتفاق الطائف بإسناد البرلمان إلى نظام المجلسين، الأول للنواب والثاني للشيوخ، بشكل يتوافق مع ظروف لبنان الذي يتميز بالتنوع الديني والطائفي، حيث يتم الخضوع لممثلي الأغلبية في مجلس النواب المُنتخب من خارج القيد الطائفي من جهة، وتمكين الطوائف الدينية من أن يكون لها دور فاعل ومؤثر عبر مجلس الشيوخ في ما خص «القضايا المصيرية».
وإذا كان تجاوز الحالة الطائفية يُمثِّل الخلفية الأساس لاتفاق الطائف والذي استجاب كما يبدو إلى مطالب فريق واسع من اللبنانيين ممَّن كان يطالب بإنشاء غرفة ثانية في البرلمان، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمِرون في الطائف على ذلك، نصّت وثيقة الوفاق الوطني على أنّه، في المرحلة الانتقالية، لا تُخصص أيّة وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية. كما نصت على أن يُعتمد الاختصاص والكفاءة، بدلاً من قاعدة التمثيل الطائفي، في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تطبق قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.

وقد تجلَّى إجماع النواب على هذه المسألة عند إقرار تعديل المادة 95 من الدستور في العام 1990، والذي عكس حلًّا وسطيًّا، إذ لم يقرن إنشاء مجلس الشيوخ بوضع دستور جديد للبلاد، لكنه بالمقابل اشترط إلغاء الطائفية السياسية كخطوة ضرورية قبل ذلك. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت المادة (95) من الدستور آلية محدّدة تتضمن قيام مجلس النواب «المُنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين» بتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، حيث تتولّى هذه الهيئة إقرار خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء. أكثر من ذلك، فقد توافق النواب بالإجماع، كما ذكرنا سابقاً، على إضافة مبدأ «إلغاء الطائفية السياسية» في صلب مقدمة الدستور في حين أن هذا المبدأ لم يكن ملحوظاً ضمن المبادئ العامة الواردة في اتفاق الطائف.

ولكن، وإن كان اتفاق الطائف قد وضع يده على مكمن الداء، فحدَّد الهدف بوضوح، ورسم الآلية الواجب إتباعها للوصول إلى هذا الهدف، من دون أن يُغفل أن الطريق طويل، وأن ثمة مراحل لا بد من المرور بها، نرى أن الطائف لا يقدم أيّة تفاصيل أبعد من وصف أساسي لمجلسين أو غرفتين تقومان على أسس مختلفة، فهناك غموض كبير يحيط بالصيغ المحتملة لنظام الثنائية البرلمانية في لبنان لناحية تركيبة مجلس الشيوخ وأساس تكوينه، مدة الحكم، أساليب الانتخاب، وصلاحياته، وغيرها من الأمور الأخرى التي تبقى غير مستطلعة إلى حد كبير.

وإذا كان من مقتضيات تفسير القواعد الدستورية العودة إلى الأعمال التمهيدية، كالأسباب الموجبة وتقارير اللجان ومناقشات النواب، فلا بد من التوقف عند الأسباب الموجبة والمناقشات البرلمانية والأعمال التحضيرية والاجتهاد، والاجتهاد المقارن وروحية النص والتمعّن أيضاً في مختلف الظروف المحيطة التي رافقت ولادة نص المادة (22) من الدستور وتلمُّس قدر الإمكان حكمة التشريع في الأسباب الموجبة لإنشاء مجلس الشيوخ اللبناني.

فبالعودة إلى التجربة السابقة، فقد سبق للبنان، كما أسلفنا، أن اعتمد نظام المجلسين (الشيوخ والنواب) في دستور 1926 خلال فترة الانتداب، حيث استوحى الدستور اللبناني قواعد الجمهورية الفرنسية وجعل السلطة التشريعية مؤلفة من هيئتين: الشيوخ والنواب، قبل أن تعود سلطات الانتداب وتلغي مجلس الشيوخ في العام 1927 لأنّه لم يكن يؤدي وظيفة مؤسساتية خاصة. لذلك لا يُعتَد إذاً بالعودة إلى التجربة السابقة.

أمّا بالنسبة إلى الأسباب الموجبة فهي مُختصرة وتتعلّق بكل التعديلات الدستورية التي أقرها اتفاق الوفاق الوطني في الطائف، وهي لا تصرّح بشيء خاص عن مجلس الشيوخ، في حين أن المناقشات البرلمانية لا تلحظ هذا الأمر، لأن التعديلات الدستورية أُقرّت دفعة واحدة وفي جلسة نيابية واحدة، تطبيقاً لاتفاق الوفاق الوطني في الطائف.

وأما وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرت في الطائف واعتُبِرَت مرجعاً لهذه التعديلات فهي أيضا ذكرت حرفيا في الفقرة 7 من بند 2 (الإصلاحات السياسية) نص المادة (22) كما وردت من الدستور المعدّل عام 1990. كما أنّ مطالب القوى السياسية والمُناخات سواء تلك التي سبقت أو رافقت إقرار اتفاق الطائف وفلسفة الإصلاحات والمؤسسات التي تم الاتفاق على استحداثها أو تعديلها، لا تقدم جميعها أيضا شرحاً وافياً لنص المادة (22) من الدستور.

وعليه، فإنَّ النص على استحداث مجلس للشيوخ، بموجب دستور الطائف، يتخلّله ضمناً إبهام على مستوى المادة (22) من الدستور وعدم وضوحها لجهة كيفية تشكيل هذا المجلس وتحديد «القضايا» التي تنطبق عليها صفة «المصيرية»، لذلك يصبح من الضروري أن نتناول في بحثنا لموضوع الهيئة الوطنية، والإشارة إلى كيفية مساهمة مجلس الشيوخ المقترح في بناء نظام ديمقراطي يضمن حقوق «العائلات الروحية»، ومن خلال تحديد صلاحياته ووظائفه، والتي يقع من ضمنها موضوع «القضايا المصيرية».

الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية 

 

لقد حاول الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف أن ينأى قدر الإمكان عن الطائفية وآثارها السلبية، واعداً بإقصائها عن دورة الحياة السياسية في المستقبل، ومفضّلاً عليها عبارة «العائلات الروحية». فقد ورد في الفقرة السابعة من قسم الاصلاحات السياسية في اتفاق الطائف سنة 1989 المادة 22 منه: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

في مقابل هذه المادة، كان دستور الطائف، كلّما ذكر الطائفية، ربطها بمدلول سلبي في غالب الأحيان، ومن قبيل ذلك قوله، في البند (ح) من المقدَّمة «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني»، وفي المادة 22 كما سبق البيان: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي»، وفي المادة 24: «وإلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي»، وفي المادة 95 : «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق الطائفية السياسية».

وانطلاقاً من هذه المواد الدستورية نرى، أن الدستور اللبناني حدد أربعة مراحل تتعلّق بإلغاء الطائفية السياسية، حيث تبدأ المرحلة الأولى بإنجاز مهمة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، لتأتي من بعدها المرحلة الثانية والتي تتضمن إنجاز مهمة الهيئة الوطنية التي تندرج تحت مهام ثلاثة وهي:
ـ درس واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية.
ـ تقديمها إلى مجلس النواب.

ومتابعة الخطة المرحلية مروراً بالمرحلة الثالثة، وهي المرحلة الانتقالية وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وصولاً إلى المرحلة الرابعة التي تقوم على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها أو ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.

وبعد إتمام جميع المراحل التمهيدية والانتقالية المذكورة أعلاه، يُصار إلى:
أ) إقرار قانون انتخابات نيابية على أساس وطني لاطائفي.
ب) انتخاب مجلس نوّاب على أساس وطني لاطائفي.
ج) استحداث مجلس للشيوخ، مع أول مجلس نواب وطني لاطائفي.

لذلك يمكن القول، ووفقاً للتعديل الدستوري الذي جرى عام 1990، إنّ المشرّع لم يكتفِ بما أورده في الفقرة (ز) من مقدَّمة الدستور، من «إنّ إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، بل ذهب أبعد من ذلك، حين وضع آلية لتحقيق هذا الهدف، نصَّت عليها المادة 95 حيث أوكلت إلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية، وفق خطة مرحلية، إلّا أنّ هذه المادة رأت أنه من الأفضل خلال الفترة الانتقالية للجمهورية تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاية في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة المختلَطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادلها حيث تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.

كما يتضح من قراءة المادة 95 من الدستور، أن المشرّع الدستوري حدّد الآلية الواجب اعتمادها من قبل مجلس النواب، لإلغاء الطائفية السياسية، وهي تتضمن شقّين: الأول خطة مرحلية، والثاني تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

ولا عجب، أن يكون تعديل المادة 95 من الدستور قد حاز، في حينه، على إجماع النواب، من دون نقاش، لأن اتفاق الطائف الذي أرسى قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن العدد، إنما وضع ذلك في إطار رؤية للمستقبل تهدف إلى تجاوز الحالة الطائفية عن طريق إلغاء الطائفية السياسية على مراحل. والجدير بالذكر أن النواب، لدى إقرار مقدمة الدستور، من أجل تضمينها المبادئ العامة الواردة في وثيقة الوفاق الوطني، ارتأوا تعديل الفقرة (ح) من الوثيقة التي كانت تنص على مبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية باستبداله بمبدأ آخر هو إلغاء الطائفية السياسية. حيث أصبحت الفقرة المذكورة في الدستور تنص على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، وتدليلاً على الأهمية التي أولاها المؤتمرون في الطائف على تجاوز الطائفية، نصت الوثيقة على أنه، في المرحلة الانتقالية، لا تُخصص أيّة وظيفة لأية طائفة، ويُلغى ذكر الطائفية والمذهب في بطاقة الهوية.

وإذا كان موضوع تشكيل الهيئة الوطنية يندرج في سياق التوجه العام الذي توافق عليه النواب، في حينه، بالإجماع، وأصبح موجباً دستورياً ملزماً منذ العام 1992، أي منذ انتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ولكن كيف تُنشأ الهيئة الوطنية، وهل يمكن لها أن تمارس عملها وتقترح على المراجع المختصة خطة متكاملة تنفذ على مراحل؟ وهل ستعمل على إلغاء الطائفية السياسية فحسب، أم أن عملها سيشمل على إلغاء الطائفية برمتها؟ وأساساً هل من المستطاع إلغاء الطائفية السياسية من دون إلغاء الطائفية؟

ففي حين لا يلحظ النص الدستوري آلية محدّدة لتشكيل الهيئة الوطنية، إلا أنه يمكن الأخذ بواحد من أمرين أو الاثنين معاً: فرئاسة الهيئة منوطة برئيس الجمهورية وبالتالي يمكن أن الاجتهاد للقول؛ الرئيس هو الذي يشكلها. كما أن النص قد حدد توقيت تشكيلها بانتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين ممّا يؤدي إلى الاجتهاد بالقول إن صلاحية التشكيل تعود إلى مجلس النواب المُنتخب على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وبذلك يكون مجلس النواب ملزماً بممارسة تلك الصلاحية تطبيقاً لما ورد في مستهل المادة 95 التي تحدثت عن إنشاء الهيئة وليس عن مجرد طرح يرمي إلى إنشائها لأن إجراءات الإلغاء باتت مرتبطة فيها.
أمّا عن مهمة الهيئة، فإنها تقتصر على درس وتمحيص الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية، بعمق ودراية وحكمة ومسؤولية، والتوافق عليها حسب النظام الداخلي الذي يرعى أعمالها. وبعد ذلك ترفع الهيئة المقترحات الملائمة إلى كل من مجلس النواب ومجلس الوزراء لإقرارها دستوريًّا، كما تتولى أيضا متابعة تنفيذ الخطة المرحلية التي ينبغي على مجلس النواب وضعها.

وينتج عمّا تقدّم، أن الهيئة الوطنية لا تملك دستورياً أو قانونياً، صلاحية اتّخاذ قرارات نافذة وملزمة تتعلق بإلغاء الطائفية السياسية أي إلغاء طائفية المراكز السياسية، بل إن مهمتها تنحصر في تقديم التوصيات والاقتراحات الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية فقط. في حين يبقى المرجع الصالح لإلغاء الطائفية السياسية هما: مجلسا النواب والوزراء، وأن القرار النهائي بهذا الشأن يعود حصراً إلى مجلس النواب لإقرار إلغاء الطائفية السياسية، عبر قانون دستوري، توافق عليه غالبية الثلثين.

وعليه، فإن تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لا يمكن أن يعني أن الطائفية قد أُلغيت بل إن مسيرة التفكير والبحث عن أنجع الوسائل لإلغائها قد بدأت. إلّا أن صياغة هذا الأمر على ما يبدو في المادة 95 من الدستور لم تكن واضحة عند الكثيرين. ففيما تذكر المادة المذكورة أن على مجلس النواب اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق «إلغاء الطائفية السياسية» وفق خطة مرحلية وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، سرعان ما تتحدث في السياق عينه، عن مهمة الهيئة المذكورة في دراسة واقتراح الطرق الكفيلة «بإلغاء الطائفية» وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة، حتى أصبح الأمر بذلك هدفا وطنيًّا، الأمر الذي دفع عدداً من الدستوريين للحديث عن وجود تناقض مقصود أو غير مقصود في المادة 95، أو أقلّه غموض كان من المفترض إيضاحه حول مسألة إلغاء «الطائفية السياسية» أو «الطائفية»، لأن الدستور لا يقدّم إجابات شافية حول هذه المسألة، فبالعودة إلى النصوص الدستورية نرى أن هناك إشارات واضحة إلى الأمرين معاً، أي إلى ضرورة إلغاء «الطائفية السياسية» وإلى إلغاء «الطائفية». ولكن، بين هذا وذاك فرق كبير. فإلغاء الطائفية السياسية يعني كما أشرنا سابقا، إلغاء طائفية المناصب والوظائف والحصص، وإلغاء المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي، وإلغاء المناصفة في موظفي الفئة الأولى، وبالتالي إلغاء الديمقراطية التوافقية ليعمل محلها الديمقراطية العددية مقابل ضمان حقوق الطوائف الدينية عبر مجلس الشيوخ.

وفي هذا المجال نشير إلى أن المادة 95 من دستور الطائف، والتي تقترح تشكيل هيئة وطنية مهمتها اقتراح الوسائل الكفيلة بإلغاء الطائفية، وليس إلغاء الطائفية السياسية فقط. والفرق بين الأمرين كبير، فإلغاء الطائفية يعني إرساء ركائز دولة المواطنة المدنية. أما إلغاء الطائفية السياسية فقط يعني إلغاء المساواة عبر تكريس القوة العددية. والمادة 95 نفسها شددت على اعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة، بناء على المواطنة، وليس بناء على المحسوبية والزبائنية.
وبرأينا، فإن نص المادة 95 قد أشار بوضوح إلى إلغاء الطائفية أوّلاً، ومن ثم الطائفية السياسية، وهذا يتطلب في الدرجة الأولى اتخاذ خطوات عملية قائمة على بناء المجتمع المدني أو العلماني، فلا بديل من الشراكة إلّا الوحدة، وما دام لبنان متعدد الطوائف والمذاهب فلا يمكن أن يجد وحدته إلّا عبر العلمنة، وهذا هدف حضاري ولكن متعذر التحقيق إلى حد الاستحالة، لأن الأنظمة التي تفصل بين الدين والدولة مطبّقة داخل البيئات ذات الدين الواحد كما هو الحال في المجتمعات الغربية. كما أن البلدان التعددية مثل لبنان لا يمكن، أن تعبر إلى العلمانية إلّا عبر تنشئة وطنية موحدة، وإقرار قانون واحد للأحوال الشخصية تغلب فيه الحرية الفردية وحقوق الانسان التي أقرها الإعلان العالمي في الأمم المتحدة، وعليه فإنّ لبنان لا يمكنه أن يبدأ بإلغاء الطائفية السياسية في السلطة والوظائف في شكل فجائي، لأن ذلك يعرِّض عقد الشراكة الوطنية إلى الانفراط والانهيار، ويفجّر حربا أهلية من جديد.

العائلات الرّوحية 

 

تقوم فلسفة اتفاق الطائف على فكرتين أساسيتين: فكرة ضمانة الجماعات، وفكرة ضمانة الفرد وحقوقه كمواطن، وفي حين يكون ضمان الجماعات موجوداً في مجلس الشيوخ، فإن ضمانة الفرد وحقوقه هي في إلغاء الطائفية السياسية.

وفي حين يستخدم الدستور اللبناني مُصطلح «الطوائف» و «حقوق الطوائف» كما جاء في المادة 95 من دستور 1926 والمادة (10) من حقوق اللبنانيين وواجباتهم، وكذلك الأمر بالنسبة للمادة 9 من الدستور التي استخدمت تعبير «الأديان والمذاهب» في معرض الحديث عن حرية الاعتقاد وحماية الدولة لها، نرى أن اتفاق الطائف قد استخدم أيضاً مصطلح «الطائفة» و «الطوائف» في المادة (24) عند الحديث عن تأليف مجلس النواب، في حين تتحدث المادة (95) عن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وتمثيل «الطوائف» بصورة عادلة بتشكيل الوزارة ووظائف الفئة الأولى والوظائف العامة، قبل أن يعود الاتفاق المذكور ليتحدث عن مجلس الشيوخ كهيئة لتمثيل الطوائف التي اتّخذت لأوّل مرّة تسمية «العائلات الروحية».

جواد بولس

وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن النظام السياسي اللبناني بأخذه نظام الغرفتين في دستور الطائف إنّما أراد أن يشرك «العائلات الروحية» نظراً لما تتمتع به هذه العائلات من دور هام والإقرار بدورها الوطني، خاصة وأن هذه «العائلات الروحية» تكاد لا تكون أدياناً على قدر ما هي مؤسسات اجتماعية وسياسية وعائلات روحية كبرى اجتماعية بالمعنى الصحيح. فالطابع السياسي أو بالأحرى الرابطة الاجتماعية والعصبية هي الغالبة، ويكاد يكون لبنان على حد قول جواد بولس «اتحاداً فيدرالياً للعائلات الروحية». فكل هذه الوجوه وسواها ممّا تشكله العائلات الروحية من تراث متكاثف منحدر من أقصى سلالم العصور على حد تعبير كمال جنبلاط يضفي على الواقع اللبناني صبغته المميزة الخاصة التي قد لا يماثله بها أي بلد آخر في العالم.
بالمقابل ينظر البعض الآخر إلى مجلس الشيوخ باعتباره المكان المناسب لتمثيل الطوائف الدينية، ليس كمؤسسات سياسية، بل كمؤسسات دينية وثقافية فأسبغوا عليها صفة «العائلات الروحية» التي ترد لأول مرة في نص دستوري، وبذلك يصبح مجلس الشيوخ المكان المناسب «للعائلات الروحية» للبحث في هواجسها ومخاوفها إزاء الكيان ونظام الحكم وسواها وليس مجلس النواب المنتخب عبر قانون غير طائفي، وفي حين يرى الرئيس ميشال سليمان أنه على مستوى مجلس الشيوخ هناك تركيبة يجب أن يُتَّفق عليها لجهة تشكيل هذا المجلس، لأن الدستور يقول بتمثيل «العائلات الروحية» ولا يقول أن كل طائفة تنتخب شيوخها في المجلس، كما أن الدستور يقول بأن الطائفية تنتهي في المجلس النيابي وفي مجلس الشيوخ تمثل «العائلات الروحية»، لكنه لم يقل إنّ المسيحي ينتخب المسيحي والمسلم ينتخب المسلم. ويؤكد الخبير الدستوري حسن الرفاعي أنّ الدستور نص على أنه لأول مرة يطبق قانون انتخاب على مجلس وطني لا طائفي ينشأ مجلس شيوخ على أساس طائفي، فالمادة 24 تنص على أنه بانتظار أن يكون الانتخاب على أساس وطني غير طائفي، تطبق المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وعندها ينشأ مجلس للشيوخ يكون انتخابه على أساس المناصفة، لا شيوخها على أساس أن تنتخب كل طائفة شيوخها لأن العيوب عينها التي تذكر في انتخاب مجلس النواب في «القانون الأرثوذكسي» تُطبّق إذا طبقنا أن كل طائفة تنتخب شيوخها.

ويقول إن المقصود هو المناصفة، فعندما يتم الانتخاب في المجلس النيابي على أساس وطني لا يعود هناك مناصفة، تبقى المناصفة في مجلس الشيوخ أي نصف للمسيحيين ونصف للمسلمين ولكن لا يجوز ولا يحق وغير صحيح أن يُفهم أن مجلس الشيوخ يمكن أن يُنتخب على أساس قواعد «القانون الأرثوذكسي».
ويشدد على أن هذا القانون المذكور الذي يقوم على انتخاب كل مذهب ممثليه للندوة البرلمانية لا يصلح لا لانتخابات مجلس النواب ولا لانتخابات مجلس الشيوخ إطلاقاً، فمن يقول بتطبيقه في مجلس الشيوخ، أي أن تنتخب كل طائفة شيوخها، المقصود منه الإحالة على المادة 24 أي تطبيق المناصفة والعدالة بين الطوائف.

حسن الرفاعي

بالمقابل هناك من يعتبر أن مجلس الشيوخ هو عبارة عن «مجلس فدرالي» أي إنّه يكرِّس فدرالية «العائلات الروحية» في لبنان، فإن إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع «العائلات الروحية» يعني أن هذا المجلس هو طائفي ومذهبي بامتياز حيث تنتخب كل طائفة ممثليها أو شيوخها إلى مقاعده لكي يتولَّوْا النقاش عنها وباسمها في القضايا المهمة والمصيرية بما ينسجم مع تنوع المجتمع اللبناني وتعدديّته، وهذا ما أكد عليه اقتراح القانون المقدّم من النائبين أنور الخليل وإبراهيم عازار لانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي واستحداث مجلس للشيوخ يتألف من ستة وأربعين عضواً وتوزيعها تبعاً للمحافظات والمذاهب ويتم الترشيح على أساسها وتكون مدة ولايتهم ست سنوات؛ يُنتخبون على أساس النظام النسبي على أن تتوزع مقاعده مناصفة بين المسيحيين والمسلمين حيث يعود لكل ناخب أن يقترع للائحة واحدة تضم المرشحين من مذهبه من بين اللوائح المتنافسة من المذهب ذاته والذي رأى فيه البعض تعميقاً لطابع فدرالية الطوائف في المُنتظم السياسي اللبناني، لأنه يقيم إلى جانب مجلس النواب الممثل للأمة جمعاء مجلس شيوخ ممثلاً للطوائف على غرار مجلس الشيوخ الذي يمثل في الدولة الفدرالية الولايات أو الكانتونات أو الدول المتحدة. ونتذكر في هذه المناسبة كلاماً للمعلم كمال جنبلاط الذي يصف لبنان بقوله: «إنه اتحاد فدرالي واقعي للقرى والأقاليم والتقاطيع الجغرافية ما بين جبل لبنان الصغير والمدن الساحلية وقد وُجد فعلاً ليكون بلد اللامركزية والكانتونات فلم ينجح في لبنان سوى حكم اللامركزية».

إذاً نحن أمام مصطلح جديد مأخوذ عن الفكر السياسي اللبناني الذي يستخدم «العائلات الروحية»، للدلالة على التنوع الديني والمذهبي الذي يتّسم به لبنان وعلى دور أبنائها في المعادلة الوطنية، بغض النظر عن حجمها العددي، ولكنه لا يقرّ «بالعائلات الروحية» كمؤسسات سياسية، وبذلك يكون المشترع قد قصد من هذا المصطلح «العائلات الروحية» استبعاد الصفة السياسية عنها في معرض معالجته لمسألة إلغاء الطائفية السياسية، ولم يكن الأمر مجرد اصطلاح عابر وغير مطابق لنيّة المشترع، وذلك حفاظاً على التعددية الطائفية والمذهبية التي يتسم بها لبنان، الأمر الذي يحتاج برأينا إلى صيغة دستورية تؤمن لكل الطوائف الدينية حصصاً متساوية لطمأنة الأقليات، أي أن يكون لكل من «العائلات الروحية» مقعدان أو أكثر بمعزل عن عددها أسوة بمجلس الشيوخ الأميركي حيث تتمثل كل ولاية بعضوين بمعزل عن حجمها.
ولو افترضنا أن الوظيفة الوحيدة لمجلس الشيوخ هي أن يوفر الضمانات للطوائف التي تتوجس جميعها من إلغاء الطائفية السياسية، وذلك استناداً إلى الدستور اللبناني الذي جعل في مقدمته من إلغاء الطائفية السياسية «هدفاً وطنيًّا»، وحرصه على تحرير التمثيل النيابي والعمل الوظيفي من القيد الطائفي إذ لا بد للطوائف الدينية من ضمانات حتى لا يؤدي ذلك إلى طغيان طائفي أو هيمنة أو أي شكل من أشكال الانحراف الذي ينتج عنه الغبن والشكوى، مع تأكيده أيضاً على ميثاق العيش المشترك بين المجموعات التي تؤلف النسيج الوطني اللبناني، إلّا أن فكرة تمثيل «العائلات الروحية» في مجلس الشيوخ تحت ستار إلغاء الطائفية السياسية يجب أن لا تشكل مناسبة لضرب روحية الميثاق الوطني، وأن تقود إلى فرز اللبنانيين من خلال إقدام المقترعين من الطوائف المتعددة على انتخاب ممثلين لهم من أبناء طوائفهم ومذاهبهم، بل إن الأمر يحتاج إلى مقاربة لبنانية في إطار الدولة الضامنة للوحدة والتعددية، ولطبيعة المجتمع اللبناني الذي هو في حال من الاندماج في العلاقات اليومية والحياتية.

القضايا المصيريّة 

حين نتحدث عن صلاحيات مجلس الشيوخ اللبناني من ضمن الواقع الدستوري الراهن فعلينا أن نجتهد كثيراً لتحديد ما هي القضايا التي تُعتَبر مصيرية، فدستور الطائف لم يحدد بصورة واضحة وصريحة ما هي صلاحيات مجلس الشيوخ المُقترح، كما أن عبارة «تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» كما وردت في المادة 22 من الدستور، بقيت ضبابية و لا تفيد شيئاً في تعريف «القضايا المصيرية» التي سيعالجها مجلس الشيوخ.

وإذا كان البعض ينظر إلى مجلس الشيوخ باعتباره أحد وسائل ادارة التنوع اللبناني من خلال الصِّيَغ الدستورية والمؤسساتية، كما يُعتبر بمثابة مؤسسة ضامنة يطمئن الطوائف ويعالج هواجسها، فيصبح من الضروري أن تشمل صلاحياته كل القوانين والمواضيع والقضايا التي تلامس الخطوط الطائفية بين اللبنانيين والمتعلقة بشؤون الطوائف ومصالحها وحقوقها وأوضاعها، على اعتبار أن هناك تاريخاً طويلاً من الرؤى المختلفة والنقاشات المتعددة في مسائل مصيرية بين اللبنانيين وهو ما يمكن أن نسميه «التوجه التعاقدي في التعددية اللبنانية»، وذلك من أجل الحد قدر الإمكان من الخلافات بين الطوائف الدينية من خلال مجلس للشيوخ والذي يوفر لهذه لطوائف الحق في حماية الأساسيات الوطنية لديها في وجودها والحفاظ على دورها داخل المجتمع اللبناني.

لذلك تَعتبر بعض الاجتهادات الدستورية أن المواد الواردة في المادة 65 من الدستور هي نفسها «القضايا المصيرية» التي يجب أن يتناولها مجلس الشيوخ ضمن صلاحياته، وهو ما يؤيده الوزير زياد بارود من خلال دعوته إلى الاستئناس أو القياس على مضمون المادة الآنفة الذكر التي تحدد «المواضيع الأساسية» والتي يتطلب إقرارها موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الوزراء باعتبارها عناوين أساسية ولها تأثير على الكيان اللبناني وهي: تعديل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، وقرار الحرب والسلم، والتعبئة العامة، والاتفاقات والمعاهدات الدولية، والموازنة العامة للدولة، والخطط الإنمائية الشاملة طويلة المدى، وتعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وإعادة النظر في التقسيم الإداري، وحلّ مجلس النواب، وقانون الانتخابات، وقانون الجنسية، وقوانين الأحوال الشخصية، وإقالة الوزراء. وبهذه الطريقة يمكن طمأنة اللبنانيين إلى ألّا غلَبَة لفريق على آخر وإنّ أيّة أكثرية لن تستطيع أخذ البلاد إلى ما يخالف مبادئ العيش المشترك والمساواة والمواطنية الكاملة.

بالمقابل هناك من يُدرج تفسير «القضايا المصيرية» في إعطاء مجلس الشيوخ حق التصويت على القوانين المتعلّقة بتنظيم علاقة الطوائف بالدولة على مثال القرار 60 ل. ر. عام 1936، أو قوانين التنظيم المباشر للطوائف الإسلامية والتنظيم غير المباشر للطوائف المسيحية واليهودية، بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بالأوقاف ودور العبادة والأديرة والتربية والتعليم فيها. كما يعطى المجلس أيضاً حقّ النظر في جميع الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج ومفاعيله، والبنوّة والسلطة الوالدية، والتبنّي، والوصاية وما يرتبط بها من مسائل. إضافة إلى النظر في الأمور الأخرى التي لها الطابع المصيري والتي يتم تحديدها مُسبَقا، والتي تتضمن القوانين الدستورية وتلك المكمّلة للدستور والقوانين التي تنظم السلطات العامة، والقوانين المتعلّقة بالانتخابات واللامركزية.

ويبدو أن هذا التفسير يتناسب إلى حد كبير مع الأفكار التي طُرحت على الجلسات المتكررة لـ «طاولة الحوار»، برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، فبينما يقول اتفاق الطائف والدستور حول مجلس الشيوخ بأنّ «صلاحياته تنحصر في القضايا المصيرية»، يُنسب إلى أقطاب الحوار تعريف مختلف تماماً لصلاحياته بأنها مرتبطة حصراً بالطوائف اللبنانية في نطاق شؤونها، وبذلك يمسي صورة مطابقة للصلاحية المنوطة برؤساء الطوائف اللبنانية في المادة 19 من الدستور حيال علاقتها بالمجلس الدستوري.

ولكن بالعودة إلى المادة 65 من الدستور نرى أن المشرّع استخدم مصطلح «المواضيع الأساسية» وليس مصطلح «القضايا المصيرية». وبينما يستخدم المشرّع «المواضيع الأساسية» ويحددها في 14 موضوعاً لتحديد النصاب القانوني لتصويت مجلس الوزراء، فإنّه يلحظ مواضيع أخرى لا يمكن اعتبارها مصيرية كي تُدرج في صلاحيات مجلس الشيوخ.

ولو أردنا أن نجتهد في تحديد طبيعة مجلس الشيوخ اللبناني وتحديد ما هي القضايا التي تعتبر مصيرية، لاعتبرنا أن التطبيع مع «اسرائيل» يعتبر من الأمور المصيرية، وكذلك تعديل الدستور وإعلان حالة الطوارئ والحرب والسلم والاتفاقات والمعاهدات الدولية واللامركزية وإعادة النظر في التقسيم الاداري وقانون الانتخاب وقانون الجنسية وقوانين الأحوال الشخصية، في حين أن «المواضيع الأساسية» الأخرى لا يمكن اعتبارها مصيرية، وبالتالي لا تنطبق على صلاحيات مجلس الشيوخ، ويمكن أن يثور نقاش وجدل حول أهميتها ومصيريَّتها مثل: تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، وحل مجلس النواب، وقانون الانتخاب، وإقالة الوزراء، وموازنة الدولة وما شابه.

ثم إذا نحن أشركنا مجلس الشيوخ في صلاحيات البت بهذه المواضيع الأساسية كلها، نقحمه حكماً بالسلطة التنفيذية ويتحول حكماً إلى مجلس رئاسي، أو مجلس مراقبة تطبيق الدستور، لأن تعيين الموظفين وإقالة الوزراء من أعمال الحكم التي تخضع جزئياً وبشكل ضيّق لرقابة مجلس شورى الدولة كقرارات إدارية، كما أن حصر صلاحيات مجلس الشيوخ في القضايا المصيرية يجعل مصير البلاد هنا، إلى حد كبير، بالتوافق بين الطوائف، مما يجعل فدرالية الطوائف أكثر بروزاً، وقد يشكل أداة تشل الدولة في مواجهة القضايا المصيرية، خاصة إذا كان لممثلي الطوائف في مجلس الشيوخ حق النقض؛ الفيتو.

في مطلق الأحوال، نحن أمام التباس حقيقي حول وظيفة مجلس الشيوخ وعن ماهية «القضايا المصيرية» لا نجد جواباً عليه في نص دستوري تفصيلي ومحدد لدور مجلس الشيوخ اللبناني ومهماته، وصلاحياته، لكن يمكن القول ومن خلال ما ينشر عن دور الغرفة الثانية في الأنظمة الغربية التي يُفهم على أنها «صمّام أمان» تحمي الأنظمة والدول والشعوب من السقوط في متاهات أخطاء وأخطار تهدد سلامة المجتمع وهيبة الدولة، فباستثناء كل من المملكة المتحدة والدول الفدرالية، فإن الغرفة الثانية في البرلمان تنشأ في المراحل الانتقالية لمختلف الأزمات السياسية والاجتماعية التي تتميّز بالانقسامات العميقة في المجتمع، إذ يُعَد تأسيس هذه الغرفة بمثابة الوسيلة المفضّلة للبحث عن الاستقرار وتحقيق التوازن المؤسساتي والسياسي في الدولة، وذلك بحكم أنها تلعب دور المعدّل للتيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الظرفية التي تسعى إلى قلب موازين المجتمع رأسا على عقب. أما في لبنان، فإن أهمية مجلس الشيوخ غير نابعة من تقليده لدساتير أخرى تأخذ بفكرة نظام المجلسين وإنما له خصوصية استثنائية يمكن مقاربتها في ضوء ارتباط إنشاء مجلس الشيوخ بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي لا طائفي، وبالتالي التأسيس لدولةٍ مدنية مؤلفة من الطوائف، مما يؤمّن التوازن الطائفي في الحياة السياسية، والحفاظ على تميّز لبنان بتعايش طوائفه، وقيمتة الإنسانية، واستقرار عمل المؤسسات، ويقدّم نموذجًا لشعوب العالم عن إمكانية التعايش الحضاري.
وإذا كان من البديهي القول إنه يجب ألّا يترتب جراء استحداث مجلس للشيوخ حصول أي تضارب في الصلاحيات مع المجلس النيابي القائم، فإن هذا الأمر يتطلّب تحديد إطار عمل مجلس الشيوخ وصلاحياته بشكل واضح كي لا يعرقل العمل التشريعي على غرار ما هو حاصل في بعض البلدان التي تتبع نظام الثنائية البرلمانية. ومن أجل الحد قدر الإمكان من التضارب المحتمل بين صلاحيات المجلسين نصت المادة 22 من الدستور على حصر صلاحيات مجلس الشيوخ «بالقضايا المصيرية»، الأمر الذي يجعلنا نستبعد فكرة انضمام المجلس العتيد إلى المشاركة في السلطة التشريعية، خاصة وأن المادة 16 الدستورية مازالت تعتبر مجلس النواب الهيئة الوحيدة للتشريع، في حين أن المادة 22 من الدستور لم تلحظ الصفة التشريعية لمجلس الشيوخ، بل حصرت صلاحيات مجلس الشيوخ «بالقضايا المصيرية» وهي لا تتعلق بالتشريع العادي لتسيير عمل الدولة وحقوق المواطنين وواجباتهم.

وعليه، يصبح مجلس الشيوخ اللبناني، كما ورد في تفاق الطائف كأحد البنود الإصلاحية السياسية لإخراج النظام السياسي من حالة الطائفية السياسية، وأهميته بأنه لا يهدف إلى تحسين تمثيل طائفة أو أكثر في السلطة على حساب الطوائف الأخرى، بل يسمح بتمثيل الطوائف وتبديد هواجسها ومخاوفها، إذ إنّ صلاحياته تتناول «قضايا مصيرية» تؤمن مشاركة كل «العائلات الروحية» في صوغ القرارات الوطنية. وبالتالي لا تصبح الطوائف الدينية خائفة ومتوجِّسة من بعضها البعض، وبالتوازي تحرير الحياة السياسية من التمثيل الطائفي والمذهبي ممّا يجعل العمل التشريعي أكثر انسيابية والتصاقاً بخدمة الناس بصرف النظر عن الانتماء المذهبي والطائفي.

يتبين من خلال ما تقدّم أن فلسفة «وثيقة الوفاق الوطني» تقترح حلّاً لأزمة لبنان على مرحلتين: تبدأ الأولى بتعديل المادة 95 من الدستور لتلزم أول مجلس نيابي منتخب بعد اتفاق الطائف أن يؤلف هيئة خاصة لإلغاء الطائفية السياسية. كما نصّت على المناصفة في عدد النواب المسلمين والمسيحيين، بعد أن كانت 5/6 لمصلحة المسيحيين، وألغت نسب التمثيل الطائفي في كل الوظائف الإدارية والقضائية والجيش، باستثناء وظائف الفئة الأولى حيث تعتمد المناصفة ولكن دون أن توجد وظيفة حكراً على طائفة معينة. وتبدأ المرحلة الثانية بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وعلى أن يجري تمثيل الطوائف في مجلس للشيوخ الذي يُستحدث على أن يتمتع بصلاحيات واسعة في القضايا ذات الصفة الوطنية.

وإذا كان اتفاق الطائف قد اكتفى حين وصل إلى مشكلة الطائفية الشائكة وذات الجذور العميقة بالدعوة إلى إلغائها، وهي الدعوة التي وردت في كل المواثيق والاتفاقات التي جاءت قبل الطائف، إلّا أن هذا الطرح قد رأى فيه البعض «هدفاً وطنياً رئيسياً» للحد من الطائفية التي غالبا ما تؤدي إلى شلل في الحكم وعدم الاستقرار، وذلك من خلال خطة مرحلية لتحقيق هذا الانجاز تبدأ بإلغاء الطائفية السياسية وتنص على إجراءات يصبح بموجبها الاستحقاق والكفاءة والاختصاص بديلاً عن الانتماء الطائفي كمعايير لتولي مناصب الإدارة العامة (باستثناء المناصب العليا)، وبالتالي انتخاب مجلس للنواب خارج القيد الطائفي، مقابل مجلس للشيوخ يكون بمثابة كفيل واضح لحقوق الطوائف والمذاهب بشكل يسمح بتحويل مجلس النواب من سوق للمقايضة الطائفية إلى مركز سياسي للسلطة السياسية، وتحرير اللعبة السياسية من الخلافات على أساس طائفي ومذهبي حيث يكون المواطن هو المكوّن الأساسي بغض النظر عن دينه.

وبذلك يكون اتفاق الطائف قد رسم نهجاً لتجاوز النظام الطائفي بدءاً من إطلاق الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء طائفية الوظيفة، وصولاً إلى انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لا طائفي مع إنشاء مجلس شيوخ طائفي، أي تحرير مجلس النواب من التعقيدات الطائفية لكي ينصرف إلى العمل المنتج بعيداً من الحساسيات الطائفية والمناكفات، حيث يصبح بإمكان اللبنانيين انتخاب نواب لتمثيلهم كمواطنين أفراد، وأن ينتخبوا شيوخاً (سيناتور) لتمثيلهم كجماعات طائفية ومذهبية، ممّا يؤمن حماية المواطن والطائفة والمذهب في آن معاً.

الذكرى الحادية والثلاثون لتوقيع وثيقة الطائف

الإصلاحاتُ والمؤسسات الدستورية في وثيقة الطائف”، حسب (المرحوم) البروفسور محمّد المجذوب
البروفسور محمّد المجذوب

نائب رئيس المجلس الدستوري (سابقاً) – رئيس الجامعة اللبنانية (سابقاً)

مراجعة م.ش

يرى المرحوم الدكتور المجذوب أن مُصطلح «دستور» حديث في الأنظمة السياسية، ففي القرنين الماضيين كانت تستعمل مصطلحات أخرى مثل الميثاق الدستوري، أو القانون الدستوري، أو القانون الأساسي، إلّا أنّ مصطلح الدستور أو القانون الدستوري هو الغالب اليوم.

وكلمة دستورالمستعملة في اللغة العربية هي من أصل فارسي، يقول د. المجذوب، وهي مكوّنة من «دست» ومعناها القاعدة، و»ور» ومعناها الصاحب. استعملها العرب أولاً بمعنى «سجل الجند»، ثم بمعنى «مجموعة قوانين الملك أو الحاكم»، وأخيراً أطلقها العثمانيون على دستورهم الأول الذي صدر ستة 1876.
والحديث عن الدستور، يضيف د. المجذوب، يتطلّب كلمة مبسّطة في النظام السياسي الذي يستمد أسسه ومعالمه من الدستور.

للنظام السياسي معنيان: ضيّق وواسع. النظام السياسي بالمعنى التقليدي الضيّق يعني «نظام الحكم في الدولة» أمّا النظام السياسي بالمعنى الواسع والحديث، فيعني «نظام الحكم وما يقوم عليه من مبادئ فلسفية وسياسية واجتماعية» والمعنى الواسع هو السائد اليوم.
وهناك اتفاق بين الباحثين، حسب د. المجذوب، على تصنيف الأنظمة السياسية في نوعين: الأنظمة الديمقراطية، والأنظمة الديكتاتورية. والفرق الجوهري بين النوعين يكمن في أن الأنظمة الديمقراطية، بخلاف الديكتاتورية، تقوم على أساس تطبيق مبدأ فصل السلطات الذي يكفل الحقوق والواجبات – رغم الاختلافات الواسعة في تفسير هذا المبدأ وما اتصل منها خصوصاً بتعريف السلطتين التنفيذية والتشريعية، وحدود سلطات كل منهما. فكلما زادت صلاحيات السلطة التشريعية اقتربنا من «النظام المجلسي»، وكلما زادت، بالعكس، صلاحيات السلطة التنفيذية اقتربنا من النظام الرئاسي، أو «نظام الحكومة الرئاسية» وقد أخذ الدستور اللبناني منذ صدوره في صيغته الأولى سنة 1926 بـ «نظام وسطي بين الفصل المطلق أو الاندماج المطلق، محققاً توازناً وتعاوناً بين السلطتين، يقوم على الفصل المعتدل بين السلطات والرقابة المتبادلة، ويطلق عليه اسم النظام البرلماني،» إلّا أن د. المجذوب يضيف، «ولكن التطبيق لم يكن على المستوى المطلوب».
بعد جولة دستورية على النظام البرلماني وخصائصه، وما فيه من ثنائية السلطة التنفيذية، وعدم مسؤولية رئيس الدولة، مقابل حكومة هي المسؤولة أمام البرلمان، ومن تعاون ورقابة متبادلة، يخلص المؤلف إلى أن الدستور اللبناني هو «دستور مدوّن (بخلاف الدساتير العرفية)، جامد، يتطلّب تعديله شروطاً أكثر تعقيداً أو صعوبة من شروط تعديل القوانين العادية».
أمّا نظام الحكم الذي انبثق عن الدستور في لبنان، إلى ما قبل الطائف، فهو حسب د. المجذوب «نظام جمهوري ديمقراطي، ونيابي، وبرلماني، وليبرالي، ومذهبي، وبولييارشي (أي وجود مراكز قوى متعددة ومتوازنة داخل النظام الواحد)» والبولييارشية، وفق توصيف الدكتور المجذوب، «في هذا النظام لا نعثر على فرد ولا على مجتمع، لأن الجماعات وحدها (أي المذاهب في لبنان) هي التي تتحرك وتغطّي الساحة. ولهذا يبقى الفرد والمواطن خارج المسرح السياسي أو الاجتماعي، ويغيب المجتمع الوطني المتلاحم، لأن كل مذهب يعتبر نفسه مجتمعاً قائماً بذاته لا تربطه بالمجتمعات المذهبية الأخرى إلاّ روابط واهية تفرضها فكرة الاستمرار في التعايش وصون المصالح الخاصة المتقلبة. وبنتيجة هذا الوضع تتحول الحياة السياسية إلى عمليات ضغط وتجاذب تمارسها الجماعات المذهبية لتحقيق بعض المكاسب، ولو أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى الدخول في معارك دامية. ويتحوّل الفرد إلى أداة لخدمة مآرب جماعته، فتغيب مواقفه وتتلاشى شخصيته، وتتحول الدولة إلى آلة تعمل لحساب زعماء الجماعات أو إلى مزرعة يتقاسم هؤلاء خيراتها، فتحلّ الجماعات في النهاية محل الدولة ومؤسساتها ويصبح الزعماء المذهبيون المرجع الوحيد لكل طالب خدمة أو وظيفة».

بهذا التوصيف الدقيق، سوسيولوجياً وسياسياً، يقارب المرحوم د. المجذوب الثغرة الأساسية في النظام اللبناني، وربما في الدستور اللبناني، والتي فخّخت (والتعبير لكاتب هذه السطور) كل ملمح من ملامح النظام السياسي اللبناني «الرسمي» فجوّفته من كل مضمون ديمقراطي، وأحالته بالتالي ساحة مفضّلة لاستمرارحراك الطوائف أو المذاهب، بل عربة تنقل هذه الطائفة أو تلك، وبين الحين والحين، إلى موقع الطائفة الأكثر سلطة بين الطوائف، وتحديداً كلما تلاقى الهوى الإقليمي مع الطموحات الداخلية.

لذلك لم يخرج النظام اللبناني في تاريخه، وبخاصة بعد الاستقلال، من أزمة إلا ليدخل في أزمة أخرى، مع الميل أحياناً، وفق د. المجذوب، «إلى المناورة أو الخصومة الحادة التي قد تنتهي باستخدام القوة المسلحة» وفي محاولتهم سدّ الثغرات التي فجّرت النظام اللبناني من الداخل، أوسهّلت عملية الهجوم عليه من الخارج، كانت فكرة تلاقي ممثلين للبنانيين للتداول والتفكير في أفضل السبُل نحو الغاية أعلاه. وكان إعلان وثيقة الطائف في 30 أيلول 1989، ذروة المحاولات، وربما النجاحات تلك. الوثيقة في تصوّر المرحوم الدكتور المجذوب هي:
«لقد أراد النوّاب المجتمعون في الطائف إصدار وثيقة على صورة ميثاق وطني، تم تكريس مبادئها دستورياً. ولهذا فإن القيمة القانونية والفعلية للوثيقة تكمن في إمكان تحويل مبادئها إلى نصوص دستورية. وهذا ما حصل في 12/9/1990. أمّا قيمتها السياسية فتتجلى في الدعم العربي والدولي التي حظيت به….والمهم أن الوثيقة أصبحت، عبر التعديلات الدستورية، ميثاقاً وطنياً جديداً يمكن إلحاقه بالركيزتين التي يقوم عليهما النظام اللبناني: دستور 1926 وميثاق العام 1943».
لم يُغفل د. المجذوب بعض الغموض الذي اكتنف بعض نصوص وثيقة الطائف، كما لم يغفل أسئلة كثيرة ستصل إليها الوثيقة. فيختم مقالته الطويلة المهمة بالقول:
«وفي الختام تستوقفنا أسئلة وتساؤلات متعددة: هل ساعدت وثيقة الطائف التي أسكتت المدافع والمجازر على حلّ الأزمة الدستورية؟ وهل احتُرمت بنودها لدى تحويلها إلى مواد دستورية؟ وهل الأزمة السياسية التي عصفت بلبنان كانت، في الأصل والجوهر، أزمة دستورية….؟».

.


لقاء الضّحى مع معالي الوزير السابق د. خالد قباني في الذكرى الحادية والثلاثين لوثيقة الطائف
معالي الدكتور خالد قباني

1 – كنتم حاضرين بقوة في اجتماعات الطائف الطويلة، وكذلك في النتائج، وبخاصة في صياغة بنود الوثيقة التي صدرت عن الاجتماعات.
كيف تنظرون اليوم إلى تجربتكم تلك، هل كانت تستحق ذلك العناء؟ هل كنتم راضين عن الوثيقة الختامية، أم مجرد تسوية أنهت سنوات الحرب الطويلة بما تيسّر من تسويات وتنازلات.

كانت فعلاً تجربة تستحق العناء، لأنها أدت إلى:
أوّلاً إيقاف حرب عبثية، دامت أكثر من خمس عشرة سنة، دمرت لبنان وهجّرت أهله وأنهت اقتصاده، وشكلت خطراً على وحدة لبنان وكادت تنتهي إلى تجزئته وتقسيمه لولا اتفاق الطائف الذي وضع حدّاً لهذه الحرب وأعاد اللبنانيين إلى بعضهم البعض.

وثانياً إحياء المؤسسات الدستورية من خلال إعادة تكوين السلطات الدستورية. والتئام مجلس النواب سريعاً، بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني، التي صوّت عليها اللقاء النيابي اللبناني في الطائف، في بلدة القليعات، في لبنان، في 5 تشرين الثاني وصادق على هذه الاتفاقية، وفي الجلسة نفسها تم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ثم بعد ذلك تم تشكيل حكومة جديدة ترأَّسها الرئيس الحص، واختصرت ولاية مجلس النواب، بعد أن استمر في ممارسة أعماله لمدة أكثر من عشرين سنة، أي منذ سنة 1972، لكي يتسنى للشعب انتخاب مجلس نواب جديد، اكتمل بانتخابه عقد المؤسسات الدستورية، وذلك سنة 1992.

وثالثاً البدء بعملية البناء والإعمار التي أعادت إعمار لبنان الذي هدمته الحرب، وأعادت هذه العملية لبنان إلى خارطة العالم، واستعاد دوره الاقتصادي والثقافي والسياسي والانساني.
لم تكن الوثيقة الختامية مجرد تسوية، أنهت سنوات الحرب، ولكنها أدخلت تعديلات أساسية وجوهرية على النظام السياسي في لبنان، وعالجت بل حلّت مشاكل ونزاعات رافقت إعلان دولة لبنان الكبير، واستمرت طيلة العهود التي تلت، وإن كان الميثاق الوطني سنة 1943 قد شكل محطة مفصلية، وأساسية في بناء دولة الاستقلال، ولكنه لم ينهِ أزمات لبنان، فجاء اتفاق الطائف محاولاً من خلال التعديلات الدستورية وضع حد للأزمات السياسية، كمسألة الهوية العربية أي عروبة لبنان، والهوية الوطنية، أي المسألة الطائفية، ومسألة المشاركة في الحكم، أي ما كان يعرف بمعادلة الخوف والغبن، ومسألة العدالة الاجتماعية، أي مسألة الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية الموسعة. أما السؤال عمّا إذا كان الطائف قد نجح في حل هذه المشاكل التاريخية وأزمة الثقة بين اللبنانيين التي أثّرت في بناء الدولة واستقرار البلاد، فهذا شأن آخر.

أقرّ الطائف مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية في الحكم وانتظام عمل السلطات، تؤمن فرصاً لبناء الوطن والدولة وتشكل نموذجاً للعيش المشترك. وأهمية هذه القواعد والمبادئ أنها باتت جزءاً من الدستور، ومن مقدمته، بحيث إذا ما طُبِّقت بحسن نية، وهذا هو المطلوب، لكانت كفيلة برأينا، بتحويل لبنان إلى نموذج حضاري للعيش المشترك الاسلامي- المسيحي ومقتضياته.

لم يتم تطبيق اتفاق الطائف بصورة كاملة، وما نفِّذ منه كان مجتزءاً وبصورة تخالف مضمونه وروحه. اختُصرت المؤسسات وغاب دورها، ودخلت البلاد في صراع من نوع آخر، صراع على النفوذ واقتسام الحصص والمغانم، وتوزعت الطوائف في ما بينها السلطات والمؤسسات، وزادت حدّة المشاعر الطائفية والمذهبية، ووصلت إلى أوجّها، وادعت الكتل والأحزاب السياسية تمثيل الطوائف في الحكم، والدفاع عن حقوقها، خلافاً لأحكام الدستور، بما يؤمن غطاءً سياسياً لها، ويحصّنها من كل مسؤولية أو محاسبة في ممارسة شؤون الحكم، وبما يخرج نظامنا السياسي الديمقراطي البرلماني عن طبيعته وجوهره، وتحكمت موازين القوى الداخلية بإدارة الحكم، نتيجة الصراعات الاقليمية والدولية الضاغطة، وما تفرضه هذه الموازين من قواعد في التعامل وفي ممارسة السلطة، بعيداً عن أحكام الدستور، بل وخروجاً عليها.

لم تكن الحياة السياسية والدستورية في لبنان، بدءاً من إقرار اتفاق الطائف، وتحويل الاصلاحات السياسية التي تضمنها إلى مواد في الدستور، ترجمة صادقة لأحكام الدستور، ولما احتواه من أسس ومبادئ وقواعد، كما يقتضي أن تكون، وباعتبار هذا الدستور، وخاصة ما جاء في مقدمته، معبراً عن أماني وطموحات وتوجّهات الشعب اللبناني وخياراته الأساسية وتطلعاته إلى حياة آمنة ومستقرة، وبناء دولة ديمقراطية، قوامها الحرية والمساواة والعدالة، بل اتجهت الحياة السياسية والدستورية، اتجاهات ومسارات أخرجت الدستور، بما هو نظام حياة وخارطة طريق، عن مساره الطبيعي الصحيح، ونقضت أحكامه، وابتعدت عن كل ما يجعل الدولة دولة قانون ومؤسسات، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومات، أو في ماخص المسألة الطائفية أو المشاركة في الحكم أو قانون الانتخاب الذي يعتبر حجر الزاوية في كل إصلاح سياسي، أو في ما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية، بما كان له الأثر الكبير على عدم استقرار الحياة السياسية والدستورية في البلاد.

2 – من جهة دستورية، هل بدّلت وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، أم مجرّد إصلاحات من داخل النظام؟

لم تبدّل وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، وهي ليست مجرد إصلاحات من داخل النظام، بل هي إصلاحات في صلب النظام. بقي النظام السياسي نظاماً في جوهره وطبيعته نظاماً برلمانياً في مبادئه وأركانه الأساسية والجوهرية، ولكن الاصلاحات نصّت بصورة صريحة وواضحة عن طبيعة النظام السياسي، فجاء في مقدمة الدستور أن لبنان هو جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمُعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل، أي إنّها حسمت بنص واضح وصريح طبيعة النظام السياسي، بعد أن كان مزيجاً من النظام الرئاسي والبرلماني، نظراً إلى الصلاحيات الواسعة التي كان يتمتع بها رئيس الجمهورية قبل التعديلات الدستورية التي أدخلها اتفاق الطائف في صلب الدستور، وجعل رئيس الجمهورية في موقع سامٍ بالنسبة للسلطات الدستورية، وصمام أمان للنظام والحكم في النزاعات والصراعات السياسية الداخلية، بحيث لا يكون فريقاً في هذا الصراع، في ظل نظام برلماني، بالغ التعقيد والصعوبة، يقوم على المنافسة الحادة بين قوى سياسية تتنافس ديموقراطياً لبلوغ السلطة، ممّا جعله يلعب دور المرجع والحكم في هذا الصراع، الحافظ للكيان والساهر على احترام الدستور والملتزم بأحكامه وعلى أمن البلاد ووحدتها وسيادتها واستقلالها.

لم يعد رئيس الجمهورية جزءاً من السلطة التنفيذية، يشارك في اتخاذ القرارات، أسوة بأعضاء الحكومة، شأنه شأن أي وزير في الحكومة، بل بات يلعب دور الرقيب والموجه والمصوب لعمل مجلس الوزراء، قبل اتخاذ القرار، والسلطة المضادة، Contre pouvoir، بعد اتخاذ القرار، ليعيده إلى مصدره، في حال مخالفته القانون أو الدستور، أو عدم توافقه مع المصلحة العامة، بحكم دوره الوازن والحافظ للدستور، والساهر على المصالح العامة وحقوق اللبنانيين وحرياتهم، وهو يلعب الدور نفسه، وبقوة أكبر في ما يخص القوانين التي يقرها مجلس النواب، بحيث يعيد القوانين المخالفة للدستور، دون أن تمهر بتوقيعه، ويرفض تنفيذها، ولذلك فقد ربط الدستور كل أعمال الدولة، التشريعية والتنفيذية بموافقة رئيس الجمهورية، بحيث لا تكون نافذة إلّا بعد صدورها بمرسوم من رئيس الدولة، مما يعطي رئيس الجمهورية اشرافاً كاملاً على كل أعمال الدولة بل سلطة فاعلة وموجهة تدحض كل قول بفخرية أو شرفية هذا المنصب.

للأسف لم يفهم موقع ودور رئيس الجمهورية وأهميته على حقيقته، أردنا تراكم كمٍّ من الصلاحيات وأغفلنا المضمون.
لا تكمن مشكلة الحكم في لبنان في النصوص، سواء نتيجة نقص فيها أو سوء توزيع للصلاحيات، بل تكمن في طريقة أداء الحكم وممارسة السلطة وفهم طبيعة النظام السياسي المعتمد في الدستور.
ليست المسألة مسألة صلاحيات، سواء زيادة أو نقصاناً. فصلاحيات رئيس الجمهورية، على اتساعها، في دستور ماقبل الطائف، لم تسعفه ولم تمكنه من تجنب الأزمات أو احتوائها أو الحؤول دون تفجّر الأوضاع في لبنان. ولا يعني ذلك أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية لا تحتاج إلى تفعيل أو تعديل من أجل فاعلية دوره المطلوب، وربما من أولويات التعديل، إعطاء رئيس الجمهورية حق حل مجلس النواب، لكي يلعب دور الحكم بين أكثرية حاكمة وأقلية معارضة، إذا ما احتدم الصراع بين الفريقين إلى حد شل عمل المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، أو شكل خطراً على الوئام الوطني والعيش المشترك، كما حصل مراراً في لبنان، ولا يزال يحصل، وإذا فَقد مبدأ التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فعاليته، فيحتكم رئيس الجمهورية إلى صاحب السيادة، إلى الشعب، وهو الحكم الأخير، ليحكم في الخلاف ويحدد خياراته. المقصود أنّ المعالجة تتجاوز مسألة الصلاحيات ، كمَّاً أو حجماً، وإن المسألة لا تعالَج من خلال عنوان استعادة صلاحيات مفقودة أو منزوعة، لأن ذلك يجعلنا ندور في حلقة مُفرغة. المسألة بجوهرها أعمق بكثير. المسألة هي كيف نجعل رئاسة الجمهورية صمام أمان للنظام وللاستقرار، وكيف نُعلي شأن موقع رئيس الجمهورية ونجعله فعلاً لا قولاً حكماً فاعلاً في الصراع السياسي. ليست المسألة مسألة كم ولكنها مسألة نوع وكيفية. في كل مرة تصرَّف فيها رئيس الجمهورية كفريق في الصراع، أو وضعته الظروف أو الأحداث، أو أُريد له أن يكون في هذا الموقع، كانت النتيجة تفجير الأوضاع في لبنان وإغراقه في الفتنة وفي حمأة صراعات طائفية ونزاعات وحروب أهلية مدمّرة. كما يستمر عليه الوضع في لبنان الآن.

3 – هل توزُّع السلطة الذي شهدناه منذ سنة 1991، وما فيه من فوضى وبوليغارشية، حسب تعبير المرحوم د. المجذوب، هو نتيجة دقيقة لوثيقة الطائف، أو نتاج ممارسة معيّنة فرضت نفسها؟

ليس في اتفاق الطائف، أو في الدستور اللبناني، ما يمكن تسميته «توزّع للسلطة» أنتج فوضى عارمة، لأن ما جاء في اتفاق الطائف وما في الدستور، يرسي نظاماً سياسياً معروفاً واضح المعالم والمبادئ، ومعتمداً في الأنظمة السياسية التقليدية، مع خصوصيات تميز كل نظام عن مثيله، تعود إلى التركيبة الاجتماعية، دون أن تخل بجوهره أو بأركانه، هو النظام البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، والذي يُعتبر فيه البرلمان السلطة الأم والذي يمثل الإرادة الشعبية، وهو يتولى السلطة التشريعية، والذي يُبنى على انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية، وحكومة تتولّى السلطة التنفيذية، وتكون مسؤولة أمام البرلمان، وتستمر باستمرار ثقة البرلمان بها، ورئيس جمهورية، يكون رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن، وتميز عن النظام البرلماني الأم، لخصوصية البنية الاجتماعية الطائفية في لبنان، بحيث لا يكون رئيس دولة يتولى ولا يحكم كملكة بريطانيا، بل أناط به صلاحيات دستورية فعلية تجعله رئيس دولة ومرجعاً وحكماً في الصراع السياسي الداخلي وممسكاً بقيادة الدولة وليس مجرد رمز على غرار الأنظمة البرلمانية التقليدية.

أمّا الفوضى في الحكم التي يلفت إليها السؤال، فهي نتيجة عدم احترام الدستور، والخروج على أحكامه، ومحاولة كل فريق الهيمنة على السلطة، واحتكارها ووضع يده على مقدرات الدولة ومرافقها ومحاولة استتباعها، والممارسة السياسية التي تخرج عن أصول النظام الديموقراطي البرلماني، وعدم الاحتكام في الصراع السياسي إلى أحكام الدستور، واللجوء إلى موازين القوى في حسم الخلافات والنزاعات السياسية، بل الاستعانة بالخارج، وهذا أسوأ ما خرجت به ممارسة الحكم، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، والذي حاول الطائف أن يولي صلاحية حماية النظام السياسي إلى رئيس الجمهورية، بكونه المرجع والحكم في هذا الصراع، وليس الاستقواء بالخارج، كما درج عليه اللبنانيون في ممارسة الحكم في لبنان، وفي فض نزاعاتهم.

العيش المشترك في لبنان هو الحافظ للنظام والحامي لقيم الحرية والاستقلال والسيادة، لم يعد العيش المشترك مجرّد فكرة أو قدراً محتوماً فرضته الجغرافيا ونسج خيوطه التاريخ، ولكنه بات خياراً حرَّاً للبنانيين، بحيث تحوَّل إلى صيغة مؤسساتية ودستورية. فالتداخل الجغرافي بين المناطق والبلدات، والاختلاط السكاني، والتشابك الاقتصادي ونمو المصالح المشتركة، بل الحياة المشتركة، والترابط العائلي والأسري، والغنى والتنوع في الثقافات والعادات والتقاليد وأنماط العيش المشترك، جعل صيغة العيش المشترك أكثر تجذّراً وأصالة وعمقاً بحيث باتت صيغة أمانٍ وأمن وضمانة حقيقية للحرية والسيادة والاستقلال، وحمت لبنان من التجزئة ومحاولة الهروب إلى الفدرالية، طلباً للأمان والاستقرار، ونتيجتها الوقوع تحت الوصاية والحماية الخارجية، وبالتالي، فقدان الاستقلال والسيادة والقرار الوطني الحر، والدخول في حروب أهلية لا نهاية لها.

هذا الثابت، العيش المشترك الإسلامي المسيحي، هو ما كرسته وثيقة الوفاق الوطني، بعد حرب مدمّرة، دامت أكثر من خمسة عشر عاماً، دمّرت كل شيء، باستثناء هذه الصيغة الراسخة، صيغة العيش المشترك.
وقد جاءت الإصلاحات لتعيد النظر في تنظيم السلطات العامة وصلاحياتها، بما يحقق التوازن فيما بينها، دون أن تمس صيغة العيش المشترك، أو تمس حقوق الطوائف في حرياتها وممارسة شعائرها وعقائدها الدينية، وحقوقها في المشاركة في الحكم. وقد بنيت هذه الإصلاحات على أساس ثلاثة مبادئ أو مرتكزات لبناء الدولة:
– مبدأ وحدة الدولة وصون العيش المشترك
– مبدأ المشاركة في الحكم، حيث لا تسلّط ولا تفرد في الحكم ولاهيمنة ولا غلبة.
– مبدأ إلغاء الطائفية السياسية بصورة تدريجية وإنشاء مجلس الشيوخ

4 – ما من أحد يملك، أو يقول الحقيقة كاملة، بخصوص المداولات التي تناولت مسألة استحداث مجلس للشيوخ، وهل كان هناك قرارات في الموضوع، أو مجرد مداولات؟

كان وما يزال استحداث مجلس للشيوخ أمراً يحظى بتوافق اللبنانيين، وهو أحد الاصلاحات الأساسية التي نص عليها اتفاق الطائف، مقابل المبدأ الذي أقره هذا الاتفاق وهو مبدأ إلغاء الطائفية السياسية الذي أصبح جزءاً من مقدمة الدستور، ولم يكن موضع خلاف ولا جدال، بل جاء تحصيناً لمبدأ إلغاء الطائفية السياسية. ولذلك جاء مبدأ إلغاء الطائفية السياسية مقترناً حكماً بإنشاء مجلس للشيوخ، بحيث يشكل صمام أمان للعيش المشترك، وطمأنة حقيقية للمخاوف والهواجس التي يمكن أن يثيرها الشروع في إلغاء الطائفية السياسية، وسياجاً للوفاق الوطني، وضماناً لمشاركة الطوائف في تقرير مصير البلاد ومستقبلها، فنصت المادة 22 من الدستور: «مع انتخاب أوّل مجلس نواب على أساس وطني يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

وليس المقصود أو المطلوب أن يتحول مجلس الشيوخ إلى مجلس تشريعي، بل المطلوب أن يشكل صمام أمان بالنسبة لأية جهة تتردد في السير في طريق إلغاء الطائفية السياسية وتخشى على نفسها من الإلغاء أو التهميش أو فقدان الموقع والدور، فيشكل هذا المجلس دائرة أمان، إلى أن يحين الوقت الذي تهدأ فيه النفوس وتطمئن فيه القلوب وتحل فيه أجواء الثقة بين اللبنانيين محل أجواء الشك والريبة والخوف، ويشعر فيه المواطن بالانتماء فعلاً إلى وطن ودولة.

إن المؤمل من إنشاء هذا المجلس هو تعزيز الوحدة الوطنية، وهو قادر ومؤهل للقيام بهذا الدور، إذا تأمّنت المُناخات الملائمة، لأنه ينقل الحوار حول قضايانا الوطنية إلى مؤسسة دستورية رصينة وحكيمة، تستطيع أن تتحول إلى مؤسسة حوار وطني، ترقى بالمناقشات إلى المستوى الفكري والحضاري، والتي تساهم في طمأنة النفوس وإغناء الحياة السياسية والوطنية بالأفكار والقيم التي تعزز الوحدة الوطنية وتصونها، بعيداً عن المزايدات وروح المنافسة السلبية حول المصالح والمنافع الفئوية، والنزاعات السياسية والعقائدية التي تضع الأحزاب والقوى السياسية في مواجهة بعضها البعض وتهدد الاستقرار في البلاد، فضلاً عن أنه بوسع هذا المجلس أن يضع حداً للتجاذبات السياسية حول قضايا المصير ويحد من التطرف أو التوجه بالبلاد إلى تبني مواقف بعيدة عن روح التضامن والتكافل الوطني، ولكي تشعر الطوائف بالاطمئنان إلى وجودها وحضورها الفاعل في الحياة السياسية ومشاركتها في القرار السياسي والقرارات المستقبلية والمصيرية، والحؤول دون جر البلاد إلى مواقف قد تهدد أسس العيش المشترك والوفاق الوطني ووحدة الدولة، وبحيث يشكل مجلس الشيوخ صمام أمان للنظام وللحياة المشتركة بين اللبنانيين.

5 – ما الثغرات التي أبرزتها ممارسة الطائف في ثلاثين سنة، وهل بالإمكان حصول طائف 2 جديد من دون تهديد مرتكزات طائف 1؟

لاشك أن الممارسة السيئة للإصلاحات التي جاء بها اتفاق الطائف قد انتجت ثغرات كثيرة وسلبية في الحياة السياسية، فاتفاق الطائف لم يطبق، وما طُبِّق منه كان مجتزءاً ومغايراً لنصه وروحه، والسّمة البارزة في هذه الثغرات هو نزوع السلطة السياسية إلى التحكم بالسلطة وعدم احترام أحكام الدستور ومحاولة الهيمنة على الحكم ووضع اليد على مؤسسات الدولة ومرافقها، وتقاسم السلطة وضرب مبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي، مبدأ المساءلة والمحاسبة، والإصرار على تشكيل حكومات تجمع بين الأكثرية والأقلية تقضي على دور مجلس النواب التشريعي والرقابي، بما أساء إلى مفهوم الديموقراطية، من جهة، وأسقط مقومات النظام البرلماني والمبادئ التي يقوم عليها، من جهة ثانية.

وممّا هو متفق عليه، أنّ كل دستور جديد، يمرّ بمرحلة تجربة يتم خلالها الحكم على مدى صلاحية هذا الدستور وآثاره على النظام السياسي، أو الثغرات التي تتضمنها الاصلاحات السياسية التي اعتُمدت فيه، وهذا أمر طبيعي، ولكن مشكلتنا في تطبيق الاصلاحات التي نتجت عن الطائف. أن تطبيقها كان مجتزءاً وما طبق منه لم يكن سليماً، ولم تتوفر في تطبيقه، الإرادة الطيبة، إرادة الاصلاح، ولا حسن النية، ولا الرغبة في بناء دولة قانون ومؤسسات، فساد مبدأ التعطيل والعرقلة في التعاطي السياسي والتقاتل على المصالح والمغانم وعقلية الهيمنة ومنطق الغلبة واحتكار السلطة، واللجوء إلى الخارج والاستقواء به في حل مشاكل وأزمات الداخل، واستغلال الدين في السياسة، فكيف نلجأ إلى طائف جديد، والطائف هو على الحال الذي وصفناه وتجربته لم تكتمل، وكيف نعرّض البلاد إلى تجربة جديدة لا تُعرف نتائجها، وطريقها محفوف بالمخاطر ولا رؤية لها؟ وهل نغامر بحرب أهلية لا أفق لها ولبنان لم يخرج بعد من آثار الحرب الأهلية الماضية التي دمرت النفوس، أم نسعى إلى استكمال تطبيق دستور الطائف، والبحث في تصحيح الثغرات التي نتجت عن تطبيقه وهو أمر مطلوب ومرغوب، بالحوار البنّاء، وبالطرق الديموقراطية ووفقاً للأصول الدستورية، وفي مناخ من الثقة والرغبة الحقيقية في بناء الدولة، دولة الحق والمواطنة.

بذلك، نؤسس للدولة الدستورية، التي تخضع في كل جوانب عملها، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية، للدستور، وبحيث يصبح العمل السياسي ليس عملاً يخضع للإستنساب والأهواء، أوتحكمه المصالح والتحالفات والصراعات الفئوية والحزبية والسياسية، بل تغنيه وتهذبه وتنقيه الجوانب والاعتبارات القانونية والدستورية، التي تشكل دائرة أمان ووقاية لهذا العمل، وهذا ما يحصّن العمل السياسي ويصونه ويبقيه في دائرة الدستور.

6-هل خيّب الطائف توقّعات الشباب اللبناني على وجه التحديد، إذ انتج نظاماً يصعب محاكمته، أو تغييره، ولا مكان للشباب فيه؟
من خيب آمال وتوقُّعات الشباب اللبناني، هل هي الطبقة السياسية التي أطاحت باتفاق الطائف وأعاقت تطبيقه وخالفت أحكام الدستور، ولم يكن لها لا رغبة ولا إرادة في بناء دولة؟

إن المشكلة لا تكمن في الطائف، ولكن في من طبق الطائف، وخرج على أحكام الدستور، والمشكلة في ممارسة الحكم وفي من أمعن في مخالفة القوانين ومن حاول الهيمنة على مقدرات البلاد وضرب اقتصادها والثقة بها، وخيب آمال اللبنانيين جميعاً والشباب منهم بصورة خاصة في بناء وطن ودولة تلبي طموحاتهم وأمانيهم وتؤمن لهم كرامة الحياة وتطمئنهم إلى مستقبلهم ومصيرهم.

أختم فأقول، لا بديل للمواطن عن الدولة، ولا يمكن لسلطة مهما أوتيت من القوة أو القدرة أن تحل محل الدولة، أو تؤمن الحماية للمواطن، ولا يجوز للطوائف أو للأحزاب أو للقوى السياسية أن تقاسم الدولة سلطتها أو تنازع الدولة على سلطتها، أو تشاركها في السيادة على إقليمها أو على مواطنيها، لأن ذلك لا يضعف سلطة الدولة فقط ويذهب بهيبتها ويلغي دورها، بل إنّ ذلك يؤثر على الكيان ويشكل خطراً على وحدة الدولة ويضرب الوفاق الوطني وصيغة العيش المشترك في الصميم.

لم يعد من المقبول أن تستقوي الطوائف أو الأحزاب أو القوى السياسية، على الدولة وأن تتحدى سلطة الدولة، أو أن تصادر الحقوق والحريات، أو أن تستقطع لنفسها الإدارات والمرافق العامة، وأن تتوزع منافعها وخيراتها، وتتبادلها من وقت لآخر، لأن ذلك كلّه يقوّض أركان الدولة، ويهدم مقوماتها وركائزها، ويلغي مفهوم الحرية والديموقراطية، ويجعل الدولة ومؤسساتها حقلاً للتجاذب والمنافع، ويجعل الطوائف في مواجهة بعضها البعض، ممّا يسيء إلى علاقات الود والتفاهم والتعاون والثقة التي يجب أن تسود في ما بينها، بحيث يصبح اللبنانيون في خدمة طوائفهم لا في خدمة مواطنيهم، وهو ما أدى إلى تعميق الحساسيات الطائفية والمذهبية، وحوّل الساحة اللبنانية إلى ساحة صراع وتنافس داخلي بين هذه الطوائف والمذاهب، تتسرب إليها الصراعات الإقليمية والدولية كما يتسرب المطر من سقوف وجدران البيوت، فتغرق هذه البيوت بالمياه وتفقد صلاحيتها للسكن، كما يقول الرئيس الدكتور سليم الحص.
لم يعد مقبولاً أن نختبئ وراء طوائفنا أو نحتمي بمذاهبنا، بادعاء تمثيلنا لهذه الطوائف والمذاهب، أو الدفاع عن حقوقها، ونحن لا ندافع إلّا عن مصالحنا الشخصية ومكاسبنا المادية، ونسعى إلى تأمين بقائنا واستمرارنا في السلطة وإحكام القبضة على مؤسسات الدولة ومرافقها، بحسباننا نملك حق تمثيل الشعب، ونحن قد أفقدنا الناس، بسياساتنا وتصرفاتنا الثقة بالدولة ومؤسساتها.

يريد أهل السياسة وضع أيديهم على كل شيء حتى إيمان الناس، فيدّعون تمثيلهم للطوائف والدفاع عن حقوق الطوائف، فيلبسون رداء الطوائف والمذاهب، ليحتموا به، ويعفون أنفسهم من المساءلة والمحاسبة، لا تقحموا الدين بالسياسة، دعوا الناس يعيشون إيمانهم، إيمانهم يجمعهم ولا يفرقهم، وسياساتكم الطائفية والمذهبية تمزق جموعهم وتدمر حياتهم.
يجب أن نعتاد العيش في كنف الدولة، أن نتقبل فكرة الدولة وأن نحترم قوانينها ودستورها، أن نخضع لسلطانها، لأننا خارجها نكون جماعات وطوائف وقبائل متناحرة لا رابط فيما بيننا ولا كيان لنا.

لم تكن المشكلة في الطائف، فسَّرنا الطائف بحسب أهوائنا، أردنا حكم تراكم صلاحيات، هيمنة وتسلط، لا مسؤولية فيه ولا مسؤول، وأردنا حكومات تحت عناوين وطنية جامعة، حيث لا وطنية، حيث نتهرب من المسؤولية والمحاسبة، لا تغيير فيها ولا إصلاح، مجرد استنساخ وجوه وأشخاص، تبادل مصالح ومنافع، وتوارث مواقع، فقدنا الأصل والجوهر، الحرية والديموقراطية وأخلاقيات الحكم والضمير، نعيش في سراب يظنه الظمآن ماءً، حيث لا ماء ولا هواء نظيف… فساد وظلام.


معالي الوزير بارود الدخول الى الجمهورية الثالثة مطلوب من وجهة نظر اصلاحية
معالي الدكتور زياد بارود

وثيقة الطائف سمحت بوقف الحرب الأهلية الطويلة، إلى ذلك، ما أهميتها الدستورية والسياسية برأيكم؟

لقد شكّلت وثيقة الوفاق الوطني مفصلا بين جمهوريتين، ولكنها لم تحُل دون استمرار ما أعاق قيام الدولة في الأولى، بحيث استمرت الثانية مأزومة، حتى بلغ الأمر اليوم إلى نقاش في ضرورة البحث عن أسس جديدة لجمهورية ثالثة. في السياسة، ثمة قراءات مختلفة وغالبا متناقضة. البعض يقرأ في الطائف تأسيسا لمسار جديد قد يسمح، فيما لو طُبّق فعلا، بممارسة سياسية أسلم وأكثر عدالة، فيما البعض الآخر يرى فيه تسوية غير مكتملة لا يمكنها أن تنتقل بلبنان من حالة مأزومة إلى استقرار. أما دستوريا، فلا بد من التمييز بين الأحكام التي وردت في اتفاق الطائف وتُرجمت بعده بتعديلات دستورية (21/9/1990)، من جهة، وبين الأحكام التي بقيت منصوص عليها في الاتفاق المذكور فقط، من جهة أخرى. وأعطي مثلا عن كل من هاتين الفئتين من الأحكام: إستحداث مجلس شيوخ، مثلا، ورد في الطائف ومن ثم أصبح منصوصا عليه في المادة 22 من الدستور في تعديلات 1990. أما اللامركزية الإدارية، فوردت في نص اتفاق الطائف تحت عنوان الإصلاحات لكنها لم ترد في الدستور. وعلى ذلك، فإن كل ما ورد من تلك الأحكام في نص دستوري بات له قيمة دستورية كاملة، بما في ذلك مقدمة الدستور التي أضيفت إليه عام 1990 والتي تضمّنت مبادئ عامة على قدر كبير من الأهمية والتي أفتى المجلس الدستوري عام 1997 بأنها ذات قيمة دستورية كاملة. أما الأحكام في الطائف التي لم تُترجَم نصوصا دستوريا، فيبقى لها قيمة معنوية وسياسية وتحفيزية ومرجعية ولكن طبعا دون القيمة الدستورية. هكذا، مثلا، تشكّل الفقرة المتعلقة باللامركزية إطارا مرجعيا لأي قانون ينظّم هذه الأخيرة ولكن دون أن ترتقي إلى القيمة الدستورية.

هناك من يقول ان الطائف عمًق أزمة النظام السياسي اللبناني الطائفي بدل الاسهام في حلها؟

النظام السياسي الطائفي لم يبدأ عام 1989/1990. هو يضرب عميقا في تاريخ البلد وفي آليات حكمه المستعصي وفي مؤسساته منذ قرون. ألم يكن مجلس الإدارة في المتصرفية طائفيا؟ ألم يعترف المفوض السامي المنتدب في القرار 60/ل.ر. الشهير بالطوائف «المعترف بها تاريخيا»؟ ربما كان من المأمول في الطائف الخروج من الحالة الطائفية في اتجاه تعزيز الدولة المدنية دون إلغاء الطوائف بما هي مصدر تنوع وغنى، لكن النصوص التي ترجمت هذه الفكرة جاءت معقدة، غير واقعية ولم تواكبها أية ظروف داعمة، بل على العكس. فالمادة 95 لا تزال حتى 2020 تطرح إشكاليات في التطبيق، ناهيكم عن عدم تشكيل الهيئة الوطنية. والمادة 22 من الدستور التي قالت باستحداث مجلس للشيوخ «تتمثل فيه العائلات الروحية» (لاحظوا تلطيف التعبير المستعمل للدلالة على الطوائف) ربطت هذا الاستحداث بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، فتعطّلت الآلية. والمادة 24 من الدستور التي أشارت إلى توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين لم تلحظ تمثيل اللاطائفيين المنتمين إلى «طائفة القانون العادي» ولا اليهود اللبنانيين (وهؤلاء ليسوا صهاينة) فمنع النص الدستوري تمثيل هاتين الفئتين. وبعد 30 سنة على اتفاق الطائف وتعثّر وتعذّر تطبيقه، يمكن القول إن الاتفاق، بما نصّ عليه كما وبالطريقة التي طبّق أو لم يطبّق فيها، قد أدى عمليا إلى تعميق أزمة النظام السياسي بدل حلّها. يكفي النظر إلى تعطيل آليات الحكم السليم وتعاظم الفساد السياسي وفترات الفراغ الطويلة للتأكد من أن الأمور تحتاج إلى إصلاح بنيوي لتأمين انتظام الحياة السياسية.

هل عدم تطبيق كامل بنود الطائف، وخصوصا تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ، هي الوقود المستمر في إشعال الخلافات اللبنانية، ام ان الامر سيان؟

هذه إحدى العناوين ولكنها لا تختصر الأزمة الدستورية. في اعتقادي أن ثمة ثغرات في الدستور لا بد من مقاربتها وهي تتعلق بالمؤسسات الدستورية وانتظام العمل فيها، كغياب بعض المهل، مثلا، كأن يبقى تشكيل الحكومة مفتوحا في الزمن. في كل دول العالم تطرأ أزمات حكم وإدارة ولكن الدستور، أي القانون الأساسي وهو الأسمى، يبقى المرجع والحل. للأسف، تحوّل الدستور في لبنان إلى وجهة نظر يختبئ وراءه البعض في تفسيرات غريبة عجيبة دعما لمواقف سياسية يتخذونها. وللأسف أيضا، لم يعطَ المجلس الدستوري عندما أنشئ عام 1990 صلاحية تفسير الدستور، بل حُجبت عنه قصدا.

ما الثغرات الكبرى التي افرزتها ممارسة الطائف حتى الآن؟

الثغرة الأبرز كانت ولا تزال عدم تطبيقه وأحيانا سوء تطبيقه. بعض ما ورد فيه لم يطبّق إطلاقا حتى الآن، أي بعد ثلاثة عقود على إقراره، كاللامركزية الإدارية، وهي إصلاح أساسي وجوهري وتغييري وكذلك مقاربة الطائفية السياسية بجرأة وصراحة. وبعض ما ورد طبّق متأخرا. وفي التطبيق، تبيّن أن بعضا مما أقرّ في الطائف لا يؤدّي فعلا الغاية المرجوة منه.

وأسوق مثلا على ذلك: أكثرية الثلثين في مجلس الوزراء بالنسبة لبعض المواضيع المسمّاة أساسية. الغاية منها كانت ضمانة حصول القرار في إحدى هذه المواضيع على أكثرية موصوفة في التصويت، فإذا بضمانة الثلثين تُقابَل بالثلث المعطّل! اللائحة تطول في موضوع الثغرات الدستورية التي لا بد من فتح ورشة إصلاحية بشأنها لا تعيد النظر بالضرورة بالأساسيات وإنما تقارب الثغرات التي منعت ولا تزال تمنع انتظام الحياة السياسية على الوجه الصحيح الذي يؤمن الاستقرار المطلوب ومشاركة الجميع في الساحة العامة. الديمقراطية لم تعد مفهوما عدديا. الديمقراطية هي حماية الأقليات وإشراكها في القرار، أكانت أقليات سياسية أو فكرية أو ثقافية… الأقليات ليست فقط طائفية.

أخيراً، هل يمكن فتح باب تعديل الطائف الان، ام انها خطوة متهورة غير محسوبة النتائج؟

بعد ثلاثين عاما على إقراره، المطلوب الحدّ الأدنى تقييم اتفاق الطائف بجرأة وصراحة ودون عقد أو أفكار مسبقة. وهذا أمر صحي ويجب أن يحصل. أما التعديل الدستوري، بمعنى الدخول إلى الجمهورية الثالثة، فهو مطلوب أيضا من وجهة نظر إصلاحية تنقل لبنان إلى حال أفضل، لكن هكذا تعديل يحتاج إلى مجلس نيابي غير مشكوك بصحة تمثيله يستطيع أن يتخذ قرارات تحمي لبنان الرسالة ومعنى لبنان لعقود قادمة، وإلاّ، فمؤتمر تأسيسي أخشى من أن يكون على قاعدة غالب يفرض فيه رأيه على مغلوب. لذلك أرى أن قانون الانتخاب جوهري لإنتاج حالة تمثيلية حقيقية تأخذ على عاتقها مناقشة ما يلزم من أمور بذهنية منفتحة، جامعة، وعلى قاعدة أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، على ما ورد في مقدمة الدستور.


معالي الوزير د. عدنان السيد حسين: ثمة ايجابية كبيرة طرحها اتفاق الطائف وهي الغاء الطائفية

1- الشائعُ أنّ اتّفاق الطائف سمح بإنهاء الحرب الأهلية الطويلة 75 -90 ، ولكن أبعد من ذلك ما الثغرات برأيكم في الدّستور والنظام اللبناني السياسي التي استدركتها إصلاحات وثيقة الطائف كما باتت تُسَمّى ؟

معالي الوزير د. عدنان السيد حسين

اتّفاق الطائف، أو وثيقة الوفاق الوطني، عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين جاء تتويجاً لمجمل الأوراق والمشاريع الإصلاحية خلال الحرب الأهلية. من الإصلاحات التي طرحها الرئيس سليمان فرنجية، إلى المبادئ الوفاقية للرئيس الياس سركيس، إلى أفكار متراكمة طرحها قادة لبنانيون ومراجع عربية ودولية…
اللافت في هذا المسار الطويل موافقة مجلس الأمن الدولي على اتفاق الطائف في بيان جماعي، أي ثمة غطاء دولي فضلاً عن المواكبة العربية من خلال لجان المتابعة المتواترة. ويمكن القول إنّ التفاهم الأميركي – السوري- السعودي على هذا الاتفاق كان مُحِقّاً، فضلاً عن الموافقات الأوروبية وغيرها من القوى الدولية.
صحيح، إنّ الاتفاق أنهى الحرب الأهلية في لبنان، بيد أنه تضمّن مبادئ وأفكاراً إصلاحية تحوّلت إلى مواد دستورية، وشتّان ما بين النصوص المكتوبة والتطبيقات الفعلية على أرض الواقع!.
أهم الإصلاحات التي تضمّنها الاتفاق: المبادئ العامة التي أجابت عن سؤال مركزي هو: أي لبنان نريد؟

لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، أم لبنان عربي الهوية والانتماء أم لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريّات العامة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات بين «جميع المواطنين» دون تمييز. والشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، وفصل السلطات وتوازنها وتعاونها. والنظام الاقتصادي الحر. والإنماء المتوازن للمناطق. وأرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين، ولا شرعية لأيّة سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك؟.
لا نعتقد بوجود أيّة حاجة، أو ضرورة ، لتعديل أو تغيير هذه المبادئ الأساسية. بيد أن المعضلة تكمن في التطبيق، ولذلك أسبابه الداخلية والخارجية.

في مُجمل الأحوال لا يصح طرح السؤال مجدّداً: أيَّ لبنان نريد؟
إلى ذلك، ثمة إيجابية كبيرة طرحها اتفاق الطائف هي: إلغاء الطائفية. حسبنا هنا مراجعة المادة 95 من الدستور التي دعت لتشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، وألغت فوراً طائفية الوظائف العامة في الدولة باستثناء وظيفة الفئة الأولى التي ظلّت موزعة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين «دون تخصيص أيّة وظيفة لأيّة طائفة». إنها العبارة اليتيمة التي يتناساها جميع أهل الحكم.
هناك إصلاحات عدّة تضمنها الاتفاق: إجراء انتخابات عامّة نيابية خارج القيد الطائفي، وتشكيل مجلس شيوخ طائفي للبتّ بالقضايا المصيريّة فقط، مع إعادة النظر بالتقسيم الإداري، وإناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً.
واعتماد خطّة إنمائية موحَّدة شاملة للبلاد.
وإنشاء مجلس دستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين…
وتدعيم استقلال القضاء بانتخاب عدد مُعيّن من أعضاء مجلس القضاء الأعلى من قبل الجسم القضائي.
وتوفير العلم للجميع وجعله إلزامياً في المرحلة الابتدائية على الأقل. وإصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني، وإصلاح اوضاع الجامعة اللبنانية، وإعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين…
وإعادة، تنظيم الإعلام في ظل القانون وفي إطار الحريّة المسؤولة بما يخدم التوجّهات الوفاقية وإنهاء حالة الحرب.
وإقرار حق كل مُهجَّر بالعودة إلى المكان الذي هُجِّر منه.
كل ذلك، وغيره، جاء في النصوص. بيد أن التطبيقات لم تحصل، وإن حصل بعضها فإنّه جاء بصورة مشوّهة!

2- من وجهة سياسية ودستورية، هل بدلت إصلاحات وثيقة الطائف من الطبيعة الجوهرية للنظام السياسي اللبناني، أم اكتفت بتعديلات وتصحيحات خارجية وحزبية؟

لأنّ اتفاق الطائف لم يُنَفَّذ؛ لا نستطيع قياس أهمّيَّته التغييرية إلّا مع التطبيق بلا هروب وبلا مواربة .
ثمّة إصلاحات مهمَّة تضمّنها الاتفاق كما أشرنا، بيد أنَّ القيِّمين على لبنان الوطن ولبنان الدولة بعد الطائف لم ينجحوا في تحويل الاتِّفاق إلى ممارسات تطبيقية. بل اتّخذوه مظلّة للاستئثار بالحكم والسلطة، مرّة باسم الطائفة، ومرّة بالاستقواء بالوصاية السورية وغيرها من الوصايات القريبة والبعيدة.

ولأنّ الإصلاح السياسي هو أساس الإصلاح في الدستور والقانون، أخفقنا في بناء الدولة عندما أخفقنا في تحقيق الإصلاح السياسي، وعليه فإنَّ المعضلة لا تكون في غياب النصوص، وإنّما في غياب الإرادة السياسية الوطنية والظروف الخارجية المساعدة على الإصلاح.
لذلك، بقي النظام السياسي اللبناني يدور في الفلك الطائفي والمذهبي بل والاقطاعي، وظل الدستور مجرّد مواد مكتوبة.

3- بعد 30 سنة من توقيع اتفاق الطائف، وتحوّل الوثيقة الى جزء من الدستور، هل في الوثيقة بنود لم تُنفَّذ؟

نجيب بكل صراحة؛ اتفاق الطائف لم ينفّذ، وما جرى تنفيذه جزئياً تحت هذا العنوان الكبير حصل بما يخالف جوهر الاتفاق، أو جوهر العقد الاجتماعي بين اللبنانيين.

ظلَّ بعض اللبنانيين يسألون: أيَّ لبنان نريد؟ علماً بأن الجواب كامن في مقدَّمة الاتفاق التي صارت حرفيّاً مقدَّمة للدستور.
اتفاق الطائف جاء ليلغي الطائفية على مراحل، لكن ما حصل هو تعميق للطائفية، ثم للمذهبية، فضلاً عن إثارة العصبيات بما يناقض القانون الجزائي اللبناني الموجود قبل الحرب الأهلية!
اتفاق الطائف لم يلغِ صلاحيات رئيس الجمهورية، وإنما نقل جزءاً منها لمجلس الوزراء مجتمعاً، وليس لرئيس مجلس الوزراء! نشير هنا إلى أنّ أهم صلاحية لرئيس الجمهورية بقيت في عهدته هي: «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلّا عند خرقة الدستور أو في حال الخيانة العظمى». إنها صلاحية عظيمة لرئيس الجمهورية في الفقه السياسي والدستوري.
إلى ذلك، جميع الانتخابات النيابية التي حصلت بين عامي 1992 و 2018 خالفت اتفاق الطائف، الدائرة الانتخابية هي المحافظة، ذلك لم ينفّذ. وصار إجراء الانتخابات «خارج القيد الطائفي» حلماً من الأحلام!…
وانتزع مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور من المجلس الدستوري. تلك هرطقة دستورية.
وفوق كل ذلك، انتشرت عبارة «الرئاسات الثلاث»، علماً بأنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة أي إنّه رئيس مُجمل المؤسّسات التي تتضمنها الدولة، في حين أنّ رئيس مجلس النواب هو رئيس السلطة التشريعية حصراً، ورئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء حصراً، وتالياً، يمكن القول إنَّ تشكيل «ترويكا الحكم» من الرؤساء، الثلاثة منذ العام 1992 هو مخالف لجوهر الاتفاق والدستور، بل هو هرطقة دستورية.

أين تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة؟، عِلماً بأن هذه اللامركزية لا تعني في حال من الأحوال اللامركزية السياسية أو الفيديرالية التي يطرحها بعض الفئويين الذين لا يفقهون قواعدها ولا يعرفون نتائجها!.
أمّا إستقلال القضاء فقد طُعِن غيرَ مرة. وهل نصدّق أن لبنان الذي عرف قضاءً فاعلاً ونزيهاً قبل العام 1975 يتعرّض للإحتواء من السياسيين حتى صار مطلب استقلال القضاء مطلباً عاماً للبنانيين منذ انتفاضة تشرين الأول 2019؟.
وماذا بقي من التعليم الرسمي الذي سجّل أهم الإنجازات الأكاديمية بين الدول العربية؟
ولماذا محاصرة الجامعة اللبنانية، ونحن الذين نعلم كيف تُحاصَر وتُصادَر استقلاليّتها كمؤسّسة عامة مستقلّة؟

4 – بعد 30 سنة من ممارسة الطائف، ما الثغرات أو النواقص التي برزت، وبخاصة في ما يسمى تنازع الصلاحيات بين الرِّئاسات الثلاث؟ وما هي التعديلات التي تبدو ملحَّة لتُضاف الآن؟

أشرنا إلى بدعة ترويكا الحكم، واستنادها إلى الطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة والسنّة والشيعة)، بما يقود إلى إدارة الدولة بالتوافق الثلاثي وهذا مخالف للمادة السابعة من الدستور ولمفهوم الشعب الذي هو مصدر السلطات والسيادة الوطنية.
راحت كل سلطة من السلطات الثلاث تستقوي بطائفتها في مواجهة الطائفتين المقابلتين. هذا ما قاد إلى تعطيل عمل مؤسّسات الدولة أو وقوعها في التعثّر الوظيفي.
يبقى السؤال: ماذا عن صلاحيات الطوائف الثلاث الأخرى، والمعيار هنا القوة العددية كما درج المسؤولون في هذا النظام السياسي؟ ونقصد هنا طوائف الموحِّدين الدروز والأرثوذكس والكاثوليك. وإذا ما تم إرضاء هؤلاء بالمحاصصة – وبما يناقض مبدأَيِّ المساواة والعدالة – ماذا عن بقية الطوائف، وكيف ستشارك في الشأن العام مثل طوائف: العلويين والسريان والبروتستانت واللاتين وغيرها؟.
كل ذلك يكشف هشاشة النظام السياسي الطائفي الذي عطّل ويعطّل الحياة الدستورية. ولا بدّ والحال هذه من تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، واعتماد الانتقال التدريجي إلى المداورة في تولِّي رئاسة السلطات تمهيداً لإلغاء طائفيّتها نهائياً.
ولنتذكر جيداً بأن أوّل رئيس للجمهورية في عهد الإنتداب الفرنسي كان شارل دباس الأرثوذكسي، ثم تولّى لاحقاً رئاسة الجمهوية أيّوب ثابت البروتستانتي، فهل تراجعت حقوق البلاد والعباد في هذه الحال؟

5 ـ هل بالإمكان الزعم أنّ وثيقة توزيع الصلاحيات على عدد من المواقع هو نموذج يمكن النّصح به في المجتمعات ذات المكوّنات الاجتماعية والثقافية والدينية المتعددة والتي تعاني الاضطراب؟

من المستحيل توزيع الصلاحيات على 18 طائفة في لبنان، أمّا المعيار العددي فهو مناقض لمقدمة اتفاق الطائف والدستور من حيث هو مجافٍ لحقوق الانسان ولمفهوم الشعب، الذي يجب أن يكون مجموع المواطنين لا مجموع الجماعات.
ثمّة مبالغة مقصودة بإظهار التعدّدية الطائفية، وأحياناً الثقافية، بين اللبنانيين، علماً بان دولة الهند – على سبيل المثال – تضم أكثر من 120 لغة وقومية، وأنشأت أكبر ديمقراطية في هذا العالم. كما أن الولايات المتحدة الأميركية تتكوّن من خليط عالمي في الدين والشكل واللون والثقافة، ومعضلتها تكمن في التمييز العنصري الذي تمارسه الأكثرية البيضاء ذات الأصول الأوروبية!.
أخطر ما في لبنان، أن يطرح بعض المراهقين في الفكر السياسي والدستوري الحل الفيديرالي؛ فالفيدرالية تقوم على وحدة السياسة الخارجية ووحدة السياسة الدفاعية إلى وحدة النقد الوطني . والفيدرالية تقوم بين ولايات منفصلة، وفي مساحة كبرى من الأرض، ولا تنشأ ضمن دولة واحدة ذات الشكل الدستوري البسيط كما هي الحال في لبنان الصغير المساحة.
ما يمكن النّصح به في الحالة اللبنانية، إطلاق فكرة المواطنة في الفكر والثقافة، ثم في السياسة، بالتزامن مع إرساء حكم القانون في ظل استقلال السلطة القضائية، ونشير هنا إلى أنّ ما يجمع اللبنانيين في الثقافة والعادات الاجتماعية أكثر ممّا يفّرقهم، هكذا كان الرّيف اللبناني أساس الاجتماع في إطار اللغة العربية، وهذا ما لا يُضير الانفتاح على العالم.

6 ـ وأخيراً، خارج المجال السياسي والدستوري، هل لحظت وثيقة الطائف، أم قصّرت في لحظ الاختلالات البنيوية المتّصلة بالتنمية غير المتكافئة في قطاعات الاقتصاد كما بين جهات الوطن… وهي الثغرة التي دخلت منها كل الاضطرابات التي عانت منها البلاد منذ الاستقلال ؟

ينطوي هذا السؤال على الرّصانة، ومقاربة الحياة الاجتماعية وتالياً السياسية بكل مسؤولية.
صحيح أنّ إتفاق الطائف تحدث على الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً، واعتبره ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام. هذا صحيح، ولكنه بقي بلا تنفيذ، لا بل يمكن القول بوجود فوضى عارمة في أيّة مقاربة – ولا نقول خطّة – تنموية، حسبنا الاعتراف بأننا الدولة الوحيدة في هذا العالم التي تفتقر إلى النقل المشترك !
نحن من الدول الفاشلة في إيجاد حل سريع لمشكلة الكهرباء، وما لذلك من نتائج سلبية في الاقتصاد والاجتماع والمالية العامة.
ونحن مُصنّفون في خانة الدُّول الأكثر فساداً في العالم ، فماذا يبقى من دور لوطن الرسالة؟
أهدرنا ونهدر اليوم أربع قدرات إنتاجية للبنان على الرّغم من الحروب والمآسي التي تعاني هذه القدرات الوطنية إنّها: المياه العذبة، والصناعة السياحية، والتعليم العالي، والطب والاستشفاء!
في الإنماء المتوازن، ونفضّل عبارة الإنماء الشامل، نقترح اعتبار لبنان وحدة اجتماعية وجغرافية واحدة Unit) ) ذلك في توفير المياه والكهرباء والنقل المشترك والصحة العامة وحماية البيئة الطبيعية والتعليم العام .

7 – ملاحظاتكم الأخيرة…

إذ نشكر مجلة الضّحى التي تصدّت لهذا الموضوع الحيوي والمصيري، نقترح الأولويات الآتية :
أ – الانطلاق من استقلال القضاء أوّلاً، من خلال إقرار قانون جديد يتيح بناء السلطة القضائية بالانتخاب من جانب القضاة، و يمنحها الحصانة المطلوبة للقيام بواجبها الوطني.
ب – التربية على المواطنة في مناهج التربية والتعليم من مرحلة التعليم الأساسي إلى التعليم العالي.
ج – اعتماد لبنان وحدة جغرافية واحدة في الإنماء الشامل، بالتزامن مع تمكين القضاء من مكافحة الفساد.
د – اعتماد قانون مدني موحّد للأحوال الشخصيّة، بما لا يتناقض مع جوهر الشريعة الاسلامية الهادف للخير العام، وبما لا يتعارض مع البعد الانساني الذي تحمله المسيحية.
هـ – اعتماد المحافظة مع النظام النسبي في الانتخابات النيابية العامة، تمهيداً لاعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة في مرحلة لاحقة.
و – التمسك بالإصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف شريطة وضع برنامج زمني للتنفيذ.


 

عن “الطائف” والحاجة له: لا تلعبوا بالنار!
أ. رامي الريس

أ. رامي الريس (كاتب سياسي)

كُتِبَ الكثير عن اتفاق الطائف، عن ظروف ولادته واستمراره، عن دوره في إعادة توزيع الصلاحيات السياسيّة بين المؤسسات الدستوريّة، وعن المعاني «الطائفيّة والمذهبيّة» لعمليّة إعادة التوزيع هذه، وعن عدم تنفيذ العديد من بنوده لا سيّما الإصلاحيّة منها، وعن مدى الحاجة إليه بعد نحو ثلاثين سنة من ولادته.

وكُتب الكثير أيضاً عن تعديله: «بالممارسة»، وهو ما يعني عملياً انتهاك الدستور ومخالفة أحكامه، لأن بنود الاتفاق تم إدخالها في نصوص الدستور سنة 1990 وأصبحت نافذة منذ ذلك التاريخ ويفترض احترامها من كل القوى السياسيّة. فغريب كيف يمكن لأطراف معيّنة أن تفاخر بانتهاكها الدستور ومخالفته بهدف تحقيق غاياتها السياسيّة ومصالحها الفئويّة الخاصة.

وإذا كان هذا السلوك يدّل على شيء، فإنه يدّل على أن الثقافة الدستوريّة معدومة لدى البعض، ومفهوم الدستور الذي يسمو فوق كل القوانين ويظلّلها هو مفهوم مجتزأ بالنسبة لها ومشوّه بما يخالف أبسط أصول الأداء المؤسساتي والسياسي في الديمقراطيّات العريقة التي لا تقبل أن تحيد عن تطبيق الدستور بل تؤكد احترامها له عند كل محطّة ومنعطف.
إذن، المشكلة في لبنان تكمن في جانب أساسي منها في احترام الدستور وتطبيقه. فالتطبيق هنا مرتبط بتفاهم القوى السياسية! إذا لم تتفق الأطراف السياسيّة على تطبيق الدستور تعلّق بنوده، بكل بساطة! هذا يعني أن اللاعبين السياسيين هم فوق الدستور، وفوق القانون بينما المفروض أن الدستور هو الذي يحدّد أدوارهم وصلاحياتهم!
السير على درب تكريس الثقافة الدستوريّة واحترامها يتطلّب مسافة زمنية من الوقت، ولكن الأهم أن يتطلَّب ترفّعاً وسموّاً في السلوك السياسي لدى مختلف مكوّنات المجتمع اللبناني.

ثمة قوى سياسيّة لبنانيّة شوّهت فكرة حق المشاركة في السلطة وحوّلتها إلى حقٍ في التعطيل، بدل أن تتيح «الديمقراطيّة اللبنانيّة» مجالات المشاركة لمختلف القوى إنطلاقاً من طبيعة التركيبة السياسيّة المحليّة القائمة على التعدديّة والتنّوع بما يحول دون شعور أي من المكونات بالغبن والإجحاف والتهميش، وبذلك تحوّلت العمليّة السياسيّة اللبنانيّة إلى ما يشبه التفاهمات القبَلية التي تستطيع من خلالها «القبائل المتصارعة» أن تمارس حق النقض ضد بعضها البعض.

لقد نصّ إتفاق الطائف على عددٍ من البنود الاصلاحيّة التي لو أتيح المجال لتطبيقها، لكانت ساهمت في إرساء أسس الدولة المدنيّة القائمة على المساواة بين اللبنانيين وعدم التمييز بينهم وفق انتماءاتهم الطائفية والمذهبية التي تقف حائلاً ووسيطاً ثقيلاً بينهم وبين دولتهم.

فوثيقة الوفاق الوطني اللبناني تضمنت بنداً يدعو إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة ومشاركة رئيسَيّ مجلسي النواب والوزراء وشخصيّات وطنيّة من اتجاهات مختلفة ولها صفاتها التمثيليّة لدراسة الخطوات السياسيّة والتنفيذيّة الآيلة لإلغاء الطائفية السياسيّة. ومن المنطقي أن تسعى الهيئة المذكورة، التي لم تُشكّل بعد، إلى مراعاة كل الهواجس والمخاوف التي يمكن أن تتولد لدى الطوائف والمذاهب التي توّلت إدارة الحكم في لبنان منذ ما قبل الاستقلال بشكل أو بآخر. فليس المتوقع أو المطلوب أن تُتَّخَذ خطوات فورية جذرية دون الإعداد لخطة انتقالية مرحليّة تلحظ سبل توفير مقومات الانتقال السلس والهادىء والتدريجي نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة. ومع كل ذلك، يشكل مجرد طرح إنشاء الهيئة (وليس الإلغاء الفوري للطائفيّة السياسيّة) موجة هائلة من الاعتراضات السياسيّة المختلفة التي خنقت الاقتراح في مهده.

إنَّ الإجهاض المتتالي لكل المحاولات الإصلاحيّة وإجهاضها قبل ولادتها يؤكّد أن حالة الاحتباس السياسي مرشَّحة للاستمرار إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلة، ويؤكد أيضاً أن النفاذ نحو دولة مدنيّة تراعي مرتكزات احترام المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعيّة والمساواة والإنماء المتوازن وكل عناصر الدولة الحديثة التي يطمح إليها المواطنون، دونه عقبات جمّة.

كما أنّ الإصرار على إفشال تطبيق الخطوات الموازية لإنشاء الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة مثل تشكيل مجلس الشيوخ لضمان حسن التمثيل الطوائفي وتحرير الحياة البرلمانيّة واليوميات السياسيّة من الاعتبارات الطائفيّة يؤكّد مرة أخرى الإصرار على إبقاء نظام المحاصصة التقليديّة هو السائد.

أمّا ما هو أكثر خطورة ويستهدف ليس اتفاق الطائف فحسب، بل الوحدة الوطنيّة اللبنانيّة برمّتها، فهو ما يُطرح من مشاريع تقسيميّة وفدراليّة تذكّر ببعض ما سبق أن طُرِح في حقبة الحرب الأهليّة وتم تجاوزه بكثير من التضحيات والدماء، فإذا به يطلُّ برأسه مُجدداً ناسفاً صيغة العيش المشترك التي كرسّها اتفاق الطائف وسعى لتحصينها.
هل لا تزال الحاجة لاتفاق الطائف قائمة؟ بكل تأكيد، ليس لأن هذا الاتفاق «مقدَّس»، فليس ثمّة مقدّسات في السياسة؛ بل لأن التفاهم على صيغة سياسيّة بديلة أو عقد اجتماعي جديد في الظروف الراهنة يبدو مستحيلاً بسبب اختلال موازين القوى الداخليّة بشكلٍ كبير، من جهة؛ وبسبب احتدام الصراعات الإقليميّة الكبرى من جهة أُخرى، ما يجعل مجرّد التفكير باستيلاد ميثاق وطني جديد مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد.

من هنا، هل يمكن رمي البلاد في المجهول؟ وهل يمكن الترويج لمؤتمر تأسيسي جديد في الوقت الذي يعجز فيه اللبنانيون عن معالجة أبسط الملفات كالكهرباء والنفايات والبيئة والطبابة وسواها؟ هل يمكن الاستمرار بخرق الدستور كلما أتاحت الفرصة ذلك ومواصلة السياسات الشعبويّة ولو كان على حساب المصلحة الوطنية والاستقرار والسلم الأهلي؟

كل هذه الأسئلة المشروعة تعكس صعوبة الوضع اللبناني الذي اتّجه نحو الانهيار بفعل غياب المعالجات الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة ما فاقم الأزمات المعيشيّة وزاد من تعقيداتها ومشاكلها، وأسقط آمال اللبنانيين وأحلامهم وطموحاتهم بدولةٍ توفّر لهم مقومات العيش الكريم الذي يليق بهم.

لبنان يعيش أقسى الأزمات في تاريخه المعاصر، وبداية الحل تكون في تطبيق الدستور والتمسك باتفاق الطائف وإطلاق أوسع عملية إصلاح سياسي وإداري، وليس بنقض هذه المرتكزات الميثاقية التي أصبحت ضرورية أكثر من أي وقتٍ مضى.
هل «الطائف» ضرورة؟ نعم، بالتأكيد. لا تلعبوا بالنار!


لقاء مع سعادة القاضي عبّاس الحلبي: يجب الإسراع في انشاء مجلس الشيوخ
سعادة القاضي عبّاس الحلبي

1. رافقتم المُداولات التي قادت إلى عقد مؤتمر الطائف سنة 1989، هل كان من حل ممكن لإنهاء الحرب الأهلية الطويلة 1975-1989؛ بغير اتفاق الطائف أو ما يشبهه؟

تشابُك الأزمات أدّى إلى الحرب الأهلية في لبنان ابتداءً مِن سنة 1975 أو «حروب الآخرين على لبنان» وفق توصيف الراحل الكبير غسان تويني وهذا لَم يكن ليؤدّي إلى وقف الحرب لَو لَم تتوفر للبنان فرصةَ تحقيق الحد الأدنى من الوفاق الداخلي اللبناني – اللبناني بين أفرقاء الصراع والوفاق العربي – العربي والوفاق الدّوْلي-الدولي وهذه ميزة اتفاق الطائف بأنه استطاع جمع كل الأفرقاء على مشروع حل. ذلك أنّ الحروب في لبنان انطلَقَت بِشرارتِها بين بعض الفلسطينيين وبعض اللبنانيين إلاَّ أنها سرعان ما فجَّرَت التناقضات العميقة في الداخل اللبناني وكادَت أن تطيح بتسوية سنة 1943 بين المسلمين (السنّة بالأساس) والمسيحيين (الموارنة بالأساس). ثم دخلت التيارات والمخابرات والأموال للعديد من الدول العربية وإسرائيل وكذلك بعض البلدان الأخرى. من هنا أهمية هذه الوثيقة بأن توفرت لها ظروف لا نراها هذه الأيام ممّا يقتضي العودة إليها والتمسُك بها ووقف التشاطر للالتفاف عليها من قبل السلطة الحاكمة وبالمحصّلة فإنه لا بديل لها.

2. يقال إنّ نصوص اتفاق الطائف عزّزت روح الميثاق الوطني للعام 1943 من حيث قبول الجماعات اللبنانية إعادة تعريف الكيان كصيغة تعدّدية ديمقراطية؛ ويقول آخرون إنّها بدّلت في معادلات الصيغة اللبنانية القائمة لجهة توزيع السلطة؛ كيف تَرَوْن الأمر؟

ليس من قبيل التكرار القول إنّ هذه الوثيقة قد أمَّنت للطوائف الرئيسية في لبنان أجوبة على هواجس تاريخية هي الخوف عند المسيحيين والغُبن عند المسلمين والحرمان لبعض شرائح المجتمع، فجاءت هذه الوثيقة تعطي الاطمئنان للمسيحيين بالقول إنّه مهما كان العدد عدد المسيحيين أو عدد المسلمين فإنَّ الوثيقة أخذت بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين. كما أمّنت للمسلمين رفع الشعور بالغبن وذلك بإعادة صياغة صلاحيات رئيس الجمهورية ومنح مجلس الوزراء مجتمعاً صلاحية السلطة التنفيذية كما أعطت هذا المجلس المُشكّل من ممثلين لجميع الطوائف اللبنانية الإمرة على القوات المسلحة التي أصبحت خاضعة لسلطة هذا المجلس وحصنت موقع رئاسة الحكومة كما حصنت موقع رئيس المجلس النيابي بجعل مدة ولايته أربع سنوات وهي مدة ولاية المجلس مع إمكان نزع الثقة عنه بعد مرور سنتين. وأقرت الوثيقة مبدأ الإنماء المتوازن لجميع المناطق حتى لا تشعر منطقة أنها محرومة وأخرى غير محرومة وأعطت ضماناً لهاجس يتشارك فيه جميع الطوائف بحفظ الجماعات بما يطمئن الدروز عن طريق إقرار قيام مجلس الشيوخ ولضمان حقوق هذه الطوائف بعد انتقال التمثيل النيابي إلى خارج القيد الطائفي. هذا عدا إقرار نهائية الكيان اللبناني وأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

إلّا أنّ هذه المبادئ جرى الانقلاب عليها بعد تبدل الظروف الإقليمية المحيطة بإقرار الوثيقة فجرت محاولات عديدة بواسطة قوانين الانتخاب وممارسة السلطة وابتداع الترويكا وحصر المؤسسات بالمذاهب وتوثُّب العديد من المسؤولين حصر التمثيل بأشخاصهم عن طريق المحادل الانتخابية وسوء التبذير والهدر والفساد في إقامة المشاريع حتى تحمَّلت الدولة أعباء مالية لا قبل لها على تحمُّلها. كما هُمِّشت شرائح واسعة من المجتمع اللبناني وتعاظمَ شعور الإحباط الذي لم يكن وقفاً على فئة دون أخرى.
إذاً فإنّ اتفاق الطائف أعطى مضموناً لميثاق 1943 دون أن يلغيه وهو ما عُرِفَ بمقدمة الدستور أو وثيقة الوفاق الوطني التي حددت المبادئ العشر التي تعتبر آية في الأدبيات السياسية في العالم.

3. و 4 هل أسهم اتفاق الطائف في تكريس طائفية النظام السياسي اللبناني واعتبار هويته الطائفية أبدية وهو أمرٌ لم يتضمّنه الدستور اللبناني؟ وما هي برأيكم أهم الايجابيات التي جاء بها اتفاق الطائف، أو نشأت عنه، وماهي السلبيات التي لم يكن بالإمكان تجنبها، أو التي برزت لاحقا بالممارسة؟

لا شك أن اتفاق الطائف انطلق من الواقع الطائفي ولكنه رامَ إلى الانتقال مِن دولة الطوائف إلى دولة المواطنة. وقد لحظ الدستور في المادة 95 منه آلية ولأول مرة للانتقال مِن مرحلة الطوائف إلى مرحلة المواطنة. ولكن هذه المادة كانت تقتضي مساراً يبدأ بقوانين الانتخاب وصولاً إلى التربية الوطنية وإسهام الإعلام في تهيئة النفوس لهذه المرحلة. ورأينا عكس ذلك في الممارسات فلجأ السياسيون إلى شد العصب الطائفي وصولاً أحياناً إلى إثارة الفتنة المذهبية والدولة عاجزة عن وقف ذلك نتيجة الوهن الذي أصابها والضعف في الحياة السياسية. فعوض عدم تخصيص أي مركز لأي مذهب أو طائفة، عمدَت السلطة إلى تكريس المذاهب في المراكز حتى باتت الإدارات مقاطعات مذهبية تُحشر فيها الأزلام والزبائنية على حساب تحقيق المصلحة العامة وهذا ما أدى إلى عقم الإدارة التي حُشر فيها المحسوبون على السياسيين وأرهقوا الخزينة وأفلسوها وأفشلوا عيش اللبنانيين.

ومن نتائج تطبيق المرحلة الانتقالية هو موضوع مجلس الشيوخ بعد إجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي. وعندما كنا في الطائف كنا نعتقد أنه بعد مضي ثلاث إلى أربع دورات انتخابية سنصل إلى مرحلة الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي ولكننا اليوم نعاني أكثر من تقهقر هذه المسيرة بحيث حُشِرَ اللبنانيون مجدّداً في المربعات المذهبية حتى وكأن انتفاضة 17 تشرين لم تَجرِ وهذا دهاء تجار الطائفية الذين يفقدون مبرّر وجودهم في حال إزالة العصب الطائفي أو التخفيف منه.
أنظر مثلاً في الفوضى السياسية والدستورية بأن مبدأ لا شرعية لأي سلطة تناقض مبدأ العيش المشترك تعني من ضمن ما تعني مفهوم المشاركة في السلطة دون إعطاء أي فريق مهما كانت أهميته حق النقض وذلك على قاعدة ضمان المشاركة وليس على قاعدة التعطيل فكما أن الديموقراطية التوافقية تقتضي أكثرية نوعية لاتخاذ القرارات فإنها أيضاً ومن باب أوْلى يجب أن تكون الأقلية نوعية لمعارضة هذا القرارات. من هنا أهمية الإسراع في إنشاء مجلس الشيوخ. إلّا أن هذه الأزمة على ما فيها من فوضى دستورية وأدبيات سياسية وطروحات إيديولوجية تخفي أزمة أعمق وأدق هي أزمة تحديد دور لبنان في المنطقة وفي الصراع العربي الإسرائيلي وارتباط لبنان بمحاور إقليمية داخلة في صراعات كبرى لا علاقة للمصلحة اللبنانية فيها، وإعادة تركيب السلطة بمشاركة الطوائف وأحجامها داخل لعبة السلطة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ وثيقة الوفاق الوطني قد حددت الأمرين المختلف عليهما وان لبنان بموجب هذه الوثيقة محدَّد الدور في الصراع العربي الإسرائيلي مما يقتضي تطبيق وتنفيذ القرار 1701 وأن يبقى نطاق حركة لبنان في هذا الصراع في وجهاته السياسية والثقافية والاقتصادية بما يمكنه من استعادة بناء قدراته وإقامة الدولة الجامعة.

لقد لحظت وثيقة الوفاق الوطني أنّ لبنان عند تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي يستطيع أن ينعم بالاستقرار على حدوده الجنوبية بنشر الجيش اللبناني على كامل ترابه الوطني وهذا الأمر قد حصل من جهة ومن جهة ثانية بوجود الآلاف من القوات الدولية أصبح أكثر مناعة ضد الاعتداءات الإسرائيلية. هذا فضلاً عن أنّ هذه الوثيقة قد أقرت منع التوطين للفلسطينيين وعلى الدولة بمعاونة المجتمع الدولي أن تجد حلّاً للوجود الفلسطيني بتكريس حقهم في العودة إلى أرضهم ووطنهم.

أمّا عن تركيب السلطة وتحديد الأحجام فإنّ هذه الوثيقة قد لحظت وجوب مشاركة الطوائف جميعها في السلطة وفق مبدأي المناصفة والمثالثة ضمن المناصفة. ولا أعتقد أنّ السعي الحثيث من قبل بعض الأطراف حالياً إلى الانقلاب على هذه الصيغة مستفيدة من نتائج حرب قامت بها أو من شعورها بأن الظرف الإقليمي يسمح لها بالانقضاض على هذه الصيغة أو من الديموغرافيا التي تُشكل لدى بعض الطوائف نقطة ضعف مركزية، أو فائض القوة، كل هذه الحالات لا يمكن الارتكاز عليها لقلب المعادلة التي أرستها هذه الوثيقة لأن للبنان خصوصية في هذا المجال.

5. هل طُبّق الطائف كليًّا أم أن بنوداً معينة لا تزال تنتظر التطبيق؟

أشرنا أعلاه إلى تغيّر الظروف المحيطة بلبنان والتي أدَّت إلى تعطيل بعض ما جاء في هذه الوثيقة ولكن أهم النقاط التي بقيت دون تطبيق هي مسألة اللامركزية الإدارية وإقرار قوانين انتخاب منسجمة مع أحكام الوثيقة وإعطاء دور أكبر للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في رسم السياسات وتحقيق استقلالية القضاء وإعادة سلطة تفسير الدستور إلى المجلس الدستوري وإعمال المادة 95 من الدستور وإقرار الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس الشيوخ.

لقد كرّس الدستور اللبناني بعد تعديلات 1990 آلية للحكم لم تحترمها غالبية الفئات السياسية التي تولت السلطة منذ إقرار التعديلات فعُطِّل الدستور وأطيح بالقوانين حتى بتنا نعيش في فوضى دستورية لغياب المرجعية الدستورية التي تفسر أحكامه وهذا ما أحبطته مساعي النواب في إبقاء هذه المرجعية لدى مجلس النواب عوض أن تكون لدى المجلس الدستوري كما كان المشروع الأساسي، لذلك دخلت السياسات في الدستور بحيث أضحى وجهة نظر، وهذا ما يفسّر «العصفورية» التي نعيش في ظلها اليوم. فلا مبدأ التوافق المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور والذي بموجبه يتخذ مجلس الوزراء قراراته الأساسية فُعِّل، ولا مفهوم الديمقراطية التوافقية كُرِّس، من حيث الرغبة في مشاركة الطوائف في القرارات الأساسية، ففُهِم أنها حق النقض، الفيتو، يُعطى لهذه الطائفة، أو تلك الفئة السياسية، ولا مفهوم السياسة الدفاعية في حصر دور لبنان إقليمياً في مشاركته في الصراع ضد العدو الإسرائيلي، فكانت ذريعة مزارع شبعا وسيلة لإعاقة استكمال تنفيذ بنود الطائف، وكانت المدخل الى تعطيل الحلول الوطنيّة والسياسية الناجزة التي اقترحتها وثيقة الطائف، وما تلا ذلك من تعطيل للسياسة الدفاعية التي أقرها لقاء بعبدا ودخول لبنان في المحاور بخلاف ما تم التفاهم عليه في إعلان بعبدا ولا حتى القناعة بالحصّة التي أعطتها الوثيقة في عملية توزيع الحصص التي أنتجت تركيبة السلطة بما ينذر بتغيير المعادلات والتوازنات القائمة، ولا إقرار قانون اللامركزية بحيث أبقى فئة ضاغطة على فئات ومنطقة مهيمنة على مناطق، ولا قانون الانتخاب الذي لم ينتج إلّا محادل انتخابية حصرت التمثيل السياسي بإرادة خمسة أو ستة زعماء يسيطرون على تمثيل الطوائف عن طريق اختصارها بتمثيل هذه الزعامات والسلسلة لا تنتهي ولا أزيد.6. بعد عشرين سنة على اتفاق الطائف، كيف تُقيِّمون تجربة الطائف؟ وإذا كان من ثغرات هل من آليّة عملية سهلة لتعديله؟

يحتاج اتفاق الطائف إلى رعاية لِصِيانته من التعدّيات التي تقَع على بنودِه خصوصاً «أنَّ المُولَجين بالتطبيق يتجاوزونه باستمرار ويعملون على إهمالِه والحكم من خارج نصوصه التي تكرَّسَت بالدستور وأصبحَت جزءاً لا يتجزّأ منه والتساؤل بعد كل الذي جرى هل يبقى هذا الاتفاق صالحاً» أم أنَّ المعطيات والممارسات تجاوَزَته وأصبح غير ذي فائدة بالرغمِ مِن كثرةِ الضجيج حوله والادعاء أنَّ الممارسة السياسية هي تحت سقفه!!.
التشكيكُ بالنصوصِ الدستورية بَلَغَ حدًّا « فَلَم يعد المواطن يعرف هل فعلاً» هناك دستور في لبنان تعملُ مِن ضمنِه المؤسسات إزاء الفوضى العارمة في التفسير وفي الممارسة أو التطبيق.
والسؤال الأهم كيف يحافظ اللبنانيون على الدولة ويُؤَمِّنون حمايتها من التحريف ومِن سوء الممارسة. وهل هناك فعلاً مَن هو مقتنع بالطائف، بعدَ أنْ تمَّ تطييف حتى النفايات والتعيينات والإنماء والأمن وسائر مناحي الحياة. أَوَليس هو الميثاق الوطني الذي يجمع اللبنانيين. فإعادة النظر بالطائف لا بدَّ وأن تؤدي إلى فك الميثاق على اعتبارِ أنه يشكِّل جزءاً منه وأن العبث بأحكام الدستور هو العبث بالميثاق؟.
كيف يمكن حماية الطائف وقد أظهر هذا الاتفاق يُتما» لا أحد يحميه من العابثين خصوصاً وأن أمر تنفيذه بِيَد المعارضين أساساً لَه».
والسؤال الأهم أنَّ الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي أملت على اللبنانيين الاتفاق سنة 1989 هل هي لا تزال متوافرة على أَيٍ مِنَ الصُّعد الثلاث؟.

فكيفَ للبنانيين أن يجتمعوا على رأي وهم الآن أكثر ما يكونون منقسمين حِيال أبسط القضايا فكيف على الأساسيات؟.
الطائف جاءَ بِهدَفِ وقف الحرب وبناءِ دولةٍ عصرية وَحدَّدَ موقع لبنان في الصراع في الإقليم والأهم أنَّه وزَّعَ دور كل الطوائف وأدخَلَها في تركيبةِ السلطة. فلماذا إذاً التشكيك به في وقتٍ يعجز اللبنانيون على التفاهم على قضايا أبسط من تلك؟.

إنَّ حماية الطائف هي مسؤولية جماعية فهلاَّ عمدَ المخلصون إلى توفير شبكة الأمان حتى لا نغدو يوماً بِلا ميثاق ولا دستور ولا دولة ولا بلد! من هذا المنطلق تجتمع نخبة من المثقفين والسياسيين والعاملين في الشأن العام لإنشاء مرصد الطائف وإصدار نشرة الطائف وكلاهما يهدفان لِرصد الممارسات والمخالفات وتقديم الشروحات بغية تصويب البوصلة التي يجب إتباعها لكي يبقى الحكم ضمن النصوص وليس خارجها.
المهمة الجليلة هي أولا وأخيرا برسمِ اللبنانيين لِضمانها.

7. أخيراً، كيف ترون مستقبل النظام السياسي اللبناني في ضوء مطالب الانتفاضة الأخيرة وبخاصة الشباب والتي بدا أنه لا يستجيب للتطورات المستجدة؟

مستقبل النظام السياسي مرتبط بمدى قدرة اللبنانيين على احترام المواثيق فيما بينهم وإلى إعادة الاعتبار إلى هذه الوثيقة وإعمال النص الدستوري وإقامة المؤسسات على النحو الذي كان مؤمّلاً وتفعيل ما تم إنجازه كي تعود الحياة السياسية أولاً إلى سَلميتها وثانياً إلى إقامة الدولة التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطني.

دعونا لا ننسى أن وثيقة الوفاق هي التي أنتجت دستور 1990 الذي وإن كانت تنقصه دقّة في بعض تعابيره وتعبيراته أو مِهَل من هنا وهناك أو ضوابط ناظمة، إلّا أنّه بالتأكيد نتاج حروب وأزمات وتسويات لو طُبّقت لكان جدير إذ ذاك، وفقط إذ ذاك، الحديث عن تعديلها بمعنى تطويرها. أمَّا وأنها لم تُطبَّق فالحديث عن تعديلها ضربٌ من المقامرة السياسية. وإنْ كان بالتشخيص الطبي العلاجي يدعونا دوماً أنطوان مسرّة إلى التفكير، نسأل: هل يُعقل في الطبيب أن يغيّر في وصفته الطبية طالما لم يجترعها المريض؟
مواثيقنا بل دساتيرنا قلّما تُقرأ. وإن قُرئت قلّما تُطبّق. وإن طُبّقت قلما يأتي التطبيق على الوجه الصحيح. والأهم أنها غالباً ما تفسّر وفق الأهواء السياسية وعلى طريقة رِمية الرامي غير المحترف.
ثم ولذلك فإن قراءة وثيقة الوفاق ومعها الدستور وتفسيرهما عند الاقتضاء لا يمكن أن يكون كمثل قراءة حرفٍ جامد. إن الوثيقة والدستور لهما أولاً وأخيراً روحٌ تنبثق من نزاعات ومخاضات وتسويات.

إننا مدعوون للتفكير بجدّ للإعلان بأنَّ أيّة محاولة لضرب وثيقة الوفاق الوطني أو الاستمرار في تعطيلها واسقاطها هو مشروع حرب جديدة بين اللبنانيين. ولا يظن أحد أن باستطاعته الاستفادة من القوة مهما بلغت على حساب التوازن الذي أرسته، وإنني بصدق أعتقد أن أيَّة محاولة لتجاوز الوثيقة وإسقاطها سيؤدي حتماً إلى فدرلة لبنان وأزيد إنّ هذه الوثيقة هي آخر المشاريع لإبقاء لبنان موحّداً كما أراده الآباء المؤسسون وكما نحن نرغب بالعيش فيه. أمّا مخاطر إسقاط الوثيقة فلا يمكن التنبؤ بتداعياتها ولن تستكين قوى كثيرة وطوائف بمحاولة تكريس هيمنة طائفة أو تيار سياسي على البلد خارج إطار الوفاق الوطني.

فلنستعجل العودة إليها حتى لا نشهد تقسيما للبلد الذي هو أصغر من أن يُقَسَّم وأكبر من أن يُبتَلع.
دعونا نعطي نموذجاً ناجحاً للبلاد من حولنا التي تتحضّر لاستيعاب التحولات التي شهدتها وليس أن نقدم نموذجاً سيّئاً إذا ما اتبعته دول في الجوار أكبر بكثير من لبنان فإنّ هذه المنطقة ستشهد مزيداً من عدم الاستقرار ممَّا سيؤدي إلى تقسيمها وإعادة النظر بحدودها وتركيبتها. إنَّ لبنان رسالة ولكن ليست هذه الرسالة ملكاً للبنانين، إنهم مؤتمنون عليها فعلينا المحافظة عليها بالمهج والأرواح والسلام.

أما من ناحية المخاطر المحيطة بلبنان فهو شعور الغلبة لدى حزب الله والمحور التابع له لربما يُخشى مع هذا الشعور وضرب وثيقة الوفاق الوطني واتفاق الطائف ووقف خطف الدولة والسعي لتعديل الدستور عن طريق الممارسة. وأولى الأخطار هو موجود من لا يؤمن باتفاق الطائف في سدة الرئاسة وكذلك دعم حزب الله له الذي يعتبر لبنان تفصيلاً في معركته الكبرى في الإقليم. كما أن انكفاء العرب عن لبنان يضعف الدولة واللبنانيين فينزلق النظام في لبنان من المشاركة إلى المساكنة بين الطوائف بما يُضيّع رسالة لبنان كمجتمع تعددي ليبرالي حر ويدحض مقولة البابا القديس الراحل يوحنا بولس الثاني أن لبنان أكثر من وطن، هو رسالة للمجتمعات التعددية.

.

“صفقةُ القرن”، أو “وَعْد بلفور الجديد”

مقدمة:

أ. د. محمد شيّا

بلفور

إذا كان «وعْدُ بلفور»، كما قيل فيه، «وَعْدُ من لا يملك إلى من لا حقَّ له»، هو فضيحة بريطانيا مطلع القرن العشرين، فإنَّ «صفقة الرئيس ترامب» التي أُعلنَ عنها في كانون الثاني 2020 هي بلا أدنى شكّ فضيحة الولايات المتّحدة مطلع القرن هذا. إلّا أنَّ المفارقة الصارخة هنا هي أنّه لم يكن مطلع القرن العشرين من ‘هيئة أُمم متَّحدة’ ولا «مجلس لحقوق الإنسان». ولا كان هناك أكثر من قرار للأمم المتحدة بدولة فلسطينيَّة مستقلّة في حدود 4 حزيران 1967. ولا كانت هناك أكثرية ساحقة في الأمم المتحدة تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه الوطنية والتاريخية، وبمنظّمة التحرير الفلسطينية ثم بالسلطة الفلسطينية ممثّلاً شرعياً للشعب الفلسطيني. وعليه، فإعلان ترامب، بل صُهرِه، لمُقتَرح سخيف يقوم على رَشوة الفلسطينيين ببضعة مليارات من الدولارات مقابل بيعهم لحقوقهم الوطنية مخالف لأبسط حقوق الإنسان، في حق كل إنسان، وكل شعب، أن يكون له وطن. وهو مخالف أيضاً لسلسلة طويلة من القرارات والتوصيات الدّولية بحق الفلسطينيين بدولة مستقلّة على كامل أراضي ما قبل حزيران 67.
لا يملك ترامب، ولا سواه، حقّ التصرّف بأرض لها هُوِّيَّة تاريخيّة، ومقوّمات وطنية، ينطبق عليها منطوق القانون الدّولي.
ولا تملك إسرائيل أن تتصرّف بالأرض الفلسطينية، تمزيقاً وتقطيعاً، فهي دولة تحتلُّ هذه الأراضي بالقوة العسكرية، وغير مسموح لها وفق القانون الدولي التصرّف بحدود الأراضي، وسكانها، بتأثير القوة العسكرية للاحتلال.
ولا يملك أيٌّ كان في العالم الحقَّ بالتفاوض على الحقّ الفلسطينيّ ومستقبل الأرض الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني، أو التصرّف بالثوابت تلك، نيابة عن أصحاب الأرض – الفلسطينيون ممثَّلين بسلطتهم الشرعية.
أكثر من ذلك، ربّما لا يملك الفلسطينيون أنفسُهم – وهم لن يفعلوا – أن يتخلَّوا عن حقوقهم الشرعية التاريخية بكامل أرضهم، وعن إقامة دولتهم المستقلّة، وتطبيق حق العودة للّذين هُجِّروا قَسراً من ديارهم.
قضيَّة الشعب الفلسطيني المُحِقَّة، في امتلاك أرضه الوطنية، وإقامة دولته المستقلَّة، وعودة اللاجئين، هي بكل دقة قضية إنسانية تخص الفلسطينيين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بالدرجة الأولى، وتخصّ أيضاً كلَّ الشعوب والجماعات التي يُراد لها أن تستسلم لمنطق القوّة والاحتلال والعَسف المتمادي..
هذا هو المنطق الذي يحكم مُقترح ترامب في ما أسماه «صفقة القرن»، وهي ليست في الحقيقة إلا «مؤامرة بداية القرن».
لن تنجح القوَّة ألأميركية الاقتصادية الطاغية اليوم، ولن تنجح الغلبة العسكرية الإسرائيلية في ميزان القوى الراهن، في إجبار الشعب الفلسطيني والشعوب العربيه معاً على التخلِّي عن أبسط الحقوق الفلسطينية، أو في تحويل مفاعيل الاحتلال إلى وقائع سياسية وحقوقية (فالاحتلال باطل وما ينشأ عنه باطلٌ بالتالي).
والأكثر إلفاتاً، أيضاً، هو أنَّ مُقتَرح ترامب الخطير هو إهانة لشعوب العالم الأخرى، ويعيد إلى الواجهة دعاوى الاستعمار الغربي في احتلال مناطق العالم وشعوبها، ونهب ثرواتها، وإعادة توزيع سكّانها، دونما أي سند قانوني أو حتى تاريخي – خلا الاستناد إلى منطق القوة والغلَبَة المادية (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية).

ويحقُّ لنا أخيراً التساؤل: هل هذه نهاية الطّريق لما بَشّر به هانتنجتون وفوكوياما وغيرهما من غُلاة العنصرية الأمريكية نهاية القرن المُنصرم؟ أم أنّه مجرد نزوع سياسي اقتصادي أمريكي مجنون لا يراعي حقيقة مواقف الأمريكيين أنفسهم، ولا يخدم على المدى البعيد مصالحهم لدى الفلسطينيين والعرب وسائر الشعوب الحُرّة؟
هوذا ما تحاول الإجابة عليه مُداخلات الملف الذي تفتحه الضّحى اليوم وربما نتابعه في أعداد لاحقة ايضاً.


كنيسة القيامة
صفقة القرن تداعياتها ومستقبلها

السفير حسّان أبي عكر

بدأ الإعلان عن صفقة القرن منذ ما يزيد عن نصف سنة وتمَّ تأجيلها غير مرّة، تارة بحجّة الاكتمال وطوراً بحجة إيجاد الفرصة المناسبة لعرض مشروع جلل بهذا القدر.
والوجه الأوّل لهذه الصفقة أو الصفحة الأولى منها أن جاريد كوشنير صهر الرئيس ترامب اليهودي ومستشاره للشرق الأوسط هو المسؤول عنها، وبمساعدة مسؤولين مكتومين من إدارة الرئيس ترامب، هم المخطّطون الرئيسيون فعلاً لهذه الصفقة بينهم مستشاران يقيمان داخل المستوطنات غير الشرعيّة في ضواحي مدينة القدس.
وحين أعلن عن الصفقة منذ أكثر من شهرين بدأت الصفحات أو المقومات الأولى تنكشف وارتبطت بالظروف الملائمة لكلّ من ترامب ونتنياهو. فالرئيس ترامب بدأ معركة التجديد لرئاسته الثانية وما يلزمها من مشاريع ووعود للناخبين وللهيئات الأميركية اليمينية واليهودية وللجمهوريّة المتطرفين.
أما نتنياهو الذي يعاند وما زال يقاتل للبقاء في رئاسة الحكومة والتخلص من ملاحقات القضاء الإسرائيلي له بتهمة الفساد واستغلال السلطة، وهو لا شك كان مطلعاً على الصفقة، فرأى في الإعلان مناسبة جديدة له للفوز بالانتخابات والالتزام بوعوده القديمة لليمين اليهودي، شريكه في حكومة الليكود.
وإذا كانت الصفقة قد تأخّر إعلانها تحضيراً للوقت المناسب المذكور سابقاً فقد بدأت المقدمات أو الصفحات الأولى تتوالى. فقد اعترف الرئيس ترامب بإلحاق هضبة الجولان بالكيان الإسرائيلي في مخالفة واضحة للسياسات الأميركية السابقة ولكامل مقررات الشرعية الدوليّة. ثمّ تبعه الاعتراف اللاحق باعتبار مدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. وكل هذا انتهاك لقرارات الأمم المتحدة ودون أي اعتبار لأصدقاء الولايات المتحدة وخاصّة دول الخليج العربي.
وبات من الواضح أن سياسة الرئيس ترامب منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة كان يضع الأولويّة في سياسته في الشرق الأوسط الوفاء بوعوده للّوبي الأميركي – اليهودي واليمين الأميركي الذي لا يرى صديقاً أو حليفاً في الشرق الأوسط إلا إسرائيل، ولا يشيطنّ إلا دولة إيران وتوابعها.
وكعادة دولة إسرائيل بانتهاز السياسات والفرص الأميركية في أوقات حرجة ومفصليّة لابتزاز المرشحين الرئاسيين عبر اللوبيات المتنوعة، فكيف إذا أضفنا إلى كل هذا انقسام إسرائيلي كان واضحاً في موسم انتخابي لعبت فيه الكتلتان المتنافستان كل أوراقهما للفوز بانتخابات ثالثة، تحدّد موقع رئاسة الحكومة أو تودي ببنيامين نتنياهو السجن وربما إلى إنهاء حياته السياسية كما حصل مع رئيس الوزراء السابق يهود أولمرت. ولكن يبدو أن الحبل قد ابتعد عن عنقه مؤقتاً.
وقبل إيجاز البنود التي تضمنتها هذه الصفقة الفريدة لا بد من تذكر عمليّة الإعلان التهريجية والتمثيليّة والتي وزع فيها ترامب الهدايا والتقدير والشكر لمنجزي هذا المشروع النبيل والمبارك. فما هي أهم بنود هذه الصفقة؟
– تتحول «دولة» فلسطين إلى خمس كانتونات أو غيتوات وتتصل بقطاع غزة بنفق طوله 56 كلم. ويبقى حوالي 400 ألف من سكان المستوطنات في أماكنهم، ليتحول صاحب الأرض إلى السجين.
– لا حاجة للسلاح لهذه الدولة إلا سلاح الشرطة، إذ ليس لها عدو!
– يبقى غور الأردن التابع للضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية لأسباب استراتيجية.
– يخصص مبلغ ستين مليار دولار للمشاريع الاقتصادية والتنموية لتتحول هذه «الدولة» إلى نموذج اقتصادي عالمي. (الصين خصّصت أكثر من هذا المبلغ لمكافحة وباء كورونا). ويخصص كذلك قسم من هذه المساعدات أو المليارات لدول المنطقة المجاورة كمشاريع ومساعدات مقابل إبقاء الفلسطينيين اللاجئين حيث هم موجودون، أي بتوطينهم (منها 6 مليارات للبنان أي أقل من هدر الكهرباء لثلاث سنوات!)
– هكذا تباع الأوطان! بتاريخها وحجرها وبشرها وبالجوار كذلك!

تداعيات صفقة القرن:
عبّر الطرفان الفلسطينيان عن رفضهما، القاطع للصفقة (وأطلق عليها لقب الصفعة) كل على طريقته:
– رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أعلن رفض منظمة التحرير للخطة وندد بالتنازلات الأميركية وبمخالفة كل مقررات الشرعيّة الدولية وتمسّك بالقدس الشرقيّة عاصمة لفلسطين وبحل الدولتين.
– منظمتا حماس والجهاد الإسلامي في غزّة حرّكتا الجماهير في تظاهرات رفضٍ إلى الحدود مع إسرائيل وانتهت بعدد من الضحايا. واعتبر الفريقان الفلسطينيان أن الرد العربي لم يكن كافياً رغم الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربية الذي تمسَّك بمقررات المبادرة العربية لعام 2002 وحلّ الدولتين والقدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين…
– غير أن هذا الرفض الكلامي قد تعوّدت عليه كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وأخطر ما في الأمر أن الصفقة قد دفنت حل الدولتين وكل المقومات السكانية والاقتصادية والسياسية لقيام أية دولة أو دويلة في المستقبل: إذ بالإضافة إلى تفتيت الضفة الغربية إلى أربعة تجمعات سكانية بات عدد البؤر الاستيطانية اليهودية يزيد عن أربعمئة ألف نسمة كما أسلفنا، وإذا نصّ أحد بنود الصفقة عن مرحلة انتقالية للتنفيذ تمتد إلى أربع سنوات فإن عدد المستوطنات سيزداد في هذه الفترة وهذا يذكرنا باتفاقات أوسلو والمراحل ألف وباء وجيم وقضم الأراضي. وها هو نتنياهو وقبل الانتخابات وقبل الانتخابات لم يتأخر عن توقيع قرار جديد ببناء مستوطنات جديدة.
– وإذا اعتبرت الأطراف الفلسطينية والعربية أن الصفقة ولدت ميتة فلا يعني أن الطرفين الإسرائيلي والأميركي سيتركانها بلا توظيف أو تطبيق. فالطرف الإسرائيلي سيستغل الرفض الفلسطيني ليتّهم كل الأطراف بالسلبية والتطرّف والإرهاب واعتماد العنف.
أما الإدارة الأميركية فستواصل سعيها لعزل الفلسطينيين وحرمانهم من المساعدات الدولية والضغط على الدول وعلى المنظمات لتقليص المساعدات نتيجة عدم التجاوب. لا بل ستزداد استجابةً لتحقيق مطالب المنظمات الصهيونية في موسم الانتخابات القادمة.

نظرة إلى المستقبل:
أما وان الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة لم تغيّر في السياسة العامة الاسرائيليّة في المستقبل المنظور، وأن التنافس الانتخابي بين الرئيس ترامب والديمقراطيين سيتم على الأرجح في أحد وجوهه على إغداق الوعود على اللوبي اليهودي، أو على معاقبة الفلسطينيين لعدم رضوخهم لصفقة القرن فيمكن مقاربة مستقبل القضية الفلسطينية من خلال الاعتبارات أو التساؤلات الصريحة التالية:
1- لم يعد حل الدولتين قائماً على الأرجح نتيجة بنود الصفقة وتغيّر الوضع الديمغرافي في الضفة كما أسلفنا – ولم تعد نتيجة لذلك المبادرة العربية لعام 2002 القائمة على حل الدولتين وعلى اعتبار القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، لم تعد فعلياً قابلة للعرض أو المفاوضات. وإذا لم يتم احترام مقررات الأمم المتحدة ولا الأخذ بعين الاعتبار المجتمع الدولي، فما بالنا بمبادرة السلام العربية.
وفي أتون الصراعات العربية والفوضى واهتزاز أسس وكيانات بعض الدول العربية، هل من مجال لاجتماع عربي أو لقيام مشروع يحظى بالإجماع العربي ليكون أساساً للتفاوض؟
2- في زمن مضى طرح مشروع لدولة واحدة في شعبين. فهل يعود هذا المشروع للتداول كواقع يُفرض على الفلسطينيين المحاصرين في الضفّة الغربية؟ إن ما يسمّى بالديمقراطية في الكيان الإسرائيلي ووجود أقليّة عربيّة تعيش داخل هذا الكيان الإسرائيلي ووجود أقليّة عربيّة تعيش داخل هذا الكيان وتشكّل خمس السكان: وقد نجحت هذه الأقليّة بإيصال 16 نائباً ونائبة في انتخابات شهر آذار الفائت (بينهم 5 نساء إحداهنّ درزيّة). أي أنها أصبحت القائمة الثالثة من حيث العدد في الكنيست الإسرائيلي. وقد تتحوّل إلى قائمة المعارضة الرسمية إذا ما تشكّلت حكومة اتحاد وطني. هل هذا يشجّع النخب الفلسطينيّة في الضفّة أو بعض الأحزاب في السير بمشروع دولة واحدة بشعبين كأمرٍ واقع؟ ورغم أن وضعت إسرائيل سابقاً شرطاً باعتبار إسرائيل وطناً يهودياً، فهل هذا الأمر ومنع حق العودة يعرقل السير في مشروع دولة واحدة بشعبين؟
3- بالمقابل وكلّما زاد الانفصال الأيديولوجي بين الضفّة وقيادة منظمة التحرير يصبح من الصعب توحيد مطالب القضيّة ويزيد من ابتعاد كوادر قطاع غزّة عن المجموعة العربية وعن مصر.
فهل من بوادر لمصالحة فلسطينية ترأب الصدع وتنطلق إلى حلول تجابه الحالة المأساوية القائمة؟
أخيراً تعيش منطقة الشرق الأوسط حالياً على أتون من الحرائق أو على فوهة مجموعة من البراكين تجعل أثار الدمار هائلة وواسعة وطويلة التأثير أو الاستيعاب.
فالدول العربية تترنّح وتتقاذف شعوبها الأمواج العاتية: دول ما زالت تحترق وتتآكلها ألسنة النيران، ودول تعالج نكباتها أو تستعد لنكبات آتية.
والصراع الأميركي-الإسرائيلي من جهة والإيراني من جهة يزيد من اصطفاف دول المنطقة ومن العقوبات عليها وعلى أتباعها في دول أخرى، مع احتدام الاشتباك الإقليمي في سوريا، كل هذا المناخ المقلق، بالإضافة ما زاد عليه فيروس كورونا من مصائب وانخفاض أسعار النفط – يجعل من الصفقة لصانعيها في أكثر الظروف ملاءمة، ولا يهم إن لم يتوفر شريك ثانٍ للصفقة – حتى أن الظروف التاريخية والاستراتيجية التي أوجدت وعد بلفور بعد الحرب العالمية الأولى ليست أسوأ أبداً من الظروف الحالية. ولا يخطئ البعض إذا ما خطر له أن يصف الصفقة بالمرحلة التالية المكمّلة لوعد بلفور.
وحتى لا يكون المشهد مأساوياً إلى مرحلة اليأس أو الاستسلام يبقى خيار التمسّك بالأرض والبقاء والصمود والمقاومة بكل الأساليب الممكنة الحل الأوحد، بانتظار تبدل الظروف وتغيير موازين القوى على امتداد المنطقة.


صفقةُ القرن في مُواجهة القانون الدَّوْليّ

العميد د. رياض شيّا

في الثّامن والعشرين من كانون الثاني / يناير 2020، وفي احتفال أُقيم في البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطّته المُنتظَرة للسلام في الشرق الأوسط المُسمّاة بـ «صفقة القرن» “Deal of the Century”، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو، وعدم حضور أيّ ممثّل للفلسطينيين.
تناولت هذه الخطة معظم المسائل المتعلّقة بالنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، مُقْتَرِحة مرحلةً انتقاليةً لمدّة أربع سنوات، وتعطي إسرائيل السيطرة على 30 % من الضفة الغربية وسيادتها على المستوطنات، وبقاء القدس مُوَحّدة كعاصمة لإسرائيل، وتشكيل دولة فلسطينية (رمزيّة)، وغير ذلك…
رفض الفلسطينيون بأجمعهم هذه الخطّة، وكذلك فعلت الجامعة العربية، وعارضها العديد من دول العالم والمنظّمات الدّولية، ومعظم منظمات حقوق الإنسان في العالم وحتى داخل الولايات المتحدة وداخل إسرائيل. وليس أدلّ على ذلك سوى ما صرّح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس تعليقاً على خطة ترامب: نريد اتّفاق سلام ثنائيّاً مبنيّاً على قرارات الأمم المتحدة، ووفقاً للقانون الدَّولي. ومنظمة السلام الإسرائيلية “B’Tselem” اعتُبرت الخطّة شكلاً من الفصل العنصري Apartheid.
أمّا في التقييم الأوّلي لخطّة صفقة القرن، فيمكن القول أنّها مخالفة بالكامل لمبادئ القانون الدّوْلي وللقرارات الدَّولية. وبسبب عدم استنادها إلى المعايير القانونية الدولية المستقرّة لحلّ النزاعات، فهي ليست وثيقة قانونية صالحة لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي المُمْتَد لسبعة عقود خلت من الزمن، والذي صدرت بشأنه عشرات القرارات الدولية التي تعترف بحقوق الفلسطينيين بإنشاء دولتهم المستقلّة وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم، مقابل عدم الاعتراف بكلّ الإجراءات الإسرائيليّة، وخاصّة رفض احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وتغيير معالم القدس، ورفض حركة الاستيطان الإسرائيلي، وغير ذلك من تداعيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
أمّا أهم المعايير القانونية التي خالفتها خطة صفقة القرن فسنعرض لها بالاختصار، وهي التالية:
أوّلاً – عدم الاعتبار لحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير:
إنّ الحق بتقرير المصير (Right to Self-Determination) هو من المبادئ الأساسيّة في القانون الدّوْلي، سيّما وقد تصدَّرَ الاتفاقيّات الرئيسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان الصادرة عام 1966 التي اعترفت بها جميع دول العالم، وقد تكرّس هذا المبدأ في كثير من القرارات الدّولية. وفي معرض الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، اعترفت الجمعية العامّة للأمم المتحدة بصورة علنيّة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، وفي ما يلي عيّنة من هذه القرارات. القرار رقم 2649 تاريخ 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1970، والقرار رقم 2672 تاريخ 8 كانون الأول / ديسمبر 1970، وفي القرار 3089 تاريخ 7 كانون الأول / ديسمبر 1973، وكذلك في القرار 3236 تاريخ 17 كانون الأول / ديسمبر 1974، وغيرها من القرارات.
وإذا كان المظهر الأوّل لحقِّ الشّعوب بتقرير المصير هو في الاستقلال وفي السيادة على أرض الدّولة وعلى كامل مقدّراتها السياسيّة والاقتصادية ومواردها وثرواتها الوطنية، فإنّ الخطة التي أعلنها ترامب تجرّد الشعب الفلسطيني من كل ما يؤمّن حقه بتقرير مصيره، وقد وضعت جميع مقدراته تحت السيطرة الإسرائيلية.

ثانياً – دولة فلسطينيّة منزوعة السيادة:
نصّت صفقة القرن على إنشاء دولة فلسطينيّة بعد أربع سنوات، عند نهاية الفترة الانتقالية، إذا وافق الفلسطينيون على الصفقة كاملة. تقوم هذه الدولة في القسم المتبقّي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد إلحاق المستوطنات وغور الأردن بإسرائيل والبالغة مساحتها أكثر من 30% من مساحة الضفّة. وعدا تقطيع أوصال هذه الدّولة من خلال المستوطنات القائمة التي تجاوز عددها الـ 140 مستوطنة، ما جعلها مُفكَّكة وغير مترابطة، فإنّ الخطّة تنصّ على أن تكون الدولة مُجرّدة من السلاح، وتتعهد بجمع السلاح من أيدي الفلسطينيين. فأيّة دولة فلسطينية هذه يجري الحديث عنها، وكيف ستمارس سلطتها مع تجريدها من جميع عناصر القوّة التي تحتاجها لبسط سلطتها وحماية أمنها الداخلي والخارجي؟
إنّ السيادة هي الركن الأساس لوجود الدولة، كما هو مُتعارف عليه في القانون الدولي منذ أبصر النور بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 مرتكزاً على احترام سيادة الدولة. وعليه، كيف ستتمتّع الدولة الفلسطينية الموعودة هذه بكامل سيادتها؟ إنّها ستكون دولة رمزيّة فاقدة السيادة، لا حول ولا قوّة تستعين بها سوى بجارتها القوية – إسرائيل التي صادرت سيادتها.
يضاف إلى ما ذُكِر أعلاه أمرٌ هام آخر، وهو أنّ تجريد الدولة الفلسطينية الموعودة من سيادتها يجعل مِنْ «حلّ الدولتين» غير ذي قيمة. فهذا الحل قد جرى تأسيسه بقرار الأمم المتحدة رقم 181 تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، لتعتمده لاحقاً جميع مبادرات السلام في الشرق الأوسط وقَبِل به المُجتمعان الدَّولي والعربي (وحتى الفلسطيني) والقوى المؤيّدة للسّلام في إسرائيل.

ثالثاً – تشريعُ الاحتلال:
منحت صفقة القرن إسرائيل الشرعية لاحتلالها الضفة الغربية من فلسطين بالقوّة خلال حرب حزيران / يونيو 1967، والتي كانت يومها تحت السيادة الأردنية، وذلك في مخالفة صريحة للقانون الدَّولي الإنساني وللقرارات الدَّولية. فخضوع أجزاء الضفّة الغربية التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية المُجردة من سيادتها، أي وجودها باستمرار تحت السيادة الإسرائيليّة، يعني أنّ احتلال إسرائيل لتلك الأراضي، والمرفوض من القانون الدولي، قد أصبح شرعيّاً.
إنّ المادة 42 من لائحة الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 تعلن بوضوح: «تُعتَبر أرض الدولة واقعة تحت الاحتلال عندما تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو..». وكذلك قرار مجلس الأمن الرقم 242 تاريخ 22/11/1967، الذي يؤكّد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب، ولم يعترف بالاحتلال الإسرائيلي، بل يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأرضي العربية المحتلّة، ومن بينها الضفة الغربية والقدس الشرقية، وذلك كمقدَّمة لإحلال السلام الدائم في الشرق الأوسط.
إنّ الاحتلال كان وسيبقى أمراً مرفوضاً ومُغايراً للقوانين والأعراف الدَّوليّة، ولا يمكن تصوّر قبول أي حلّ للصراع القائم والمُستمر دون انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية والفلسطينية إلى حدود حزيران 1967.

رابعاً – مسألة عودة اللاجئين:
تنص خطة الصفقة على إمكانية عودة بعض اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومنع عودتهم إلى دولة إسرائيل نهائياً. إنّ هذا التدبير مُخالف بالكامل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194 تاريخ 11 كانون الأول / ديسمبر 1948 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي تركوها بسبب حرب العام 1948. وأهميّة هذا القرار هي باستمرار تمسّك الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بهذه العودة. فقد جرى التذكير به في مُختلف قرارات الأمم المتحدة وأقسامها وهيئاتها لدى مناقشة المسائل المتعلّقة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. إلّا أنّ الأهمية القصوى التي علقتها الأمم المتحدة على هذا القرار تكمن في إدراكها بصعوبة حل الصراع دون عودة اللاجئين إلى ديارهم. وللتدليل أكثر على هذه الأهمية، فإنّ الأمم المتحدة لم توافق على قبول عضوية إسرائيل لديها (في القرار 273 تاريخ 11/5/1949) دون اشتراط قبول إسرائيل بالقرار 194 المُشار إليه وبالقرار ذي الرّقم 181 تاريخ 29/11/1947 المتعلّق بتقسيم فلسطين الذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية. لكن قبولها بتلك الشروط لم يُترجَم فعليّاً، بل عملت على تناسيه كليّاً بوجود غطاء أميركي مستمر.
إنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة أخذت مجموعة كبيرة من القرارات التي تؤكد على ضرورة إعادة اللاجئين إلى أرضهم واعتبار ذلك من الحقوق غير القابلة للتصرّف. وعلى سبيل المثال، القرارات 394 (1950)، 2052 (1965)، القرار 2253 (1967) وغيرها. وكذلك الأمر بالنسبة لمجلس الأمن الذي أكّد بقراره الرّقم 237 تاريخ 14 حزيران / يونيو 1967 مطالبة إسرائيل بتسهيل عودة إسكان الذين فَرّوا بسبب العمليّات الحربيّة.
وبرغم جميع تلك القرارات الدوليّة المتعلقة بعودة اللاجئين الفلسطينيين، جاءت صفقة القرن اليوم لتدير لها ظهرها، ولتوافق إسرائيل على سلوكها المستمر منذ البداية بعدم السماح لهؤلاء بالعودة.

خامساً – التغيير الديمُغرافي:
لم تكتفِ الخطة بعدم قبول عودة اللاجئين فقط، بل أضافت إلى ذلك مسألة نقل السكان من منطقة طولكرم وجنين التي عُرِفَت بالمثلَّث. إنّ هذه المسألة هي مخالَفة صريحة للقانون الإنساني الدَّولي، إذ إنَّ معاهدة جنيف الرابعة للعام 1949 المتعلقة بحماية السكان، تحظر تغيير الطابع الديمغرافي والمركز القانوني للأراضي المحتلّة. فالمادة 49 من هذه المعاهدة تحرّم النقل أو الإخلاء الجبري الفردي أو الجماعي لسكان الأراضي المحتلّة مهما كانت الأسباب.

سادساً – تشريعُ المُستوطنات:
على الرّغم من الموقف المعارض لإقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة الذي دأبت عليه الإدارات الأميركية المختلفة، وعلى الرّغم من معارضة المجتمع الدولي لإقامتها أيضاً، جاءت صفقة قرن الرئيس ترامب تنصّ على تشريع الاستيطان الإسرائيلي بنصِّها على أنّ إسرائيل غير مُلْزَمة باقتلاع أيّة مستوطنة، وستقوم بضم تلك المستوطنات إلى الأراضي الإسرائيلية المجاورة. وإذا كانت إسرائيل قد قامت بإحلال المستوطنين في الأراضي العائدة للفلسطينيين، فإنّ المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدَّولية الصادر في روما عام 1988 تعتبر قيام دولة الاحتلال بنقل جزء من سكّانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلُّها هو بمثابة جريمة حرب. كما نصّ القرار 465 (1980) الصادر عن مجلس الأمن الدولي على «أنّ سياسة إسرائيل وأعمالها لتوطين قسم من سكّانها ومن المهاجرين الجدد في الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية المحتلة منذ 1967 بما فيها القدس تشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جينيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، كما أنّها تشكل عقبة جديّة أمام تحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط، ودعا القرار إسرائيل لتفكيك المُستوطَنات القائمة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه. وفي ذات التوجّه، تبنت الأمم المتحدة في 20 كانون الأول / ديسمبر 1971 القرار رقم 2851 الذي يطالب إسرائيل بشدّة بإلغاء الإجراءات لضمّ أو استيطان الأراضي المحتلّة.
هذا يدل على استخفاف صفقة القرن بالقانون الدَّولي والقرارات الدَّولية وعدم الاكتراث بها.

سابعاً – قضيّة القدس:
إنّ قضية القدس كانت ولا تزال واحدة من مُرتكزات القضية الفلسطينية الرئيسة. فمع الإجراءات التي واظبت إسرائيل على ممارستها لتهويد هذه المدينة وتكريسها عاصمة لها، جاءت خطّة صفقة القرن لتكرّس وحدة المدينة وعدم تقسيمها والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. والصفقة في ذلك خالفت رؤية الأمم المتّحدة وقراراتها بهذا الشأن، منذ البداية، التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للقدس الشرقية التي تضم الأماكن المقدسة، واعتبارها جزءاً من الضفة الغربية.
فقد رفض مجلس الأمن في القرار رقم 252 تاريخ 21 أيار / مايو 1968 الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، ورفض مصادرة إسرائيل للأملاك والأراضي في القدس، ودعاها إلى إلغاء جميع إجراءاتها لتغيير وضع المدينة، واعتبر تلك الإجراءات باطلة. وكذلك في قراره رقم267 الذي يشجب بشدّة جميع الإجراءات المُتّخَذة لتغيير وضع مدينة القدس، ويدعو إسرائيل مُجدَّداً إلى إلغاء هذه الاجراءات. وفي القرار رقم 271 تاريخ 15 أيلول / سبتمبر 1969 أدان مجلس الأمن إسرائيل لتدنيسها المسجد الأقصى ودعوتها إلى إلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس.
من جهتها، رفضت الجمعية العامّة للأُمم المتحدة الإجراءات الإسرائيلية في القدس، أسوةً بمجلس الأمن، في القرارين 2253 و2254 بتاريخ 4 و14 تموز 1967 وأدان كلَّ التدابير والإجراءات الإسرائيلية التي تغيّر وضع القدس.
هذه أهم مخالفات صفقة القرن لمبادئ القانون الدَّولي وللقرارات الدَّولية الكثيرة بشأن مسألة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبتناول الصفقة لمُعظم عناصر هذا الصّراع وتبنّي وجهة النظر الإسرائيلية فيها، فإنّ خطورتها تكمن في سعيها إلى تصفية القضية الفلسطينية وتكريس غَلَبَة إسرائيل والمحافظة على أمنها ومكتسباتها، وإجبار الفلسطينيين على قبولها.
هل سيُكتَب النّجاح لهذه الخطّة، أم ستنتصر إرادة أصحاب الحقِّ الرافضين لها، وينتصر معها القانون الدَّولي والشرعيَّة الدَّوْليّة؟.


صفقةُ القرن وضياع القدس مسؤولية من؟

أ. رياض زهرالدين

جاءت اتفاقية صفقة القرن المبرمة مؤخراً بين الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) ورئيس وزراء الكيان الصهيوني (بنيامين نتنياهو) والمتضمنة جعل القدس عاصمة موحدة لدولة اسرائيل، لتكون من منظور التسوية السياسية الأمريكية، بمثابة الحل النهائي للصراع العربي – الإسرائيلي ، دون أي ردة فعل جديّة من قبل الأطراف المتضررة من فقدها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين عند المسلمين ، وكنيسة القيامة عند المسيحيين ، والمتوقع صدورها عن الشعوب أو الدول الإسلامية أو العربية أو السلطة الفلسطينية، إما بسبب عجزها عن الفعل وهي الغارقة في أوحال حروب أهلية لا تنقطع منذ عشرة سنوات، أو إنّه يؤكد صحة ما صرح به (بنيامين نتنياهو) في مؤتمر لرؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية في القدس الغربية الذي عقد في شهر شباط من العام الحالي : إنه كل الدول العربية قد طبعت علاقاتها مع إسرائيل إمّا علناً أو سراً باستثناء ثلاثة دول .
ولمعرفة الأسباب العميقة لذلك التخلي عن الحق عند الأطراف المفترض أنها متضررة من صفقة القرن، لابد لنا من ذكر بعض التفاصيل حولها:

أولاً: تفكك النظام الإقليمي العربي وضياع بوصلة الهدف:
منذ إطلاق وعد بلفور المتضمن إقامة كيان لليهود في فلسطين، توحدت كلمة العرب على القول: إنّ الدفاع عن عروبة فلسطين قضية مركزية للعرب أجمعين، وتعمق ذلك الخط الرافض للسياسة الغربية الكولونيالية في أعقاب نيل الأقطار العربية استقلالها ودخوله في سلسلة مواجهات عسكرية كبرى مع الكيان الغاصب لفلسطين، حيث تأكد خطرها على شعوب المنطقة، وأن وظيفة ذلك الكيان تتمثل بمنع نهضتها وتقدمها الحضاري.
واستمر ذلك الخط الاستراتيجي تقريباً إلى حين قيام حرب الخليج الثانية في ١٩٩٠، حيث تبين للعالم أجمع بحسب بنيامين نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس): (اختفاء العداء الأساسي المتجذر مع إسرائيل من مراكز هامة في العالم العربي في الوقت الذي تحول التناقض الرئيسي بين العرب أنفسهم) (1).
إن النتيجة التي ترتبت عن تلك الحرب كانت تفكك النظام الإقليمي العربي، ذلك التفكك الذي بدأ مع زيارة أنور السادات للقدس وانتهى بوقائع غزو العراق للكويت، وما نتج عنه من فقدان الحاضنة العربية لمشروع المقاومة الفلسطينية ممثلاً في برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، الذي أعلن قيام دولة فلسطين في عام ١٩٨٨ بالجزائر، وتبني البرنامج المرحلي في إقامة الكيان الفلسطيني النهائي.
وعزز ذلك الانهيار العربي في مواجهة مشروع التسوية الأمريكية الصهيونية في المنطقة تزامنه مع انهيار مشروع آخر لعب دور السّند الداعم للنظام العربي والحق الفلسطيني المستباح دولياً، هو تفكك الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١، وما ترتب عنه من استباحة أمريكية وتفرد بقيادة العالم. ومن ضمنها استئناف مسار التسوية السياسية في مؤتمر مدريد برعاية أمريكية فعلية وسوفيتية شكلية.

ثانياً: بدء تفكك المشروع الفلسطيني المقاوم:
إن بروز هذين المتغيرين دفع منظمة التحرير الفلسطينية ، التي كانت الطرف الخاسر الأكبر في حرب الخليج الثانية بخروج العراق أولا من المعركة، ونتيجة اصطفافها معه في حربه على الكويت ثانيا ، للقبول بالتخلي عن مشروعها الوطني بالكفاح المسلح والانخراط بمسار علني في مدريد وسري في أوسلو كمسار فلسطيني مستقل عن سائر مسارات التفاوض مع العدو الإسرائيلي، والتوصل إلى اتفاق منفرد في أوسلو عام ١٩٩٣ ، حيث بموجب ذلك الاتفاق قبلت منظمة التحرير بالتخلي عن مشروع الدولة الفلسطينية ، وبسلطة حكم ذاتي في غزة وأريحا أي على مساحة تقدر ٣% من أرض فلسطين التاريخية ، وإبقاء مسار التفاوض حول مشروع الدولة الفلسطينية ( الحدود ، واللاجئين ، ومصير القدس) مؤجّلا لحين مفاوضات الحل النهائي المفتوحة الزمن ، والتنازل عن إدارة ملفي العلاقات الخارجية والأمن الخارجي والمستوطنات وإدارة ٩٧% من الأرض الفلسطينية لإسرائيل. وكل ذلك مقابل سلام متخيل أصبح مع رفض اسرائيل استئناف التفاوض على الحل النهائي مع الفلسطينيين، نتيجة فقد أوراق القوة في التفاوض وغياب الرعاية الدولية الجادة والمنصفة إلى مجرد وهم.
أمام سلطة فلسطينية منقسمة موزعة بين حركتي حماس في غزة وسلطة حركة فتح في أريحا المفصولتين جغرافيا بقوات الاحتلال، تتنازعان على سلطة مثلومة الحد، زاد في عجزها التناقض الإقليمي الحاد، ظروف كلها منعت الفلسطينيين من النهوض مجددا من وحل التسوية المجحفة. أما التنظيمات الفلسطينية التي تمسكت بخيار المقاومة الفلسطينية المسلحة وبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية لعام ١٩٨٨، ورفضت اتفاق أوسلو، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، فقد جرى احتجاز تطورها وتعذر عليها العمل بخط سياسي منفصل عن مسار التسوية في أوسلو، خياراً ثالثاً ضعيفاً بين مشروعين متنازعين ومسيطرين.
وبذلك نجد أن ضياع القدس هي مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى وعربية بالدرجة الثانية وإسلامية بالدرجة الثالثة، وضياع القدس بات أمراً شبه مؤكد في ضوء ميزان القوى المختل بين طرفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

ثالثاً: الحل الديمقراطي العلماني في فلسطين وحال الأمة العربية
من ينظر لحال الأمة العربية والإسلامية اليوم، وهي تعاني من ضياع ثورات الربيع العربي بحثاً عن ديمقراطية مرجوّة تعيد لنضال الشعوب دورها واعتبارها، والغرق بدلاً من ذلك في أوحال الصراع المذهبي والانقسام الحاد بين السنة والشيعة، واستنقاذ الطاقات وتدميرها، في حين أعداؤها ينتجون ويتقدمون، سيجد أن ذلك الواقع هو من أعطى الفرصة التاريخية التي انتظرتها إسرائيل طويلاً، لإعلان القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل دون الخشية من أية عواقب نتيجة المؤامرة.
ولكن حال الأمة هذا لا يعني نهاية الصراع التاريخي في المنطقة وقبول الفلسطينيين إبقاء الكولونيالية الصهيونية في فلسطين إلى الأبد، وإنّ الطرف الصهيوني بات عدواً لا يقهر، ومشروعه بخير وخالٍ من الثغرات ولا يعاني من المصاعب!!.
إن قوة اسرائيل متأتية من ضعف العرب أنفسهم، فمشروع الدولة اليهودية وإقامة جدار الفصل العنصري في فلسطين سيحميها مؤقتا من الغرق ديموغرافيا في البحر الفلسطيني ، ولكنه طالما هي غير قادرة على التفاعل حضاريا مع شعوب المنطقة وبالدرجة الأولى مع الشعب الفلسطيني، هذا سيبقي مشروعها غير قابل للحياة إلا بتحويله من مشروع غاصب لحق شعب بالحياة إلى مشروع ديمقراطي علماني ، يقبل بالتعدد الاثني إلى جانب التعدد السياسي وبحل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية، بينما مشروع الدولة اليهودية الراهن ، يضعها في خانة التطرف الديني الأصولي ، ويدخلها في نفق الصراع الأهلي الدائر بين السنة والشيعة في المنطقة . ومشروع الدولة اليهودية النقية قد يكسبها التجانس على مستوى العقيدة الدينية، ولكنه لا يلغي التمييز العرقي والطبقي داخلها. لذلك نزعة التطرف والتمييز العنصري بين اليهود ستقف عائقاً أمام تطورها في المستقبل، مما يبطل قوتها كمثال حضاري جاذب لليهود المنتشرين في العالم، خصوصاً بعد توقف خزان الهجرة اليهودية من روسيا ودول أوروبا الشرقية إليها، والتي صاحبت انهيار المعسكر الاشتراكي في عام (١٩٨٩- ١٩٩١) وكانت حدثاً استثنائياً، حيث من المرجح أن تكون موجة الهجرة اليهودية تلك هي الأخيرة للاحتلال، نتيجة ميل يهود العالم نحو الاندماج في المجتمعات الغربية، وتجريم سياسة معاداة السامية دولياً. كما أن مشروع الدولة اليهودية يحصر دورها في المنطقة بالوظيفة الأمنية التي لن تنتهي إلا بإبادة جميع العرب الرافضين التطبيع معها. في حين أن الحل الديمقراطي العلماني، سوف يحولها إلى مشروع قابل للحياة وقادر على التفاعل الإيجابي أو على الأقل غير متعادٍ مع المحيط.


صفقةُ القرن وتداعياتُها على لبنان

د. هشام الأعور

يبدو أنّ لبنان سيكون أحدَ البلدان المُستَهدَفة بما يُعرف بـ « صفقة القرن» ، ذلك أنّ الصفقة لا تستهدف تصفية قضية فلسطين فقط، وإنّما إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين المحتلّة بما يتوافق مع المصالح الأميركية – الإسرائيلية المشتركة.
إنّ أجندة إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين إنّما تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقطع الطريق على أيّة نهضة حضارية في المنطقة، وبما يعيد توجيه بوصلة الصراع من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع عربي – عربي، وصراع طائفي – مذهبي – عرقي. وبالتالي يُدخِل لبنان دائرة الاستهداف، باعتباره أحد البلدان المقاومة للمطامع الإسرائيلية، بما يضمن إفقاده فعاليته في معارضة «الصفقة»، وكذلك حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين على أرضه؛ سواء بتسهيل هجرتهم أو بتوطينهم من خلال منحهم الجنسية اللبنانية.
بعد تولِّيه سُدّة الرئاسة الأميركية أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه التوصل إلى صفقة نهاية للصراع العربي الاسرائيلي زاعماً بأنّه سيحقق ما فشل أسلافه عن تحقيقه مستنداً إلى قدرته كرجل أعمال على المناورة وعقد الصفقات. وهو ما طرح مؤشّرات كانت تستوجب القلق والحذر الفلسطيني والعربي والدولي من هذه الخطة التي تتضمن بشكل واضح وأحادي الجانب المصالح الإسرائيلية، وتأخذ بالكاد مطالب الفلسطينيين بعين الاعتبار، حتى الدولة الفلسطينية الموعودة ستكون سيادتها محدودة، فالصفقة كانت مجرد تبنٍّ من الإدارة الأميركية لمصالح «إسرائيل» بالكامل، وتجاهل لمطالب الفلسطينيين ،وبالتالي لن تؤدي إلى إحلال السلام، بعد أن جعلت من القضية الفلسطينية مجرّد قالب حلوى تحصل «إسرائيل» على القطعة الأكبر منه فيما لا يحصل الفلسطينيون إلّا على بعض الفُتات. إنّ صفقة القرن ليست صفقة؛ لأنّه لم يحصل تشاور مع الفلسطينيين حولها، بل هي خطّة إسرائيلية تبنّاها ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، وتتضمَّن إقامة دولة فلسطينية في صورة «أرخبيل» تربطه جسور وأنفاق، وعاصمتها «في أجزاء من القدس الشرقية»، مع جعل مدينة القدس المحتلَّة عاصمة مزعومة لإسرائيل، وحل قضية اللاجئين خارج حدود إسرائيل.
إنّ صفقة القرن» هذه، كما يُنظر إليها من واشنطن، تنطلق من الفكرة القائلة بأنّ الزمن (26 عاما مرّت على اتفاقية أوسلو للسلام) أثبت أنه لا يُمكن توقع التوصل إلى أيّ حل وسط في المدى المنظور بين الفلسطينيين والإسرائيليين. تبعاً لذلك، فقد حان الوقت لفرض حل أحادي الجانب.. حتى وإن انتُهكت مبادئ القانون الدولي.. وحتى وإن قُدّم تبرير لكل المقتنعين بأن القوة الأميركية تنتهي بفرض قانونها في نهاية المطاف. وهذا يعني بالتأكيد أنَّ صفقة القرن لن تؤدي إلى إحلال السلام في المنطقة، بل ربّما تجلب توتُّراً جديداً وتقود إلى إشعال انتفاضة الشعب الفلسطيني لا سيّما وأنَّ هذه الصفقة كان قد سبقها اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة «لإسرائيل»، وهو ما يجعل المرء يعتقد بأنّ ما قام به ترامب كان الهدف منه ليس تحقيق السلام وإنّما دعم حليفه نتنياهو الذي يُواجه في داخل بلاده هجوماً عنيفاً نتيجة فضائح فساد، ويصارع بكل قواه من أجل الظفر بفترة حكم جديدة، كما أن ترامب حرص «على مساندة الرئيس الذي يُمارس عليه هذا الضغط من خلال إطلاق تصريحات مؤيدة للكيان الغاصب، حيث إنّ اتفاق سلام من هذا القبيل يحقق أحلى أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف بالنظر إلى الوضع الحرج الذي يمر به حاسماً هذه المرّة.
واللّافت في هذا الأمر أيضاً هو ردود الأفعال على خطّة ترامب الذي اعتبر أنَّ «القادة العرب لا يخشون اليوم إسرائيل بل إيران، حيث تمثّل فلسطين اليوم بالنسبة لهم حملاً زائداً»، فمن خلال إجراء مقارنة ولكن ما يثير القلق هي ردود فعل الدّول العربية المتواضعة اليوم على خطاب ترامب الذي يملي على الفلسطينيين ّ «اسرائيل» للسلام، في حين اكتفت جامعة الدول العربية بالدعوة إلى عقد اجتماع طارئ على المستوى الوزاري فقط.
لا شك بأن ردود الأفعال المتواضعة على صفقة القرن إنَّما تعود إلى أوضاع البلدان العربية الضعيفة من الناحيتين العسكرية والاقتصاديّة وذلك بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي الذي كان يصدّر الأسلحة لمصر وسوريا ما تسبّب باندلاع الحروب السابقة مع «إسرائيل» في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتراجع اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على النفط،، وانتشار ظاهرة «الربيع العربي» التي أدّت إلى الإطاحة بعدد من الرؤساء العرب عن سدّة الحكم والتي تزامن مع ظهور «الجماعات التكفيرية المسلّحة» أو ما بات يُعرَف «بالإرهاب التّكفيري».
لقد باتت صفقة القرن حديث الموسم إقليميّاً وعالميّاً، إذ إنّ هذه الصفقة ليست نزاعاً إسرائيلياً- فلسطينياً وحسب، بل تغييراً جدّيّاً في خريطة وكيانات الشرق الأوسط، وقد تطال هذه التأثيرات لبنان الذي يُعتَبر في واجهة الصراع مع «إسرائيل»، ومع قيام الإدارة الأميركيّة بإنشاء صندوق استثمار عالمي لدعم اقتصادات الفلسطينيين والدول العربية المجاورة ولبنان هو من بين هذه الدّول والذي يستضيف ما يزيد على الـ400 ألف لاجئ فلسطيني حيث يعيش 174 ألفا و422 لاجئا فلسطينيا في 12 مخيّما و156 تجمُّعًا في محافظات لبنان الخمسة، – حسب إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية – والذي يرفض لبنان توطينهم وهو الذي استضافهم نحو 70عاماً.
لكن المفارقة أنّ تأثيرات صفقة القرن وتداعياتها على لبنان ستكون خطيرة على مستوى التغيير الجغرافي وترسيم الحدود مع «إسرائيل» في ظل الضغط الاميركي على لبنان بالقبول بخطّ « هوف» الذي يقتطع ثلث المنطقة الإقليميّة اللبنانيّة الغنيّة بالنّفط والغاز لمصلحة «إسرائيل»، كما سيواجه لبنان تغييرا ديموغرافيّاً ملحوظا وبتعديل في التوازن الطائفي الذي يقوم عليه النظام اللبناني نتيجة توطين نصف مليون لاجئ فلسطيني مقيمٍ في لبنان حالياً، مع العلم بأنه في حال موافقة لبنان على صفقة القرن، – وهذا أمر مستبعد – فأوّل هذه التّأثيرات سيكون جغرافياً، حيث سيتمّ زيادة مساحات الأراضي اللبنانية وذلك بـ «ضم أجزاء من سوريا»، بحسب خريطة المشروع. أمّا اقتصاديّاً، فسوف تتزايد الاستثمارات العربيّة والأجنبيّة على أراضيه، بحسب ما زعم به ترامب عن مشاريع استثماريّة في الدّول العربيّة المشاركة بخمسين مليار دولار أميركي، ما من شأنه أن يعزّز وضع البلاد في كافة المجالات الحيويّة، إضافةً إلى تفعيل المرافئ البحريّة بناءً على ترسيم الحدود البحريّة فالصفقة تستخدم المدخل الاقتصادي والمالي كمدخل للدفع باتجاهها؛ حيث إن المعاناة الهائلة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وتصاعد الدَّين القومي، والعجز الضّخم في الميزانية، والإشكالات المعيشية المزمنة في الكهرباء وغيرها. كلّها يمكن أن تجد حلاًّ بدعم أمريكي وغربي؛ إذا ما أعطت الأطراف اللبنانية الفاعلة أو معظمها ضوءاً أخضر باتّجاه متطلّبات الصفقة، وهو ما ينطبق على إمكانية حل إشكالية التنقيب عن الغاز في الساحل اللبناني واستثماره وتصديره، دون اعتراضات أو عراقيل إسرائيلية.
في انتظار مرحلة التّصعيد القادمة، يمكن القول بأن صفقة القرن لا تعني أن «إسرائيل» وصلت برّ الأمان، فحتى الآن لم يكن السلام ممكناً إلّا مع دولتين عربيتين، مصر والأردن. فليست المشاعر العربية تجاه «إسرائيل» هي التي تغيّرت، بل الظروف التاريخية والتبعيات والأولويات الوطنية، وهذه يمكن أن تتغير مرّة أخرى مستقبلا بنفس السرعة التي تمت بها في الماضي، فيما يبقى أنّ الأمر متوقف الآن على وحدة الصف الفلسطيني، ووحدة الصف اللبناني، في مواجهة الصفقة الجائرة المقترحة. كما سيتعيّن على الدول العربية أيضًا إظهار موقفها التاريخي بمواصلة التمسك بالقضية الفلسطينية والمقدّسات، مع التعويل على دور لدول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين للحد من الغلو الأمريكي وعدم جعل الفلسطينيين يشعرون بالعزلة.
هل سيجد العرب أنفسهم مجدّدًا منقسمين أمام القرارات والآراء المتضاربة، ولتدخل المنطقة العربية مرحلة جديدة بين الرّفض والقبول؟ لا يسعنا سوى الانتظار. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لبنان والشرق الأوسط كلّه «في عين العاصفة».

ملف العدد