الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حقوق الملكية الفكرية والفنية:
هل لا تزال محميّة؟ وكيف؟!

يشعر قارئ الكتب ومثيلاتها، والمستمع إلى الألحان وما شابهها، والمشاهد للشاشات على أنواعها. بأن ثمة تعدّ يصيب مثيلاتها بطريقة أو بأساليب أصبحت مبتكرة، وتؤدي إلى التعدي بالضرر على أصحابها فيقعون بالخسارة المادية والمعنوية معاً، وقد قيل منذ زمن طويل، إن من يفقد مالاً، فإنه فاقد بعض الشيء، أما من يفقد أفكاراً، فإنه فاقد كل شيء؛ كون المال المفقود ممكن تعويضه، بينما الأفكار المبتكرة من المستحيل المجيء بما يعوّضها ولو من زمن بعيد.

من هنا، عمل المشرع الدولي والمحلي معاً على وضع نصوص قانونية مبتكرة من شأنها، ووفق أحكام رادعة، أن تتدارك الخسائر المحكي عنها والحؤول دون التمادي في ارتكاب الجرائم المؤدية إليها ولو لمجرد الردع بفرض غرامات أو تعويضات تحول دون حصولها أو بإعادة الحال إلى ما كانت عليه، قبل ارتكاب فعل التعدي المشكو منه؛ مع مساعي الاجتهاد القضائي للوصول إلى حلول عملية في حال حصل الفعل الضار؛ كما كان للتحكيم ووسائل حل النزاعات البديلة الأخرى الدور الفاعل في هذا المجال…

فماذا عن النصوص والمؤسسات الدولية، الحامي لحقوق الملكية الفكرية؟!

ماضياً وحاضراً؟ وسيكون لجوؤنا إلى نصوص بعض التشريعات والاتفاقيات والاجتهادات الدولية والعربية، دون الدخول في تفصيلاتها المتفرقة والمتشعبة، وإنما العمل على استنتاج مكوناتها منذ العمل على استخراجها وحتى الوقت الحاضر وإلى الحدود التي تخدم معرفة مضمونها، وبالشكل الواضح والمفهوم لغوياً وتشريعياً.

قد يكون ناقل القول ترداد ما أحدثته «ثورة المعلوماتية» من تغييرات أساسية ملفتة في اللجوء إلى أدواتها المختلفة لمعرفة الكثير من الأمور التي كانت طي الكتمان، والاطلاع زمن عدم وجود تلك الآليات، ومن هنا أهمية الحديث عن القوانين التي تنظم كيفية التعامل معها بالنظر لأن الإنسان يبقى هو المرجع الأساسي للتقصي عن تلك المعلومات سواء إيجابياً أو سلبياً ولا سيما فيما يتعلق بالمساس بحياة هذا الإنسان اليومية وملامسة الأمور الشخصية من تلك الحياة في كل ما يتعلق بتصرفاته أباً وأخاً وصاحب عمل وعامل إلى غيرها من مواقع مختلفة فرضت آليات التواصل الاجتماعي اللجوء إليها في كل لحظة وعلى مدار الساعة.
من هذه المنطلقات نقرأ الاهتمام البالغ بالجانب الحقوقي للتعاطي مع مصادر المعلومات المستحدثة وخاصة في الجوانب الإلكترونية منها؛ إلا أن ما يستدعي الانتباه كأولوية وجوب حماية أصحاب الملكية الفكرية، الأدبية والفنية منها، وهذا ما عملت التشريعات على تنظيمها بالشكل الذي ينظم الحماية المطلوبة، لتصبح مرجعاً هاماً لضمان حقوق التأليف والنشر والتوزيع وعلى مختلف مراحل الإنتاج الفكري، وهو ما من شأنه تعزيز تلك الحماية بما يشكل رادعاً للغير عن سرقة الملكية المعنوية، والتي قد تكون الملكية الوحيدة التي يقتات منها مالكها هو وربما عائلته معه لمواجهة متطلبات حياته المادية، الأمر الذي يحول بالطبع دون تمادي البعض من «تجار الورق» في هذه التعديات على أنواعها والتي كثرت في الآونة الأخيرة وفي مختلف البلدان سيما المتنامية منها أو ما يسمى الدول المنتمية إلى العالم الثالث.

إن أصحاب الحق بالحماية يتطلعون إلى الجهات المعنية بحمايتهم تجاه من يعتدي على حقوقهم المشروعة والواضحة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛ وهي بالطبع المحاكم صاحبة الاختصاص والصلاحية بالموضوع، والتي لم تغيّر لديها حتى الآن، وإلا فيما نذر على اجتهادات ملفتة وبالأعداد المطلوبة لطمأنة أصحاب الحقوق، لا بل بالعكس، نلاحظ تمادياً من المعتدين لضربهم، غير عابئين بالجهات المسؤولة عن ردعهم، وهذا أبشع ما يواجه النصوص الجيدة تجاه الحماية السيئة أو المنتقصة المضمون.

هذا ما سنعالجه بقدر الإمكان في الواقع الحقوقي القائم حالياً سيما في بعض الدول الأوروبية (فرنسا وإنكلترا) وبعض البلدان العربية المعنية بالموضوع (مصر، لبنان، الأردن)، إن هذا يستتبع العرض للطبيعة القانونية لحق المؤلف بشكل عام في النظام الفرنكفوني والأنجلو ساكسوني على حدّ سواء…

طبيعة حق المؤلف

يقسم الفقه عادة الأموال، إلى أموال مادية؛ وأخرى غير مادية، أما الأولى منها فهي الأموال التي لها وجود مادي والتي يمكن إدراكها بالحس، والأموال المادية، إما أن تكون أموالاً منقولة، أو أن تكون غير منقولة أي عقارات، والتي لا يمكن إدراكها بطريق المشاهدة والحس وإن صح أن تكون محلاً لبعض الحقوق كحقوق الابتكار أو الاختراع بالمعنى الواسع للكلمة.

هذا وقد ذهب العلاّمة عبد الرزاق السنهوري في موسوعته المعروفة إلى أن الشيء هو ما يصلح أن يكون محلاً للحقوق المالية، فشرط الشيء – كما يعتقد – أن يكون خارج عن التكامل، أي أنه قابل للتعامل…
إن حقوق الابتكار، سيما في التأليف بمختلف أشكاله وصوره، تعتبر من الحقوق المستحدثة في معارف القانون، إن برزت أهميتها نتيجة تطوّر العلم والفن والأدب وتطور وسائل نقلها للجمهور، لذلك فإن الفقه لم يستقر على رأي واحد في تحديد طبيعة حق المؤلف هذا، وانعكس هذا الاختلاف على قرارات المحاكم، فذهبت هي الأخرى إلى اتجاهات مختلفة في تحديد طبيعة المؤلف، مما أسهم في تباين النزعات الفكرية وظهور المذاهب الفردية أو الجماعية التي نظرت إلى طبيعة حق المؤلف نظرات متباينة بظروف المجتمع ومنطق تطوره.

وواقع الحال، إن النظريات المعنية بتحديد طبيعة حق المؤلف متعددة ومتباينة، ذهب بعضها إلى القول، أن حقوق المؤلف المعنوية والمالية من طبيعة واحدة؛ غير أن أصحاب هذا الاتجاه اختلفوا في تحديد هذه الطبيعة، فمنهم من رأى أن حقوق المؤلف المعنوية والمالية حقوق ملكية، ومنهم من اعتبرها جمعاً حقوقياً لصقيه بشخصه، وذهب البعض الآخر إلى التمييز بين حقوق المؤلف المعنوية وبين حقوقه المالية.

ومع تحفظنا الدائم لعرض النظريات المجردة، لا نجد مفراً من الاطلاع على بعضها، لما لهذه النظريات من انعكاس واضح في فهم مضمون مواد القانون المعني بالموضوع لاحقاً.
– فماذا عن هذه النظريات؛ ودائماً باختصار مفيد؟!

1- نظريّة وحدة حق المؤلّف:
ذهب أصحاب هذه النظرية، إلى أن حقوق المؤلف المختلفة عن طبيعة واحدة، لكنهم لم يتفقوا على تحديد طبيعة هذه الحقوق، وإن اتفقوا على وحدة طبيعة مختلف حقوقه.

لقد ذهب فريق من هؤلاء إلى أن حقوق المؤلف المعنوية والمالية تعتبر حق ملكية، بالنظر لما لهذه الحقوق من مزايا حق الملكية، كحق احتكار واستثمار المؤلف إنتاج فكره، والحقوق التي يمارسها على إنتاجه، غير أن هذا الجانب من الفقه وبعض القضاء لم يتفق على وضع حقوق المؤلف هذه من نوع واحد من أنواع الملكية، فمنهم من ذهب إلى اعتبارها من أقدس أنواع الملكية، لا بل تعلو ملكية العقار، وذهب رأي آخر إلى اعتبارها حق لملكية منقول، كما نادى رأي رابع بأنها ملكية خاصة قائمة بذاتها تختلف عن أنواع الملكية الأخرى.

فيما اعتبر البعض الآخر أن حقوق المؤلف تنحدر من منبع واحد هو شخصية أو ذات المؤلف، إذ لم ينظر إلى المادة المنتجة وشكلها المادي المحسوس، وإنما إلى هذا الإنتاج باعتباره جزءاً من شخصية منتجة متأصلاً فيه، لأن الابتكار ينطوي على براعة موهبة، ويتوقف على مقدار من المعرفة يمتلكها المؤلف نفسه، وتكون الفكرة جزءاً من شخصية ويطلق على هذه النظرية، النظرية الشخصية.

2- نظرية حق المؤلف؛ حق الملكية:
إن تشريع حماية الإنتاج الذهني، يعتبر حديث الظهور حتى في المجتمعات الغربية، والتي سبقتنا في هذا المجال، إذ سارت هذه الحماية جنباً إلى جنب مع احترام الحريات والحقوق الفردية والعامة معاً، فقد كان أصحاب المكتبات والتجار في روما القديمة في أوائل عهد المسيحية يبيعون كتب المؤلفين المشهورين بعد شرائهم الأصول من أصحابها، ويلجأ الناشرون من جهتهم إلى إبرام اتفاقيات مع المؤلفين فينتشرون بها الأصول من أصحابها، ويلجأ الناشرون من جهتهم إلى إبرام اتفاقيات مع المؤلفين فينشرون بها الأصول منها بمبالغ يحددها الاتفاق ويريدون الكثير من النسخ لطرحها في السوق، وبذلك كان المؤلفين يفقدون حقوقهم من ثمار انتاجهم، لأن الكتاب بمجرد صدوره، ومتى اشتريت أصوله، اعتبر في متناول يد الجميع (الدكتور أحمد العمري؛ «إبرام الاختراع» القاهرة، دون ناشر أو سنة الصدور).

ظلّ الوضع على هذا النحو حتى اندلاع الثورة الفرنسية، وهو وضع يفهم منه، أن حق المؤلف هو حق ملكية، ينتقل بالبيع إلى الغير بصورة كاملة، ويعقد صاحب المؤلف عندئذ جميع حقوقه على إنتاجه الذهني، معنوية كانت تلك الحقوق أو مادية، ويتغير الوضع مع الثورة المذكورة تغير الوضع، ذلك لأن القوانين التي صدرت في الفترة ما بين عام 1791 – 1793 أكدت حق استثمار المؤلف بحق التأليف: (P. Roubies; Le Droit de propriete industrielle. Paris. 21 No 1952).

ومنها تشريع نابليون الصادر في العام 1791 المتعلق بحماية حق الملكية الفنية والأدبية والذي جاء فيه: «كل اكتشاف وابتكار جديد أياً كان نوعه يكون ملكاً لمؤلّفه».

بناءً عليه، إذا ظهر المصنف إلى الوجود اختص به الفنان وحده وحقّ له احتكاره؛ كما نص القانون الفرنسي الصادر عام 1793 في مادته الأولى على ما يلي:
«يتمتع المؤلفون الذين يدبّجون كتباً من أي نوع، والملحنون والموسيقيون والمثالون ومبدعو الصور على اختلافها الذين يرسمونها أو يحفرونها، بحق الاستئثار ببيعها وتوزيع منتجاتهم في مختلف أنواع الجمهورية الفرنسية طوال حياتهم وبحق التنازل عن ملكيتها كلاً أو عن جزء منها للغير».

وبذلك تكون هذه النصوص قد حددت طبيعة هذا الحق بأنه ملكية حقيقية تتحول في ظل القانون إلى كسب مادي يحتفظ به المؤلف، وفي ذلك يقول الشاعر الكبير «لامارتين» في تقرير رفعه إلى الجمعية الوطنية عن الملكية العلمية والأدبية في 13/4/1841 بمناسبة النظر في مشروع قانون حماية الملكية الأدبية: «إن فكرة المؤلف مستمدة من روح الله وهي بمثابة الإلهام، وهي تهبط إلى عقله لتساعد البشر، ثم تعود إلى قواعدها الأولى وتترك أثراً لامعاً في ذهنه وذهن من انتفع بعبقريته كما تتناول أولاده من بعده، وعليه؛ إذا الكتاب نزل إلى السوق التبادلي التجاري، تحوّل إلى قيمة منتجة ورأسمال له ربحه، شأنه في ذلك شأن أي شيء آخر له قيمته ويمكن بما له من قيمة ويمكن بما له من قيمة أن يصبح من عداد الممتلكات الخاصة» (د. العمري، المرجع السابق نفسه ص 17 وما بعدها).
ويقول «روسكو باوند»: «إن الملكية الأدبية هي أقدس أنواع الملكية وإن قانون الملكية يشمل في أوسع معانيه الملكية الأدبية المذكورة».

أجهزة الوعي

أحياناً… عندما لا يكون للوقائع والأحداث تفسير منطقيّ (يقتنع به فكرنا) يصبح من الأسهل أن نقول مصادفة.
ربّما تكون مصادفة… ربّما لا.

منذ أيامٍ قليلة إستوقفتني عبارة لمحي الدين بن عربي تقول: «الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمّد». عبارة إختصرت الكثير من العلوم، وأفضت إلى تأمّلاتٍ عميقة في عملية الإحتواء، إحتواء السائل للجامد أو الجامد للسائل، إحتواء النقطة للدائرة أو الدائرة للنقطة، إحتواء البذرة للشجرة أو الشجرة للبذرة، إحتواء النسبي للمطلق أو المطلق للنسبي، وغيرها الكثير الكثير من الإحتواءات التي تشمل كلّ منظور وغير منظور؛ لدرجة يصبح فيها المُحتوي والمُحتوَى كياناً واحداً لا يختلفان إلاّ بإختلاف درجة تذبذبهم في الكون. وقد يتوافق هذا مع ما أظهرته الدراسات التحليلية للعلوم الدينية على إختلافها من أن الوجود هو تجلٍّ للطاقة الإلهيّة غير الظاهرة، وإظهار مجال تمدّدها في المادّة الظاهرة. وبذلك من الممكن القول أنّ مفهوم الزمان والمكان لا وجود لهما إلاّ في حدود العالم النسبيّ المنظور، وفي حدود الفكر المادّي البشري. هذا الفكر الذي ليس باستطاعته العمل إلاّ بحدود هامش معيّن، تماماً كالهامش الذي ترى من خلاله العين، أو تَسمع من خلاله الأذن، وكل ما عدا هذا الهامش أو يتجاوزه، يُعتبر غير موجود بالنسبة للفكر، لأنه ببساطة لا يستطيع ترجمته بواسطة الحواس الخمس.

إن التسارع بوتيرة الإكتشافات والأبحاث العلمية، تثير اليوم أكثر من أي وقت مضى حفيظة الفكر الهائج الذي، لو سلّم جدلاً بوجود أبعاد غير منظورة لامتناهية، عليه أن يسأل كيف يمكن تأكيدها أو الإحساس بها؟

محي الدين ابن عربي

يقال بأن الإنسان لديه من الأجهزة ما يكفي لمعرفة كلّ حركة بالكون، وهذه الأجهزة تسمى أجهزة إستشعار. وعملية الإستشعار هي عملية ميكانيكية في الجسم البشري مرتبطة بمدى قدرة أجهزة الجسم على نقل المعلومات إلى الفكر، ومرتبطة أيضاً بمدى إنفتاح وإتساع الفكر ليلحظ كلّ المتغيرات من حوله. لكن ما يعيق عمليات الإستشعار هو إنجذاب العقل وحصره دوماً بالعالم المادّي، وعدم إدراك حقيقة الكائن خلف هذه المظاهر الماديّة. وبحسب العالم الطبيعي «آرثر أدينجتون Arthur Eddington» الذي قال بأن البشر ليس لديهم أدنى فكرة عن معنى حقيقة الوجود لأي شيء سوى ما تراه أعينهم. وهذا ما يؤكد أنه في حالات الوعي العادي، هناك ما يزيد عن 99% من الذبذبات الكونية غير مرئيّة. لذلك إن إدراك اللامنظور يتطلّب معرفة المنظور أي العالم المادّي ومصدر قوانينه.
كل شيء في الكون يتمدّد ويتقلّص، إنه قانون الكون وسرّه (التمدّد والتقلّص) وقد جاءت النظريات والعلوم الحديثة لتُقرّ بأن الإنسان جزءٌ متمدّدٌ من هذا الكون، وأن الفكر البشري قادر على التمدّد بشكلٍ يستطيعُ تجاوزَ محدوديته، وبالتالي تجاوز حدود الزّمان والمكان. وفي هذه الحالة من التمدّد، يشعر الإنسان بأنه موصول بالكون، ويستمد طاقته من هذا الكون بإعتباره جزءاً لا يتجزأ منه.

أن حالة التمدّد هي عمليات كيميائية في الجسم تحدث نتيجة الوعي، والشعور بالحبّ، والرضا، والإنسجام مع موسيقى الذات ومع قوانين الطبيعة… من هذا المنطلق، كل حركة وكل معلومة تصدر من الكون، تتسرّب إلينا بطريقة إنسيابية عبر ما يسمى «أجهزة الوعي»، من دون أن تتعرض لحواجز الفكر الكثيف؛ لأن الفكر في هذه الحالة، يكون أيضاً بحالة تمدد، ممّا ينتج عنه قبولاً وتسليماً لأيّ فكرة، أو حالة، أو معلومة، دون تحليلٍ أو تعقيد. فيحدث أحياناً أن نكتب أو نتكلّم أشياءً بشكلٍ إنسيابي عفوي دون تحضيرٍ مسبقٍ لها، وكأن أحدٌ ما يمليها علينا، أو كأن الكونَ يكتبُ أو يتكلّم من خلالنا. ويَحدث أحياناً أن تصلُنا معلومات عن أحداثٍ قبل وقوعها، فنستغرب ولا نجد لها تفسير. هذا ببساطة عمل أجهزة الوعي بالإنسان.

شهر كانون أول، ذكرى مولد: الأمير شكيب أرسلان (الرابعة والخمسون بعد المئة)، والمعلّم كمال جنبلاط (السادسة بعد المئة):
ما مثّلا؟ وما الباقي من نهجهما وتراثهما المشترك!

كان الإمام الغزالي يقول (في المنقذ من الضلال): «لا تعدم أمتي من مصلحٍ على رأس كل مئة».

استشراف الإمام الغزالي ينطبق، وعن حق، على قادة ومفكرين ومصلحين عظام، في غير زمان ومكان، ولدى معظم الشعوب؛ وهذا دأب البشرية، لا تعدمُ أملاً وهي في مستنقع اليأس، ولا نورًا ولو ادلهمّت الظلمة.

وهو حالُ الأمير شكيب أرسلان، وبعده كمال جنبلاط، لدى شعبنا بالتأكيد.

الأمير شكيب أرسلان، (1869-1946)، «أمير البيان وشيخ العروبة والإسلام»، هو المجاهد «الأممي» في سبيل حاضر قومه ومستقبلهم، بكل طريقة كانت متاحة، ومهما غلت التضحيات.
ناصبَ الاستعمار، وبخاصة الإنجليزي والفرنسي، العداء الشديد، لأنّه أدرك باكرًا بحسّه السياسي الرفيع أنّ مزاعم الحرية التي جعلاها عنوانًا لحربهما على السلطنة العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى لم تكن صادقة. لقد كانت الفخ الذي وقع في الإستقلاليون العرب، وبخاصة مؤتمر باريس (1912) الذي جمع الإستقلاليين العرب المطالبين بالخروج من الحكم العثماني، وحركة الشريف حسين في الحجاز التي تحوّلت لبعض الوقت قبلة كل الأحرار العرب، إلى أن تكشّف غدر الإنجليز بها وإعطائهم الوعد بدولة يهودية في الوقت الذي كانوا يعدون الشريف حسين بمملكة عربية مستقلة.

ما بقي من شكيب نضاله الأممي في سبيل كل قضية تخص العرب والمسلمين بين نهاية القرن التاسع عشر وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، 1939. بعضُ تجليات هذا النضال الأممي، بعضها فقط، أن كان في حوزته أربعون تكليفًا من جمعيات وهيئات استقلالية عربية كي يمثّلها أمام عصبة الأمم في جنيف، وكانت أحد أسباب انتقاله من منفاه الطوعي في برلين (1919-1925) إلى جنيف ليكون قريبًا من مقر عصبة الأمم ومداولاتها.

ما بقي من شكيب في نضاله العملي الميداني هو قيادته سنة 1911 لكتيبة من متطوعة جبل لبنان (حوالي 500 مجاهد) سار بهم من مقره الصيفي (صوفر) إلى بئر السبع في فلسطين، حيث أوقفه الإنجليز، إلى أن تمكن مع بعضهم من متابعة مسيرتهم (تحت ستار الصليب الأحمر) إلى ليبيا للقتال مع المجاهدين الليبيين ضد الغزوة الإيطالية على ليبيا. وحين سأله صحافيّون في مصر، لماذا تأتي من بلاد الشام لتقاتل في بلد بعيد؟ ذهب جوابهُ مثالاً لكل القوميين العرب لاحقًا؛ قال: «إن لم ندافع عن صحارى طرابلس الغرب، لن نستطيع حفظ جنائن طرابلس الشام».

يضيق المجال عن سرد تأثير شكيب في العالمين العربي والإسلامي، من أندونيسيا إلى طنجة. وواحدٌ فقط من الأدلة أنّ كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيره، أعيد طبعه أكثر من مرّة. لقد آنس هؤلاء فيه الرجل الموثوق الذي لا يسعى لمصلحة شخصية أو فئوية، وإنّما لمصلحة شعبه وأمته. قال فيه الأمير عبدالله، أمير شرق الأردن، في مهرجان تأبينه في حيفا سنة 1947: «لقد مات الذي لم يكن فوقه فوق؛ لم يكن كرجال هذا الزّمان الذي يسعون وراء مآرب شخصية».
وما بقي من شكيب أكثر من عشرين كتاباً، بعضها موسوعي (حاضر العالم الإسلامي)، وأكثر من ألفي مقالة، في دوريات العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، وفي كل باب فكري أو أدبي أو سياسي يخص العرب والمسلمين.

أمّا كمال جنبلاط، وكان «المعلّم» بحق، فيختصر في شخصه كلّ الميزات الأثنتي عشرة التي رآها الفارابي ضرورية في «رئيس المدينة الفاضلة» عنده. ولأنّ الاثنتي عشرة ميزة تلك يصعبُ اجتماعها في شخص واحد، قال: إنّ ستًّا منها تكفي ليستحقّ رأس المدينة الفاضلة مكانه. لكنّ المثير أنّ الاثنتي عشرة ميزة اجتمعت كلّها في شخصية المعلّم كمال جنبلاط: من امتلاك الفهم العميق والشجاعة والفضيلة الأخلاقية وسائر القيم، إلى الزهد في الدينار وسائر متاع الدنيا. وهذه لم تجتمع لشخص كما اجتمعت في كمال جنبلاط، المعلّم.
وهاكم بعض القيم التي جسّدها كمال جنبلاط، أي لم تكن شعارات ومُثُلاً فحسب، على سبيل المثال لا الحصر:
– قيمة الحرية في معانيها، لا يساوِم عليها، ولا يتخلّى عنها، مهما كلفه ذلك.
– قيمة التقدّم السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي بما يساعد شعبنا على السير إلى الأمام.
– قيمة الحداثة، بما تعنيه من فكر عقلاني وعلم ونظام بعيدًا عن الخرافات والشّخصنة وعبادة الشخص أو الفكرة، وبعيدًا عن الفوضى.
– قيمة الأخلاق الصارمة، إذ لا شيء يغدو ذا معنى إذا افتقد قيمته الأخلاقية، أو إذا ساوم عليها.
وأولها قيمتا الصدق والإخلاص، إضافة إلى رفض مظاهر الإنحلال كافة، إلى التعفف، في أقصى ما يحمله من معنى، والذي غدا مثالاً!
– قيمة الشجاعة، حين يكون على حق، لا يهاب سلطانًا أو قوة ولو كانت أعتى قوى الأرض.
– قيمة المثابرة والعمل المباشر، فكان ينتقد الكثيرين بوصفهم «كلامويين» و«كسالى»، وقد طبّق العمل المباشر على نفسه، شخصيّا، في أكثر من مناسبة.
– قيمة القوة في الحق، وإعلانه، والتضحية في سبيله؛ مع شجاعة الإعتراف بالخطأ والاعتذار.
– قيمتا المثالية والواقعية في آن معًا، فالمثالية المطلوبة يجب أن لا تعني الطوباوية والابتعاد عن الوقع والوقائع؛ كذلك ليست الواقعية التنكر للمثل والقيم الصحيحة والمفيدة.
– قيمة النقد الصارم، العميق، لا للآخر فقط، بل لنفسه أيضًا، وبكل قسوة كما رأينا في كتابيه: «الممارسة السياسية» و«هذه وصيتي»؛ كتابان لم يُستفد منهما بالقدر الكافي.

وأخيراً، قيمة محبة الناس، وبخاصة الفقراء، الذين منحهم كل ما يملك تقريبًا؛ من راتبه في مجلس النواب الذي وقفه للمحتاجين طوال حياته، إلى منحه ما يملك من أراضٍ للفلاحين أو الساكنين فيها، إلى منح قضية الفقراء حياته، في النهاية!
ألم يقل الشاعر الجنوبي شوقي بزيع يرثيه: «…أبا المساكين، إرجع نحنُ ننتظرُ»
أمّا ما يجمعهما، أو المشترك النضالي والثقافي بينهما، فالمقال الموقوف للذكرى فقط يعجز تعداد المشتركات تلك.
بعض ما جمع المعلّم كمال جنبلاط إلى الأمير شكيب أرسلان، على سبيل المثال لا الحصر:
– مناضلين مخلصين لشعبهما وأمتهما.
– زهدهما بكل المراكز والمناصب السياسية
– عداؤهما الشديد للاستعمار ومخططاته وسياساته
– ثقافتهما العالمية الواسعة
– إنتاجهما الفكري الكثيف: 20 كتاباً و 2000 مقالة لشكيب، ورسائل في كل بيت تقريبًا، قال فيها البعض، لو جمعت لكان وزنها طنّا من الورق!
وأكثر من 4000 فقرة ثقافية من كمال جنبلاط، بين كتبٍ (جاوز عددها الستين) ومقالات ومحاضرات.

وأخيراً، فقد جمعهما الإخلاص لفلسطين وقضيتها الكبرى المحقة؛ وبعض ذلك عند شكيب:
– أن آخر كلمتين نطق بهما، بل كتبهما وقد أعياه المرض النطق قبيل وفاته بساعات، «أوصيكم بفلسطين»!
– أمّا كمال جنبلاط فقد كان نصير القضية الفلسطينية الأكثر إخلاصًا لها، في لبنان وسائر العالم العربي على الأرجح. وقد كافأه أصدقاء فلسطين في العالم العربي بأن كرّسوه «الأمين العام للجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية».
وكافأه شعب فلسطين في الداخل بأن جعلوا اسم كمال جنبلاط لميادين ومدارس ومؤسسات، ( في نابلس وسواها) بل جعل شارة الحداد على روحه على سور المسجد الأقصى في القدس الشريف.
وبعد، فنحن نظلم شكيب أرسلان وكمال جنبلاط حين نحشرهما في إطار ضيّق، هنا أو هناك،
وبالمقابل نحنُ نطلق قيمتهما الفكرية والأخلاقية كاملة حين نرنو إليهما باعتبارهما نهجًا يستحثنا على متابعته، ومدرسة في أكثر من باب نتعلم فيها ومنها باستمرار.

وادي التَّيم أرضُ القداسة

«سبحانَك الله»، (كلمة القداسة)، كم هي بليغة روحانيّاً وعميقة فكرياًّ، ومُفعمة بالطُهر والإيمان إنسانياً.
«سبحانك الله»، كم يستريح إليها الفكر والفؤاد والجنان.
«سبحانك الله»، كما ترتاح لذكرها القلوب وتطمئن إليها النفوس وتشعّ إيماناً بين النصوص عبر الزمان.

فكيف بالأحرى أنّنا نعيش في أرضها المُسمّاة باسمها وبين أفيائها وعلى هضابها وسهولها ووديانها ونشرب من ينابيعها وأنهارها. ولا شك منذ كوني فكانت مسكنُ النّسّاك الصالحين والعبّاد القانتين المؤمنين الصادقين الصابرين وغيرهم وغيرهم إلى أوان الأوان وعبر الأيام والسنين.

وهذه التسمية (أرضُ القداسة) عائدة لوجود العديد من المزارات والمعابد للأنبياء والأولياء، ولربما بعضها ما يحفظ رِفاتهم منذ عهد آدم الصفا عليه السلام، أي منذ نحو سبعة آلاف سنة ونيّف إلى ظهور الدعوة التوحيدية عام 1017م، 408 هـ وما تبعها من ظهور أولياء كان من جراء ذلك لشد عزيمة الإيمان والتمسّك بأهداب الدين بين الأهل والأخوان. وهذا ما ينطبق على سائر الملل والأديان.

وما هذا كلّه إلا لخير البشرية وخلاصها وصلاحها وتنقيتها من جور بني الإنسان لبعضهم البعض، إذ كلّما تباعدت تاريخ الرسالات السماوية كلما عاد الإنسان إلى همجيته البربرية من أخلاق سيئة وتسلط وهيمنة وفرض شريعة الغاب وسواء ذلك، وهذا ما نعيشه في عصرنا الحاضر وعسى أن نكون على أبواب التغيّير للعودة بالبشرية إلى أيام الطُهر والخلاص كما هو الحال مطلع كل دعوة سماوية أرسلها الخالق الدّيّان.

وقد نطق القرآن الكريم أنّ عدد الأنبياء والرسل الكرام خمسة وعشرين نبيّاً منهم من له مزارات في وادي التيم ومنهم من قدّسه بمروره أو إقامته بين أبنائه وهذا ترتيبهم:
-آدم – إدريس – نوح – هود – صالح – إبراهيم – لوط – اسماعيل – اسحاق – يعقوب – يوسف – شعيب – أيوب – ذو الكفل – موسى – هارون – داود – سليمان – الياس – أليسع – يونس – زكريا – يحيى – عيسى – محمّد
ومن بين هؤلاء أربعة أنبياء عرب هم: هود – صالح – شُعيب ومحمّد (١)

والأنبياء والرسل (٢) هم الذين اصطفاهم الله تعالى من بني خلقه يحملون دعواته لعباده ويبشرون من آمن بهم وعمل عملاً صالحاً يُجاز لهم الأجير والثواب في الدنيا والآخرة. وينذرون الذين كفروا بتعاليم خالقهم ودعوات أنبيائه بالعقاب وسوء المصير. وقد نطق القرآن الكريم أيضاً في هذا الصدد «وما نرسل المرسلين إلاّ مبشّرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» {سورة الأنعام – الآية 48}.
أمّا الفرق بين النبي والرسول (٣) : فالنبوّة قد تكون مقتصرة على صاحبها ويُسمّى حينئذ نبيّاً، وقد تكون مقترنة لتقويم سلوك جماعة من الناس، وهذا التكليف رسالة ويُدعى صاحبها رسولاً وعلى هذا فكل رسول نبيٌّ وليس كل نبيّ رسول.

الأنبياء جمع نبيّ والاسم مشتق من نبأ، وفي شرح القاموس والنبي بالهمزة هو المُرسَل من الله تعالى وقد أطلعه على توحيده وأعلمه عن الغيب وأخبره أنه نبيّ ورفعه عن البشر.(٤)

وهنالك أيضاً رسُل آخرون لم ترد أسماؤهم في القرآن ولكن أشار الله إليهم بقوله مخاطباً رسوله محمّد (ص) «ورسلاً قد قصصنا عليك من قبل ورسلاً لم نقصص عليك» {سورة النساء – الآية 164}.

والأنبياء ليسوا بدرجةٍ واحدةٍ من الفضل والمكانة بل قد فضّل الله تعالى بعضهم على بعض بقوله: «ولقد فضلنا بعض النبيّين على بعضهم». أما أولياء العزم من الرسل، كما نعتهم القرآن الكريم (بأولي العزم)، والذي أمر الله رسوله محمّداً بالاقتداء بهم وفي جهادهم بقوله: «فاصبر كما صبر أولو العزم من الرّسل» وإنما سُمّوا بأولي العزم لأنَّ عزائمهم كانت قوية وابتلاءهم كان شديداً وجهادهم كان شاقاً وهم: نوح – ابراهيم – موسى – عيسى – محمّد، والإسلام الحنيف جعل الإيمان بالأنبياء من أركان العقيدة الإسلامية كما نطق القرآن الكريم «قولوا آمنّا بالله وما أُنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربّهم لا نُفرّق بين أحدٍ ونحن له مسلمون» {سورة البقرة – الآية 131}.

قصر قديم في بلدة راشيا الوادي ويبدو من خلفه جبل حرمون مطلع العشرينات.

تكريم الوادي عند أبنائه

هذا في المناسبات الاجتماعية كالأفراح والأتراح والزيارات وسواء ذلك كانت هناك أناشيد وزغاريد شعبية تُردَّد تكريماً وتمجيداً لذُرى وادي التيم ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما زغردته نساء بلدة مشغرة للأمير فخر الدين عندما حضر إليها ليصلح بين الأميرين الأخوين الشهابيين علي وأحمد بعد أن استفحل الخلاف والتقاتل بينهما على الزعامة للوادي، وقد وفّق في مصالحتهما بعد تقسيم الوادي بينهما.

إذ أعطى الأمير علي حاصبيا ومنطقتها أي جنوب وادي التيم وأعطى الأمير أحمد راشيا ومنطقتها أي شمالي وادي التيم، فكانت تلك الزغرودة التي أنشدتها السيدة فيروز بين أعمدة بعلبك (في أوبريت فخرالدين) حتى أنّ النسوة في منطقتنا، منذ عهد قديم، كنّ يرددنها لأبنائهن أمام أسرتهّن قصد المنامة.
« يا قمر مشغره
يا بدر وادي التيم
يا جبهة العالـــي
ومزنّرة بالغيـــــم
انشالله انشالله القمر يبقى قمر
وما يصيب عزّك ضَيم
وكذلك حقاً أنه «مَلفا الغيم» إذ تتجمع الغيوم المليئة بقطرات الندى صيفاً وبالأمطار شتاء والآتية جميعها من البحر كتاجٍ في أعلى قمة جبل الشيخ لتتحوّل فيما بعد خيراً وبركة فوق هضابه وشعابه.

ومشكى الضيم، إذ كان وما زال حصناً منيعاً للمضطَهدين والبائسين ينضوون بين كهوفه ووديانه وحتى مغاور قممه اتّقاءً لشر الحكام المتسلّطين والظالمين، وهرباً من جيوشهم الغازية والتي تستبيح شتّى المحرّمات وخاصة الِعِرض، وما له من كرامة وهذا ما حدث مع أهلنا أيام الغازي ابراهيم باشا المصري والأحداث والمعارك التي نشبت بينهما في معارك وادي التيم كمعركة بكّا والبيرة وحاصبيا وسواهما، ممّا حمل أهلنا في راشيا ومنطقتها إلى الانتقال إلى بلدة شبعا الحصينة والنزول عند أهلها. وهذا ليس مستبعداً أن يصبح مقراً أو ممراً للعديد من الأنبياء والأولياء وهم في تنقّلاتهم بين بلاد الشام وإلى بلاد كنعان، مهد التاريخ ومسرحاً للمعارك والقتال عبر الزمان.

حدود وادي التّيم الجغرافية كما حدّدها الأقدمون

أثبت العديد من المؤرخين ومنهم المؤرخ الشهير كمال الصليبي رئيس دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية عن وادي التيم في كتابه «لبنان بمنازل كثيرة»، أن قبيلة بني تيم، والتي هاجرت إليه من شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس الميلادي، قد استوطنت السفوح الغربية لجبل الشيخ ومن هنا كانت تسميته عملاً بالمبدأ الشائع «لا تُعرَف الأرض إلاّ بقاطنيها».

وحيث إنّ بني تيم من أجداد الموحدين الحاليين، لذا يمكننا القول ونقرّه إنّ القرى التي يقطنها الموحدون الحاليون في هذا الوادي هم النواة الأولى لمن سكن الوادي وعُرف فيما بعد باسمهم وإن تغيّرت معالم بعض القرى ديموغرافياً بسبب الحروب والفتن أو إنها بقيت كما هي.

إذاً يبتدئ الوادي المذكور من أقصى قرية توحيدية شمالاً وهي قرية حَلوى والتي يمر في أرضها وادي القرن أو وادي الحرير وتسلكه حالياً طريق دمشق بيروت الدولية. والدليل الثّابت لذلك أن المكان الذي يتواجد به مقام النبي هابيل عليه السلام والذي يقع على تلّة تشرف شمالاً على الطريق المذكورة وهي مُلك أصحاب بلدة حلوى، وأن صاحبها المرحوم الشيخ نسيب الداود شخصياً قد تبرّع من أرضه بمساحة 72 دونماً للمقام الشريف وعند أسفل المنخفض بجانب الطريق يقع مقام شقيقه القاتل قايين.

ثم يتدرج الوادي المذكور من هنالك جنوباً وملاصقاً لجبل الشيخ في القسم الغربي منه وهو جزء لا يتجزأ من وادي التيم لينتهي جنوباً عند القرى والمزارع الملاصقة لهضبة الجولان المحتلة والتي تُعرف بقرى العرقوب حالياً.

بالإضافة إلى ما يشير إليه الكاتب سعيد نفاع في كتابه (العرب – الدروز) (٥) ابن بلدة المطلّة اللبنانية التيمية والتي باعها صاحبها جبّور رزق الله من صيدا إلى البارون روتشيلد اليهودي الفرنسي عام 1875، كانت تشمل أيضاً قرى شمالي فلسطين الدرزية حتى بلاد الجليل. ومن القرى التي بيعت كالجاعونه وملبس وسواهما ما يدل على أن الوادي كان يتصل بالجليل ديمغرافياً ومذهبياً .

أمّا غرباً فتحدّه قمم وهضاب السلسلة الوسطى بين الوادي ومجري نهر الليطاني، وكما يعرّفها قاطنوها، إذ يبتدئ من بلدة مجدل عنجر شمالاً ثم يتدرّج جنوباً إلى بلدة السلطان يعقوب ثم البيرة والرّفيد والمحيدثة وكفر مشكي وصولاً إلى مرجعيون ثم المطلة المحتلّة والقرى التي تحيط بها وجميع هذه القرى في هذه البقعة الجغرافية من الأرض، كان سكانُها من طائفة الموحدين أو مختلطة في بعضها، إلاّ أنه حدثت بعض التّغيّرات الديموغرافية بين مقيميها، كما ذكرنا سابقا، من خلال الحروب والفتن وليصحّ القول عند العامة أنّ حدود وادي التيم من وادي الحرير شمالاً حتى جورة الذهب جنوباً أي الحولة المحتلة حالياً.

وهذه أسماء القرى التيمية وهي على الوجه التالي من الشمال إلى الجنوب:
حَلوى – دير العشائر – ينطا – بكا – كفر قوق – عيتا الفخار – مجدل عنجر – المنارة – الصويرة – بيادر العدس – الفالوج – السلطان يعقوب – عزّة – مدوخة – كفر دنيس – خربة روحا – عين عرب – البيرة – الرفيد – المحيدثة – ظهر الأحمر – راشيا – الفاقعة (دارس) – بكّيفا – بيت لهيا – تنورة – يذما (دارس) – عين حرشا – عين عطا – كوكبا أبو عرب – كفر مشكي – مرج الزهور – القنعبة – حوش القنعبة – ميراميس – العقبة – مزرعة جعفر – السفينة – الكفير – ميمس – الخلوات – عين ثنته – عين قنيا – شويّا – حاصبيا -الفرديس – عين جرفا – أبو قمحة – كوكبا – برغز – إبل السقي – بلاط – دبين – مرجعيون – القليعة – برج الملوك – دير ميماس – كفر كفلا – المطلة – الخيام (الخيم سابقاً) – سردة – العمرة – عين عرب – الماري – المجيدية – وادي خنسا – حلتا – مزارع شانوح وبسطرا – والسلامية- كفر شوبا – كفر حمام – شبعا – الهبارية والبالغ عددها نحو 75 قرية. (٦)


المراجع:

1- سميح عاطف الزين، قصص الأنبياء في القرآن، ص 5.
2- عاطف الزين، قصص الأنبياء في الكريم، مرجع سابق، ص 5.
3- عاطف الزين، قصص الأنبياء في القرآن الكريم، م.س.، ص 5.
4- عفيف طباره، مع الأنبياء في القرآن الكريم، ص 11.
5- سعيد نفاع، العرب الدروز، منشورات الدار التقدمية، ص 42 – 42.
6- غالب سليقه، كتاب وادي التيم أرض القداسة ( قيد الطبع).

مشاريع الطوائف ومستقبل لبنان

منذ إنشاء دولة لبنان الكبير وحتى تاريخه، لم يعمل اللبنانيون على تأسيس دولة ووطن، فقامت الدولة الناشئة على أساس تجميع طوائف بهويّات وخصوصيّات وتجارب تاريخيّة متنافرة وهواجس ديموغرافيّة وتسابق على الأفضليّة في الحكم والمغانم. ولم يتمَ العمل كذلك على تطوير الدستور «والميثاق الوطني» لبناء دولة حديثة، فدخل لبنان بين العامين 1958 و1990 في حربين داخليتين وأزْمات، فيما بقيت بنود «اتفاق الطائف» المتعلقة بإلغاء الطائفيّةِ-السياسيّة وخطواتها، حتى الهويّة العروبية، من دون تطبيق، وطبقة سياسية حاكمة تعيد انتاج ذاتها انتخابيًا عبر جمهورها الطائفي/المذهبي. كلّ هذا فتح أبواب لبنان على مشاريع للطوائف، أوصلت البلاد اليوم إلى الانهيار، تزامنًا مع الفساد والمحاصصة والاستحواذ على المناصب والثروات والمال.

سأقارب الموضوع بردود الفعلِ لدى الطائفتين الرئيسيّتن الإسلاميّة والمسيحيّة على إنشاء لبنان الكبير بناء على الخلاف على الهويّة حتى تاريخه، ثم أنتقل بسرعة إلى مشاريع الطوائف الخاصّة، وبعدها المتعلقة بالفدراليّة والدولة المدنيّة.

1- مخاض الهويّة اللبنانيّة

من المعروف أنّ المسلمين بغالبيتهم رفضوا لبنان الكبير لاعتبارات تتعلَّق بهويّتهم العربيّة-الإسلاميّة. فبين العامين 1909 و1920 كان عليهم الخروج من العثمنة، إلى العروبة في مؤتمر باريس في العام 1913 (دعوات الكواكبي لتعريب الخلافة الإسلاميّة، وابراهيم اليازجي وعازوري، والحصري، وزريق للقومية العربية)، وأن تُفرض عليهم الهويّة اللبنانيّة في لبنان الكبير. فكيف يمكن لإنسانٍ أن يغيّر هويّته ثلاث مرات في حدود 11 سنة. لهذا، بقيت العروبة مشروعًا وحدويًا في وعي المسلمين….

أما المسيحيّون، وبخاصّةٍ الموارنة منهم، فانحصر مشروعهم منذ عهد المتصرفيّة في إقامة كيانٍ لهم مستقل عن محيطهم العربي-الإسلامي. لذا، خرجوا من «لبنان الصغير» إلى لبنان الكبير بهويّة القومية اللبنانيّة مبتعدين عن عروبةٍ ثقافيّة كانوا هم روادها، فيما طالبت أقلية منهم بالعودة إلى لبنان الصغير خَشية أن «تمتصهم» الديموغرافيا الإسلاميّة، هويةً وسياسةً.

في المقابل، اندمج المسلمون فرادى، ثم تدريجيًا، في لبنان الكبير منذ العام 1920، حاملين معهم هويّتهم العروبية التي فضلوها على لبنانيتهم، وشكَّلَ ترشيح الشيخ محمَّد الجسر نفسه لرئاسة الجمهوريّة في العام 1932 ومؤتمر الساحل الثالث في العام 1936 علامتين فارقتين على اندماجهم في لبنان، إلى أنْ تُوِّج ذلك في «الميثاق الوطني» والصيغة.

في الميثاق وُضعت تسوية للتعايش الطوائفي على أساس الديمقراطيّة التوافقية وهويّة ملتبسة وحياد لبنان عن أزمات المنطقة. فاعتبر الموارنة أنّ لبنان أضحى أزليًّا، هويَّةً وكيانًا، وغير قابلٍ للتغيير أو التعديل، فيما تمسّك المسلمون بالعروبة مجسدين ذلك بالمطالبة بالوحدة مع سورية، والانجذاب إلى الوحدة المصريّة-السوريّة. فتسبّب ذلك في تخويفٍ متبادَلٍ بين الفريقين: المسيحيّون من عروبة تزحف عليهم برداء الإسلام (الخلط بين العروبة والإسلام)، ومسلمون خائفون على عروبتهم من إلحاق دولتهم بفلك الأحلاف، بعد دخول لبنان في «مبدأ ايزنهاور»، من دون أنْ يكون مهدّدًا بالشيوعيّة.

منذ «اتفاق القاهرة» في العام 1969 وحتى اتفاق الطائف في العام 1989، فُتحت أبواب لبنان على الخارج، وعلى الجيوسياسيتين الإسرائيليّة والسوريّة، من خلال:
أ‌- استقواء المسلمين بالمقاومة الفلسطينية مع تحوّل الديموغرافيا إلى مصلحتهم، ليس للانقلاب على لبنان الموحّد، بل لنزع مكاسبٍ من المارونيّة السياسيّة، وفي مقَدّمها رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش (تصريح كرامي بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بناء على تحول الديموغرافيا لمصلحة المسلمين، وكذلك النائب عدنان الحكيم لتأكيد أن الرئاسة ليست حكرًا على الموارنة).
ب‌- مشروع اليسار اللبناني لعلمنة النظام اللبناني، بحيث لا يبقى للموارنة من أعمدة الحكم الثلاثة سوى الاقتصاد المُمسكين به، أي خسارة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش.
ج‌- تصاعد مخاوف الموارنة، بعد انهيار التوزان السابق بفعل المقاومة الفلسطينية، وتعطّل صناعة القرار. فتكتّلوا في «الحلّف الثلاثي»، وطرح بعضُهم الفدراليّة.

باندلاع حرب لبنان نعى المسلمون، سنّة وشيعة، الميثاق وطالبوا بالعلمنة السياسيّة وبديمقراطيّة الأكثريّة، على أساس لبنان دائرةً انتخابية واحدة، فيما انحصر مشروع المسلمين الدروز في إقامة دولة عادلة، ومجلس شيوخ يمثّل الطوائف المشكّلة للمجتمع اللبناني، برئاستهم، مع الحفاظ على حقوقهم كأقليّة عددية كان لها دور بارز في تأسيس الكيان اللبناني الحديث. في المقابل، جاء رد الموارنة بالمطالبة بتطبيق العلمنة في الأحوال الشخصيّة لقطع الطريق على المطلب الإسلامي بالعلمنة السياسيّة، وتصاعدت دعواتهم مطلع الحرب إلى العودة إلى «لبنان الصغير» عبر الفدرلة أو التقسيم، أي كما جاء في كراسات «القضية اللبنانيّة» الصادرة عن لجنة الأبحاث في الكسليك. هذا المشروع خبا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 بتغيّر التوازنات من جديد، فعاد الموارنة إلى مشروع حكم لبنان كلَه.

فيما حَسم «اتفاق الطائف» عروبة لبنان وانتمائه العربي، ظهر منذ شباط 1985 مشروع حزب الله لإقامة نظامٍ إسلامي في لبنان وإلحاقه بولاية الفقيه وبالأمة الإسلاميّة بقيادة إيران. وظهر بعد الطائف سُنيّة سياسية جسّدها مشروع الحريري بإعادة الأعمار بسلطة رأس المال وبتبعية كاملة للسعودية، و»شيعيّة سياسيّة» تحمل مشروع «ديمقراطيّة الأكثرية» أو «المثالثة»، وكلاهما تُسقطان «المناصفة» التي أقرّها «اتفاق الطائف»، وبالتالي الدعوة إلى هيئة تأسيسيّة لإقامة نظام جديد يحقّق لها السيطرة على لبنان، حتى أن السنّة طالبوا مطلع الحرب بديمقراطيّة الأكثرية (تصريح حسين قوَّتلي المدير العام لدار الافتاء). صحيح أنَّ الحزب قام بدورٍ رئيسي في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وحصل على تأييد الشعب اللبناني، إلا أن سياسة الإمساك بالدولة ومؤسّساتها والقرار فيها، خلق أسئلة وإشكاليات عدّة، كما فتح الباب من جديد على مخاوف إعادة لبنان إلى دائرة مشاريع الطوائف الكبرى.

لقد اعتقد كثيرون أنّ «ثورة الأرز» هي مشروع وطنيً جامع لإقامة الدولة القويّة، فانضمت، منذ ذلك الحين، غالبية إسلاميّة إلى هوية لبنانيّة تحت شعار «لبنان أوَّلًا»، لكن الثورة انحصرت في إخراج الجيش السوري من لبنان، ولم تصل إلى مشروع وطني تغييري، فيما تحول تكتل 14 آذار إلى «زواج الإكراه» لجمعه قوى متناقضة لم تَرْقَ إلى مشروع إقامة دولة قوية، ثم تآكلت بالاغتيالات.

هكذا، عادت الطوائف اللبنانيّة الكبرى تطرح مشاريع سياسية وفق مصالحها لتغيير نظام لبنان أو الانقلاب عليه، في كلّ مرّة كانت تتعرّض البلاد فيها لأزْمات، أو تشعر فيه طائفة بالضعف، أو تستقوي على غيرها من الطوائف الأخرى.

وتتضارب اليوم ثلاثة مشاريعَ مترافقة مع الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي:
أ‌- الفدراليّة للموارنة، كردّ فعل على انهيار الدولة وقيام دولة إلى جانبها.
ب‌- مشروع «المثالثة» للشيعيّة-السياسيّة التي تضرب المناصفة التي أقرّها الطائف.
ج- مشروع الدولة المدنيّة الذي يلقى رفضًا حادًا من قبل معظم رجال الدين المسلمين والمسيحيين.

2- المخاوف المسيحية من البقاء في لبنان الكبير

أشير بداية إلى لبنانيين كثر يتشاركون مع المسيحيين في معظم مخاوفهم، من دون أن يكون لديهم مشروع للفدرالية.

إنّ الخَشية على الإنجازات والمستقبل والمصير لدى المسيحيين تأتي في صدارة مخاوفهم، بأن يتم القضاء نهائيًا على إسهاماتهم وأدوارهم في لبنان ويشعر المسيحيون أنهم فقدوا الدولة التي أسّسوها أو تأسست من أجلهم، ولم تعد تؤدّي مهامها سيادة ومؤسسات ودستورًا وجيشًا وقضاء، وما وصلت فيه الأحوال من محاصصة الوزارات والمناصب، ووجود «سلاح غير شرعي»، فضلًا عن «الحدود السائبة»، وتحليق الدولار وتدهور الأوضاع المعيشية للأسباب المعروفة، وانهيار الطبقة الوسطى من 70% إلى 40%، وازدياد الفقراء من 25% إلى 55%، وفق آخر الإحصاءات.
كذلك يقلَقُ المسيحيون من عدم تطبيق اللامركزيّة الإدارية، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهوريّة بموجب اتفاق الطائف، وتحول «المناصفة» إلى وهمية، وهناك تصاريح عديدة للبطريرك صفير حول التلاعب بالانتخابات منذ العام 1992، عبر انتخاب المرشحين المسيحيين من قبل أكثرية إسلاميّة.

بعد العام 2005 وعودة الجنرال عون من المنفى، ظهرت هناك مطالبات شعبية مارونية لتفعيل المارونية-السياسية، لاستعادة موقعها على الساحة الداخلية. ولأسباب لن ندخل فيها، نشأ صراع مُدمّر بين المارونيّة السياسيّة الجديدة الممثلة بالجنرال عون «والمارونية السياسيّة» القديمة، القوات والكتائب والمردة، تهميش مع محاولات تهميش مرجعية بكركي وتحويل كلمتها إلى غير مسموعة. فأدّى هذا الشرخ إلى تآكل الطائفة المارونية من الداخل، تزامنًا مع ضعف سياسي متزايد في دور الطائفة السنية، ومطالبة الشيعيّة-السياسيّة بـ «المثالثة» التي تقلّص دور الطوائف وتترجم اليوم في الاحتفاظ بوزارة الماليّة، فضلًا عن محاولات قضم ما أمكن من مؤسسات الدولة والقطاع العام، مترافقاً مع ضرب استقلالية الصحافة ووسائل الإعلام، وإسكات الأصوات المعارضة بوسائل عدة، أبرزها الإحالات المتكررة للأصوات المعارضة على مرجعيات قضائية وعسكرية ليست مخوّلة النظر في المخالفات الإعلامية.

تزامنًا، وجد الكثير من المسيحيين أنّ الإرهاب الذي مارسته منظمات عسكرية تزعم أنها «إسلامية» وضرب لبنان منذ نهاية القرن الماضي، وتأثّره بالأصوليّة الإسلاميّة في الإقليم، وتوسيع تركيا نفوذها هناك، بعث لدى المرجعيات المسيحية خوفاً حقيقياً على هوية لبنان التي تكرّست في الميثاق الوطني لسنة 1943.

وباندلاع الثورة السورية، وانخراط فصائل لبانية، أفراداً وجماعات فيها، يضاف إليها تداعيات اللجوء السوري للبنان، تأججت مخاوف الموارنة من جديد، فضلًا عن فشل «إعلان بعبدا» في حزيران 2012 في وضع حدّ لذلك، ما فتح الباب واسعاً لتكهنات بوجود مشاريع سياسية غير معلنة يجري تحضيرها للهيمنة على الكيان اللبناني، أو تقسيمه الفعلي تحت مسميات غير معبّرة عن حقيقة مضمونها. وكأنت أبرز تداعيات التحول الجديد الإساءة إلى العلاقات بين اللبنانيين وبين لبنان والعالمين العربي والخارجي، وبداية علامات التأزم المالي والاقتصادي والاجتماعي..
صحيح أنّ الانتفاضة اللبنانيّة عزّزت الأمل لدى الكثير من اللبنانيين بحصول التغيير المنشود، وإعادة توحيد اللبنانيين تحت عناوين وطنية واجتماعية بعيداً عن الاصطفاف الطائفي والمذهبي، إلّا أنّ الأمور لم تسر في الاتجاه الذي يخدم سفينة الوحدة الوطنية المدنية غير الطائفية. إذ سرعان ما تسرّب الانقسام إلى جمهور الانتفاضة نفسه، وفقط خطوط طائفية منفّرة، وكانت ممارسات لبعض من زعم أنه من جمهور الانتفاض (من عنف زائد مجاني ومشبوه الغايات، إلى تدمير المؤسسات، واستهداف الأنشطة الاقتصادية وغيرها) ما تسبب بإحباط شديد. ثم تلاشت الانتفاضة مع انتشار فيروس كورونا. ثم جاء تفجير مرفأ بيروت مطلع آب 2020، وتعطيل التحقيق العدلي فيه، وما حصل في عين الرمّانة في 14 تشرين الأول 2021، وعودة حوادث الاغتيالات المشبوهة، والهجرة الدافقة نحو الخارج ليخلق انهياراً سياسياً انضاف إلى الانهيار المالي. وأضيف صوت بكركي المطالب بالحياد إلى الأسباب الأخرى التي انقسم اللبنانيون فيها؛ وفيما كان الغاية كما أعلنها غبطة البطريرك النأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية، جاءت المطالبة بإعلان حياد لبنان وعرض أوضاعه على مؤتمر دولي، لتشعر فريق من اللبنانيين (وبخاصة الطرف الشيعي) أنه المستهدف بذلك، وليغدو مطلب الحياد كرة نار جديدة يتقاذفها الفرقاء السياسيون.

لقد شعر موارنة ولبنانيون (عن حق أو من غير حق) أن تعطيل استحقاقين رئاسيّين على يد الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحرّ بين العامين 2007 و2016، ومرّة ثالثة منذ خريف العام 2022، هو استهداف للوطن. ولا ننسى في هذه العُجالة تعطيل تشكيل الحكومات اللبنانيّة، فيما بقي صوتا البطريرك الراعي والمطران عَودة غير مسموعين، من شغورٍ مسيحي في المؤسّسات القضائيّة والماليّة والعسكريّة والدبلوماسيّة، واعتباره تهديدًا للهوية. ولم يكن تصاعد المطالبة بالفدرالية لدى أطراف مارونية عدة بعيداً عن مناخ الفوضى الذي ساد الحياة السياسية اللبنانية في الفترة الأخيرة، وخروج ملامح مشاريع سياسية أشتّم منها أنها تتضمن تغييراً في هوية لبنان التقليدية.

3- هل الفدراليّة مشروع لمستقبل لبنان أم للتقسيم؟

نشير بداية إلى دول كثيرة نجحت في اعتمادها، لأن مساحاتها الجغرافية الواسعة وتموضع سكانها سمحت بتوزيع السلطات بين المركزي والمحلّي، فضلا عن أن معظمها لديه قسط من الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فيما سينتقل لبنان الطائفي الموحّد بهشاشته وتداخل طوائفه ومساحته الجغرافية الصغيرة إلى الفدراليّة، وهو يحمل معه أحقادًا تاريخية طائفيّة ومذهبيّة، وتبعيات للخارج، والخلافات على السياسيتين الدفاعيّة والخارجيّة، ما يعزّز الشكوك والهواجس حول مستقبل الفدراليّة وثباتها ويعيق النجاحِ. فهل تربينا على احترام الديمقراطيّة في لبنان الموحّد كي نطبقها في لبنان الفدرالي؟

عندما جرت الانتخابات في العامين 2005 و2009، أفرزت أكثرية مقابل أقليّة معارضة؛ لكن الأكثرية لم تحكم لتسلط قوى الممانعة اللبنانيّة على الحياة السياسية. وبموجب «اتفاق الدوحة» في أيار 2008، حصلت المعارضة على «الثلث الضامن»، وأخذ الحكم في حينه طابع الكيدية، من دون اعتبار لمصالح الوطن.

إنَّ توقُّع فشل الفدراليّة ومخاطرها على التعايش يعود، برأينا، إلى صغر حجم لبنان وقلّة موارده الطبيعية، وتضارب الجغرافيا مع الثقافات في الأقاليم، وبقاء الطائفيّة المجتمعية تمنع التعايش والتلاقي، ووجود ثقافة الاستقواء على الآخر، قد تؤدّي كلّها إلى صراعاتٍ وتطهيرٍ على أساس الدين، خاصّة أنّ تغيّر الديمغرافيا بفعل التكاثر الاسكّاني للأقليّات وغياب الديمقراطيّة والاعتراف بالآخر وبحقوقه، سوف يُفسد «العيش المشترك»، عبر مطالباتها بحقوق إضافية تضنُّ عليها بها الأكثريّة.

وفي الدولة الفدراليّة، يتشكل المجلس الرئاسي المركزي من رؤساء الأقاليم المنتخَبين، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول تحوّلهم إلى وطنيين وعَلمانيين يعتمدون ثقافة التعايش الفدرالي، علمًا أن قرارات المحكمة الدستوريّة في الدول الفدراليّة نافذة. فهل ستكون كذلكَ بالفعل في لبنان الفدرالي، أم على طراز لبنان الموحّد؟ والسؤال المُلحّ: كيف سيتمكن الجيش الفدرالي المكوّن من أبناء الطوائف من حسم الأمور إذا حدثت خلافات بين الأقاليم؟ ولن تكون هناك ضمانات بوقوف الفدراليّات إلى جانب بعضها البعض في حال تعرّضها لخطر خارجي.

ومن المعروف في الدول الفدراليّة أن السياستين الدفاعيّة والخارجيّة من صلاحيات الحكومة المركزيّة، وهما مَوقِعا الخلاف في لبنان الموحّد. فكيف ستتوافق مكونات الفدراليّة على السياسة الدفاعيّة وهناك سلاح غير شرعي على الأرض، وهل ستقطع الطوائف علاقاتها بالخارج؟ وفي لبنان الموحّد لا يُحترم الدستور، وقد خُرق مرارًا منذ الطائف، واليوم في الاستحقاق الرئاسي الأخير وطريقة التصويت والورقة البيضاء). ولا ضمان لعدم خرقه في الفدراليّة (قوانين الانتخابات والجنسية، والمالية والنقد).

إنّ نظام التملّك والتنقل والإقامة والعمل في الفدراليّات هو حقّ دستوري. فهل سيقبل به المسيحيّون الخائفون من التملك وعمل الأجانب وإقامتهم في مناطقهم (بيان المؤتمر الدائم للفدراليّة)؟ وهل ستكون بيروتَ الكبرى فدراليّة إسلاميّة-أرثوذكسيّة أم عاصمة مركزيّة؟ وكيف سيكون عليه موقف حزب الله من مرفئها ومطارها خارج نطاق سيطرته؟.

يبقى سؤالان: كيف ستؤسَّس فدراليّة وطوائف البلاد مبعثرة على مساحة لبنان، وهل الحلّ بريط أبناء أي طائفة بممرات؟ إنّ صعوبات عدة جغرافية، وجيو سياسية، واجتماعية، وعسكرية، تقف حائلاً قوياً دون إمكانية تحول الفدرالية إلى كيان سياسي جديد في لبنان؛ كما أن المسوغٍ الرئيس للفدراليّة عند الموارنة هو سلاح حزب الله أمرٌ خاضع دوماً للنقاش والمقاربة كما جرى غير مرة

4- هل الدولة المدنيّة هي الحلّ؟

إذا كانت الفدراليّة ذات أُفق مسدودٍ، وقد تؤدّي إلى انهيارات على الأصعدة كافة، فهل يكمن الحلّ إذًا في الدولة المدنيّة (العلمانيّة)؟.

يُعلن بعض المسؤولين تكاذُبًا عن سعيهم إلى إقامة دولة مدنيّة. في الدولة المدنيّة لا يوجد زعماء طوائف وينبثق مجتمع مدني يراقب الحكومة، ويتقارب أبناء الوطن الواحد ويتمتّعون بالحقوق والواجبات نفسها، وينتفعون جميعًا بالثروات، ولا يشكّل الواحد منهم تهديدًا لـ «لآخر»، سياسيًّا أم اجتماعيًّا أم ثقافيًّا.
كل هذا يؤدي إلى انبثاق وحدة مجتمعيّة تؤسّس لمواطنيّةٍ،

ولعدم توافر إحصاءاتٍ عن مدى تقبّل اللبنانيين الدولة المدنيّة، سأقارب الموضوع من خلال الزواج المدني والزواج المدني الاختياري، إشارة إلى أن الزواج الاختياري لم يُطبَّق في العام 1998 بسبب المعارضة الإسلاميّة الواسعة، رغم موافقة قوى سياسية محسوبة على الجانب الإسلامي وأبرزها الحزب التقدمي الاشتراكي. إنّ حظوظ قبول المسيحيّين بزواج مدني هي أكبر من تلك لدى المسلمين، مع أنّ البطريرك الراعي رأى أنّ الزواج المدني هو خطيئة. فكيف ستؤسَّس الدولة المدنيّة إذاً، فيما الزواج بأيدي رجال الدين؟ لقد اشترطت البطريركيّة المارونيّة القبول بالزواج المدني بعقد القِران في الكنيسة أيضًا. لكن المسألة ليست هنا، بل في مفاعيل الزواج المتأتية (طلاق، ميراث، حضانة تبنٍّ الخ..). إنّ المسلمين يرفضون الزواج المدني الاختياري؛ فكيف سيقبلون بهذا الطراز من الدولة العلمانيّة التي تفصل الدين عن الدولة، ولا تُدخل التشريعات السماوية في قوانينها؟. في شباط 2021 اعتبرت دار الفتوى أنّ الزواج المدني يخالف أحكامّ المادّة التاسعة من الدستور اللبناني الذي أعطاها تلك الصلاحيات، فيما أنَّ قانونًا موحَّدًا للأحوال الشخصية، مرفوض من المسلمين والمسيحيين.

نحن نعترف بصعوبة إسقاط الدولة المدنيّة على مجتمع طائفيّ قبلَ تربيته على المواطنية والديمقراطيّة والاعتراف بـ «الآخر» وحقوقه والعيش معه. لكن أليس من الأفضل اختبار هذه التجربة، كما فعلت تركيا وتونس اللتان فصلتا الدين عن الأحوال الشخصية، بدلًا من الذهابِ إلى الفدراليّة أو نظام إسلاميّ أو هيمنة إسلاميّة؟ وإذا فشلت الدولة المدنيّة، عندها يبحث اللبنانيون عن حلّ آخر، قد لا يكون متوافرًا.

قد تكون أو لا تكون الدولة الفدراليّة هي الحلّ. لكن الوصول إلى الجواب يجب أن يسبقه حوار وطني للحفاظ على لبنان موحَّدًا، وعلى إرادة العيش المشترك تحت مظلّة نظام يجمع ولا يفرّق، بعد الاستغناء عن الطائفيّة-السياسيّة، ووضع قانون يتيح للبنانيّين الانتخاب والإتيان بممثّليهم الفعليّين إلى مجلس النوّاب، في ظل حكومة قويّة وفاعلة ونزيهة، وإنشاء مجلس شيوخ طائفي انتقالي مرحلي، والعمل تدريجيًا للانتقال إلى مجلس نيابيّ غير طائفيّ. كذلك، الاتفاق على السياستين الدفاعيّة والخارجيّة، واستقلال القضاء عن التدخلات السياسية، واعتماد اللامركزيّة الإداريّة، وتحرير الوظيفة من القيد الطائفي. وتتطلّب الدولة المدنيّة علمنة الأحزاب، وأن تكون مختلطة ولديها برامج تعزّز الوطنية، فضلًا عن الإنماء المتوازن.

وعلى الصعيد الاجتماعي التربوي، وجوب وضع الأحوال الشخصيّة في يد الدولة، وتعزيز الزواج المدني المختلط؛ مع عقد الزيجات لدى المؤسّسات الدِّينيّة كخطوة ثانية تليه لمن يشاء، وهذ هي المشكلة مع المؤسّسات الدينية. كذلك، إعادة بناء الوحدة الوطنية بمفاهيم تربويّة واجتماعيّة تعزّز المواطنيّة والتعدّديّة الثقافيّة، واستبدال التعليم الديني بتدريس القيم المشتركة للأديان (فشل الحريري الأب في جعل التعليم الديني خارج المدارس). وأخيرًا جعل الدولة اللبنانيّة وحدها مرجعيّة السلاح والقرار السياسيّ، وتعزيز الجيش الوطني.

5- استشراف المستقبل

لقد مر لبنان في العقدين الأخيرين بمخاضات كارثيّة عدة، تلاشت الدولة اللبنانيّة معها كليّا وفقدت أهم ميزة لها، وهي الإمساك بشعبها وفرض سيادتها على أراضيها وعلى سياستها الخارجيّة. وفي المخاض الأخير، فقدت القدرة على الدفاع عن ثرواتها.

إنّ الفدراليّة المُبَعثرة على أساس الجغرافيا والثقافات المتباينة والمصالح المتضاربة لن تكون مقبولة من كل الطوائف، ولن تلبّي حاجاتها، فيما لا توجد إرادة لبنانيّة قادرة على تحقيق الدولة المدنيّة في ظلّ السدود السياسية والاجتماعيّة والدينية المقامة حولها. لقد جربنا التدخل الدولي في عهد القائمقاميتين وإنشاء متصرفية جبل لبنان، وفي سايكس – بيكو وفي التسوية بين شهاب وناصر مطلع العام 1959، وفي «اتفاق القاهرة»، واتفاقي الطائف والدوحة، حتى «إعلان بعبدا»، من أجل حل خلافاتنا، فكانت كارثيّة، أو من دون نتائج.

يبقى السؤال» أين يكمن الحلّ إذاً؟ مع العلم أن لبنان لن يعود كما كان.
إذا كان الحل الوطني المطلوب في الأمد المنظور، بما فيه معالجة معطى سلاح حزب الله، إلا أن الحل المعاكس، أي الفدرالية، سيقود إلى نتائج كارثية، وبعضها:
1- قيام حرب بين الطوائف لتحسين شروط الكانتونات من نواحي الأرض والإسكان والموارد والثروات المرتقبة.
2- قيام صراع بين مكوِّنات الفدراليّة المسيحية على الزعامة والمصالح مستقبلًا.
3- إنّ الفدراليّة هي مخلوق مَيْت في ظل الثقافات اللبنانيّة الراهنة، وستؤدي إلى التقسيم.

وبعد، فكل مشروع مستند إلى أساس، أو تبرير، طائفي، ومن أي جهة أتى، ليس حلاً، بل يزيد الأزمة اللبنانية الراهنة تعقيداً، بل تفجيراً. وحده المشروع الوطني المدني الديمقراطي، العادل في توزيع الحقوق والواجبات، والذي يتضمن مساحة للخصوصيات المحلية، هو الحلّ المستقبلي الآمن.

انتفاضة راشيّا ضدّ السُّخرة (1878)

تزامنت انتفاضة راشيّا (1878) مع انتفاضةِ أخرى في قرية المطلّة أسفل وادي التّيْم ذات السكن الدرزي وشيخها وقائدها علي الحجّار الذي ضاقت السلطة العثمانية ذرعاً به بعد الانتفاضة، كما ضاق بوجوده المستوطنون الصهاينة فدبّر الفريقان اغتياله في العام 1895 الذي آل عمليّاً إلى استيلاء الحركة الصهيونية على المطلة وتشريد سكانها في قرى المنطقة وجبل حوران.

1. الظروف العامة

أ- محاولة السلطة العثمانية تحديث الدولة على مقياس الدول الأوروبية، وهي محاولة سابقة لهذا التاريخ، إلّا أنّ جديدها في هذه المرحلة كان تنصيب السلطان عبد الحميد في سنة 1876، واستعانته بنخبة متنوّرة وجادة في مشروع التحديث، وأبرزهم مدحت باشا، في مقابل استمرار الطاقم القديم من الولاة والإداريين الذين درجوا على نمط الإدارة السابقة مدعومين من بنية اقتصادية واجتماعية تقليدية. والمثل الأبرز لذلك في هذه المرحلة محاولة السلطان والمتنورين في الإدارة تكريس الحكم الدستوري بإقرار الدستور (المشروطية) في سنة 1876، ثم تجميده في السنة التالية. وعبّرت هذه المحاولة عن الصراع بين مشروع تحديث الدولة و«مشروع» الإبقاء على طبيعتها التقليدية، سياسياً وإدارياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ولكل منهما قواه، فحملت نخب مدينية في إستانبول ومراكز الولايات همّ تقليد التجربة الرأسمالية في إنتاج السلطة، ولم تكن البُنى الإدارية في الدولة تحاكي هذا النزوع، لا بل تصدت له مركزياً ومحلّياً، وكان مدحت باشا والياً على الشام.

ب- اشتداد صراع الدول الأوروبية على الدولة العثمانية، وكانت أحداث بلاد الشام ما بين 1831 و1861 نموذجاً عنه؛ إنْ بالتدخل لمواجهة الحملة المصرية أو في الأحداث الطائفية بعدها، وتكرّست، رسميّاً، في نظام المتصرفية وحكمها الذي تلازم، عربيّاً، مع احتلال تونس (1881) وفرض الحماية على مصر (1882).

ج – نشاط الحركة الصهيونية في شراء الأراضي في فلسطين وإقامة المستعمرات عليها التي شهدت في هذه المرحلة تجدّدها.

د- إقدام السلطة على التشدد في تطبيق قانون التجنيد الإجباري، وهو قانون صدر في سنة 1260ه / 1844م، وعُدّل في سنة 1870 لجهة شموله وتخفيض أعوام الخدمة.

ه- صدور قانون الأراضي (1858) وقانون الطابو (1859) اللّذَين استُكملا بصدور قانون الجزاء (1284هـ / 1867م)، و«مجلة الأحكام العدلية» (1285 – 1283هـ / 1868 – 1882م)، ولم يُعرف ما إذا حدثت عمليات تلاعب بالقوانين الصادرة في هذه المرحلة، وأهمها قانونا الأراضي (1858) والطابو (1859) اللذان استهدفا تشجيع الزراعة وحماية حقوق العاملين فيها، خلافاً لما كان سائداً، وذلك على قاعدة الحفاظ على الوضع السابق وشرعنته، فضلاً عن خدمة مصالح المتنفذين الجدد، وقد حدث مثل ذلك في البقاع.

٢. الظّروف الدرزية

تزامنت انتفاضة راشيّا (1878) ومثلها انتفاضة المطلّة مع حالتَي اعتراض واسعتين وعميقتين بين الموحدين الدروز:
الأولى في الشوف ووادي التّيم وما بينهما في البقاع وتعود إلى الحَيْف الذي لحق بهم في تسوية العام 1860 وما كبدتهم من اضطهادٍ وتشريدٍ لقادتهم ووجهائهم، ومن خسائر اقتصادية ومالية باهظة استمرت مفاعليها لفترة طويلة، وتنبئ وثيقة عثمانية في ذاك العام عن تخوّف من حادثة بسيطة وقعت في 25 كانون الثاني 1876 (مشاجرة بين ماروني ودرزي في عبيه جُرح الثاني فهاجم أقارب الجريح مع 200 رجل بقيادة شيخين من آل نكد الحي المسيحي وهددوا سكّانه بالقتل إلّا أنّ المتصرف رستم باشا سارع لتوقيف الشيخين مع 18 درزياً وتوقيف المعتدي).

الثانية في حوران؛ إذ شهد جبله نزوحاً كثيفاً من دروز الشوف ووادي التيم واقليم البلّان وصفد، وبعضهم من المشاركين في أحداث العام 1860، وكان تيّار في السلطة العثمانية مدعوماً من السلطة الفرنسية يعمل لملاحقة هؤلاء بذريعة ردّ المسروقات، وكان النازحون من فعل أحداث الستين يجهدون لتأمين لقمة العيش بالتوسع في جوار موطن من سبقهم من أبناء طائفتهم، سكناً في القرى الخْرٍبة وزراعة ورعياً في الأراضي الخصبة، فكان الصدام المتكرر مع مَن هم في جوارهم، وتمثل بُعيد سنة الانتفاضتين بقتال بين الدروز وأهالي بصرى الحرير في أيار – كانون الأول 1879، وسعي السلطة لردع اعتداءات الدروز مع تفضيلها الحل السلمي بتسليم من بقي حياً من القتلة.

وارتبط بهذين الاعتراضين وعبر عنهما حركة النزوح الكثيفة من الشوف ووادي التيم والجليل الأعلى نحو حوران؛ إنْ هرباً من الاضطهاد، كما في أحداث 1860 وبعدها حين فرضت السلطة العثمانية التجنيد الإجباري وحين قامت بعمليات اعتقال واسعة بعد أحداث 1860 في مناطق راشيا وحاصبيا وإقليم البلان (1860-1862)، أو طلباً للاسترزاق كما حصل إبّان التشدد لانتزاع ملكيات الاقطاعيين الدروز في البقاع وما يعنيه من تشريد الفلاحين (1860-1872)، وفي العام 1867، إبَّان نقص محصول الحرير وقلة الأراضي الزراعية واضطهاد الموالين للغرضية الجنبلاطية. أو نجدة لربعهم،كما في معارك جماعتهم مع السلطة أو الجوار تمثل بالنجدة للمقاتلين الدروز في جبل حوران، كما حصل في أحداث الكرك (1881) ، وأحداث المِسمية وشعارة (1886) ، وأحداث مجدل شمس – حوران (1894 – 1896)، وأحداث 1905 وقد كانت التعليمات العثمانية بالتشدد في منعها وإرسال قوى عسكرية إلى منافذ طرقها.

٣. الظروف المَحليّة

انعكست الظروف العامة والدرزية على الظروف المحلّية وظهرت في:
أ – اصطدام محاولات فرض تجربة التحديث للإنتاج «الديمقراطي» للسلطة بالإنتاج الزعاماتي التقليدي، وخصوصاً في الأرياف، إذ رافق محاولات تحديث الإدارة، ولا سيما بناء جيش حديث، في الدولة العثمانية رفض السكان ذلك، والإصرار على التهرب منه ومواجهته، كما قوبل إصدار قانون الأراضي وقانون الطابو وما استتبعهما، وهما قانونان أريد بهما تمليك الفلاحين وتعزيز الإنتاج، بحركة التفاف من النافذين والملتزمين السابقين للأراضي والتجار والإداريين من جهة، وبثقاقة تقليدية قائمة على الولاء للنافذ – الزعيم من جهة ثانية، وبجهل العامة لمندرجات القانون من جهة ثالثة. وجرت بفعل ذلك عمليات تملّك للأراضي من طرف النافذين والتجار، عبر تحايل على القانونَين أفقد الفلاحين مصادر رزقهم وحوّلهم إلى أجراء، من دون أن يعوا مبكراً مخاطر ما حدث، وقد ذكرنا، آنفاً، مثلا عن ذلك في البقاع.

ب – استهداف حركة الاستيطان الصهيونية المناطق السهلية في فلسطين، والحولة أكثرها سهلية وخصباً، وكانت أولى المستعمرات في طبرية وصفد.

ج – حركة النزوح الكثيفة من الشوف ووادي التيم وإقليم البلان والجليل الأعلى نحو حوران؛ إمّا هرباً من الاضطهاد، كما في أحداث 1860، وحين فرضت السلطة العثمانية التجنيد الإجباري وحين قامت بعمليات اعتقال واسعة بعد أحداث 1860 في راشيا وحاصبيا وإقليم البلان (1860-1862)؛ وإمّا طلباً للاسترزاق مثلما حدث في أثناء التشدد لانتزاع ملكيات الإقطاعيين الدروز في البقاع وما يعنيه من تشريد الفلاحين (1860 – 1872)، وكما وقع في سنة 1867، في إبان نقص محصول الحرير وقلة الأراضي الزراعية واضطهاد الموالين للغرضية الجنبلاطية؛ وإمّا نجدة لربعهم، كما في معارك جماعتهم مع السلطة أو الجوار تمثل في النجدة للمقاتلين الدروز في جبل حوران، مثلما جرى في أحداث قرية ّالكرك الحورانية (1881) وأحداث المسمية وشعارة (1886).

وأحداث مجدل شمس – حوران (1894 – 1896)، وأحداث 1905، وكانت التعليمات العثمانية بالتشدد في منعها وإرسال قوى عسكرية إلى منافذ طرقها.

ويتبدّى النزوح من قرى الوادي بفعل الملاحقات من جهة والهرب من الخدمة الإجبارية من جهة ثانية ومواجهة الأزمات المعيشية من جهة ثالثة وفي استعراض أصول عائلات في الجبل من كل قرى المنطقة، وكان لبعضهم مشاركة فاعلة في عمليات التوسّع والقتال، وأبرزهم أحد زعماء الوادي، محمّد نصار، وذويه.

د – الوضع الاقتصادي المتردي، وقد عبّرت لسان الحال عن ذلك في الأعداد المتزامنة مع الانتفاضة، وتمثل التردّي في العوز والضنك وارتفاع الأسعار وتفاقم العسر وانتشار الجراد وهلاك الماعز وكثرة الثلوج، ويظهر تقرير للقنصل الفرنسي بتاريخ 7 حزيران 1877 ونشره قيس فرّو في كتابه تاريخ الدروز خلافاً بين الفلاحين في راشيا حول الأراضي ومصادر المياه (حزيران 1877).

ه – تردي الوضع الأمني، إذ ذكرت لسان الحال في سنة 1878 العديد من حوادث السلب والتشليح والقتل في كل من: إبل السقي (تموز / يوليو)؛ حاصبيا (حزيران / يونيو)؛ طريق صيدا – صور (تشرين الأول / أكتوبر)؛ راشيا (تشرين الثاني / نوفمبر)؛ جسر الغجر (تشرين الثاني / نوفمبر)؛ كفر كلا (كانون الأول / ديسمبر).

٤. انتفاضة راشيا

وقعت في أواخر تشرين الأول وأوائل تشرين الثاني 1878 وكانت أكثر محدودية من انتفاضة المطلّة التي سبقتها( شباط 1878) وأضيق تأثيراً، إذ استمرت مفاعيلها حتى نهاية العام، وقضيتها السخرة، إذ مسك العساكر في راشيا بغلاً لرجل من آل القزّاز من ظهر الأحمر لتسخيره إلى دمشق فحشد له جماعة من دروز راشيا وتضارب الفريقان وكان الضرب مبرحاً للعسكريين الذين فروا إلى السرايا فاستنفر ضابطهم وأرسل 24 نفراً لتأديب الضاربين فحاولوا اعتقال محمّد سيّور، أول من تحشّد وأغرى الجميع به، فكثر تجمع الدروز للحؤول دون ذلك ولم يفلح إطلاق النار في الهواء في تفريقهم، لا بل شجع الدروز على استحضار أسلحتهم وإطلاق النار على العسكر فجرح عشرة منهم ودرزي واحد، كما وفد الدروز من القرى المجاورة لمحاصرة السرايا، فاشتد التصادم بإمساك الدروز اثنين من العسكر وقتل العسكر، بالنار، اثنين من الدروز، ثم تدخل مشايخ بيت العريان «المشهورين بحب السلام» والشيخ يوسف زاكي للتهدئة وقد هدأت، إلّا أنه استمر تحشد القوى الدرزية باتجاه راشيا في حين هرب النصارى. ولم يرد في الأعداد اللاحقة من الجريدة ما يشير إلى تجدد الاشتباك، كما لم يرد في أي مصدر آخر خبر عنها.

إلّا أنّ وقْعَ هذه الانتفاضة كان مؤثّراً، فقد استنفرت قوى السلطة فيما يتجاوز حدود القضاء، فقدم قائمقام العسكر، يوسف باك، ومعه 50 خيالاً وحسن آغا بوزق وحضر متصرف حوران، عثمان بك، ومعه 40 خيالاً ثم حضرت فرقتان من العسكر المشاة، وبعني هذا تحسباً وحذراً شديدين عند أركان السلطة بإرسالها قائمقام العسكر (العسكر المركزي) وقائمقام قضاء آخر، وبالتحديد حوران، لما له خبرة بالدروز، فضلاً عن عدد الخيالة المرسل، إذ قدِّر بحسابات وقته.

كما حرر واثق باشا، متصرف بيروت، ومرجعيون تابعة له، إلى قائم مقاميات الأقضية حول كثرة التعديات في بعضها، على ما اتضح في حال حاصبيا وراشيا ومرجعيون، فألقى أحدهم، قائمقام صيدا، على 11 شقياً من البدو وأرسلهم إلى مركز متصرفية في بيروت.

وتظهر الدلالة المؤثرة للانتفاضة في التعليقات عليها؛ إذ ختمت «لسان الحال» رواية الخبر بالقول إنّ الدولة لا تحب زيادة المشاكل والدروز ليس من صالحهم تحريك أمر يأتي عليهم بالخسران وأردفت: «إلّا أنّ وجود بعض الأشقياء في القضاء يكثرون الاعتداء ولا يهابون أرباب الأمور يحمل الأهالي على التحسب» .

كما نشرت «لسان الحال» رسالة طويلة لمراسلها في الشام يردّ فيها على القائلين نَسْب حوادث راشيا «لضغائن قديمة» ويردها إلى عدم كفاءة المأمورين وعدم مراعاتهم الوقت والمقام وأطباع الأهالي من جهة، وتدني رواتب العسكريين من جهة ثانية، وتجاوز حدود الأمر المُعطى من جهة ثالثة» .

تؤشر معطيات الانتفاضة إلى مشاركة سكان القرى المجاورة في التحشد، وإنْ لم تسم، فقد كان تحشد القرى على مرحلتين: الأولى حين الحادثة ويفترض التحشد من القرى الملاصقة لراشيا، والثانية، بعد الحادثة، إبان وفود القوات الإضافية، ويفترض التحشد من قرى المنطقة كلها.

والجدير ذكره أنَّه لم يرد في حوران في الوثائق العثمانية وثائق عن الانتفاضتين، وقد يكون ذلك لاهتمام الباحث بوثائق حوران، وما ورد فيه عن منطقتي الانتفاضتين وثيقتان في 10 كانون الثاني 1877، و31 أيار 1878 ووضع لهما الباحث عنوان «خلاف بين دروز حاصبيا والمتاولة (1878)، استناداً إلى مندرجات الوثيقتين «تحويل البرودة والخلاف بين دروز حاصبيا والمتاولة إلى احترام ووفاق» . وما ورد في «لسان الحال» يمتّ بصلة لموضوع الوثيقتين مقدمة خبر عن مقتل خليل وعباس من سكان حاصبيا على جسر الغجر وتتحدث المقدمة عن التباعد بين الدروز والمتاولة.

إلّا أن التدقيق في الوثيقتين يردُّهما إلى أحداث في راشيا غير معروفة في الوثيقة الأولى 10 تشرين الثاني 1877 وكذا في الوثيقة الثانية (31 أيار 1878)، وقد تكون أحداث الوثيقة الأولى الخلاف الذي أشار إليه فرّو بين الفلاحين في راشيا حول الأراضي ومصادر المياه (حزيران 1877).
ففي التقرير، الرواية واضحة أكمل عثمان بك متصرف حوران التحقيقات التي كُلِّف بإجرائها في راشيا واتجه إلى قضاء القنيطرة واتخذ بانياس التابعة للقنيطرة مركزاً له والقنيطرة (التابعة لمتصرفية حوران) بينما قضاء راشيا تابع لمركزا لولاية مباشرة (دمشق) ولا وجود للشيعة فيها، الأمر الذي يعني استمرار مفاعيل الحدثين اللذين عرفتهما راشيا، وقد يكون الاجتماع بوجهاء الأقضية المجاورة، وكل تابع لمتصرفية (مرجعيون – بيروت، حاصبيا وراشيا – دمشق القنيطرة – حوران) تحسُّباً لخلاف محتمل أو ذريعة لضبط ذيول الانتفاضتين في المطلة – مرجعيون – حاصبيا وراشيا، وبخاصة أنَّ خطوات أخرى اتخذت، ومنها تكليف نجيب بك قيس بضبط حاصبيا (تموز 1878).

وقد يبدو في وصف ما حدث في راشيا بالانتفاضة مغالاة في ذلك، وقد يكون ذلك لمحدودية المعلومات التي عُرفت عنها، لكن الاهتمام الذي أولته السلطة يقود إلى أهمية ما حصل الأمر الذي يرقى إلى استنتاج وصفها بالانتفاضة وذلك لـ:
1. مواجهة العسكر، بحد ذاتها، وهي مواجهة ذات دلالة للهيبة التي كانت تتمتع بها قوى السلطة والقمع الشديد الذي تمارسه.
2. تحشد القرى المجاورة، وهي قرى تتجاوز منطقة راشيا الحالية وتمتد إلى قرى حاصبيا وقرى في الاقليم (سوريا راهناً)، وقد سبق ذلك تحشد مماثل في انتفاضة المطلّة استدعى الطلب إلى زعماء الشوف التدخل لإنهائه.
3. حضور أكثر من والٍ عثماني إلى راشيا وحشد السلطة قوى عسكرية مركزية ومن الألوية الأخرى، وما يعني ذلك من ضخامة ما حدث.
4. حضور الوادي الفاعل في عاصمة الولاية، دمشق، فقد سُمي الحي الذي ما زال الدروز يقطنونه في دمشق، باب مصلّى، بحي التيامنة، وكان لهذا الحي حضوراً في حوادث دمشقية كما كان لموقع الوادي على الطريق بين دمشق وبيروت أهمية عُرِفت إبّان المعارك ضد قوات ابراهيم باشا وإبّان الثورة السوريّة الكبرى عام 1925.

مَشيخةُ عقل المُوحّدين (الدروز) في لبنان

الموحّدون (الدروز) طائفة إسلامية يقيم أبناؤها في الدول التالية من المشرق العربي: لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، ويتواجد مغتربوهم في الكثير من دول العالم. لهم عبر تاريخهم قادة زمنيون هم شيوخ العشائر والمناطق، والمقدّمون، والأمراء، وغيرهم من ذوي الشأن والنفوذ. ولهم قادة أو رؤساء روحيون في كلٍّ من الدول التي ورد ذكرها باستثناء شرق الأردن، لُقّبوا بالشيوخ سابقاً، وبشيوخ العقل مؤخّراً. وإذا كان يصحُّ إعطاء صفة الزعامة للقادة الزمنيين فإنه لا يصحُّ إعطاؤها للقادة الروحيين نظراً لما تنطوي عليه من سلطة وجاه بعيدين عن مفاهيم ومبادئ مسلك التوحيد العِرفاني، التي يتمشّى عليها أتباعه وخصوصاً الكبار والأعلام، ونظراً لأن الرئاسة الروحية هي اشتقاق معنوي تقليدي لفكرة الإمامة. وقد شُبّه كبار رجال الدين عند الموحّدين (الدروز) بحِرز الطائفة، لأنهم يصونونها بالحكمة والرأي السديد ويشكّلون عناصر خير وبركة فيها، فيما شُبّه الزعماء الزمنيون بسياج الطائفة، لأنهم يصونونها بالسيف ويدافعون عن حقوقها وكرامتها ووجودها.

من شيوخ البلدان إلى شيوخ العقل

كانت المناطق أو المقاطعات، وخصوصاً تلك المفصولة عن بعضها بحدود طبيعية، تُسمّى «البلدان»، ومنها على سبيل المثال المناطق التالية من لبنان، المسكونة بالموحّدين (الدروز): المتن والجُرد والغرب والشوف، ووادي التيم، وقد سُمّي رؤساؤهم الروحيون فيها شيوخ البلدان، وعُرف أبرزهم بشيخ البلدان أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر. وأهم وأكبر شيوخ العصر هو الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي الملَّقب بالسيّد (000-1479هـ)، كما أنه في الوقت نفسه أشهر أولياء الموحِّدين (الدروز) وأشهر أعلامهم الدينيين، لأنه نهل الكثير من المعارف الزمنية والدينية، وفسّر تعاليم ومفاهيم مسلك التوحيد، وأصلح شؤون قومه، ووضع النهج والقواعد التي تمشّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده، فكان مُعلّماً ومدرسة لأبناء عصره والعصور التالية. ومع أنه أقدم شيوخ العصر إلاّ أنه من الخطأ اعتباره أقدم شيوخ البلدان إذ هناك سبعة شيوخ قبله من أسرته، كما جاء بعده عشرة شيوخ عصر وبلدان.

ومنذ سنة 1763 بدأ يظهر لقب «شيخ العقّال» أو شيخ رجال الدين. وأول من أُطلق عليه هذا اللقب هو الشيخ اسماعيل أبو حمزة، والعقّال جمع لفظة «عاقل» التي تعني من عقل الأمور الدينية أي فهمها وفسّرها وعمل بموجبها، وهم رجال الدين المعروفون بالأجاويد جمع جيّد وتصغيرها جويّد. لكن لفظة «العُقّال» صُحِّفت فغدت: العقل. وقد بدأ ذلك مع العمّال والموظفين الأتراك الذين استسهلوا لفظة العقل على لفظة العقّال، وعمّ استعمالها.

تولّي الرئاسة الروحية قبل عهد المتصرفية

لم يكن تولّي الرئاسة الروحية عند الموحِّدين (الدروز) وراثة أو توريثاً، ولا تعييناً من الحاكم، ولا انتخاباً من رجال الدين، ذلك أن من تسلّموها، سواء بلقب الشيخ أو الشيخ الأكبر أو شيخ العصر، تحقّق لهم هذا بفضل بروزهم كفعاليات دينية اجتماعية، وتميّزهم عن اخوانهم بالتقوى والتديّن وحفظ الكتاب العزيز وتفسيره والعمل بموجب التعاليم، وبفضل تخلّقهم بالفضائل والقيم السامية. وعندما كان يتوفّر هذا في أحد الشيوخ كان أخوانه يقرّون بتقدّمه عليهم، وتبعاً لذلك لم يكن هناك تاريخ معين لتولّي أحد الشيوخ هذه المكانة المتقدّمة، بدليل أنّ الكثيرين منهم لم يخلفوا مباشرة من سبقوهم في الرئاسة الروحية، إذ كان هناك أحياناً فترات زمنية تبلغ بضعة عقود بين تاريخ وفاة الشيخ وبروز شيخ آخر مكانه، وبدليل آخر هو أنه ليس عند الموحّدين كما عند المسيحيين نظام إكليريكي يحدّد المناصب وكيفية تسلّمها.

لم يحصل في القرون الماضية أي تدخّل من السلطة أو من الأمير الحاكم في تعيين رئيس روحي أو عزله، ولم يحصل أي تدخّل في شؤون مشيخة العقل إلّا في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عيّن الشيخ حسين عبد الصمد شيخ عقل إلى جانب الشيخ حسن تقي الدين الذي لا يوجد عند آل تقي الدين وسواهم أي مستند خطي يشير إلى تدخل الأمير بشير في توليّه. أما شيخ العقل الثالث الذي عاصر هذين الشيخين وهو الشيخ شبلي أبي المنى، فقد تسلّم المشيخة نزولاً عند رغبة أخوانه، ولم يحصل ذلك في اجتماع عام أو نتيجة انتخاب، وإنما حصل بالتشاور بين رجال الدين، وبأخذ آراء العديدين منهم، وأخذ رأي الوليّة السّت فاخرة البعيني.

تحوّل مقام مشيخة العقل إلى منصب في عهد المتصرفية

أُنشئت متصرفية جبل لبنان بموجب بروتوكول سنة 1861 المعدَّل في سنة 1864، وقُسِّم الجبل إلى سبعة أقضية، وقُسِّمت الأقضية إلى نواحي، وبات هناك إدارة محليّة أكبر موظفيها القائمقامون الذين يعيّنهم المتصرّف، ومنهم القائمقام الدرزي على قضاء الشوف، الذي هو أكبر أقضية المتصرفية، ويشمل قضاءي الشوف وعاليه الحاليين، وتحوّل مقام مشيخة العقل في عهد المتصرفية إلى منصب ديني رسمي أُعتبر «وظيفة» كبيرة كوظيفة القائمقام. وقد وردت كلمة «وظيفة» في كتاب تهنئة المتصرّف رستم باشا لشيخ العقل محمّد طليع، بتاريخ 9 آذار 1874، وفي مضبطة انتخاب الشيخ حسين حماده الموقّعة من منتخبيه، والمرسلة إلى المتصرّف أوهانس باشا بتاريخ 15 كانون الثاني 1915. وبناءً على ذلك لم يعد شيخ العقل أحد كبار رجالات الهيئة الروحية أو أكبرهم، لكنه الممثّل لهم ولسائر الموحّدين (الدروز) إزاء السلطة وإزاء الآخرين، وهذا أضاف إلى الصبغة الروحية الصرف للمشيخة صبغة زمنية سياسية، وأدى إلى اعتماد صيغة نظامية لانتخاب الشيخ وتولّيه رسمياً منصبه، هي بداية أنظمة انتخاب شيخ العقل.

انتخاب شيخ العقل بموجب الأعراف

حين صارت مشيخة العقل منصباً بات تولّيه يتمُّ عن طريق الانتخاب من قبل أعيان الدروز، يليه الاعتراف من السلطة بالشيخ المنتخب. وهذا يحصل على الشكل التالي:
– دعوة قائمقام الشوف أعيان ووجهاء الموحّدين (الدروز) إلى اجتماع لانتخاب شيخ العقل.
– اجتماع الأعيان والوجهاء – وأكثريتهم من الزمنيين – وانتخابهم شيخ العقل، وتوقيعهم على مضبطة بذلك تُرسل إلى المتصرّف.
– تهنئة المتصرّف للشيخ المنتخب، وهي بمثابة اعتراف رسمي به.

وبموجب هذه الطريقة العرفية جرى انتخاب الشيخ محمّد طليع في سنة 1879 خلفاً لوالده شيخ العقل حسن طليع، وانتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 خلفاً لأخيه الشيخ محمّد، وانتخاب الشيخ محمّد حماده في سنة 1869 خلفاً لشيخ العقل حسين عبدالصمد، وانتخاب الشيخ حسين حماده في سنة 1915 خلفاً لوالده الشيخ محمّد. وقد جرى انتخاب الشيوخ المذكورين من قبل عدد محدود من الأعيان والوجهاء، بلغ في انتخاب الشيخ حسين طليع 165، وفي انتخاب الشيخ حسين حماده 340، هو أكبر عدد. كما أنه جرى بدون مرشّحين منافسين، وفي إطار المعرفة المسبقة لاسم الشيخ الجديد الذي سيُنتخب خلفاً للشيخ القديم، بحيث كان الانتخاب أشبه بالمبايعة، ومجرد تطبيق شكلي للعرف.

انحصر انتخاب شيوخ العقل المذكورين في أسرتين هما آل طليع وآل حماده، وبخلافة الابن لأبيه، والأخ لأخيه. وجرى بموجب الأعراف بدون أية إشكالية أو أزمة، واستمر على أساسها لكن مع حصول ثلاث أزمات وذلك عند انتخاب الشيخ محمّد عبد الصمد في سنة 1946 خلفاً للشيخ حسين حماده، وانتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا في سنة 1949 خلفاً للشيخ حسين طليع، وانتخاب الشيخين علي عبد اللطيف ورشيد حماده في سنة 1954 خلفاً للشيخ محمّد عبد الصمد. وما كان سبب هذه الأزمات التجاذبات السياسية والصراع حول مشيخة العقل فقط، وإنما كان أيضاً عدم وجود نظام أو قانون ينظّم انتخابها. وهذا، مع رغبة الغيورين بتنظيم جميع شؤون طائفة الموحّدين (الدروز) أدّى إلى وضع مجموعة من التنظيمات، بدأت بوضع نظام لانتخاب شيخ العقل في سنة 1953، وانتهت بإصدار قانون شامل صدر في سنة 2006 ينظّم شؤون طائفة الموحّدين، باستثناء قانوني الأحوال الشخصية وتنظيم القضاء المذهبي الصادرين سابقاً.

نظام انتخاب شيخ العقل

يحدّد نظام انتخاب شيخ العقل الفئات التي تتكوّن منها الهيئتان الناخبتان وهما الهيئة الروحية والهيئة الزمنية، كما يحدّد كيفية الدعوة والترشّح والشروط التي يجب توفّرها في المرشّح، وإعداد الهيئة المشرفة على الانتخاب محضراً بالواقع وتبليغ رئيس الجمهورية نتيجة الانتخاب، والاستغناء عن إرساله كتاب تهنئة للشيخ هو بمثابة اعتراف به، لأن الشيخ المُنتخَب يكتسب عند ظهور النتيجة حكماً صفة شيخ العقل، وذلك من أجل تلافي ما كان يُشكى منه، وهو تأخر رئيس الجمهورية في إرسال كتاب التهنئة لانحيازه إلى فريق درزي ضد آخر كما حصل عند انتخاب الشيخ محمّد أبو شقرا، إذ تأخر الرئيس بشاره الخوري في إرسال كتاب التهنئة له أربعة أشهر.

لم يُعمل بنظام انتخاب شيخ العقل عند انتخاب خلف لشيخ العقل محمّد عبد الصمد المتوفّى في 5 نيسان 1954، لأنه جرى الاتفاق بين قادة الدروز على وضع قانون بديل عنه وأفضل منه، لكنهم لم يتفقوا على مبادئه الأساسية التي من بينها توحيد مشيخة العقل فتأخّر إعداده وتأخر الانتخاب حتى أيلول 1954 حيث أدى التجاذب السياسي الحاد إلى حصول أزمة أشد من أزمتي انتخاب سنتي 1946 و 1949، وإلى انتخاب شيخي عقل إلى جانب الشيخ محمّد أبو شقرا، هما الشيخ علي عبد اللطيف والشيخ رشيد حماده، فبات هناك ثلاثية استثنائية للمشيخة بدلاً من توحيدها المنشود.

قانون انتخاب شيخ العقل

بعد ثورة سنة 1958، تجدّدت بقوة مساعي الموحِّدين (الدروز) لاستكمال تنظيم شؤونهم الذي بدأ بصدور قانون الأحوال الشخصية، فصدر في 5 آذار 1960 قانون تنظيم القضاء المذهبي، وصدر في 13 تموز 1962 قانون إنشاء المجلس المذهبي وقانون انتخاب شيخ العقل. والقانونان الأخيران مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، وعلاقة المجلس المذهبي بمشيخة العقل تظهر في الأمور التالية:
1- هيئة مشيخة العقل هي من الأعضاء الدائمين في المجلس المذهبي.
2- شيخ العقل هو رئيس المجلس المذهبي.
3- شيخ العقل هو الذي يدعو إلى انتخاب أول مجلس مذهبي.
4- المجلس المذهبي بعد تشكيله هو الذي يدعو إلى انتخاب شيخ العقل.
وقد نصَّ قانون انتخاب شيخ العقل على الشروط التي يجب توافرها في المرشّح، وعلى كيفية الانتخاب، وصحته أو بطلانه. كما نصَّ في المادة العشرين على ما يلي: «فور صدور نتيجة الانتخاب النهائية تنظّم لجنة الانتخاب محضراً بالواقع وتبلّغ على سبيل العلم اسم شيخ العقل الجديد إلى كل من مقامي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة». إلّا أنه كان من عيوبه النصُّ على ثلاثية مشيخة العقل وإنما بصورة استثنائية، والإبقاء على ثنائية مشيخة العقل، وتكريسها رسميّاً. كما من عيوبه صعوبة تطبيقه، لأنه جعل انتخاب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين لهم حق الانتخاب وفقاً لقانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي. وهذه الديمقراطية التي لم تشمل النساء تصحُّ في انتخاب النواب لكنها لا تصحُّ في انتخاب شيخ العقل، لأنها تخفض من منزلته السامية، وخصوصاً عند حصول التنافس على المشيخة. فكان هذا أحد أهم الأسباب في عدم العمل بقانون انتخاب شيخ العقل فيما عُمل بقانون إنشاء المجلس المذهبي فجرى انتخاب مجلسين على أساسه في سنة 1962 وفي سنة 1966.

توفّي شيخ العقل رشيد حماده في 14 نيسان 1970، فبات على المجلس المذهبي أن يدعو إلى انتخاب خلفٍ له بموجب قانون انتخاب شيخ العقل. لكن أعضاءه، وعلى رأسهم الزعيمان الكبيران: الأمير مجيد أرسلان وكمال بك جنبلاط، قرّرا إرجاء الانتخاب ريثما يُعاد النظر في قانوني إنشاء المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل، كما قرّرا التمديد للمجلس المذهبي نصف سنة وبعدها يُصار إلى انتخاب بديل عنه، على أساس تعديل القانونين المذكورين، أو على أساس قانونين بديلين عنهما. لكن هذين الأمرين لم يحصلا بسبب صعوبتهما وانشغال الدروز عنهما بالأوضاع العامة وتلاحق التطوّرات الخطيرة وتفاقم الأوضاع الأمنية جرّاء الحرب اللبنانية التي نشبت في سنة 1975 واستمرت حتى سنة 1990.

بعد أقل من شهرين على وفاة الشيخ رشيد حماده توفّي الشيخ علي عبد اللطيف في 4 حزيران 1970 فانحصرت مشيخة العقل بشخص الشيخ محمّد أبو شقرا حتى وفاته في 23 تشرين الأول 1991، وبهذا توحّدت واقعياً فيما كان هناك قانون لا يزال ساري المفعول، هو قانون انتخاب شيخ العقل الذي ينصُّ على ثنائيتها. وحين لم يُنتخب مجلس مذهبي جديد مكان المجلس المذهبي الممدَّد له نصف سنة انحصرت إدارته وإدارة الأوقاف بشخص المدير العام خالد بك جنبلاط حتى وفاته في 15 آذار 1992.

قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)

كان لا بد من التوافق بين قادة الموحِّدين، وخصوصاً نوابهم، حول اقتراحات ومشاريع القوانين والأنظمة التي تنظّم شؤونهم، لكي تصدر عن المجلس النيابي في قوانين، دون إصدار أي قانون حتى سنة 1999 حيث صدر بناءً على توافقهم القانون رقم 127 بتاريخ 25/10/1999، وهو يقضي بتشكيل مجلس أمناء أوقاف الطائفة. ثم صدر قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحّدين (الدروز)، حاملاً الرقم 208 وتاريخ 26/5/2000.

قدّم الشيخ بهجت غيث إلى المجلس الدستوري طلب إبطال للقانون رقم 127، لكنه لم ينجح في إبطاله فاستمر مجلس أمناء الأوقاف الذي أنشئ بموجبه في العمل. كما قدّم الشيخ بهجت غيث مراجعة إلى المجلس الدستوري يطلب فيها إبطال القانون رقم 208، فاجتمع المجلس بتاريخ 8/6/ 2000 وأبطل تعيين الشيخ أبي علي سليمان أبو ذياب شيخ عقل على أساسه «لعلّة توقيع قرار تعيينه دون تاريخ قبل تصويت المجلس النيابي على القانون المذكور، وقبل نشره في الجريدة الرسمية». وهكذا أُبطل مفعول هذا القانون بالنسبة إلى تعيين الشيخ سليمان أبو ذياب بعد 13 يوماً من صدوره، واستمر الشيخ بهجت في منصبه. لكن معظم مواد القانون المذكور سيتضمنها القانون الذي صدر بعد 6 سنوات.

قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين (الدروز)

كان من المتعذّر إذن إصدار قانون ينظّم مشيخة العقل والأوقاف دون إجماع النواب الدروز عليه. لكن الإجماع النيابي مرة ثانية تكوّن من فريق واحد هو فريق الزعيم وليد جنبلاط الذي يمثّل الأكثرية، والذي فاز في الانتخابات النيابية سنة 2005. لقد جرى بعدها تقديم اقتراح قانون لتنظيم شؤون مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف، وافق عليه المجلس النيابي في أول كانون الأول 2005، وأُحيل إلى رئيس الجمهورية إميل لحود لتوقيعه ونشره، لكنه ردّه إلى المجلس النيابي الذي درسه مجدّداً في يومي 3 و 4 أيار 2006، ووافق عليه، فصدر بتاريخ 12 حزيران 2006، وكان إنجازاً مهماً للموحِّدين على صعيد تنظيم شؤونهم الداخلية، بعد محاولاتهم المتكرّرة لمدة 36 عاماً لإيجاد بديل عن قانوني المجلس المذهبي وانتخاب شيخ العقل الموضوعين في سنة 1962، واللذين لم يُعمل بهما في استحقاق سنة 1970.

إن قانون سنة 2006 هو القانون المنشود والضروري لتسيير شؤون مشيخة العقل والأوقاف، التي تعطّلت مسيرتها أحياناً وتعثرت أحياناً أخرى. وهو حصيلة ما تضمنّته القوانين والأنظمة الموضوعة ومشاريع القوانين المقترحة، مع سدِّ النقص وتصحيح مواطن الخلل فيها. لقد سبق لنا أن عالجنا بتوسّع مواضيع مشيخة العقل والمجلس المذهبي والأوقاف في كتب ثلاثة، أولها كتاب «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015. وثانيها كتاب «الشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين (الدروز) الصادر سنة 2017. وثالثها كتاب «المجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان، الصادر سنة 2018. لذا سنتكلم هنا بإيجاز عن أبرز الإيجابيات والنقاط الجديدة الواردة في قانون سنة 2006 فيما يتعلق بمشيخة العقل.

-توحيد مشيخة العقل. ظهر الموحِّدون الدروز على صعيد التمثيل الديني بخلاف سائر الطوائف، إذ كانت مشيخة العقل عندهم ثنائية فيما هي عندها برأس واحد، وهذه الثنائية قائمة على أساس سياسي لا على أساس ديني عقائدي. وقد عمل الموحِّدون منذ أواسط القرن العشرين على توحيد المشيخة وتصحيح خطأ بدأ في سنة 1825، وكان من أهم أسبابه تدخّل الأمير بشير الشهابي الثاني في الشأن المذهبي الدرزي من قبيل الإمعان في إضعاف الموحِّدين وتفرقتهم بعد أن قضى على زعيمهم الأكبر الشيخ بشير جنبلاط، وتحقّق لهم ذلك واقعياً ودون نص قانوني منذ سنة 1970، ثم تحقّق لهم في قانون سنة 2000، لكن هذا القانون أُبطل بعد 9 أيام من صدوره بمرسوم، وبعده تحقّق لهم في قانون سنة 2006 الذي نصَّ في مادته الثانية على ما يلي:
«إنّ لطائفة الموحِّدين الدروز شيخ عقل واحد يتمتع بذات الحرمة والامتيازات والحقوق التي يتمتع بها رؤساء الطوائف اللبنانية الأخرى بلا تخصيص ولا استثناء».

إن قانون سنة 2006 ليس مثالياً وخالياً من الثغرات، مما يتطلّب إجراء تعديلات فيه، لكن مادته الثانية التي تنصّ على توحيد مشيخة العقل غير قابلة للنقاش، وغير قابلة لأي تعديل، لأن فيها مماشاة للموحِّدين لسائر الطوائف في موضوع وحدة الرئاسة الدينية، وإظهارهم كاسمهم واسم مذهبهم: مسلك التوحيد، إضافة إلى أن هذا أجدى وأكرم لهم.
-تصحيح اسم «الدروز» على صعيد رسمي. أُطلق اسم «الدروز» خطأً على أتباع مسلك التوحيد العرفاني فتداولوه اقتداءً بمُطلقيه، واستمرّوا في اعتماده وتداوله قروناً عدة، لأنهم اشتُهروا واقترن تاريخهم وأمجادهم به. لكنهم أخذوا مؤخّراً يذكرون في أدبياتهم الاسم الحقيقي: «الموحِّدين» واللقب: «بني معروف». وجاء قانون سنة 2006 يجاري هذا الاتجاه، ويكرّس الاسم الحقيقي في عنوانه ونصوص مواده، لكنه ذكر إضافة إليه اسم «الدروز» من قبيل التوضيح»، ومنعاً للالتباس. وقد نصّ على وجوب اعتماده في أي نص قانوني لاحق، إذ جاء في المادة (51) ما يلي:

«تُستَبدل عبارة «الطائفة الدرزية» بعبارة «طائفة الموحِّدين الدروز» وذلك أينما ورد النص عليها في كافة القوانين والأنظمة النافذة والمرعية الإجراء، وتعتمد هذه العبارة لاحقاً في أي نص قانوني يتم اقراره واعتماده».
وبناءً على هذه المادة أصبح شيخ عقل الدروز يُدعى شيخ عقل طائفة الموحِّدين، أو شيخ عقل الموحِّدين.

-زيادة شروط الترشح لمشيخة العقل: لم يكن هناك قبل قانون سنة 1962 شروط للترشح. لذا نصَّ هذا القانون على أن يكون المرشّح من أهل التقوى والدين، ومن ذوي العلم والمعرفة بتقاليد الطائفة، وحسن السمعة ومحمود الشيم، منزّهاً عما يمسُّ الكرامة والدين، وغير محكوم بجناية أو جنحة شائنة. ثم نصَّ قانون سنة 2006 على مضمون هذه الأمور، واشترط بالإضافة إليها أن يكون المرشّح من أهل الدين والتقوى لمدة لا تقلُّ عن الخمس سنوات وفق العرف السائد، كما اشترط الموافقة على ترشيحه من قبل عشرة أعضاء من المجلس المذهبي على أن يكون ثلثهم من أعضاء الهيئة الدينية. وليس وضع هذه الشروط من قبيل تعقيد الأمور وتصعيبها، وإنما هو من قبيل ألا يصل إلى منصب المشيخة السامي إلا المؤهّل له والمقبول من رجال الدين والمعروف جيداً في أوساطهم.

-جعل انتخاب شيخ العقل على درجتين: كان شيخ العقل يُنتخب بحسب الأعراف بالمبايعة في اجتماع عام من قبل الذين يلبّون الدعوة العامة لحضوره. وقد نصّ قانون سنة 1962 على أن يُنتخب شيخ العقل من قبل جميع الذكور من الدروز الذين يحق لهم انتخاب النوّاب. ونظراً لصعوبة هذه الطريقة، وعدم ملاءمتها كما وردت الإشارة إلى ذلك، جعل قانون سنة 2006 الانتخاب على درجتين وذلك بانتخاب شيخ العقل من قبل أشخاص منتخبين من الموحِّدين أو يمثّلونهم، وهم رئيس المجلس المذهبي وأعضاؤه الدائمون: نواب الطائفة الحاليون والسابقون، ووزراؤها الحاليون، وقضاة المذهب، والعضوان الدرزيان في المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى. كما هم أعضاء المجلس المذهبي المنتخبون وعددهم 68 يمثّلون أصحاب الشهادات الجامعية والمهن الحرّة والمناطق. ويكتسب شيخ العقل المنتخب حكماً وفوراً الصفة الشرعية بعد الانتهاء من فرز الأصوات، وإعلان النتيجة.

-تلافي شغور منصب شيخ العقل: لم يحدث أي شغور لمنصب شيخ العقل زمن ثنائيتها، وما حصل هو تأخّر انتخاب شيخ العقل أحياناً لبضعة شهور، وتأخّر رئيس الجمهورية في الاعتراف بالشيخ المُنتخب لفترة قصيرة، بسبب الانقسام حول مشيخة العقل، والتجاذب السياسي. وقد تلافى الشيخ محمّد أبو شقرا حصول الشغور بعد وفاته فاعتمد صيغة منصب القائم مقام شيخ العقل كما حاول الموحِّدون تلافي هذا بتضمين مشاريع قوانين تنظيم مشيخة العقل وتوحيدها منصب نائب شيخ العقل الذي يحلُّ مكان شيخ العقل في حال وفاته أو عزله. أما بالنسبة إلى قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز الصادر في سنة 2006، فقد نصَّ في المادة (31) على ما يلي:

«قبل موعد انتهاء ولاية شيخ العقل بمدة شهر على الأقل وشهرين على الأكثر يلتئم المجلس المذهبي بدعوة من رئيسه لانتخاب شيخ عقل جديد، وفي حال تخلّفه عن القيام بالدعوة المذكورة ينعقد المجلس المذهبي حكماً في أول يوم عمل يلي بدء مهلة الشهرين المبيّنة أعلاه لإعلان تاريخ الانتخاب، وفي هذه الحالة يرأس المجلس المذهبي أكبرُ الأعضاء سناً ويقوم بتحديد موعد الانتخاب والإعلان عنه خلال مدة عشرة أيام».
وتطبّق هذه المادة في حال استقالة شيخ العقل أو إعفائه من منصبه لأسباب حدّدتها المادة (30).

-تحديد مدة ولاية شيخ العقل: لم يكن تولّي مشيخة العقل مشروطاً بسن محدّدة، ولم تكن أيضاً مدّة ولاية الشيخ محدّدة بسن معينة إذ هي تستمر حتى وفاة الشيخ. فقد كانت مدتها، مثلاً، مع الشيخ محمّد حماده 46 سنة، وهي لم تنتهِ إلّا بعد اشتداد وطأة المرض عليه، حيث توفي بعد بضعة أشهر من تنازله لابنه الشيخ حسين. وكانت مدة ولاية الشيخ حسين عبد الصمد 43 سنة، ومدة ولاية الشيخ محمّد أبو شقرا 42 سنة، وكلاهما استمرّا حتى وفاتهما. إلا أن قانون سنة 1962 اشترط بلوغ المرشح للمشيخة سن الأربعين، لكنه أبقى مدة ولايتها طوال حياة الشيخ. أما قانون سنة 2006، فقد اشترط بلوغ المرشح سن الأربعين، وحدّد ولاية الشيخ بخمس عشرة سنة فقط، أو ببلوغه الخامسة والسبعين، مع جواز التجديد له بموافقة الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس المذهبي، دون أن يتخطى سن الخامسة والسبعين. كما نص في المادة (30) على ما يلي:

«لا يُعفى شيخ العقل من منصبه إلّا بناء لطلبه أو لأسباب خطيرة تهدّد كرامة الطائفة ووحدتها وكيانها أو تمسّ بسمعتها أو لأسباب صحية تمنعه من القيام بمهامه تقررها اللجنة الطبية الدائمة في بيروت، وذلك بناءً على طلب ربع أعضاء المجلس المذهبي. وفي حال عدم اعتزاله طوعاً يتم الإعفاء بقرار من الهيئة العامة للمجلس المذهبي بأكثرية ثلثي أعضائه القانونيين بناء على اقتراح ربع أعضائه على الأقل».

– إيجاد الهيئة الدينية الاستشارية: إضافةً إلى موظفي ملاك مشيخة العقل، نصّ قانون سنة 2006 على وجود هيئة استشارية لشيخ العقل يستعين بها لمساعدته في أداء مهامه الكثيرة، المحدّدة في صلاحيات واسعة. وهي تتكوّن من ستة من مشايخ الدين المعروفين بعلمهم الديني، أحدهم من خلوات البيّاضة، يعيّنهم شيخ العقل خلال مهلة شهر من تاريخ تسلّمه مهامه، وتكون مدتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وبما أن أحدهم هو من خلوات البيّاضة الموجودة في قضاء حاصبيا، فإن توزيع الخمسة المتبقين منهم يجري على أساس تمثيل المناطق الأخرى، وذلك بتعيين عضو عن كل من الأقضية أو المناطق التالية: الشوف – عاليه – المتن الجنوبي – راشيا – بيروت.

انتخاب أول شيخ عقل بموجب القانون.
نصّ قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز على مِهَل محدّدة لانتخاب المجلس المذهبي، وانتخاب شيخ العقل، وتشكيل لجان المجلس الثماني التي يتكّون منها مجلس الإدارة، وتأليف الجهاز الإداري. وكانت الخطوة الأولى في تطبيق القانون هي انتخاب أعضاء المجلس المذهبي في 24 أيلول 2006، تلاه انتخاب هؤلاء الأعضاء للقاضي نعيم حسن (قاضي المذهب في قضاء عاليه) شيخ عقل في 5 تشرين الثاني 2006. وقد انتُخب بإجماع أعضاء المجلس المذهبي، الحاضرين، ولم يكن هناك منافس له لأن طلب المرشح الثاني البروفسور سليم مراد غير مستوفي الشروط.

بدأ شيخ العقل الشيخ نعيم حسن عمله فوراً، وذلك بتسلّمه رئاسة الجلسة التي جري فيها انتخابه، من رئيس السن العضو فؤاد الريّس. ثم تولّى بالتعاون مع أعضاء المجلس مهمة التأسيس الصعبة، أو مأسسة المجلس، وذلك بوضع نظام المجلس الداخلي وسائر الأنظمة وتسلّم الأوقاف. وتعيين الجهاز الإداري والموظفين. وتابع بالتعاون مع قادة الموحّدين السياسيين المواضيع المهمة، ومثّل الطائفة خير تمثيل في شتى المناسبات وخصوصاً تلك التي تقتضي حضوره مع رؤساء الطوائف على اعتبار أنه الممثل الشرعي والرسمي للطائفة. وقد ترأس جلسات الهيئات العامة للمجالس المذهبية الثلاثة التي انتخب منها اثنان زمن ولايته، وجلسات مجلس الإدارة. كما ترأس الأكثرية الساحقة من جلسات اللجان رغبة منه في متابعة النشاطات وتسيير الأمور بما في ذلك التفصيلية بغية ضبط عمل المجلس وتفعيله.

تنتهي مدة ولاية الشيخ نعيم حكماً في 5 تشرين الثاني 2021، وبصفته رئيس المجلس المذهبي يدعو بناءً للمادة (31) من قانون سنة 2006 أعضاء المجلس إلى الاجتماع لانتخاب خلفٍ له. والآمال معقودة على اتخاذ قادة الطائفة وعقلائها من هذا الاستحقاق فرصة للاتفاق حول جميع الشؤون الداخلية، والتوحيد الكامل لمشيخة العقل غير المنقوص بأي شكل من الأشكال، وتلاقي وتضافر الجهود لمواجهة التحدّيات على كافة الصّعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، في مرحلة ملأى بالمفاجآت والتحوّلات الدراماتيكية المصيرية، حيث تتكتل فيها الجماعات حول مصالحها، وتسعى لحفظ كيانها وتثبيت وجودها.

المسارُ الإنسانيّ في شخصية المقدّم شريف فيّاض

المُقدّمة

في ذكرى وفاة المقدّم شريف فياض الخامسة، تتسابق لديّ عاطفة الفراق مع عقلانية الباحث، لاستذكار مآثر شخصية «الرجل الرجل في الأوقات التي عزّ فيها الرجال». عند قراءتي لما كتبه المقدّم فياض، ولما كُتب وقيلَ عنه، مستعينة بما اعتلمته من ذاكرة أفراد عائلته، أجد نفسي مختارةً كتابة المسار الإنساني في شخصيته، وربما أبدو بذلك غير حيادية، مستذكرة قوله في مقدمة كتابه (نار فوق روابي الجبل، 2015)، «أنا لست حيادياً فيما كتبت»، راسمةً أفكاري بين عناوين تتداخل كوريقات زهرة عطرة فوّاحة، يحملها جذع متين حُفر عليه إيمان المقدّم بقناعاته الثابتة وممارسته لها على نفسه قبل الغير، مقدّمة هذه اللوحة عربون وفاء في ذكراه.

بلدة بشتفين (تصوير ايهاب فيّاض)
إبن قرية بشتفين

وُلد شريف سليمان فياض سنة 1937، في قرية بشتفين الشوفية، المتميّزة بالحفاظ على عادات وتقاليد راسخة في ذاكرة أهل الشوف، وتربّى في منزل اعتاد على ممارسة الشأن العام حين كان والده مختار بلدته لسنوات طوال، وفي زمن كان الاعتناء بالأرض الزراعية واجباً ملزماً على جميع أفراد العائلة. بقيت معالم هذه التربية راسخة في شخصية المقدّم، حين لم تتغلب قسوة الحياة العسكرية في الجيش اللبناني أو في قيادة الجيش الشعبي، على ملامح الحس الإنساني لديه، فتراه نصير الضعيف، ومساعد المحتاج، وكفيل المظلوم، فقد «تميّز بعمله الصامت وأخلاقه الدمثة وابتسامته الودودة»، ومارس خدمة الناس وتأمين احتياجاتهم حتى وهو على فراش المرض، في مستشفى الجامعة الأميركية، حيث يشهد من رافقه من الجهاز الطبي ومن أفراد عائلته على الاتصالات الهاتفية والزيارات المتعلقة بتسيير شؤون الناس. حافظ المقدّم على العادات والتقاليد في بلدته، فتراه أول الواصلين إلى لقاء عيد الأضحى، منتظراً أفراد عائلته لينتقلوا سوياً إلى ساحة البلدة، حيث ملتقى جميع العائلات. كنت تراه مواسياً للمحزونين في مآتمهم، ومشاركاً للعرسان في أفراحهم. احترم العائلة التي انتسب إليها، وافتخر بالبلدة التي ولد فيها، فتراه يتمم أفراح أولاده في بيته في بشتفين، حين احتضن منزله قادة الوطن وسفراء الدول، واقفاً كالمارد بين أنسبائه وأهالي بلدته، على يمينه وليد جنبلاط ورفاقه في الحزب، برمزية ربما كان يرتقبها، حين احتضنت البلدة جثمانه في مأتم ضخم ضمّ قادة الوطن وسفراء الدول، ووليد جنبلاط، فيما كان المقدّم كالمارد الهامد على طريق مثواه الأخير.
طبّق المقدّم قناعاته على نفسه وعلى عائلته، فتراه يدرّب أولاده على احترام الناس وحاجاتهم، يعلّمهم فنون الاعتناء بالأرض وإدارة الوقت بالممارسة وبالاقتداء به، حين كان يرافقهم صباحاً، إلى الحقول الزراعية، ويوزّع المهام عليهم قبل الانتقال إلى عمله، فكم من رفيق رآه «يفرط» الزيتون، أو يروي الزرع… أمّن لهم المستلزمات لتحصيلهم العلمي، ولكنه لم يستغل لا منصبه ولا علاقاته لفرض خياراته عليهم، وهم بالمقابل لم يخذلوه ووصلوا إلى أعلى المراتب في هذا المجال.

احترم المرأة وآمن بقدراتها، دعم تحصيلها العلمي، شجّع نشاطات السيدات في مؤسسات الحزب ودعم اقتراحات الاتحاد النسائي التقدمي، حين اعتبرهنّ الأقرب إلى شرائح المجتمع والأدرى بحاجاته، وعلى سبيل المثال كان الراعي لـ «حملة دعم المريض» في بلدته بشتفين.

آمن بالمصلحة العامة، وانطلاقاً من بلدته شجّع وساهم ودعم بناء دارٍ جامعةً لجميع عائلاتها «دار البلدة للخدمات الاجتماعية»، في زمن كانت الدورُ في باقي القرى تُبنى على أسماء العائلات فيها، حينها عمل جاهداً مع وليد جنبلاط، وكان الوسيط لتأمين هبة الأرض وجزء من كلفة البناء لإتمامه.
كان المقدّم محباً للحياة، وكما قال وهيب فياض واجه المرض «بأسلحته الذاتية ودفاعاته الشخصية…. حتى ليتبادر إلى ذهنه أن الموت لم يغلبه… وهو يخال الموت يؤدي له التحية العسكرية قبل أن يصطحبه في رحلته الأخيرة».

اختصر المقدّم نهج حياته بنفسه قائلاً « رافقت الكبار وحاولت أن أتخلق بأخلاقهم وأن أسلك نهجهم في التواضع والتفاني والأثَرة. جنيت فيها ثروة عظيمة، هي محبة الناس وثقتهم واحترامهم»، فرثاه وليد جنبلاط قائلاً «حملت راية الحزب ولم تطلب لنفسك شيئاً عشت هانئاً متواضعاً ورحلت راضياً مرضياً».

ضابط في الجيش اللبناني
المقدم شريف فياض

سمح تحصيل شريف العلمي الراقي في حينه، انطلاقاً من المدرسة الداوودية في عبيه، مروراً بالمعهد العربي في بحمدون، وصولاً إلى نيل شهادة البكالوريا اللبنانية من مدارس المقاصد في بيروت سنة 1959، بالتقدم إلى امتحانات الدخول إلى الكلية الحربية في الجيش اللبناني، انسجاماً في حينه مع تطلعات العهد الشهابي في ضم الطاقات الشبابية الكفوءة إلى صفوف الجيش اللبناني، وجعله خير مدرسة للتربية على المواطنية.

أحبّ الضابط فياض الجيش اللبناني وآمن به لا طائفيّاً، وعلى سبيل المثال فقد حال دون استقالة أحد رفاقه من الضباط «الموارنة» قائلاً له: «إذا كان المخلصون سيستقيلون لمن سنترك البلد؟». تخرّج من المدرسة الحربية سنة 1961، وتدرّج في الرتب حتى رتبة رائد، عمل من أجل وحدته حين اندلعت حرب السنتين سنة 1975، وكُلّف بمتابعة ثكنات الجيش التي انفصلت عن القيادة المركزية. غادر مركز خدمته سنة 1976 في الفياضية وانتقل إلى منطقة الشوف حيث بدأ نشاطاً سياسياً وعسكرياً حين التقت قناعاته «مع فكر المعلم بالتمسّك بهوية لبنان العربية وباعتبار مرتكزات النظام السياسي هي الحرية والديمقراطية والمساواة كما التقت مع قناعاته بحقّ الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه». قدّم استقالته سنة 1978 وتقاعد برتبة مقدّم، «حتى يكون أميناً لرسالته العسكرية… ويكون صادقاً بالتزامه تجاه الحزب التقدمي الاشتراكي». لم يُخفِ فرحته حين وجّه، في ختام حياته السياسية، تحية للجيش اللبناني وضباطه الذين تمكنوا من «إعادة بناء المؤسسة العسكرية على عقيدة وطنية عربية تؤهلها للذود عن الوطن».

القائد العسكري الاشتراكي

ساهم المقدّم في تأسيس «قوات التحرير الشعبية»، للمشاركة في حرب السنتين إلى جانب الحركة الوطنية والحزب التقدمي الاشتراكي. بعد دخول القوات السورية إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط سنة 1977، كانت أولى المهمات التي تولّاها فياض تحت قيادة وليد جنبلاط للحزب التقدمي الاشتراكي، إقامة معسكر تدريب سرّي في منطقة الشوف، لتتحول بعدها معسكرات التدريب إلى علنية، ويكلّف رئيس الحزب سنة 1978، المقدّم فياض قيادة «جيش التحرير الشعبي – قوات الشهيد كمال جنبلاط»، والذي استمر بتأدية مهامه حتى انتقاله للعمل السياسي. كان القائد فياض المخطّط الحذق، والمنفذ المتابع على الأرض لأدق التفاصيل، غير المتهور، وملتزم بالتنسيق مع رئيس الحزب في كل القرارات العسكرية.

المناضل الحزبي السياسي

 

نشأ شريف فياض على إيمانه بالعروبة، تأثر بفكر ومبادئ جمال عبد الناصر، وحين التقت قناعاته مع فكر كمال جنبلاط، اعتبر نفسه «حامل قضية انخرط فيها وقاتل من أجلها حوالي نصف قرن». ناضل من أجل قضيته عسكرياً، وانتقل إلى العمل السياسي من خلال انتسابه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وتبوأ منصب أمين السر العام منذ سنة 1987 حتى سنة 2011. سخّر المقدّم منصبه برفقة نخبة من المناضلين «لإعادة بناء الحزب ومؤسساته وتلبية متطلبات الناس والوقوف على حاجاتهم»، مهتماً بالجيل الناشئ حين عمل على «تدريبه ليحسن استعمال البوصلة»، وخاصة من خلال منظمة الشباب التقدمي التي انتسب إليها نخبة من الشباب الذين اعتبروا المقدّم مثالاً وقدوة، وتبوأ عدد كبير منهم لاحقاً مناصب قيادية في الحزب أو في الحياة السياسية اللبنانية. كان المقدّم فخوراً سنة 2011 أن جهوده وجهود رفاقه بتوجيهات وليد جنبلاط «أثمرت في الجمعية العمومية مجلساً قيادياً شاباً حيوياً منتخباً»، معللاً ذلك قائلاً «أترك موقعي بقرار حزبي ديمقراطي أخذته الجمعية العامة وأبقى في المختارة بقرار شخصي حرّ واعٍ »، موجهاً التحية لهؤلاء الشباب «جيل المستقبل وهم يعبرون الجسر في الصبح خفافاً»، حين جعل أضلعه تمتد لهم «جسراً وطيد». قَرَن المقدّم القول بالفعل حين اصطحب في الأسبوع الأول بعد تركه منصب أمانة السر «حفيده ابراهيم إلى دار المختارة وكأنه يقول دون أن ينطق أنا معكم إلى ولد الولد».

عمل المقدّم على «كسر أطواق المذهبية والطائفية والمناطقية»، وتنبّه إلى «المستغلين والنفعيين الذين يسيرون في الصفوف الخلفية للمناضلين ويتربصون بالصيد الثمين كلما لاحت لهم الفرصة». استمرّ المقدّم بممارسة قناعاته، وحاول اثباتها وتعميمها حين حاضر عن لبنان ومقومات الدولة فيه، عرض المشكلة في نظام لبنان السياسي الذي لم يؤمّن «العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين»، ولكنه عرض أيضاً الحلول وبوّبها ووضعها تحت عنوان عريض هو «إعادة بناء العقد الاجتماعي بين اللبنانيين» من خلال الحوار والوصول إلى «الاتفاق على مجموعة مُثل وقيم إنسانية وأخلاقية تكون ناظماً لسلوك الأفراد والمجتمع، تنبثق من شرعة حقوق الانسان، وتؤمّن العدالة والمساواة وتضمن الحريات العامة، وتعتبر الدين شأناً شخصياً لا مكان له في الممارسة السياسية».

ساهم اعتداله وحسن إدارته الشأن العام تكليفه من رئيس الحزب الإشراف على إدارة الانتخابات اللبنانية العامة النيابية والبلدية والاختيارية، وتولي رئاسة اللجنة الانتخابية في الحزب، منذ سنة 1993 حتى سنة 2005.

حدّد المقدّم عدوّه وعدوّ لبنان أنه «إسرائيل»، ونبّه من «تسويق مخططاتها تارة بالإغراء وطوراً بالتهديد وباستخدام القوّة لفرض إرادتها كما حاولت أن تفعل من خلال احتلالها عاصمة لبنان وجزءاً من أراضيه». آمن المقدّم «بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه»، لم يبخل بعمله السياسي أو بعلاقاته الشخصية من نصرة هذه القضية، ما حدا بالسفير الفلسطيني أشرف دبور أن يصفه «برمز التضحية والعطاء وافتداء الوطن ورفض ظلم فلسطين واحتلالها مناصراً قضيتها وشعبها» معتبراً إياه «رمزاً للارتباط الأخوي اللبناني الفلسطيني». مع العلم أن هذا الالتزام لم يحجب أولويات المقدّم الوطنية.

المربي التربوي المثابر

ظهرت بوادر تعميم الثقافة منذ الصغر، حين ترأس شريف تحرير مجلة ثقافية في المدرسة الداوودية في عبيه تحت اسم «life». ساهم المقدّم فياض في إصدار برنامج التنشئة الوطنية في مدارس الجبل وأشرف على إصدار سلسلة كتب لتدريسها بالتعاون مع المكتب التربوي في الإدارة المدنية حينذاك. كُلّف عضواً في مجلس أمناء «مؤسسة وليد جنبلاط للدراسات الجامعية» سنة 1988، ليصبح أمين سر المؤسسة منذ سنة 1994 حتى تاريخ وفاته، حيث عمل على مأسستها وتنظيمها مع رفاق مخلصين، وتحويلها إلى مؤسسة أكاديمية. من منطلق قناعاته الراسخة، وممارستها على نفسه، كما استنهض المقدّم معارفه، لبناء شبكة علاقات مع المؤسسات الجامعية الخاصة والرسمية، لصالح آلاف الطلاب الجامعيين داخل لبنان. كلّ ذلك جعل وليد جنبلاط يختار هذا المضمار ليخلّد فيه اسم المقدّم بعد وفاته، بإطلاق «منحة شريف فياض» السنوية الموجّهة إلى الطلاب المتميزين في الدراسات العليا خارج لبنان.

رجل الحوار والمصالحة

«أكرمني الله أن أكون إلى جانب وليد جنبلاط في معركة التحوّل من العسكرة إلى السياسة، وفي الانتقال من خنادق الحرب إلى طاولات الحوار، ومن متاريس الخصام إلى لقاءات المصالحة»، بهذه الكلمات كرّم شريف فياض نفسه في حفل تكريمه سنة 2011، حين أفصح عن قناعاته الراسخة بضرورة الحوار وإتقان موجباته وصولاً للمصالحات الكبرى التي عرفها جبل لبنان. في المقابل كان وليد جنبلاط معبّراً حين رثاه بوصفه «كنت رمز الصلابة في مرحلة الحرب ورمز التسامح في مرحلة السلم، واكبت عودة المهجرين وعملت بجهد لطي صفحة الحرب المشؤومة». رأى د. قُصي الحسين في المقدّم «جسر القاضي بين رفاق تنابذوا وبين رفاق تحابوا»، فهو «جسر أهلي ووطني وحزبي وتقدمي وجنبلاطي وتاريخي متحرك». أما شهادة فؤاد أبو ناضر الآتية من موقع الخصومة السابقة، فقد شددت على الدور الذي لعبه الراحل أثناء الحرب وبعدها من أجل وضع كتاب جديد فيه طيّ لصفحات الماضي وفتح صفحات بيضاء للتعايش في الجبل ولبنان، ولا سيما الجبل بعد عودته إلى لُحمته السابقة، وقد التقت قناعاته مع المقدّم حين أكّد أن «لبنان لن يستقيم إلّا إذا اجتمعنا على البحث عن حقيقة تاريخنا الحديث لأن الحقيقة هي التي تلغي الحدود وتحوّل ساحة الوغى إلى ساحة لقاء».

اختبرت مفهوم البحث عن الحقيقة عند المقدّم بنفسي، حين زوّدني بما احتجت إليه من وثائق للكتابة عن دور الإدارة المدنية في الجبل، واقترح عليّ أن أكتب عن دور الإدارات المحلية عند الأطراف التي كانت في الجهة الأخرى من الحرب، ذُهلت حينها ولكنني تعلمتُ درساً أن الحقيقة لا تتجزأ ولا يكتمل نسج خيوطها إلّا من جميع الجهات.

كل هذه المبادئ تجدها منتشرة في صفحات كتاب المقدّم، وهي خير دليل على ممارسته قناعاته على نفسه قبل غيره، حين استضاف عائلة، في خضم الحرب، مصنّفة من «الخصوم»، مؤلفة من ستة أطفال في أسرّة أولاده وتحت رعاية زوجته، مؤكداً أن «المحبة حلّت محل الحقد في قلوبهم… يعيشون متصالحين مع أنفسهم ومع مجتمعهم» مستخلصاً أنه «من رحم المأساة تولد المحبة ومن صخب التطرّف وغباره تنقشع خيوط المصالحة ومن القناعة بالشراكة الوطنية يُبنى الوطن وتُبنى مؤسساته» مستذكراً الحوار الجدّي والمسؤول «الذي جرى في القاعات العامة في الجبل أو في الأديرة والمكتبات وكان له أثر بالغ في ترميم جسور الثقة بين الناس من مختلف المذاهب والأحزاب وسهّل التلاقي والتعاون والعودة وغسل القلوب»، مختتماً بخلاصات تشق طريق بناء الوطن حين يذكر أنه «لا يفيدنا في لبنان أن نطمس حقائق الخلاف وجذور التباين القائم ونهمل واقع التوازن الوطني المضطرب»، وحين يعتبر أن «أهم الدروس المستقاة من الحرب الأهلية اللبنانية هو درس العودة إلى الحوار الداخلي والقناعة بالتنوّع والعيش المشترك وقبول الآخر كما هو ذلك الآخر. وبغياب ذلك الحوار الجدّي المخلص وبغياب القناعة بالوطن وبالشراكة فيه ستتكرر المآسي وإن بحلل مختلفة وألوان متعددة»، وكأنه يقول امتثلوا إذا أردتم بناء لبنان.

الكاتب المؤرخ

اهتم المقدّم بالكتابة التاريخية، ولكنه لم يتناولها من نِظرة القائد العسكري، أو استغلها لعرض سيرة شخصية احتلّت أعلى المراكز، بل اتبع خطوات منهج البحث التاريخي، من حيث أهمية اختيار الموضوع؛ فقد كتب عن مرحلة دقيقة من تاريخ الجبل ومن خلاله تاريخ لبنان المعاصر، وقد حدّد إشكاليته في مقدّمة كتابه حين افترض أنّ «كلفة التسوية مهما كانت باهظة تبقى أرخص من كلفة الحرب حتى لمن ينتصر فيها». سعى إلى تأمين المصادر والمراجع، ولم تأخذه نشوة القائد كي يتفرّد بالخبر، بل تواصل مع من عايش الحدث، ونهل من محفوظات الحزب التقدمي الاشتراكي، واستعاد من الصحف اليومية ما احتاجه… فتراه في كل مفاصل كتابته، يوثّق معلومته بالاسماء، بالتواريخ، بالوقائع الحقيقية غير الافتراضية، ليتحول كتابه (نار فوق روابي الجبل) مصدراً يعتدّ به للفترة الزمنية التي غطّاها.

أراد المقدّم أن يستفيد من الكتابة التاريخية إلى أبعد حدود، فتراه يشقّ طريق المنهج الاجتماعي، حين جال في «الاقتصاد والثقافة والفنون والسياسة والأعراف والتقاليد والمفاهيم الضابطة لإيقاع نبض الناس في حقبة تاريخية محدّدة»، وكان جسوراً أن صاغ العبر بين طيات صفحاتها، رافضاً العنف حين خاطب أولاده «فلينشئوا أولادهم (أحفادي) على رفض العنف الذي لا يؤدي إلا إلى التراجع والانهيار»، مظهراً كلفة الحرب على المجتمع التي «نسفت أسس المجتمع ومرتكزاته»، مشيراً في أكثر من محطة إلى «العلاقات الإنسانية بين أهالي القرى قبل الحرب وبعدها علّ في ما كتبتُ درسًا من الماضي وعبرًة للمستقبل». جعل الأمثلة المحسوسة أحاجيج لتبيان قناعاته ومحاولة تعميمها، فحين أظهر قلقه وقلق وليد جنبلاط على وضع بلدة دير القمر كان يؤكد أنّ «انتشار الغرباء فوق تلالها أمر مؤقت وزائل، أما الثابت والدائم فهو التواصل الاجتماعي مع الجوار»، وحين ذكر نسيبه المهاجر من بشتفين وجد فيه «نموذج المغترب اللبناني الذي يحمل الحنين في قلبه وجواز السفر في يده والدمعة على وجنتيه»، وحين قارن وضعه واقفاً مُهدَداً بين حاجزين أحدهما سوري والآخر إسرائيلي مع «وضع لبنان على ساحة الصراع الإقليمي بين سوريا وإسرائيل وبين مصالح القوى الإقليمية وهو عاجز لا حول له ولا طول»، مختتماً للأسف كتابه باستنتاج محبط «هل أرض لبنان هبة من الله لا يستحقها شعبه؟!.»

خمس سنوات مرّت على غلبة موت المقدّم شريف فياض، «وهي خسارة مشروعة، في معركة الإنسان الأخيرة مع الموت منذ بدء الخليقة، ولمّا تزل في أذهاننا جميعاً صورة المقدّم منتصب القامة، مرفوع الهامة…».

.

الحضارةُ والأخلاق

تعرّض الإسلام، في صورته الظاهرة، في السنوات القليلة الماضية إلى سوء فَهم شديد هبّت رياحُه من مصدرين أساسيّين:
1- التشويه العنصري (الاستعلائي) الذي صدر بغير وسيلة وصورة من بضعة مراكز غربية إعلامية بحقّ الإسلام والمسلمين – بغضِّ النظر عن مدى تمثيل تلك المراكز المتجنّية المُتحاملة على الإسلام لروح الثقافة الغربية التي لا ينكر أهميتها غير المتعصب والجاهل – وكانت ذروة التشويه ذاك؛ الطريقة المقيتة المُنَفّرة التي أبرز بها بعض الإعلام الغربي رسوم الكاريكاتير المسيئة التي تناولت النبي محمّد (عليه الصلاة والسلام)، وردود الأفعال الغاضبة التي تلت ذلك.

2- الطريقة الانفعالية التي ردّ بها بعض المسلمين على التشويه العنصري أعلاه. فقد تحوّلت بعض ردود الأفعال تلك، وبخاصة ما اتّصل منها بإراقة بعض الشبّان اليائسين المهاجرين إلى أوروبا للدماء وقطع الرؤوس ومهاجمة الأبرياء في الكنائس، إلى مادة جديدة لهجوم ظالم لا على هؤلاء حصراً، وإنّما على المسلمين بعامّة، بل على الإسلام نفسه باعتباره «حضارة انفصالية» تعيق اندماج المهاجرين إلى أوروبا مع مجتمعاتهم الجديدة، وتعيق اندماج المسلمين عموماً بالمدنية، في وجهها المعاصر على الأقل.

بين هذين التشويهين، الأفعال المسيئة المُستنكَرة وردود الأفعال المُستنكَرة أيضاً، أين يقف العقل الإسلامي الرصين الهاديء الواثق من درجة سماح دينه العظيم. يمكن لمن يرغب العودة إلى بيانات مفتي الديار السعودية الذي افتى بوأد أيّة فتنة قد تنشأ عن ذلك، وعدم جوازها، وأنّ ما جرى لا يعود عن كونة عمل قِلَّة طائشة، وكان ذلك منتهى العقل. كذلك لا بدَّ من العودة إلى الأزهر الشريف، باعتباره مرجعية شديدة الحرص والمسؤولية، إلى مرجعيات إسلامية أُخرى في مدارسهم كافة. وضعت المرجعيات الإسلامية تلك، وسواها شرقاً وغرباً، وفي غير بيان وموقف، الأمور في نصابها الصحيح، وأعادت التذكير بالقاعدة المعاصرة للتفاهم الإسلامي المسيحي المتبادَل والتي ظهرت قبل عام تقريباً في ما سمّي بوثيقة أبو ظبي التاريخية التي وقّعها بابا رومة وشيخ الأزهر.

في هذه المقالة لا نتناول الحدث الخطير الذي جرى قبل وقت قصير، بل هي محاولة بالعودة إلى كيفية معالجة الأمير شكيب أرسلان قبل مئة سنة تقريباً للمسألة تلك، بل تأسيسه لكل نقاش مُتبادَل، وردُّه تحديداً لا على المتحاملين على الإسلام بعامّة فحسب (وقد كانوا دائما موجودين وسيبقَوْن كذلك ولأسباب أكثرها مشبوه وربما دخيل على المسيحية والإسلام معاً)، وإنما دعوته قبل مئة عام (وكان ذلك جديداً تماماً يومذاك ) لوقف المقارنات المتسرعة بين هذا الدين وذاك، بل لإخراج الدين من هذا النقاش على وجه الإطلاق. لقد كان الأمير شكيب في ذاك، وكما في أمور كثيرة أخرى، مُنْصفاً، موضوعيّاً، ومتنوّراً معاصراً أكثر بكثير من بعض مدّعي التنوير والمعاصرة اليوم.

عالج الأمير شكيب المسألة في أكثر من عمل له، وبخاصة في الكُتَيّب الذي غدا إنجيل الحركات الإسلامية لمئة عام، عَنيت به كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرُهم»، وهو في الأصل رسالته إلى أهل جاوة في إندونيسيا سنة 1925 جواباً على سؤال منهم في مسألة التقدّم والتأخير وموقع الدين منها، وقد أعيد طباعة الكتاب أكثر من سبعين مرّة (إقرأ عرضاً مفصلاً لجواب الأمير في كتابي «الأمير شكيب أرسلان، مقدَّمات الفكر السياسي»، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1989).

سأعرض في هذه المقالة رد الأمير المتقدم استناداً إلى عمل آخر له وهي مقالته بعنوان (مدنية الإسلام)، من كتاب «حاضر العالم الإسلامي» للوثروب ستودارد، ترجمة عجاج نويهض (مع مُقدَّمة من الأمير شكيب كان حجمها ضعفي الكتاب الأصلي (ص 117- 127) – وكانت طبعته الأولى سنة 1925، ثم توالت طبعاته لاحقاً، ومنها الطبعة الثالثة الصادرة سنة 1973 والتي استندت إليها المقالة هذه.

يبدأ الأمير مقالته، بل بحثه، بإثبات بطلان دعاوى من يزعم أنه لم يكن للإسلام من حضارة أو مدنيّة، فيقول:
«مدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة إذ ليس من أمّة في أوروبة سواء الألمان أو الفرنسيين أو الإنكليز أو الطليان إلخ، إلّا وعندهم تآليف لا تحصى في «مدنية الإسلام»؛ فلو لم يكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة بطابعه، مبنية على كتابه وسنّته، ما كان علماء أوروبة حتى الذين عُرفوا منهم بالتحامل على الإسلام يكثرون من ذكر المدنية الإسلامية ومن سرد تواريخها ومن المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت بها.» (حاضر العالم الإسلامي، الجزء الثالث، 119).

ويسهب شكيب في عدّ مظاهر مدنية الإسلام وتجلّياتها، فإذا بغداد «قد بلغت في دور المنصور والرشيد والمأمون من احتفاء العمارة واستبحار الحضارة وتناهي الترف والثروة ما لم تبلغه مدينة قبلها ولا بعدها إلى هذا العصر، حتى كان أهلها يبلغون مليونين ونصف مليون من السكّان، وكانت البصرة في الدرجة الثانية عنها وكان أهلها نحو نصف مليون. وكانت دمشق والقاهرة وحلب وأصفهان وحواضر أخرى كثيرة من بلاد الإسلام أمثلة تامة، وأقيسة بعيدة في استبحار العمران، وتطاول البنيان، ورفاهة السكان وانتشار العلم والعرفان، وتآثل الفنون المتهدلة الأفنان.» (119)

ولم تكن القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب بأقل من ذلك. أما قرطبة، والكلام لشكيب، فلم يكن يدانيها في أوروبة مُدانٍ، وكان عدد سكانها نحو مليون ونصف مليون نسمة، وكان فيها سبعمئة جامع عدا المسجد الأعظم الذي كان يسع حسب المهندسين الأسبنيول خمسين ألف مُصَلٍّ في الداخل و30 ألف مصلٍّ في الصحن «يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون ألفاً من المصلين» ويضيف:
«ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء، رأيناها آثار مدينة لا آثار قصر واحد، وعلمنا أنها تمتد على مسافة تسعمائة متر طولاً في ثمانمائة متر عرضاً… وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على آثارها: إنهم يرجون الإتيان على كشفها كلّها من الآن إلى خمسين سنة. وحسبك أنّ غرناطة التي كانت حاضرة مملكة صغيرة في آخر أمر المسلمين في الأندلس لم يكن في أوروبا في القرن الخامس عشر بلدة تضاهيها ولا تدانيها، وكان فيها عندما سقطت في أيدي الأسبانيول نصف مليون نسمة…. وحمراء غرناطة لا تزال يتيمة الدهر إلى اليوم.» (119-120).

يسخّف الأمير شكيب دعاوى المُكابرين «حُسّاد المدنية الإسلامية» الجاحدين فضل الإسلام في قيام المدنيات شرقاً وغرباً، وما تركته من آثار ماديّة وعقلية وروحية لا تزال تبهر المؤرخ المنصف والتي سمحت بسيادة عربية تامة شرقاً وغرباً «لثلاثة قرون أو أربعة». لكن السيادة تلك ما لبثت، برأيه، أن تراجعت «فذهبت ريحهم وولى السلطان الأكبر الذي كان لهم»، ولذلك أسبابه الموضوعيّة والنفسية، ولا علاقة لذلك بالدين، من قريب أو بعيد.

وبالمعيار نفسه، يرى شكيب أن ميزان التقدّم المادي يميل منذ حين وإلى الآن لصالح الحضارة الغربية، لا الحضارة بل الحضارات الإسلامية، ولكن السبب في ذلك ليس الدين، ولا هو الميزان في التقدّم والتأخر الماديين، يقول:
« نحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية ولكننا لا نسلّم بأنه يصحّ أن يكون لها ميزاناً، وذلك لأنه كثيراً ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتَتَفلَّت من قيوده وتفسد أخلاقها وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علّة السقوط، ولا يكون الدين هو المسؤول: وكثيراً ما تطرأ عوامل خارجية غير مُنْتظرة فتتغلّب على ما أثلته الشرائع من حضارة وتزلزل أركانها وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القصور في الشريعة. فتأخُّر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة بل من الجهل بالشريعة، أو من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي. ولمّا كانت الشريعة جارية على حقها كان الإسلام عظيماً عزيزاً.» (118)

أما بعض سياسيي الغرب ومؤرِّخيه المتحاملين المُنكرين مدنيّة الإسلام فلا يستحقون من شكيب غير الشفقة وتنبيههم إلى ما هم عليه من الإنكار وعدم النّصفة؛ وليسوا جميعاً كذلك، بل بينهم الموضوعي والمنصف أيضاً، يقول:
« وكم حرر المؤرخون الأوروبيون تحت عنوان «مدنية الإسلام» كتباً قيّمة ومجاميع صور تأخذ بالأبصار. وإن أشد مؤرخي الإفرنجة تحاملاً على الإسلام لا يتعدى أن يحاول التصغير من شأن مدنيته….. فقصارى هذه الفئة أن ينكروا كون المسلمين قد ابتكروا علوماً وسبقوا إلى نظريات صارت خاصة بهم، وغايتهم أن يقولوا إنّ المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا وأذاعوا وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب. وهذا القول مردود عند المحققين الذين يعرفون للمسلمين علوماً ابتكروها وحقائق كشفوها وآراء سبقوا إليها، فضلاً عمّا زادوا عليه وأكملوه، وما نشروا ونقلوه، ومن استرقَ شيئاً وقد استرقّه فقد استحقّه.» (120)

لكنَّ شكيباً، المؤرخ الموضوعي المنصف لا تأخذه نعرة عصبية، ولا تدوّخه لحظة غرور وفخار قومية، فإذا به يسرع الخطى إلى صياغة قاعدة تليق لا بالتاريخ فقط، بل بفلسفة التاريخ، وتاريخ الحضارات – وقد سبق فيها غارودي وغيره ممّن أنصفوا الحضارة العربية والإسلامية – فينتهي من نصّه الدقيق الهادئ إلى خلاصة تاريخية، فيقول:
«وبعد، فلم نعلم مدنية واحدة من مدنيات الأرض إلاّ وهي رشح مدنيات سابقة، وآثار آراء اشتركت بها سلائل البشرية، ومجموع نتائج عقول مختلفة الأصول، ومحصول ثمرات ألباب متباينة الأجناس.» (120)

نكتفي الآن، ولنا عَوْدٌ إلى الموضوع لاحقاً، بهذه الخلاصة التاريخية الساطعة التي لا ينكر صدقيتها وشمولها إلّا العنصري المتعصب المُكابر الذي يضع أوهامه، بل مرضه، بديلاً للحقائق الموضوعيّة التي تقدمها صفحات التاريخ لكل ذي بصر وبصيرة، ولكل عالم منهجه في طرائق العلم، ومستنده في تناول الوقائع، لا أوهام زمن الاستكبار والإقصاء والاستعلاء: زمن لا قاعدة علمية، ويجب أن نكون قد تجاوزناه – لكنّه يطلّ من جديد مع الأسف في طيّات خطاب شعبوي عنصري مقيت، لكنّه أقلّوي حتى الآن، والحمد لله.

ولنا في مقالة لاحقة إن شاء الله عرضٌ لتحليل الأمير شكيب العميق لموقع الدين، كل دين، في صعود الحضارات وأفولها.

قراءة نقدية في تاريخ الجمهورية الأولى

يبدو هذا المقال وكأنه خارج السياق الزمني الذي يفترض ان يتم التركيز فيه على ما جرى ويجري في مسار الجمهورية الثانية، ولكن العودة، برأيي، الى قراءة نقدية لمسار الجمهورية الاولى، يساعد في فهم التحديات والتداعيات التي ادخلت الجمهورية الحالية في مأزق يعبر عن عدم القدرة على انتاج حلول لمختلف المشاكل التي تواجه اللبنانيين.

يصنف النظام السياسي في لبنان من بين الانظمة التوافقية او انظمة المشاركة، التي تعطي الطوائف او المجموعات الثقافية او الاثنية حقوقاً في التمثيل السياسي يضمنها الدستور والاعراف. وتترافق هذه الحقوق مع نصوص تحدد بدقة آليات اتخاذ القرار في المؤسسات الدستورية، بشكل يمنع طغيان فئة على اخرى كما يمنع تعطل المؤسسات.

يتميز النظام التوافقي أيضًا بأنه «نظام النخبة» التي تتمتع بثقافة التسوية والقدرة على تسويقها إن عقدت لدى جمهور الطوائف او المجموعات، ويذهب البعض الى تشبيه دور النخبة في النظام التوافقي، بالدور الذي يلعبه «القفل» في قنطرة العقد، فإذا تداعى القفل، تتداعى معه القنطرة بأكملها والأمثلة على ذلك كثيرة في الجمهورية الاولى والثانية. وتركز النظرية التوافقية منذ عقود على عوامل الاستقرار في هذه الانظمة والتي تفترض توازنً ديمغرافياً مقبولاً وكذلك توازن اجتماعي- اقتصادي يمنع تركز الثروة في ايدي احدى المجموعات الطائفية او الثقافية او بيد قلة من المجموعة ذاتها، كما تفترض الوحدة في وجه التهديدات الخارجية.

غير أن بعض الدول مثل لوكسمبورغ اتفقت فيها النخب على آليات متقدمة لضمان الاستقرار ومنها اعتماد دبلوماسية القمة اي مأسسة الحوار بين النخب الاساسية وتسويق اي تسوية يتم الاتفاق عليها، وعدم إدخال القضاء والاجهزة الامنية في لعبة موازين القوى وترك الحكومة تحكم بمجرد تأليفها وحصولها على ثقة المجلس النيابي.

في المقابل فإن خصوصية هذا النوع من الأنظمة، لم تكن حائلاً أمام تكريس مبادئ دستورية تعتمدها الانظمة والديمقراطيات الاخرى وهذا ينطبق على لبنان، مثل الفصل بين السلطات الدستورية واستقلالية القضاء واعتبار الشعب مصدر السلطات، كما لم يمنع من تكريس مبادى وقيماً مثل حكم القانون وتحمل المسؤولية والمحاسبة والشفافية وقيام ادارة عامة تعتمد حيادية الخدمة العامة، كما تعتمد الكفاءة المعيار الاساسي في تولي الوظائف العامة. ولا تخرج الانظمة التوافقية عن فكرة العقد الاجتماعي وفقاً لمفهوم توماس هوبس وجان لوك، وإن يكن لهذا العقد خصوصيات معينة، حيث تحل الطوائف او المجموعات الثقافية كطرف في هذا العقد بديلًا من المواطن، ولا تسلم هذه الطوائف كما في التجربة اللبنانية بكافة الصلاحيات للدولة ومؤسساتها مقابل الحماية التي يفترض بالدولة تأمينها سنداً لفكرة العقد الاجتماعي.

وبالعودة الى التجربة اللبنانية منذ الاستقلال نرى أن النظام السياسي اللبناني مزج بين بعض مبادئ الديمقراطية التوافقية والنظام البرلماني، وتكرست فيه بعض الاعراف التي حافظت على التنوع في رئاسة مؤسساته الدستورية، كما تكرست فيه امتيازات لإحدى الطوائف في المواقع الدستورية والادارية والعسكرية، قيل انها اعطيت كضمانة للوجود المسيحي في لبنان الكبير بعد انضمام الاقضية الاربعة وغالبيتهم من المسلمين.
في المقابل، قام ميثاقه الوطني غير المكتوب على تناقضات تعكس الخلاف على هوية لبنان وموقعه وانتمائه الى محيطه العربي الطبيعي، كما ان العقد الاجتماعي الذي بني عليه الميثاق الوطني عام ١٩٤٣ كان عقدًا سياسيًا بامتياز، وذلك بعد أن قبل المسلمون السنة بالمشاركة في النظام، مقابل التخلي عن مطلب الوحدة، كما قبل المسيحيون بطريقة ملتبسة فكرة لبنان ذو وجه عربي. والعقد ايضاً، كان عقداً اجتماعيًا، بمعنى انه لاقى موافقة النخب المدينية والتجارية السنية والمسيحية، مع ارجحية للقوى الاقتصادية المسيحية لاسيما في قطاع المصارف وفي الصناعة والخدمات والوكالات الحصرية. هذا العقد بأطرافه المدينية التي تمتلك الجزء الاكبر من الثروة الوطنية لم يجد ارضية تفاهم مع فكرة لبنان الكبير التي قامت على ضم الاقضية الاربعة من الأطراف، والتي كان من المفترض ان يشملها العقد، كي تندمج مع اقتصاد المركز في بيروت والقسم الشمالي من جبل لبنان ليتشكل اقتصاد وطني، يساهم في الاندماج الاجتماعي لدولة لبنان الكبير، ويخفف من حدة الانقسامات الطائفية، ويتيح تطوير نموذج سياسي يجمع بين المنافسة السياسية والمواطنة وايجاد الاليات الدستورية لطمأنة الطوائف . لكن هذا الامر لم يحصل، ولم تمتلك النخبة السياسية المدينية الشجاعة والرؤية الحكيمة في تطوير هذا العقد، الذي بقي قاصرًا عن استيعاب الاطراف وتحولاتها الاجتماعية ومتطلبات نموها، من خلال السياسات التي ركزت على تطوير المركز واهملت الاطراف، ومن خلال نظام ضريبة غير عادل ساهم في تقويض فكرة التعاضد الاجتماعي، وساهم بانتاج فوارق اجتماعية هائلة حتى في قلب نقاط المركز الذي غلب عليه طابع تركيز الثروة بايدي قلة. لكن فؤاد شهاب الاتي الى رئاسة الجمهورية من المؤسسة العسكرية، وبعد ثورة ١٩٥٨ التي تختزن ما يكفي من الابعاد الاجتماعية والاقتصادية، حاول بالتعاون مع كمال جنبلاط وبيار الجميل التخفيف من حدة التحالف المديني والتجاري وعبئه الكبير على مناطق الاطراف وعلى الاستقرار، فانتهج السياسات التي اعطت الاطراف بعض الفرص في الكهرباء ومياه الشفة والطرق ونشر التعليم الثانوي -من خلال الدور الذي لعبه كمال جنبلاط في وزارة التربية – بعد ان اظهرت بعثة ايرفيد حجم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي حيث سيطر ١٪ على نصف الثروة الوطنية الامر الذي وضع قيام طبقة وسطى قبل الصلاحات الشهابية امراً مستحيلا. كما حاول فؤاد شهاب أن يصالح الديمقراطية التوافقية في لبنان مع فكرة دولة القانون والمؤسسات لذلك انشىء التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية، وقد شكلت هذه الخطوة المحاولة الاولى الجدية في بناء حكم القانون.

نجحت المرحلة الشهابية في ارساء بعض قواعد الاستقرار للديمقراطية التوافقية من خلال اعطاء اهمية للسياسات الاجتماعية والتربوية وبناء الخطوات الاولى لاندماج الاطراف. كما نجحت لاول مرة، في ارساء سياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار تحديات صعود المد القومي مع جمال عبد الناصر والتعاطف الداخلي القائم ومتطلبات الحفاظ على السيادة اللبنانية والحفاظ على التوازنات المحلية المعقدة.

ولكن التحولات الاقليمية المتمثلة بانتكاسة حزيران في العام ١٩٦٧ والتي تلاها فوز الحلف الثلاثي في الانتخابات النيابية والذي وصفه غسان تويني انه «طليعة دولة النصارى»، هذا الحلف المتخاصم مع التجربة الشهابية غيّر في موازين القوى في الساحة المسيحية ومهّد لنهاية الشهابية.

ولا شك في أن قيام اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩ وتعاظم مشكلة الوجود الفلسطيني بعد ايلول الاسود في الاردن وتحول الجنوب الى ساحة مواجهة مع العدو الاسرائيلي وصعود دور الامام موسى الصدر وبداية مأسسة حركة المحرومين سيغير في موازين القوى في مناطق الاطراف لاسيما ذات الغالبية الشيعية .

إن التشوهات التي رافقت تلك المرحلة ادت الى انقسامات سياسية ووطنية حادة ولم تكن فيها الخلافات فقط على الامتيازات والسياسات وميزان القوى الذي حكم تسوية ١٩٤٣، بل على موقع لبنان ودوره في الصراع العربي الاسرائيلي وعلاقته في محيطه العربي ودور منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ، واظهرت طبيعة الانقسامات في تلك المرحلة مدى التفكك وعدم القدرة على صياغة قيم مشتركة تحمي الديمقراطية التوافقية الناشئة في محيط تحكمه انظمة دكتاتورية وعسكرية، والانقسام الوطني والسياسي حمل معه الانقسامات ذات البعدين الاجتماعي والاقتصادي وذلك بين بيروت واطرافها من احزمة البؤس، وبين المدن بشكل عام والاطراف وبين المناطق والطوائف، وعبرت حركة كمال جنبلاط السياسية وقيادته للنضال المطلبي عن هذا الواقع المرير ، كما عبرت حركة المحرومين بزعامة الامام موسى الصدر عن مشروعها السياسي بعنوان التهميش والحرمان فيما مضمونه الحقيقي هو الاعلان عن التحول الكبير في الاجتماع -السياسي الشيعي كمقدمة للبحث عن دور اكبر للطائفة الشيعية في النظام السياسي ،في الوقت الذي فشلت فيه كل محاولات النخب الشيعية من العائلات التقليدية البقاعية على وجه الخصوص في ايجاد القواسم المشتركة مع القوى المتحكمة بموارد المركز لتأمين متطلبات نمو البقاع الشمالي ذي الاكثرية الشيعية واندماجه الفعلي بالدولة المركزية، وفي الوقت الذي خسر فيه الجنوب بعد اقفال الحدود مع فلسطين المحتلة اهم الاسواق التي كانت جزءا من تنمية اقتصاده ،فاندثرت اقطاب اقتصادية محلية مثل بنت جبيل التي كانت تستقطب استثمارات كبيرة وتؤمن فرص عمل هائلة ، وكذلك مرجعيون والخيام فضلاً عن خسارة مئات العمال من حاصبيا لفرص عملهم في حيفا ويافا ودون ان تؤمن الدولة اي بديل آخر ، وفي الوقت الذي تخلفت فيه الدولة بعد احتلال اسرائيل لمزارع شبعا في سنة ١٩٦٧ عن سداد اي تعويضات لاهالي مزارع شبعا عن مئات البيوت التي تدمرت وخسارة الاملاك الزراعية التي كانت تشكل موردًا مهماً لسكان المنطقة . في هذا الوقت ، تحول الجنوب بعد اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩ بغالبيته الشيعية ساحة مواجهة غابت فيه الدولة ايضاً عن اي خطط تدعم صمود الجنوبيين، على غرار ما كان يطالب به كمال جنبلاط على الاقل ،انشاء الملاجىء لحماية السكان المدنيين من الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.

في المقابل تمكن كمال جنبلاط من توحيد اليسار والاتفاق على رؤية وطنية لاصلاح النظام سياسيًا وإداريًا واقتصاديًا من خلال البرنامج المرحلي للاحزاب والحركة الوطنية، ولكن للاسف العناد الذي واجهه كمال جنبلاط من الجهة المقابلة برفض الاصلاح والتخلي عن الامتيازات والرهان على الخارج، قوض كل الآمال بايجاد تسوية سياسية تمهد لتحديث النظام السياسي في لبنان.

شكل اغتيال كمال جنبلاط في العام ١٩٧٧ ضربة كبيرة للمشروع الوطني الذي كان يمثله، الامر الذي سيفتح الطريق امام الانهيارات الوطنية اللاحقة. ولا شك في أن رهان بعض الاطراف اللبنانية على الخارج، والتغيير في ميزان القوى الاقليمي بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الاسرائيلي، شكل عاملًا حاسمًا في تعميق الانقسام الوطني وانهيار الثقة بين الطوائف، ووضع لبنان امام تحديات جديدة وباتت كل طائفة تبحث عن حماية اقليمية او دولية. وقد ادت هذه الرهانات الى اضعاف سيادة لبنان وتقويض الثقة بالدولة المفترض انها المؤسسة الوحيدة التي تقع عليها مسؤولية حماية الناس والطوائف، وتحول لبنان الى ساحة حرب دامت خمسة عشر عاماً، اختلطت فيها الابعاد الداخلية والاقليمية والدولية. وشكل الحزام الامني الذي اقامته اسرائيل في جنوب لبنان واعتداءاتها المتكررة واحتلالها العاصمة بيروت في حزيران من العام ١٩٨٢ واجزاء من جبل لبنان أصعب التحديات على وحدة البلاد وسلامة اراضيها.
تمكن التحالف الذي اقامه وليد جنبلاط ونبيه بري بدعم سوري من اسقاط اتفاق السابع عشر من ايار، وتمكن وليد جنبلاط من تأمين طريق المقاومة الى الجنوب وإعادة فتح طريق الشام الى بيروت. واتساءل، كم كانت التداعيات السياسية كبيرة على سوريا ولبنان لولا هذا الانجاز الجيو-ستراتيجي الكبير الذي حققه وليد جنبلاط ومعه شرائح وطنية متعددة. لكن للأسف بقي النظر الى هذا الانجاز من زوايا ضيقة ودون اعطائه البعد الاستراتيجي الذي يستحق، وجاءت التطورات الاقليمية خصوصاً مع استمرار احتلال اسرائيل لجنوب لبنان ، ومغادرة منظمة التحرير الفلسطينية، وفشل كل محاولات ايجاد تسوية سياسية لإعادة ترتيب اوراق النظام وتوازناته ، فسقط الاتفاق الثلاثي ودخل النظام السياسي في مرحلة دقيقة، حيث انشطر القرار بين حكومتين متناقضتين في الاهداف والممارسة الامر الذي عرض وحدة الدولة ومؤسساتها لأخطر الامتحانات والتداعيات. وقد تبين لاحقاً ان احد الاهداف الرئيسية لحكومة ميشال عون العسكرية كان التشبث والامساك بالسلطة، وتعطيل اي مبادرة عربية او دولية لعقد مؤتمر وطني لإصلاح النظام، ما لم تكن على جدول اعمال التسوية انتخابه لرئاسة الجمهورية، مما وضع البلاد امام تحديات اتساع دائرة العنف من خلال إعلان الحروب المتعددة والتي اعلنها في سياق تحقيق هذا الهدف.
انتهت الحرب اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً في مرحلة تحول في المسار الدولي، حيث نشأ تفاهم اميركي سعودي وسوري ادى الى انعقاد مؤتمر الطائف، طبعًا بعد ان جرت بعض التحولات في ميزان القوى الداخلي، لاسيما بعد معركة سوق الغرب في ١٣ آب ١٩٨٩، التي أسهمت في إعادة بعض التوازن إلى ميزان القوى المحلي، مجرد تصحيح صغير في جبل أزمات كان يعلو يومياً.

خلاصة:

لعل من اهم استنتاجات مرحلة الجمهورية الاولى هي أن النخبة التي قادت هذه الجمهورية من الاستقلال وحتى مرحلة الدخول السوري، استطاعت ان تجد ارضية للتسوية في بعض المسائل التي تتعلق بآليات النظام وتشغيل مؤسساته الدستورية بطريقة مقبولة، لاسيما في مجلسي النواب والوزراء، وتمكنت هذه النخبة من تطوير اعراف حافظت على الحد الادنى من الشراكة الاسلامية المسيحية، ومن الاحترام والتسامح المتبادل الامر الذي مكن المجالس النيابية من ان تقوم بدورها التشريعي ومراقبة عمل الحكومة وبرزت كتل نيابية هامة في هذا المجال، كما تمكنت حكومات عديدة، من تأمين الخدمات الاساسية وتطوير المناخ الاستثماري الذي ساعد في الكثير من الاستثمار في الاقتصاد الوطني. وحافظت هذه النخبة على اعراف مثل حرية الصحافة وسيادة القانون وحرية التعبير وحماية الملكية وغيرها من الاعراف، وكان لهذه النخبة الكثير من المواقف ذات الابعاد الوطنية وكانت على مستوى من الالمام الواسع بتاريخ لبنان الحديث والتحولات التي حصلت على الصعد كافة لقيام دولة لبنان الكبير ومرتكزاتها السياسية والايديولوجية.

استطاعت هذه النخبة بناء ادارة حديثة مع قيام اجهزة رقابة ادت دورها بفعالية، وكان على رأسها اداريون مميزون، وتمكن مجلس الخدمة المدنية من اجتذاب كفاءات ادارية هامة من خلال الامتحانات التي اعتمدت الكفاية سبيلًا لتولي الخدمة العامة. كما استطاعت آليات النظام في ذلك الوقت من تأمين الخدمات الاساسية، لاسيما الكهرباء حيث كانت مؤسسة كهرباء لبنان من اهم المؤسسات الحكومية في دول الشرق الاوسط. واستطاعت مرافق مهمة مثل المرفأ والمطار من القيام بدورهما الاقتصادي الكبير، وشكلت شركة طيران الشرق الاوسط وما تزال علامة مميزة في تاريخ لبنان ، وتمكن مصرف لبنان من انتهاج سياسة نقدية حافظت على قيمة مميزة للعملة الوطنية تجاه العملات الصعبة مما عزز القيمة الشرائية للمواطنين.

وفي الاطار السياسي ، تمكنت هذه النخبة من ابعاد لبنان عن كأس الوحدة المصرية والسورية واستيعاب انعكاسات حصولها وانفصالها، وتولى المسؤوليات في وزارة الخارجية في حكومات متعددة ، شخصيات دبلوماسية عريقة، استطاعت قيادة سياسة لبنان الخارجية ببراعة، ومارست مهامها الديبلوماسية بحرفية عالية، مكنت لبنان من تعزيز انفتاحه الدولي وتقوية اواصره مع العالم العربي، لاسيما دول الخليج التي وفرت اسواقها آلاف فرص العمل للبنانيين وحققت استثماراتها في لبنان نموًا كبيراً للاقتصاد الوطني.

برز من بين النخبة في الجمهورية الاولى ايضاً رجال دولة مثل كمال جنبلاط وريمون اده وفؤاد شهاب وموريس الجميّل والياس سركيس وحسين الحسيني ورشيد كرامي وفيليب تقلا وغيرهم، ممن عرفوا كيف يخاطبون الناس ويجعلون الخيارات اكثر عقلانية. في هذه الجمهورية، قامت الجامعة اللبنانية التي كانت احدى ثمرات نضال كمال جنبلاط ومعه احزاب اليسار، والتي حققت لاحقاً توازناً وطنيًا كبيراً في عملية تطور الاجتماع السياسي اللبناني وساهمت في خلق طبقة وسطى . كما تمكن اكاديميون كبار في الجامعتين الاميركية واليسوعية من جعل لبنان جامعة للنخب العربية.

تمكن القطاع الخاص في لبنان في تلك الفترة ان يلعب الدور الاساسي في الاقتصاد اللبناني الذي بلغ مستوى هائل من النمو في مرحلة الخمسينات، وحافظ لبنان لعقود على ميزان تجاري مقبول من خلال قدرة القطاع الصناعي على الانتاج القابل للتصدير ومن خلال السياحة واستطاع رجال الاعمال تطوير ميزات تفاضلية في الصحة والمصارف والخدمات الاخرى حيث غدا لبنان ايضاً مستشفى العرب.

باختصار، تمكن لبنان في تلك المرحلة من بناء ثقة عربية ودولية جذبت اليه استثمارات متعددة ساعدت في تطوير وظيفته الاقتصادية خصوصاً بعد قرار المقاطعة العربية، الذي فتح الطريق لمرفئ بيروت كي يلعب دورًا هامًا في تجارة الترانزيت.

اما الدروس المريرة المستقاة من تلك التجربة فهي، أن النخبة التي ورثت تفاهمات الميثاق الوطني، لم تتمكن من ادراك اهمية السياسات الاجتماعية والاقتصادية في عملية الاندماج الاجتماعي وتكوين عناصر الاستقرار للنظام حيث بقيت مناطق الاطراف كالبقاع والجنوب وعكار الغارقة في الفقر معزولة عن الاقتصاد الوطني، كما لم يتمكن بعض من هذه النخبة، من ادراك تداعيات الاستقواء بالخارج للوقوف في وجه محاولات تطوير وإصلاح النظام، الامر الذي تسبب بانهيار الثقة واستجلب الى جانب اسباب اخرى مقدمات انهيار النظام السياسي المستقل إلى حد كبير.

ولا شك في أن اعقد التداعيات على الجمهورية الاولى كان في قيام ونشأة الكيان الصهوني وفي مواجهة سياساته العدوانية واطماعه في المياه اللبنانية، ومحاولاته المستمرة في ضرب التجربة اللبنانية التي تشكل نقيضًا لهذا الكيان. وفي المقابل، لم تتمكن الدولة من صياغة استراتيجية وطنية للتعامل مع هذه التحديات نظراً للانقسام الوطني حول هوية لبنان وموقعه من الصراع العربي الاسرائيلي وميثاقه الوطني الملتبس الذي قام على نفيين «لا للشرق ولا للغرب». وتعاملت النخبة اليمينية مع هذه التداعيات بخبث انطلق من احقاد عنصرية، رغم الدور الذي لعبه الرأسمال الفلسطيني القادم والعمالة الفلسطينية في انعاش الاقتصاد اللبناني، وبقيت هذه النخبة تنظر الى اللاجئين الفلسطينيين كمصدر خطر على التركيبة اللبنانية، الامر الذي ادى الى حرمانهم من ابسط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وجعل من المخيمات احزمة بؤس وحرمان وقنابل موقوتة.

وعلى الضفة الأخرى، ساهم رهان اليسار على منظمة التحرير الفلسطينية في تكوين ميزان قوى داخلي لصالح تغيير النظام في خلق تداعيات على صعيد العلاقات بين مكونات النظام، وربما ساهم ايضاً بتصعيد جولات العنف المتكررة، وقد فتح الطريق لمنظمة التحرير بالاضافة الى عوامل اخرى الى ان تصبح دولة ضمن الدولة. كما ان تحول لبنان الى ساحة مواجهة برعاية سورية، كانت له تداعياته على دور لبنان في المنطقة وكلفته الانسانية والاقتصادية والسياسية، فضلًا عن التداعيات التي عانى منها اهل الجنوب في مرحلة الوجود الفلسطيني، ولاحقًا في مرحلة الاحتلال الاسرائيلي المباشر.

أختم لأقول آسفاً ان التاريخ قد اعاد نفسه في الجمهورية الثانية في المحطات البائسة من الجمهورية الاولى، من خلال إنعاش تحالف الاقليات ليضع لبنان مجددًا امام تحد وجودي، كما عادت محاولات الاستقواء بالخارج لتعديل ميزان القوى الداخلي، وعادت مقايضة السيادة الوطنية بالمناصب والكراسي والنفوذ الداخلي، في الوقت الذي يتشكل فيه مشهد جيوسياسي معقد في المنطقة قد يطيح في لحظة معينة بالكيان واسسه. وبدل ان تستقى الدروس من الذين يحتلون ارفع المناصب في الدولة، قاموا وسنداً للرهان على تحالف الاقليات وتحت شعار تحقيق التمثيل المتوازن بالضغط لاقرار قانون انتخاب يستجيب لهذا التحالف، الامر الذي ادى الى اخلال كبير في التوازنات الوطنية وضاعف من حدة الانقسامات المذهبية والطائفية، واقفل كل فرص التغيير على الشباب اللبناني .

اعتقد انه على الرغم من الخلل الكبير في ميزان القوى المحلي، وعلى الرغم من عدم نضوج الظروف لقيام اي تكتل يحمل مشروعاً للتغيير الحقيقي حتى الآن. ومع ذلك فتجديد الآمال وعدم الوقوع في اليأس يقضي بالقول، انه حان الوقت لمشروع سياسي متماسك اساسه استعادة الدولة لسيادتها على سياستها الدفاعية والخارجية، وارساء تفاهم وطني لعقد اجتماعي جديد، يقوم على الحياد الايجابي وبناء اقتصاد وطني منتج وتوزيع عادل للثروة، وقانون انتخاب يعيد الثقة الى جيل الشباب بامكانية التغيير.

وحدةُ الحقيقة

ميخائيل نعيمه

ميخائيل نعيمه الذي يعرفه جيّداً الوسط الأدبي والفكري والثقافي في غير جزء من هذا العالم، من الهند وموسكو إلى العراق ومصر وبلدان المغرب العربي إلى شمال أمريكا، ظلّ في وطنه من حيث الرعاية والتعريف بأعماله على «القائمة السوداء» السريّة تقريباً، ولأسباب غير معروفة تماماً. ورغم السمعة العالمية والعربية العالية، ورغم فوزه بجائزة الدولة اللبنانية سنة 1961، ثم تكريم رئيس الجمهورية له في مناسبة بلوغه التسعين سنة 1979 لم ينلْ نعيمه من مؤسسات وطنه الثقافية والتربوية الرسمية والخاصة من يوازي من حيث الاهتمام والتكريم الأعمال الضخمة والمبدعة وغير العادية التي أنجزها طوال سبعين سنة من عمره الذي امتد أكثر من تسعين عاماً، وإسوة بما قامت به بإزاء أدباء ومفكرين لبنانيين وغير لبنانيين آخرين كانوا دون نعيمه إبداعاً وغنًى فكرياً أو أنهم على الأقل ما كانوا بأعلى كعباً منه في أي باب من الأبواب. هذا في التكريم المعنوي، أمّا التكريم أو التقدير في المجال المالي أو المادي فكان معدوماً، وقد عاش نعيمه الشطر الأخير من سنوات عمره وفق ما أعرف من أكثر من مصدر من المردود المالي السنوي لمبيعات مؤلفاته من دار نشر لبنانية محترمة، مردود لم يكن ليتجاوز يومذاك- نهاية الستينيّات وسحابة السبعينيّات- بضع عشرات من آلاف الليرات اللبنانية سنوياً.

وعليه، يأتي تكريم البيت اللبناني في موسكو، ومؤسسات روسيّة أخرى، لنعيمه في ذكرى ميلاده الثاني والأربعين بعد المئة، لفتة علمية وإنسانية مهمة؛ في مكانها الطبيعي (لأن نعيمه خريج بولتافا الروسية يومذاك)، وفي توقيتها أيضاً: إذ العالم برمّته يشكو أزماته، ولا يخرج من أزمة إلّا ليدخل أزمة جديدة أشد وأدهى. وهو ما أشار إليه نعيمه في كتبه كافة، أي إنّ نوع المدنية التي نحياها مدنيةٌ مولّدة للأزمات، في ذاتها، وبطبيعتها. فلا نبحثنّ إذاً عن دواء لأزماتنا في ما هو الداء في الحقيقة، أي إن مدنيتنا عاجزة عن تقديم العلاج لمشكلاتها (كما يتبيّن بالملموس يومياً)، وإن العلاج، والكلام لنعيمه، إنّما يكون في بناء مدنية مختلفة تماماً في مبادئها وقيمها وأساليب إنتاجها وعيشها أيضاً.
المدنية العاجزة عن تقديم الدواء والعلاج لمشكلات البشر ومجتمعاتهم والتي باتت في ذروتها منذ بعض الوقت، هي المدنية «المادية»، وثقافتها المادية؛
فيما المدنية القادرة على تقديم الدواء والعلاج المطلوبَين لمشكلاتنا تلك هي المدنية «غير المادية» – ولا أريد أن أحصرها في شكل واحد ضيق حصراً. المدخل إلى حلّ مشكلات البشر التي تبدو اليوم ضاغطة بل مستعصية يكمن في الثقافات غير المادية، (ولا أقول بثقافة واحدة)، وبالمقاربات غير المادية التي تتبنّاها لمشكلات الإنسان والمجتمع. وهنا يكمن إسهام نعيمه الحاسم منذ بدأ يكتب قبل مئة سنة تقريباً، وإلى آخر كتاب كتبه؛ بل لكأنما كلّ ما كتبه كان كتاباً واحداً، وفيه فكرة واحدة، وقد حاول أن يوصلها إلى قارئه في أشكال مختلفة: من المقالة إلى الشعر فالمسرحية فالأقصوصة وأخيراً الرواية – كأتم شكل أدبي – إلى البحث الفلسفي الدقيق إنما بأسلوب رشيق سهل ومفهوم من أكثرية القرّاء. وقد أسميت ما تركه نعيمه من آثار فكرية بـ «الأدب الفلسفي»، أي هي فلسفة بالكامل لكنها صيغت بأسلوب أدبي، لأن الأدب الجميل أسرع إلى قلب الإنسان من المبحث الفلسفي الجاف كما يُظنّ عموماً.

هذا هو موقع نعيمه تحديداً: لم يكن يلهو، ولا يلغو، بل كان صاحب مشروع لتحرير الإنسان والإنسانية من مشكلاتهما الكثيرة، قدّمه على نحو واضح دقيق، ودافع عنه بأكثر من طريقة وأسلوب، في كل ما كتبه أو تركه من آثار فكرية تبلغ العشرات.
هوذا ما سأظهِره في محاضرتي، وسأختمها بتركيز إضافي على مسألة تعني هذه المناسبة كما أعتقد، وهي أن نعيمه لم يغادر ربما التأثير الروسي الذي اختبره في حقبة بولتافا، وإنما أضاف إليه لاحقاً التأثير الشرقي عموماً.

الملاحظة الثانية، وإن تكُ شخصية في الظاهر، فهي متصلة في الواقع بسؤال «هل نعيمه فيلسوف» موضوع هذه المحاضرة. كانت رسالة تخرّجي في الدبلوم من كلية التربية في الجامعة اللبنانية سنة 1973 (أي قبل ما يقرب من سبع وأربعين سنة) تحت عنوان: «مدخل إلى فلسفة نعيمه»، وأحسب أنه قُيِّض لي أن أكون بين أوائل من استخدموا تعبير «نعيمه الفيلسوف»! ولضخامة الإبداع الفلسفي الذي عثرت عليه في أعمال نعيمه لم أكتفِ بالمدخل، فكانت مباشرة أطروحتي في الدكتوراه والتي أشرف عليها مؤرخ الفلسفة المفكر اللبناني الراحل الدكتور خليل الجرّ والتي نوقشت سنة 1977، أي قبل حوالي ثلاث وأربعين سنة. الأكثر أهمية في الحدث هذا، بعيداً عن الجانب الشخصي، هو أن بعض أعضاء لجنة المناقشة رفضوا فكرة نعيمه الفيلسوف وجادلوني في الأمر لثلاث ساعات كاملة، وكانت حجتهم (الضعيفة كما فنّدت) أن نعيمه شخصياً لم يُسمّ نفسه فيلسوفاً فكيف يجرؤ الباحث على ما لم يُقدِم عليه نعيمه نفسه، ناهيك بالآخرين! أمّا ما كان مثيراً واستثنائياً بحق فهو أن ميخائيل نعيمه كان حاضراً شخصياً هذا النقاش الطويل الذي تناول أعماله: أهي أدب فقط، أم هي أدب، وفلسفة كذلك، ومن النوع الأصيل أيضاً؟ وكانت الذروة حين طلب الدكتور الجرّ (رحمه الله) من نعيمه أن يدلي بدلوه في المسألة موضوع الجدل، وأن يحسم النقاش بالتالي. فقام نعيمه إلى المسرح، وتحدّث لثلث ساعة – وقد نشرت الصحف في اليوم التالي الكثير الكثير من حديثه- ومن بين ما قاله: «رأيت نفسي ممدَّداً لثلاث ساعات على طاولتكم، وقد شرّحتموني وحللتم أعمالي وأفكاري…» ثم ليختم مداخلته بالقول: «إني أوافق على كل كلمة وردت في البحث موضوع النقاش.»

رغبت من هذه المقدَّمة أن أُدخِلكم مباشرة في جو النقاش الذي اشتعل في زمن انقضى بخصوص تصنيف أعمال نعيمه، وتصنيف نعيمه شخصياً، في خانة الأدب الرفيع فقط، أم في الخانة الصعبة الملتبسة: أدب وفلسفة معاً- وإسوة بأدباء كبار آخرين من المعرّي إلى غوته إلى سارتر وغيرهم من الشعراء والأدباء وكتّاب الرواية والمسرح من أرباب هذا اللون الرفيع من الأدب الفلسفي الذي ميّز معظم أعمال نعيمه والذي تمكن بمهارة واقتدار من التأليف (ولا أقول الجمع) بين بهاء الأدب وتفرّد أدوات التعبير فيه وبين عمق الفلسفة وتماسكها وشمولها!

أودّ أن أقول، وكما أشرت في مقدَّمه كتابي الصادر قبل أربعين عاماً، «فلسفة ميخائيل نعيمه»، (منشورات بحسون الثقافية) إن هذا النقاش (نعيمه أديب أم أديب وفيلسوف) لم يكن ليعني نعيمه في شيء، وهو الذي تجاوز أشياء كثيرة في حياته، وزهد، منذ عودته إلى كنف صخرته في الشخروب سنة 1932بُعيد موت صديقه ورفيقه جبران، في ما سعى كثيرون إليه، فبات لا يشغلُ باله لقبٌ أو جاهٌ من هنا أو تصنيف من هناك. كان الأمر يعنينا نحن، الباحثين في تراث نعيمه. بعضُ ما أدهشني إلى حد بعيد هو أن الداخل إلى حقل كتابات نعيمه يقعُ في المؤلفات تلك، وكيفما التفتَ في أرجائها، على صور جليّة من الفلسفة بأوسع معانيها، من المشكلات والإشكاليات، إلى عمق التحليل، ووحدة الخطاب وتماسكه وصولاً إلى استنتاجات وخلاصات جديدة، كلياً أو جزئياً كحال الفلسفة دائماً. كانت الأفكار أو المكوّنات تلك أشبه بحجارة وأعمدة وقباب وتيجان وزخارف مشغولة ومصقولة بكل مهارة ودقة، لكنها غير مرصوفة بل متناثرة في كل مكان. كان في وسع جميع الداخلين إلى حقل نعيمه ذاك أن يروا في المشهد ذاك آياتٍ من إبداعات نعيمه الجمالية، فناً وأدباً وشعراً، رواية ومسرحاً وإلماعات، وأساليب في الكتابة كانت تجديداً ذا شأن أدرك أهميته كتّاب وطالبو أدب كُثُر. إلاّ أنه كان في وسع زائرين أو متعبّدين آخرين في حقل كتابات نعيمه أن يروا في هذه الجماليات المتناثرة، أيضاً، ما هو أبعد أو أعمق من ذلك قليلاً. لم يكن الزائر أو المتعبّد في معبد نعيمه الجمالي يحتاج لأكثر من بعض التجربة وبعض القدرة على التحليل والمقارنة ليكتشف ودونما كبير عناء أنه بإزاء بنيان فلسفي كامل، هيّأ له صاحبه، في طولِ أناة وانتباه واضحين، كل ما يلزم من أفكار وتحليلات ومواقف بل وخلاصات، لكنه لم يدفع بها، بقصد أو بدون قصد، لتؤلف صرحاً أو مَعلماً فلسفياً واضحاً وكبيراً، وكما الصروح الفلسفية الشاهقة عند فلاسفة كلاسيكيين معروفين. كان الأمر يشبه إلى حد كبير حال نحّات أو بنّاء ماهر صرف عمره ليل نهار يهذّب أحجاراً بغير عدد، يصقلها أنواعاً وأشكالاً وتُحَفاً ليؤلِّف منها يوماً بناءً أو عمارة جميلة، ثم فجأة ترك ذلك كلّه، ودون أن يوضح لماذا. وكأنما نعيمه قد ترك لنا نحن، قارئي أعماله وقادري تراثه الجمالي والفكري، أن ننظر في ما تركَ، وأن نحاول من ثمة إعادة ترتيب بل تركيب عالم نعيمه الفلسفي. ذلك هو تحديداً حال الداخل إلى «همس الجفون» و«المراحل» و«مذكرات الأرقش»، وتحفته «مرداد»، و«اليوم الأخير» و«نجوى الغروب» وغيرها من إبداعات نعيمه والتي لا يخفى طابعها الفلسفي العميق على القارئ المُدرك للأبعاد الفلسفية الكامنة في ثنايا ذلك الأدب الجميل الذي قدمه أو رسمه نعيمه على نحو متناثر منذ بواكير إنتاجه الثقافي في العقد الثاني من القرن العشرين، وعلى نحو أكثر اكتمالاً في أعماله التي صدرت منذ أربعينيّات القرن ذاك.

حجة الفلسفة في أفكار الأعمال النعيمية بسيطة ومباشرة. إذا كانت الفلسفة- وهي ليست كذلك – مجرد براهين منطقية، رياضية، شكلانية، جافة، باردة، وتعني الخاصة فحسب، فميخائيل نعيمه وفق هذا الفهم ليس فيلسوفاً. هذا الفهم الأداتي الضيّق لا يستبعد نعيمه وحده من دائرة التفلسف والفلسفة، بل يستبعد معه أيضاً رهطاً غير قليل من الكتّاب في الفكر الفلسفي قديماً وحديثاً، منذ قصيدة الشمس/الإله لإمحوتب قبل نحو من أربعة الآف وخمسمائة سنة، إلى جلجامش وأعمال أخرى في ميسوبتاميا القديمة، إلى تجليات الفكر الفلسفي في أعمال علماء ومفكرين في اليونان القديمة والهند، إلى سلسلة طويلة من العلماء الفلاسفة والأدباء الفلاسفة في ثقافتنا والثقافة الغربية الحديثة وغيرهما من الثقافات. لم تستوِ الفلسفة اختصاصاً منهجياً منطقياً دقيقاً إلّا مع أفلاطون ثم تلميذه أرسطو، ثم مع فلاسفة العصر الوسيط العرب واللاتين، وحديثاً في مدرسة ممتدة من ديكارت إلى كانط وهيجل وصولاً إلى المناطقة التحليليين المحدثين، وآخرهم فيجنشتاين منتصف القرن العشرين. هذه المدرسة الصارمة في القول الفلسفي والتعبير الفلسفي ليست بالضرورة- وعلى أهميتها- الشكل الوحيد والمطلق للقول والتعبير الفلسفيين، وبخاصة بعد نقد كيركجارد الوجودي النافذ لها حين قال إنّ الفلاسفة هؤلاء يشبهون من يبني صرحاً معمارياً ضخماً لكنه ليس صالحاً للسكن، فيسكنون بدلاً منه كوخاً صغيراً خارج الصرح الذي ابتنوه أو اصطنعوه. هذا النقد، مع أسباب أخرى معرفية واجتماعية، هي التي تعطي التبرير والمشروعية لتجارب فلسفية شخصية، خلاّقة، وحرّة إلى حد بعيد، قبل أفلاطون وذروتها عند أستاذه سقراط، ومن بعد أفلاطون وأرسطو في سلسلة طويلة من الأعمال الفلسفية الإبداعية الحرّة عند عدد غير قليل من الفلاسفة وصولاً إلى كتّاب وفلاسفة ما بعد الحداثة.

في هذه التجارب الفلسفية الشخصية الحرّة يقع إسهام نعيمه الفلسفي، الأصيل والمبدع في آن معاً. التجربة النعيمية هذه هي أدبية فنيّة في أدواتها التعبيرية، وهي فلسفية بامتياز من حيث المضمون والفكر فيها. في الجانب التعبيري والأداتي استخدم نعيمه ما هو متاح من أدوات تعبير وإبلاغ، وبمقدار ما تحتاجه الفكرة لتظهر وتتبلور وتتطور إلى أقصى ما هي عليه من مكوّنات وإمكانيات، وبما يمكّنها من ناحية ثانية من الوصول السهل وربما الممتع أيضاً إلى القارئ، بل إلى أكبر عدد ممكن أو متاح من القرّاء. وهنا أيضاً موضع خلاف آخر بين نعيمه ومعه المدرسة الأدبية/الفلسفية وبين الفلاسفة المناطقة الصارمين وغير المعنيين- على حدّ زعمهم- بمسألة إيصال فكرة ما إلى القارئ والجمهور بعامة. أقول على حد زعمهم لأنّ هذه الدعاوى المزعومة مجرّدة وصارمة حتى منتهى التطرّف غالباً ما تحمل من الإيحاء ومن الإيديولوجيا بل ومن الهوى والميل ما يتناقض مع ما تزعمُه من نقاء فلسفي، وإحكام منطقي صرف.

ميخائيل نعيمه- حتى في تنسّكه صيفاً في الشخروب- كان بخلاف ذلك تماماً. لقد أظهر حرصاً واضحاً أن يكون خطابه الأدبي والفلسفي من ثمة خطاباً لقارئ، ولجمهور، بل لأوسع جمهور ممكن أو متاح. إلتزام نعيمه ذاك هو- إذا شئت- مظهر آخر لانتماء نعيمه لضفة الفلسفة بوضوح، أي الانتماء إلى فكرة، أو جملة أفكار، ثم الالتزام وعلى مدى عمره الأدبي المديد بإبلاغ أو إيصال الفكرة تلك، وجعلها خياراً متاحاً للقارئ، وعبر الوسائل والأدوات التعبيرية، وفي مقدّمها الفنون الأدبية والجمالية. لم يكنّ نعيمه في صف دعاة الفنّ للفن، أو نقاء الفن، ولا في صف أصحاب الفكر الجوّاني أو المنطقي الصّرف الخالص اللذين ينفيان عن الفلسفة والأفكار الفلسفية أية أدوار أو وظائف اجتماعية وإنسانية وتنويرية. نعيمه ليس في هذه الخانة أو تلك. هو ينتمي تحديداً إلى مدرسة ترى أن على الإنتاج المعرفي والثقافي برمّته- وبعضه الأدب والفلسفة- أن يكون له مضمون، وأن يكون فيه فكرة أو إشكالية أو تناول لمشكلة أو مشكلات، وأن يخدم في النهاية – بالمعنى المعرفي والأدبي لا النفعي المباشر- الإنسان، الغاية الأخيرة لكل معرفة وثقافة واجتماع بشري، والقضية الكبرى الجامعة، قضية تقدّم الإنسان، وتحرره، واكتشافه لوحدته الجوهرية وما يجمعه بكل إنسان آخر، ومساعدته من ثمة في إعادة اكتشاف وحدته تلك التي مزّقتها صراعات البشر ومصالحهم المادية، وحجبتها أقنعة مزّيفة بغير عدد. اكتشاف وحدة الإنسان الجوهرية تلك، عبر تحرره من كل ما يحجبها ويشوهها أو يعلق بها من أدران، يجري ترجمتها عند نعيمه في قضية واحدة، عنوان مشروعه الفلسفي: وهي كيفية تحقيق خلاص الإنسان كفرد، وخلاص الإنسانية كجنس ومجتمعات وحضارات بالتالي. تلك هي القضية الوحيدة الكبرى التي شغلت نعيمه دائماً وكانت المحور أو المضمون الأساسي لأعماله الأدبية كافة. هي المضمون الدائم بل الوحيد لأعماله الفنيّة الأدبية، وهي إلى ذلك نقطة البيكار في مشروعه الفلسفي، كما سنرى. فما هي المفاصل الأساسية في مشروع نعيمه الفلسفي؟

في مضمون كل مشروع فلسفي هناك مشكلة اجتماعية أو معرفية حقيقية، أي كبيرة إلى حد كافٍ، لتستحق الجهد المبذول في عرضها ونقاشها وتحليلها، وفي البحث عن حلّ لها، أو على الأقل التقدّم بها تحت ضوء أفضل وفهم أفضل، فتتجمّع وتتراكم في انتظار لحظة أخرى أو زمن آخر مستلزمات حلّها. ولا معنى في الواقع لبعض المزاعم الجوّانية الشكلانية أو المجرّدة التي لا ترى دوراً للتفلسف وللفلسفة في البحث عن حلول لمشكلات البشر المختلفة. وحقيقة الأمر أن الفلسفة نفسها، وبخلاف زعمهم ذاك، إنما نشأت تاريخياً من أولى محاولات الإنسان للعثور على حلول لمشكلاته الواقعية، ثم تطورت باعتبارها أرقى المحاولات العلمية والفكرية تلك وأكثرها منهجية في تصديه لمشكلاته الكثيرة حتى اليومي منها.

وليم جايمس

بعد استبعادنا للتعريف الشكلاني الصّرف باعتباره أحد تعريفات الفلسفة وليس تعريفها الوحيد، في وسعنا استذكار تعريفات عدة أخرى، بدءاً ممّا تعنيه ألفاظها في اليونانية أي «الحكمة»، إلى تعريف وليم جايمس أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى تعريف برتراند راصل أواسط القرن العشرين. إذا كانت الفلسفة هي محبة الحكمة، وفق أوّل تعريف يوناني، أو هي علم القوانين الكلّية والشمولية، حسب أرسطو، فنعيمه في الحالين فيلسوف بامتياز. فكل ما خطّه قلمه يندرج بعمق في خانة الحكمة ومن النوع المبرّر العميق الأثر. وإلى ذلك فنعيمه انتهى من أعماله إلى تصور شامل للقوانين الأكثر عمومية وشمولية والتي تحكم حركة أجزاء هذا الكون. وبحسب وليم جايمس، يقول:» لقد غدا اسم الفلسفة بعد أن انحصر مجالها نتيجة لتنحية العلوم الخاصة، أدلّ على أفكار لها نطاق عام فحسب، فأصبحت المبادئ التي تفسّر الأشياء جميعاً دون استثناء، والعناصر المشتركة بين الآلهة والبشر والحيوانات والأحجار، وأول تساؤل عن بداية الكون وآخر استفسار عن نهايته، وشروط معرفة الأشياء كلها، وأعمّ قواعد الفعل الإنساني. أصبحت هذه المسائل تزودنا بالمشكلات التي توصف بأنها مشكلات فلسفية في الحقيقة. والفيلسوف هو الشخص الذي في جعبته الكثير ليقول بصددها» ( Problems of philosophy,p.5). وبحسب برتراند راصل، فإن الفلسفة، وبعدما خرجت منها تباعاً التخصصات المعرفية المادية والكمية الدقيقة، فقد باتت تعني المقاربة التحليلية، النقدية، الموضوعية، لمشكلة ما وبما يقود إلى فهم شمولي أفضل لأبعاد المشكلة تلك من جهة، ولتوسعة قدرات العقل الإنساني من جهة ثانية وعلى نحو يساعده في اتخاذ مواقف عملية من المشكلات تلك. استناداً إلى هذه التعريفات وكثير مما يشبها، يمكن لقارئ نعيمه المدقق أن يستنتج وبكثير من الثقة والموضوعية أن إسهام نعيمه الفكري ينتمي تحديداً إلى تعريفات الفلسفة هذه، من حيث محبة الحكمة، والبحث عن قوانين تفسير عامة، ومن حيث طبيعة المشكلات التي ناقشها بل انكبّ عليها طوال عمره الأدبي، كما باعتبارها مقاربة تحليلية نقدية موضوعية لمشكلات محددة وبهدف اتخاذ أو تطوير موقف أو مواقف من المشكلات تلك. هنا يقع تحديداً إسهام نعيمه الموسوم بالفن والأدب والذي كان يقارب فيه ومن خلاله وعلى الدوام مشكلات حقيقية تسمى الآن فلسفية، وعلى نحو تحليلي نقدي وموضوعي، ولينتهي به المطاف إلى تطوير مواقف فكرية وفلسفية متماسكة، في وسعي الزعم وكما كان رأيي دائماً أنها تشكل نظرية أو منظومة فلسفية عامة وشاملة. ومع ذلك فإن رغب البعض في نفي حد النظرية الشاملة عن إسهام نعيمه الفلسفي، والاكتفاء بدلاً من ذلك باعتبار أفكاره مواقف تذهب في اتجاه فكري واضح، فلا ضير في ذلك إطلاقاً ولا يغيّر في النتيجة شيئاً- إذ إن بلوغ النظرية الفلسفية المتماسكة لم يعد اليوم حدّاً إلزامياً أو شرطاً في تعريف فعل التفلسف والفلسفة، ويبقى نعيمه حتى مع هذا الاستدراك كاتباً فلسفياً بامتياز على مستوى المشكلات التي عالجها والنتائج التي بلغها، بل وفي الطرائق المتعدِّدة التي قارب بها مشكلاته وموضوعاته.

المشكلة أو المشكلات المحرّكة لتفكير نعيمه، ولإسهامه الفلسفي من ثمة، هي المشكلات الواقعية التي ما انفك يعانيها الإنسان (كفرد وكنوع) في كل مكان وزمان وصولاً إلى زمن نعيمه غير البعيد عن زمننا ومكاننا الحاليين. عبّر نعيمه عن وعي أوّلي بالمشكلات هذه بدءاً من أولى أعماله (مسرحية الآباء والبنون سنة 1916)، ثم في «همس الجفون»، و«المراحل» وسواهما، ولينتهي من ثمة إلى وعي واضح مكتمل تقريباً تبدّى في أعماله المهمة المتقاربة زمنياً «البيادر» 1945 و «الأوثان» 1946، «مذكّرات الأرقش» 1949، والتي اكتملت كليّاً في «مرداد» الصادر بالإنجليزية سنة 1948 ثم بالعربية سنة 1952. عند هذه النقطة، أي بين أواسط الأربعينيّات ومطلع الخمسينيّات، كان البناء الفلسفي النعيمي قد اكتمل تماماً – أقول اكتمل لمن أراد أن يبصره خلف أو في ثنايا الأدب أو الفن الجميل الذي كان بمثابة القميص أو الجسد له. أمّا أعمال نعيمه المهمة التي تلت ( وبعضها «اليوم الأخير» سنة 1963، و«يا إبن آدم» سنة 1969، «نجوى الغروب» 1973 و«من وحي المسيح» 1974 ) فقد كانت تشرح، أو تتوسع، أو تقارب من زوايا جديدة، الأساس الفلسفي المتين الواضح المتماسك الذي كان قد اكتمل تقريباً مع «مرداد». وفي أهمية بل مفصلية المرحلة هذه أنقل عن نعيمه نفسه قوله لمجلة المجالس البيروتية في عددها الصادر بتاريخ 5/8/1955: « لقد أنفقت حتى اليوم أكثر من عشرين سنة من حياتي وأنا اشرح للناس الخطوات التي خطوتها قبل أن أصل إلى الفكرة التي تسيطر الآن على كل ما أكتب «! كان في وسع محاضرتي أن تكتفي بهذا النص الذي يظهر وعي نعيمه الكامل لما أنجزه أو كان في صدد إنجازه، وفي طبيعة «الفكرة» التي باتت مهيمنة على كل ما يكتب، ووعيه الدقيق لماهية مشروعه، وهل الفلسفة غير ذلك! ومع ذلك، فنحن لا نكتفي بالنص هذا، بل نستمر في الطريقة التي رسمناها في بيان أن نعيمه فيلسوف ومن النوع الأصيل، ثم في بيان طبيعة بنيانه أو على الأقل مشروعه الفلسفي. إذا كان كل مشروع فلسفي هو في النهاية تناولٌ أو مقاربة لمشكلة، فالمشكلة التي يقاربها إسهام نعيمه الفلسفي هي مشكلة الإنسان والإنسانية، في كل مكان وزمان، وفي زمن نعيمه على وجه التخصيص. يقدّم نعيمه مشكلات الإنسان تلك من خلال الصور الأدبية والفنية، شعراً أو نثراً، رواية أو مسرحاً أو شذرات أدبية، كما يقدّمها أحياناً (كما في «الأوثان») في صيغ نثرية تقارب حتى في الشكل لغة الفلسفة. واختيار نعيمه للصورة الأدبية مادة تعبيرية اختيار ليس بالسهل أو بالعارض، بل يعرف المشتغل بالأدب كما القارئ مدى قوّته ونفوذه. ولهذا كان اختيار نعيمه، أو فوق اختياره ربما، أن تكون الصور عنده مجبولة بالأفكار، وأن تكون الأفكار بدورها مصنوعة من صور، ولا يخفى ما في التلازم ذاك من كسب للأدب والفلسفة على حد سواء. قدّم نعيمه في عشرات الصور الأدبية والفنية معاناة الإنسان، الفرد، والمتجسدة في مظاهر الكراهية والتنازع والمعاناة والتمزّق والاغتراب والصداع وصولاً إلى الجنون؛ ومعاناة الإنسان، كجماعة وحضارة، في أشكال الصراعات والحروب والأزمات من كل نوع والناشبة أظفارها بين طبقات المجتمع الواحد أو ما بين المجتمعات والأمم والثقافات المختلفة – وذروتها المآسي التي جلبتها حروب القرن العشرين والتي حصدت ما يقارب المئة مليون قتيل، ناهيك عن الجرحى والمعوّقين والأرامل والأيتام، إلى الخسائر المادية التي تتجاوز كل وصف – وللعلم فقط فقد أُرسل نعيمه جنديَّاً إلى فرنسا وكانت الحرب العامة الأولى قد أشرفت على نهايتها. أبدع نعيمه في تصويره الأدبي والفني الجمالي – وتلك هي قوة الأدب- للمشكلات التي قوّضت استقرار الأفراد وفرص طمأنينتهم وسعادتهم، كما قوّضت بالقوة نفسها استقرار المجتمعات وفرص تطورها الصحيح. يقول نعيمه في «دروب»: «هذه الجريدة والآلاف منها في العالم، تنقل في كل يوم إلى الناس أخبار الناس…أحلاف عسكرية، قنابل جهنمية، سعايات ونكايات، عربدات ودعايات، تهويش وتهديد، تبجّح ووعيد، جرائم بالقناطير، وكذب بغيركيل أوميزان» (ص166). ويقول في «نجوى الغروب»:«لست غير واحد من ملايين أبناء الأرض، يمزّقني القلق والخوف من سوء المصير. ففي كل يوم، بل في كل ساعة، تتواثب عليّ مشكلاتي ومشكلات الناس، من أفواه الناس، ومن أعمدة الصحف، ومن المذياع، وشاشة التلفزيون، ومن أرصفة المدن، وشعاب الدساكر. فينبري العقل لحلّها، إلّا أنه لا يحلّ واحدة منها – أو يظن أنه حلّها – حتى يخلق اثنتين.

فمن شأن المشكلات أن تلد المشكلات، والمشكلات لا تلد إلّا التوائم، بل أكثر من توائم، وهكذا أعيش ويعيش الناس في دوّامة رهيبة « (ص31-32). ثم ما أشبه اليوم بالبارحة، ما أشبه كوارث بورصة «مادوف» سنة 2009 بما عاينه نعيمه شخصياً في أزمة سنتي 29-30 في نيويورك، وليكتب فيها بعيد عودته منها سنة 1932 يقول:» تركت نيويورك وفي أذني ولولة الإنسانية بأسرها. ولولة تكاد تحسبها حشرجة الموت. ولولة لا تسمع منها إلاّ كلمة واحدة: الأزمة، الأزمة، الأزمة!» (زاد المعاد، ص36). لكنها ليست أزمة هذا الفرد أوذاك، هذا المجتمع أو ذاك، بل أزمة مدنية برمّتها، حسب نعيمه، لكأنّما الأزمات وعدم الاستقرار ومعاناة الشر معها هي هوّيتها الحقيقية خلف ما تظهر من ألوان وأشكال وإغراء. يقول نعيمه: «مدنيّتنا تجرّ خلفها أثقالاً باهظة من الآثام والموبقات، وتحمل في قلبها من الضغائن والأحقاد ما لو دفن في جوف طود لحوّله إلى بركان، وصراخ الدماء المهدورة وعويل المشردّين والمقعدين والمشوهين ونوح الأيتام والأرامل والثكالى في مسامعها ليل نهار. إنّه لَعبء ثقيلٌ، ثقيل، ثقيل» (صوت العالم، ص178). أكتفي بهذه النصوص تختصر آلافاً من الوقائع العملية والحيّة الممسكة بإنسان المدنية التي نعيشها منذ فترة ومضمونها الجامع واحد كما رسم نعيمه: الأزمة، ثم الأزمة، ثم الأزمة، في كل مجال، وفي كل اتجاه. وهي مدنية ستنهار يوماً ما برأي نعيمه، يقول: «ستنهار هذه المدنية وسيكون لانهيارها دويٌ مروّع» (نفسه، ص182).

لكن السؤال العملي الذي لا بد أن يرتسم فوراً بعد أن نتحدث عن الأزمات التي لا تنتهي ومعاناة البشر من مدنية «محبتها في جيبها وخيرها في بطنها وإيمانها في مختبراتها»، حسب نعيمه، هو: ثم ماذا؟ لماذا لا يستطيع البشر وقد تعبوا من أزمات مولّدة لأزمات أن يأخذوا الخيارات الصحيحة؟ هنا تكمن متاهات البشر، وضياعهم، وعجزهم عن العثور على الطريق الذي يبتعد بهم عمّا يشكون منه، أو حتى عجزهم عن معرفة ماذا يريدون حقاً – غير الركض خلف إغراءات هذه المدنية ثم الموت في دخان فشلهم وإخفاقاتهم المرّة تلو المرّة. يصوّر نعيمه بالكلمات ويختصر حال معظم البشر في قصيدته التي منها:
نحن يا أبتي عسكر قد تاه في قفر سحيق
نرغبُ العودَ ولا نذكر من أين الطريق!

إذا كان حال الإنسان ومدنياته، بكل أبعادها، هي كذلك، فلا يستطيع بالتالي الأديب والفنان والمفكّر والمثقف، أو حتى الإنسان العادي الذي يمتلك الحد الأدنى من الشعور بإنسانيته، والحد الأدنى من الشعور بواجبه الأخلاقي، إلّا أن يقف مع ذاته للحظات على الأقل فيتساءل، ماذا بعد؟ إلى أين؟ هل نبقى صامتين في انتظار كوارث أعظم؟ ثم ما العمل للخلاص من ذلك كلّه؟ هي ذي المشكلة الأم أو الأصل التي حرّكت مشاعر نعيمه وتفكيره، والتي ردّ عليها في مشروع أدبي/ جمالي/ فلسفي لن تجد كلمة تصفه حق الوصف أفضل من القول إنّه مشروع نعيمه لخلاص الإنسان والإنسانية. محاور هذا المشروع وتفاصيله هي التي تشكّل البنيان الفلسفي النعيمي والذي لا يقصر شبراً واحداً عن أعلى الصروح الفلسفية الأخرى المكتملة النصاب والقوام والمشروعية.

لن أثقل على اسماعكم بتفاصيل مشروع نعيمه الفلسفي، فالأمر يستغرق وقتاً طويلاً وقد وقفت له مئات الصفحات في غير كتاب ومقالة ومحاضرة. ولكن في وسعي باختصار شديد أن أشير إلى المفاتيح والمحاور الرئيسة في بنيان نعيمه الفلسفي أو منظومته الفلسفية.

يبدأ مشروع نعيمه الفلسفي من رحم الرفض الإنساني اليومي والأخلاقي لواقع البشر المأزوم في كل جانب، وللخداع الذي ما انفكوا عرضة له باسم عشرات العناوين، والتفكير من ثمة في طريق تخرجنا من هذه المتاهة القاتلة. لكن الرفض هذا الذي يجعلنا نمسك بأوّل طريق الخلاص لن يكون ممكناً أو مُتاحاً لنا إذا استمرّينا لا نفكّر إلاّ بالطرائق الخادعة التي علمتنا إياها مدنية الأزمات التي نشكو منها، ولا نتعامل إلّا بالأدوات السامة التي أورثتنا إياها المدنية تلك. بكلام آخر، كيف نخرج من مدنية مادية نشكو منها ونحن لا نفكّر إلاّ بالطرائق التي تريدنا أن نفكّر بها، ولا نتعامل إلاّ بأدواتها ووسائلها؟ يجب إذاً، برأي نعيمه، إذا أردنا حقاً الخروج من متاهة الأزمات تلك أن نفكّر بطرائق أخرى، وأن نمتلك ونستخدم أدوات ووسائل عمل وسلوك أخرى؟

الطريق إلى البديل النعيمي هي المعرفة، وذروتها الوعي، وبعض ثمارها الحرية المفضية إلى أول الخلاص. المعرفة أو الوعي الحقيقي بالمعيار النعيمي تتبدّى عند مستوى معيّن في تجاوز ظاهر العالم كما يبدو من الخارج أو على السطح، إلى العالم كما هو حقاً تحت السطح الخادع، من الخارج والداخل معاً. العالم في صورته الأولية الخادعة عالم فردي، ثنائي، ومادي- وكمّا يتبدّى لطفل بدأ للتو رحلة اكتشافاته. ولأنّه كذلك فوعينا اليومي القائم على مثل هذا العالم وعي جزئي، قاصر، وعي شقِيّ منقسم، كما كان يقول هيجل. ولهذا تحديداً لا ينتج العالم ذاك إلّا الشقاء والآلام، يقول نعيمه في «المراحل»: «وهكذا يلتقط الإنسان العافية ومعها المرض، الحب ومعه البغض، الإيمان ومعه الإلحاد، القوة ومعها الضعف، الراحة ومعها التعب، الوفرة ومعها القلة، الفرح ومعه الحزن، الطمأنينة ومعها الخوف، الأمل ومعه اليأس، المعرفة ومعها الجهل، والنور ومعه الظلمة» (ص 134-135). ولأن الخلاص من المعلولات لا يكون إلاّ بالخلاص أولاً من العلل، يتوجب بالتالي البحث عن وعي مختلف بعالم مختلف لا يكون مادياً، أو ثنائياً، أو فردياً حتى درجة الأنانية القاتلة.

يجب إذاً تجاوز ظاهر العالم نحو حقيقته. ولا يكون ذلك إلاّ إذا مزّقنا القُمُط والحُجُبَ التي تخدع أبصار البشر، وتخلّصنا من القيود التي تثقل على وعينا وحريتنا وإرادتنا الخيّرة. إذا تجرّانا وفعلنا ذلك، وإذا تمكّنا من ذلك حقاً، لرأينا العالم على حقيقته، غير الظاهر الخادع الذي يعمي أبصارنا. العالم في حقيقته، إذا تمكنا من اكتشافه، ليس عالماً فرديّاً، تبدو الأنا فيه مطلقة نافية لكل ما سواها وقاتلة بالتالي. العالم في حقيقته هو عالم وحدة شاملة، لا وجود فيه لأنا فردية أنانية مطلقة وقاتلة. هذه الوحدة هي السمة الحقيقيّة للأشياء كافة، وللبشر أيضاً. يقول نعيمه في سبعون:« إذا شربتم قطرة من الماء فإنكم شربتم البحار كلّها». أو قوله في مرداد:» إن الكون جسد واحد»، أو قوله في مرداد أيضاً:« أذكروا أن الكلمة واحدة،…. وكمقاطع في الكلمة لستم غير واحد، إذ ليس من مقطع أنبل من مقطع آخر».

ومع بطلان الفردية تبطل الثنائية المتحكمة بكل شيء في ظاهر العالم والكون. يبطل العالم أسود أو أبيض، عقلاً أو جسداً، روحاً أو مادة …..إلى آخر السلسلة. أما الحقيقة فغير ذلك تماماً. العالم ليس ثنائيات ومتناقضات سرمدية: داخل/خارج، أنا/ألله، العالم/ألله، خيراً/شراً، إلخ. هذه الحدود والسدود والسياجات هي من نسجنا نحن نضعها لنشطر العالم أقساماً وأنصافاً وأجزاء وأفراداً. أمّا في الحقيقة فإنَّ «الذي داخل السياج والذي خارجه توأمان لا ينفصلان»(مرداد ص68). وإلى أن يكتشف الإنسان وحدته الجوهرية مع كل إنسان آخر، بل مع كل كائن آخر، فسيبقى ممزقاً ومعلّقاً على صليب آلامه ومعاناته. يقول نعيمه في «المراحل»: «في فجر الزمان الأول ولد للعالم ولد. ودعي الولد إنساناً. وكان الإنسان جميلاً وكاملاً، وكان واحداً مع العالم إلى أن سأله العالم مرةً: من أنت؟ فأجاب: أنا – أنا. فسأله العالم: ومن أنا؟ فقال: أنت العالم. حينئذ خلق الإنسان الشقاء لأنّه شطر نفسه شِطرين فدعا الواحد أنا، والآخر العالم» (ص131).

وإذ يكتشف الإنسان وهم القسمة بينه وبين العالم، تنهارمعها كل قسمة تبعد الإنسان عن الحقيقة، وتنهار أيضاً مزاعم الحظ العاثر، والقدر الغاشم، ومعها مظاهر التباغض والتنابذ والتحاسد بين البشر، وهم لو بلغوا الحقيقة لقالوا مع نعيمه في «همس الجفون»:
ذمّك الأيام لا ينفعُك،
إنما الأيامُ لا تسمعك،
هي منك الظلُ يا صاحبي،
عجباً ظلُّك كم يخدعك! (ص 82)
لكن نعيمه لا يتوقف عند المستوى العملي أو الأخلاقي فحسب، بل يتقدم أكثر باتجاه الأساس الأونطولوجي للوجود نفسه، أي للوجود الشامل والكينونة، وهي لبنة فلسفية إضافية في منظومة نعيمه الفلسفية. فحين تبطل من العالم في حقيقته الأنا الفردية وكل قسمة ثنائية، بل لكي يبطل كلاهما حقاً يجب أن يبطل معهما أيضاً وهم المادي كصنو أو أساس للحياة، أي المادة بمعناها الحسّي المباشر والمطلق. لنعيمه: «المادة وهم، هي من الروح ولا وجود لها إلّا بالروح» (يا إبن آدم، ص48). وبالمقابل فالروح هو الحقيقة الداخلية للكون: «الروح هو الحقيقة الأزلية الأبدية» (نفسه، ص48). وإذا أصرّ البعض على واقعية المادة كما هي أمامنا، فلا ضير في ذلك، لكنه لا يغيّر في المبدأ عند نعيمه، يقول: «يتكثّف الروح فيغدو مادة». ويبقى السؤال: ولكن أليس هناك محسوسات؟ نعيمه يجيب: بلى، لكنها عارضة ونسبية. هي موجودة في مستوى ما، على نحو ما، ولوعي ما، لكنه وجود عارض وليس جوهرياً، أو بلغة نعيمه «فقاقيع على وجه محيط اللاّمحسوس» (نفسه ص81). يجب عدم أخذ كلام نعيمه على نحو تصويري فحسب، بل هو يقدم في غير مؤلّف له تفسيراً علمياً حديثاً بل معاصراً في انتفاء حقيقة ما ندعوه توهماً مادة حسية صلبة متماسكة، بينما هي في حقيقتها «طاقة»، أو شكل من أشكال الوعي، أو الروح، أو العقل لا فرق. وهذا تفسير يعود إلى هيراقليطس، وتجده في الفلسفات الهندية، كما أنه تحديداً تفسير هيجل، ناهيك عن أنه تفسير علمي حديث ومعاصر.

لن أثقل عليكم أكثر بهذه التفاصيل الفلسفية النعيمية، لكني أنتهي إلى القول إنّ تركيب ما رأيناه ورأيتموه عند نعيمه، ما ينفيه وما يدلل عليه، يشكّل منظومة فلسفية أطلقتُ عليها اسم الأحادية الروحانية الشاملة. لكن المثير في الموضوع أنك ربما تجد بعض أشكال هذه الأحادية في فلسفات ومعتقدات سبقت، لكنها كانت دائماً أحديات سكونية ستاتيكية. أمّا ما تفرّد به نعيمه فهو ربطه، بل إحكامه الربط، بين الأحادية وحركة الكون الجدلية أو الديالكتيكية، وجعله هذا الجدل أو على الأقل هذه الحركة المتداخلة الصاعدة جزءاً داخلياً من الأحادية الكونية ومكوّناً جوهرياً من مكوناتها. وهو ما جعلني أصنّف تلك الفلسفة باعتبارها: فلسفة مثالية- جدلية، واقعية، متعددة الأصول. وأعود عرضاً إلى سؤال المحاضرة الأول، فأقول، تكراراً، أن نعيمه لم ينجز فقط مشروعاً فلسفياً، بل كان كذلك ومنذ الأربعينيّات على الأقل مُدركاً بدقة لماهية ما ينجزه من عمل فلسفي، إلاّ أنه وعلى طريقة الزهاد والنسّاك، ونعيمه واحد منهم، لم يكن مهتمّاً جداً لا بالعناوين والأسماء الكبرى، ولا بحشر نفسه في اللائحة تلك. يقول نعيمه في لقاء صحافي أعاد نشره في كتابه «أحاديث مع الصحافة»: «… هذه الفلسفة (عندي) تبرز واضحة في أكثر من مقال أو كتاب وضعتهُ، وعلى الأخص في كتاب «مرداد»… فهناك أتكلم عن الإنسان كما لوكان إلها طفلاً ولكنه يملك جميع أسرار الألوهية وهو في سبيله لاكتشافها سرّاً سرّا… إلى أن تتحقق جميع أشواقه إلى المعرفة…. معرفة الله في ذاته، وحرية الله في ذاته».

هذا بعض ما يمكن قوله باختصار في «نعيمه فيلسوفاً»، وعلى سبيل الإجمال أنتهي الى القول وعلى مستوى العناوين إن فلسفة نعيمه الكونية تمتاز من حيث المضمون بما يلي:
1- الطاقة أو الوعي أو العقل هو جوهر العالم وطبيعته الأساسية،
2- الحياة – والطبيعة – هي لامادية في الحقيقة، والمادة ليست غير ظاهر الوعي أو تكثّفاته.
3- فلسفة نعيمه مثالية، أحادية، شمولية، في تجاوزها للمباشر والجزئي والفردي، من دون نفي وجودهم.
4- رغم الطابع النظري، فلسفة نعيمة أخلاقية، أي هي أفكار للعمل بها أو في ضوئها.
لكن المبادئ الفلسفية هذه وإن بدت مطلقة شمولية فهي لا تستبعد المباشر والجزئي واليومي والحسّي. هذه كلها موجودة، بل هي البدايات الضرورية التي لا بد أن نبدأ بها- وهنا تبدو واقعية نعيمه. لكن الأكثر أهمية هو أن لا نبقى في مستوى الظاهر هذا بل أن نتجاوزه إلى ما هو أكثر حقيقة منه. وإلى ذلك، فالكون ليس مجموع أجزاء عارضة مبعثرة ساكنة تأخذ مكانها وقيمتها على نحو أبدي وسرمدي. هو بالعكس كلٌ جوهري عضوي، متماسك، ترتبط مكوّناته بعلاقة حركية صاعدة، في وسع البعض أن يقول إنها حركة جدلية صاعدة، وفي وسع بعض آخر أن يقول إنها حركة متغيّرة صاعدة وليست بالضرورة جدلية. ويجوز الأمران.

منحوتة لميخائيل نعيمه من ابداع الاخوة عساف

وأنهي بالجانب الأخلاقي، وهو ركن أساسي في فلسفة نعيمه. ففلسفة نعيمه ليست نظرية فحسب، بل أخلاقية كذلك. فنعيمه يترجم المبادئ أعلاه برنامجاً عملياً جديداً ومختلفاً. هو يبدأ كما فِعْلُ التفلسف بالدهشة، ويتطور بالحدس كما لدى المتصوفة، وينتهي إلى الإيمان وكما الإيمان الديني الحقيقي المبصر. وهذه – لمن يرغب – ملامح واقعية أخرى عند نعيمه تخفف من غلواء المثالية التي ربما اتسم بها نظامه الفلسفي. وهو ما يسمح بالقول مرّة ثانية بمثالية-واقعية عند نعيمه، مختلفة عن المثاليات الطوباوية من جهة، وعن الواقعيات المادية الفجّة من جهة ثانية. وأخلاق نعيمه التطبيقية هي مجال عملي لترجمة أو تجسيد تلك المثالية الواقعية. فحين أتمكن من الوصول إلى الوعي الحقيقي أي إلى المعرفة الشاملة أتحرّر من جهلي وأتحرر من أناي الفردية وتسقط الحجب الخادعة، وتنهار الجواجز التي كانت تفصل بيني وبين البشر الآخرين، بل وكل جزء من الكون الواسع الأرجاء. تلك هي مفاتيح الخلاص – المُفضية إذا أردنا- إلى الحقيقة والوعي والحرية والسعادة بمعناها الرفيع الدائم، بل وإلى لحظات قصيرة أو طويلة من الأبدية نفسها. ننتهي مع نص من نعيمه، يقول:
يا إبن آدم!
حيث الموت بالمرصاد
لكل ما يولد وينمو،
ولكل ما تصنعه يداك،
وتضحكُ أو تدمعُ له عيناك،
جدير بك أن تفتّش عمّا لا يموت،
حتى إذا اهتديت إليه،
تمسكتَ بهِ،
تمسُّك الغريق بخشبة النجاة…
يا إبن آدم،
الحياة لا تموت،
الضمير لا يموت،
الإيمان لا يموت،
والذات التي هي أنت لا تموت
حتّى وإن ذابت في النهاية
في ذات أمك الحياة،
ففي ذوبانها حياتها!
(يا إبن آدم، ص 199- 200)

(أجزاء من محاضرة أُلقيت في موسكو في تشرين ثاني 2019 في الذكرى 130 لمولد ميخائيل نعيمه)

الحضارةُ والأخلاق

يقولُ كانط:»شيئان يثيران في نفسي الإعجاب والاحترام: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي».
أجل.. ففي حياة الإنسان ما هو أعظم من الحسب والنسب والجاه والموقع، وأكبر من الكسب، وأسمى من العبقرية. ألا وهو الأخلاق..
فقد جعل الله مكارم الأخلاق وصلاً بيننا وبينه..
إذ لا صلاح لأُمّة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان لمن يريد أن يرى.. أفما كانت الأمم التي اندثرت واستُعبدت تمرُّ أوّلاً في مرحلة تدنّي الأخلاق، وانطلاق الشهوات، عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان؟!.
إذن، فإنّ أشرف موازين الأمم أخلاقُها.. وأكمل الناس عقلاً أحسنُهم أخلاقاً..

وعليه فإنّ كل شريعة تؤسَس على فساد الأخلاق فهي شريعة باطلة، صحيح أنّ الأخلاق لا تقوم باشتراع الشّرع في الأمم، وإنّما هي المؤلّفه من مجموع نسيج الأخلاق لكلّ فرد.
لذا يمكننا القول :إنّ الأخلاق دعامة الحياة المُثلى، والقوانين الوضعية هي الإطار الخارجي لذلك…
أمّا مبدأ الأخلاق الرئيس.. فهو الحرص الدائم على أن نفكّر جيداً وتحت إشراف – حضور الله في الإنسان- أي الضمير..
فالضمير هو الحارس اليقظ الذي يقف لنا بالمرصاد. فلولا أن الضمير يمسك بنا ويشدنا، لارتكبنا كثيراً من الهفوات والآثام..
فالضمير والأخلاق هما العنصران الأبرز والأهم في مكونات عناصر الحضارة الإنسانية، ولهما الأسبقية على الدين..
فمن أعظم أضرار تفسخ الأخلاق وانحلالها، وانحطاط المناقب، وغياب الضمير، فساد الحقيقة، وذهاب الرجولة، وفقد الأهليّة، وتفكّك الاجتماع الإنسلني، وتهدم القضايا، وزوال الممالك والأنظمة، وركوب العار…
لأن أسمى الألقاب وأقدسها طُرّاً هو لقب الإنسان…
لذا تقتضي الأخلاق أن يكون الانسان «كائن» متعادل مادياً وروحياً، فهذا سرّ حياته، والاعتدال خيطٌ حريريٌ يربط كلّ لآلِئ الفضيلة، والخروج عن الاعتدال انتهاك لحرمة الانسانية، وإنما تُعرَف النفس الإنسانية بقدرتها على الاعتدال، لا بقدرتها على التجاوز.. الاعتدال أبو جميع الفضائل..
فبالاعتدال تأتي ثقافة المرء التي تحدّد سلوكه و مساره ومصيره وموقعه..

أجل: إنّ المدرسة الحقيقية للقيادة هي الثقافة العامة المُجَلْبَبة بالأخلاق. والمقرونة بالضمير، فبالثقافة العامة، يعمل العقل بانتظام، ويُميّز الجوهري من الثانوي، ويرتفع إلى مرتبة تتراءى له منها المجموعات منزّهة حتى عن الفروقات الصغيرة، وإنَّ القادة العظام الذين خلّدهم التاريخ كانوا يتذوقون التراث الفكري… فوراء انتصارات الإسكندر نجد دائماً أرسطوطاليس..
الثقافة هي طهارة العقل.. فالكبيرة منها لا تنتفخ ولا تتعصب، ولا تُقصي تُراثاً لأن شيئاً إنسانياً ليس عنها بغريب، إنّها تدرك أنّ المجد هو في كل أرجاء الأرض، وأنّ هذا المجد حقّ كل مواطن، وهو لن يكون صالحاً مالم يحبَّ كل خير أنتجه العالم منذ فجر التاريخ..

إيمانويل كانط

فالثقافة كما الأخلاق ليست ذلك البهاء الذي يهبط علينا من القمة، وهي لا تأتينا آلياً، ولكنها تؤهّلنا في ذراها للصدق الداخلي، ولتواضع الفكر، ولِصدقٍ كبير..
وما كانت هذه الفضائل والخصال والقيم لَتُتَناقل وتُتَداول بين الأمم لولا وجود- الكلمة – اللغة..
إنّ لغة الكلمات والأصوات هي بوابة الإنسان الرئيسة التي يصل من خلالها الى عقول وأذهان وأحاسيس أبناء جنسه في كل زمان ومكان، ليغترف مما تفيض به هذه العقول والأذهان والأحاسيس، ويشكّل بما يكتسبه منها ثقافته الخاصة، ويطوّر مهاراته اللاذعة، فعجزه عن إمتلاك هذه الوسيلة، أو السيطرة عليها، يعني عجزه عن اكتساب المعارف والخبرات الكافية، وتعثُّره في فهم وهضم ما يُنقل اليه من هذه المعارف والخبرات يعني عجزه عن تطوير ما يحتاج إليه من المهارات اللازمة، فالإبداع الفكري والفني لدى الانسان قائم أساساً على ما يجنيه من ثمار عقول وتجارب الآخرين، فذلك يصبح القاعدة الأولى التي ينطلق منها لإيجاد إبداعاته وابتكاراته ضمن منظومة الأخلاق، التي تعمل بإشراف الضمير..
إنها الخامات الأساسية التي يعمل فيها الفكر، ويصهرها الإحساس، وتصقلها الموهبة، ويبلورها الذهن، فيوجِد منها نتاجاً جديداً أصيلاً مطبوعاً بطابع شخصية وروح وعقل وإحساس مُنتجها.
هذا ما يقصده علماء النفس من تعريفهم للجهد الإبداعي بأنه « انتاج أفكار قديمة في ارتباطات جديدة»
فبروز شخصية الفرد وظهور مكانته يقومان بحسب المقياس الحضاري على أساس ما يسهم به من إنجازات مهمّة، وما يقدّم أو يبدع من نتاج فكري أو فني نافع أصيل.. وإنّ عظمة الأمم ومكانتها تعتمدان على ما لديها من تراث عقلي وروحي وأخلاقي، وما يصنع أفرادها من منجزات حضارية، وما تتمخض عنه مواهبهم عامة من إبداعات تساهم مساهمة فعّالة في التقدم الحضاري للإنسانية جمعاء.
لذلك فإنّ تراجع أفراد أمة من الأمم عن الإنتاج الفكري معناه الهبوط في مستوى مكانتها، والتقليل من شأنها ومن شأن ناسها..
فالمثقّف.في المجتمعات الممزّقة، إنّما هو شاهد عليها، ذلك لأنه استبطن تمزقاتها، فيكون والحالة هذه نتاجاً تاريخياً، فليس هناك بهذا المعنى، من مجتمع يمكنه أن يشتكي من مثقفيه وينتقدهم، دون أن يتهم هو نفسه بنفسه، ذلك لأن ليس له إلّا أن يتهم أولئك المثقفين الذين يصنعهم ويخلقهم على صورته..
المثقف العضوي.. هو ذاك الذي ينخرط في قضايا مجتمعه ويُعبّر عن تطلعات شعبه بالممارسة العملية والفعل اليومي.. فحذار أن يعيش مثقفو وطني على هامش الحياة، أو يتملقوا سلطاناً إرضاءً لأعناقهم أو لجيوبهم..

المثقف الفعلي الخلوق هو الذي يستبطن مشاكل مجتمعه وإنسانه، ذاك الدائمُ القَلَق، الدائب التنقيب والبحث والغوص خلف دُرٍّ ثمينٍ، أو تأميناً لاشعاع نوراني.. حتى ولو نظر الساسة إليه كمشعوذٍ أو كمشاكس في أحسن الأحوال!! ما من هَم..
فالثقافة عبر العصور خمير عجين المجتمعات والمثقف هو الخبّاز، والتثاقف خبز العقول، وماء النفوس، وإكسير الحياة.. وصاقل الأخلاق..
قَدَرُ المثقف العربي تحديداً، أن يعيش مخنوقاً في أجواء القمع، وكبت الحريات والتغريب، والفاقة.. وهذا ما يجعلنا في لُهاث دائم..
أجل إنه قدرنا العلمي الموضوعي، وعلى الرغم من هذه المرارة، علينا مواصلة الجهود لعلّنا نقدم شيئاً ذا قيمة!!
نعم نحن الآن بلا زمان، ولهذا أراني أمقت عصري الذي أعيش فيه، فنحن في الحق لا نتحرك، إذ ما من مَلأٍ بغير زمان، وما من زمانٍ بغير جوهر، والجوهر هو الهُوِّية بأم عينها – هو الانسان- صانع زمانه ومكانه..

لذا علينا الامتثال للعقل، للموضوعية.. وإلاّ فسيبقى الجوهر والزمن الى أجل غير مسمى، وسنبقى عاجزين عن تزمين الزمان، عن جعله زماناً، عن افتدائه، واستخلاصه من جوف الفراغ.
نحن شرقيون – آسيويون – وسنبقى كذلك، حتى لو امتلكنا التكنولوجيا والحضارة الحديثة والعلم الحديث، فالتاريخ برهة فرقٍ آبدةٍ، لأنّه ما من هُوِّية تدخل صلب الوجود، في سداه ولحمته معاً، برهة الفرق تماماً كبرهة الجمع، أو برهة الوحدة السرمدية.. وإلاّ صار الحجر والشجر سِيّان.. وعدنا الى الخواء البدعي وانطفأ نور العقل.
إنَّ ما يؤوب بنا الى اعادة امتلاك الجوهر والزمان، أوقل: التجوهر والتزّمن، هو الإنابة الى روح الشرق، إلى البوذا العظيم الصارخ قائلاً: «دامياتا» أعطوا، وإلى يسوع الهاتف بكل رقةٍ «أحبوا»، وإلى قرآن مُحمَّد القائل :»لتعارفوا».
نعم الإنابة الى آمون، وأخناتون، وحمورابي، إلى زرادشت، وكونفوشيوس، إلى الحلاّج والسهروردي، وابن عربي.. إلى كل ما في الشرق من إشراقٍ وحرارةٍ وقِيَم..
فنحن دون هذه الإنابة، لا صيرورة ما ولا مصير- كما أتصور – لا تجوهُر ولا جَوهر، وإنما انتصار الفراغ على الزمان، الخلاء على الملأ، على الروح الذي هو حضور الزمان وإرادة الزمان..
ثمة وحدةٌ، وثمة فرقٌ، والعاقل من فرّق ووحّد في آن معاً..
فنحن بشرٌ، عالميون أمميّون، ولكننا شرقيون في الوقت نفسه كما أننا عربٌ على وجه التحديد، لنا قضية تخصنا قبل سوانا من الأمم..
من دون الإنسان سوف نختنق في الخصوصية، ومن دون الخصوصية سوف نضيع في العالمية الأوسع منّا بالضرورة، فبسبب من سعتها أراها تمتلك القدرة على ابتلاعنا، إن لم نحرس هُوِّيتنا الخاصة.

إذن، فلنضرب جذورنا في تربة بلادنا وتاريخنا، ولكن لندع الأغصان تتنفس الأنسام من الجهات الأربع.
وما دمنا بغير زمان فنحن في الفراغ، نحن إذن، تعليق «إرجاء» ولسنا علاقة، وكل ما هو في التاريخ، أو الزمان، هو بالضبط علاقة، يمارس تبادل الفعل والانفعال، يمارس الحرارة..
نعم.. المثقف الخلوق هو المنافح دون الروح ضد تفسخ الروح، إنّه اذن سادن قيم الروح الجُلّى، القِيَم التي لا نصر لأحد من دونها البته.. إنّ هذا ما لا يستوعبه الاّ القلة، إذ الغالبية الساحقة في عصر التضخمات والكميات، لا تطالبك إلاّ بشيٍ واحد، بل بشيٍ واحد وحيد: أن تتنازل عن عقلك، والتنازل عن العقل هو الاسم الآخر للتنازل عن الحرية، عن العلو، عن السمو، عن القيم، عن إنسانك!!

الغالبية الساحقة تحدّد لك وظيفة واحدةً ليس إلاّ: أن تتكلم مباشرةً عن اليومي والآتي والمُلّح.
أمّا الدَّيمومي القادر وحده على أن يصنع الزمان، أن يجعل من أي عصر زماناً لا فراغاً – والقيم الكلية التي تظل هي إياها في كل زمان ومكان، والتي بها وحدها يتجوهر كل زمان ومكان- والتي بها وقبل سواها نملك ان نخلّص الزمان من أشواك الفراغ، فهذه لا تخصّ أحدا، إلاّ على ندرة أو قلة، وذلكم هو، على وجه التحديد والحصر، قلب أزمتنا الثقافية- الأخلاقية.

أخي في الإنسانية:
ما من سقوط ولا انحطاط، ولا أفولٍ سوى سقوط القيم وأفولها، وانحطاطها.. وما من خواء سوى استفراغ الروح لمضامينه الجوهرية…
أمّا الدَّيمومي… فسوف يتعذر علينا كعرب أن نستعيد مجدنا التليد من غير استعادة القيم والعمل بها.
بذلك يُستَعاد الجوهر، فيجري الزمن المتجمد ويسيل، ونخلص من لعنة الانحطاط الجديد.. بهذا نخرج من الخواء إلى الملأ، من الفراغ إلى الزمان…
أصدقُ الناس في زمن البوار هذا، نعم، أولئك الذين يسدنون القيم والفضائل، والفكر والتفكُّر، ويرون في الأدب والفن والفلسفة صوناً للأبدية التي منها وحدها يندلق كل زمان صيروري.

مقالات