الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قرية وَلغا

لم تُبحث قرية «ولغا» بحثاً آثارياً جدّيّاً بعد، ويذكرها الباحث الآثاري الدكتور علي أبو عساف في كتابه الآثار في جبل حوران ص (170) على أنّها قرية قديمة حولها ينابيع ماء غزيرة تتجمع بيوتها القديمة فوق تلّة صغيرة وحولها عدّة خرب قديمة..

تبعد ولغا عن السويداء مسافة 5 كلم، إلى الشمال الغربي منها، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 886 م، ويشير اسماعيل متعب نصر في كتابه «السويداء بين الزمان والمكان» إلى أنها تتضمن آثاراً تعود إلى عهود الأنباط والرومان والبيزنطيين بقيت منها في القرية الأثرية القديمة مجموعة مبان متهدمة مُكوّمة فوق بعضها البعض ومحاطة بسور لاتزال آثاره ماثلة في الجهة الجنوبية الغربية من القرية، أمّا العمران الحديث فقد انتشر بكافة الجهات وخاصة على جانبي الطريق العام الذي يصل بين السويداء وإزرع في محافظة درعا، وتكاد ولغا أن تتصل بعمرانها الحديث بمدينة السويداء الأمر الذي يتسبب بارتفاع أسعار أراضيها بشكل كبير.

أمّا فيما يتعلق باسم القرية «ولغا» فالأرجح أن الاسم عربي، ومعناه الدَّلو الصغيرة، كناية عن كونها قرية صغيرة جوار السويداء (المنجد في اللغة والأعلام، ط 17، ص 918). وهناك من يؤسطر في الرواية، فينسب الاسم إلى أولغا، ملكة سيع في العهد الهلليني أو الروماني (الهيلّيني بين 333 و 64 قبل الميلاد، والروماني بين 64 ق. م، وحتى636 ميلادية)…

ويحد القرية من جهة الغرب أراضي بلدة المزرعة (السَّجن سابقاً) والثّعلة، ومن الشرق السويداء وعتيل وريمة حازم ومن الشمال ريمة حازم والمجدل ومن الجنوب السويداء
وأول من توطن ولغا من العائلات الدرزية كان آل الحمدان في طريق توسعهم من نجران إلى السويداء في فترة القرن الثامن عشر..

ومما كتبه الرحالة السويسري المكلَّف من قبل بريطانيا، بركهاردت، الذي زار المنطقة بتكليف من بريطانيا نستنتج أنّ ولغا كانت مسكونة عام 1810 إذ يقول في ص 7 من «جبل حوران في القرن التاسع عشر»، ترجمة سلامة عبيد، «قبل أن نصل إلى إزرع التقينا بجماعة من فرسان الباشا (أي: الوالي العثماني في دمشق) يبلغ عددها حوالي ثمانين خيّالاً لقد فاجأوا في الليلة الماضية جماعة من عرب السردية وكانوا في قرية ولغا فقتلوا قائدهم عَرار وستة غيره وحملوا رؤوسهم جميعاً في كيس معهم…» ويذكر بركهاردت أن «الجنود كانوا يسرعون الخطى في عودتهم إلى دمشق خوفاً من أن يطاردهم رفاق المقتولين» وهذا يدل على أن القرية لم تكن آمنة من الغزوات البدوية قبل أن يتخذها الدروز سكناً لهم… وقد أفاد المحامي حسين الزعر (من مواطني ولغا)،أنّ عائلات من الحوارنة السنّة سبق لهم أن سكنوا القرية قبل الدروز منهم آل الخليل وآل الخطيب (منهم أحمد الخطيب الذي صار رئيساً مؤقتاً للجمهورية العربية السورية تمهيداً لرئاسة الرئيس حافظ الأسد) وآل الشُّوحة، بالإضافة إلى عائلات مسيحية منهم آل شليويط… ولكن العائلات السنية انتقلت فيما بعد إلى سهل حوران والمسيحيون انتقلوا إلى قرية الدارة القريبة من ولغا، وكان انتقالهم طوعيّاً بدون أسباب خلافية.

وتتابع قدوم العائلات الدرزية إليها بتأثير ما يدعوه المؤرخ محمّد كرد علي من انسيال الدروز إلى جبل حوران (خطط الشام جزء3 ص 101ـ102)، وذلك بسبب التمييز الديني بين المواطنين، وفساد الإدارة العثمانية، وإهمالها للنزاعات الداخلية والسياسية في جبل لبنان، بالإضافة إلى القادمين من ديار حلب وصفد من شمال فلسطين، ومن دروز غوطة دمشق للأسباب ذاتها….
ومن العائلات التي قطنت ولغا إلى جانب آل أبو عسّاف آل الزّعر وآل عامر وآل المحيثاوي والكفيري وزهر الدين ومزهر وبريك والجردي ودرغم والغضبان وأبو سرحان والريشة وكنج والعاقل وقطيني والحكيم وتقي وعائلات أخرى وافدة…

الأزمة السورية كادت أن تضاعف عدد سكان ولغا

مع نشوب الأزمة السورية لجأتْ إلى ولغا 450 أسرة وافدة من درعا في الجوار وريف دمشق وغيره من المحافظات السورية، وكان ذلك في الفترة بين عامي 2011 و 2014 أما الآن فقد غادرت تلك الأُسر إلى أماكن متفرقة، وقد رتّب هذا في حينه ضغطاً على الخدمات والمساعدات في حينه، غير أن بعض الأسر لم تزل باقية في القرية.
ويبلغ عدد سكان ولغا 2400 نسمة حالياً يعملون بالزراعة ووظائف الدولة التي لم تعد تفي بحاجات الأسر لذا فإنّ الكثيرين من أرباب الأسر والشبان يعملون في أكثر من عمل ومهنة لتوفير الحاجات الدنيا لأسرهم…

آل أبو عساف القادمون من نيحا الشوف في لبنان ومشقة التنقلات عبر قرى الجبل

يذكر يحيى حسين عمار صاحب كتاب «الأصول والأنساب» ج1 ص 20، أن أصل هذه الأسرة يعود إلى قبيلة بني تميم العربية وعلى أثر الفتح العربي ارتحلوا إلى العراق وفيما بعد استقر أجدادهم في كفتين من جبل السماق شمال غرب سورية، وفي حدود العام 1550 انتقلوا إلى جبل لبنان ليستقر بهم المقام في نيحا الشوف، ويؤكد الدكتور رياض غنّام في ص 50 من كتابه «نيحا الشوف» ما ذكره الباحث يحيى حسين عمار..

وفي كتاب الدكتور علي أبو عساف «من أوراق الشيخين فهد وسلمان أبو عساف» ص 13 ما يشير إلى أن نابليون بونابرت عندما قدم لحصار عكا عام 1799 «وجّه نداءات إلى الجبليين وإلى الأمير بشير للانضمام إليه مع وعد بتحرير سورية من طاغيتها العثماني «أحمد باشا الجزار» وكان في عهدة الشيخ حمد شاهين أبو عساف (المتوفّى عام 1915) رسالة من بونابرت كانت قد أرسلت إلى الشيخ حسين أبو عساف …» وهذا جد الأسرة التي انتقلت إلى جبل حوران فيما بعد، وكان يعمل رئيس جباة في صفد، وأن تلك الرسالة عُرضت على المربّي بولص هاشم في السويداء للاطلاع عليها غير أنها فُقدت بين أوراق كتب بولص هاشم، ويذكر آخرون أنها اختفت على يد شخص ما من الأسرة ذاتها.

أمّا الجزار فإنّه بعد نجاحه في كسر حصار بونابرت لعكا بمساعدة الأسطول البريطاني فقد «قسا على الشهابيين والزعماء الذين تلقَّوا رسائل من بونابرت وطاردهم ففرّ زعماء آل أبي عساف إلى بلدة الكفير في منطقة حاصبيّا وقرية شويّا ومنها انتقلوا إلى بيت جن حيث كانت مزرعة بيت جن من أملاكهم، وبعدها انتقلوا إلى جبل حوران تاركين بعضاً من أقاربهم في بيت جن» (وقد تحول هؤلاء فيما بعد بتأثير الضغط العثماني على الأقليات غير السنية من سكان السهول والمناطق القريبة من العواصم إلى مذهب السنة) ولم تزل علاقاتهم الوديّة متواصلة معهم لتاريخه.في زمننا هذا.

من المرجَّح أن انتقال أسرة الشيخ حسين بن يوسف أبو عساف مع والده وأقاربه إلى جبل حوران كان في مطلع القرن التاسع عشر، نحو عام 1810 .على حد تعبير الدكتور الباحث علي أبو عساف، وقد تنقّلوا بين عدة قرى في شمال الجبل آنذاك إذ سكنوا بالتتابع في قُرى خلخلة ونمرة والهيت، وعندما كان الشيخ حسين في الهيت قصده سكان قرية شقا القلائل يشكون من تعديات القبائل البدوية على محاصيلهم أثناء عبورهم من البادية غرباً باتجاه سهل حوران في موسم الحصاد، وطلبوا منه الانتقال إلى شقّا لدعمهم، فوافق، وحين حلّ موعد قدوم البدو اتّفق الشيخ حسين مع قاطني القرية القلائل أن يرفعوا المحادل الحجرية على سطوح المنازل ويغطوها بملابس رجال وينشروا المفروشات والأمتعة فوق الحيطان لإيهام البدو بكثرة ساكني القرية، وأرسل أحد رجاله ليبلغ شيخ البدو أن شيخ القرية حسين أبو عساف يناشدكم بالله أن تغادروا ولا تؤذوا مزروعاتنا، وإلاّ فالعَتب مرفوع، والقتال بيننا وبينكم، وتكونوا أنتم جنيتم على أنفسكم. وبنتيجة ذلك، عمل شيخ القبيلة على تجنب الشر مع سكان شقا، مستجيباً لطلب الشيخ أبو عساف.

ولكن الأمور لم تجرِ على ما يرام في كل المناسبات، إذ إنّ زوجة الشيخ أبو عساف التي كانت ترضع طفلها سمعت ذات ليلة صوت محاولة غرباء يحركون مزلاج البوابة الخارجية لدارتهم، وصريراً يرافق ذلك، فأيقظت زوجها الذي هبّ من نومه مستلّاً سيفه الذي كان يوسّده إلى جانبه، وانطلق باتجاه بوابة الدار فأهوى بسيفه على حافة البوبة عند موقع المزلاج الذي انفتح قليلاً مع رؤوس أصابع يد لص خلف الباب تمتد من جهة الخارج فقطع رؤوس بعض الأصابع الممسكة بحافة الباب، وعند بزوغ الفجر أعلم الشيخ عشرة من رجاله فاقتفوا آثار الدم النازف إلى أن وصلوا إلى مغارة في تل «فارة» بأرض قرية الجنينة شمال شقا، فقام الشيخ حسين بمناورة ذكيّة إذ أمر رفاقه بصوت عال منادياً كلّاً باسمه أن يأخذ مكانه إلى اليسار أو اليمين مع رجاله فظنّ المختبئون في المغارة أنهم محاصرون من قبل عدد كبير من الرجال، وحينها نادى مَن في داخل المغارة أن يخرجوا مُكَتّفين ومن يخرج غير مكتوف الأيدي يقطع رأسه، فخرج أربعة عشر رجلاً كان آخرهم أسود البشرة قوي البنية وقد ظهرت الإصابة على كفه التي نالتها ضربة السيف عند البوابة فقطع الشيخ رأسه في الحال…

وتذكر الباحثة الألمانية بريجيت شيبلر ص 49 من كتابها «انتفاضات جبل الدروز..» أن حسين أبو عساف شيخ شقا حينها استغل انتقال الحمدان «إلى العاصمة السويداء اقتحم القصر (قصر مقري الوحش في نجران) وأعلن نفسه زعيماً مكانهم واستعان في ذلك بجماعة من نجران فوقف قاسم ونصر الدين أبو فخر في وجه أبو عساف بمعارضة عنيفة»، وكانت للشيخ حسين أبو عساف علاقة طيبة مع مشايخ سهل حوران إذ كان قد تمكن بقوة شخصيته ومركزه الاجتماعي ونفوذه من حماية آل الشيخ محمود الرفاعي المحكوم بالإعدام مع طائفة من شيوخ حوران وتخليصهم من سطوة دولة محمّد علي باشا وابنه إبراهيم. والشيخ الرفاعي من قرية أم ولد الحورانية إذ حماهم عنده أثناء وجوده في نجران عام 1255هـ ـ 1839م ، يشير إلى هذا الدكتور علي أبو عساف ص 30 من تاريخ آل أبي عساف، وفي هذا مثال على تعاون مجتمع جبل حوران والسهل عندما يتم الوعي للمصلحة المشتركة بين سكان الجبل وسهل حوران بهدف منع وقوع الفتنة بينهما من قبل قوى الخارج.التي تعمل بمبدأ «فرّقْ تَسُدْ».

ويذكر الدكتور الآثاري علي أبو عساف أنه بعد وفاة حسين أبو عساف في نجران انتقل آل أبو عساف إلى قرية السَّجَن (المزرعة) ذات الينابيع العديدة، ولم يلبثوا أن انتقلوا إلى قرية كفر اللحف شمال غرب السويداء، ومنها توزعوا بين قرى سليم وعتيل وولغا بتفويض من واكد الحمدان على أثر وساطة من جانب صهرهم الشيخ هزيمة هنيدي.

الشيخ سلمان أبوعساف رجل المجتمع المحنّك

وفي قرية ولغا حيث تمركز الشيخ سلمان أبو عساف، وبنتيجة العلاقة الطيبة بين آل أبي عساف مع أهالي سهل حوران تذكر بريجيت شيبلر ص 117 في كتابها «انتفاضات جبل الدروز» أنه «غالباً ما استغاثت قرى السهل الحدودية وطلبت من جيرانها الدروز حمايتها من البدو ورَفْعِ «الخُوّة» عنهم أو ضم القرية إلى حمى نفوذه وأنّه في نهاية سنة 1878 لبى الشيخ سليم محمّد أبو عساف (بل هو سلمان داود أبو عساف بشهادة العارفين من معمري أهالي ولغا) نداء قرية اِزرع على الحدود الغربية لِلّجاة وذهب مع رجاله من فرسان ولغا إلى ازرع (ومنهم سليم الزعر الذي استشهد في موقعة الدّلِي (قرية على طرف اللجاة الشمالي) أثناء ملاحقة غُزاة من البدو وقد أقام سلمان في ازرع فترة نحو أربع أو خمس سنوات ارتاح له أهالي ازرع لضبط الأمن فيها وفي جوارها، إذ اتخذها مقرّاً له واعتُرف به كمتصرف لحوران بمرتبة «شيخ اِزرع» القريبة من شيخ سعد مقر المتصرفية آنذاك»، ولكن مدحت باشا والي الشام أمر أبو عساف فيما بعد بالعودة إلى الجبل حيث قريته ولغا»، ولعلّ السياسة العثمانية تقصدت من ذلك عدم السماح بتشكيل علاقات وروابط ذات شأن بين سكان الجبل والسهل الحوراني، بل طالما هي عمدت إلى إثارة النزاعات بينهما…
وكان للشيخ سلمان فداوي مسيحي (رجل تابع له ومحل ثقته) اسمه نصار شليويط كان يرسله ليمثله في الاجتماعات العامة خارج ولغا، وذلك بعد أن كبر وتقدم به العمر.

وفي فترة من حياته الحافلة بالأحداث تعرض الشيخ سلمان لملاحقة العثمانيين، غير أن رئيس المخفر المكلف بملاحقته زوّر كتاباً ينص على منحه الأمان، ودعوته للمثول أمام الوالي في دمشق، وهناك أعلن سلمان ولاءه للسلطان عبد الحميد، فقال له الوالي «شيخ ويكذب؟»، فأخرج كتاب الأمان وقدمه للوالي الذي اكتشف أن الكتاب مزوّر، فأكبرَ رجولته وعفا عنه واستضافه مُكرّماً عند أحد رجال ديوانه من الشوام….

وذات سنة جفاف ماحلة كانت الدولة قد قررت ضرائب لم يتمكن الأهالي من دفعها، فما كان من أحد آل جمال وكان هذا شريكاً للأمير شكيب أرسلان في علاقات مالية وتجارية قرّر شراء الأرض من الدولة على أن يبقى مواطنو القرية خمّاسة لدى مالكها الجديد، فما كان من الشيخ سلمان أبو عساف إلّا أن تصدى لإفشال عملية بيع القرية واقترض المبالغ المقررة من أصدقائه بوايكية دمشق الذين يثقون به…

بقايا السور القديم الذي كان يحيط بالبلدة الأثرية

ومن طرائف مواقفه أنه نزل في إحدى زياراته لدمشق عند أصدقاء له من الشوام النافذين، فقالوا له لدينا زيارة تهنئة للوالي بمناسبة أن وُلِد طفلٌ له، فرافقهم، وعندما قدموا نقود التهنئة انتظر ليكون هو الأخير، فوضع صرّة من الليرات الذهبيّة كانت مثار إعجاب الوالي وزوجته حيث تم اعتباره شخصاً مقرّباً من الأسرة وذا كلمة مُستجابة.

ويروي الشاب جميل أبو عساف أن جده سلمان أخذ حصاناً مُعْلَماً له يلقَّب بـ «الزرنوقي» هدية للسلطان عبد الحميد في إسطنبول وعبَر به برفقة وفد من وجهاء الدروز في باخرة من لبنان إلى إسطنبول، وقد استضافهم السلطان آنذاك وكرّمهم، وفي عودتهم استضافهم في دمشق أحد أبناء الأمير عبد القادر الجزائري.

كما يذكر أنّه على أثر الحملة العثمانية التي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل في عام 1910 سَرْكَلَ العثمانيون ابن الشيخ سلمان، الشاب فندي، مع مجموعة من شبان الدروز للخدمة العسكرية لقمع الثورات في البلقان، ومن هناك هرب فندي مع رفاق له بباخرة يونانية إلى طرابلس الغرب وبينهم شاب من آل الحناوي، ومنها انتقلوا إلى القاهرة. هناك شاهدوا حفلاً تكريمياً لخديوي مصر وكان أحد ضباط حرس الخديوي درزيّاً من لبنان تعرّف عليهم، واستضافهم عنده شهراً وساعدهم بتوجيهاته على العبور إلى سيناء وتجاوزها إلى فلسطين غير أنه استبقى فندي لكونه كان يعرف والده ويكنّ له تقديراً، كما استبقى الشاب الحناوي بسبب مرضه، وبعث برسالة لذوي فندي يطمئنهم، وهؤلاء بدورهم أرسلوا شاعراً مسيحياً من آل البدين إلى فلسطين فالعريش استقبل فندي وعبر به من العريش إلى فلسطين فشرق الأردن، وأثناء عبورهم رتّبوا علاقات بنعمة مع عدة عشائر سينائية طبقاً لتقاليد ذلك الزمن.

وعلى أطراف الجبل جنوب قرية ذيبين استَقبل آل أبو عساف فندي العائد من رحلة مريرة.

الزراعة في ولغا

صُنّفت أراضي ولغا ،وهي أراضٍ خصبة مُتحَلّلة من البازلت، ضمن منطقة الاستقرار الأولى لوفرة أمطارها وتوفّر الينابيع في أراضيها ففي القرية ستة عشر ينبوعاً منتشرة في وسط وغرب القرية ومنها عين الرَّقَب وعين السّجَن وعين المَسْلق وعين الباطي وعين أبو حسن وعين البصّة… الأمر الذي يجعل من العمل في الزِّراعة يعطي مردوداً جيداً، وتتميز الأراضي شرق القرية بوعورتها بينما تميل في الغرب منها إلى السهولة لذا يدعوها سكانها بـ: ضلع جبل.

الثّروة الحيوانية

يقوم بعض المزارعين في القرية بتربية الأبقار الحلوبة ويبلغ عددها في القرية مئة رأس متوسط إنتاج الواحدة منها في فترة الحليب نحو 22 كلغ يوميّاً، وإذا اعتبرنا أن فترة إنتاج الحليب للبقرة الواحدة مدة عشرة أشهر فإن إنتاجها في السنة يكون نحو ستة أطنان في العام يضاف إلى هذا ثمن مولودها الذي يحتفظ به للتكثير إنْ كان من الإناث أو يباع للحم بسعر مُجزٍ إن كان من الذكور.

الماعز والأغنام: ويبلغ عددها في القرية 600 رأس، ويستفاد منها للحليب ومن مواليدها الإناث للتكثير ومن الذكور للتسمين والبيع للحم.

الدجاج: ويبلغ عددها في القرية نحو2000 طير وتتم تربيتها بشكل إفرادي في أقنان تابعة للمنازل.

سهيل عامر مربّي الخيول العربية الأصيلة

هو شاب من ولغا، وعضو جمعية الـ «واهو» العالمية التي أُسّست عام 1984 لدعم سلالات الخيول العربية وهي مؤسسة بريطانية ألمانية معنيّة بهذا الأمر، ويتم تلقيح الفرس بأخذ شهادة من مالك الفحل وعندما يولد المهر تأتي لجنة من المنظمة تصور المهر وتأخذ عيّنة من الـ dna إلى ألمانيا لعَمل مطابقة فرس لها إضبارة بألمانيا ويأخذ الحصان على أثرها جواز سفر عالمي.

ويقوم السيد سهيل بتربية عدد من الخيول العربية الأصيلة في القرية، ليتاجر بها ويبيع مواليدها بأسعار مُجزية وخاصة الإناث منها، ومن أنواعها لديه:
1 ـ اَلْعبيّا الشرّاكية، وهي من أفضل أنواع الخيول ولها بطاقة تعريف (هويّة) تعود بأصلها إلى خيول الشيخ دهام الهادي شيخ مشايخ قبيلة شمَّر في منطقة القامشلي من في محافظة الحسكة في الجزيرة السورية، وثمنها يعادل خمسين ألف دولار تقريباً من الليرات السورية.
2 ـ كحيلا أم عرقوب، وسُمِّيت كذلك لوجود التواء خَلقي طبيعي بعظم عرقوب الرُّكبة، وثمنها يعادل عشرين ألف دولار، وقد تم شراؤها من الشيخ رياض سعد سويدان شيخ عرب طي في منطقة شرق غوطة دمشق، …
3 ـ كحيلا نوَّاكية: وثمنها يتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف دولار،

ولسُهيل خبرة مميَّزة في تمييز الخيل بفطرته السليمة يقول «يتميز فحل الخيل بالسليقة، كتف وكَفل (قفا) عريضان، وظهر قصير ورقبة طويلة ورأس صغير، ومنخَران واسعان وعينان متباعدتان جاحظتان فيهما لمعان ورُبع المهر من مفصل الركبة لمنبت الشعر على الحافر خشن وطويل، والعَظمة من مفصل الركبة لمفصل بيت الشّْكال (بين الحافر ونهاية الساق تكون بطول 5 إلى 7 سنتمتر وكلَّما قصُرت تلك العظمة كلما كانت الفرس مرغوبة أكثر، وأفضل الأحصنة لتلقيح إناث الخيل يكون بين عمر 8 إلى 12 سنة، هو الحصان السبّاق في المباريات، ويضيف سهيل: أنا ألقِّح فرسي منه، ولا ألقّح من فرع بل من أساس (أي أصل) وهناك 53 فرعاً من أصول أرسان الخيول الخمسة وهي العبيّا والصقلاوية والشّويما وكحيلة العجوز أمّا الرسن الخامس فموضع خلاف بين رسن دَهْمات عامر والمعناقيات والحمدانيات أيُّها الفرع وأيّها الرسن…؟!.

ولغا: القرية الأثرية القديمة
الخدمات البلدية في ولغا

توجد في ولغا بلدية مشتركة تُخَدّم قريتي ولغا وريمة حازم معاً، وتبلغ مساحة البناء الطابقي للبلدية المؤلف من طابقين 440م2 وهو بناء حديث يعمل فيه عدد من الموظفين.

تبلغ مساحة المخطط التنظيمي لقرية ولغا 107 هكتار، كما تبلغ أطوال الشوارع المعبّدة 14 كيلومتراً بالإضافة إلى 18 كلم شوارع غير معبدة ويعود هذا لتوسع المخطط التنظيمي… أمّا طول شبكة الطرف الصحي المقررة في القرية فيبلغ 30 كلم المُنفّذ منها، 8 كلم وتخدّم 90 بالمئة من مساكن القرية.

شبكة مياه الشرب يبلغ طولها 14 كلم وتخدِّم كافة منازل القرية باستثناء البيوت غير المرخّصة بعد.

وتمتلك البلدية جراراً زراعياً وتريلَلا، يعمل عليه سائق و2 من العمال لترحيل النفايات يومياً.

المحلات التجارية: ويبلغ عددها مئة منشأة بين محلّات تجارية ومحلات حِرَف، منها 7 محلات حدادة أفرنجية و ثلاثة محلات نجارة موبيليا و5 صالونات حلاقة رجالية وصالونان للحلاقة النسائية ومحلّان لبيع الكهربائيات و3 محلات جزارة لحم غنم و5 محلات بيع فرّوج مذبوح ومنظّف.

المدارس: في القرية مدرسة ابتدائية واحدة بينما توجد مدرسة إعدادية مشتركة في قرية ريمة حازم المجاورة على مسافة 2 كلم من قرية ولغا.

شعبة الهلال الأحمر في ولغا: كما يوجد في القرية شعبة تابعة للهلال الأحمر تقدم مساعدات طبية مجانية للمستحقين مرة في الشهر يرافقها طبيب أطفال، وفي كل أبوع تحضر إلى القرية طبيبة نسائية مع فريق توعية نسائية ونفسية وصحيّة وتقدم 80 إلى 100 سلة غذائية للمتاجين مرة واحدة كل شهرين.

أماكن العبادة: يوجد مجلس واحد للعبادة خاص بالموحدين الدروز في ولغا، ويتميز ببساطة بنائه ومفروشاته، وهذه سمة عامة في أماكن عبادة الموحدين الدروز في سائر مناطق تواجدهم وذلك دلالة على زهد مُتديِّنيهم بمظاهر الدّنيا الزائلة.

العَفِينَة “أم الينابيع”

هي من القرى النبطية القديمة ذات الينابيع الغزيرة وقد جُرّت مياهها قديماً إلى بلدة الكرك في سهل حوران، وكانت قناطر القناة مازالت ظاهرة للعيان في القرن الماضي، وقد تخربت آثار القرية القديمة ولكن ما بقي منها يشهد على أهميتها وفيها كتابات يونانية كما يشير إلى ذلك الباحث الآثاري الدكتور علي ابوعساف في كتابه «الآثار في جبل حوران» ص 164.

حملت هذه القرية اسمها «العفينة» بسبب خصوبة أرضها نتيجة للخيرات التي كثيراً ما تتعفن لتراكمها. ترتفع العفينة عن سطح 1127 متراً أمّا عدد سكانها فيبلغ 2700 نسمة.
وتقع في موقع متوسط بين المرتفعات الجبلية لجبل العرب فإلى الغرب منها منبسط من الأرض يميل باتجاه الغرب والجنوب بانحدار لطيف ومن جهة الشمال الغربي يميل بحدة نسبية باتجاه وادي نبع عرى…
أمّا إلى الشرق منها فتأخذ الأرض بالارتفاع مع ازدياد الوعورة باتجاه قرية حبران الأكثر جبلية منها.
تحدها من الشمال قرية رساس ومن الشمال الشرقي قرية سهوة بلاطة ومن الشرق قرية حبران ومن الجنوب بلدة القريّا ومن الغرب قرية المجيمر ومن الشمال الغربي بلدة عرى.
وتتبع العفينة من الناحية الإدارية لناحية القريّا الواقعة إلى الجنوب منها على مسافة نحو 4 كلم، أمّا عن السويداء مركز المحافظة فتبعد نحو 14 كلم.
تربتها سوداء تميل إلى الاحمرار لكونها ناتجة عن تفتت الصخور البركانية التي اغتنت ببقايا المواد العضوية النباتية ممّا يزيد في خصوبتها.
تزرع القرية الحبوب بأنواعها بالإضافة إلى زراعة الخضروات والفول والبصل، ويطل عليها من جهة الجنوب الغربي تل السرجين ومرتفع كوم التينة وتل المَجْمَر الشمالي الغربي، وتمر منها قناة الغسانية الأثرية من الشرق إلى الغرب وتعود إلى العصر الروماني وقد تم ترميمها حالياً بالإسمنت المسلح.

القرية القديمة مبنية بالحجر البازلتي الأزرق، أما القرية الحديثة التي امتدت بمعظمها إلى جهة الغرب عبر المنبسط السهلي فبيوتها مبنية من الحجر الإسمنتي المسقوف بالإسمنت المسلّح.
إلى جهة الجنوب منها يمر واديا الجعّار والزيدي، المتجهان غرباً عبر أراضي بلدة القريّا إلى سهل حوران.

الوضع المائي في العفينة

كان أهالي العفينة يتباهون فيما مضى بقولهم: إنّ «في قريتنا 50 نبع ونبع»، إذ تمتاز العفينة بغناها بالينابيع التي تنبثق في فصل الشتاء إثر هطول الأمطار الغزيرة وأهمّها نبع غسان (ويدعى اليوم بنبع عرى) وكان فيما مضى قبل نحو مئة عام نبعاً جارياً، ويبعد عن القرية نحو 3 كلم إلى الشمال منها، ونبع عين الزبدة الذي يقع شرق نبع عرى، وعين الغورية على الحافة الشمالية للقرية ونبع العين الشرقية شرقها، وعين التيس شرق القرية على حدود حبران، ونبع عين السخنة وسط القرية ونبع العين الغربية، وهي عموماً ينابيع تنقطع صيفاً وتنشط شتاء وربيعاً.
وفي خراج القرية 9 آبار ارتوازية حفرتها الدولة، منها اثنان على طريق قرية المجيمر غرب القرية والآبار الأخرى جنوب القرية، وجميعها معطلة باستثناء بئر واحد يعمل بين حين وآخر ويتعطل أحياناً بسبب الإهمال.

آل درويش أُولى العائلات في العفينة

استناداً لمَرويّات المُعمرين في القرية ولمرويات آل درويش فإنّ آل درويش قدموا إلى العفينة كمشايخ للقرية بالتفويض من شيخ مشايخ الدروز الأطرشي في عرى نحو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر،غير أن الرحالة البريطاني بيركهاردت الذي زار المنطقة عام 1810 يذكر أن القرية كانت مسكونة في تلك الفترة وفيها 25 عائلة درزية وذلك في كتيب «رحلات في سورية، ترجمة سلامة عبيد، ص 20».

أما آل درويش فهم كما يعرّفهم صاحب كتاب «الأصول والأنساب» يحيى حسين عمار ص 83 فهم «من العائلات التي تعود بقديمها إلى المقدّم علي العكس، جاؤوا من جهات الجبل الأعلى، وتوزعوا في المتن (جبل لبنان) وعُرف أمرهم في بلدة حمّانا وكانت لهم فيها أملاك ومطاحن كثيرة واشترى أملاكهم في حمانا المقدمون من آل مزهر، ورافقوا الفرع من آل الأطرش الذي ارتحل عن لبنان إلى بلدة بقعسم في إقليم البلان، وفي حدود مطلع القرن التاسع عشر ارتحل عن بقعسم حسين الدرويش مع أبناء عمه إلى الجبل وكان لحسين الدرويش دور هام جدّاً في معارك اللجاة ضد إبراهيم باشا إذ كان قائد المشاة المقاتلة، وبعد المعارك لُقّب حسين الدرويش بـ : «سبع اللجاة»، واشتُهر رجال هذه الأسرة بالقوة والصلابة، ومنهم في الثورة السورية الكبرى عام 1925 المجاهد حمزة الدرويش».

وأمّا عائلات العفينة التي وفدت إلى القرية بعد آل درويش الذين قدموا من غوثا قرب عرى حسب ما أفادنا به الأستاذ نزيه درويش والاستاذ مقبل منذر، فهم آل غانم، وآل منذر نحو عام 1868 قدموا من برمانا وغريفة، وآل قرموشي، (أصلاً من آل الداود من قرية حَلوى في جنوب لبنان)، وآل الهادي من الشوف (أصلاً آل شرف الدين)، وآل محمود وأبو فخر والأشقر والحمدان وأبو غازي والعماد وريدان وحرب وحمزة والنمط وفخّور.

وهم عائلات هاجرت أو هُجّرت من لبنان بسبب أحداث ونزاعات جرت في القرن التاسع عشر وحتى عام 1914 عام سفر برلك.
ولم تتأخر العفينة عن المشاركة في أحداث الحركة العامية التي جرت في النصف الثاني من ثمانينيات القرن التاسع عشر إذ جرى فيها الاجتماع الثاني للحركة العامية التي تمثل فيها النزاع بين العائلات الإقطاعية المالكة في الجبل من جهة والعائلات المتوسطة الملكية والفلاحين من جهة أخرى كما يرجّح معمرو القرية؛ في موقع الأرض الواقعة غربي القرية بينها وبين الطريق العام الذي يتجه جنوباً إلى بلدة القريّا، ولم تزل تلك الأرض تحمل اسم «أرض العامية» إلى اليوم، وهي عبارة عن مرج منبسط زحف إليه العمران الحديث.

وفي ص 419 من كتاب حوران في الوثائق العثمانية ترجمة الدكتور عبد الرحيم أبو حسين ما يفيد أن القرية شاركت بنشاط ضد الحملة العثمانية الظالمة لتي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل عام 1910 وأن القوة العثمانية المرسلة إلى الجبل حينها انتقمت من قرية العفينة التي «تعرضت أثناء الاشتباكات لخراب كامل» ولم تزل مضافة عبد الكريم درويش التي اتخذها العثمانيون مركزاً للجندرمة (الدرك) ماثلة إلى يومنا هذا بشهادة معمري القرية. وفي ص 421 ما يفيد أنّ القرية (العفينة) قُصفت بالمدافع العثمانية مع «قرى الكفر وحبران وقنوات لمقاومتها القوات العسكرية…» إذ كان محمود درويش واحداً من قادة عصابات الثوار المقاومة للعثمانيين آنذاك، وذكر آل حمزة (وهم أصلاً من اعبيه) أن جدّ والدهم الشيخ أبو محمود حسن حمزة نفاه العثمانيون مع أسرته إلى الأناضول…

الشيخ عبد الكريم درويش يحصّل حق مسيحي عربي من الدرك العثماني
كان أبو طعمة رجلاً مسيحيّاً من حي باب توما في دمشق يربّي أبقاراً حلوبةً وعجولاً في القرية خلال الفترة الأخيرة من العهد العثماني في الجبل، ولما كان هؤلاء يجمعون فلولهم للهروب من وجه قوى الثائرين عليهم من الأهالي، وقد رفضوا دفع ما عليهم من دين بالليرات الذهبية لأبي طعمة، فقد لجأ هذا يشكو أمره للشيخ عبد الكريم درويش الذي وجد أمامه محراثاً بدائياً فك منه وصلة عصا طويلة وهاجم مخفر الدرك بها وأجبرهم على دفع حق الرجل قبل أن يغادروا القرية ليلتحقوا بالقوات العثمانية الهاربة من الجبل.
أمّأ في الثورة السورية الكبرى فإن قرية العفينة قدمت سبعة عشر شهيداً في معاركها خلال أعوام 1925 و1927.

آل حمزة وآل الهادي حملة بيرق العفينة

أوّل من حمل بيرق العفينة هم آل حمزة الذين استشهد منهم تحته، إسماعيل حمزة وآخرون منهم. خشي الشيخ أبو يوسف ملحم حمزة من انقراض رجال الأسرة فقام بالتنازل عن البيرق لآل الهادي بعد معركة المسيفرة التي جرت في 17 أيلول عام 1925 قائلاً: «هذا البيرق يلزمه رجال تحميه».

وقد حمل آل الهادي بيرق العفينة، وفي معركة رساس وأثناء القتال ضد الفرنسيين استشهد اثنان منهم تحت البيرق هما يوسف وحمود الهادي، فتناول البيرق في ساحة المعركة حسن خليل منذر، وقد بقي البيرق في حوزته مدة تسعين يوماً إلى أن أُعيد إلى آل الهادي تكريماً لهم.

طفل لبناني في العفينة ينجو بمعجزة من قصف الطيران الفرنسي!

«أيام من الثورة السورية في ذاكرة الشيخ أبو يوسف جميل الأشقر إثر مقابلة معه عام 2016»
في فترة الاحتلال الفرنسي تعرضت العفينة لقصف الطيران الفرنسي عقاباً لسكانها على أثر زيارة القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش لدارة الشيخ عبد الكريم درويش عام 1925، وقد أصيب عدد من المنازل ومنها بيت الشيخ أبو إبراهيم سلامة طيفور الذي كان شيخاً ميسوراً وصاحب دار واسعة باحتها مبلّطة ببلاط حجري وكثيرون ممن يقدمون من لبنان يستأجرون عنده.

في ذلك البيت كان قد ولد في عام 1918 الطفل جميل الأشقر لأب هو حسين الأشقر كان يعمل على نقل القمح إلى جبل لبنان من قرية عرى وغيرها من قرى جبل الدروز على جمل له، وكان يرتاد مضافة الشيخ شبلي الأطرش وأخيه يحيى من بعده والأمير سليم الأطرش بعدهما، وكان هذا يحترمه لرجولته وطيب صوته وحسن غنائه، فكان واحداً من مرافقيه والفداوية من حوله.

كانت أم جميل في ذلك اليوم المشؤوم من صيف ذلك العام 1925 تعمل على غسل القمح تمهيداً لتنشيفه وطحنه وصنع الخبز منه، وإلى جانبها صغيرها جميل بن حسين الأشقر ذي السنوات السبع، ولكن الطيران الفرنسي لا يرحم فقُصفت الدار مع ما قصف من بيوت العفينة المتعاونة مع الثورة، وهُدمت دار جادالله درويش وشاء القدر أن يصاب الطفل جميل بشظية دخلت من فمه وخرجت من وراء الفك دون أن تكسر شيئاً من العظم، صرخت الأم مستنجدة «يا أبو إبراهيم» وهرب مَن في باحة الدار إلى الغرف واختبأ الصغير في الفرشة. لم يشعر الطفل بالإصابة بادئ الأمر، لكنه بعد قليل أحس دماً ينزف من فمه، هبّ من الفرشة وخرج للبريّة القريبة من الدار. الأب حسين كان في المقرن الشرقي يبيع عنباً على جمله، أمّا أخته «خزماء» فقد كُسرت رجلها وامرأة أخرى من آل الأشقر كانت قد هربت، عبر باب إحدى الغرف أصابتها شظية قنبلة فماتت من فورها…

انتقل كثيرون من أهل القرية على أثر القصف الجوي الفرنسي إلى المقرن الشرقي، إلى قرية شعف، ومن ثم إلى الشرق منها خربة القسطل حيث توجد هناك مغاور أزلية تحت الأرض، كان الطيران الفرنسي يقصف الدور التي تتواجد فيها الخيول، هناك في تلك الخربة النائية كلّ أسرة حملت معها الصاج والجاروشة حيث تتناوب الصبايا في جرش القمح لصنع الخبز الضروري للأسرة، وكان البَلاس (بساط لأرض الغرفة) مصنوع من شعر الماعز.

في ذلك المنأى كانت حقول القمح قد حُصدت، وكان الصغير جميل قد تعافى من جراحه. طُلب إلى ذويه أن يعمل في دَرْس القمح على المَوْرَج الذي تجره كديشة، ولم يلبث أن ظهر الطيران الفرنسي في الجو، هرب جميل إلى المغارة تاركاً المَوْرَج والكديشة التي تجرّه. ضربت الطيارة قنابلها فقتلت رأسين بقر وعجل وحمار.

الوالدة والأقارب من آل أبو حسن سليمان الأشقر لجأوا إلى مغاور عميقة في خربة القسطل. بعد خلو السماء من الطيران هَجُّوا إلى الوادي، كان الصغير يحمل بعض الحاجيات، هرب ورماها في عرض الوادي الجاف، عطش وليس من ماء، اضطرت امرأة أن تسقيه زيتًا، ومن الوادي رجعوا للقسطل، وذهب الصغير مع ذويه إلى قرية الرشيدة، فيها مياه وفيرة نقية كماء عين مرشد في لبنان، وفيها حجل كثير، ناموا ليلتهم في الرشيدة وفي اليوم التالي عادوا إلى قرية شعف، ومنها انتقلوا إلى بُصرى سافروا بالقطار إلى الشام، الأب والأم والابن والعمّتان خزماء وأدماء، والعم سعيد الأشقر، والعم محمود أبو علي الأشقر، ومنها بالقطار أيضاً إلى صوفر.

وصل جميل إلى الخريبة، فأصرّت جدّته السيّدة أم حسين زين الأشقر على إرساله إلى مدرسة المختارة، عند المعلم شفيق ناصيف، كانت المدارس حينها جديدة على حياة الناس، ولم يكن سوى أولاد ذكور منهم عبد الله أبو حمزة وعارف أبو حمزة ومحمود أبو حمزة ونصارى هم حليم عبود وسعيد أسعد نقولا، ثم جاءت بنات نصارى ودروز. ويستذكر الشيخ جميل الحياة في خريبة الشوف في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين «ستِّي حرمة ختيارة لا أحد عندها سواي، ليلة نسهر بالبيت وليلة عند قرايبنا، غُمر جرزون وراء الموقدة، والموقدة بلا قسطل، (بواري) كان عندنا موقدتان من الطين المجبول بالتبن، واحدة نشعل بها، والثانية تضع جدّتي فيها سراج كاز تشعل النار من السراج، ثم تطفئه مع ظهور النار.

كان الوالد حسين ينتقل بين جبل لبنان وجبل حوران، وكانت فترات جوع، جاء ومعه قمح، أرد أن يرمي بالبلوط الذي كنا نقتات به قبل وجود القمح، منعته الجدّة، إذ كانت تعمل منه خبزاً بعد طحنه. صار من طلع إلى جبل حوران ليقاتل هناك يعود بعد عام 1927، عاد الجد أما الوالد حسين فقد كان مشاركاً مع العصابات الثائرة، وعمل الفرنسيون على سياسة ترضية في السويداء، وصاروا يوظفون العديد من الشبان ويدفعون لهم معاشات مُجزية، ويوصلون الماء للعديد من القرى، وعينوا حمزة درويش قائمقاماً في صلخد، كما تم توظيف العديد من الطرشان، وفيما بعد عندما صار جميل شاباً زار جبل حوران بصحبة قريب له هو أمين علي الأشقر وزاروا حمزة درويش الذي رحّب بهم بقوله « أهلاً بأولاد عمنا»، وذبح لهم وزّتين، كما ذكر الشيخ أبو يوسف جميل أنّ له أقارب في قرية المشقوق منهم أبو محمود سلمان الأشقر وأنّ حمزة درويش زار لبنان، وكانت له فيه أهميّة كبيرة.

العفينة في معمعان الثورة السورية الكبرى 1925-1927

يذكر الشاعر صالح عمار أبو الحسن في كتابه «ديوان شعر شعبي» أسماء شهداء العفينة وهم: يوسف مكارم وحسين مكارم ونايف مكارم وإبراهيم غانم ومحمّد غانم وملحم غانم ونجم غانم ونجيب النمط وحمود أبو فخر ويوسف الهادي وحمود الهادي وحسين كحل ويوسف قرموشي وفارس الأشقر ويوسف العنداري وملحم حمزة وجادالله أبو عرب…

علياء المنذر والدة فريد وأسمهان أقامت في العفينة

أثناء إجراء التحقيق في قرية العفينة فوجئت بشهادات قدمها العديد من أهالي العفينة منهم الأستاذ نزيه درويش والأستاذ مقبل منذر وآخرون تفيد بأن السيدة علياء المنذر زوجة القائمقام في العهد العثماني سابقاً فهد الأطرش، ووالدة الموسيقار والمطرب فريد الأطرش وأخته أسمهان والابن الأكبر لهما فؤاد؛ قد أقامت مع أولادها شهوراً قليلة في العفينة؛ القرية التي يقطنها أقرباؤها من آل المنذر، ولم تزل آثار تلك الدار التي لجأت إليها علياء المنذر ماثلة في العفينة إلى الآن. ولا بدّ أن تكون تلك الفترة بعد عام 1922 إذ تقول شريفة زهور صاحبة كتاب «أسرار أسمهان..» ص 65 أن حادثة أدهم خنجر (التي تم على أثرها قصف قرية القريا المجاورة للعفينة بالطيران الفرنسي) استحثت علياء بمغادرة المنطقة إذ لم تكن مستعدة لاحتمال مرحلة ثانية من الأعمال الحربية في الجبل، فالمنطقة كانت حافلة بأحداث التململ الاجتماعي التي مهّدت للثورة السورية الكبرى عام 1925…

العفينة تصد عنها جيش الشيشكلي بمياه ينابيعها

في عام 1954 كان الدكتاتور أديب الشيشكلي قد أرسل حملة إلى محافظة السويداء لاعتقال سلطان باشا الأطرش إثر تأييده لمؤتمر حمص الذي طالبه بالعودة بسورية إلى الحياة الديموقراطية، وقد اجتاحت قوات الجيش آنذاك مدينة السويداء والعديد من القرى في طريقها إلى القريّا، فما كان من رجال العفينة، وكان الفصل شتاءً، إلاّ أن أطلقوا مياه ينابيعهم باتجاه الأرض السهلية الواقعة إلى جانب الطريق العام المتجه جنوباً إلى القريّا فعجزت الآليات الحربية من دخول القرية عندها أخذت قوات شيشكلي تطلق النار عشوائياً على القرية مما أدى لإصابة الشيخ عبد الكريم درويش واستشهاده بنتيجة ذلك العدوان في 28 كانون الثاني 1954.

اقتصاد العفينة: الزراعة وتربية الحيوان

تتبع قرية العفينة إلى منطقة الاستقرار الثانية من حيث تصنيف استعمالات الأراضي الزراعية وغير الزراعية، وتبلغ مساحة عموم أراضي القرية 1461,3 هكتاراً (أي:14613 دونماً)، أما مساحة الأراضي القابلة للزراعة فتبلغ 8551 دونماً، مساحة المروي منها 7 دونمات فقط، والباقي زراعة بعلية، وتشغل الأبنية والمرافق مساحة 250 دونماً والأراضي الصخرية والرملية مساحة 356,2 دونماً.

اهم المحاصيل الحقلية في العفينة:
القمح: ويشغل مساحة 90 هكتاراً، ويبلغ متوسط إنتاج القرية منه 90 طناً في السنة.
الشعير: ويشغل مساحة 70 هكتاراً ومتوسط الإنتاج السنوي 90 طناً.
الحمَّص: ويشغل مساحة 45 هكتاراً والإنتاج 18 طناً في السنة.
الجلبان: 2هكتار وإنتاجه 1,2 طن / سنة، والكرسنّة مساحة 3 هكتار وإنتاجه 1,8 طن / سنة.

الأشجار المثمرة
ومعظمها زراعة بعلية، وتشمل:
الزيتون السقي: ويشغل مساحة 31 دونماً عدد أشجاره 465 شجرة مردود الشجرة 12كلغ، وكمية الإنتاج 5,6 طن.
الزيتون البعل: يشغل مساحة 1265 دونماً وعدد الأشجار المثمرة 14563 وتنتج 87,4 طناً.
الكرمة: وتشغل 695 دونماً عدد الأشجار المثمرة 29500 إنتاجها 170 طناً.
الفستق الحلبي: ويشغل مساحة 316 دونماً وعدد أشجاره 4896 شجرة المثمر منها 3450 شجرة مردود الشجرة الواحدة 3 كلغ، ومجمل الإنتاج 10,4 طن.
التفاح: يزرع في مساحة 91 دونماً وعدد أشجاره 2246 المثمر منها 2200 مردود الشجرة 12 كلغ ومجمل الإنتاج 26,4 طن.
التين: يزرع في 180 دونماً عدد أشجاره 2449 كلها مثمرة، مردود الشجرة 12 كلغ ومجمل الإنتاج 29,4 طن.
اللوز البعل: يزرع بعضه سقياً في مساحة 39 دونماً وعدد أشجاره 585 شجرة مردود الشجرة 5 كلغ ومجمل الإنتاج 2,9 طن.
اللوز البعل: يزرع في مساحة 68 دونماً عدد أشجاره 1661 المثمر منها 1196 مردود الشجرة 3 كلغ وكمية الإنتاج 3,6 طن.
الجوز (بعل): مساحته 8 دونمات وأشجاره 160 شجرة مردود الشجرة 10 كلغ وإنتاجه 1,6 طن.
الرمان: يزرع متفرقاً في الحدائق والكروم وعدد أشجاره 318 شجرة مردود كل منها 10 كلغ ومجمل الإنتاج 3,2 طن.
الكرز: يشغل مساحة 3 دونمات وعدد أشجاره 419 شجرة مردود الواحدة منها 10كلغ وكمية الإنتاج 4,2 طن.
الدراق: مساحته 24 دونماً وعدد أشجاره 1339 شجرة المثمر منها 1284 شجرة مردود كل منها 10 كلغ، وكمية الإنتاج 12,8طن.
الإجّاص: مساحته 183 دونماً أشجاره 4551 شجرة مردود كل منها 10 كلغ وكمية الإنتاج 45,5 طن.
السفرجل: مساحته 11 دونماً وأشجاره 375 شجرة مردود الواحدة 10 كلغ وكمية إنتاجه 3,8 طن.
التوت: يزرع في مساحة 5 دونمات وعدد أشجاره 90 شجرة المثمر منها 70 شجرة.

الثروة الحيوانية:
الأبقار الحلوب: وعددها 160 رأساً منها 6 رؤوس أجنبية مستوردة، مجمل حليبها 597 طناً.
الأغنام: وعددها 1060 رأساً، مجمل حليبها 41 طناً.
الماعز: وعددها 28 رأساً، مجمل حليبها 2طن.
الدجاج: عدد الدجاج الفردي في المنازل 700 دجاجة، مجموع بيضها 54000 بيضة/ سنة.
طيور الحبش: 12 طيراً والحمام 180 طيراً.
المداجن: في القرية10 مداجن تنتج سنوياً 191000 فروجاً مجمل وزنها 382 طناً.

الاغتراب في حياة القرية

ساهم الاغتراب في تحسين حياة السكان في القرية، فأثره واضح في دور المغتربين وحياتهم، وهو إلى جانب الزراعة يشكل مورداً مهمًّا في حياة العديد من مواطني القرية ومن المغتربات التي يرتادها شبان العفينة: فنزويلا (سابقاً) وأستراليا وبلدان الخليج العربي وليبيا، ولبنان سابقاً، وسواها من البلدان خاصة بعد المحنة السورية منذ العام 2011 حيث تضيق سبل العيش بالمواطنين.

المدارس

توجد في القرية مدرسة ابتدائية واحدة يبلغ عدد تلاميذها 280 تلميذاً وتلميذة بتعليم مختلط. وكذلك مدرسة إعدادية عدد تلاميذها 150 تلميذاً وتلميذةً.
ويبلغ عدد المعلمين والمعلمات 50 معلّماً ومعلّمة.
يضاف إلى ذلك حضانة تابعة لمديرية التربية للأطفال تضم عشرين طفلاً وطفلة، وحضانة قطاع خاص تضم40 طفلاً وطفلة.

المحلات التجارية والحرفية

تتواجد في القرية عدد من المحلات التجارية منها خمسة محلات للخضار ومحل للنجارة وأربعة محلات للحدادة الإفرنجية، كما يوجد فيها خمسة صالونات للحلاقة الرجالي وثلاثة للكوافير النسائي.

الدوائر الرسمية والجمعيات

في القرية جمعية فلاحية وفرع لجمعية الهلال الأحمر ومقر للفرقة الحزبية «حزب البعث العربي الاشتراكي».
وقد أنشئت في القرية محطة تنقية مياه حديثة تعمل بطريقة تنشيط نوع من البكتيريا بحيث تصلح مياهها لري المزروعات والخضار. وتخدّم هذه المحطة قريتي العفينة وحبران.

دور العبادة

لا يعبأ الموحدون بتضخيم دور عبادتهم لله تعالى، فالمجلس / المسجد، عبارة عن بناء بسيط مكوّن من غرفتين كبيرتين واحدة للمتعبدين من الرجال وأخرى مثلها للنساء، مفروشة بسجاد وفرش بسيطة للجلوس، دون وسائد، بينهما ستارة، قماشية لنقل صوت القرّاء من الرجال يجتمع المتعبدون فيها مساء، ولِلَيلة الجمعة أهمية خاصة عندهم.

مَلَح،

بلدة كبيرة؛ هي اليوم مركز ناحية تتبع لمنطقة (قائمقاميّة) صلخد، يتبع لها عدد من القرى هي: خازمة والشعاب، وقيصما والهويّا والحريسة وشعف وبَهَمْ وأبو زريق وتل اللوز وطليلين. ارتفاعها عن سطح البحر 1360 م.

وقيل في سبب تسميتها أنّ المَلَح في اللغة بياض يخالطه السواد، ومَلُح الشيء، أي حَسُنَ وبهج منظرُه (1)، تقع البلدة فوق أرض صخرية بازلتية ضيقة على شكل جزيرة بين فرعي وادي راجل الغربي ووادي راجل الشرقي (وادي أبو الدجاج) تحيط بها سهول خصبة وتكثر في أراضيها الزراعية الحجارة التي تحافظ على رطوبة التربة صيفاً، تبعد 14 كلم باتجاه الشرق من صلخد، مساكنها القديمة مبنية من الحجارة البازلتية وتعود إلى عصور الأنباط والسلوقيين والرومان والبيزنطيين أما البيوت الحديثة فمبنية من الإسمنت المسلّح وتمتد البلدة الحديثة بكافة الاتجاهات حول القرية الأثرية القديمة (2).

وتشكل بموقعها عقدة مواصلات تصلها بالعديد من القرى المجاورة فإلى الغرب منها طريق رئيس مُسَفلت لم يُرَمَّم منذ نحو25 سنة، يصلها بعرمان، فصلخد، فالسويداء، فدمشق. وإلى الشمال الغربي طريق يصلها بقرية قَيْصَما فـمزرعة احْبِكة وقرى الجبل العالية، وإلى الشمال طريق يصلها بالهويّا فالحريسة فشعف..، وإلى الشرق طريق يصلها بقرية الشعاب البدوية فالبوادي باتجاه الأردن والعراق… وإلى الجنوب طريق يصلها بقرية خازمة الغنية بالمياه الجوفية. وقد كانت ملح قديما مُنْطَلقاً ومَلفى لقوافل الجمال التجارية التي تصلها بالعراق ونجد والحجاز في العصور العربية الغابرة.

يقول الباحث الآثاري، د.علي أبوعساف: «إنها من القرى الهامة في المنطقة وتُعرف باسم ملح الصّرّار، مركز إداري قديم تتبعه الخِرَب المنتشرة حوله، وقد ترك الأنباط كتابة منقوشة في ساكف (عتبة أو حِنْت) وأخرى في تمثال، وفي العصر البيزنطي الغساني نقش الصليب وغيره في سواكف الأبواب أيضاً وفيها البرج، وهو الأهم، وكذلك البِرَك (3)
زارها الرحالة والمبشر الأيرلندي وليم رايت عام 1874 فقال: «إنها على شكل مربع غير منتظم تحيطها أسوار جزء منها َمُهدّم وعلى هذه الأسوار بعض الأبراج العظيمة… وترتفع إلى ستين قدماً.. خمسة من هذه الأبراج كانت بحالة مقبولة.. كانت الخرائب محشورة بعضها ببعض.. وهناك عدد من القناطر العالية جداً بين الخرائب.. رأينا على كثير من السواكف صلباناً يونانية.. أحد النقوش مُهدى للإله ذي الشّرى أحد الآلهة (النبطيّة) التي كانت تُعْبَد في باشان.. يسكن خرائب ملح الصرّار عدد كبير من الدروز وبعض المسيحيين. كان شيخهم أبو محمّد حسين بن نجم الأطرش شيخ عرمان (4)…».
ومن الخِرَب التابعة لملح حالياً مزرعة مَجدل الشّور: موقع قديم كان يحيط به سور، أي إنّه موقع حصين وقد أُطلق عليه اسم مجدل أي حصن. تستند البيوت على السور أي أن الجدار الخلفي لبعض البيوت هو السور. البيوت القديمة متهدمة أو مُجدّدة وتوحي بأن الموقع كان هامَّاً ويعود إلى العصر النبطي، ويذكر الباحث الجغرافي الأستاذ فوزي الباسط أنَّ فيها آثاراً لمعبد روماني تحول إلى كنيسة مسيحية في عهد الغساسنة (المتداخل مع العصر البيزنطي). وقد تحولت الكنيسة إلى مسجد في العصر العربي الإسلامي وهي الآن آثار خربة (5).
ومن المواقع التي كانت تتبع لمَلَح فيما مضى:
خازمة: يبدو أنها كانت قرية أثرية مزدهرة ذات شوارع مستقيمة متقاطعة على جوانبها الأرصفة وفيها أطلال بيوت جيدة مزخرفة وكنيسة مزدوجة تدل على أنّها من العصر الغساني.
دير النصراني: حصن عسكري بيزنطي تحوّل إلى دير مازال فيه برج إلى الشرق من ملح.
صافية ملح: خربة قديمة تتبع لملح، تقع بين بلدتي ملح وامتان وتحت آثارها أطلال تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد وما قبله، فهي من المستوطنات القديمة وقد بقيت مأهولة في العصور التي تلت…
براق: جنوب ملح على وادي أبو الدّجاج مسافة 4 كلم خربة أثرية هامة تم تدميرها من قبل لصوص الآثار والباحثين عن الذهب مطلع الثمانينيات وفيها العديد من الآبار المحفورة في الصخر التي لم تزل قيد الاستخدام إلى زمننا هذا وفيها مغاور طبيعية في الحجر الرملي.وقد أنشئ فيها سد حديث فاشل بسبب سوء التقدير الهندسي لبنائه.

إحياء عمران ملح على يد المعروفيين

شهدت المنطقة في القرنين الأخيرين من العهد العثماني تدهوراً في التحضُّر فقد أدى ضعف الدولة العثمانية في تلك الفترة إلى عيث شديد للقبائل البدوية فيها بحيث خلت تقريباً من السكان قبل قدوم العائلات والعشائر المعروفيّة إلى الجبل.
وقبيل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر نحو عام 1866 أخذ العمران ينتشر فيها وأولى العائلات الدرزية التي أحيت عمران ملح ، كانوا سلمان بَلَّان وأسرته وسليمان الملحم وأسرته ومحمّد أبودهن وأسرته وآل الباسط والحسن من الدروز وآل أبو جمرة من المسيحيين قدموا إليها من قريتي عرى والمجيمر الواقعتين جنوب غرب السويداء ببضعة عشر كيلو متراً، (وقد لحق بهم آل رزق فيما بعد، قادمين من قرية عنز) (5).وصادف وصول العائلات الأولى إلى مشارف القرية الخربة آنذاك مع أول الليل، فلم يجرؤوا على الدخول إليها خيفة من أرجال الغزو البدوية الذين كانوا يتخذون الخرائب مكمناً لهم، فحرسوا موقع مبيتهم الليلي جيداً وانتظروا حتى الصباح، وبعثوا بالرّواد لاستكشاف المكان أوّلاً، وأوصَوْهم أن لا يدخلوا الخرائب إن كانت أعالي الأبراج خالية من الطيور التي اعتادت أن تحطّ عليها لأن ذلك يعني وجود كمائن في المكان…
كانت ملح في قديمها بلدة عامرة ذات شأن، وكان فيها سبعة أبراج أثرية تعود لأيام الرومان، لمراقبة البادية المترامية الأطراف إلى الشرق والجنوب منها. كانت الطيور هاجعة في أعالي أبراجها، فدخلوا إليها يجوسون في خرائبها ليتأكدوا من خلوّها من الكمائن، ومن ثم عادوا يبشّرون ذويهم بأمان المكان؛ فدخلوها مع أسرهم آمنين، وتوزّعوا في دورها الأثرية التي لم ينل منها الخراب بعد!…

ملح؛ فتيل الثورة العامية وبيرق النصر في حروب الجبل
وثيقة رومانيية على شكل نقش حجري

ولم تلبث ملح نحو عشرين عاماً حتى غدت تلعب دوراً اجتماعيّاً وسياسيّاً رائداً في حياة مجتمع جبل الدروز (كما كان يدعى آنذاك)، فبنتيجة نشاط مزارعيها وفلّاحيها ومرابعيها من العامة أولئك المتضامنين مع سائر نظرائهم من المقرن القبلي ومعظم قرى الجبل انعقد أوّل اجتماع للعامة في جبل الدروز بهدف تشاوري ثوري ضد هيمنة مشايخ الإقطاع في نيسان عام 1888 في خربة المجدل المجاورة والتي لم تزل إلى اليوم تحمل اسم مجدل الشَّوْر، وقد نتج عن ذلك المؤتمر ما دُعي بـ: «الثورة العامِّيَّة»؛ التي شملت معظم حواضر الجبل ومُنِع مشايخ الإقطاع على إثرها من ترحيل الفلاحين وتم انتزاع نصف مُلكيتهم التي وزعت على الفلاحين الثائرين بحيث لم يبقَ لهم سوى ثُمن مساحة كل قرية بدلاً من الرّبع، وإلى ذلك يشير الأديب الأستاذ عادل رزق فيذكر بأن «صالح غزالي وصالح رزق من ملح، وصالح الحلبي وإسماعيل العطواني من عرمان وحمد العيسمي وقاسم الدبيسي من امتان كانوا من اللجنة الممهّدة لذلك الاجتماع ومن مجموعة وجهاء العامة الـ 82 الموقعين على بيان انتفاضة العامية»…

كما ساهمت ملح إلى جانب أهالي عرمان وصلخد وغيرها من قرى المقرن القبلي والشرقي في دحر الحملة العثمانية في ما عُرف بموقعة خراب عرمان عام 1896،.وتتالت بعدها مساهمات فرسان ورجال ملح في معارك الجبل ضد العثمانيين والفرنسيين حتى لُقِّب بيرق ملح بنتيجة بطولات فرسانها ورجالها بـ «بيرق النصر!». كان بيرق ملح في طليعة بيارق المقرن القبلي التي اكتسحت حملة القائد الفرنسي «مارتان» في موقعة الكفر عام 1925 وأبادتها في وقت لا يتجاوز الـ 45 دقيقة وقد أذهلت العالم حينها؛ لسرعة المقاتلين في تحقيق نصر ساحق على قوة عسكرية منظمة من قبل مقاتلين بأسلحة تقليدية خفيفة معظمها سيوف وبلطات وفؤوس…

وقد بلغ عدد شهداء ملح في معارك الثورة السورية الكبرى عام 1925 ـ 1927 وحدها 107 شهداء، وفيهم يقول الشاعر الشعبي صالح عمار أبو الحسن:

سربةْ ملَـحْ تشبه ليــوث القَسْوَرَة باب الكرم والجود ينبوع الفِــرا
في كل عَركَه في مُقَدّمة الرِّجال خَلُّوا ينــابيـــع الــدِّما تتفـجَّــــرا
بيرق ملح عَ الكَفِر لمَّا انُّو مشى لوحوشها وطيورها اِرموا العشا
وبْيارق المقرن القبلي تصاولوا حـالاً بقلب فرنسا كان سـمّ وفشـا (6)
السكّان في بلدة ملح:

يبلغ عدد السكّان حاليّاً حسب سجلات البلدة 15000 ألف نسمة لكن عدم وجود تنمية متوازنة دفع نحو أكثر من 46 بالمئة من السكان إلى النزوح والهجرة، فالمقيمون فيها عددهم 8000 نسمة، يتوزّعون على (74) كنية، غالبيتهم من الموحدين الدروز، وهم:
آل أبو إسماعيل، وأبو زيدان وأبو ترابة وأبو رافع وأبو معلّا وأبو دهن وأبو شهدا وأبو علوان والبيّاع وأيوب والأطرش وبلّان والباسط (أصلاً أبو خزام)، والتيماني، وجودية، والجبر، والجمّال (زين الدين)، وجابر، وجمول، وحامد، والحاصباني والحكيم، والحلبي، والحلح، وخشيفي، وخير، وذياب ، والذيب، ورستم، والسكّر، والسلمان، وسيف، والشاهين، وشروف، وشهاب الدين، والشوفي، وصافي، والصالح ، وصعب، وصيُّور، والصفدي، وطلب، والطير، وعبد الباقي، والعطواني، والعربيد، وعظيمي، وعقل، وعلّوم، وعماشة، وعيد، وغزالة، والغزال، والقنطار، وكمال، وكيوان، وكحّول، ومسعود، ومعروف، والملحم، وملّاك، ومنذر، وذياب، ورزق ومكنّى، وهذبا، ونخلة، وفرج وقد خرج منها إلى خازمة آل رزق (بعد أن هدم الفرنسيون بيت المجاهد يحيى رزق ومضافته كما هدموا بيت المجاهد علي الملحم ومضافته) وتبعهم العديد من عائلات ملح على أعقاب وقائع الثورة السورية الكبرى أواسط ثلاثينيات القرن العشرين.
وهناك عائلات مسيحية هاجر قسم منهم من ملح عام 1951 بسبب المحل، وبقي منهم في ملح آل أبو جمرة وبديوي، والبسِّيط والحداد.وعددهم نحو 70 نسمة(7).

وكان بين السكان شخص سني واحد يعمل بيطاراً للخيول أصله من حي الميدان في دمشق هو إبراهيم القسطي، (وله موقف مُشرِّف في ملح إبّان حملة الشيشكلي على الجبل عام 1954 إذ صرخ بوجه العقيد صلاح الشيشكلي الذي وجه الرشاشات لقتل عدد من رجال ملح محتجّاً على ذلك العمل الإجرامي، وبالفعل استجاب الشيشكلي لطلبه على مضض، وتوقف عن تنفيذ نيته بذلك..) وشخص يهودي واحد كان يتعاطى التجارة، ويُدعى بـ: حسين اليهودي، هجر البلدة عام 1948 ولم تزل دكّانه إلى الآن خَرِبة في الشارع العام من ملح.

وممّا يجدر ذكره أنّ نحو 80 بالمئة من سكان ملح تعود بأصولها لأسر مهاجرة من لبنان خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.

الدوائر الرسمية في ملح:

البلدية:
يعود إنشاء البلدية في ملح إلى عهد الانتداب الفرنسي أواخر العشرينيات من القرن العشرين المنصرم، وتبلغ مساحة المخطط التنظيمي الحالي للبلدة 500 هكتار أي (5000 دونم)، منها ثمانية حدائق مساحتها الإجمالية 21 دونماً
ويعمل في البلدية 24 موظفاً وموظفة بين مهندسين ومساعدين فنيين وإداريين لمتابعة شؤون البلدية …
وتبلغ أطوال الشوارع المعبدة 39 كلم،.وشبكة مياه الشرب في البلدة 43 كلم، أمّا شبكة الصرف الصحي فطولها 24 كلم.

مركز ثقافي في البلدة

الوحدة الإرشادية الزراعية:
لما كانت الزراعة بالأصل تشكل المصدر التقليدي لاقتصاد البلدة قبل الاغتراب وقبل الوظائف الحكومية التي تشكل روافد إضافية للحياة المعاشية فيها، فقد عَنيت الحكومات المتتابعة في العمل على توجيه المزارعين إلى الأساليب الحديثة في الزراعة فأُنشئت الوحدة الإرشادية الزراعية في البلدة التي تقدم:
1ـ الخدمات الاستشارية المجانية للمزارعين.
2ـ تقوم بإحصاء الثروة النباتية من أشجار مثمرة وغيرها.
3ـ تَرْفع الخطة الإنتاجية لمديرية الزراعة وتتضمن الخطة المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقليّة والخضار من مروية وبعلية.
4ـ إعطاء شهادات المنشأ لتسويق محصولَيِّ القمح والشعير.
5ـ إقامة ندوات زراعية لتوعية المزارعين وتقديم الإرشادات الزراعية بشكل موسمي ودوري لمواعيد الرش ومكافحة أمراض وآفات الأشجار والمحاصيل.
6ـ العمل بموجب خطّة نشاطات موسمية خلال العام من حيث توجيه المزارعين إلى مكافحة أمراض وآفات النباتات والتوجيه باستخدام المبيدات بشكل علمي.
إقامة بيانات عملية تدريبية (يوم عمل) على تقليم وتطعيم الأشجار بشكل عملي للمزارعين المدعوين في مواعيد زمنية مناسبة.
7ـ وفي المجال البيطري يقدّم الطبيب البيطري المختص في الوحدة استشارات مجانية لمربي الأبقار والأغنام والماعز والمواشي والطيور..
8ـ تنفيذ حملات لقاح للأبقار والماعز والأغنام مجّاناً.
9ـ إقامة ندوات بيطرية وتنفيذ بيانات عمليّة تدريبية لمعالجة أمراض الحيوانات.
مكافحة الطفيليات الخارجية التي تصيب الأغنام والماعز لمزارعي البلدة في مغطس الوحدة الإرشادية…
وتتألف الوحدة الإرشادية الزراعية في ملح من مبنى حكومي خاص مُخدّم بالكهرباء والماء ووسائل الاتصال يعمل به ثلاثة عشر موظفاً وموظفة منهم: 3 مهندسون زراعيون وطبيب بيطري وآخرون مساعدون فنيون في التخصصات الزراعية.
المستوصف: يعمل به 19 موظفاً بين طبيب وممرضين لتقديم الخدمات الطبية مجاناً للمواطنين من البلدة وسائر قرى الناحية بالإضافة إلى سائقين للمناوبة على سيارة الإسعاف العاملة في المستوصف، ويقدم المستوصف خدمات طبيّة متنوعة تتعلق بتقديم اللقاحات المجانية والتضميد وتنظيم الأسرة ورعاية الحوامل ومتابعة مرضى السكري…
مركز الهاتف: ويتضمّن 2344 خطّاً للهاتف، منها 1943 خطوط مركبة و115 بوابة انترنت، ويرأسه مهندس اتصالات وموظف جباية واثنان من عمال التركيب والصيانة ومستخدمة للعناية بالمركز.

المدارس:
الشيخ المرحوم أبو حسن عارف حلاوي معلّماً في ملح
يذكر المعمرون من أهالي البلدة بمودّة أنّ الشيخ المرحوم أبو حسن عارف حلاوي كان من قدامى المعلمين في ملح خلال الثلث الأول من القرن الماضي وكان قد اشترى أرضاً في ملح استفاد منها فترة من الزمن ومن ثم باعها لآل رزق قبل عودته إلى لبنان…
حاليّاً؛ توجد في البلدة مدرسة ثانوية صناعية وثانوية عامة وإعدادية وثلاثة مدارس وروضة أطفال عامة وروضتا أطفال قطاع خاص.
وفي البلدة مكتبا تكسي للخدمات داخل وخارج البلدة، عدد السيارات العاملة فيها 15 سيارة تكسي خدمات أجرة.

الزراعة في بلدة ملح:

بلغ المساحة العقارية الإجمالية لأراضي البلدة 147000 دونم ومتوسّط أمطارها في السنوات العشر الأخيرة نحو 220 ملم3.
ويغلب على الزراعة فيها نمط الزراعة المعيشية الاستهلاكية، فما من تصنيع زراعي بالمفهوم الحديث للمنتجات الزراعية فيها، إذ يزرع منها سنوياً 13300 دونم بالقمح غرب وشمال البلدة ممّا يلي الجبل، و20000 دونم بالشعير شرق وجنوب البلدة ممّا يلي البادية، كما يزرع الحِمَّص في 2400 دونم،
الأشجار: الزيتون 2800 شجرة، العنب 6480 شجرة وقد تراجعت زراعة العنب في الكروم بعد عام 1976 إثر إنشاء سد أبو زريق الذي تسبب بحجز مياه الأمطار عن وادي راجل ممّا جعل الأهالي يقتصرون على زراعة العنب في الحدائق المنزلية، بعد أن خسروا المياه التي كانت تصلهم عبر الوادي..
أشجار متنوعة: التين: 445 شجرة، اللوز والتوت وغيرها 2000 شجرة.

الجرارات في البلدة:

يبلغ عدد الجرارات في البلدة 145 جرّاراً متوسط قدرات الجرار الواحد 70 حصاناً بالإضافة إلى 60 فرّامة (عزَّاقة)، و20 مرشَّة ميكانيكية.
تربية الحيوان: الأبقار الحلوب: 175 رأساً، منها ما يربى في 3 مزارع تستوعب 110 بقرات، والباقي تُربَّى في حظائر قرب المنازل.
الأغنام: عددها 1500 رأس منها نحو 900 رأس تُربّى في مزرعتين، والباقي في حظائر فردية داخل البلدة.
الماعز: 800 رأس تربى في حظائر فردية داخل البلدة.

المياه في ملح:

كانت ملح؛ القرية النبطيّة ـ السلوقيةـ الرومانية ـ البيزنطية ـ الأثرية الأولى التي يُرجّح أنّ عمرانها الأوّل يعود لما قبل الأنباط كما يشير الأستاذ الجغرافي الباحث فوزي الباسط أبو خزام؛ تعتمد على مياه الشتاء بالدرجة الأولى التي يتم جمعها في الآبار والبرك، التي عُرِف منها سبع برك أهمها مطخ الحداد ومتوسط عمقه نحو أربعة أمتار، وقد شوهدت فيه بقايا أعمدة وأحجار منحوتة يُرَجّح أنها بقايا لمعبد آلهة المياه، بالإضافة إلى بركة الغنم والبركة المالحة وبركة السورية وبرك أُخرى صغيرة يُرجّح أنها كانت أصلاً مقالع لحجارة البناء…
كما كانت ملح قبل إنجاز سدّ جبل العرب عام 1976 تستقي بالإسالة السطحية من مياه وادي راجل الذي يأتيها من القمم الجبلية العالية إلى الشمال الغربي منها ومن مسيل مياه ينابيع مزرعة «احبكة» (التابعة لبلدة الهويا) على مسافة نحو 5 كلم، فتفيد في سقاية الكروم والمحاصيل الحقلية، ولم تزل بقايا الأقنية الرومانية في خراج البلدة ماثلة إلى الآن في العديد من المواقع، ولكن مياه الإسالة انقطعت عنها بسبب شح كميات الأمطار في معظم سنوات القرن العشرين، يضاف إلى ذلك انخفاض مناسيب المياه الجوفية السطحية التي تغذي ينابيع احبكة، وزيادة الاستهلاك المائي من قبل أهالي الهويا وقيصما الذين أخذوا يحفرون آباراً جوفية حول الينابيع الأمر الذي أوقف تدفق المياه من احبكة باتجاه ملح.

وإلى أن أعيد إعمارها على يد عائلات الموحدين الدروز عام 1866، هناك ما يدل على وجود بقايا من ينابيع قديمة تغلب عليها الملوحة في الجانب الشرقي من القرية القديمة، تمتد على خط يتجه شمالاً إلى قرية قيصما على مسافة نحو 2 كلم منها، فموقع ينابيع «احبكة» النقية على مسافة نحو 3 كلم.من قرية قيصما شمالاً…
أما اليوم فإنّ البلدة تعتمد على تأمين مياه الشرب من الآبار الجوفيّة في قرية خازمة المجاورة لها ومن سد أبو زريق عند اللزوم.

كنيسة حديثة في البلدة
التنمية الزراعية وآفاقها في البلدة:

بالنظر لوقوع أراضي ملح في منطقة الاستقرار الثانية الصالحة للزراعة من جهة الشمال والغرب بينما تقع معظم أراضيها الشرقية والجنوبية في منطقة الاستقرار الثالثة التي تصلح للرعي أكثر منها للزراعة، وخاصة فإن الآلاف من الدونمات من تلك الأراضي تتصل بالبادية شرق وجنوب ملح ومنها أراضي قرية خازمة (بنت ملح) وهي أراضٍ غنية بالمياه الجوفية ممّا يفتح أفقاً واسعاً لزراعة مروية وتربية أغنام على نطاق واسع وبالتالي إنتاج زراعي وخضري قابل للتصدير وإنتاج حيواني من تربية الأغنام والأبقار والماعز ينتظر الاهتمام من الجهات الرسمية المعنية في الدولة ومن المستثمرين في القطاع الخاص ممّا يحسن مداخيل المزارعين ويرفع من مستوى معيشتهم، كل هذا ينتظر توفر النوايا الحسنة لتثبيت الإنسان في منطقة يتهددها التهجير وغياب الأمن وعدم الاهتمام بحاجات المواطنين الحيوية.
دور العبادة: في البلدة مجلس / مسجد عبادة للموحدين المسلمين الدروز، وكنيسة للروم الأرثوذكس.

مبنى مجلس الموحدين المسلمين الدروز من الخارج

المراجع:

1. الصغير، سعيد، بنو معروف في التاريخ، ص:381.2.
2. نصر، إسماعيل متعب، السويداء بين الزمان والمكان، ص 204.
3. أبو عساف، علي، الآثار في جبل حوران، ص 164.
4. رايت وليم، مغامرات بين خرائب باشان، ص 133ـ 134، تر: كمال الشوفاني.
5. رزق، عادل، مقابلة في 20 تموز 2020.
6. عْمار أبو الحسن، صالح، ديوان شعر شعبي، ص 9.
7. الأطرش، يوسف حسن، مقابلة 15 حزيران 2020.

الرَّحى

تشكل الرّحى حاليًّا أكبر تجمّع سكّني في محافظة السويداء بعد مدينة السويداء نفسها، أمّا في قديمها فقد أشار إليها العالم الآثاري علي أبو عساف إذ ذكر بأنّها «من القرى القديمة الهامّة، وذكر المؤرّخون القدامى أنّ مياهها قد جُرَّت بقناة إلى السويداء. وكان فيها معبد للربّة اللات (أثينا، عند اليونان القدماء). وكتابات يونانيّة، وبعض أجزاء البيوت القديمة»(1)، ومن الثابت أنّ ازدهارها في القديم مُتزامن مع ازدهار السويداء وقنوات منذ العصر النبطي والروماني والبيزنطي المسيحي / الغساني /.حيث كانت مُحاطة بسور قديم وإلى الشرق منها مسافة 2كلم تقع خربة «خراشة» وبقايا دير أثري قديم يُعْرَف باسم «دير حَنّا» يقع وسط الحرش على مسافة 4 كلم منها، وهناك آثار دير حبيب شمال شرق القرية نحو 3كلم وإلى الغرب منها تقع عين الحنيش على مسافة نحو 100م، وكان بها مطاحن مائية إحداها جنوب القرية على وادي المَلَز وأخرى غرب كوم خراشة نحو 300م.وكان فيها بقايا جامع إسلامي (في دار يوسف عباس أبو راس حاليّاً).
وفي الرّحى مَزار يُدعى بـ «السلطان سليمان» وفي جداره الجنوبي حجر مثقوب يدعى حجر الغَشْوَة لِمَنع وقوع الأطفال في الغَشْوة، إذ يُمَرّر الطّفل منه ثلاثاً فيشفى.
عندما ضعفت الدولة العثمانية، خاصة في قرنيها الأخيرين؛ الثامن عشر والتاسع عشر ازداد خطر الغزوات البدوية حتى كاد الجبل أن يفرغ من سكانه خصوصاً على أطرافه الجنوبية والشرقية والشمالية.
وقبل أن يتوطّنها بنو معروف الموحّدون قبيل أواسط القرن التاسع عشر كانت الرّحى قرية ضئيلة الشأن كما نعتها الرحّالة بركهاردت عندما مرّ بها عام 1810 ولم يذكر شيئاً عن سكانها الذين كانوا من غير سكانها الحاليين، ويبدو أنَّهم لم يُحسنوا استقباله فنعت قريتهم بـ «الحقيرة»(2). وكانت حينها قرية مسيحية صغيرة تقطنها عائلات مسيحية من أصل غساني تنتمي لعشائر الكَركية والمرجيّة وكانت الرحى في العقدين الأوَّلين من القرن التاسع عشر واسعة المراعي التي تصل إلى قرية سالة على الطرف الشرقي من الجبل، يسكنها آل النمير والجهيّم والخوري وشليويط… (وقد انتقل هؤلاء إلى سُكنى السويداء كآل الجهيم وإلى قرية الدارة كآل شليويط وخَرَبا كآل الخوري وآل الجابر إلى الأصلحة غرب السويداء). كانت قرية غنية بالينابيع أغزرها عين خراشة وعين الخشبة شرق البلدة وعين الدِّمْشِق جنوب شرقها وعين الحصوة غربها كما كان في القرية مطخان لجمع مياه الشتاء وسيول الينابيع لسقاية المواشي ويرجّح أنّ أصلهما مقالع لأحجار البناء استفيد منهما لهذا الغرض أحدهما مكان الموقف الحالي يأخذ ماءه من وادي القرية (وادي المزار)، والثاني مطخ النوفرة ويقع في الحديقة الحالية للقرية. وقد رُدم كلاهما بعد إنشاء شبكة مياه الشرب في القرية.
أمّا سكن العائلات المعروفيّة فقد بدأ نحو أربعينيات القرن التاسع عشر(3).
وفي معنى اسمها: الرّحى جمع أرحاء، وتعني الصّدر. وسيّد القوم يقال فيه: هو رحى قومه، والرحى: الطاحون، والراجح أنّ اسمها جاء من تعدّد الطواحين على أوديتها السيلية وينابيعها.
وتتبع الرّحى منطقة السويداء وتبعد عنها 5 كلم إلى جهة الجنوب الشرقي وتتصف بطبيعة أراضيها الحجريّة الجبلية خاصة من جهة الشرق، بينما تميل بلطف إلى الغرب منها حيث ينحدر سطحها بشكل أمْيَل للسهولة، وكانت في قديمها قرية غنيّة بالمياه، ويشير سعيد الصغير أنّه في القرن الثاني للميلاد بُني في السويداء معبد لآلهة المياه كانت مياهه مجلوبة بأقنية من قرية الرحى(4).
وترتفع القرية 1250 م فوق سطح البحر، وهي قرية قديمة العمران، وفيها معبد وثني يحمل اسم الآلهة النبطيّة اللات(5).
ويذكر اللبناني عبد الله النجار ـ مدير معارف جبل الدروز عام 1924 ـ اسم الشيخ فرحان أبو راس قاضي الدم (من قرية الرحى بين عامي 1915ــ 1959) من بين زعماء وشيوخ القرى الذين شيّدوا أركان الجبل قبل نحو مئة عام(6).
عام 1981 كان عدد سكانها 2930. أمّا اليوم فيقطنها نحو 25000 نسمة وفدوا إليها من سائر قرى الجبل بحكم قربها من مدينة السويداء مركز المحافظة التي تستقطب الكثير من الموظفين والعاملين في المهن المختلفة، بالإضافة إلى وافدين من خارج المحافظة منهم نحو 150 أسرة من دروز إدلب وآلاف آخرون من المحافظات السورية وفدوا بتأثير المحنة السورية بعد عام 2011..

بشير الشهابي الثاني يلجأ إلى قرية الرّحى في جبل حوران
جانب من غابة الرحى

ويذكر الشيخ عباس مسعود من بلدة الرّحى في كتابه «موجز تاريخ العالم»، أنّه لما مات الكُرجي ـ سليمان باشا ـ خلفه على ولاية عكا (عبدالله الجزار ) وكان فتىً لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره (هو نجل أحد كبار أرباب الدّولة في الآستانة)(7) وعندما أصبح حاكما لسواحل سورية الجنوبية، (وهو إذا لُقِّب بالجزار) فلكثرة ما سفك من دماء كسلفه أحمد الجزار لأنّه أكثر طموحاً منه ولم يتحرّج عن المُصارحة برغبته في خلع السلطان محمود الثاني وتتويج نفسه خليفة للمسلمين، ونقل العاصمة من الآستانة إلى عكّا، فكان طبيعيّاً أن يلحّ على الأمير بشير التابع له بطلب المال ليُفْقِرَه ولا يترك له فرصة لتقوية نفسه، فلمّا عجز بشير عن تلبية مطالبه انسحب إلى حوران عام 1820، وقد نزل الأمير بشير الشهابي ومعه كتيبة من جنده الفرسان في جبل حوران الدروز وكان الأمير بحاجة إلى من يقدّم له ولجنده الغذاء الكافي، وكان (حينها) زعيم البلاد ابن حمدان بمدينة السويداء فجمع لديه شيوخ القرى وسألهم: من يستطيع أن يلتزم تقديم الغذاء للأمير بشير وجنده فقالوا لا يستطيع أحد أن يقدّم هذا الطلب إلّا الخوري سلمان النّمير في قرية الرحى فأقرّ رأي الجميع على ذلك ونزل الأمير بشير على نبع «خْراشة» وكان الخوري يملك حينئذٍ أكثر أراضي الرَّحى ويملك من المواشي عدداً يزيد عن الثلاثة آلاف رأس من البقر والغنم والماعز فاستقبل الخوري الأمير بغاية من الاحترام وصار يقدم له جميع ما يلزمه من رز وبرغل وذبائح وسمن وجميع المواد الغذائية الموجودة حينئذٍ
وبعد أن اجتمع مشايخ الدروز وكبار الموارنة في قرية السمقانية بلبنان وقرروا رجوع الأمير جاء الأمير إلى عند الخوري سلمان وعرض عليه كي يستلم ثمن ما قدّمه ويقال إنّ المبلغ يزيد عن ألف ليرة ذهبيّة فقال الخوري أنا قدّمت طعام الضيافة للأمير ولا يمكن أن آخذ قرشاً. فقال الأمير: الضيافة تكون للأفراد وبعض الجماعات لكنّها لا تكون للكتائب والجيوش فأبى الخوري أن يستلم شيئاً…»(8)..

سكان الرحى الحاليون
الشارع العام

أقدم من سكن الرحى من العائلات المعروفية هم آل أبو راس، قطنوها نحو عام 1840 وعميدهم حينها عثمان أبو راس وهم عشيرة عربية قحطانية «وهم منتشرون في عدة أقطار عربية… الفرع الدرزي منهم ارتحلوا من الحجاز إلى العراق ونزلوا أخيرًا في الموصل ثم انتقلوا إلى حلب في حدود القرن الثالث الهجري زمن التشتت القرمطي على الأرجح وهذا حال عائلات درزية كثيرة غيرهم ثم حدث لهم ارتحال جديد زمن الحروب الصليبية ويذكر شيوخهم أنهم سكنوا كفرقوق (من حواضر راشيا)، وقد ارتحلوا عن وادي التيم سنة 1792 وقصدوا الجبل نحو عام 1805(9).
نزل جدهم عثمان أبو راس في القريا ومعه أخوه محمّد وأبناء عمه علي ومراد ونصر الدين، وقد ترأس عثمان سكّان القريا الأوائل ومنهم البلخيّة الحوارنة مدة 25 سنة ثم انتقلت الأسرة من القريا إلى العفينة فَعَيْن مَصادّ (قرية مصاد الحالية) فالرّحى، وقد عقد آل أبو راس مع مسيحيي الرحى حلفاً بالتآخي على النار والدم. لأن آل أبي راس الدروز هم أزديون يمانيون كالغساسنة المسيحيين اليمنيين أصلاً. وفيما بعد أخذ آل أبو راس مكان آل الخوري الذين انتقلوا إلى خربا بالتراضي بين الفريقين كما يقول الرحّالة حنّا أبوراشد، ومن الراجح أن سكن آل أبو راس للرحى يعود لعام 1840، ومن رجالهم فيها من مارس قضاء الدم قديماً وحديثاً ففي عشرينيّات القرن الماضي كان منهم القاضي هاني أبو راس، ومن الأسرة فصيل يسكن في بلدة نيحا الشوف وينتمون لتجمّع بني خميس»… ومن العائلات التي استوطنت في الرحى إلى جانب آل أبو راس آل كنعان وهؤلاء أصلا من آل شنيف قدموا من جبل الشوف من دير القمر، وكانوا قد سكنوا برهة في عين وزين بعد ترحيلهم من منازلهم في دير القمر، ولما انتقلوا إلى جبل الدروز كما كان يدعى في حينه سكنوا في خربة المجيدل جنوب غرب السويداء، وقد عرض عليه شيخ الدروز الحمداني حينها سكنى السويداء على أثر خلاف بينه وبين آل قطيش، لكن محمّد أبو راس شيخ قرية الرحى شجّعه على القدوم إليه في الرحى، إذ قال له «هذه القرية بيت شَعْر ومراعٍ واسعة لمواشيك في فضاء البرّية» وأعطاه ربع أراضي القرية وكان الرجل يمتلك أعدادا كبيرة من المواشي منها أغنام نحو 400 رأس ونحو 40 بقرة حلوباً وثلاثة أفراس كحايل تُسقى من الحليب وكان في الرحى ثلاث مضافات الأولى لآل أبو راس والثانية لآل كنعان والثالثة لآل أبو صعب وممّا يجدر ذكره أن آل كنعان هم أخوال الأمير السيد وأخوال الشيخ أبو حسين محمّد الحناوي.
ومن عائلات الرحى آل أبو غازي والحلبي وعلوان وأبو زكي ومنذر والأعوج ورباح وأبو درهمين وعبد الخالق وأبو غاوي والشعّار وعقل وأبو حمزة وهي عائلات لبنانية الأصل بمعظمها …وهناك المئات من الأسر الوافدة من حواضر الجبل وغيرها وقد تملّكت بيوتا في الرحى لقربها من السويداء مركز المحافظة ويبلغ عدد الكُنى 365 كنية من غير عائلات الرحى الأصليّة…
وكانت بعض الأسر البدوية تسكن في البلدة لكن وبسبب من التعديات على الكروم والمزروعات نشبت فتنة تسببت بترحيلهم من الرّحى عام 2000.

مصادر الرزق في الرحى

تتعدد مصادر الرزق في البلدة وأبرزها زراعة الحبوب والكرمة والتين والتفاح واللوزيات كما يربون الأبقار والدواجن ويعملون بالتجارة والأعمال الحرة والوظيفة في دوائر الدولة والخدمات العامة يضاف إلى ذلك؛ الهجرة والاغتراب في الخليج وفنزويلّا والعديد من دول الخارج، وتشكل الحوالات التي ترد من المغتربين مصدراً هاما من مصادر الرزق للمواطنين المقيمين في الرحى وهناك كثيرون يرددون عبارة شائعة على الألسن تقول: «لولا الحوالات لجاعت السويداء..».
وفي البلدة ثلاثة آبار جوفية أحدها على عمق 1200م لتزويدها بمياه الشرب

الزراعة وتربية الحيوان:
قبل أن تصبح الرحى بلدة خدمات، هي بالأصل قرية زراعيّة تبلغ مساحتها العقاريّة 14000 دونمًا، منها 8000 دونم أراض زراعية، ونحو 4000 دونم هي مساحة المخطط التنظيمي، و2000 دونم أملاك دولة من ضمنها حرش الرّحى وسُرُر الوديان وتوجد بعض المناطق الإدارية داخل القرية القديمة تحت تصرّف البلدية ومنها ما وُزِّع للمنافع العامّة لبناء مدارس أو حدائق أو محاضر تخص البلديّة، (حديقة واحدة مساحتها نحو 1000م2 وساحات عدد 4 مساحتها نحو 4000م2).
وبعد أن صُنفت البلدة ضمن منطقة الاستقرار الأولى تراجعت زراعة الحبوب فيها لصالح زراعة الأشجار المثمرة وهذه من أهم زراعتها حاليًّا.
الزراعات في بلدة الرحى
الزيتون ويشغل: 3015 دونمًا إذ تؤمن الاكتفاء الذاتي فقط حيث لا جدوى اقتصادية مُغرية منه بسبب الارتفاع عن سطح البحر ونقص كميّة الأمطار التي يتراوح متوسّطها السنوي بين350 ــ 400 ملم3. وقد يتراجع إلى ما دون ذلك في سنوات الجفاف. ومن المعروف أنّ شجرة الزيتون تتطلب 800 مم3 سنويًّا، ويزرع الزيتون في الأراضي الواقعة إلى الغرب من طريق الكفر ــ السويداء المارّ بالرّحى. أمّا:
التفّاح: فيُزرع إلى الشرق من البلدة ويشغل مساحة 2773 دونماً، ويبلغ عدد الأشجار 69325 شجرة، بالإضافة إلى كروم العنب والتين بمساحة نحو 1000 دونم (25000 غرسة)، واللَّوز (6000 شجرة) والكرز…
الحبوب: تراجعت إلى نحو 375 دونماً تُزرع بالقمح والشّعير والحِمَّص..
تربية الحيوان: في الرحى 159 بقرة حلوباً ودواجن وطيور تربّى في المنازل…
الجمعية التعاونية الزراعية: تقدم خدمات للفلّاحين بسعر التكلفة من المصرف الزراعي كأعلاف الأبقار الحلوبة والغراس على أنواعها والعمل على شق الطرق الزراعية وتعبيدها مجاناً وعقد ندوات توعية زراعية للمزارعين وإجراء دورات تدريب زراعية حقلية للزيتون والتفاح ودورات إرشاد زراعي وإذاعة مواعيد الرش للأشجار المثمرة وعرض كافة البيانات للأخوة الفلاحين فيما يتصل بأصول الزراعة حسب التنظيم الزراعي. وتعمل على طلب دعم الفلاحين ماليّاً في حال حدوث صقيع والتعويض على المتضررين من قبل الجهات المختصة في الدولة.
ومن المشكلات التي تواجه مزارعي البلدة تراجُع جَوْدة وفعالية الأدوية الزراعية والمبيدات، إذ أصبحت مسألة استنفاع وغش، بالإضافة إلى عدم فعاليّتها فإنّها تضر بإنتاج المزارعين…
كما يوجد في البلدة 45 براداً لحفظ الفواكه كالتفاح وغيرها متوسط سعتها 1000طن للبرّاد الواحد، وفرن يخبز يومياً 2طن من الطحين، ومحطتا بترول ومركزين لبيع المازوت للمواطنين.
وفي البلدة 3 صيدليات و 3 أطباء أسنان وطبيب عام ومعمل للأوكسجين الصناعي يعمل فيه نحو ثلاثين عاملاً وعاملة، ومعصرة زيتون ومعمل للراحة وثلاثة محلات لصنع الحلويات وأربعة معامل لصناعة أحجار البناء الإسمنتية، و 6 محلات لتصنيع الخشب (موبيليا) و 5 محلات حدادة أفرنجية ومحل خياط عام واحد و 2 محل كهرباء سيارات و 2 محل ميكانسيان و 2 محل كومجي (دواليب) و8 محلات ألبسة و 5 محلات أدوات صحية و3 محلات لبيع الفرّوج ولحام بقر واحد و13 محلاً لبيع الخضار والفواكه و 40 محلّاً سمانة وتوابعها و 2 محل تصليح الدراجات النارية ومدرسة لتعليم قيادة السيارات.

بعض من الآثار
شخصيات هامة في تاريخ الرحى

اشتهر الشيخ أبو يوسف حمد أبو راس كقاض للدم اصطلح عليه في الجبل والشيخ أبو حسن مرعي أبو صعب كمجبّر مجّاني لكسور العظام على مستوى محافظة السويداء. وخارجها.
والشيخ أبو حمد عباس ملحم مسعود معلم مدرسة ضليع في اللغة العربية ومرجع واسع المعلومات وله كتاب «موجز تاريخ العالم».
وهاني أبو صعب الذي تصدى لحملة الشيشكلي التي هدفت لاعتقال سلطان باشا الأطرش وقد استشهد في حرش السهوة غرب طريق الكفر …
وفيّاض جودية الذي ترك أسرته في عريشة في الكرم وذهب مجاهداً ضد الفرنسيين في معركة المسيفرة استشهد هناك…
والباحث في التاريخ الشيخ فؤاد أبوراس وله عدة كتب في ذلك منها: تاريخ البريد، ويوميات الثورة السورية الكبرى، وقبائل تنوخ وأيامهم المشهورة والنزوح السكاني إلى جبل حوران، وسنفرد له بحثاً خاصاً في عدد لاحق.
الدوائر والمرافق العامة البلدية: تؤمّن تخديم مواطني البلدة البالغ عددهم نحو 25000 ألف نسمة، حيث تشرف على إنارة الشوارع (2000 نقطة ضوئية بنسبة تخديم 70%) وتشرب البلدة من ثلاثة آبار جوفية تخدّم 85% من بيوتها عبر شبكة مياه الشرب، وتعمل على تعبيد وتزفيت الشوارع التي يبلغ طولها 65 كلم تخدّم 66% من السكان وتراقب المحلات التجارية وتمنح تراخيص البناء والتراخيص الإدارية وتنظيم الأراضي وتبلغ نسبة البيوت المخدّمة بشبكة الصرف الصحي البالغ طولها 67 كلم، 77% من بيوت البلدة، والبيوت المخدمة بالكهرباء 100%.
جمعية الهلال الأحمر: رئيسها السيد عدنان أبو راس، وقد أفادنا أن الجمعية تملك مبنى مساحته 175 م2 مهيّأ كمركز صحي يستقبل طبيب أطفال يوماً في الأسبوع ويراجعه نحو خمسين مريضاً وطبيبة نسائية يوماً آخر، كما يستقبل عيادة شاملة متنقلة كل شهرين مرّة، وفي المبنى مخبر يعمل يومياً على تحليل السكر لزائريه مجّاناً وهناك عشرون متطوعاً من ممرضين شبان وشابات من القرية يقدمون الخدمات الطبية لرواد المركز…
وفيه يتم تقديم مساعدات، سلال غذائية على الوافدين من المحافظات السورية المنكوبة وعلى المحتاجين من أسر الشهداء والجرحى والمعاقين بواقع 350 سلة غذائية.
كما يتم تقديم مساعدات مادية وعينية للأسر الفقيرة وللطلاب الجامعيين المحتاجين وتعمل على تكريم المسنين وتقديم الهدايا لهم وتوزع عكّازات (65 عكازاً) وأسرّة طبية للعجزة و(ووكر للمشي) وأدوات طبِّية وكراسيَ للعجزة على شكل إعارة وقناني أوكسجين لمرضى الربو ويتم دعم هذه الجمعية من قبل متبرّعين من داخل الرحى وخارجها وتساعد الجمعية في تقديم قرطاسية وأقلام وحقائب لطلاب المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في الرحى بالإضافة إلى تقديم المساعدات للطلاب الجامعيين الفقراء وعددهم عشرون طالباً بواقع 3000 ل.س شهريّاً لكل طالب
وتعمل على تأهيل وتدريب الكوادر على كيفية إعطاء الحقن الطبية والإسعافات الأوّلية…
وتتعاون مع عيادة سنية في البلدة تخفض 35 بالمئة من تكلفة العمل.
الجمعية الخيرية في البلدة: رئيسها الأستاذ غسان أبو راس وقد أفادنا أنّ الجمعية تأسّست عام 2010، بهدف رعاية الأسر المحتاجة وتقدم مساعدات عينية من ألبسة وأغذية كما تقدم الدعم المالي والمعنوي في المناسبات لأسر الشهداء والأمهات وتقوم بتقديم الدعم المالي لطلاب الجامعة المستحقين بواقع 5000 ليرة شهريّاً لـ 25 طالباً وطالبة واللباس الشتوي لتلامذة المدارس المستحقين (سترة وطاقية ولفحة وخفافة وجرابات لـ 310 طلاب)، كما تقدم 50 سلّة غذائية شهريّاً من أرز وسكر وزبدة ولبن وزيت للأسر المحتاجة
ويبلغ عدد أعضاء الجمعية 800 عضواً من أبناء البلدة وتتلقّى المساعدات من المشتركين وأهالي البلدة والمغتربين وتقوم بالإضافة إلى ذلك بمشاريع توعية للمواطنين على مخاطر المخدرات وإقامة معارض لرسوم الأطفال.
كما تملك مستودعاً للأجهزة الطبية يقدم أسرّة طبّية مُخدّمة للمعاقين على شكل إعارة مجانية (16 سريراً) وثماني كراس ٍطبيّة مدولبة ومخدّمة للمقعدين وثماني أُخرى غير مدولبة وووكر لمساعدة المصابين بعجز عن المشي، وعصي وووكر للأطفال وعكازات وأسطوانات أوكسجين لمرضى الربو عددها ثماني أسطوانات تتم تعبئتها بنصف الكلفة مساهمة خيريّة من معمل الحلّال (750 ليرة سورية بدلاً من 1500ليرة)، وأربعة أجهزة رذاذ لمرضى الربو وضيق التنفس.
كما تقيم الجمعية دورات تقوية مجانية لطلاب الصف التاسع والثاني عشر بنصف الأجر سابقاً وستكون مجانية لهذا العام.
وتسعى الجمعية لاستملاك قطعة أرض وبناء مكاتب كمشروع استثماري وصالة أفراح وبرّاد تفاح خاص بها.
كما تقيم الجمعية أمسيات شعرية ومحاضرات ثقافية ودينية تبين أصول علاقة الفرد بالأسرة والأسرة بالمجتمع وتعمل على نشر ثقافة العمل الخيري وتوضيح مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال وأضرار المخدرات.
وفي الرحى فرقة فنون شعبية تراثية منذ 1970 ونادٍ رياضي ومجلس عبادة للموحدين الدروز بناؤه يوحي بالبساطة والغنى الرّوحي الذي يتمتع به الموحّدون الدروز(10).


المراجع:

1. أبو ساف علي، الآثار جبل حوران، ص 157.
2. بركهاردت، رحلة في جبل حوران، تر: سلامة عبيد، ص 21.3.
3. مقابلة مع الباحث في التاريخ فؤاد أبو راس، في 15/3/2020.
4. الصغير، سعيد، بنو معروف في التاريخ، 358.
5. نصر، إسماعيل متعب، السويداء ص 90.
6. النجار، عبد الله، بنو معروف في جبل حوران، ص 126، 456.
7. الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، ص 55.
8. مسعود العريضي، عباس، موجز تاريخ العالم، ص 455ــ 456.9.
9. عمّار، يحيى حسين، الأصول والأنساب، ص 9.10. المصدر نفسه
10. أبو الحسن، صالح عْمَار، ديوان شعر شعبي، ص 16

القضاء العشائري في جبل الدروز

“الأمير حسين الأطرش أحد أركان الوجاهة والقضاء العشائري في الجبل
الرّحّالة الأميركي ويليام ب. سيبروك

 

كان الفرنسيّون يعتبرونه “لِصّاً فظّاً قاطع طريق” لأنّه كان مع سورية حرّة مستقلّة، وكان أحد قادة الثّورة العربيّة من بني معروف ضدّ العثمانيّين، فاوضَ وقاتل من أجل دولة عربيّة كبرى؛ غدر الإنكليز والفرنسيّون بمشروعها، وتخاذل العرب وملوكهم وحكّامهم دون ذلك الحلم العربيّ، ومن الجدير ذكره أنّ الأمير حسين الأطرش كان كريماً ــ طعّام عيش ــ وقاضياً يأتي النّاس إليه ليفضّ مابينهم من خلافات دون اللّجوء إلى المحاكم، وهو من مواليد 1880م وتوفّي عام 1962.

فيما يلي توثيق لبعض من حياة ذلك الرجل ولنموذجين من قضاء بني معروف العشائري قبل نحو قرن من الزّمان، ذلك القضاء الذي رغم صرامته وقسوته ساعد على تثبيت الأمن والاستقرار في منطقة لم تكن لتعرف العمران والأمن؛ لو لم يتّخذها الدّروز موطناً قَسْريّاً لهم، بديلاً عن مواطنهم السابقة في لبنان وشمال سورية وشمال فلسطين…

الرّحّالة الأميركي ويليام ب. سيبروك وزوجته كاتي William Buehler Seabrook, زارا جبل العرب عام 1925(1)، توجّه سيبروك وكاتي إلى عَنْز ليقصدا على حدّ تعبيره: “زعيماً كبيراً من زعماء الحرب الدّروز من العائلة ذاتها (آل الأطرش)، وهو حسين باشا الأطرش، زعيم قرية عَنْز، يقول: “كان علينا أن نتخلّى عن الكاديلاك ونلجأ إلى الجِمال، كانت دار حسين باشا التي وصلناها بعد الغروب مَعْقِلاً حصيناً ضخماً على سفح تلّ، وقد تراكمت تحتها على المُنْحدر مئات المنازل ذات السّقوف المُسْتوية والجُدران الحجريّة السّميكة.

ضِيافة مُترَفة

 

استقبَلَنا الخدم عند مدخل الدّار، وتبعونا قائدِيْنَ جِمالنا إلى الباحة حيث الزّرائب ومخازن الحبوب. كانت درجات ضيّقة ومُنحدِرة ومُستقيمة طولها أكثر من مئة قدم تؤدّي إلى مصطبة مُعَمّدة ( أي ذات أعمدة) تشرف على الوادي، دخلنا من المصطبة إلى غرفة الاستقبال وكانت غرفة عالية السّقف ومُتْرَفة الفرش على النّمط الشّرقيّ إضافة إلى أثاث أوروبي مُنَجّد ومُزخْرف جُلِب خِصّيصاً على ظهور الجمال من دِمشق، ففي إحدى زوايا الغرفة وُضِعَ سرير أوروبيّ كبير فخم عالي القوائم تعلوه ظُلّةٌ مُتْقَنة الصّنع.

دخل حسين باشا إلى غرفة الاستقبال بعد لحظة من وصولنا. انحنى لنا معيداً لكلّ واحد منّا: “أهلاً وسهلاً، شرّفْتم بيتنا”. كان رجلاً بديناً وقصيراً في منتصف العمر، ووجهه ينمّ عن قوّة عظيمة، وكان يلبس على رأسه لباس أمير عربيّ: كوفِيَّة حريريّة بيضاء ثبّتها في موضعها عصابة مُزْدوجة مذهّبة، وعباءة سوداء مُطرّزة بالخيوط الذّهبيّة والفضّيّة وعلى كلّ حال اتّضح لنا فيما بعد أنّه قد ارتدى هذه الحُلّة الفاخرة كرامةً لنا ليس غير، إذْ إنّه لبس في الأيّام التّالية لباس العربيّ العاديّ.
خرجنا بعد غروب الشّمس وجلسنا على المصطبة الأكثر اعتدالاً، في حين كانت المصابيح والقناديل تُعَلّق، وما لبث أنْ أتى أولاد حسين باشا مُضطَرِبِيْن من الحَياء لاستقبال الضّيوف الغرباء، كان الابن الأكبر ــ في السابعة عشرة ــ مضفور الشّعر، ولباسه مثل لباسه ( أي مثل لباس الأب الأمير)، والابن الثاني صَبيّاً في الثّانية عشرة شعره مُنْسَدل على كتفيه مثل شَعر غُلام الفارس في العصر الوسيط وكان لابساً ثياباً مُخملة حمراء، والثّالث في الخامسة، وكان يرتدي زِيَّ الجيش البَرِيطانيّ، وقد فُصِّل على قَدِّه في القُدس، والرّابع كانت طفلة في الثّانية أُحضرت للجلوس على ركبة حسين باشا قبل العشاء، وكانت مثل دُمْيَة- أو أميرة في حكاية من حكايات الجِنّ ثمّ إنّ عينيها كانتا مُكَحَّلتين ووجهها مصبوغاً صبغاً دقيقاً، وفنّياً وشعرها مجدولاً مع قِطَع ذهبيّة، وجواهر لامعة، وأطراف أصابعها مُخَضّبة بحنّاء أكسبتها لون الفجر الورديّ وبالأصابع تلك كانت تشدّ شاربيّ والدها العاتي التي كانت تعبده.

المدرج الروماني الأثري في مدينة السويداء
الأمير على حقيقته

 

قدّم لنا العشاء على المصطبة خادمان كأنّهما قد خرجا من كتاب “ألف ليلة وليلة” بثوبيهما الواسِعَين، وخِنْجرَيهما المُرصّعين بالجواهر. ولكن مع أنّهما شكّلا خلفيّة تاريخيّة ترجِع إلى عصر هارون الرّشيد، فإنّ الوجبة كانت “حديثة” حتى اللّمسة الأخيرة. كان على المائدة الطويلة غِطاء نظيف وكثير من الأواني الفضّيّة وأكواب طويلة السّوق وخَزَف سيفر Sevres.

أخذ حسين باشا يعيد مرّة بعد أُخرى بالإنكليزيّة والفرنسيّة معاً من أجل مساعدة كاتي على فهم حكاية مهذّبة كان قد حكاها بالعربيّة حول يهودي واثنتي عشرة بذرة بطيخ، قاطع الحكاية مؤقّتاً طبق حجل. وبما أنّ حسين باشا من أهل الدّار، فقد قبض وهو شارد الذّهن أحد الطّيور بيد المُحارب القويّة. وقضم قطعة ملكيّة منه بكلّ لحمها وعظمها وغضاريفها.

لقد أحببته من تلك اللحظة، فبعد الارتباك الذي انتابه، وفكّاه يمضغان تلك القضمة الكبيرة أخذ يبتسم معتذراً، وقال: ” مُلتفتاً إلى كاتي: “أرجو ألّا تلوميني ياسيّدتي، لقد تعوّدت ذلك من طول مرافقتي للإنكليز الذي يأكلون الطّيور بالأيدي”.
إنّ الأيّام التي قضيناها في عَنز هي من أجمل ذكرياتنا عن بلاد العرب لقد أُتيحت لنا الفرصة خلالها أن نحتكّ أكثر بالحياة التي لم يطرأ عليها أيُّ تغيير في قرى الجبل النائية.

نموذجان من القضاء الدّرزيّ

 

وفي عصر أحد الأيّام صَحِبني حسين باشا إلى اللّجاة لأحضر محكمة قرويّة يُقام فيها العدل الدّرزيّ، جرى ذلك في مقعد شيخ القرية الذي كان هو نفسه القاضي، جلس معه شيوخ ووجهاء آخرون، والمدّعي الذي كان فلاّحاً مسيحيّاً من حوران وقف أمامه يندب حمولة أربعة جمال من الحبوب كانت قد سُلبت منه في اللّيلة السّابقة، سُمِح له بأن يقدّم شهوداً من الدّروز ليدعمَ أقواله، وبعد التّباحث، أصدر الشّيخ الكبير الحكم: “حتى لو لم يكن الذي سلبك قمحك دُرْزيّاً وحتى لو كان الجاني بَدويّاً أو أيّ رجل غريب آخر، فإنّ العيبَ يُنْسَب لنا، والمسؤوليّة تقع علينا، بما أنّك كنت ضيفاً في قريتنا. فمن مخازن القرية العامّة سيُعاد إليك قدر ما فقدت من الحبوب في الحال ونحن الآن نطلب منك رسميّاً أن تقبل اعتذارنا”.
وفيما بعد حاول الشّيوخ أن يعثروا على اللّص، وكان واضحاً أنّ ذلك تفصيل لا أهميّة له.
سألت حسين باشا عن العقوبات التي تُنزَل بالجناة في آخر الأمر.
قال: ” يوجد في السّويداء سجون تخضع للقانون الفرنسيّ أمّا نحن فليس عندنا سجون، فإذا كان الجاني غريباً يُغَرّم ويُمْنّع من الدّخول إلى جبل الدّروز مرّةً أُخرى، وإذا كان درزيّاً يُغَرّم أيضاً ويُعفى عنه إذا كان ذنبه بسيطاً. أمّا إذا كان الذّنب يتعلّق بالشّرف، فإنّ الخِزي والعار الدّائمين هما عقوبته الأشدّ.
قلت له: “ولكن هناك بالتّأكيد جرائم لا يشكّل العار عقوبة كافية عليها”.
فأجاب: “عقوبة ذلك هي الموت طبعاً”.
وفي طريق العودة روى لي هذه القصّة.
قال: “نحن الدّروز لانُحْسِنُ التّجارة. إنّ أكثرَنا لايُحْسِن إلّا القتال، ومن أجل بناء منازلنا نستقدم بنّائين من لبنان. منذ عامين قدم من الشّوير بنّاء مسيحيّ إلى قرية الشّيخ عامر ليبني منزلاً جديداً لأحد الأغنياء. أحضر هذا البنّاء معه زوجته الشابّة الجميلة التي لاتلبس الحجاب، شأن النّساء المسيحيّات جميعاً، ولمّا أوشك بناء المنزل أن ينتهي، ذهب شقيق الشّيخ عامر الأصغر ذات يوم إلى بيت البنّاء واغتصب زوجته.
أخبرت المرأة زوجها في الحال فخاف الرّجل، وحزم أمتعته كلّها وحمّلها على حمارين، ورحل مع زوجته ليلاً. وفي صباح اليوم التّالي لحقه صاحب المنزل على حصانه، وسأله عمّا دعاه إلى الرّحيل قبل إنجاز العمل. فأجاب المسيحيّ: لقد خسرت شرفي، وإذا قلت لك السّبب خسرت حياتي أيضاً، والرّجل الذي أساء لي درزيّ يخشاه حتى الدّروز فما الذي في وسعي أنا المسيحيّ أن أفعله ردّاً على ذلك؟ فأرغم صاحب المنزل المسيحيَّ على إخباره بما حدث، ثمَّ عادا معاً إلى القرية.

قوس النصر في مدينة السويداء

مضى رأساً إلى الشّيخ عامر وقال: أنت وأنا والقرية خَسرنا شرفنا، ولايمكن أن نستردّه إلاّ بسفك الدّم. وأعقب ذلك اجتماع كبير للزّعماء والمحاربين، وحضر الاجتماع الشّقيق المذنب نفسه، وكان شاكي السّلاح مثل الآخرين. وقف الفرسان مشكّلين حلقة كبيرة. في حين جلس في حلقة أصغر نحو أربعين شيخاً وزعيماً. قدّم لهم القهوة خدم الشّيخ عامر الذي كان المُضيف. كان الاجتماع عُقِد خارج القرية.

وقف بعد ذلك الدّرزيّ الغنيّ الذي لم يُنْجَز بناءُ منزله، وقال: “ياشيخ عامر! افترض أنّك فقير، وقصدت قريةً أنت وزوجتك للعمل بين الغرباء، وافترض أنّ رجلاً من القرية دخل، وأنت تعمل إلى مسكنك، واغتصب زوجتك!”.
هبّ الشّيخ عامر واقفاً واستلّ سيفه بغية قتل المتكلّم ــ لا لأنّه ظنّ أنّ الأمر يخصّ شقيقه، بل لأنّ الإشارة إلى زوجته في سياق قبيح أغضبه. غير أنّ الشّيوخ الآخرين انقضّوا عليه، وأوقفوه، وقد فَهِموا معنىً خَفِيّاً في كلمات صاحب المنزل.

استأنف صاحب المنزل كلامه: “اقتلني فيما بعد إذا شئت. ولكن أجب الآن عن سؤالي: إذا وقعت هذه الكارثة، فما العقوبة التي يجب أن تنزل بالجاني؟”.
أجاب الشّيخ عامر: “يجب أن يموت بلا رَيب”.
ــ افترض أنّ دُرزيّاً فعل فعلة مُماثلة؟
ــ يجب أن يموت حتّى لو كان ابني.
ــ هل تؤيّد هذا الحُكم؟
ــ أعيد: يجب أن يموت حتى لو كان من لحمي ودمي.
صاح المتكلّم: هل هذا هو حكم الجميع؟
فأجاب الشيوخ: أجل إنّه حُكْمُنا.
أُحْضِرَ المسيحيُّ وقد أُرتِج عليه من الخوف. فقال صا حب المنزل بعد أن روى الحكاية نيابة عنه: آمرُك أن تُشير إلى الفاعل”.
فأشار إليه البنّاء وهو يرتجف. وانجلت الحقيقة. وبحسب التقاليد، فإنّ أسرة الجاني هي التي تُنزل به عقوبة الموت. لذلك قَتَل الشيخ عامر شقيقه هناك، وبذلك تحقّق العدل.

الأمير الحضاري

 

هذا الرّجل الذي روى لي هذه الحكاية الدّامية عن عدالتهم الفظّة، جلس بعد ساعة في بستانه، وعلى ركبتيه طفلان يتجاذبان عباءته. كان أحد الخدم قد تسلّق شجرة توت، وملأ بثمارها وعاء فِضّيّاً، وكان حسين باشا يلقّم الطفلين قوتاً من ذلك الوعاء، كان على إحدى ركبتيه ابنته الصغيرة، وعلى الأخرى طفل زنجيّ، هو ابن خادمه.
لقد ملأ فَمَيهما المُتَلهّفَين من غير تمييز، ومَسَح وجهيْهما المُلَطّخين بطرف ردائه. ولمّا رجَعنا من البستان بعد غروب الشّمس، كانت الطّفلة نائمة على ذراعيّ كاتي، والطّفل الأسود جاثماً على كتف حسين باشا.

 

الضُّحى بين العُنوان والمُحتوى

بسم الله الرحمن الرحيم

تيمُّنًا بالذِّكر المبارَك ما جاء في الكتاب المُحكَم: (والضُّحى والليلِ إذا سجى, ما ودَّعك ربُّك وما قَلى, وللآخِرَةُ خَيرٌ لك من الأُولى, ولَسَوف يُعطيك ربُّك فترضى…)  صدق الله العظيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين على عظَمته نتوكّلُ، وبجلالته نستعينُ, ونصلّي ونسلِّم على أشرف خلقه أجمعين.

من نِعَم مولانا العَلِيّ القدير أنْ حملت الضُّحى المجلَّة الفصليّة مُحْتَوًى يُقْرَأُ من عُنوانه. فمُنذ عشرات العقود وهي ولّادة, يتنفّس من خلالها التاريخ, ومَنْ يمتلكُها في حَوْزَته مُنْذُ صدور عددها الأوّل يدرك حقيقة وجدانيّة أهميّة الدّور الذي أدّته في بيئة الموحدين الدّروز مُنذُ تأسيسها بشكل خاص, وعلى الصّعيد الوطني بشكلٍ عام، وقد انعكس مردودُها الفكري على جميع شؤون حياة النّاس في شتّى المجالات الدينيّة والوطنيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة والعلميّة والفكريّة, حيث تتبلوَرُ على صفحاتها ثقافات الشعوب وعلومهم وحضاراتهم, وهي بحد ذاتها مشروعٌ حيويٌّ مُشَكِّلٌ لأنماطٍ واعيةٍ تُعبِّر عن مسيرة المُجتمعات من خلال مكوِّناتها التي تبلورت فيها صفاتُها وخصائصُها المتشكِّلةُ عبرَ الزَّمن، والتي بدورها تُسْهمُ في بروز شخصيتها الاعتبارية, وتُحَدّد هُوِّيَّتَها وتستعرضُ حياتَها اليوميّة وحاجاتِها وتصبغها بطابَعها حسب عوامل تكوينها, وأصول مقوّماتها المستقبليّة التي تُعرَفُ بها كوجود يساهم في بناء حضارة مدنيّة قائمة على الأفضليّة في التَّميُّز البشريّ, حيث تقوم الحضارة على المعادلة الأخلاقيّة في تكوين المجتمعات واستقرارها وضمان استمرارها لتأخذَ مكانَها بين الأُمم والشُّعوب. وهنا يتوقَّف تحديد الشخصيَّة وبروزها حسب المُعطَيات التي تملكُها وتقدّمها للحياة.

ونحن اليوم كطائفة مُوَحِّدة تحكُمنا الانتماءات للمكوّنات التي فرضتها الأحداث الدَّولية على الأمّة وطالتنا أسبابُها ودوافعُها ونتائجُها, فغَدَوْنا تحت هُوِّيَّات لا تسمحُ لنا الخوض في مجالاتها حسب الخصائص المُلزمة بأدبيّات النُّظُم والاستقلال والقوانين التي تدعونا إلى احترامها والتقيُّد بها وبأنماطها المحكومة بالظروف لكلِّ مُكَوَّنٍ نحن فيه, والذي بدوره لم يقدِّم الوسيلة التي تحترم تلك الخصائص حيث ننظر إلى خصائصها نِظْرَةً واقعيّة وموضوعية لأنها حالة بنائية ضرورية تلتقي فيها تلك الخصائص كلوحة فُسَيفسائية تُحقّق جمال المجتمع بألوانه المنسجمة بترابط وطني يقوم على العدل، والاحترام المُتَبادَل وبها تتكامل الشخصيّة الوطنية ضمن كلِّ مكوَّنٍ حيث يتمُّ التعاون البنائي لكلّ فئات الشعب وشرائحه وتعدّدِيّاته. من هنا جاءت الضُّحى منطلقةً من الفكرة التوحيديّة على وجه الخصوص والعموم بالتَّنسيق بين المحتوى الذي يقوم على الرابط الوثيق في تأدية المطلوب بوضع المسألة الوطنية والإنسانية في محتواها، وجعلها قضية أساسية، وهذا ما حصل.

وبكلّ تأكيد وحسب متابعتنا لمحتويات الضُّحى المتنوّعة وإخراجها المُمَيَّز ومستواها الرفيع وليس على الصعيد اللّبناني فحسب، بل انطلقت لِتَعْبُرَ الحدود عربيًّا وإسلاميًّا ومسيحيًّا وإنسانيًّا، والدليل على ذلك تلك العناوين المتنوّعة والثَّرِيَّة في طرح خصائص أهلِها وتعميم دورهم الحضاري والفكري والدُّخول إلى التاريخ من أوسع أبوابه.

وبِدَوْرِنا وبشكلٍ خاص ومن خلال موقعنا في مشيخة عقل الطائفة الدرزيّة في الجمهوريّة العربية السورية نَرى أنّ كلَّ إنجازٍ حضاريّ يخدم مؤسّساتنا في أيّ بلد شقيق هو انجازٌ لنا جميعًا.

إنّنا وبكلِّ تقدير، نَغْبط أهلنا وإخوتنا في لبنان ونخصّ القائمين والمشرفين على مجلَّة الضّحى ونقدِّر جهودهم قائلين لهم إنّ الاهتمامَ المعرفي والإعلامي يستحقُّ كامل الاحترام لأنَّنا أحوج ما نكون إليه في مواجهة صعوبة زماننا وإخراجنا من ضيق الأزمات الفكريّة والمضلَّلة، وتلاقُح التقليد الأعمى, والاستهداف الذي يتناولنا أينما ثُقِفْنا على امتداد تواجدنا.

فالواجب علينا أن نُقَدِّر العواقب بالوقوف على الحقائق المصيريّة المبنيّة على تغليب العقل والحكمة في مواجهة الأعداء التي تعترضنا لأنّنا أدرى بشعابنا, وأعرف بأوضاعنا, وما يدور على الساحة يدعونا إلى ضبط النفس والعمل الدؤوب على وحدة الكلمة والمحبّة واتّقاء الفورة وقمع الفتنة, واتِّخاذ الحيطة والحذر.
ونُهيب بكلّ وسَط إعلامي أن يتواصل مع الأكفاء من قادتنا وشيوخنا وأهل الفضل والعِلم ليقوم كلٌّ من جانبه بمواجهة ما يعترضنا من تطوُّرات ومفاجآت.
ولنعلم جميعًا أنَّ من خصائصنا إملاءات حدّدها المولى تعالى مُنْذُ النُّشوء والتكوين, وقدّمها لنا على كفّة الوعي بمعادلة الحقائق المبنيّة على الصّدق والمعرفة في مطابقةٍ بين آداب الحياة والمسالك الروحانيّة وبها تستقيم لنا الحياةُ الصّالحة.

هذا ما نـأملُه من مجلَّة الضُّحى ومن كلِّ وسط إعلاميٍّ أن تبقى كما عوَّدتنا دائماً، فهي إصدارٌ قيّمٌ، وكتابٌ دَوْرِيٌّ مفتوحٌ أثرى المكتبة التوحيديّة، وتُحْفَةٌ تاريخيَّةٌ ذاتُ هدفٍ نبيلٍ، وهي اسمٌ على مُسَمًّى؛ ذهبيةُ المُحتَوى غنيَّةُ المضمون.

شكرًا للقائمين عليها واللهُ وليُّ التَّوفيق.

حَزْمُ الشَّوْر

سكن بني معروف في حزم

تقول مرويّات بدو وعرة اللّجاة، حيث تقع قرية حزم على حافّتها الشرقية، أن قبيلة بني هلال الذين اتخذوا من جبل حوران موطناً لهم قرروا النّزوح عنه نحو أواخر القرن العاشر الميلادي وكان صاحب القرية شيخاً عربيّأً يُدعى محمّد الشوّار، لجودة رأيه.

كان جبل حوران أواخر العهد العثماني يعاني حالة شبه عامّة من الخراب قبل أن يعيد إعماره بنو معروف الموحّدون؛ القادمون من لبنان ومن إقليم جبل الشيخ وفلسطين وحلب، وهؤلاء لم يأتوا إليه طواعية بل لَوْذاً من المظالم التي كانت تحيق بهم طيلة العهد العثماني وما قبله…

يذكر الرحالة بيركهاردت الذي زار المنطقة عام 1810 أنّ قرى وادي اللّوى (المقرن الشمالي من الجبل ومنها قرية حزم) تقع «على أطراف سهل كانت ضفافه مكسوّة بأخصب المراعي»(1)، كانت خراباً بكاملها وهي الواقعة إلى الشمال من قرية أم الزيتون التي تبعد شمال شهبا نحو 3 كلم.

واستناداً لرواية يُجْمِع عليها المُعْمِرون من الأهالي؛ فإنّ أقدم عائلة معروفيّة سكنت القرية كان نحو عام 1875م بشخص الشيخ أبو نجم خطّار بن محمّد أبو خطّار الحلبي، وأصل العائلة من بلدة «تلثيتا» في ديار حلب من جبل السمّاق، نزحت في مسيرة ترحيل متواصل إلى كفير حاصبيّا في جنوب لبنان، فجبل الدروز، كما كان يُدعى آنذاك، حيث توطّنوا أخيراً في خربة حزم وأعادوا إعمار خرابها. تلاهم الشيخ سَلّوم نوفل من كفير حاصبيّا وسليمان الخطيب القادم من حلب إلى دالية الكرمل فحزم، وآل عزيز الذين قدموا من نيحا في جبل لبنان، ومن العائلات الأخرى آل عامر، وأبوفاعور وأبو العز والحلبي وصقر من الكفير، والحسنيّة من عين وزين في الشوف، وزين الدين وأبونجيم وعماشة (وآل عماشة أصلاً من مجدل شمس)، والكحلوني…

تاريخ وموقع وعدد سكّان القرية

هي قرية قديمة تحوي آثاراً من بيوت حجريّة متقنة البناء، وكان لجميع البيوت الأثرية فيها أبواب من حجر منحوت بإتقان (بقي منها ستة أبواب فقط)، بعضها مُفرد والآخر مُزدوج بمصراعين. يُرجّح أنّها تعود للنصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد وما يليه. وقد وُجدت فيها عملات برونزية تعود لعام 227 قبل الميلاد…

تقع على ارتفاع 690 م فوق سطح البحر، على طرف اللّجاة الشرقي وعلى كتف وادي اللوى الذي يستمد مياهه من أعلى السفوح الشمالية لجبل العرب وينتهي إلى حوضة سهلة براق التي كانت عبارة عن بحيرة في العصر الروماني قبل نحو ألفي عام. وتبعد عن مدينة السويداء مركز المحافظة الواقعة إلى الجنوب منها، نحو 50 كلم، وعن شهبا مركز القضاء 33 كلم، وعن الصورة الصغيرة مركز الناحية 10كلم وعن دمشق إلى الشمال منها نحو 55 كلم. وتتبع من الناحية الإدارية لناحية الصورة الصغيرة، وإلى الشرق منها سهل خصب، يعبره طريق السويداء دمشق وأمّا إلى الغرب منها فإنّ وَعرة اللجاة بصخورها البازلتيّة الصّلدة تتموضع على الكتف الغربي للوادي على شكل بحر من الصخور مساحته 600كلم2.

يبلغ عدد سكان حزم من المقيمين فيها نحو 1200 نسمة. أمّا المسجلون في دفتر النفوس فعددهم 2500 نسمة، والفارق بين المقيم والمغادر هم أسر تُقيم إمّا في شهبا مركز القضاء، أو في مدينة السويداء مركز المحافظة، أو هم أسر وشبان مغادرون يعملون في بلدان الخليج ودول الخارج. وحزم من قرى جبل حوران التي كانت مزدهرة في القديم(2)، حيث يعود ازدهار عمرانها مع العديد من قرى وادي اللوى للقرون الميلادية الأولى(3). ولم تزل فيها أجزاء من بيوت أثريّة ماثلة للعيان تحتفظ بأبوابها وأقواسها الحجريّة(4)، ومنها باب بوابة حجريّة من البازلت المنحوت بإتقان (حَلَس) عرضه 2،30م يعود للعصر الروماني ولم يزل في مكانه الأصلي، (حاليّاً دار المرحوم فهد عامر) وهو نادر المثال، بدرفتين عرض 1،13 م للدّرفة اليمنى والثانية عرضها 1،17م، وارتفاع كلّ منهما 2،60م(5). ومن الطريف أنّ أحد تلك الأبواب الحجرية القديمة كان قد أنقذ حياة السيدة «صيتة أبو العز» زوجة الشيخ أبو كنج هايل نوفل في حرب تشرين عام 1973، إذ ما إن سمعت السيّدة صوت الطيران في الجو، وكانت تخبز في غرفة قديمة في دارها، حتّى أغلقت الباب الحجري بجانبها، وعلى الفور أصابت شظايا القذائف الإسرائيلية الباب الذي أغلقته، ولم تزل آثار تلك الشظايا ظاهرة للعيان على الباب الحجري الذي حمى حياتها…

وفي حزم صهاريج أثريّة لجمع الماء وآثار سدود قديمة. ومع تراجع العمران في الجبل بعد الفتح العربي الإسلامي وبخاصة في العصر العباسي بعد انتقال الخلافة من دمشق إلى بغداد حيث تراجع العمران في المنطقة، ولكن هناك ما يشير إلى أنّه في عام 572 هـ (الموافق لعام 1179م) «وَقَفَ السلطان (الملك الناصر) قرية حزم على مُعلّمي الشريعة بالزاوية الغربية من جامع دمشق وعلى مدرّسيهم من أصحاب الإمام الشافعي»(6).
ولربما جاء معنى اسم «حزم» من الوادي السّيْلي الذي يحزم القرية من جهة الشرق.

بالإضافة إلى الدارة الأثريّة للشيخ مفرّج أبو خطّار، يوجد في القرية معبد وثني روماني حُوِّل إلى كنيسة في العصر البيزنطي المسيحي قبل الإسلام، ثمّ حُوِّلت الكنيسة إلى جامع في العصر الإسلامي قبل الخراب العام الذي طرأ على المنطقة في أواخر عصر المماليك والعصر العثماني الذي تلاه، حتى مطالع القرن التاسع عشر حيث بدأ الموحّدون الدروز بإعمار الجبل على أثر سلسلة طويلة من الملاحقات التي تناولتهم في العهد العثماني بالإضافة إلى التنازعات المحلّية في لبنان ومارافقها من تدخل فرنسي وتواطؤ عثماني ضد الدروز… وبتأثير كل تلك العوامل اضطُرّت المئات من العائلات الدرزية إلى الهجرة من لبنان وديار حلب وشمال سورية وشمال فلسطين وغوطة دمشق إلى الجبل ومن ثمّ التوطن فيه بعد أن كان معظمه على حال من الخراب.

منازلها القديمة مبنية من الحجر البازلتي المنحوت مسقوفة بالرّبد المُتَراصف على قناطر (أقواس) حجريّة، أمّا المنازل الحديثة فمن الحجر الإسمنتي والسّقف من الإسمنت المُسَلّح، ويعمل السكّان بزراعة الحبوب من قمح وشعير وعدس ويربّون المواشي ويشربون من بئر ارتوازيّة بعمق 270 متراً.

من معاناة حزم في العهد العثماني

كانت قرية حزم من القرى الدرزيّة التي طالما تعرّضت للحملات العثمانية على الجبل، وذات مرة تعاونت قرى وادي اللوى في صد قوّة عثمانية قادمة من جهة دمشق إلى السويداء، واجهوها في موقع من الأرض يقع بين قريتي حَزْم والصَّوَرَة الكبيرة، وتمكّنوا من صدّها فسموا الموقع باسم «أمّ العَوْن» لأن الله تعالى أعانهم في تلك المواجهة!

ومن مرويّات أهل حزم؛ التي تمتزج فيها المأساة والطّرافة، عن فترة العهد العثماني أنّ العديد منهم كانوا من بين الثوّار الدروز الذين هاجموا عام 1910 قلعة براق العثمانية التي تبعد نحو 10 كلم عن قريتهم، وعلى الأثر قام الجيش العثماني باقتحام القرية فاعتقلوا الرجال الذين تمكنوا من الإمساك بهم، وعذبوهم وضربوهم ضرباً مُبَرِّحاً، فمات العديد منهم تحت التعذيب، وكان من بين المعتقلين بدوي من رعاة القرية، أوقفوه مع رجال آخرين من أهل حزم وأطلقوا النار عليهم. كان البدوي قد قال حينها منتخياً بالله لينقذ حياته: «يا عقيدة الدّروز» وارتمى أرضاً مع إطلاق النار على الجماعة حيث استشهد بعضهم. بعدها مضى الرّماة الذين أيقنوا أنّهم أدَّوْا واجبهم وهم يتوجّسون خيفة أن يأتيهم ثوار آخرون من خلف صخور اللّجاة التي كان يلجأ اليها هؤلاء للاحتماء بها… أما البدوي فقد تحسس جسده، فوجد نفسه حيّاً لم يُصَبْ بأذى، فقال: «أسّ، والله إنّ عقيدة الدروز زينة… تَنْفع»!

في تلك الفترة كان قد نُفي عدد من رجال حزم مع من نفي من ثوار الدروز إلى الأناضول، وجزر بحر إيجه وطرابلس الغرب ومنهم محمّد يوسف أبو نجيم، وسليمان الحلبي وقد تمكّن أبونجيم من الهرب مع ثلاثة رفاق له منهم سليمان الحلبي من حزم وآخر من قرية المتونة قذفوا بأنفسهم من أحد أبراج القلعة الحمراء في طرابلس الغرب إلى البحر، وقد مات أحدهم عندما اصطدم رأسه بأسفل جدار القلعة وسار الثلاثة الباقون هاربين بمحاذاة الساحل عبر الصحراء، وعلى تلك الطريق الطويلة التي كان عليهم قطعها وجدوا من بعض البدو هناك مَن يتعاطف معهم… وفي تلك الديار على مسافة نحو 400 كلم شرق طرابلس الغرب، مات أبو نجيم؛ الرجل الذي لم تزل المنطقة التي قضى نحبه فيها تحمل اسمه إلى يومنا هذا. أمّا سليمان الحلبي ورفيقه الآخر فقد وصلوا بعد شهور من هربهم عبر مصر ففلسطين إلى لبنان ومن ثم إلى الجبل في سورية، ويذكر الشيخ نوفل نوفل أنّ سليمان الحلبي كان قد مرّ بطريقه على الكفير في حاصبيا، وهي قرية ذويه الأولى قبل سكنهم في حزم، وجلب من حرشها عوداً (محراث) وثورين لحراثة الأرض في القرية!

الثورة السوريّة الكبرى
قرية حزم في معمعان الثورة السوريّة الكبرى

قاتل رجال حزم في غالبية معارك الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش ومنهم جاد الكريم الخطيب الذي فزع إلى معركة المزرعة ولم يكن معه سوى حاشوشة (منجل صغير)، وهناك ربح بارودة.

في معركة المزرعة وثب خليل عامر على طنبر بواريد (عربه يجرها بغل أو أكثر) وأخذ يوزّع البواريد على الثوّار، وهناك استشهد فارس عماشة، وكان نايف أبو خطّار من أبطال تلك المعركة، كما قاتل بعضهم في معارك الغوطة دعماً لثوار دمشق وغوطتها ومنهم علي أبو خطار كان من الذين اقتحموا سوق دوما وغنم بارودة من الفرنسيين، وحمد نوفل في مجموعة المجاهد سعيد عز الدين، وكان الثوار الدروز يعبرون من حي الميدان إلى سوق مدحت باشا ويعودون عبر باب شرقي(7) وأمّا صالح الحلبي وحسين عماشة وشحاذة عزيز، فهم من الذين قاتلوا في معارك إقليم جبل الشيخ وجنوب لبنان، وفي حصار قلعة راشيّا تمكن صقر صقر من قتل ضابط فرنسي وأخذ حصانه.

حزم تحت قصف الطيران الفرنسي
الأمير عادل أرسلان

في فترة سنَتَيّ الثّورة السورية تعرّضت حزم لقصف الطيران الفرنسي مرّتين وهُدمت بعض دورها، وحينها استُشهد يوسف الحلبي والسيّدة صالحة أبو خير زوجة
عبد الله أبو نجيم وأصيب أحمد أبو خطار الحلبي بكسر في فخذه (1926) وجرح آخرون. بعد القصف الذي كان يدل على عجز الفرنسيين في مواجهة الثوار بدون قوّة الطيران. كان الثوار قد دخلوا القرية بقيادة الأمير عادل أرسلان، ونزلوا ضيوفًا توزّعوا على منازل حزم، ولمّا علم الفرنسيون بذلك طلبوا نايف أبو خطار الحلبي شيخ حزم الذي كان قد شارك المجاهدين في معارك غوطة دمشق وأصيب بكسر في فخذه وقُتلت فرسه، فعاقبوه على استضافة الثوار في قريته. وفي التحقيق سأله الكابتن الفرنسي «أين دار سليم الحلبي؟ (كان هذا من الثوّار) فدلّه إلى دار خَرِبَة. رفض الكابتن دلالته، وأمر بلغم مضافته وداره فهدموهما، وأخذوه موقوفاً معهم حيث عرَّضوه مدّة عشرة أيّام للإعدام أو يُقَدِّم اعترافات تتعلّق بحركات الثوّار وتموينهم واتصالاتهم؛ فأبى، وبقي تسعين يوما على حال لا يُحسَد عليها، كما قاموا بتعذيب من وقعت عليه أيديهم من رجال القرية وشيوخها، إذ توفي على أئر ذلك المجاهد الشيخ علي نوفل، وانتقم الفرنسيّون من الأهالي بنهب ما أمكنهم نهبه، وقاموا بخلط مؤونة السكّان من طحين وقمح وشعير وحبوب وسمن وزيت كاز وغيرها، ولَغَموا دار المجاهد رشيد الحسنيّة وأوعزوا لعناصر من الجيش الفرنسي بإعدامه…

يذكر راوي تلك الأحداث (هو الشيخ رشيد الحسنية الحفيد) فيقول: «أحد عناصر أولئك الجنود وكانوا من المغاربة الذين لديهم وجدان عربي؛ قال متظاهراً برغبة الانتقام: «اتركوه لي وسأشرب من دم الدروز!».
أخذوه غرب القرية حيث المساحات الواسعة من صخور

اللّجاة تمتدّ صفائح متراصّة على مدّ النظر؛ وقالوا له: «عندما نطلق النار في الهواء؛ عليك أن تقع إلى الأرض متظاهراً بالموت. اِبقَ مكانك حتى حلول الليل، اِحذر أن تكشف أمرَنا فنحن وأنتم أبناء عم»… وهكذا كان، وعاد رشيد الحسنيّة مع هبوط الظلام إلى القرية ليجد داره قد سُوّيت بالأرض…

قاتل رجال حزم في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ـ 1927 وقدموا عدّة شهداء وهم يوسف الحلبي وصالح الحلبي وحسين الحلبي وحسين عماشة، وفيهم يقول الشاعر صالح عمار أبو الحسن:

في حزم، حزم الرّايْ ورجـــــال النّخــــا  أهـل الكَرَمْ واهـل الوفــــا وأهـل السّخا
فرســـــان في حرب الأعـــــادي مْجَرّبة  ومن ضربهم تبقى الرّؤوس مْطَرْبَخــا.


الحواشي

  1. بركهاردت، رحلة في جبل حوران، ترجمة: سلامة عبيد.
  2. نفسه، ص 39.
  3. دانتزر وآخرون، سوريةالجنوبية (حوران)، تر: أحمد عبد الكريم.وغيره.
  4. نصر، إسماعيل متعب، السويداء بين الزمان والمكان، دار الريان، 2012، ص 164.
  5. أبو عساف، علي، الآثار في جبل حوران (محافظة السويداء)، ص 153.
  6. الملحم، إسماعيل وآخرون، سويداء سورية، موسوعة عن جبل العرب، ص 95.
  7. الريّس، منير، الكتاب الذهبي، الثورة السورية الكبرى، دار الطليعة بيروت، 1969، الفصل الثامن، ص 323 وما يلي…

مقام عين الزَّمان في السّويداء

كان موقع مبنى عين الزمان الذي يحمل اسم دار طائفة الموحّدين الدّروز حاليّاً في السويداء عبارة عن رسوم لخرائب دير مُهْملة عفا عليها الزّمن، بسبب الخراب الذي كان يعمّ معظم حواضر الجبل وعدم تجرّؤ الناس في ذلك الزمن الذي غلبت فيه البداوة وتقاليد الغزو على إقامة حياة حضريّة فيه، وبما أنَّ المكان كان يقع على أطراف العمران القديم للمدينة فقد كان الدروز الذين أعادوا التوطّن الحضري فيها يعقدون فيه اجتماعاتهم العامة في أوقات الأزمات والحروب حيث تتوافر أمكنة واسعة لمرابط الخيول.

وقد تمّ ترميم المكان ترميماً أوّلِيّاً كمكان له قدسية مُعتبَرة أيام الشيخ حسن جربوع (1860 ــ 1929). كما افتتحَ الشيخ حسن فيه مدرسة مذهبية لتعليم الكتاب الكريم والحساب وقواعد اللغة العربيّة والنّحو، وأرسل الرسائل للأهالي في قرى الجبل يدعوهم فيها لإرسال أولادهم للتعلّم فيها، وكان من بين خرّيجي تلك المدرسة مشايخ أعلام منهم الشيخ أبو حسين محمّد الحنّاوي وأبوشبلي يحيى الحنّاوي وأبو محمّد نصر الدين رزق وأبو حمد محسن الملحم وسعيد قرقوط (ولهذا الشيخ قصيدة رثاء مشهورة بالشيخ حسن جربوع) والشيخ أبو حسن يحيى جربوع، وغيرهم…

خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925ــ 1927 أقدم الفرنسيون على قصف المكان فتهدّم الجزء الشمالي منه فأعيد ترميمه برعاية الشيخ حسين جربوع (المتوفّى عام 2012) واستمر توسيعه والعمل فيه كموقع مُقدّس وتمَّ الاتفاق آنذاك بين مشايخ العقل الثلاثة وبمباركة من الشيخ أبو حسين محمّد الحنّاوي على أن يكون مقام عين الزمان بناءً مكتملاً جامعاً لمشايخ العقل الثلاثة في المقام وحصل ذلك لمدة عدة سنين حتى عام 2011 عام وفاة الشيخ أحمد الهجري.

بعد وفاة الشيخ حسين أحمد جربوع عام (2012) دعا خليفته الشيخ يوسف جربوع كُلّاً من شيخي العقل الهجري والحنّاوي لعقد اجتماعات لمتابعة العمل في مكتب مشيخة العقل في عين الزّمان ولم يزل على هذا النهج يدعو لوحدة عمل مشايخ العقل في محافظة السويداء…

واردات ونفقات دار الطائفة المالية

تأتي الواردات من صناديق الأوقاف وهي: مقامات عين الزمان والمُقداد شمال المدينة إلى الغرب من حديقة الفيحاء، ومار الياس ومن أجور العقارات الوقفيّة من محلّات مياه عين التربة وحسنات الوفاة عام 2017 ، يُضاف إليها تبرّعات من الأهل والأخوان في الجولان وفلسطين المُحتلّة.

توسّع الإنفاق بتوسّع التوظيف بسبب مأسسة الدار في عهد الشيخ يوسف جربوع حيث بلغ عدد الموظفين نحو 25 موظّفا وموظّفة ومن وجوه الإنفاق ما يلي:

  1. محروقات وبنزين ووقود وكهرباء.
  2. مصاريف بيت الجنازة.
  3. ترميم دور عبادة ومجالس.
  4. الإنفاق على الخدمات الصّحيّة والتعليميّة لمستحقّيها.
  5. مصاريف لجنة العمل الخيري، وهي عبارة عن أجور جولات ميدانيّة وتنزيل وتحميل سلال المساعدات الغذائية.
  6. مساعدات شهريّة على شكل رواتب لأسر تستحقّ المساعدة.
  7. ومصاريف تجهيز المكاتب الصحيّة من عزل وأثاث عيادات وأجهزة طبّية وصيدليّة ومصاريف إنارة ومياه وهاتف لدار الطائفة ومصاريف وقود وسيارات وتدفئة ومساعدات للهلال الأحمر في بلدات سهوة بلاطة والعفينة.

ويرى شيخ العقل الشيخ يوسف جربوع أنّه لا بدّ من تطوير المرحلة السابقة إلى المأسسة، الجادّة بحيث تمّ تنظيم الموضوع المالي بشكل مهني عبر نظام محاسبة ماليّة على الكومبيوتر، ويتألّف القسم المالي من مدير ومحاسب وأمين صندوق كما تمّ التعاقد مع شركة محاسبة مُعترف بها لتدقيق الحسابات تقوم بتقديم تقرير مالي سنوي.

وفي ظلّ الأوضاع الرّاهنة تقوم المؤسسة الدينية بمهام لرفع الأعباء عن أهلنا المتضرّرين من الأزمة السوريّة التي فاقمت من حالات الفقر والبطالة والغلاء وهذا حوّل الطبقة الوسطى المكتفية ذاتيا إلى فئات معوزة تحتاج إلى المساعدة(1).

العمل الخيري

تمّ تأليف لجنة العمل الخيري في مقام عين الزمان وتُعنى هذه اللجنة بتوزيع المعونات الخيريّة المقدّمة من جانب المنظّمات الدوليّة بالتعاون مع اللجنة الفرعية للإغاثة والهلال الأحمر وتقوم اللجنة بتقديم مساعدات غذائية لـ 3،600 أسرة استناداً لدراسة أوضاعها على الواقع بإشراف فريق من المتطوّعين لدراسة ظروف الأسر المستحقّة، وهذا ساهم مساهمة كبيرة بتخفيف أعباء الحياة عن تلك الأسر.

المكتب الصحّي

أُنشئ المكتب الصحّي في دار طائفة الموحّدين في عين الزمان للإشراف على عمل العيادات في المركز وتسيير عملها وقد تطوّر العمل إلى مجموعة عيادات مجّانية، تخصّصية من: قلبية، وأطفال، وعظميّة، وأذن أنف حنجرة، وعصبيّة، وسكّري. ويتعاون في ذلك أطبّاء متطوّعون مجّانيّاً (عددهم 35) طبيباً وطبيبة ويراجع المركز الصحّي أسبوعيّاً نحو 500 مراجع يتلقَّوْن فحوصاً وأدوية مجّانية بحسب المتوفّر منها ويقوم الأطبّاء بإجراء عمليات جراحيّة على شكل مساعدات كُلِّيَّة أو جزئيّة بالتنسيق مع المشافي الخاصّة والعامّة (وفي المشفى العام يتمّ زرع مفصل مجّاني لمن يلزمه ذلك). ويوجد في المركز قسم علاج فيزيائي مجّاني وصيدلية تقدم الدواء مجّاناً.

«ونساعد في دفع كُلَف التحاليل في المخابر بخصم 50 إلى 20% ونساعد في شراء أجهزة طبيّة للمرضى (أحذية ونظارات طبّيّة وبمساعدة 50% أو75% أو كاملة) وسمّاعات أذنية وأجهزة ضغط وسكري من تبرّعات اغترابيّة ومحليّة ودعم من شركات ومستودعات أدوية متعاونة..».

وقد تبرّعت مفوّضيّة اللاجئين للمركز الصحّي في عين الزمان بجهاز إيكو دوبلر ملوّن مجّاناً (قلبية ونسائية وبطن وجهاز تخطيط قلب وتعقيم أسطوانات أوكسجين وجهاز معالجة فيزيائيّة مجّانيّة يتمّ العمل عليه من قبل مختصّين).

ويتمّ دفع مساعدات ماليّة لمن تثبت حاجته لذلك إذْ بلغت تلك المساعدات المُقدّمة عبر الهلال الأحمر لعدد من قرى المحافظة عام 2017 ما قدره 23،521،900 ل.س. (منها بلدات سهوة بلاطة والعفينة وذيبين).

التّعليم والثّقافة

يقوم القسم المالي بتقديم مساعدات ماليّة شهريّة لـ 200 طالب جامعي تتراوح قيمة كل منها بين الخمسة والعشرة آلاف وحتّى 15 ألفاً من الليرات السوريّة.

تعزيزاً لدور مشيخة العقل في المجال الثقافي تمّ إنشاء مكتبة تتّسع لـ 7500 كتاب مع قاعة محاضرات تتسع لـ 120 شخصاً مجهّزة بوسائل إيضاح وهي قيد الإنجاز وسيتمّ عبرها إقامة محاضرات دينية وعلميّة وتاريخيّة «ونعمل على وضع برنامج منهجي للعمل فيها». وهكذا فقد تمّ تأمين نقلة نوعيّة لتحويل
مرجعيّة الطائفة إلى مؤسّسة للعمل تحت إشراف «مشيخة العقل الثلاثيّة».

قسم الإغاثة
في مقابلة معه؛ مسؤول قسم الإغاثة الأستاذ باسل نصر كان الحوار التالي:
متى بدأتم العمل بهذا القسم؟
العمل قائم هنا منذ العام 2007 وقد تطوّر قسمنا من قسم بسيط كان يخدم نحو 150 أسرة، أمّا اليوم فإنّ الأسر المستفيدة من مساعداتنا بشكل دوري يبلغ عددها 3600 أسرة.
ماذا تقدمون للأسر المستفيدة؟
نقدّم معونات غذائيّة: زيت ورز وبقوليّات وطحين و6 قناني زيت سعة 1 ليتر و 5 كغ سكر و 5 كغ برغل و 5 كغ عدس و 1 كغ ملح ورُبّ بندورة وأحيانا سمنة وحفاظات للأطفال والعجزة وألبسة أطفال وسلال نظافة شخصية ومنزليّة ومنظفات كلّ 6 ــ7 أشهر. ويتمّ هذا عن طريق المنظمات الدوليّة بالتنسيق مع لجنة الإغاثة الفرعية التي يرأسها المحافظ.
ما المعيار الذي تعتمدونه لتقديم المساعدات؟
لدينا فريق من المتطوّعين مجّاناً مؤلّف من 30 شابّاً وشابّة يقومون بإجراء مسح اجتماعي وحساب آلية الاستحقاق.  وعلى هذا الأساس يتمّ التوزيع أسبوعيّاً لـ 300 أسرة مستحقّة بمواعيد ثابتة، وأجور النقل يتحمل كلفتها وقف مدينة السويداء وجميع مواد الإغاثة يتم تدوينها وفق محاضر نظاميّة.
مشغل الخياطة
لدينا في الدار مشغل خياطة يعمل عليه عاملات يُفَصِّلن ألبسة للعمل الخيري منها: المنديل والتّنورة للشّيخات، والسّروال والجبّة للمشايخ. وفي المشغل
7 ماكينات صناعية منها ما هو للدّرزة أو للحبكة أو للخياطة.
المكتب الإعلامي

قابَلَت الضّحى مدير المكتب الإعلامي الأستاذ رشاد أبو سعدة وكان اللقاء التالي:

متى أُحْدِث المكتب الإعلامي لدار الطائفة؟
أُحدث المكتب الإعلامي بقرار من سماحة الشيخ يوسف جربوع لتغطية أنباء فعاليات مشيخة العقل وليكون صلة وصل مع المجتمع المحلّي والإعلام الرّسمي وغير الرّسمي لإيضاح عمل مشيخة العقل الاجتماعي والخيري والإعلامي والثقافي، حيث تمّ إحداث موقع على شبكة التواصل باسم «نور التوحيد» ويجري العمل حاليّاً على تجهيز محتواه كما أُحدثت صفحة على موقع التواصل Facebook باسم دار طائفة الـ «مسلمين الموحّدين الدروز في سورية» مهمّتها نشر الأخبار والنشاطات اليوميّة لذوي السماحة مشايخ العقل ونشر البيانات الرسميّة التي تصدر عن دار الطائفة تجاه المتغيرات الرّاهنة. كما يُعنى المكتب الإعلامي بتصوير وإخراج مقابلات مشيخة العقل مع القنوات الفضائيّة وكلماتهم في المناسبات الرّسمية. ويتمّ حاليّاً التحضير لإصدار نشرة مطبوعة دوريّة ذات محتوى معرفي وتوجيهي لتغطية أخبار وتقارير المشيخة.

برنامج التكافل الاجتماعي
بالتعاون مع عدد من سيّدات المجتمع منهنّ السيّدة مها جانبيه وسها بدر وسهى أبو الفضل وميساء معروف وديانا الفقيه ورُلى أبوعبيد وميساء جربوع وجمانة سري الدين تمّ أنشاء برنامج تكافل اجتماعي يُعنى بتمكين المرأة وتوفير فرص عمل لها داخل وخارج البيت كما يقدّم البرنامج مساعدات ماليّة لطلاب وطالبات جامعيين شهريّاً. ويعتمد هذا البرنامج كُليّاً على تبرّعات المحسنين بإدارة مجموعة سيّدات بإشراف مشيخة العقل. ومن مجالات النشاط: أعمال الصّنارة والحياكة والخياطة بهدف تدريب السيّدات على النشاط الذاتي وتوفير دخل إضافي للأسرة ويكفل البرنامج تصريف المنتجات.
في مقابلة مع السيّدة مها جانبيه مديرة مشروع برنامج التكافل الاجتماعي؛ كانت المحادثة التالية:
ما تعريفكم للعمل الذي تقومون به؟
نحن نعمل في مجال مشروع مستقل إداريّاً يتبع مشيخة العقل في مدينة السويداء.
متى بدأتم العمل به، وما المهمة المُناطة ببرنامجكم؟
بدأنا منذ نحو ثلاث سنوات، لغاية خيريّة، وبمبادرة تطوّعية من سيّدات مجتمع من مدينة السويداء (9 متطوّعات) بهدف تمكين المرأة وتقديم العون والمساعدة للأسر المحتاجة، ونقدّم مساعدات نقديّة وعينيّة، كالألبسة والأغذية في الأعياد والمناسبات حيث نقوم بتوزيع سلال غذائية تحتوي على حبوب وزيوت ولحم دجاج ولحوم حمراء. كما يُعنى المشروع بتعليم الطلاب، لدينا 156 طالباً وطالبة يتلقَّوْن مِنَحاً شهريّة منهم من يدرس الطِّب والهندسات والمعاهد.  وتتراوح مساعداتنا بين 5،000 ل.س.، و25،000 ل.س. لكل طالب.
هل تقومون بعمل إنتاجي في إطار مشروعكم هذا؟
نعم لدينا ورشات عمل إنتاجيّة صغيرة تنشَط المرأة فيها، حيث يوجد لدينا معمل ألبان وأجبان (نَسْتَجِرّ يوميّاً طنّأً ونصف الطن من الحليب لتصنيع الألبان والسّمنة البلديّة) عائدها المالي لتعليم الطلّاب الجامعيين المحتاجين للمنح الشهرية.التي تتراوح بين خمسة إلى خمسة وعشرين ألف ليرة سورية شهريّاً حسب اختصاص الطالب وحاجته.وقد بلغ عدد الطلّاب الذين يتلقَّوْن منحنا 220 طالباً وطالبة. بمبلغ 1،087،000ل.س. كما تم توزيع 300 مريول مدرسي لتلاميذ التّعليم الأساسي و120 بنطال للمرحلة الثانوية وكانت كلفة مدفوعات شهرَيّ أيلول وتشرين الأوّل  من اللّباس المدرسي مبلغ 881،100 ل.س. كما ندير ورشات صنع مؤنة منزلية منها: المكدوس (بلغ الإنتاج طنّاً ونصف الطن) و300 كغ من دبس الفليفلة وتوضيب البازلاء، والفول والزيتون والمخلّلات وغيرها، ومن منتجات مطبخنا: الخبز على الصاج والسنبوسكية، ومناسف عربية بهدف تشغيل سيّدات وفتيات ندفع لهنّ أجراً لسدّ احتياجاتهنّ.
وبهذا يشهد مطبخنا (مطبخ التكافل) ازدهاراً بتلبيته لكافة الطلبات وبتنوع المأكولات التي ينجزها (منسف عربي وأوزي وفريكة وكبسة ومندي وغيرها (بمساهمة الشيف لؤي إبراهيم جانبيه). وقد شاركنا في حملة إغاثة الريف الشرقي الذي نُكِب بهجوم الدواعش وبلغت قيمة مساعداتنا هناك 740،000 ل.س.
هل من مصادر دعم لبرنامجكم؟
بالإضافة إلى عائد مشروعاتنا؛ تصلنا تبرّعات وهِبات من المتبرّعين كما نقيم بين حين وآخر مناسبات خيريّة (إفطار، غداء خيري …)،

خاتمة: ممّا سلف عرضه نستنتج أنّ فعاليّة جديدة نشأت في مقام عين الزمان في السويداء الذي تحوّل إلى دار طائفة للموحّدين الدروز تُقَدَّمُ من خلالها خدمات اجتماعية وماديّة وصحّية للمواطنين طالبي المساعدة عموماً، ولنا وطيد الأمل في توحيد نشاط ولَمّ شمل مشايخ العقل الثلاثة في هذا الحقل المُشْترَك خدمة لمصالح مجتمع محافظة السويداء عامة ومن أجل الوطن السوري بوجه الإجمال والله وليّ التوفيق.

مقام عين الزمان من الداخل.
 مشايخ العقل من آل جربوع، رعاة وقف السويداء من راشيّا (لبنان) إلى جبل حوران

قَدِمَ آل جربوع إلى الجبل في موجة نزوح فريق من العائلات المعروفيّة المعروفة بالكفارقة (أو الرّياشنة؛ نسبة إلى كفرقوق في راشيّا) إلى جبل حوران في مطلع القرن التاسع عشر. نزلوا بادئ الأمر في إزرع على حافة سهل حوران الشماليّة الشرقيّة من جهة اللّجاة على الطريق إلى الجبل، وفيما بعد انتقلوا إلى السويداء، التي كانت تُحْكَم آنذاك بزعامة شيخ مشايخ الدروز من آل الحمدان.

واستناداً إلى يحيى حسين عمار صاحب الأصول والأنساب فإنّ «آل جربوع عائلة معروفيّة تُراثية نامية جمهورهم الحالي في مدينة السويداء في موقع اجتماعي جيّد، ومنهم طائفة كبيرة في القَصيم في العربية السعودية على مذهب السُّنَّة وينتسبون إلى بني يربوع التميمييّن، والذين قدم منهم إلى لبنان أيّام الفتح العربي الإسلامي نزلوا أوّلاً في وادي التَّيم؛ ومن ثمّ أخذوا بدعوة التّوحيد، وعُرِفوا في قرية الكْنَيْسة من أعمال راشيا وكانوا من مَيسورِيّ الحال كَثيري الأملاك.

في حدود العام 1465م على أثر خراب الكْنَيْسة نتيجة تنازعٍ (طائفي) ضارٍ بين أهلها وجيرانهم البقاعيين ارتحلوا عنها إلى كفر قوق القريبة حيث مكثوا فيها نحو مئتين وخمسين عاماً ومن ثمّ نزحوا إلى إزرع الحورانيّة فالسويداء»(2) ومن المرجّح أنّ وصولهم للسويداء كان في مطلع القرن التاسع عشر.

وأمّا سعيد الصّغير فإنّه يذكر في كتابه «بنو معروف في التاريخ» أنّ أصل آل جربوع من جزيرة «جربة» في تونس وفي زمن غير معروف استقروا في «كفر قوق» من ديار راشيّا، وهذه رواية يقول بها آل جربوع أنفسهم(2).

التنازع مع الشيخ الحمداني
عام 1861 وبسبب من فاعليّة رجال الأسرة ونشاطهم الاجتماعي المناوئ لإقطاع الزعامة الحمدانية الأولى في الجبل عمد الشيخ يوسف الحمدان المُتَغلب على زعامة قريبه الشيخ يحيى الحمدان في السويداء إلى ترحيلهم منها(3)، فنزحوا مُكْرَهين ونزلوا في خربة نبطيّة رومانية تدعى «الصَّوْخَر» (شمال قرية أم الرمّان، جنوب السويداء نحو 25 كيلومتراً)، في منطقة نفوذ الزعيم الدرزي الشيخ إسماعيل الأطرش الذي جعل من القريّا معقلاً له، وكان آنئذٍ ينافس الشيخ الحمداني على قيادة الدروز، وقد رحّب إسماعيل بآل جربوع.كحلفاء له ساخطين على زعامة آل الحمدان.
في الصّوخر تنافس الجرابعة مع آل العبد الله أقارب اسماعيل، الذين يسكنون حوط القريبة شرق الصّوخر، ولمّا كان إسماعيل يخطّط لإقصاء آل الحمدان عن الزعامة الأولى في الجبل ويرى في آل جربوع قوة مُعِينَة له في تنفيذ مشروعه ذاك فقد توافق معهم على الانتقال من الصّوخر إلى قرية كناكر(4) القريبة من السويداء ناحية الجنوب الغربي منها ببضعة كيلومترات، حيث يسهل منها عليهم التّواصل مع أصدقائهم من وجهاء عائلات السويداء الناشطين إلى جانبهم ضدّ الزعامة الحمدانية داخل المدينة (وكان حمد النّجم جربوع عميد الأسرة يتحلّى بمزايا الحنكة السياسية والشجاعة التي جعلت منه وجيهاً مرموقاً في مجتمع السويداء وزعيماً أجمعت عليه قيادات العامية الثانية فيما بعد في عشيّة العقد التاسع من القرن التاسع عشر)(5).
وقد نجح مخطّط إسماعيل بفضل حنكته السياسية وشجاعته وثقة الدروز بجدارة قيادته وبعشيرته الكبيرة وتحالفاته الواسعة في إزاحة آل الحمدان عن زعامة الجبل كلّيّاَ (حتى بعد وفاته عام 1869) إذ حلّ ابنه إبراهيم محلّهم في السويداء. وعاد آل جربوع منتصرين إلى أملاكهم واستقرّوا بعدها في السويداء على أثر إقصاء خصمهم اللّدود الشيخ واكد الحمدان منها نحو مطلع سبعينيّات القرن التاسع عشر (وكان واكد قد حل محل قريبه يوسف في زعامة الدروز).

 

آل جربوع ومشيخة العقل
واستنادا لباحثين كتبوا في هذا الموضوع ولرواية آل جربوع أنفسهم فإنّ أوّل مجلس عبادة (جامع) أنشىء في السويداء للموحّدين الدروز كان المجلس الشرقي بالتعاون مع أهل المدينة وكان المكان عبارة عن بناء أثري تمّ ترميمه نحو العام 1805 (كان بالأصل معبداً نبطياً للإله «ذو الشرى» رئيس آلهة الأنباط» وقد تمثّل به مشايخ المدينة بعامّتهم وأبرزهم آل جربوع ورضوان وأبو عسلي ونعيم وعِزّي وسنيح واشتي وقطيش والبدعيش والجرماني وغيرهم. وكان رئيسه الروحي (سائس المجلس) الشيخ سليمان جربوع(6) ونظراً لتقوى المشايخ الروحيين من آل جربوع فإنّ بعضهم قد دُفِن به ومنهم الشيخ سليمان جربوع والشيخ أبوحسين أحمد جربوع الأوّل المتوفّى عام ١٨٥٨م والشيخ أبوحسن وهبي جربوع المُتَوفّى عام 1888م وهناك شيخان آخران من الأسرة هما الشيخ أبو سلمان يوسف جربوع والشيخ أبو إبراهيم محمّد جربوع» مدفونان في المكان نفسه(7).
وعندما دخل الجنرال العثماني سامي باشا الفاروقي السويداء عام 1910 أهان المكان (المجلس الشرقي) ولم يحترم قدسيّته كمقرّ عبادة بادئ الأمر ومن ثمّ عمل منه مسجداً لجنوده، وكان الشيخ حسين طربيه الأوّل قد احتجّ برسالة لسامي باشا على تلك المظالم التي تتنافى ورعاية حقوق رعايا السّلطنة العثمانية ولم يزره في معسكره فما كان من سامي باشا إلّا أن قَدِمَ بنفسه برفقة مفتي الحملة وسأل الشيخ حسين عن سبب عدم زيارته له، فقال له الشيخ طربيه: «العلماء يزارون ولا يزورون، فدهش سامي باشا لجرأته وأمر مُفْتيه أن يسائله في الدين فكانت أجوبته محطّ إعجاب المفتي وقائده(8)، ممّا جعله يحترمه ويقدّره ومن ثمّ أُعيد المجلس للموحّدين كسابق عهده. في عام 1911 من قبل العثمانيين أنفسهم.

 

قصّة المجلس الغربي

كانت أحداث انتفاضة العاميّة التي نشبت ضد المشايخ ملّاك الأراضي الإقطاعيين من آل الأطرش في السويداء والمقرن القبلي قد انعكست على العلاقة بين آل جربوع ممثّلين بزعيمهم القويّ حمد النّجم جربوع الذي أصبح زعيماً للعاميّة في الجبل والشيخ إبراهيم بن إسماعيل الأطرش (عميد الأطارشة) الذي أصبح قائمّقاماً على الجبل من قبل العثمانييّن وكان هذا قد قرّب الشيخ حسين طربيه على حساب المشايخ من آل جربوع بحجّة أنّ الشيخ طربيه «كان مستوعباً علوم الشريعة الإسلامية وفقهها والأحاديث النبويّة والكتب السماويّة…» فعيّنه سائساً للمجلس الشرقي. ويرى المحامي الكاتب والمثقف ماجد الأطرش (وهو أحد أحفاد إبراهيم) أنّ المعضلة التي خُلقت بإصرار إبراهيم الأطرش (جدّه) على تعيين الشيخ حسين طربيه في مشيخة المجلس الشرقي قد حلّها المغفور له شبلي الأطرش عام 1896بعد تعيينه قائمّقام الجبل وشيخاً لمشايخه بعد وفاة أخيه إبراهيم (المتوفّى عام 1893)، (كان شبلي على خصومة مع أخيه غير الشقيق إبراهيم وكان أكثر تفهّماً لمطالب العاميّة رغم انتقاداته لها كما كان ميّالاً لعامة الدروز)(9) وذلك أنّ شبلي كان قد امتلك داراً كبيرة في السويداء كانت هي الأخرى بقايا كنيسة قديمة وقد رمّمها وأعاد بناءها وحوّلها لدار سكن ومن ثمّ تنازل عنها لتكون مقرّاً لدار عبادة أي مجلساً لأهالي السويداء لإقامة شعائرهم الدينية على أن يتولّى هذا المجلس الذي عُرِفَ فيما بعد بالمجلس الغربي «الشيوخ الأتقياء الأصفياء من آل جربوع»(10) وكان من قام بهذه المهمّة في المجلس حينها شيخ العقل الشيخ حسن بن الشيخ وهبة جربوع المتوفّى عام 1929 (ممّا يجدر ذكره أنّ لقب شيخ العقل لم يكن معروفاً لدى الموحّدين الدروز قبل عام 1917م(11) وممّن دُفن في ذلك المجلس كان شيخ العقل حسن بن الشيخ وهبة سنة 1929 وشيخ العقل الشيخ سعيد وهو أخٌ للشيخ حسن،1930 والشيخ أحمد الثاني 1965 والشيخ يحيى بن الشيخ حسن وشيخ العقل الشيخ حسين بن أحمد الثاني ٢٠١٢م(12).

(جزء من دراسة موثقة طويلة للأستاذ ابراهيم العاقل أختصرت لتتناسب مع مقتضيات النشر في الضّحى ) – رئيس التحرير.


المراجع:
  1. مقابلة مع سماحة شيخ العقل الشيخ يوسف جربوع، تشرين الأول 2018.
  2. يحيى حسين عمّار، الأصول والأنساب، دار الضّحى للنشر، ص 46ــ 47.
  3. مقابلة مع السيّد أبو أدهم حسن جربوع (حفيد حمد النجم جربوع زعيم العاميّة) صيف 2018.
  4. نايف فارس جربوع، دراسات في الثورة العاميّة في جبل العرب، ج1، ط1، دمشق، دار العلم، 1991، ص72.
  5. عبد الله حنّا، العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران، ط1،1990، دار الأهالي، دمشق، ص 135ــ 136.
  6. محمّد طربيه، موسوعة الجبل، العقيدة والمجتمع، ط1، السويداء، دار الكرم، 2017، ص165.
  7. نايف فارس جربوع، دراسات في الثورة العامية، م.س، ص 58.
  8. مقابلة مع السادة سماحة شيخ العقل يوسف جربوع وآخرون من العائلة، تشرين الأول العام 2018.ـ.
  9. مقابلة مع الكاتب والأديب الباحث محمّد طربيه. ه تشرين الأول 2018.
  10. ماكس فون أوبنهايم، الدروز، ترجمة محمود كبيبو، دار الورّاق، لندن، 2006، ص 113ــ 114.
  11. محمّد طربيه، موسوعة الجبل، م.س، ص 295ــ 296.
  12. حسن أمين البعيني، مشيخة عقل الموحّدين الدروز في لبنان وسورية وفلسطين، دار معن، 2015، ص33. وص 185.

The Druze Spoons

When the battles of the Great Syrian Revolt ended and the rebels moved to Azraq area in Jordan, Britain promised France to end the revolt and besieged the rebels by various means of oppression and starvation until they left to Sirhan Valley and so their journey of torment and the urgent need of children and women for food began in this harsh desert. Sultan al-Atrash was informed and he contacted the Mufti of Jerusalem, Amin al-Husseini, asking for help who indeed aided them and entrusted Sobhi al-Khadra to accompany a relief convoy carrying life necessities. After an arduous journey, the convoy arrived to Sirhan Valley and it had a great impact on the rescue of al-mujahideen and their families.

Sobhi al-Khadra noticed that al-mujahideen used wooden spoons made from boxes filled with subsidies because of the lack of metal spoons. Sobhi al-Khadra asked the permission of the General Leader to take these spoons. When he returned to Jerusalem, he talked to members of the Supreme Muslim Council about the suffering of the rebels and the evidence was these spoons. Therefore, Amin al-Husseini ordered to put these spoons in Al-Aqsa Mosque and wrote a phrase beside them:

(He who wants to be connected to the land and national dignity shall contemplate and eat with the Druze spoons)

This phrase remained in the mosque until 1948.

Mercy for those who made the glory of the homeland and its independence away from the lights of the hollow fame.

ملاعق الدروز مدينة القدس (المسجد الأقصى) أيار ١٩٢٧

عندما انتهت معارك الثورة السورية الكبرى وانتقل الثوار إلى منطقة الازرق في الأردن تعهدت بريطانيا لفرنسا بإنهاء الثورة وحاصرت الثوار بشتى الوسائل من قهر وتجويع حتى غادروا إلى وادي السرحان ولتبدأ رحلة العذاب في هذه الصحراء القاسية والحاجة الماسة إلى الأطعمة للأطفال والنساء وقد أعلم سلطان الأطرش وطلب النجدة من مفتي القدس أمين الحسيني وفعلا انجدهم المفتي وكلف صبحي الخضرا بمرافقة قافلة إغاثية تحمل مستلزمات الحياة وبعد رحلة شاقة وصلت القافلة الى وادي السرحان – الحديثة – وكان لها الاثر البالغ في إنقاذ المجاهدين وعائلاتهم.

ولاحظ صبحي الخضرا أن المجاهدين يستخدمون ملاعق خشبية صنعت من الصناديق المعبأة بالإعانات لعدم توفر الملاعق المعدنية وقد استأزن صبحي الخضرا من القائد العام بأخذ هذه الملاعق وعندما عاد للقدس تحدث الى أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى عن معاناة الثوار والدليل هذه الملاعق التي يأكلون بها ….فأمر امين الحسيني أن توضع هذه الملاعق في المسجد الأقصى وكتب عبارة بجانبها:

«من أراد أن يرتبط بالأرض والكرامة الوطنية عليه أن يتأمل ويأكل بملاعق الدروز».

وبقيت هذه العبارة موجودة بالجامع حتى عام 1948 الرحمة لمن صنع مجد الوطن واستقلاله بعيدا عن الأضواء والجاه الأجوف.

سلطان باشا الأطرش ورفاقه…

في شهر حزيران من عام 1927 حَسَمَ الفرنسيّون والإنكليز أمرهم على محاصرة الثوّار الذين يقودهم سلطان باشا الأطرش بهدف تحرير سورية من الاحتلال… وهم الذين كانوا قد هزَموا الفرنسيين في أكثر من معركة منذ عام 1925 وقد انتشرت ثورتهم في العديد من المحافظات السورية وامتدت إلى عدة مناطق في لبنان منها راشيّا وحاصبيّا وأكروم والضنيّة…

حوصر الثوّار في منطقة الأزرق من الأراضي الأردنية، بهدف إرغام الثواّر على وقف العمليّات الحربيّة ضد الفرنسييّن في الأراضي السورية، شرطاً للعفو عنهم. في ذلك الحين «قَدِم إلى الأزرق موظفان أفرنسيان مع المعتمد البريطاني في عمّان وابط إنكليزي فاجتمعوا بممثلي المجاهدين طالبين منهم العودة إلى الوطن. فاشترط وفد الثوار من قبل سلطان باشا:

  1. إعلان العفو العام عن الثوار دون قيد أو شرط.
  2. إعلان الوحدة السورية وتلبية المطالب السورية.

فوعدهم المندوب الفرنسي بتحقيق المطلب الأوّل عدا العفو عن سلطان وصياح الأطرش ومحمّد عز الدين الحلبي وفؤاد الحلبي، وآخرين، أمّا المطلب الثاني فهو من اختصاص المندوب السامي الفرنسي، «بونسو»…(1)، ومن هنا تفاقمت مضايقات الإنكليز للثوار بمنعهم من الحصول على الماء ومنع إمدادات الغذاء عنهم.

سلطان باشا يرفض عرضاً بريطانياً مغرياً مقابل التخلّي عن الثورة

ومن مجريات تلك الأيام يقول سلطان باشا: قابلنا المُعتمد البريطاني في عمّان في موقع الأزرق في جلسة دامت نحو ساعتين حاول فيها إقناعنا بضرورة إنهاء الثورة والتَّسليم للأمر الواقع دون قيد أو شرط، وممّا عرضه علينا في نهاية الجلسة وضَمِن لنا تحقيقه دون إبطاء قوله: «إنّ حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تتكفّل بتقديم قصر خاص بإقامتكم في مدينة القدس وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة». فشكره سلطان قائلاً: «إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنّا بقينا في دورنا الرَّحبة واستجبنا لدعوة الفرنسييِّن المتكررة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم أو مع حلفائكم الفرنسيين إلاّ على أساس صُلْح مُشَرّف تتحقّق فيه المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها وتتلخّص بحرّية البلاد ووحدتها وجلاء القوات الأجنبيّة عنها».

كان سلطان باشا يعتبر أنّ استقلال سورية أمر مرتبط بكرامة الشعب السوري وكرامته الشخصيّة، فرفض أيّة مساومة على ذلك، ولمّا لم تُفلح العمليّات القتاليّة في طرد الفرنسيين من البلاد أبى أن يعود إلى سورية يرفرف عليها علم الاحتلال، يقول: «اتصلت بأعضاء مكتبنا الدائم في عمَّان… فاتصلوا بدورهم ببعض الشخصيَّات العربية في القدس والقاهرة وتمّ الاتفاق معهم على انتداب السيد شكري القوّتْلي للذهاب في الحال إلى المملكة العربية السعودية للتفاوض مع الملك عبد العزيز آل سعود لقبولنا في بلده لاجئين سياسيين..» فقَبِل بعد اعتذار وتردد، وجاءت برقية فيها «قائد الثورة السورية سلطان الأطرش. أقْبِلوا على الرّحب والسعة ـ عبد العزيز»(2).

إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنّا بقينا في دورنا الرَّحبة واستجبنا لدعوة الفرنسييِّن المتكررة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا.

رحيل الثوّار إلى المنفى

في الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 22 حزيران 1927(3) أُجبر الثوّار على مغادرة مواقعهم في الأزرق، ويصف سلطان باشا مشاهد رحيلهم إلى المنفى الصحراوي مع عائلاتهم وخيولهم وجمالهم مواشيهم بقوله: كانت مشاهد رحيل الثوّار من الأزرق مثيرة لأعمق المشاعر الإنسانيّة، وأنّهم قد رضوا أن يفارقوا الدّيار التي كانوا يأنسون بسكناها قريباً من الأهل والأحبّة في ربوع الجبل، فسارت قوافلهم المؤلّفة من نحو ألف نسمة باتجاه موقع «العْمِرِيْ» جنوباً في عمق الصحراء بعد وداعهم الأليم لذويهم ورفاقهم في الجهاد الذين قرروا العودة إلى الجبل، إثر صدور قرار فرنسي بالعفو عنهم.

عرض إنكليزي

عندما نزل سلطان باشا في موقع «العْمِري» في الصحراء على بعد مئات الكيلومترات من الجبل وعلمَ الإنكليز أنّ السعوديّة وافقت على لجوء الثوار إليها أرسلوا وفداً برئاسة الكولونيل «سترافورد» للتفاوض معه من أجل العودة إلى الأزرق! فرفض عرضهم وقال لسترافورد «لم تَعُدْ لنا رغبة في العودة؛ لأنّكم لا تحترمون العهود وسوف نُقيم في الصحراء التي خرج منها أجدادنا.. وسنجد فيها بالإضافة إلى كرم الضيافة مجالاً رحباً للتمتّع بحرّيتنا الكاملة التي افتقدناها منذ أن انتدبتكم عصبة الأُمم علينا وصيّرتم معنى الانتداب استعماراً قائماً على البطش والإذلال وابتزاز خيرات الوطن!(4).

الثوّار يحطّون رحالهم في وادي السّرحان

كان عدد الثوار اللاجئين بضع مئات من السوريين يرافقهم بضع عشرات من الثوار اللبنانيين نزلوا في أرض صحراوية مُقفرة فيها نبع ماء عذب يدعى «جوخة» وبضع من أشجار النخيل. وكان من طليعة النازلين في المكان الأمير عادل أرسلان وحمد صعب وشكيب وهاب (لبنانيون)، ومحمّد عز الدين وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم، وقد نزلوا في خيام قليلة كانت لديهم واضطرّ آخرون كُثر إلى صنع الطّوْب (اللِّبِن) من تراب الصحراء لبناء مساكن بدائية صغيرة سقوفها من القصب وجذوع وأغصان أشجار مجلوبة من أماكن بعيدة. كان عليهم التآلف مع حياة البادية الشاقة والمناخ الصحراوي وقد وجدوا متعة في صفاء طبيعة البادية بادئ الأمر، وراحة الهدوء في آفاقها الواسعة، لكن الفصول الانتقالية في الربيع والخريف كانت تتسبب لهم بأشد المعاناة، حيث رياح السموم الهوجاء تهبّ عليهم من الشرق والجنوب الشرقي تبدل من معالم الأرض فتصعب الرؤية والتنفس بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء «فتكتسح خيامنا وتسدّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان»(5).

وممّا ورد في يوميات صياح الأطرش لتلك الأيام أنّه في يوم 19 آب 1930، «تمزّق بيت سلطان باشا بسبب العواصف وأمضى أكثر النهار بخياطته».

ويوم الاثنين 29 كانون الأوّل «ذهبنا بصحبة سلطان باشا لجلب الحطب فكانت الدماء تسيل من أيدينا وليلاً حصل رعد وأمطرت الدنيا علينا وسالت الأرض وانجرفت الأدوات وأكوام الحطب مع السيل». وفي البحث عن الماء تمكّن بعضهم من الحفر في الرمل على عمق بضعة أمتار لإرواء الخيول والماشية وقد جمعوا الحطب من نباتات الرّتم لمواجهة ليالي الصحراء الباردة. وكذلك «اضطروا لقلّة الطعام أن يأكلوا الأعشاب والجراد والضباع من شدّة الجوع، وقد أصاب سلطان وأفراد عائلته ما أصاب الآخرين من جوع وعطش، وكان يقوم مع ابنه منصور بجلب الماء خلال الليل من بئر بعيدة فيحمل هو قربة كبيرة ومنصور قربة صغيرة وكانت زوجته تقوم بجميع أعمال المنزل وتحتطب(6)، وقد وصف الأمير عادل أرسلان عيشة المجاهدين في تلك البرِّية الموحشة يقول:

وعــصــبـــــــةٍ عـــربــــــــاء فوق الثّــــــرى
لكنّهـــــا مـــــن مجدهـــــــا في صـــــروح
فـــــــي مَهْمَــــــــهٍ قَفْــــــــرٍ كأنّ السّــــــما
لـــــــــم تَرْوِهِ بالقَطرِ مـــــــن عهد نــــوح
إنســـــــــــانُـهُ ضَــــــــــبُّ وأشــجــــــــــــارُه
شـــــــــــِيحُ وأصــــواتُ التَّغنّي فَحيـــــــح
كُـــــــلُّ رغيــــــــــفٍ حولَــــــــهُ تسعــــــــــــةٌ
كأنّــــــما صـــــــــلّى عليــــــه المسيــــــــــح

كانوا يأكلون ورق نبات القَطف وتَمْر الأمصع (وهو نبات له عناقيد شبيهة بعناقيد العنب ذي الحبّ الصغير) عندما يضعف المَدَد ويتأخّر التّموين في الوصول إليهم. أمّا أغنام الثوار التي كانت ضرورية لتغذية أطفالهم بحليبها فكانت تفتقر إلى المراعي المناسبة حيث لا تجد أمامها في تلك الصحراء سوى نباتات الحَمْض والشّيح وبعض الأعشاب الهزيلة في فصل الربيع حيث تشاركها في الرعي الخيول والإبل التي لم يبقَ لديهم منها إلّا العدد القليل.

ملاعق الثوّار

يقول المجاهد زيد الأطرش وهو شقيق سلطان ورفيق جهاده وأحد قادة الثوار البارزين يصف معاناة الثوّار في الصحراء: «وعطشنا، وعطشت خيولنا وبلغت الأرواح التَّراق! حتى رأيتَ بعضنا قد شرب بول الإبل، فزاد ذلك من عطشهم عطشاً، فأرسل سلطان يستنجد بالحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، ليغيث الثوّار على جناح السّرعة، وينقذ من يمكن أن يظلّ على قيد الحياة منهم..!

ولبّى الحاج الحسيني الطلب، فوصلت إلى جموع الظاعنين سيّارة تحمل ماء وطعاماً وبعض الدواء.. وكان ممّا تحمله صفائح مملوءة بـ القمردين، وهو نقوع ثمر المشمش، وفرح المجاهدون وهتف الأطفال لمنقذيهم.. وأسرعنا نفتح صفيحة القمر دين كي نبلَّ الأفواه الجافة لكنّ هذا لا يؤكل إلاّ إذا دُعِكَ بالأيدي ليذوب
في الماء ثم يُشربَ بعدها. ها هو محلول القمردين قد أصبح جاهزاً. ولكن كيف يؤكل بلا ملاعق؟ ومن أين نأتي بها في تلك الصحراء المقفرة… عندها عمدنا إلى صناديق الخشب التي حملت الطعام نكسرها قطعاً قطعاً مثل مساطر طلّاب المدرسة وجعلناها ملاعق نحتسي بها منقوع القمر دين نملأ البطون الجائعة ونبلّ الشفاه اليابسة، واعتذاراً عن هذه الصورة البدائية والوحشيّة في التهام الطعام! ولمّا رأى هذا المشهد مبعوث الحاج الحسيني وهو المجاهد والمحسن صبحي الخضرا ولا أدري موطنه تماماً إن كان من القدس أم من مدينة نابلس، فحمل ملاعقنا الخشبية معه وعاد بها إلى القدس يقصّ على أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى ما رأى، وليس من رأى كمن سمع.

تأثّر الحسيني ورفاقه بهذه الرواية وأمروا بوضع تلك الملاعق والصفائح الفارغة في زاوية من زوايا المسجد ألأقصى المبارك في القدس وفوقها لائحة كُتِبَ عليها : «صحون وملاعق مجاهدي الثورة السوريّة» وبقيت هذه الوثيقة شاهدة على شرف النضال حتى عام 1947(7).

انقلاب في الموقف السعودي وسلطان يرفض تجريد الثوار من سلاحهم في وقفة عز!

كان قد مضى على إقامة الثوّار في وادي السّرحان نحو ستة شهور عُومل خلالها الثوّار معاملة طيبة من قبل ممثلي السّلطة السعودية وبعض عشائر المنطقة من حيث الحفاوة وحسن الاستقبال وكرم الأخلاق، لكنّه في ذات يوم قدم إليهم الأمير سليمان الشنيفي مندوباً عن الملك عبد العزيز فرحّبوا به وأكرموا وفادته غير أنّه فاجأهم بقوله «أمرنا جلالة الملك بجمع السلاح منكم يا سلطان والمهلة التي نعطيكم إياها ثلاثة أيام(8)، فأجابه سلطان قائلاً «سلاحنا شرفنا أيها الأمير! فهل من المعقول أن نُسَلّمه ونحن نعيش مع عيالنا هذه الظّروف القاسية والأحوال السيّئة في هذه الأرض الموحشة المنقطعة؟».

قال الشنيفي: «إنّني مأمور بتنفيذ هذه المهمّة يا سلطان مهما كانت الظروف والأحوال!».عندها قال له سلطان بحزم وتصميم: «لن نُسلّم سلاحنا ما دام فينا عِرْق ينبض! لقد كنّا نتوقّع من جلالة الملك عبد العزيز ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدّونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضدّ الفرنسيين، لا أن يأمروا بتجريدنا من السلاح ليميتوا في نفوسنا النخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرّضونا بالتالي لخطر الغزوات البدويّة المألوفة في هذه الأرض القفراء». وبعد أن تكوّنت لديه بعض القناعة بوجهة نظرنا رفع أمرنا إلى رؤسائه، فجاءت التعليمات بأن يتّفق معنا على ما يلي:

  1. يحتفظ المجاهدون بسلاحهم ويحقّ لهم نقله ضمن المنطقة دون معارضة.
  2. تتعهد قيادة الثورة بعدم القيام بأيّ نشاط يخلّ بالأمن أو يخالف النظام والقانون المعمول بهما في المملكة(9).

سلطان باشا الاطرش

صمود في مواجهة التجويع

بالإضافة إلى الخطر الذي كان يهدد وجود الثوار من بعض العشائر المجاورة التي اعتادت التكسّب من السلب والغزو في تلك الصحراء التي لم تترسّخ بها سلطة الدولة بعد فقد كانت العراقيل توضع في وجه تموين الثوّار بالمواد الغذائية وكان المجاهد علي عبيد المعروف بحنكته السياسية والاجتماعية مكلّفاً بشراء مستلزمات الثوار ومواد إعاشتهم من عمّان «فأُوقف بأمر من القائد البريطاني في الأردن «غلوب باشا»، ولم يُطلق سراحه إلاّ بعد بضعة أيّام… وكانت مثل هذه المضايقات تنعكس على معسكر المجاهدين جوعاً ونقصا في حاجات ضرورية كثيرة.

الأمير عادل أرسلان: رغيف الخبز أغلى من الذهب

يقول سلطان باشا:»غير أنّ أخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسونا أ ثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرّت بنا بل كانوا يتحمّلون المشاقّ في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا وتهيئة أسباب تسليمنا للفرنسيين…»(10).

لكن شبح المجاعة كان يطل على أولئك المجاهدين بين حين وآخر فيضطرّون إلى التهام أوراق النباتات الصحراوية ريثما تصل الإعاشة التي تأتيهم من عمان أو القدس وغيرها. وذات مرّة وفيما سلطان والمجاهدون، وأسرهم، في أزمة من الجوع وصل إلى مخيّمهم السادة شكري القوتلي والحاج عثمان الشراباتي والحاج أديب خير وعادل العظمة وهؤلاء من زعماء دمشق وسياسييّها ومعهم «صُرّة» من اللَّيرات الذهبية قدموها باسم الثورة، فلم يتمالك الأمير عادل أرسلان نفسه من شدة الانفعال فتناول قبضة منها ونثرها مُحتدّاً أمامهم قائلاً: إنّ هذا الذهب كلّه لا يساوي رغيفاً واحداً ينقذ حياة الذين يتضوّرون جوعاً، وخصوصاً النّسوة المرضعات والأطفال.. أرجعوه معكم لأنّنا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء!»

لم يكن أولئك الإخوان يعلمون حقيقة معاناة الثوار وعوزهم والفاقة التي يعيشونها لذا تأثّروا أشدّ التأثّر وعملوا على استرضاء الأمير الغاضب وقرّروا أن يبقى السيّد شكري القوّتلي في مخيّم الثوّار للبحث في إيجاد حل لمعاناة المجاهدين وأسرهم في الوقت الذي عاد فيه العظمة والشراباتي وأديب خير من فورهم إلى عمّان وعادوا في اليوم التالي ومعهم عدّة سيّارات محمّلة بأكياس الطحين والمواد الغذائيّة الأخرى التي وُزّعت بالتساوي على أسر المجاهدين وذلك بالإضافة إلى كميات من العلف للماشية والدواب(11).

سلطان والمجاهدون: مؤتمر الصّحراء: عيون على سياسة الوطن رغم المنفى

لم ينقطع سلطان باشا والثوار عمّا كان يدور من أحداث في سورية، إذ كانت الأنباء ترد إليهم تباعا، أو عن طريق الزوّار من السياسيين السوريين في الداخل الذين يأتون لتفقّد أحوالهم والمراسلين الصحفييّن العرب والأجانب الذين يحضرون إليهم ومنها مثلاً أنه في عام 1828 وعلى أثر فوز الكتلة الوطنيّة بأكثريّة المقاعد، وحصولها على أغلبية ساحقة عندما تشكلت لجنة لوضع الدستور السوري الذي اعترض على ستّ مواد منه المندوب السامي «بونسو» وهي المواد التي تؤكد وحدة سورية واستقلالها، وقد أدى موقفه ذاك إلى تعطيل عمل الجمعيّة التأسيسيّة. ولما كان وجود سلطان والثوار يشكل عامل ضغط سياسي على فرنسا وعنصر دعم للحركة الوطنيّة في الداخل، فقد بادر سلطان باشا إلى توجيه دعوة للمجاهدين السوريين المقيمين في مصر والأردن وفلسطين وغيرها لحضور مؤتمر وطني عُقَد في وادي السرحان؛ حضره عدد كبير من المجاهدين، وممّا جاء في كلمة سلطان باشا حينها: «ليعلم المستعمرون أنّ المناورات والمؤامرات لا تنفعهم ولن تجديهم شيئاً. إنّ الشعب مُصمّم على الصمود، وألوية النصر معقودة له بإذن الله في النهاية. وكلّما ازداد الفرنسيون ظلماً وطغياناً في بلادنا ازددنا نحن تمسّكاً بحقوقنا المشروعة ولا نصل إلى حقوقنا هذه إلاّ بوحدة الصف، والإخلاص في العمل، والصّبر على مكاره التشرّد والحرمان..»(12).

سلطان باشا والثوار والحق الفلسطيني

مثلما لم يوقف المنفى اهتمام سلطان بالهم السوري فهو لم يقطعه عن الهم العربي العام المتمثل حينذاك بالحق الفلسطيني، وخصوصا مع انفجار الأحداث عام 1929 بين المستوطنين الصهاينة المدعومين من بريطانيا المنتدَبة على فلسطين وبين الفلسطينيين وقد نقلت الصحف آنذاك، أنّ سلطان تأثّر للحوادث والفواجع التي حلت بفلسطين، وأنّه قرر الزحف مع المجاهدين إلى بيت المقدس لنصرة العرب وأنّ الإنكليز شعروا بذلك فأرسلوا سرباً من الطائرات إلى وادي السرحان، حامت فوق مضارب المجاهدين لاستطلاع أمورهم ومراقبة تحرّكاتهم وألقت منشوراً بالعربية يحذّر الذين بدأوا بالتحرّك، ويطلب منهم أن يعودوا إلى مضاربهم، وإلا اضطرّت لقصفهم. ورغم تشديد المراقبة البريطانية فقد تمكن شكيب وهّاب من أن يدخل مع بعض المجاهدين إلى فلسطين واشترك في مقاومة الفلسطينيين في أكثر من معركة.

وفي كانون الأوّل 1931 انعقد المؤتمر الإسلامي في القدس لإعلان تضامن المسلمين في العالم مع الفلسطينييِّن، وحضرته وفود كثيرة من بينها وفد المجاهدين الذي أرسله سلطان باشا وتألّف من علي عبيد وقاسم أبو خير وقد تكلّم علي عبيد في المؤتمر قائلاً إنّ المجاهدين في الصحراء ليس لهم ما يفتدون به فلسطين المهدّدة بالضياع سوى الأرواح، ووقّع على ميثاق من ثلاثة بنود، وافق عليها رجالات العرب في اجتماعاتهم في 13 كانون الأول 1931 وهي ترمي إلى الوحدة ومقاومة التجزئة ورفض الاستعمار بجميع صيغه وأشكاله(13).

وفي يوم الأربعاء 16 نيسان عام 1930 جاء رسول مكلّف من الإنكليز ومن حاكم طبريا «الذي حسب ما أعتقد أنّه يهودي يطلب من سلطان باشا الإيعاز لجماعتنا هناك (يقصد الدروز) أن يقفوا على الحياد فيما لو حصلت ثورة في فلسطين مقابل أن تضغط بريطانيا على فرنسا لإعطاء الحقوق والاستقلال والعودة لسورية، فأجاب سلطان باشا بغضب شديد وبصوت عال: ومتى كانت حرّية الشعوب وكرامتها واستقلالها تُباع وتُشترى؟، فنحن عرب وفلسطين عربية وكلّنا مستعدون أن نموت فداءها وهل تريد أن نشوّه هوّيتنا وتاريخنا في سوق المقايضات!»(14).

هنري بونسو (Henri Ponsot): مفوّض سامي فرنسي
في لبنان وسوريا.

مواجهة خطر غزوات القبائل البدويّة

حياة قلقة ومحفوفة بالتهديد عاشها الثوّار في وادي السرحان وكان لها أثرها البالغ في نفوسهم ومنها الحادثة التالية: يقول سلطان باشا:

خرجت مبكّراً من منزلي صبيحة أحد أيّام الرّبيع، قاصداً النزهة في مكان مجاور تكثر فيه شجيرات الرّتم والأمصع، وإذ بأعرابي يقطع البادية على ذَلول (جمل أو ناقة سريعة الجري مخصّصة لقطع الصحارى). فلمّا رآني توجّه نحوي ثمّ قال: أريد سلطان! قلت له ماذا تَبغي من سلطان؟ تكلّم وأنا أوصل أخبارك إليه. قال: أنا قاصد سلطان بالذّات، وأحبّ أن أراه بعيني وأكلّمه بنفسي! قلت له: تكلّم أنا سلطان. فنزل عن ذَلوله وصافحني بحرارة وقال: مضى يومان وأنا في طريقي إليك لأعلمك أنّ فرحان بن مشهور (أمير من شيوخ قبيلة عنزة الرّولا) قرّر غزوكم بستمئة مردوفة (أي ألف ومئتي مقاتل كلّ اثنين على جمل) وقد أرسلني بشير بن ضبيعان الشراري (شيخ من القبيلة صديق للدروز) نذيراً كيلا يأخذكم الغزاة على حين غرّة ولتكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلتهم خارج منازلكم… هَدّأْتُ من رَوْعه ورغبت أن يرافقني إلى بيتي ليستريح، ولكنّه اعتذر وعاد من فوره مخافة أن ينكشف أمر غيابه عن الرّكب. وما أن غادر الأعرابي موقعنا حتى دعوت المجاهدين إلى اجتماع طارئ وكان عددهم يومذاك لا يتجاوز الثلاثمئة مُسلّح فأحطتهم عِلماً بالأمر ورحنا نعدّ العدّة لمقابلة فرحان بن مشهور… لقد مرّت بنا من قبلُ مِحَنٌ قاسية وخُضنا معارك ضارية لم نشعر ونحن نواجهها بثقل أعبائها وجسامة مسؤوليّاتها، كما بدا الأمر لنا ونحن نستجمع قوانا المادية والمعنويّة لمواجهة تلك الغزوة الهمجيّة المفاجئة!… لقد ساورتنا أفكار مُقلقة حقّاً إذا ما غزانا ابن مشهور ولكنّنا قررنا الصمود والمواجهة، ومكثنا بضعة أيام ونحن على تلك الحال من القلق المُمِضّ والتأهُّب المستمرّ. ولكن الله قدّر أن يصطدم ابن مشهور مع ابن الشنيفي في مذبحة قُتِلَ فيها من جماعته 255 رجلاً ثم انهزم شرقاً مع الذين بقوا معه وعندما صار في أرض بعيدة وجده ابن ضبيعان فضربه أشدّ ضربة ولم يسلم معه سوى خمس وعشرين ذَلولاً والباقي منهم قُتِل أو أُسر ومن جملة القتلى ابن أخيه عبيدة.(15)

عشيرة من قبيلة الشرارات تغير على مراعي إبلنا

قامت عشيرة من الشرارات بالإغارة على إبل المجاهدين في المرعى واستاقتها قبلَ أن يتمكّن الرّعاة من إبلاغ الثوار الذين عقدوا اجتماعاً على أثر ذلك حيث أرسلوا المجاهدَيْن حسين العطواني وكنج شلغين في وفادة لإبلاغ الأمير عبد الله الحواسي حاكم الجوف من قبل الملك السعودي وإعلامه بذلك ثمّ بعثوا بوفد آخر إلى الرياض برئاسة علي (أخو سلطان) وعضويّة نزّال أبو شهيل ومعذّي الدّهام (من البدو أصدقاء سلطان باشا) فقابلوا أمير نجد «ابن مساعد» واستعادوا بواسطته الإبل المسلوبة من قِبَل الشرارات الذين اعتذروا عن فعلتهم بقولهم «تَوهّمنا أنّ الإبل التي استولينا عليها تعود إلى «أهل الجبل» من البدو الذين لنا ثارات قديمة عندهم أمّا بنو معروف فمعاذ الله أن نسطو على إبلهم».

السعوديون يحاولون ترحيل الثوار إلى داخل المملكة

بعد تلك الحادثة أرسل أمير نجد ابن مساعد قوة بقيادة «سالم الشيخ» لترحيل الثوار إلى داخل المملكة بدعوى المحافظة عليهم وإبعادهم عن خطر العشائر البدوية المعادية لهم، فلم يوافق سلطان وقال للأمير المذكور: «إنّنا نفضل الإقامة حيث نحن في الحرّ والقرّ على سكنى المدن والتمتع بالحياة الهانئة.. وسوف نتحمّل أشقى أنواع شظف العيش والحرمان كيلا ننسى قضيّتنا ونتراجع عن أهداف ثورتنا». أصرّ الأمير السعودي على تنفيذ مهمّته فطلب سلطان باشا مهلة قصيرة ليدرس الثوّار أوضاعهم والكيفيّة التي سيواجهون بها هذا الموقف الحَرج، فاستجاب لطلبه بعد أن استشار رؤساءه وعندها سارع سلطان بإرسال وفد من الثوار هم: محمّد عز الدين وقاسم الحسنيّة وفوّاز حاطوم إلى الحجاز، حيث حَظوا بمقابلة الملك الذي «أحاطهم بعنايته وتكريمه وأصغى باهتمام إلى جميع القضايا والأمور التي عرضوها على جلالته ولكنهم يلمسوا تغييراً في سياسة حكومته المقرّرة».

غير أنّ كل تلك الجهود والنوايا لم تصل إلى نتيجة بل باءت بالفشل، ولم تثق المراجع العليا السعودية بنوايا سلطان. ولتأكيد حسن النوايا من جديد أُوفد يوسف العيسمي إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك وإعطائه الأدلّة الثابتة على «حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وآدابه؛ حاول العيسمي الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر ولكن السلطة السعودية رفضت السماح له بذلك بحجة أنّه من الأشخاص غير المرغوب فيهم فأخذ الرجل عندئذ يتصل بالزعماء المصريين شارحاً لهم معاناة الثوار وأحوالهم السيّئة في المنفى وكان الصحافيان تيسير ظبيان وعبّاس المصفي يرافقانه في تنقّلاته بين القاهرة والإسكندريّة فقابل في القاهرة مصطفى النحاس باشا وأحمد زكي باشا ومحمّد علي الطاهر كما زار أمير الشعراء أحمد شوقي ونقل إليه شكرنا على الأبيات الرائعة التي وصف بها الدروز بقوله:

ومــــــا كـــــان الـــــــدروزُ قَبيـــــلَ شَــــــرٍّ
وإن أُخـــــــذوا بمـــــــــا لـــــــم يستحقّوا
ولــــــــــــكن ذادةً وقُـــــــــــراةَ ضيــــــــــفٍ
كينبوع الصّفـــــــا خشنــــــــوا ورقُّــــــــوا
لهـــــــم جبـــــــــلٌ أشمُّ لـــــــــه شعــــــافٌ
مواردُ في السّحــــــــاب الــــــــــجونِ بُلقُ
لـــــــــــكلّ لبــــــــــوءة ولكـــــــــلّ شـبـــــــــلٍ
نضـــــــــــالٌ دون غابتـــــــــــه ورشــــــــــقُ
كــــــــأنّ من السموءَلِ فيــــــــه شيئــــــــاً
فــــــــــكلُّ جهاتـــــــــــه شـَـرَفٌ وخـــــــــلقُ

وفي الإسكندريّة قابل العيسمي الأمير عمر طوسون (مؤرّخ العائلة المالكة) وحاول إقناعه بتحويل التبرّعات التي جُمِعت في مصر باسم ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي (كانت تلك الثورة قد انتهت عام 1926)، طالباً تحويلها إلى أطفال المجاهدين في وادي السرحان، لكنّ طوسون ذاك (كان بنفسه شيء كثير من محاربة الدروز لجيوش جدّه محمّد علي التي جرّدها عليهم ظلماً قبل نحو سبعين عاماً) فلم يستجب لطلبه»(16).

كذلك اتصل سلطان باشا بفؤاد حمزة (من عبيه في لبنان كان يشغل وظائف معينة في المملكة) ليبذل جهده في تبديد الشكوك السعودية الذي أجاب برسالة وبعض ما فيها «… أرى من اللائق إجراء ما يلزم ـ مقابلة أو مراسلة ـ لإزالة سوء التفاهم وتأييد الولاء واستجلاب جلالته ويمكنكم تأمين الاتصال بواسطة عامل جلالته هناك والله تعالى يحفظكم وينجح مقاصدكم» 3 ذو القعدة 1348هـ (1929).

لم تنجح وفادة العيسمي إلى مصر فأعاد سلطان باشا تكليفه إلى جانب أخيه زيد الأطرش وعلي عبيد في مهمّة الاتصال بأعضاء حزبي الشعب والاستقلال في عمان والقدس وبشخصيات عربية كانت تعمل في مجال المؤتمر السوري الفلسطيني ليعملوا معاً على إيجاد حل لأزمتهم مع السلطات السعوديّة وبشكل يحفظ الكرامة «ويجنّبنا الصدام مع إخواننا وبني قومنا في السعوديّة».

صورة تذكارية التُقِطت في وادي السرحان | المملكة العربية السعودية سنة ١٩٢٨.

العاهل السعودي يرحّب بنا من جديد

وعى أثر تلك الوفادة سافر شكري القوّتلي على طائرة خاصة إلى الحجاز واجتمع بالملك عبد العزيز من فوره والتمس منه وقف الإجراءات المتخذة ضدنا وعدم التضييق علينا وإعطائنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده ومن جانب آخر بادر المؤيدون لنا في سورية وبعض البلدان العربية يرسلون البرقيات للعاهل السعودي ومنها برقية من السياسي السوري هاشم الأتاسي ورد فيها «إن معاملة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية ورفاقه المجاهدين بالحسنى لَمِن الواجبات التي تُمليها علينا روابطنا الدينية والقوميّة، نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم وأن تعملوا على حفظ حياتهم وصيانة كرامتهم ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة».

«لقد كان لتلك المساعي الحميدة أثرها الإيجابي في نفس العاهل السعودي فلم نلبث أن شعرنا بشيء من الطمأنينة إثر ذلك ممّا ساعدنا على تدبير شؤون حياتنا ومواجهة متاعبنا اليوميّة الأُخرى…»(17)

رياض الصّلح

رياض الصّلح يزور سلطان باشا والثوّار في المنفى

يقول سلطان باشا: «وقد زارنا ونحن في الحديثة (موقع في وادي السرحان) الزعيم اللبناني رياض الصلح وكان برفقته بضعة أشخاص بينهم صحافيّة فرنسيّة نابهة (هي كاندياني، مندوبة صحيفة الفيغارو الفرنسية)، وقد صرح سلطان باشا للصحيفة حينها بمطالب الشعب السوري وهي: «سيادة وطنية مطلقة، ووحدة سياسية غير مقيّدة واعتراف دولي باستقلال سورية». وقالت تلك الصحفيّة (كاندياني) إنّها «ما كانت تظنّ الزعيم الثائر وصاحب المعارك التي أصبحت مضرب مثل في فرنسا، بالرجل السياسي»، يتابع سلطان باشا «فأكرمنا وفادتهم وقد بلغ من تأثر تلك الفتاة الفرنسية أثناء تفقّدها لمنازل المجاهدين وتحدّثها مع نسائهم أن اغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى بعض أطفالهم وأخذت تردّد كلمات نقلها إلينا من كان يترجم لها من الزائرين: يا للطفولة البائسة المشرّدة !.. يا لبشاعة الاستعمار الفرنسي ووحشيّته !؟»(18).

ويبدو أنها جاءت إلى وادي السرحان لتستطلع أخبارنا وتتعرّف على نمط حياتنا ومعيشتنا في تلك المنطقة الصحراويّة فشاهدت بأمّ عينها كيف كان بعضنا يقتات بنبات «القطف» وغيره من نباتات البرِّيَّة ورأت أناساً ينقلون الملح على دوابهم وقد جمعوه من الممالح المجاورة ليذهبوا إلى بعض الحواضر في شرق الأردن ويشتروا بثمنه الزهيد بعض الكسوة والمواد الغذائية لعيالهم!.. وكانت لنا أحاديث ممتعة مع رياض الصلح أشعرتنا بنباهته وحِدّة ذكائه ورصانة تفكيره وقوّة شخصيّته وصدق وطنيّته وحسن تفهّمه لأوضاعنا الراهنة ومشكلاتنا السياسيّة والاجتماعيّة في سورية ولبنان فتوقّعت منذ ذلك الحين بأنّ دوراً خطيراً سيلعبه هذا الرجل في تاريخ لبنان الحديث!..»(19).

وقد طَرحت تلك الصحافيّة على سلطان باشا وأركانه أسئلة تتعلّق بالمصير المستقبلي لسورية والأُسس التي يرَوْنها مناسبة للاستناد إليها في المفاوضات التي يتمّ التمهيد لها بين الفرنسيين والسوريين للوصول إلى حلول عادلة للمطالب السوريّة بهدف خلق حالة من الاستقرار فيها.

فيصل الأوّل يصف معاناة سلطان في المنفى بالمحنة العظيمة

كان سلطان باشا قد أوفد فريقاً من الثوّار لتمثيل قيادة الثورة السورية في احتفالات جرت ببغداد بمناسبة إلغاء الانتداب البريطاني على العراق ودخوله في عصبة الأمم المتحدة آنذاك، وهناك اتصل الموفدون ومنهم زيد الأطرش أخو سلطان بالملك فيصل وأعضاء حكومته وزعماء المعارضة وعلى الخصوص ياسين باشا الهاشمي وأطلعوهم على أحوال سورية وأوضاعها السيّئة، يقول زيد: «ولمّا دُعينا لتناول طعام العشاء على مائدة الملك بمنزله الرّيفي في ضاحية المدينة دارت بيننا وبين الحضور أحاديث مطوّلة حول قضايا الوطن وشؤون الأمّة العربيّة. وبعد أن غادر المدعوون المكان التفت جلالة الملك إلينا فرحّب بنا وقال: إنّ للمجاهدين علينا حقّاً وفي أعناقنا دَيْناً. سوف لا أنساهم ولا أنسى سورية الحبيبة فهي في خاطري وإنّني وإن كنت ملكاً على العراق ومنهمكاً بقضاياه ومعالجة أموره فلا أترك سانحة تمرُّ دون أن أعمل لمصلحتها وأهتمُّ بالحوادث الجارية فيها حتى صِرت أخشى أن يثير سلوكي هذا غَيْرة بعض العراقيين..».

«لقد علّمتني الحياة كثيراً واكتسبت خِبرة عمليّة كبيرة أثناء وجودي في سورية .. بلّغوا تحيّاتي وفائق تقديري لجميع المجاهدين وقولوا لسلطان باشا: إنّ على القائد الصّبر والثبات ولو بقي وحده في ميدان الكفاح وأن لا بدّ لهذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها عبيده الأخيار من آخر(20).

قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وصديقه ومستشاره المجاهد عقلة القطامي |
وادي السرحان 1927 – 1937

سلطان باشا في منفاه: رجل يمثّل ضمير أمة

كان قد مرّ عامان على تعطيل أعمال الجمعية التأسيسية في سورية من قبل المندوب السامي «بونسو» وكان سلطان باشا والثوّار يأملون بعقد معاهدة مع فرنسا تعترف بحقوق السوريين في دولة موحّدة على غرار المعاهدة الإنكليزيّة ــ العراقيّة ولمّا كان الملك علي بن الحسين من الأشخاص المرشحين للعرش السوري حينها فقد كتب له سلطان باشا بتاريخ 16 حزيران 1931 الرسالة التالية التي تمثّل همّ كل سوري بل وعربي إلى يومنا هذا وممّا جاء فيها: «تعلمون أنّ سورية ـ وهي دماغ جزيرة العرب المفكّر ـ لم تتوانَ في نصرة الحلفاء إبّان الحرب العامّة بعد أن حالفهم جلالة الملك حسين رحمه الله ووعدوه وعداً صريحاً بإعطاء العرب استقلالهم.. وكان لجهود العرب تأثير عظيم في الحصول على النّصر ولكن يا لخيبة الرجاء ويا لفشل الأمة العربية المسكينة بذلك النصر فإنّها بدلاً من أن تُكافأ على إخلاصها وجهادها بإعطائها استقلالها كوفئت بسلب حرّيتها وسيادتها وكان نصيب سورية البائسة أفظع الحصص إذ قُطّعت إرباً إرباً وحُكمت حكماً استعماريّاً محضاً جعل السوريين يترحّمون على زمن الأتراك (العثمانييِّن) ويأسفون لما كان منهم نحوهم وبقيت سورية منذ دخول الإفرنسيين حتّى هذه اللحظة تحت ضغط الفوضى الإدارية والاقتصادية الضاربة أطنابها في طول البلاد وعرضها وهي لا تزال عرضة لنيران الثورات المستمرّة …» ويخلص سلطان باشا إلى أنّ «التفاهم (مع الفرنسيين) لا يكون إلاّ على أساس تحقيق أماني البلاد تحقيقاً أكيداً…»(21).

سلطان باشا يرفض وصاية تركية على الثورة

كتب المجاهد صياح النبواني في مذكراته؛ وكان واحداً من بين الثوار الذين اختاروا المنفى والمُجاهَدَة السياسيّة ضد الاحتلال الفرنسي إلى جانب سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وغيرهم من كبار المجاهدين من سورية ولبنان؛ يذكر أنه في يوم السبت بتاريخ 25 أيار 1929 ذهب لقصر الأمير «عبد الله الحواسي» عامل ابن سعود على المنطقة (أي الحاكم أو المدير فيها من قبل الملك عبد العزيز) فاستقبله الحواسي باحترام، وأثناء الجلسة جاء حمد «أمير الزّكرت» أي قائد الحرس من عسكر الحواسي، فأبلغه بوجود رجل شركسي يريد مقابلة سلطان باشا وطلب منه أن يهتمّوا بالرجل ويحافظوا عليه، وكان الرجل ينتظر في إحدى غرف القصر.

قَبِل صياح بتوصية أمير «الزّكرت»، فجاؤوا به وكان ضخم الجثّة مهيب الشخصية ذا عينين واسعتين أركبه معه في الطّريق. كان الرّجل مُتَكتّماً قليل الكلام وما أن وصلوا مُخيّم الثوّار، لم يتمهّل الرجل، فسأل من فَوْره بلغة عربية فُصحى: أين بيت سلطان باشا؟ وكرّر طلبه ذاك بإلحاح. طلب منه صياح التريّث وأبلغه أنّه ضيف عنده، وأقنعه أن لابدّ من القيام بواجب الضّيافة تجاهه أوّلاً.

كان صيّاح رجلاً ذكياً وحذراً ولا يحب التَّسرّع، ويريد أن يطمئنّ لمهمّة الغريب… هَدَأ الرجل، وسُرّ بمعاملة صيّاح له، حيث استضافه في غرفة من الطّوب الطيني كانت قد بنيت كيفما اتفق إلى جانب (بيت الشَّعر: أي الخيمة التي تقيم فيه أسرة صيّاح)، ومن حديث الليل عرف صيّاح أنّ الرجل تركيّ يتظاهر أنّه مُناوئ لسياسة كمال أتاتورك، ولكنّه في الحقيقة يحمل أفكاره. بقي الرجل يُلِحّ ليقابل سلطان باشا وبعد أن تيقّن صياح من جَدِّيَّة مهمّته اصطحبه لمقابلة قائد الثورة حيث سلّم عليه، وخاطبه بالتركيّة فلم يرد عليه سلطان بل أجابه بالعربيّة، رغم أنّه يعرف شيئاً من لغة الأتراك. اطمأنَّ خاطر الرجل للقاء سلطان وقد انتهت المقابلة دون أن يفصح الرجل أمام الحضور عن مهمّته ويبدو أنّ سلطان أفهمه بالتّركية بتأجيل البحث لليوم التالي عاد الرجل مع مضيفه إلى غرفة اللِّبن (كان صياح ذا ثقافة اجتماعية واسعة ووعي سياسي عميق كما عَرفتُه شخصياً)، يقول: «تحدّثت معه ببعض المواضيع الأدبيّة والجغرافية وكتب لي بخط يده وقال: ياصياح إذا دار الزمان دورته وذهبت إلى تركيا أبرز هذا العنوان (عثمان علاء الدولة، من أولاد أمراء ذي القدريّة الأناضول قضاء سونغورلو ــ قرية بوغاز قلعة ابن ضياء بك ذي القدريّة).

في اليوم التالي ذهب صياح والضّيف عثمان لبيت سلطان باشا، فبدأ الرجل حديثه وكان من بين الحضور من خاصّة سلطان صيّاح وسليم الحمود الأطرش فأفصح الضيف بعد اطمئنانه للحضور بأنه قادم بتكليف من مصطفى كمال أتاتورك للاتصال بقائد الثورة وإبلاغه «أنّ تركيا تريد المساعدة لإحياء الثورة مُجدّداً وتقدّم خمسة ملايين ليرة تركية إلى سلطان باشا هديّة وتقدّم الضباط والخبراء العسكريين والمدفعيّة والدبابات والمصفحات الخفيفة والثقيلة ومليون ليرة تركية شهريّاً مساهمة كرواتب رمزيّة للثوار أمّا الضباط الأتراك فتكون رواتبهم من تركيا وليس من المليون ليرة للمساهمة بها وأضاف: إنّ الاتصال بالمنطقة الجنوبية يأتي عن طريق الصحراء وتكون العمليات من الجنوب تأتي عن طريق الصحراء والشمال وعلى طول الساحل السوري مع عمليات بسيطة في لبنان لإشغال بال فرنسا».

وهكذا وعد الرسول «إنَّا باسم تركيا الكمالية مستعدّون لإمداد حركاتكم لأكثر من خمس سنوات»..

هنا سأله سلطان: لئن نجحنا وتمكنّا من طرد الفرنسييّن ماذا يكون موقف تركيا منّا؟ وما ثمن تلك المساعدات؟ قال الرسول: يهمّنا المحافظة على استقلال سورية وليس لتركيا مطمع سوى أن الثقافة التركية تُعَمّم على المدارس السوريّة وتكون اللغة التركية إلى جانب اللغة العربيّة. عندها سكت سلطان باشا وخيّم صمت على الجلسة فترة. أردف بعدها: الفرنسيون أجانب وآخر الأمر الأجنبي يخرج من البلاد، وتبقى البلاد لأصحابها، نحن تغلّبت علينا قوى الاستعمار، ولكنّنا لم نستسلم وآخر الأمر نعود إلى البلاد. فأجاب عثمان بك: يا باشا: تركيا نواياها حسنة على السوريين ونحن نهتم بطرد فرنسا من البلاد، ولسنا دولة استعماريّة بل نتمنّى الخير لكم. قال سلطان بحزم: نحن نتمنّى أن يظلّ العلم التركي مرفوعاً في سماء تركيا أمّا سوريّة فتستقلّ وتبقى محافظة على الصداقة التركيّة وسورية تحتاج إلى المساعدات في المجالات الدوليّة، فإذا كانت تركيا ترغب بمساعدة سورية فالمجال واسع في الحقل السياسي. كان جواب سلطان حاسماً بحيث لم يترك للتّركي مجالاً للردّ فسكت على مضض.

من المنفى في السعودية إلى اللّجوء السياسي في الأردن

رغم المساعي المشكورة مع العاهل السعودي لنيل موافقته على بقاء سلطان باشا والثوار في وادي السرحان متجمعين في النبك، فقد كانت هناك مساعٍ أُخرى مع المندوب السامي البريطاني في الأردن لقبول لجوء الثوّار للأراضي الأردنيّة في حال إصرار جلالة الملك عبد العزيز على عدم تحقيق رغبات الثوّار المشار إليها. وكان الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن حينها على رأس المُهتمين بذلك حيث كان يسعى جاهداً لقبول سلطان باشا والثوّار في أراضيه، رغم أنّ «السلطات البريطانية القائمة تُغلّ يده في المنطقة وتحاول أن تجعل من الإمارة التي يتقلّدها في أعقاب خروج الملك فيصل من سورية ميداناً فسيحاً لألاعيبها السياسيّة في فلسطين وذلك على الرغم من الأساليب الديبلوماسية التي كان يتبعها مع تلك السلطة في سبيل تثبيت قواعد إمارته الناشئة وعلى أمل أن تكون له بلاد الشام بأسرها في المستقبل(22).

لكن البريطانيين لم يستجيبوا لرغبة الأمير عبد الله في ذلك الحين، غير أنّ تغيّرات لاحقة طرأت على السياسة البريطانية في الشرق العربي فيما بعد، إذ عقدت بريطانيا معاهدة مع حكومة الملك فيصل لتتخلّص من مخاطر الثورات وتكاليف قمعها الباهظة، وألغت نظام الانتداب… ومن جانب آخر مال الفرنسيّون في سورية إلى الاعتدال في سياستهم تجاه المطالب السوريّة، كما أدرك الإنكليز والفرنسيون أنّ شظف حياة الثوار في وادي السرحان وما كان يحيط بهم من أخطار البداوة والمجاعات التي كانت تهدد حياتهم وتنهك قواهم قد خفّفت من غلواء ثورتهم «فلم يبقَ إذن ما يمنع أصحاب الشأن والسلطة النافذة في الأردنّ من قبول عودة سلطان باشا والثوّار إلى شرق الأردن كلاجئين سياسيين!»(23).

سلطان باشا يعترف بفضل الملك عبد العزيز آل سعود

انتقل سلطان باشا والثوار إلى الأردن عام 1932 ولم ينسَ الاعتراف بجميل العاهل السعودي تجاه الثوار يقول: «قمنا بواجبنا قبل مغادرتنا لوادي السرحان فقابلنا المُعتمَد السعودي في المنطقة الأمير عبد الله الحواسي، ووجّهنا الشكر عن طريقه إلى جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وحكومته وشعبه لِما كان لهم علينا من فضل كبير في قبولنا بديارهم لاجئين وبأرضهم مُحتمين حين سُدّت في وجوهنا الأبواب وتعرّضنا إلى خطر التسليم إلى أعدائنا الفرنسيين..»(24)

اللّجوء السياسي إلى الأردن ومتابعة تأييد الوحدة السوريّة

إنّ مجاورة الأردن لسورية ووحدة النسيج الاجتماعي بين البلدين إلى حدّ كبير والمناخ الأقل تطرّفاً ممّا كان عليه الحال في الصحراء السعوديّة كلّ ذلك كان أكثر إراحة للثوّار الذين تأخّر حَصاد جهادهم عمّا كانوا يطمحون إليه، وفي ذلك يقول سلطان باشا «كان عزاؤنا الوحيد في تلك الديار التي نزلنا بها هو مجاورتنا لعشائر عديدة كانت لنا صلات قديمة بها وعلاقات طيبة مع شيوخها وقد تركت معاملهم الطيبة لنا أثراً بالغاً في نفوسنا وأبعدت عنّا وحشة الغربة وفراق
الأهل والأحبّة».

وفي السنة ذاتها حضر الأمير عبد الله لزيارتنا والترحيب بنا في الكرك وأخذ يتفقد أحوالنا ويأمر بإغاثة المعوزين منا وتأمين حاجاتهم فكانت لفتة كريمة شملت المراكز الأخرى التي نزل بها إخواننا الآخرون». مع انتقال سلطان باشا والمجاهدين من وادي السرحان إلى حواضر شرق الأردن وهي جزء ممّا اصطلح على تسميته بالمَعمور «لم تكن حالهم أفضل مما كانت عليه في الصحراء سوى أنّهم نزلوا في بيوت وفي أماكن مأهولة المعيشة فيها أسهل بتوفر وسائطها لكن ذيول الأزمة الاقتصادية العالمية انسحبت عليهم فشحّ المال المُرْسَل من المُغتربين لإعانتهم ومن الأدلّة على استمرار عوزهم اضطرار سلطان باشا بعد وصوله إلى الكرك أن يجيب صياح الأطرش على قفا رسالته، بأنّه لا يوجد عنده فلوس حتى يشتري الورق وعَزْمه على بيع حُلا زوجته التي هي جهاز عرسها من أجل فرش البيت في الكرك لأنّ (الفرشة) البالية التي حملوها من الحديثة لم تعد تصلح، وهذا ممّا يدحض اتهامات معارضيه بأنّه يستأثر بحصّة كبيرة من الإعانات»(24).

سلطان باشا من الأردن يتابع مجريات مفاوضات معاهدة 1936

تغيّرت الظروف الدولية لمصلحة المطالب السورية فجنحت فرنسا إلى الملاينة مع تصاعد خطر النازيّة والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، ومع وصول اليسار الفرنسي إلى الحكم عام 1936 وكانت فرنسا قد أصدرت إعفاءات عن عدد من الثوار قبل ذاك اعتبرها السوريون ناقصة وعرجاء، وبعد إضراب البلاد لمدّة خمسين يوماً قَبِلَ الفرنسيّون بتشكيل وفد للبحث في معاهدة بين البلدين، «وخلال وجود الوفد السوري في فرنسا لم تنقطع الاتصالات بسلطان وإخوانه المجاهدين المبعدين عن سورية وقد أصرّوا على تحقيق ما ثاروا من أجله وطالبوا به سابقاً ورفضوا العودة ما لم تتحقق مطالبهم باستقلال سورية وسياد تها ووحدتها»(23). وبعد مفاوضات عسيرة قبل الفرنسيون بالعفو عن سلطان باشا والمجاهدين، فتشكّلت لجنة في دمشق لاستقبالهم وانتقل سلطان باشا من الكرك إلى عمّان في 15 أيار 1937 وحلّ ضيفاً على الأمير عبد الله بعد استقبالات رسميّة وشعبيّة ودعوات وتكريمات من كبار رجال الدولة الأردنيّة ومن ثمّ أقيمت حفلة وداع في سينما البتراء لسلطان باشا والمجاهدين حضرها وفد فلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني وآخر من دمشق برئاسة فخري البارودي. يقول سلطان باشا «وكنّا في أعقاب حفلات التكريم والاستقبال نتوجّه بالشكر إلى سموّ الأمير عبد الله وسائر أمراء الأسرة الهاشميّة الأكارم وحكومته الرشيدة وأعيان البلاد وشيوخها الأفاضل والشعب الأردني النبيل.. نشكرهم جميعاً على ما لقينا أثناء إقامتنا بديارهم العامرة من حسن المعاملة وطيب المعشر».

الاستقبال في دمشق عاصمة الأمويين

ليس أصدق من وصف سلطان ليوم عودته من المنفى واستقباله وصحبه الثوّار في دمشق يوم 20 أيار 1937، يقول: «كان استقبالنا في العاصمة الأمويّة منقطع النظير إذ يعجز الإنسان عن وصف شوارعها المُزدانة بأبهى حلّة من أقواس النصر وأنوار المصابيح الكهربائية الساطعة وفاخر السجّاد ومئات الألوف من المواطنين والمواطنات الذين كانوا يموجون فيها وينشدون الأناشيد الوطنيّة والهتافات المدوّية بحياة المجاهدين! نزلنا بفندق الشرق (أوريان بالاس) بضيافة الحكومة وأمضينا يوم الخميس بكامله ونحن نستقبل الوفود التي جاءت للسلام علينا وتهنئتنا بسلامة العودة من مختلف أحياء المدينة وسائر أنحاء البلاد. وفي صبيحة اليوم التالي قمنا بأداء فريضة الجمعة في جامع بني أميّة صحبة فخامة رئيس الجمهوريّة السيّد هاشم الأتاسي وأركان الدولة وأعيان البلاد ثم احتفلت الحكومة بنا رسميّاً بدار البلديّة فألقيت كلمات وأُنشدت قصائد في مدح المجاهدين وتمجيد الجهاد ذوداً عن الوطن في سبيل الحرّية والاستقلال».

إلى السويداء عبر طريق درعا وتحطيم نصب التجزئة

في يوم الأحد 23 أيار غادر سلطان الفيحاء إلى السويداء بطريق الشيخ مسكين ـ أزرع، فكان الأهالي من قرى سهل حوران والجبل يستقبلون الثوّار العائدين وزعيمهم بحرارة حيث يضطرون للتوقّف عند مفارق القرى لتناول القهوة والمرطّبات والاستماع للقصائد الزجليّة وكلمات الترحيب وخطب الخطباء.

وعندما وصل الموكب إلى حدود الجبل مع حوران انتبه سلطان باشا لعلامة حدود «الدولة الدرزيّة الطائفية» التي كان الفرنسيّون قد اصطنعوها، فنزل بنفسه ليزيل بعض معالم ذلك النّصب الإسمنتي الذي كان يذكّر بسياسة التجزئة التي اتبعتها فرنسا أثناء حكمها المباشر للبلاد…

كان الفرح الشعبيّ غامراً بعودة القائد والثوار إلى ربوع الوطن الغالي وقد تمثّل بـ «ذلك الاستقبال الذي استقبلَنا به أهلنا وأبناء عشيرتنا في المزرعة والسويداء حيث كانت أصوات هتافاتهم وأهازيجهم الحربيّة المعهودة تملأ الأجواء بأنغامها الهادرة المثيرة لأعزّ الذكريات».أمّا في السويداء فما أن أطل سلطان باشا ومحافظ السويداء نسيب البكري وكبار المستقبلين من على الشرفة المطلّة على الساحة العامّة التي كانت تعجّ بألوف المواطنين «حتى سرت موجة عارمة من الحماسة في نفوسهم وأخذوا يلوّحون لنا بأيديهم وكوفياّتهم البيضاء تحت أشعّة الشمس الوهّاجة ويقاطعون الخطباء بتصفيقهم الحاد المتواصل وبصيحاتهم المُجلجلة التي كانوا يحيّون بها كلّ فرد من إخوانهم المجاهدين العائدين».(24)

ومن السويداء غادر سلطان باشا يوم الاثنين في 24 أيار القريّا لتستقبله جماهير غفيرة في قرية رساس وعلى مفرق طريق عرى ثم العفينة أجمل استقبال ليصل بعدها إلى بلدته القريّا يقول: «كان لنا فيها من انطباعات صور اللقاء بعد ذلك الفراق الطويل ما يغمر النفس بالبهجة ويستثير العبرات».

صور تُنشر في للمرّة الأولى، أرسلها لنا مشكورين، الزملاء الأعزّاء في عمّان، الأردن.

ذكرياتي الشخصيّة عن سلطان باشا

كنتُ طالبا في مدرسة القريّا في الصف السادس عام 1956 وفي الصف التاسع عام 1959 وكم كنت أراه في الصباحات الباكرة الباردة وهو يبكّر إلى العمل في الأرض، يلبس معطفاً أسود قديماً وقد حزم وسطه بحبل من «مرس» ليثبّت أزرار معطفه فلا تنفكّ أثناء الحركة، وقد لفّ رأسه بكوفيّة صفراء كيفما اتّفق ثم يصعد ليجلس محشوراً على مقعد الدولاب الخلفي لجرّاره «الفركسون» إلى جانب سائقه ثمّ يمضي معه إلى مزرعته شمال القريا على مسافة نحو كيلو مترين في «خربة حزحز» وهناك أعمال كثيرة من الحراثة وزارعة الأرض بالحبوب وعزل الحجارة من التربة وقلع الأعشاب الغريبة وغرس الأشجار… كلّ ذلك كان اهتمامات القائد العام للثورة السورية الكبرى الذي رفض المناصب الحكومية الرفيعة لكي يعيش قانعاً بالعيش من العمل بالأرض التي يعشقها وكم قاتل الأعداء من أجلها… وكنّا نجد متعة في زيارته في المضافة عصارى بعض الأيام حيث نشعر بمهابته واهتمامه بنا بأن نكون شباناً متعلّمين وحيث يسألنا عن أوضاع أهالينا الذين كان يعرفهم شخصيّأً…

هكذا هو سلطان باشا الأطرش، قدوة في كسب العيش بالكد النّظيف، وأسطورة في جهاده في المعارك وقتال الأعداء وقد خلّد في صموده الأسطوري ورفاقه، من دمشق وجبل العرب ولبنان، وتحمّلهم حياة الصحراء وشظف عيشها من أجل سورية عربية مستقلة موحّدة، وشرق عربي خال من الاحتلال الأجنبي.

عودة سلطان باشا الاطرش
إلى دمشق عام ١٩٣٧.


المراجع
  1. سعيد الصغير، بنو معروف في التاريخ، مطابع زين الدين،1984،
    ص 628.
  2. أحداث الثورة السوريّة كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، 1925 ـ 1927، دار طلاس، دمشق 2006، ص 306.
  3. عبدي الأطرش، أوراق من ذاكرة التاريخ، (مذكّرات المجاهد الكبير صياح الأطرش) دار الطليعة الجديدة، 2005دمشق، ص 101.
  4. أحداث الثورة السورية، م.س، ص 307.
  5. أحداث الثورة السوريّة، م.س، ص 310.
  6. حسن أمين البعيني، سلطان باشا الأطرش، مسيرة قائد في تاريخ أمّة، 1985، ص 239.
  7. عطا الله الزاقوت، حكايا من مجالسنا، 2003، ص 12.
  8. أحداث الثورة السوريّة، م.س، ص 311.
  9. م.س، ص 312.
  10. م.س، ص 312
  11. م.س، ص 313.
  12. م.س، ص.314.
    حسن أمين البعيني، سلطان باشا الأطرش والثورة السوريّة الكبرى، مؤسسة التراث الدرزي، 2008، ص 514 ـ 515.
  13. عبدي الأطرش، أوراق..، م س، ص 125.
  14. م.س، ص 125.
  15. أحداث الثورة السورية، م.س، ص 318.
  16. م.س، ص 319.
  17. م.س، ص 333.
  18. م.س، ص، 333.
  19. م.س، ص،336 من هامش الصفحة.
  20. م.س، ص 334ـ 335.
  21. م.س، ص 337.
  22. (23) م.س، ص 339.
  23. م.س، ص، 351.

بلدة رساسْ

هي «قرية هادئة تجمع في أحضانها جمال الرّيف وحداثة المدينة»١ وتقع جنوب مدينة السويداء بمسافة 5 كلم على الطريق التي تصل بين السويداء والقريّا على باحة جبليّة منبسطة تبلغ مساحتها12،730دونماً، تميل باتجاه الغرب ميلاً متموّجاً لطيفاً باتّجاه سهل حَوْران إلى الغرب منها، ويبلغ ارتفاعها من على مستوى سطح البحر 1040م، أمّا عدد سكانها فنحو أربعة آلاف وخمسمئة نسمة لكن العدد الفعلي للمقيمين فيها تنامى كثيراً عن الأصل بسبب النزوح إليها من العديد من قرى الجبل لقربها من السويداء مركز المحافظة وبؤرة الوظائف والأعمال والمهن، وبسبب الأزمة السورية منذ العام 2011.

تحدّها من الشمال أراضي السويداء، ومن الشرق أراضي بلدة سهوة بلاطة، ومن الغرب أراضي قرية كناكر ومن الجنوب الغربي أراضي بلدة عرى ومن الجنوب أراضي بلدة العفينة. وتبلغ مساحة مُخطّطها التنظيمي 3950 دونماً.

ولعلّ اسم القرية العربي مُسْتمد من غِناها القديم بالآبار/ الينابيع. فمن معنى الكلمة القاموسي؛ الرّسّ: البئر القديمة2. ويفيد الرحّالة حنا أبو راشد الذي أرّخ للجبل وأحداثه في كتابه «جبل الدروز ، حوران الدّامية، عام 1925»، أنّه وجد في بلدة رساس: «نبعان سايلان، تستفيد منهما بلدة جبيب بواسطة قناة…»3 (تقع جبيب في الجانب الشرقي من سهل حوران على مسافة نحو 14 كيلومتراً كلم إلى الغرب من رساس وكانت من ممتلكات دار إمارة جبل الدروز في بلدة عرى حينها). ويبدو أنّ رساس القديمة لم تُدرس آثاريًّا٤. عدد سكان البلدة الأصليين نحو 4500 نسمة، وهناك أكثر من ألفين وخمسمئة نسمة آخرين من الوافدين. وفي القرية الأولى بقايا عمران قديم تشهد عليه آثارٌ لمبان قديمة في دار آل الأطرش، وتتبع لها مزرعة «أمّ الشراشيح» إلى الشمال القريب منها، وقد وُجدت في تلك المزرعة آثار تعود لإنسان ما قبل التاريخ (أدوات صوّانية)، كما وجدت كِسَر فخّارية تعود لعصور لاحقة وآثار معبد وثني شُيِّد على أنقاضه مزار يحمل حاليّاً اسم النبي أيّوب5.

ومن الجدير ذكره أنّ قرية رساس كانت أوّل قرية تصلها المياه بواسطة الأنابيب بعد مدينة السويداء، منذ أربعينيّات القرن الماضي وكان مصدرها من مياه عين أمّ القصب الواقعة في أراضيها على مسافة نحو كيلو مترين ونصف من القرية. كان ذلك بتدبير من الأمير متعب الأطرش شيخ القرية وعمل جماعي إلزامي من قبل الأهالي بحيث وُزِّعَت المياه في ثلاثة طوالع وكانت مياهها تصب ليلاً ونهاراً بحيث يذهب الفائض عن حاجة الناس إلى الحدائق.

رسالة جبل العرب