الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حَوْلَ مُعتقَد أبي العلاء المعرّي

تمهيد

قليلةٌ جدّاً الشخصيات الفكريّة والأدبيّة التي شغلت الناس والنقَّاد في دنيا العربية وهي على قيد الحياة، ثم ظلَّت تشغلهم، بالمقدار نفسه، بعد نحو ألف سنة من رحيلها. هوَ ذا حال أبي العلاء المعرّي، التَّنوخي المَحْتِد، بين أواخر القرن الرابع وأواسط القرن الخامس للهجرة.

لقد قيل في المتنبي، كعبةُ إعجابِ المعرّي ومثاله في الشعر، «مالئ الدنيا وشاغل الناس». وكان ذلك حقّاً، لتفتُّق عبقريته الفكرية والفنية عن صور وأفكارٍ لم يسبق لها مثيل، باقية إلى اليوم، لا يزولُ وقعُها، ولا ينقضي ما احتوته من أفكار وصورٍ، بل ومعايير للفن الشعري الرفيع المستوى (الإغريقي المُناخ والسُّمو).

مع ذلك، فإنَّ ما عُرِضَ لشعر المتنبي من مديح ونقد، ولمعتقده من تفكّرٍ وظنّ، يبقى قليلاً قياساً بما حَظي به المعرِّي «العظيم»، في شعره، ونثره، وفي معتقداته، على وجه الخصوص، التي حيّرت كبار النقّاد من معاصريه، فتناقضوا واختلفوا في تفسيرها أيّما اختلاف. ثم تحوّلت بعد رحيله عن هذا الدنيا مصدراً لم ينضب لآراء ودراسات وكتب وأطاريح علمية بالغة الأهمية لمّا تزال تخرجُ إلى النور سنوياً، واستمرت، كما حالُ أحكامِ معاصريه، على تباينٍ شديد يصل حد التناقض الصريح – كما سنرى.
فمن هو المعرّي ذاك، «عبقري كلِّ الأزمنة»! بشهادة غير أديب
ومفكّر، قديمٍ وحديث، ووفق اعتقادي الثابت – وقد تعرّفتُ إلى أعماله الشعرية والنثرية منذ خمسين سنة، فدرستها مطوّلاً، ودرّستها مطولاً في قسمي الفلسفة واللغة العربية في كليَّات دراسية، 39 سنة جامعية عدّة.

حياة الرجل

شهدت مدينة «المعرّة»، القريبة من حلب،(شمال سوريا اليوم) ولادة المعري الطفل أحمد نهار الجمعة في الثالث من ربيع الأول 363هـ / كانون أوّل 973 م.

يعود أبو العلاء في نسبهِ لـ «تنوخ»، قبيلة عربية يمنيّة قدمت مع جيش أبي عبيدة بن الجرّاح في فتح بلاد الشام. نزلت القبيلة في معرّة النعمان، وكان فيها القضاة والشعراء والعلماء. وقد ورث أبو العلاء منهم من دون شك الكثير من ثقافته ونبوغه. وورث، كذلك، عن أخواله «بنو سبيكة»، عشيرة قدمت من حلب ونزلت المعرّة، الكثير أيضاً. وكان لكرَم أخواله وجُودِهم الفضل في اكتفاء أبي العلاء المادي، وهو يذكر فضلهم ذاك في غير مناسبة.

فقد أبو العلاء بصره في الرابعة من عمره لإصابته بمرض الجُدَري. لكن ذلك لم يحُلّ دون دراسته وتحصيله العلمي إلى أقصى حدّ في كنف أسرة اشتُهرت بالعلم وتسلُّم القضاء. كذلك لم يحُل عَماه دون تَرحاله طلباً لمزيد من العلم في المدن المجاورة، أو لِلِقاء علماء أخذ عنهم وذكرَ فضلَهم. إلّا أنّ أشهر رحلاته كانت تلك التي قصد بها بغداد، مركز الخلافة العبّاسية ومدينة العلم والعلماء والأدباء، وذلك سنة 398 أو 399 للهجرة وعاد منها سنة 400 للهجرة. لقيَ أبو العلاء في بغداد حُسن وِفادة وكثيرَ تكريم، وكان قد بات معروفاً – وهو في الخامسة والثلاثين. حضر في بغداد مجالس العلم والحكمة والمناظرات. وأشهر ما جرى له في بغداد كان في مجلس «الشريف المُرتضى»، إذ جعل هذا يهاجم المُتنبي؛ وأبو العلاء شديد الإعجاب به. فما كان من المعرّي إلّا أنْ علّق قائلا: «لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلّا قولُه: لكِ يا منازل في القلوب منازلُ، لكفاه فضلاً». فغضب المرتضى وأمرَ بإخراجه من مجلسه، وأكمل: أتدرون ماذا أراد الأعمى من القصيدة؟ يريد قول المتنبي:

وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ
فهي الشهادةُ لي بأنِّي كاملُ

عاد المعرّي إلى المعرة بعد سنة ونصف، فاختار العُزلة نهائيّاً (في سجن عماه، ومنزله، وجسده، ثلاثاً ذكرها المعري في شعره). لم يغادر المعري محبسه إلّا في النادر (كما حدث حين دفعَ عن المعرة غضب صالح بن مرداس صاحب حلب بعد حصاره لها «إكراماً للشيخ). وكان في محبسه زاهداً، متقشّفاً، لا يأكل لحم الحيوان، ولا مشتقاتها، وحتى بعض النبات؛ مكتفياً بلبدة صوف فراشاً في قرِّ الشتاء وحصيرة قشر في حرّ الصيف. لمنامه، في روايات معاصريه. ومع ذلك فهو لم يكن معتزلاً متنسِّكاً، بل كانت داره كعبةً للقاصدين، زواراً وطلاب معرفة، إلى أن توفّاه الله سنة 449 للهجرة بعد مرض لأيّام عدّة.

أمّا ميزته الثابتة فكانت ترفّعه عن مِتَع الدنيا، فلم يكن ساعياً لمجد، أو منصب، أو مال أو حتى هديَّة؛ وقد ظهر ذلك في بغداد التي كانت تعيش زمن تكسّب الشعراء ووقوفهم أمام بلاط الخلفاء والوزراء والولاة. بخلاف سمة العصر في التكسّب من خلال فن المديح، أو التقرّب من السلاطين. كان المعري نزيل منزله، بل محبسه، يتقرّب إليه الولاة، ويحجُّ إليه العلماء، ويسعى جمهوره الواسع إلى طلب النصيحة، وردّ غائلة الزمن، كما حدث غير مرّة مع أهالي معرّة النعمان، إذ منع عنهم غدر الوُلاة أكثر من مرّة «إكراماً للشيخ»، كما لو كان «حِرزاً» عليهم؛ فبات الذين يقفون على بابه، كما قيل، أكثر من الواقفين بأبواب الولاة.

ثقافته وأعماله

لا جدوى من مقارنة ثقافة المعري بأيٍّ ممّن نعرف من ثقافات سواه من العلماء والأدباء. وبسبب من اتساع معرفته وثقافته غير العاديتين، في كل باب تقريباً، فقد اختلطت الحقائق بالأساطير.
وُهِبَ الرجل، بإجماع الباحثين، عقلاً، وذكاء، وذاكرة، تظنّ أنها ليست للبشر، بل لآلهة الإغريق، على سبيل المثال.

كيف لعقل إنسان فقد بصره وهو دون الرابعة من عمره أن يتقن حتى الكمال (الممكن) ما أُتيح أو عُرض له، بل لعصره، من ثقافة في أبواب: اللغة، والأدب، (من شعر ونثر وبيان وبديع وبلاغة وفنون أُخرى)؟ أضف إلى ذلك التاريخ بمراحله السابقة كافة، والأنساب، والديانات، والفلسفة، والفكر بعامة؟ وغير بعيد عن الصحة قولة من قال، إن اللغة لتأخذ بعد القرآن الكريم من المعرّي. أو قول آخر: لا أظن العرب نطقت لفظة لا يعرفها المعرّي.

وكيف لذكاء أيٍّ كان أن يُضارع ذكاء من يعرف ضيفه إذا تحدّث، أو حاله إذا تكلّم، أو ما قصد إليه ولم يظهره من ثنايا خطابه؟ أو أن يستشعر الفروقات البسيطة بين هذه وتلك، بمجرد إحساسه بها: فيدرك أنّ ورقة كانت تحت الفراش الذي يجلس عليه فأزيلت! وكذا في ما أوردناه من مجلس الشريف المُرتضى.

كيف لذاكرة بشريٍّ أن تضاهي ذاكرة المعري الأُسطورية، ولطالما نسج المؤرخون حولها الأساطير: يزور مكتبة المدينة الفلانية أو الحاكم الفلاني، فيطلب لمرافقه أن يقرأ له ما وسعه من كتب، فتصبح في ذاكرته وعقله وكأنه رآها وقرأها غير مرّة؟ أو تمرّ القافلة في طريقه إلى بغداد سنة 399 للهجرة بشجرة تعوق العبور على الطريق، فيُطلب من العابرين، في العادة، خفض الرؤوس، فإذا به في أثناء عودته بعد سنة كاملة (400 للهجرة)، يخفض رأسه في المكان عينه وسط استغراب من معه، فالشجرة المعنية كانت قد قُطعت ولم يعد لها من وجود.

أو خذ حافظة ذاكرته أيضاً، أنّ المعري الصبي سمع شجاراً بين فلاحَيْن بالسِّريانية، (وهي شائعة في قرى شمال سورية آنذاك)، وحين ذهب الرجلان إلى القاضي ليفصل في خلافهما، طلب شهوداً، قالا له لم يكن هناك غير صبي أعمى؛ وإذ طُلِب ليشهد ردّد ما قالاه حرفيّاً وهو لا يفقه شيئاً من معناه؟

توفرّت للمعري ثقافة وعلوم عصره جميعها، وما أتيح له ممّا سبقه: اللّغوية، والأدبية، والفقهية، والفلسفية. قال فيه بعض أهل عصره: كانت معرفته باللغة معرفة تامة. (إبن الجوزي) وقال آخر: ما أظن نطقت العرب بكلمة لم يعرفها الشيخ. (البديعي) وبدا تأثير ذلك جليّاً في أعماله شعرِه، ونثرِه، كما في أعماله المبتكَرة والرائدة. بلغت أعمال المعري، حسب مؤرِّخ عصره، القفطي، خمسة وخمسين كتاباً، عدا الرسائل، وهي بالمئات. أهمُّ أعماله التي وصلتنا: «اللزوميات» في مجلدين، جعلها المعري في أبواب الحكمة والوعظ والرأي. «سِقط الزند»، هي شعر المعري، غير الفلسفي كحال اللزوميات. فيه بعض أرقّ شعره، كما قيل. «رسالة الغفران»، فيها ظاهراً شروح لمسائل لغوية وفقهية، وأعمق من ذلك نقده في غير اتجاه. اهتم المستشرقون برسالة الغفران أيّما اهتمام، فتُرجمت باكراً، بل عدّوها رائدة في بابها، نسج على منوالها بعد ذاك بعدة قرون «دانتي» وآخرون. إلى أعمال لغوية وأدبية أُخرى، حيّرت معاصريه، لغرابة بعضها، وغُنوض الكثير منها، فذهبوا في تفسير مُعتقد المعري انطلاقاً من الغموض ذاك.

معتقده

إذا كان للمؤرخين والباحثين، من زمن أبي العلاء أو في أزمنة لاحقة، أن يتنازعوا في نقطة وحيدة أيّما نزاع، فهي من دون شك تلك المتصلة بمعتقديه، الفكري والديني. والنزاع في الثاني أبعد غَوْراً وأشدّ خطراً ممّا هو في الأول. يقول أدوار البستاني في كتابه «أبو العلاء المعري، متأمّل في الظُّلمات»: «لم يختلف الرأي في عقيدة رجل كما اختُلِف في عقيدة المعري. فقد أجمع قوم على تكفيره… من أمثال أبي الوفاء بن عقيل (القرن الخامس للهجرة)… وابن الصابئ… والقاضي أبو جعفر الزوزني… وعبد السلام القزويني… (وآخرون)»ص 44-45.

في مقابل هؤلاء، نهض تلامذته، ومُريدوه، يردّون تهمة الكفر تلك، ويوضحون ما ومن قصد شيخ المعرة في نقده؛ وأنه إنما تناول مظاهر الخروج على الدين، لا الدين؛ وأن نقده اتجه للمنافقين، لا للدين، ولا للمتدينين الورعين المخلصين. وسيرى القارئ، التفسير الحقيقي، كما اعتقد، لأفكاره، وكيف رأى إليها كبار باحثي العصر الراهن، من أمثال طه حسين، والعلايلي، ومارون عبود.

نبدأ بمعتقده الفكري، غير المُنفصل كما سنرى عن معتقده الديني، وإن كان في الغالب إلماحاً لا صُراحاً، ويحتاج إلى ربط ومقايسة واستخلاص نتائج.

في معتقده الفكري (وربطاً بالديني أيضاً)، لا أظنّ أنّ مفكراً سبق أبي العلاء إلى بناء معيار في اليقين يقوم على اللايقين:

غدوتُ مريضَ العقلِ والدينِ فالقني
لتعلمَ أنباءَ الأمورِ الصحائحِ

أمّا من سبقه، أو عاصره على نحو دقيق، في بيان عجز العقل عن بيان الحقيقة، أو «الأمور الصحائح»، فهم جماعة «العِرفان»، في كل معتقد ودين ومسلك. هل قصد المعري «غدوتَ» بالفتح؟ إذا كان الأمر كذلك، لا جديد رئيسي أو حاسم. إلّا أن الأمر ليس كذلك، بل هو جزء من تورية المعري، و«باطنيّته» ومَجازاته التي استخدمها غير مرة ليدفع سامعه أو قارئه إلى حيث يكتشف معتقده الفكري والديني. ومنها مثلاً:

وليس على الحقيقة كلُّ قولي
ولكنْ فيه أصنافُ المجاز

والمجاز metaphor في قواميس اللغة هو «صرف النظر عن معناه الظاهر»، و «تجاوز ما وُضع له»، و»المعنى المجازي، هو المعنى المستعمَل في غير ما وضع له أصلاً».

هوَ ذا المجاز الذي احتاجه المعري في عصره – القرن الخامس للهجرة حيث أحكم المتشددون القبضة على الدين والسياسة. المجاز هنا هو الأداة البليغة في إيصال المعنى المقصود، غير ظاهر الكلام. وقد لجأ المعري إلى الأداة تلك المرّة تلو المرّة لإيصال أفكاره.

نعود إلى «مريض العقل والدين»، فإذا هي تعني وفق التحليل السابق (صحيح العقل والدين). ما من أحد، في ما أعرف، قبل أبي العلاء رسم هذه المعادلة غير العادية أو المألوفة، ومُختَصرُها: يجب أن تكون مريض العقل والدين «لتعلمَ أنباء الأمورِ الصحائحِ». هي تشبه منهج سقراط في ادّعاء الجهل والضعف (أي مريض العقل) كي يستخرج من خصمه في النقاش أفضل ما عنده، فيخرج من متاهات الضلال إلى نور اليقين (الصحائح). حرصتُ على استخدام تعبير أبي العلاء دقيقاً كما ورد في النص، لأنّه من الجدةِ والخطورةِ إلى أقصى الحدود، وكما لم يحدث من قبل – إلّا ربما بعض إشارات الشُّكاك الإغريق – أو من بعد، خلا ما نجده، أيضاً، عند «نيتشه»، الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، في ملاحظات تبدو متشابهة.

لا يختلف اثنان، كما أَعتقد، أن تفرّد أبي العلاء قد بلغ في بيت الشعر الأخير كل حد، ولفظ «العبقرية» لا يقدّم أو يؤخّر كثيراً، بل لعلَّه لا يفي «ثقافة» أبي العلاء حقّها.

في معتقد أبي العلاء، وفي خط البيت الأخير، ربما نجد بيتاً ثانياً يبدو قريباً إلى الأول في معناه، دون أن يكون في قوته، وهو:

إذا قلت المحال رفعتُ صوتي
وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي

ما يجمع بين البيتين، في المقام الأول، أن لا تغترّ بظاهر ما تقرأ، حتى للمعري. هذا المعري الظاهر؛ أما المعري الحقيقي ففي مكان آخر، لا سبيل لإدراكه إلّا إذا كنت «مريض العقل والدين». والمعنى الحقيقي لـ «مريض» في بيت المعري هو على عكس ما يوحي به ظاهر القول: أي «صحيح العقل والدينِ». هذا هو المعنى الضمني لمريض العقل والدين. إنه تفرّد المعري وإعجازه فلا يقدّم لنا معتقده بسهولة وعلى طبق من فضّة، وإنما عليك أن تتعرّى من الظاهر، خطوة أولى، لتلتقط الحقيقة. وإن لم تسعفكَ قدراتك في أولّ الطريق، فكيف الحال في مراحل الطريق المتقدمة، الأعلى، والأكثر تطلّباً. المبتدئون لا حظَّ لهم في الدخول إلى عالم المعرّي الغامض المليء بالإشارات والتلميحات، لا التصريحات والإيضاحات السهلة. وسبق للمعري أن نبّهَنا – منهجيّاً – في أكثر من موضع، كي لا نخطئ أو نتسرّع في أحكامنا.

لقد مدّ المعري لنا يد المساعدة حين قال بوضوح: لا تظنّوا أن كل ما أقوله ظاهراً هو الحقيقة (وليس على الحقيقة كل قولي)، وإنّما فيه ما يجب أن يؤخذ مجازاً- على اتساع ما يتضمنّه مفهوم المجاز في اللغة، كما شرحنا أعلاه.

ذهب المؤرخون والمدققون المعنيون بمعتقد المعري الفكري والديني وكلّها نظريات، في حقيقة الأمر، وتختصر في أربعة:
أوَّلُها، رأي المتشددين الذين أخذوا المعري بظاهر قوله، لإعلان فساد معتقداته.
ثانيها، نظرية التحفُّظ، بل العجز، عن إثبات معتقد نهائي ثابت للمعري.
وثالثها، أخذ المعري بقعر أفكاره القائم تحت ظاهر القول، لإعلان حقيقة معتقده. وهي أقرب إلى فلسفة اللّغة،
والنظرية الرابعة، تجزم استناداً إلى الكثير من شعره، وما رُوي عنه، أنه من «أهل التوحيد»، بل احد شيوخ مسلك التوحيد، أو فرقة التوحيد الإسلامية.
وسنفصّل يعض الشيء في الاتجاهات أو النظريات الأربعة أعلاه.

الاتجاه الأول، ولا يرقى إلى مستوى النظرية، يمثّله بعض المتشددين الذي اكتفوا بظاهر قول المعري، فتسرّعوا بالحكم عليه يمنة ويسرة. ساء هؤلاء نقد المعري لمظاهر وسلوكيات كانت قد طغت في القرن الخامس الهجري، فباتت هي الدين في حرفيته وظاهره وشكلانيته، وهو ما انتقده المعري بقسوة. ساء المعري أن تجد شارب خمرة في أثناء إداء فريضة الحج، أو منافقاً يبيع ويشتري ويقرض بالربا وهو يزعم التديّن، أو «واعظ نساء» يوغل في الحثِّ على الفضائل وهو أوّل من يهملها بل ويمارس الرذائل؛ وساءَه أن يجد مسلماً لا يطيق نصرانياً، أو العكس، بينما الدين عند الله واحد. في نقد المعري ذاك نقرأ له، (في اللزوميات) على سبيل المثال:

وما حجّي إلى أحجار بيتٍ
كؤوسُ الخمر تشرب في ذراها

بل قال أكثر محذِّراً من مكر الماكرين المخادعين:

أقيمي لا أعدّ الحجّ فرضـــاً
على عجزِ النساء ولا العذارى
ففي بطحاء مكّة بعض قوم
وليســـوا بالحُمــاة ولا الغيـــارى
قيامٌ يدفعون الوفـــد شفعــاً
إلى البيت الحـرامِ وهو سكارى

أو آخر «صاحب حيلة»، سِكّيرٌ، مُخادعٌ، يعظ النساء:

رويدكَ قد غُرِرْتَ وأنت حرٌّ
بصاحب حيلة يعظُ النساءَ
يحرّم فيهمُ الصهباء صبحـاً
ويشربها على عمدٍ مساءَ

أو نقده مجرّد أخذ الدين بالتقليد والوراثة، دونما تبصّر أو إيمان شخصي حقيقي:

وينشأ ناشىءُ الفتيان منّــــا
على ما كان عوّده أبوه
وما دينُ الفتى بحجىً ولكن
يعلّمه التـديّن أقربــــوه

أو قوله في المنافقين، يرجون عمل الخير، بينما يردّون الفقير؛ ويدعون للزهد في الدنيا، فيما لو قدروا على إيوان كسرى لما ترددوا:

رَجَوْا أن لا يخيب لهم دعـــاءُ
وكم سأل الفقيرُ وخيّبوهُ
ولو قدروا على إيوان كسرى
لساموه الــردى وتعقّبــوهُ

هذا بعض من نقد المعري الصريح، القاسي، للمنافقين، المخادعين، المستغلين موقعهم الديني لنشر الفساد، فيما هم من الدين الحقيقي براء.
جلبت مواقف المعري المبدئية تلك عليه حملة إمّا هي ممن قصدهم المعري في نقده، أو ممّن أخذوا المعري في ظاهر قوله لا أكثر ولم يسبروا أغوار نقده وما قصده بحق.

بين أهم أولئك الذين انتقدوا، بل كفّروا المعري، بسبب من نقده القاسي ذاك، دونما كبير بحث أو تنقيب في عمق الألفاظ وعدم الاكتفاء بظاهرها، فشككوا بصحة إيمانه من المعاصرين له أو بعده بقليل، القاضي أبو يوسف القزويني، وأبو الوفاء بن عقيل، وابن الصافي،والقاضي أبو جعفر الزوزني، وأحمد بن محمّد الأخشيتكيي (لعلَّه الأخشيدي) وآخرون…

في الاتجاه الثاني، المتحفظ ، نجد طه حسين، وآخرين، ممّن أمسكوا عن جعل المعري في معتقد محدد. وحجتهم في ذلك التباين، بل «التناقض» أحياناً، بين أقوال المعري المتضمنة آراءه في غير موضوع ومكان: في الموقف من الأنبياء، والمَعاد، والجنة والنار الماديتين، والعقل، والقياس في الدين، والإمامة، وعناوين أخرى أساسية.

ويتسلّح هؤلاء بشكوك أبداها المعري في أكثر من مكان، أمسك فيها عن إثبات أي شيء حقيقي أو نهائي. بل هو اعتبر غير مرّة أن بلوغ الحقيقة من باب المحال. فلنتأمل قولَه:
أمَّا اليقينُ فلا يقينَ وإنّما
أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا

وفي هذا الباب أيضاً، تردُّد المعري وحذرُه، وهو منتهى الأمانة، في إثبات رأي أخير في أيّة مسألة حاسمة، بل تحتمل جميعها النفي والإيجاب، يقول (في اللزوميات أيضاً):

ويعتري النفسَ إنكارٌ ومعرفةٌ
وكلّ معنى له نفيٌ وإيجابُ
وقولهُ في إطارٍ أوسع بكثير:
دينٌ وكُفرٌ وأنباءٌ تُقَصّ وفــر
قانٌ يُنَصّ وتـــوراةٌ وإنجيل
في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها
فهل تفــرّد يوماً بالهدى جيلُ

سؤال المعري برسمِ تاريخ الأفكار والديانات بأسره: «هلّ تفرّد بالهدى جيلُ؟»
لا يعنينا الجواب الآن، وإنما فقط الإشارة إلى تردد المعري في إثبات أو نفي «حقائق» الدين والفكر. ويلفت هنا أنّ نقد المعري لم يقتصر على هذا الجانب دون ذاك؛ وإذا كان البعض لم يرَ إلّا نقده للتجارب الدينية، فاللزوميات تتضمن عشرات حالات النقد للقياس العقلي أيضاً، كما للفلسفة، وللتصوف، وللتفسيرات الباطنية، وللإمامة، وسواها. فلا تكاد تجد له موقفاً محدداً من مسألة معينة، حتى تجد له في المسألة نفسهاً رأياً مخالفاً. وعليه، يصعب جعل المعري في موقف أو رأي محدد، بل هو ناقد لكل شيء تقريباً، لا يجد الحقيقة الأخيرة في شيء – خلا الموت، الذي رأى فيه المعري حقيقة تعلو كل شكّ:

سألت عن الحقائقِ كلّ يومٍ
فمــا ألفيتُ إلّا حــرفَ جَحدِ
سوى أنّي أموتُ بغير شَكٍ
ففي أيِّ البلادِ يكون لحدي؟

ولكن، كي لا يُساء تفسير شكوك المعري، فهو قد أثبت في كل الأمكنة وجود إلهٍ خالقٍ حكيم؛ وتسقط بذلك دعاوى من اتهمه بالإلحاد – وفي اللزوميات عشرات أبيات الشعر المُثبِتة لإيمان المعرّي ذاك، ومنها:

أثبتُ لي خالقاً حكيماً
ولستُ من معشر النُّفاةِ

أو قوله:

يثبتنَ ربّاً قديراً لا كفاء له
وما عمدتُ لغير الله إثباتا

بل هو يدعو لتركع وتسجد وتتهجّد لإله كهذا:

إركع لربّك في نهارك واسجُدِ
ومتى أطلت تهجّداً فتهجّدِ

وقولٌ أخير له في الموضوع يُظهر إيمانه بالله حقيقة تامة تشمل الأرض والسماء، يقول:

قضى الله فينا بالــــذي هو كائنٌ
فتمّ وضاعت حكمة الحكمـاء
وهل يأبقُ الإنسانُ من ملكِ ربّهِ
ويخرجُ من أرضٍ له وسماءِ

بل يذهب طه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه» أبعد من ذلك في نفي أي معتقد، أو رأي نهائي، للمعري؛ فيعتبر أنّ شيخ المعرة إنّما كان يستعرض مهاراته التي لا حد لها، كنوع من «اللعب» اللغوي.

لا يذهب الكثيرون مذهب طه حسين، لا في شكّه، ولا في نظرية «اللعب اللغوي». وقد ردّ كثيرون على عميد الأدب العربي طه حسين في نظرية اللعب تلك. أكتفي بردّ الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي أصدر بعد وقت قصير من صدور كتاب طه حسين عن المعري (1946) كتاباً ردّ فيه على طه حسين مفنِّداً نظريته في أن المعري ملأ فراغ وقته بالألاعيب اللغوية. يسمي الرصّافي المعري (الإمام الأوحد فيها (علوم اللغة) بين أهل زمانه) ص 38، ويردّ بعد ذلك مباشرة على رأي طه حسين السابق مفنّداً إياه، يقول:»…إنّ أبا العلاء الذي عرفنا أخلاقه في اللزوميات أجلّ وأعلى من أن يريد من الناس إكباره والإعجاب به» (الرصافي «على باب سجن أبي العلاء» ص45). ويردّ عليه في نقطة أُخرى، فيقول: «كل من كتب عن أبي العلاء في هذا العصر عَزاه إلى التشاؤم، وعزا تشاؤمه إلى فقد بصره الذي جعله ساخطاً على الحياة لا يرى فيها خيراً ولا يوجس منها إلّا شرّاً. ونحن لا نوافقهم على ذلك، بل نقول: إنْ كان المُراد بالتشاؤم الذي يتهمون به أبا العلاء السخط على الحياة….فإن سخطه هذا لا يُعدُّ تشاؤماً…فسخطه يؤيده العقل الصريح، والفكر النافذ والاختبار الطويل والتجربة الصادقة، ومتى كان السخط كذلك كان سخطاً علميّاً فلسفياً لا ظنّياً ولا وهمياً؛ فليس هو إذن من التشاؤم في شيء…. وأقواله في اللزوميات (تدلّ) على أنه لا يُماشي إلّا الحق ولا ينفر إلّا من الباطل ولا يتحرّى إلّا الحقيقة ولا يستنكر إلا القبيح»(51-52)

إلى ذلك، نقول أن شكّ أبي العلاء لم يكن لغواً، ولا شكاً في سبيل الشك، بل شك في سبيل الوصول إلى اليقين على قاعدة صلبة ثابتة. كذلك كان شك سقراط، والغزالي، ثم ديكارت حديثاً: الشك هو الطريق الموثوق إلى اليقين.

الشيخ عبد الله العلايلي

أما التناقضات التي نجدها في آراء فيلسوف المعرّة، وقد أخذها عليه طه حسين، فتنجلي بسهولة إذا تجاوزنا ظاهرها وبلغنا عمقها وأدركنا جوهرها. إنَّ فَهم ما قاله المعري في ستين سنة لا يمكن فصله عن سياق ما قيل، أي تاريخه وموقعه، واللزوميات لا تسعفنا إلى ذلك. وقد أشرت إلى الصعوبة تلك في بحثي الذي أسميته «المعري شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء» ضمن كتابي «في الأدب الفلسفي» قبل ثلاثين سنة؛ وقد أوضحت في سياق البحث أن ترتيب القصائد أو النُّتف الشعرية في اللزوميات وفق ترتيب أبجدي يأخذ بآخر حرفين في القافية (وهذه صعوبة لغوية لم يسبق المعري إليها إلا القليل)، تشهد على مدى إبداع المعري اللغوي والشعري، لكنها لا تفيد في ترتيب أفكاره: فالمطلوب، كما قلت في بحثي عن المعري، «تحقيب» شعره، أي مُراعاة الترتيب الزمني للقصائد، لنكتشف إذ ذاك الأفكار التي انتهى إليها شيخ المعرّة.
والاتجاه الثالث، للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، وفيه رأي بل نظرية متكاملة، جديدة تماماً على الباحثين في المعري جميعاً،
يذهب العلايلي إلى أن للمعري فلسفة متكاملة، فلسفة الكون – اللغوي، إذا صحّ التعبير، وهي نظرية جديدة متفرّدة للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي في فهم معتقد المعري بسَطها في كتابه: «المعرِّي ذلك المجهول» الصادر سنة 1981.

يقدّم العلاّمة العلايلي في كتابه أعلاه تصوره الخاص لملامح نظرية فلسفية متكاملة تسكن نتاج المعري الشعري. فالمعري، حسب العلايلي، هو أوَّلاً وآخراً اللُّغوي الذي لا يُبارى، وعليه فقد استخدم المنهج اللغوي «لا قصد التعبير فقط، بل قصد التعليل والإدراك الكلي أيضاً… وطريقته إلى التصور الفلسفي تُحْسَبُ أشدّ طرافة وأكثر غرابة واستهواء.» (ص 36)

وانطلاقاً من قاعدة أن اللغة العربية «التي هي اللغة التامة»، رأى العلايلي أن المعري ذهب بهذه اللغة لتعبّر عن ظاهرات الطبيعة والوجود نفسه، وعن كل مظاهر التغيير في عالم الكون والفساد، وأنّ في اللغة أشياء الحياة كلها، وفي اللغة إعلال وتصحيح وفعل وانفعال وتفاعل، وفي اللغة تضعيف وإدغام واشتراك، ويضيف: «أليس في اللغة جسم وروح كاللفظ والمعنى؟ أليس في اللغة عالم غيب وعالم شهادة في المُضمَر والمضمِر، قال:
ما زال مُلكُ الله يظهرُ دائباً
إذ آدمٌ وبنوهُ، في الإضمار

….إذاً، ففي اللغة طبيعة وحياة ومجهول، أو هي عالم كامل عن عالمنا وهي أكثر تعبيراً عن كل هذا، من عالمنا المُحجب. فلماذا لا تكون اللغة هي الجانب الناطق عن ذلك الجانب الصامت، لا سيّما وهناك من لا يشكّ في أنها توقيف أي وحي، ومن لا يشك في دلالة العدد بينما اللغة تبطنه» (37-38).

ويخلص العلايلي إلى ما يلي: «هذا شيء لم يصرّح به أبو العلاء ونحن لا ننتظر منه تصريحاً، وهو الذي يبعثر بالقصد إشارات الطرق آخذاً على الآخرين سبيل الوصول إليه، وإنما ذلك شيء نحن نستنتجه استنتاجاً من إيماءاته، وبمعاناة غير يسيرة…. كما لا يستقيمُ تفسيره بالعبث تحلية وتوشية وبالتصنّع براعة وتفوقاً، قال:

من يبغِ، عنديَ، نحواً أو يُرِد لغةً
فما يساعفُ من هذا ولا هـــذي
يكفيكَ شرّاً، من الدنيا، ومنقصـةً
أم لا يبين لك الهادي من الهاذي

كان العلايلي يَرُدّ، من دون تسمية، على طه حسين الذي اعتبر أن إبداعات المعري في اللغة كانت نحواً من العبث وإظهار البراعة والتفوق.

العلاّمة العلايلي، ومن دون أدنى شك، هو من اقترب إلى حد المضاهاة والتطابق من منهج المعري اللغوي، ولعله في التميّز والتفرّد والتبحّر الأكثر قرباً من الجميع إلى المعري. إلّا أن مجال البحث الضيّق لا يسمح الآن بأكثر من مجرد الإلماح إلى نظرية العلايلي، على أن نعود إليها في عمل أوسع قريباً.

يبقى الاتجاه الرابع، والأخير، وخيرُ من عبّر عنه هو الأديب مارون عبّود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». نظرية الأديب الكبير مارون عبود في تفسير مُعتقَد المعري تذهب في اتجاه مختلف تماماً عمّا رأيناه حتى الآن. باختصار، هي تجعل المعري أحد أتباع، بل أسياد، «مذهب التوحيد»، على طريقة الحاكم بأمر الله الفاطمي. وسنشرح النظرية الأخيرة هذه، نظرية مارون عبّود، مع بعض التوسّع نظراً لفرادتها، وريادتها، وأهميتها.

الأديب مارون عبود

بذل الأديب المبدع مارون عبّود في كتابه («أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، 1946)، جهداً استثنائياً للدفاع عن نظريته في معتقد أبي العلاء المعرّي، ومؤدّاها باختصار، وبمفردات مارون عبّود: «فاطمية أبي العلاء» (ص 72). ويوغل مارون عبّود في المزيد من التعيين والتحديد لعقيدة أبي العلاء فيقول على نحو لم يسبقه إليه كاتب آخر: «وليس كتاب لزوم ما لا يلزم غير كتاب الإخوان، فلينعم إخواننا الدروز بالاً وليطمئنوا في خلواتهم، فإن إمام الدعوة الفاطمية الخالد لم يشكَّ لحظة «بالمذهب» وما ارتدّ قط.» (ص 68) ويضيف:
«لستُ أقول أن أبا العلاء درزيٌ اسماً، فقد سمّوهم هكذا بعد. ولكني أقول أن مذهبهم مذهبه، وأنّ ما نراه اليوم عند الطبقة «المُتَنَزِّهة» من تقشفٍ وزهدٍ في الدنيا مأخوذٌ من اثنين: الحاكم بأمر الله، وحواريِّه، أبو العلاء المعري» (ص 68)

ويمضي مارون عبّود قُدُماً في تفسير حياة المعري، وبخاصة بعد عودته من بغداد (400 للهجرة)، وفي تفسير اللزوميات على وجه الخصوص وفق منهج مقارن دقيق يقود بجلاء إلى مطابقة أفكار المعري، ومعتقده، مع الأفكار الفاطمية، وبخاصة مع الأفكار المتفردة التي دعا إليها الخليفة الفاطمي السادس (أفكار التوحيد) باعتبارها أعلى درجات العرفان، بل الإحسان، التي أوردها القرآن الكريم في غير صورة وموضع.
ينطلق مارون عبّود من مُقَدَّمات منطقية وتاريخية في آنٍ معاً، لإثبات فكرته في أن معتقد المعري هو في خط يقين أهل التوحيد. أُولى مقدَّماته، إيمان المعري المُطلق بالعقل، يقول:
«أمّا العقل العلائي فهو العقل اليوناني الفيثاغوري بعينه، وكذلك العقل الفاطمي، والنفس والجسد العلائيان فيثاغوريان أيضاً؛ فهو يرى كما يرى الفيثاغورويون أن الطهارة في خلاص النفس من البدن، لأن الجسد قبرٌ للنفس وهو عدوها اللدود، وفي هذا قال المعري:

أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عـن الخبــر النـبيثِ
لفَقدي ناظري، ولـزومِ بيــتي
وكونِ النفس في الجسد الخبيثِ

…والفيثاعورية كالمُنظَّمات الدينيّة اليوم، عاش أعضاؤها في عفَّةٍ وبساطةِ لبسٍ ومأكل، وقد حَرّمت أكل لحم الحيوان وبعض النبات – كما حرّم الحاكم أكل الملوخية مثلاً» (106-107).

بانتساب المعري إلى المنهج العقلي الصارم، بات مفهوماً تبرّمه مما يخالف العقل من أفكار جارية لم يجرِ التدقيق فيها. ومنها مثلاً نقده فكرة الإمامة واعتباره العقل وحده إماماً، حين قال:

يــرتجي النـاسُ أن يقــوم»إمامٌ
ناطقٌ» في الكتيبة الخرساء
كذبَ الظنّ لا إمام سوى العقلِ
مشيـراً في صبحه والمساءِ

وإذا قال قائلٌ أنّ المعري بنفيه الإمامة إلّا عن العقل إنما يخرج عن المذهب الفاطمي، يردّ مارون عبّود: «وهذا الظنّ منتهى الشطط لأن «الإمام» يتوارى في قمّة الدعوة الفاطمية – الدعوة التاسعة – ويحلّ محله العقل. يصير الإمام رمزاً لمعنى ليس أكثر» (106).
ويخلصُ مارون عبّود في نهاية الفصل المتعلّق بمعتقد أبي العلاء المعري إلى ما يلي:
«وإن تتبعني أيها القارئ الكريم بعد أن تتجردَ من ذاتك التقليدية فستعود من رحلتنا هذه وأنت واثقٌ مثلي أن شيخ المعرّة هو إمام المذهب الفاطمي، وكتاب «لزومياته» هو كتاب المذهب، وإنما عليك أن تقرأ ما كتبتهُ بإمعان، وتتبحَّر في عبارات «الدعوات التسع» فتدرك مثلي وتبصر» (ص 74).

هو ذا مضمون رأي مارون عبّود في معتقد أبي العلاء. ومارون عبّود ليس بالكاتب المبتدئ ليبغي شهرة من نظريته، ولا بالحدث المتهوِّر الذي يلقي برأيه جزافاً من دون تقصٍّ وبحث وأسانيد. وهو ما فعله مارون عبود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». فقد وقف الكتاب بأكمله ليثبت بالقرينة والدليل والسند والمقارنة أنَّ ما اقترحه من نظرية أو رأي مطابق كليّاً للوقائع التي أحاطت بحياة أبي العلاء، وللأفكار التي بثّها في شعره، تصريحاً في القليل القليل منه، وإلماحاً وتضميناً في عشرات القصائد أو أبيات الشعر المتناثرة – عمداً – والتي عرض لها مارون عبّود في كتابه.

حاشية أخيرة

حدود المقالة الضيّقة، كما كل مقالة، لم تسمح بالمزيد من التفاصيل والاقتباسات، في ما خصّ مُعتقد المعري تحديداً – ناهيك عن حياته، وثقافته، وأعماله، وكلٌ منها تتطلَّب مبحثاً مستقلاً. لذلك أنصح قارئي أن يعود إلى أعمال المعري نفسه وبخاصة ديواناه: سقط الزند واللزوميات؛ وأن يعود إلى كتاب الشيخ العلايلي «المعرّي ذلك المجهول»، وكتاب شيخ الأدباء مارون عبّود «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، ففيهما من التفاصيل والقرائن ما يدفع بالبحث في معتقد شيخ المعرّة، كما أعماله، أشواطاً عدة إلى أمام.

الحِوار عندَ المُوَحِّدين الدروز

المُقدَّمة

حين يَعتبر بابا رومه الأسبق القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1997 أنّ لبنان «رسالة سلام للعالم»، وعندما يصفه الرئيس الإيراني محمّد خاتمي سنة 2003 أنه «أرض الحرية والحوار»، تشعر كلبناني بمسؤولية عميقة نحو مفهوم الحوار، ودوره في تكريس الحرية والسلام، وليس فقط على صعيده الداخلي، بل كأنموذج يُحتذى به في العالم.

إنّ المؤسسات العاملة في مجال الحوار في لبنان متنوعة، والشخصيات التي تعاطت الحوار أيضاً متعدّدة. ولكنّ اختيار شخصية الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أتى كأنموذج لبناني للحوار، من طائفة الموحّدين الدروز، وذلك للتركيز بعمق على دوره في هذا المجال، وخاصة في الحوار الديني بين المذاهب والطوائف اللبنانية، بهدف الاستفادة من مفاعيله الإيجابية، على صعيد الامتثال بصفات هذه الشخصية ومسلكها في ممارسة هذا المفهوم.

المبادئ الأساسية للشخصية لتحديد سقف الحوار وأهدافه

وُلد الشيخ د. سامي أبي المنى سنة 1957، في قرية شانيه من قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان، في عائلة تعود بجذورها إلى التنوخيين؛ عائلة ملتزمة مذهبيّاً، ورثت من أحد الأجداد (الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى، ت 1272 ه)، وهو شيخ تقوى، المنزلَ والرسالة. لم يمنع التزام العائلة المذهبي الشيخ الفتى وأخاه من إتمام دراستهما في المدرسة الداوودية في عبيه ومن ثم في ثانوية بعقلين الرسمية في المرحلة الثانوية، ليكونا من أول مجموعة من الشباب المشايخ الذين يلتحقون بصرحها.

بدأ التدريس في مؤسسة العرفان التوحيدية، مساهماً بإدخال ثقافة المواطنة إلى برامجها، وكذلك «التربية التوحيدية» التي جعلت شعارها «تهذيب أخلاق الناشئة وصقل حسّها الإنساني»، مركّزةَ على القيم المشتركة بين جميع الأديان، ومنها التقوى وتوحيد الخالق وتعداد مكارم الأخلاق من كرم وشجاعة وصدق… مستشهدة بذلك بآيات قرآنية وأقوالٍ إنجيلية وعِبر من سير الأنبياء والصالحين.

انطلاقاً من صفات مسلك التوحيد «كمسلك ارتقاء ومسافرة في عالم المعرفة لبلوغ الحكمة»، عمل الشيخ على معرفة ذاته أولاً، ومسلكه التوحيدي تالياً، قبل الولوج في عملية معرفة الآخر من خلال الحوار.

معرفة الذات أصبحت لديه ثقافة ذات «سلوك ومسلك». رسم مسلكه التوحيدي من خلال ما تعلّمه من فكر إخوانه «الشيوخ الموحدين وتجاربهم»، ليحيا التزامه الروحي «مقتنعاً بأن العمل يجب أن يكون مجرّداً وهادفاً إلى إيصال الحقيقة وتقديم المعرفة الأمينة»، وعندما أنارت المعرفة طريقه، اختار تسطير كتابه «المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز الخصوصية والاندماج». وضع القاضي الشيخ محمّد النُّقَّري هذا الكتاب في «قائمة المراجع الأساسية التي ستفتح لأبناء المذاهب الإسلامية ولأتباع الديانات الأخرى آفاق المعرفة الصادقة والأمينة لطائفة الموحدين الدروز». أثار هذا المؤلَّف د. نايلا طبَّارة التي اعتبرت أن «هذا الكتاب يدعو إلى الحوار على قاعدة التوازن بين الخصوصية والاندماج من خلال الحفاظ لكل طرف على حقّه بمساحته الخاصة حين يذهب بموازاة ذلك إلى المساحة العامة بصدق النيَّة وبإيمان بأهمية الشراكة والأخوّة في الوطن» مطالبة «اعتبار هذا الكتاب جزءاً من الإرث الثقافي اللبناني المشترك والجامع ليس فقط لإكمال المعرفة بطائفة الموحدين الدروز بل بالهوية اللبنانية الجامعة».

أصرّ الشيخ د. سامي على معرفة الآخر والحوار معه، فكان كتابه «الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان: رؤية الموحدين الدروز» خير معبِّرٍ عن ذلك، وقد قال فيه د.سليم دكاش «جعل من معرفة الذات من الوجهة السقراطية سبيلاً لمعرفة الآخر واحترامه لأن الصدق مع الذات يقود حكماً للصدق مع الآخر». أمّا د. أحمد حطيط فاعتبر أن الشيخ تصدّى في كتابه «لمسائل شائكة، قضّت مضاجع الحوار، فدرس ماهية هذه المسائل وعلّل أسبابها، متوقفاً عند ظروفها التاريخية وخلفياتها السياسية الداخلية والخارجية، وقارب حقائقها». أكّد د. عباس الحلبي، وهو أحد أركان الحوار الإسلامي المسيحي وأوّل من سلك هذا الطريق بجدارة، أن الكاتب كان جريئاً حين ذكر «الفتن الطائفية كمحطات مأساوية موضحاً أن لبنان لا يقوم ولا ينهض إلّا بوحدة أبنائه وبنسج علاقات راقية قائمة على الود واحترام الآخر»، ليفيد د. سهيل مطر أن الشيخ يكمل بذلك «مسيرة المصالحة بتنقية الذاكرة وبدونها تبقى حزازات الصدور كما هي»، حين عمل على إزالة المفاهيم الخاطئة عن الموحدين الدروز، وأبرز هويتهم الحوارية، وبيّن خياراتهم حول الدولة والوطن والسلام وقضية العيش المشترك والمواطنة.

ورث الشيخ موهبة الشعر عن والده، ولُقّب بـ «شاعر الجبل وخطيب الموحّدين». استغل الشيخ هذه الموهبة في تثمير منهج الحوار، والانفتاح على الآخر وقبوله، مسمياً إياه بـ «الأخ» في كل قصائده، مظهراً القيم الأرقى في الديانتين الإسلامية والمسيحية، ناشداً السلام، نابذاً التخوين والتعصّب، معتزّاً بهويته اللبنانية وبتاريخها العريق.

لم يقتصر النشاط الحواري للشيخ سامي على صعيد لبنان، بل تعداه إلى المحيط العربي والإسلامي، حين وُجّهت له دعوة شخصية لحضور مؤتمر تحت عنوان «الحرية والمواطنة،…التنوع والتكامل» بتاريخ 28 شباط والأوّل من آذار سنة 2017، في الأزهر الشريف في القاهرة بدعوة من مجلس حكماء المسلمين، إلى جانب 55 شخصية لبنانية من بين 200 شخصية عالمية تمّت دعوتها إلى هذا المؤتمر.

السعي إلى المعرفة من خلال كليّة العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف

تابع الشيخ د. سامي دراسته الجامعية في الجامعة اللبنانية؛ الإجازة والدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها، خلال فترة حرب لبنان، وبعد انتهاء تلك «الحرب المشؤومة»، وانسجاماً مع شخصيته الداعية إلى «الحوار والمصالحة»، وسعياً إلى «العلم كهدف دائم الذي لا تحدّه حدود»، وجد غايته أي «التقريب بين المسلمين والمسيحيين» في جامعة القديس يوسف وتحديداً في كلية العلوم الدينية – معهد الدراسات الإسلامية المسيحية، ليتخرج منها بشهادة دكتوراة في العلاقات الإسلامية-المسيحية، انسجاماً مع «سمات حقيقة الجبل ورسالته» مندفعاً بفرح «في مجالات الحوار والعلاقات والمصالحة مع أخيه الذي تصادم معه»، ليكون المتخرج الأول من طائفة الموحدين الدروز من هذه الكلية، مشجعاً وداعماً للعديد من إخوانه الموحدين لمتابعة هذا الاختصاص.
كتب في نشرة «في رحاب الحوار» في الجامعة ما يؤكد سعيه إلى معرفة الذات والتعريف عنها في سبيل الانطلاق إلى معرفة الآخر والحوار معه، وشارك في صياغة مقالات نُشرت في سلسلة «دراسات ووثائق إسلامية مسيحية»، ومنها على سبيل المثال، في النشرة الصادرة تحت عنوان «وجوه حوارية إشكالية ورواد كبار وتوقعات مقارنة».

قرّر «مكتب اليونسكو الإقليمي- بيروت» سنة 2008، بالتعاون مع «كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة وللحوار بين الأديان، جامعة القديس يوسف- بيروت»، إصدار كتاب «المظاهر الثقافية في الديانتين المسيحية والإسلامية». أشرفت على إعداد هذا الكتاب لجنة استشارية ضمّت الشيخ د. سامي أبي المنى الذي شارك ايضاً بالكتابة والصياغة.

دور الشخصية في الحوار من خلال مؤسسة العرفان التوحيدية

شكّلت مؤسسة العرفان التوحيدية، بصفتها المؤسسة التربوية الأولى عند الموحدين الدروز ذات الطابع الديني، والتي كما ذكرنا أن الشيخ سامي انتسب إلى عائلتها التربوية، نقطة الوصل له مع المؤسسات التربوية الأخرى، والتي فتحت له باب التعارف معها. إنّ تجربة الحرب الأهلية (1975-1989) دفعت الموحّدين الدروز إلى تبنّي فكرة الحوار، وحمّلت المؤسسة التربوية المسؤولية بمساعدة هذا التوجه العام، فكان التكامل بين شخصية الشيخ سامي والمؤسسة.

ساهم، بصفته الأمين العام لهذه المؤسسة، بتشجيع طلاب العرفان على المشاركة في نشاطات طلابية، تلاقي فكرتي الحوار والعيش المشترك، في حرم المؤسسة أو تلبية لدعوات من مؤسسات تربوية أخرى، تتبع إلى مرجعيات دينية مختلفة. وشارك الشيخ سامي، بمختلف النشاطات التي رعتها مؤسسة أديان وجمعية تصالح، عبر طلاب العرفان، تثميراً لفكرة معرفة الآخر والحوار معه لترسيخ العيش المشترك.

دور الشخصية في الحوار من خلال المجلس المذهبي للموحدين الدروز

ترأس الشيخ د. سامي أبي المنى اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي للموحدين الدروز، لثلاث دورات انتخابية. عملت هذه اللجنة على إقامة النشاطات الثقافية وساهم الشيخ سامي كرئيس لها في قِمم ولقاءات روحية، كما قامت اللجنة بتحضير لقاءات حول مواضيع حوارية متنوعة.

كلّ ذلك ساهم ببروز شخصيات عدة من الموحدين الدروز تتابع عمليات الحوار إلى جانبه. وبما أنّ «الثقافة أوسع من الدين»، عمل الشيخ على تكريم أوجه ثقافية متعددة، ساهمت في نقل المعرفة، وتوسيع ميدان الثقافة.

السعي إلى تحقيق الحوار من خلال مؤسسة أديان

بدأت علاقة الشيخ د. سامي أبي المنى مع مؤسسة أديان، من خلال تمثيله لمؤسسة العرفان التوحيدية خلال المشاركة بأنشطتها المتنوعة، والتي تنطلق من مفاهيم حوارية، ليصبح عضو شرف فيها، وأتت مشاركته في العديد من نشاطاتها، ومنها؛ مشاركته كممثل لمؤسسة العرفان التوحيدية في وثائقي «عكس السير» سنة 2011، ومواكبته مشروع «التربية على المواطنة الحاضنة للتنوع الديني»، بمراحله المتعددة.

أثمرت الشراكة بين مؤسسة أديان، ومنتدى ويلتون بارك البريطاني للحوار الاستراتيجي، ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ومقرّه في الإمارات العربية المتحدة، «انطلاق سلسلة مؤتمرات تهدف إلى الحوار بين القيادات الدينية والسياسية، حول المواطنة الحاضنة للتنوع، وكيفية تأصيل هذا المفهوم دينياً وتطبيقه عملياً، خاصة في الدول العربية». انعقد المؤتمر الأول في أبو ظبي من 12 إلى 14 تشرين الثاني/ نوفمبر2018، باجتماع 50 شخصاً من القيادات الدينية وصانعي السياسات، من 18 مؤسسة إقليمية ودولية و11 بلداً مختلفاً، ومن بينهم الشيخ سامي، ليتمّ استكمال الحوار في مؤتمرات متتالية، بهدف التوصل إلى إطلاق «الشرعة العربية للمواطنة الحاضنة للتنوع»، والمتوقع التوقيع عليها في صيغتها النهائية سنة 2021.

بعد توقيع قداسة البابا فرنسيس- بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الدكتور أحمد الطيب – الإمام الأكبر للأزهر الشريف، بتاريخ 4/2/2019، على وثيقة «الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» في عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة أبو ظبي، وتعزيزاً لهذه «الحركة الإنسانية الحوارية» في لبنان، عملت اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بشخص رئيسها الشيخ د. سامي أبي المنى، بالاشتراك مع مؤسسة أديان، وبالتنسيق مع السفارتين البابوية والإمارتية، على تنظيم «ندوة حوارية» حول هذه الوثيقة في مكتبة بعقلين الوطنية بتاريخ 23/3/2019.

الدور في ترسيخ مصالحة الجبل

منذ العام 2007، تحتفل مؤسسة أديان بيوم التضامن الروحي «في السبت الأخير من تشرين الأول/أكتوبر من كل سنة»، بلقاء شعبي بين الأديان للاحتفاء بالقيم المشتركة فيما بينها. من بين هذه اللقاءات، تبنّى الشيخ سامي إقامة لقائين لـ«أديان» بإشرافه، أولهما جرى سنة 2012 في قرية عبيه، إحدى قرى العودة في قضاء عاليه، الذي حضر في جزء منه سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن مستقبِلاً، في ما شارك الشيخ سامي في هذا اللقاء حضوراً وتحضيراً له، بصفته رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، والثاني في قرية بريح الشوفية سنة 2016، حيث تمّ في نهاية الاحتفال تسمية الشيخ سامي عضو شرف في مؤسسة أديان تحت لقب «شاعر التضامن الروحي» لشهادته المميزة في «خدمة التنوع الديني الذي يبني الوحدة».

شارك الشيخ سامي في متابعة مصالحة الجبل في قلب المجتمع بالتعاون مع جمعيات أهلية وشبابية، من خلال مشاركته في المؤتمرات التمهيدية الأولى في بيت الدين ودير القمر، ومن خلال دعوة «لقاء أبناء الجبل» في عبيه سنة 2017، حين أُطلق على هذا اللقاء لقب «العامية» الذي انعقد تحت شعار «سوا ما منترك جبلنا…»، بمشاركة جمع من أبناء الجبل مسيحيين وموحّدين في دار مقام الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي في عبيه، والذي انبثق عنه وثيقة تضامن تاريخية لأبناء عبيه والجوار. بدعوة من لقاء أبناء الجبل أيضاً، وبمشاركة الشيخ سامي، تمّ عقد ندوة في جامعة سيدة اللويزة (NDU) تحت عنوان «دور المدرسة والجامعة في ترسيخ العيش المشترك»، وندوة أخرى في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم (MUBS) في عاليه بتاريخ 5/8/2018 بعنوان «مصالحة الجبل في قلب المجتمع».

المساهمة في تأسيس كلية العلوم التوحيدية ودورها في عملية الحوار

باحتاج الموحدون الدروز إلى مؤسسة جامعية تنظّم تلقي العلوم التوحيدية لديهم، وقد كان ذلك حلماً قديماً لكمال جنبلاط كان يراه على مثال «دار الحكمة» القائم في القاهرة في زمن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. عمل الشيخ سامي مع القيّمين في العرفان على تنظيم مخطط تربوي لكلية جامعية بالتعاون مع الدكتور سامي مكارم والشيخ غسان الحلبي، لكنه بقي بين طيات الورق حتى نقله الشيخ سامي كعضو مجلس إدارة في المجلس المذهبي إلى مشيخة عقل الطائفة، التي تبنته في ما بعد وتابعت اللجنة الدينية تفاصيله، بتوجيه من سماحة شيخ العقل، مع الإدارات الرسمية حتى تأسيس «كلية الأمير السيد عبد الله التنوخي الجامعية للعلوم التوحيدية» سنة 2018. ينتسب إلى هذه الكلية طلاب موحدّون يسعون؛ إلى معرفة الذات من خلال اكتساب المعرفة ونقلها كأساتذة فيما بعد إلى تلاميذ المدارس التي تحتاجهم، وإلى معرفة الآخر وحمل راية الحوار حين اللقاء معه، مزوّدين بعلوم دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية متنوعة.

الحوار مع الآخر من خلال علاقته بالجنس الآخر
د. نايلة طبّارة

تميّزت شخصية الشيخ سامي، بالتوازن بين موجبات الالتزام الديني الذي يحمله، ومتطلبات الحياة المهنية والاجتماعية التي يمارسها. لم يمنع هذا الالتزام الشيخ المتديّن من التعاطي مع السيدات باحترام ووقار ونِدِّيَّة تحكمها معايير العلم والمعرفة. تراه يشارك في نشاطات ثقافية لتقييم أعمال سيدات ارتقين في المجال الأدبي، أو داعياً لأساتذته ومن بينهم النساء لنقد كتابٍ أنتجه. لم يتجنب يوماً الجلوس على منبر واحد مع سيدات يقدّمن حفلاً ثقافياً، أو يناقشن عملاً تربوياً، ولكن وفق ما تفرضه عليه ظروف وضعه الديني. تراه يشجع مدرّسات مؤسسة العرفان التوحيدية على إكمال تحصيلهنّ العلمي، ويكرمهنّ في المؤسسة حين ينلن أرقى الشهادات. تجده ينصح ويوجه ويرشد سيدات طلبن المشورة في أمور استعصت عليهنّ، دون تمييز لهنّ عن الرجال.

الخاتمـة

إنّ مسلك الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، في موضوع الحوار، جعلني أصيغ الخاتمة بما أفاد عنه عارفوه، حين تقول د. نايلة طبَّارة إنّ «الشيخ د. سامي لعب دورًا أساسيا ومِحْوَريا في الحوار، إذ كان أهم من أطلق الحوار من جانب الموحّدين الدروز مع الفئات كافة. فكان بشخصه الواضح وقيمه الثابتة ودقّته في الحوار والمفاهيم، ما ساعد إلى اطمئنان جميع الأفرقاء، مسلمين ومسيحيين من كافة الطوائف إليه. كما أن منهجيته التي تقول بوضوح ما يمكن مشاركته عن تاريخ وقيم وإيمان الموحّدين الدروز وما لا يمكن مشاركته، أيضًا ساهمت في ارتياح الجميع إليه وإلى الطائفة من خلاله. فعمل الشيخ على توضيح وإظهار صورة الموحدين الدروز، المبهمة عند الكثير من المسلمين والمسيحيين، وكان من رجال الدين الموحّدين الذي أكدوا أن الطائفة هي بالفعل مذهبٌ من مذاهب الإسلام. أراحت هذه الخطوة التعامل بين الجميع وأسهمت في تقارب إسلامي – إسلامي كما إسلامي- مسيحي من جهة الموحدين الدروز».
كما اعتبر د. أنطوان مسرَّة، أن ما يميز الشيخ د. سامي أبي المنى، هو ارتقاؤه في الحوار، لأن الحوار لديه هو «حوار إيماني أي يرتقي إلى ما فوق العقائد»، استناداً إلى مقولة إن «كل ما يرتقي يلتقي». كما التميُّز لديه في غَوْصِه في الجوانب الثقافية من خلال فكره وسلوكه، كما أنك في الحوار ترتاح إليه لأنه «لبناني أصيل، عربي أصيل، مؤمن أصيل، ومتجذِّر في التراث الوطني اللبناني».


المراجع:

  1. هذا البحث هو ملخص لدراسة أكاديمية نُشرت في مجلة «تحولات مشرقية» تحت عنوان «من رحاب الحوار إلى فلك الدولة»، في عددها الصادر في كانون الثاني 2021، بعدد من الصفحات بلغ 29 صفحة، تضمّ المصادر والمراجع التي استندت إليها الدراسة.
  2. أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية.

شكيب أَحمَد تَقِيِّ الدّين

شاعرٌ مِهجريٌّ، تألَّقَ في النَّظم باكراً، واستقامت له القريحةُ الشعريّة، فأعطى من نفسه وفكره ما طابت له موهبته، على غرار كبار الشعراء في بلاد الاغتراب. هو ابن قاضي الشعراء، وشاعر القضاة، الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين، من رعيل بناة عصر النهضة اللبنانية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، وابن عمٍّ لأبيه أمين تقي الدين، المُتَميز، والخالد في الشعر والأدب، إلى كوكبةٍ أُخرى بارزة، دخلت بدورها، وبعبقريتها وعلائقها صميم الإبداع الأدبي.

شكيب أحمد تقي الدين

وليس بغريبٍ على شكيب.. أن يترسَّمَ خُطى آبائه وأجداده، فالإنسان غالباً، ابنُ بَجْدَتِهِ، وصورةٌ عن تراثِهِ، وثقافتِهِ التي اكتسبها متأثراً بمحيطه، وتجاربه الاجتماعيةِ، والإنسانية، ولا سيما إذا اقتضت الظروف أن يبتعد عن وطنه، وأماكن عيشه الأولى، ومرابع طفولته، فتطغى عليه، وتغيّر من خط حياته، بشؤون وشجون، عُرِف بالصبر والحكمة، والانكباب على تثقيف نفسه، وكيف يجعل منها حافزاً لذات إنسانية حضارية، ما لبثت أن تفجَّرتْ شعراً أخّاذاً جميلاً أدّى إلى علاقات متينة مع كتَّابِ وشعراءِ المهجر، ما خلَّف إرثاً شعرياً ضخماً في البرازيل. وكما يقول الأديب الراحل نجيب البعيني: «كان شعره بين أدباء المهجر، وأمام العرب المغتربين، نبراساً ينير الطريق أمام الأجيال الصاعدة، ويبعث فيهم النّخوة العربية، والوعي القومي» وهل رسالة الأديب، في مجتمعه أينما كان وأينما حلَّ إلّا إيقاظ أبناء قومه وحثّهم على الرّقي؟

لم يَحَرْ شكيب بشعره ونثره، في أن يكون أصيلاً على خُطى الكبار من آل تقي الدين أسلافه، وهم كثرٌ في العَدِّ، أصحاب إبداعٍ وعطاء وعلم، وشهرة. فكان له كما جاء في المواثيق والمأثورات آنذاك يدٌ طولى في تأسيس غير جمعية أدبية، وإقامة الندوات الثقافية، وعقد الاجتماعات التي عززت من دور الشعر والأدب، وقد آل ذلك إلى إنشائه مع عدد من شعراء البرازيل رابطة أدبيةً أطلق عليها اسم «جامعة القلم» بعد أفول «العصبة الأندلُسية» الذائعة الصيت، ثم أسّس في سنة 1979 مع شعراء وأدباء «عصبة الأدب العربي» أربى عددهم على الأربعين. وما عَتَّمَ أن ترأس هذه العصبة، سنوات بحكم تميُّزه الأدبي ونشاطه الفكري، ويضم هذا الكتاب الذي نسلّط الضّوء عليه اليوم عدداً من القصائد، وبعض المقطوعات التي تميَّزت بالصدق في النظم، وبالإيمان، والحس والوجدان، إذ كان يرى في أمة العرب المُرتجى والمجد والتاريخ العريق، والأمل والطموح فقال مفتخراً:

لنا فيك يا قلب العروبة شافعُ
ومجدٌ وتاريخٌ وحُلْمٌ وواقعُ
وتحضرني نُعمى من الأمس بالذي
أُحسُّ، وتحدوني إليها دوافعُ
لنا فيك إيمانٌ كبيرٌ نُقيمُهُ
صَلاةً قد ارتاحتْ إليه الشرائعُ
حروف معانيها إذا ما تناحرت
لها شَبَواتُ في الزمان قواطعُ

ومن شيم الإيمان أنَّ حُماتَهُ
جبالٌ على قلب العدوِّ ضواجعُ

هكذا وبهذا السبك الشعري المتين راح ينثر حروف معانيه قوافي، تتلبس روحه السمحة، وإيمانه القوي الراسخ بقومه ومِنْعَة بلاده، قلب العروبة، معتزاً بماضيها وبجبالها التي كانت على قلب الأعداء موانَعُ وضواجعُ…

أدبٌ رفيع المستوى، جديرٌ بالدراسة بعمق، فهو على الصعيد الفني، يحفل بالصور، والأخيلة، والومضات الإنسانية، علاوة على ما به من طلاوة، ورؤىً تشد عقل القارئ ونفسه معاً، ففي قصيدةٍ يستحضر الحب بأوصاف وصور مختلفة:

واستحكمَ الحبُّ في حقلي، وأحصدُهُ
وأشتري بالحَصَادِ السمنَ والعَسَلا
وأُحرزُ البعضَ من صَدفٍ ومن حَطَبٍ
وأُصلح السَقْفَ والجدرانَ والخَلَلا
وأُحكمُ البابَ في فصلِ الشتاء لكي
أباعدَ الشَرَّ والأهواءَ والعِللا
واستقرُّ على رأي وقد هَجَمتْ
هُوجُ العواصفِ أَلَّا أفقِدَ الأملا

فهل تدق عليَّ البابَ عاصفةٌ
تنام ملء ضلوعي الآن والأزلا

وما أكثر النوازع والآفاق في شعر شكيب تقي الدين، في العناوين وفي التفاصيل التي يترجم بها عن أحاسيسه التي يحولها إلى مادةٍ أو فكرة سائغة تستبق الزمن الحاضر إلى آفاق من الضوء أو الطيب الرافلَين في المبدعات، إلى المستقبل الآتي:

ومالتْ جراحي إلى حقلةٍ
يرود مداها صدى المِعْوَلِ
لها حُلُمُ الزَهْرِ في تُربةٍ
وغنوةُ أُحدوثةِ الجَدْوَلِ
فمن ثَمَرٍ طابَ في غفلةٍ
شهيٍّ وأعذب من سَلْسَلِ
تساقَطَ ليلاً على نِيَّةٍ
تقول لعين الحسود كُلي

الشعر ليس نظماً وجَرْساً وقوافيَ وحَسْب، بل معانٍ جديدة، لم يُسْبَقُ صاحبها إليها، عشرات السنين من الهجرة لم تنسه بيته في الجبل، فظلَّ يحِنُّ إليه، وإلى جلساتِهِ وغفواتِهِ في ظلال سنديانةٍ عتيقة بين وردٍ وفلٍّ، وحيث هنالك بيت جدوده الأُوَل:

الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين

أتعرِفُ بيتي بلحف الجبلْ
على جهة الشْرقِ من سنديانة
وسافرتُ في صبوتي للعملْ
ولم تُنسني الغفواتُ زمانَهْ
فزرتُ بلاداً، ولم ينتقلْ
ولمَّا يَزَلْ، رَغْمَ هَجْري مكانهْ
وأَعْرِف أين يَهُفُّ الأملْ
إذا ما جلَسْتُ إلى بيلسانه
هنالِك بيت جدودي الأُوَلْ
وَانَّى أَمَمْتُ أُرَجِّي حَنَانَهْ
ولا شيءَ يمتدُّ من هِجْرتي
إلى هجرةٍ في بياضِ الكَفَنْ
سوى من تخلَّف من أُمتي
فأَضْرَمَ في كل صَوْبٍ فِتَنْ

للشاعر شكيب تقي الدين غير كتابه هذا «خاتمة شعري» ديوان بعنوان: «ظلال العُمر» جُمِعَ وطُبع بعد وفاته.

شاعرٌ مُجدّد، كما قلنا، في إطار الموضوعات، وطريقة معالجتها، ورؤيتها بشكل فني جديد، مُتمكِّن العبارة، مشرقُها.

أبو حيَّان التّوحيديّ

إن خير تعريف به وأقربه إلى حقيقته الشخصية، والأدبية ما ذكره مؤلف كتاب: «أبو حيان التوحيديّ»: سيرته – آثاره. الدكتور عبد الرزاق محي الدين، في زحمة عشرات، لا بل، مئات المقالات والدراسات الكبيرة الأثر التي تناولت أعماله القلميّة المختلفة في مَدْحٍ أو نقدٍ حفلت بها مجامع الأدب، والفلسفة، والتأريخ في عصره، وقد كان اختلاف المؤرّخين فيه وفي تقديره من أقوى الحوافز على تبيّن وجه الحق في أدبه، وسيرته. وقديماً قيل: «من عظمة الرجل أن يختلف الرأي فيه» إنّه في ما صَوّر المؤرخون من ناحية العنصر، فارسيٌّ أو عربيّ، ومن حيث الموطن، بغداديّ، أو شيرازي، ومن حيث العقيدة، مؤمن مصدِّق، أو زنديقٌ مُلحد، ومن حيث الرواية، وضّاعٌ مُختلق، ومن حيث الطريقة، صوفيّ عارف ومن حيث معارفه، فيلسوف، ومتكلّم، وفقيه، ومُحدّثٌ، ونحويّ، وشاعرٌ، وناثرٌ، وبمثل ذلك جرى الخلاف في عام مولده ووفاته. ويرجح أنه وُلِدَ عام 310 للهجرة، وتوفي عام 410 للهجرة، وهو تاريخ غير مثبت.

أصله ووطنه

يقول الدكتور «زكي مبارك» في النثر الفنّي: إنّ «أبا حيّان» كان فارسيّ الأصل، وقال «السندوبي»: ما من شك في أنه فارسيُّ الأصل. وقال «محمّد كرد علي»: هو عربيٌّ، وما كان يعرف الفارسية. ووردت عبارةٌ في «معجم الأدباء» «لياقوت الحموي» يُشْتَمُّ منها أنه كان فارسي الأصل، فقد قال ياقوت: «فهو شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقّق الكلام، ومتكلّم المحققين، وإمام البلغاء، وعُمدةٌ لبني ساسان» ولكن أبا حيّان نفسه لم يُشر فيما عُثِرَ عليه من مؤلفاته أنّه كان فارسي الأصل، وفي هذه الحالة ليس بإمكاننا إلَّا أن نستعين بالقرائن، ونستنطق السّمات، فربما باستطاعتنا منها أن نستنتج أنه عربيٌّ أو فارسي، فاسمه، وكُنيته ولقبُهُ واسمُ أبيه، وجَدِّه توحي بعروبته، فهو ما يُشبه الإجماع، وكما قال «كرد علي»: عدم معرفته للغة الفارسية على طول إقامته في فارس، وتردده عليها، يرجح أنّه عربي».

معالم سيرته

طفولة أبي حيّان كانت عجباً في حياة الأطفال، وإحساسَه المُرهَف الرقيق، وأعصابَهُ المتوفزة المتوترة، وغريزة التطلّع فيه إلى كل شيءٍ حوله، وحبُّ المشاركة في كلِّ ما يرى، ويسمع، وتسجيلهُ كل ما يقول أو يقال تنامت معه حَدَّ بلوغ الشباب والنضوج الفكري، عاماً بعد عام، مُعَيِّناً أساتذته الذين درس عليهم، وشيوخه الذين روى عنهم، والكتب التي قرأها، والمؤلفات التي ألفها، والأعمال التي شغلها، في هذه الفترة من حياته. اتصل بقادة الرأي من رجال القرن الرابع، فقابس، وجادل، وناقش، وروى، وسجّل، ونقد، وعَقَّبَ، وهجا، ومَدَح، وطلع على الناس بـ «البصائر والذخائر»، و«مثالب الوزيرين»، و«الصداقة والصديق» و«الإمتاع والمؤانسة» وأخريات من مؤلفاته.

تكوينه وهيئته

كان في ما يبدو من مظاهر نشاطه العلمي، وتنقلاته الكثيرة، وامتداد عمره حتى بلغ المائة أو يزيد، أنه عاش صحيح البنية قويَّ المزاج، فقد حجّ في غير استطاعةٍ، ماشياً من العراق إلى الحجاز، مع مجموعة من المتصوّفة. أمّا سِمتُهُ وهيئته، فقد كان في ما يوصف، صوفي السمْت والهيئة، رثّ اللباس نابي المظهر، ما سبَّب حرمانَهُ من بلوغ حقّه، وزُهْدِ الأعاظم فيه وإيثارهم سواه عليه.

ملكاتُهُ وأخلاقُهُ

كان الرجل مزّوداً بكفايات يكفي أهونُها لبلوغ حَظٍّ من حياة كريمةٍ، رافهةٍ، وكان مَنْ دونَهُ منزلةً، ينعم بالجاه والمال والسلطان على حين عاش هو في فَقرٍ وتسكّعٍ واستجداء. فقد كان كاتباً أدنى ما يُقال فيه إنّه من طبقة «ابن العميد» و«ابن عَبَّاد»، و«أبي إسحاق الصابئ»، و«ابن سعدان»، و«عبد العزيز بن يوسف» وقد بلغ أكثرُ هؤلاء رُتبة الوزارة ولمّا يبلغ هو منزلة كاتب في ديوان.

حرفته

كان «أبو حيَّان» حسن الخط، عارفاً بفنونِه، وأنواعه. أَلَّفَ فيه رسالةً قَيِّمةً، ربما عُدَّتْ من أقدمِ ما أُلِّف في العربية، وزاد على جَودَةِ الخط وتزيينه وزخرفته، ضبطُ النسخ وسلامتُهُ مما يُدخلُهُ الورّاقون من تصحيف وتحريف.
عقيدته

قال أبو فرج الجوزي: زنادقةُ الإسلام ثلاثة: «ابن الراوندي»، و«أبو حيَّان التوحيديّ»، و«أبو العلاء المعري «وأشدهم على الإسلام «أبو حيّان» لأنه جْمَجم ولم يُصرِّح» وقد جاء في مراجع ومصنفات معروفة، الكتاب «لسان الميزان» «لابن حَجر العسقلاني» قال «ابن النجار» له أي «لأبي حيّان» المصنفاتُ الحسنة «كالبصائر» وغيرها، و «كان فقيراً، صابراً متديّناً، صحيح العقيدة» وجاء في كتاب «شيرازنامه» «لأحمد بن أبي الخير، وهو من رجال القرن السابع: هو الإمام المُوَحِّد العالم المتفرد، الجامع للمعارف والعلوم، لا نظير له في المكاشفات الإلهية، والبحث في التوحيد.

واقع عقيدته

كان «أبو حيّان» حنيفاً مسلماً، ما ندَّ عن شيء من أصول الإسلام العامة، وتهمتُهُ بالإلحاد فَنَحْنُ في غنىً عن التدليل على ذلك، مُحيلين القارئ إلى ما انطوت عليه مؤلفاته من روحٍ إسلاميٍّ قويّ.

مروياته ومقتبساته

أكثر «أبو حيان» في مؤلفاتِهِ الرواية عن غيره، وأغلب ما ورد من آراءٍ في اللغة، والأدب، والفلسفةِ، والفِقْهِ، عزاهُ إلى أساتذتِهِ ومعاصريه. شهدَ الناقدون، ومؤرّخو الأدب، هذا الإكثار في الرواية، مع وحدة الأسلوب وطريقة العرض على الأغلب، فاتهموا الرجل باصطناع الآراء ونسبتها إلى غيره، إمّا تخفُّفاً من أوزارها، وإمّا رفعاً لشأنها، بنسبتها إلى مُحدِّثٍ أو فيلسوف ذي شأن، أمّا عن أسلوبه فقد شبَّهه أقاي ميرزا محمَّد خان القزويني بأسلوب الجاحظ بقوله: أنْ لا كبير فرق بين أسلوبَيّ الرجلين، فأسلوب أبي حيَّان عينُ أسلوب الجاحظ، في سلاسة الإنشاء، والسهولة وعدم التكلُّف والميل إلى البَسْط والإطناب، فهو خطيبُ المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومُدْرَهُ المتقدمين والمتأخرين.

ثقافته

كان النسخ عُدَّتَهُ في التحصيل، فهو منبع ثروةٍ لغويةٍ وإخباريةٍ ضخمة، جَمَعَ منها مؤلفهُ «البصائر والذخائر»، وسواه من المؤلفات. وُهِبَ الرجلُ حافظةً قويةً، وذاكرةً مدهشةً، إلى صبر وجَلَد على تسجيل ما يحفظ، كان عصرُه أحفل العصور الإسلامية برجال العلم، وكان أساتذتُهُ خير هؤلاء الرجال في كل فنٍ من فنون الثقافة، إذا عرفنا ذلك أدركنا السرّ الذي جعل من «أبي حيَّان» دائرة معارف جيله وكتّاب عصره. وعلَّلَ «ابن حجر» تلقيبه «بالتوحيدي» إلى أن «المعتزلة» يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، على اعتبار أن أبا حيّان لدى بعض الدارسين في عصره كان ضمناً على غرار الجاحظ من المعتزلة بما يعني أنه من أهل التوحيد، المعتزلة.

الفلسفة

وصفه «ياقوت» بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، تعاقب على نعته بذلك جلُّ مؤرخيه، ومع ذلك فلم يترجم له في ما وقفنا عليه من تلك الكتب التي تجرَّدَت لتاريخ الفلاسفة أمثال «تاريخ الحكماء» و»منتخب صِوان الحكمة» و»تتمة صوان الحكمة» «وتتمة التتمة» و»عيون الأنباء» على حين ترجمت هذه الكتب لمن هو دونه آثاراً في هذا الفن فتجاهُلهم له لا يعني حتماً عدم انتظامِهِ في مسلكهم في ما يقدرون بل في ما نقدِّر، إلى تناسي التاريخ الفلسفي له، كما تناساه وتجاهله جُلُّ التاريخ الأدبي. ولن ندخل في تفصيل آرائه الكثيرة في الفلسفة، وتضاعيف مفاهيمها العميقة في هذا البحث، بل سَنُلمعُ باختصار إلى نظره في الفلسفة، كما في نظر أستاذه «أبي سليمان المنطقي» بقوله: هي صناعةٌ لا بُدَّ أن تنتهي بصاحبها إلى «التوحيد» فإن انتهت بأحدٍ إلى غير هذا فمرجعُهُ إلى فساد في طريق الدراسة الفلسفية، ولذلك كان كثير الشكّ في سلامة ما ترجم عن اليونانية من نصوص تدعو إلى الجحود أو الوثنية. موضوع الفلسفة هو العالم بأسره، عدا هذا الذي يتصل بأمور الدين. فعلى من يريد الفلسفة أن يُعرض بنظره عن الديانات، ومن يُريد الدين فعليه أن يُعرض بعنايته عن الفلسفة، وليتحلَّ بهما متفرقين في مكانين مختلفين.

الحج العقلي إذا ضاق القضاء عن الحج الشرعي

لم يُشهَد في تصوف «أبي حيان» ما يُشعر بعدم المبالاة، بأصول الإسلام، ولا الفكرة التي تتلخص بالقول: إنّ من عَرَف الحقيقة سقطت عنه الشريعة، أما الاستهانة بالحج خاصة، وهي الفكرة التي شاعت بين بعض متصوفة جيله، فيبعدها عنه، فالرجل حجَّ ماشياً على قدميه عام 350ه كما أسلفنا.

أبو حيان الأديب

الآن وقد ظهرت لنا معالم من سيرة الرجل، ومنابعُ ثقافتِهِ ومصادرُها، وأثر هذه المنابع، وما كان لها من أثر فيه وتأثر به، يصحُّ أن نتجِهَ إلى أسلوبه الأدبي، وعملِهِ الفَنّيّ وما أدخله على هذه المادةِ من ضروبِ الصَقل والتزيين والتظليل والتلوين حتى تستوي على لسانه أو قلمهِ مقالةً فنيةً، وأسلوباً رفيعاً للأداء.

رأي المحدثين من الدارسين

رأي آدم متز
وأوّل من تنبَّه منهم إلى خطر «أبي حيَّان» في عالم البلاغة، المستشرق «آدم متز» في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر» فشهد وهو يرصد آثار التطور في النثر العربي مكانة «أبي حيان» منه، فاستصدر حكماَ جريئاً بإبلاغه مرتبة الأستاذية لكتَّاب ذلك العصر جميعاً، ولم يخش أن يعدّه أعظم كتَّاب النثر العربي على الإطلاق.

دراسة الدكتور زكي مبارك
وعقد مؤلفُ «النثر الفني» دراسةً مستقلّةً «لأبي حيان». في كتابه فوضعه في طليعة كتَّاب الآراء والمذاهب في القرن الرابع الهجري، وحين تكلم عن الأساليب رأى فيه كاتباً يُؤثر الازدواج، ويسجع من حين إلى آخر، كما كان يفعل «الجاحظ» الذي ارتضاه إماماً في حياته الأدبية، والعقلية، ذاهباً إلى أن نثر «أبي حيان» من أبلغ النماذج في اللغة العربية ومن أروع آيات البيان.

كما عدّهُ «محمّد كرد علي» من أمراء البيان العربي. نظر إلى فنِّه الأدبيّ فَعَدَّهُ من أعاظمِ المُنشئين والمؤلّفين في الأدب، ورأى أن رسالة «الصداقة والصديق» تمثلت فيها أفكار أربعة قرون، ورأى في تصويره الإبداعي ما تقف عنده العقول حائرةً، وإذ آضت اللغة على يديه مرِنةً مرونة العجين في يد المصور الحاذق.

رأي أحمد أمين
قال أحمد أمين، وهو يفحص أساليب النثر في القرن الرابع الهجري مستعرضاً أعلامه، أمثال «الصابئ» و»ابن العميد»، و»ابن عبَّاد»، و»عبد العزيز يوسف»، وكان يرى «أبا حيان» من نوع آخر، فكتابته يُعنى فيها بالموضوع كما يُعنى بالشكل، هو غزير العقل، واسع العلم، حسن الصياغة، جيد السبك، وبحق لقبوه بـ «الجاحظ» الثاني. وكانت كتب الجاحظ أغزر مصادر كتابه «البصائر والذخائر» فيما صرّح به في مقدمته، وتجاوز إعجابه به حدّ أن ألَّف كتاباً خاصاً به أسماه «تقريض الجاحظ» وهي خطوة لم يحدثنا التاريخ أن أحداً ألّف في الجاحظ كتاباً قبله، ولقد أطراه في مؤلفاته جميعاً ولكن الذي ينبغي أن يقال إنصافاً للرجل إنه لم يقف بمدرسة «الجاحظ» حيث تركها مؤسسها، وإنما أمدها بمعين من عبقريته وفنِّه بما رفع من قواعدها.

قال إسعاف النشاشيبي: «لو أقام كل عربي تمثالاً في بيته «لأبي حيّان» كفاءً على جميل ما أسدى للأمة العربية في مؤلفاته الأدبية» لما كان هناك إسراف في التقدير، ورعاية الفضل لأهله.

«الحق لا يصير حقاً بكثرة معتقديه، ولا يصير باطلاً بقلة منتحليه» على ما هو معروف، احتُفِلَ بألفية «أبي حيّان التوحيدي» في القاهرة في شهر آب 1994، واقتصر على ندوات وإعادة طبع ثلاثةٍ من كتبه، إلى تكريس مجلة «أدب ونقد» المصرية عدداً من أعدادها للمناسبة، مع عدد من الكتاب الكبار بينهم عبد الرحمن البدوي، فهل يستحق الرجل الدعوة إلى «سنة التوحيدي» هذا الرجل الذي اسمه اليوم على كل شفة ولسان مات مغموراً، وبقي قرابة نصف قرن لا ترجمة شخصية له في أي من المصنّفات، وهو الذي تضج كتبه بالحياة. وكلماتُهُ بالوخزات، وشكاواه بالصرخات التي هي زبدة علمه، لا بل زبدةُ عصر بأكمله… هذه بعض إضاءات منَّا على شخصيته الفريدة، وأعماله العبقرية، ما يصح أن يدرج في قائمة الأدباء الخالدين، مع الجاحظ خصوصاً أنهما كانا معاً قطبي فصاحةٍ وبلاغةٍ على مدى العصور.


مراجع البحث:

– ياقوت الحموي، معجم الأدباء.
– الدكتور “زكي مبارك” النثر الفني.
– “محمّد كرد علي” أمراء البيان.
– شيرازنامة “أحمد بن أبي الخير زركوب”.
– تاريخ الحكماء للقفطي.
– طبقات الشافعية للسبكي
– لسان الميزان ج6.

– وفيات الأعيان ج1.
– البصائر والذخائر.
– دائرة المعارف الإسلامية – مرجيليوث.
– آدم متز “حضارة الإسلام”.
– الملل والنحل للشهرستاني.
– كشف الظنون.
– أحمد أمين “ظهر الإسلام.

دورُ التّعليم العالي في تعزيز فرص التّنمية المُستدامة

هذا العنوان هو موضع موافقة، بل موضع إجماع عالمي اليوم وذلك لسببين: أوّلاً، التنمية البشرية المُستدامة (أي التنمية الشاملة المسؤولة والمتجددة) هي في رأس أولويات وأهداف كل بلد وكل مجتمع حريص على مستقبل أجياله وعلى إيجاد مكان محترم له في عالم معاصر يعجّ بالأقوياء وبالتنافس الشديد في كل مجال. والثاني، لأن هناك تسليماً كلِّياً وعلى مستوى العالم ألّا تنمية مستدامة، ولا تنمية حقيقية في الأساس، من دون دراسات دقيقة وأبحاث متخصصة ومعمّقة، أي لا تنمية من دون تعليم عالٍ كفوء وأبحاث علمية موثوقة ورفيعة المستوى. يقول تقرير حديث لليونسكو بعنوان: «Policy Paper for Change and Development in Higher Education…»

نحن نعيش في زمن لا يستطيع أي بلد بدون التدريب الجيد والبحوث رفيعة المستوى أن يكفل لنفسه أي درجة من التقدم المتوافق مع احتياجات وتوقعات مجتمع يسعى إلى التنمية الاقتصادية». لكن التنمية الاقتصادية في زمننا لم تعد مكاسب مالية وأرقاماً اقتصادية فحسب. يضيف التقرير محدداً نوع هذه التنمية فيقول بشكل دقيق: «مع المراعاة الواجبة للبيئة، والعمل في الوقت نفسه على بناء ثقافة للسلام قوامها الديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بالاستناد على تنمية بشرية مُستدامة».

مطلب البشرية بأسرها إذاً هو الرفاه والبحبوحة والتنمية الاقتصادية. ولكن ليست أيّة تنمية، بل التنمية المتوافقة مع البيئة والديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بكلمة واحدة: التنمية البشرية المستدامة. أما الشرط الضروري في كل سعي إلى هذه التنمية فهي: الدراسات والبحوث رفيعة المستوى والتدريب الجيد، أي لا تنمية حقيقية من دون تعليم عال رفيع المستوى.

فكيف نتمكن من توفير هذا التعليم العالي الرفيع المستوى؟
هذا السؤال العام المركزي ينقسم في الواقع إلى سؤالين فرعيين وهما:
السؤال الأول، كيف ننجح في تأمين تعليم عال لأوسع الشرائح في بلدنا؟.
والسؤال الثاني، كيف نجعل هذا التعليم العالي في بلدنا تعليماً رفيع المستوى، وبحسب أعلى معايير الجَودة في العالم؟.
من جهة السؤال الأول، حدث توسّع هائل لأعداد الطلاب المنتسبين إلى التعليم العالي منذ سنة 1980 إلى اليوم، وازداد عدد طلاب التعليم العالي نحو ثلاثة أضعاف وفي معظم دول العالم. فمع مطلع القرن الحادي والعشرين بلغ عدد طلاب التعليم العالي في العالم حوالي 85 مليون طالب، 47% منهم إناث.

المناطق الأضخم للتعليم العالي في العالم من حيث العدد، هي أمريكا الشمالية، حوالي 17 مليوناً ونسبة الإناث فيها تبلغ 55%، حوالي 5500 طالب لكل 100000 من السكان. تليها منطقة شرق آسيا وأوقيانيا، التي تجاوزت أوروبا مع نهاية القرن العشرين حيث بلغ عدد طلاب التعليم العالي فيها حوالي 15 مليوناً، نسبة الإناث بينهم 41%.

البلدان العربية هي في أسفل القائمة لا يقع دونها إلّا الدول الإفريقية جنوب الصحراء. يبلغ عدد طلاب التعليم العالي في بلداننا العربية حوالي200 جامعة حكومية، تضمّ 3 ملايين طالب جامعي، حوالي نصفهم في مصر وحدها (بمعدل طالب جامعي واحد لكل مائة من السكان).

في لبنان لدينا أكثر من 43 جامعة خاصة، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية، الجامعة الرسمية الوحيدة. يبلغ عدد طلاب هذه الجامعات حوالي 120ألف طالب، أكثر من نصفهم في الجامعة اللبنانية.
اذا أخذنا هذه الأرقام نجد أننا عربياً ولبنانياً لا نشكو من قلة عدد الجامعات، ولا من قلة عدد الطلاب المنتسبين إليها رغم أن مناطق وبلداناً أخرى في العالم متقدمة علينا.

المشكلة عندنا إذاً ليست في السؤال الأول، أي كيف نؤمن تعليماً عالياً للشباب والشابات المتخرجين من التعليم الثانوي. هذا مؤمَّن نسبياً رغم بعض التقصير هنا أو هناك. المشكلة في الواقع هي في السؤال الثاني، أي غياب التعليم العالي رفيع المستوى عندنا، وغياب الأبحاث العلمية ذات القيمة العلمية العالية، والقادرة أن تسهم على نحو إيجابي في خطط ومهام التنمية المستدامة في بلداننا العربية، وفي لبنان على وجه الخصوص – إذا كنّا نفكّر في ذلك!

النوعية إذاً هي السؤال الحقيقي عندنا. نوعية التعليم العالي المتوفر، لا كميته، وهل هو مراقَب أم غير مراقب، تلك هي المشكلة عندنا والتي تستحق الفحص والبحث، والنتائج غير مشجعة ولأسباب كثيرة.
باختصار شديد، المشكلات المعيقة لقيام تعليم عال رفيع المستوى، المعيقة بالتالي للتنمية والتنمية المستدامة عندنا هي التالية:
1. تمركز جميع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي – الرصينة وذات المستوى- في العاصمة بيروت، مما يجعل الإقامة في العاصمة، أو التوجه إلى العاصمة يومياً شرطاً لتحصيل التعليم العالي، وهو واقع مخالف لتوصيات منظمة الأونيسكو التي تنصح الجامعات بالتوجه إلى الأرياف بدل إفراغ الأرياف من سكانها لصالح العاصمة والمدن الكبرى، مع ما في ذلك من نزوح من الريف، وأكلاف ونفقات وأعباء لا قبل لمعظم اللبنانيين بها.

2. غلبة التعليم النظري والأكاديمي على التعليم التقني والمهني والفني في مدارسنا كما في جامعاتنا. طلاب الكليات النظرية في الجامعة اللبنانية يشكلون وحدهم 75% من طلاب الجامعة. والوضع في مراحل التعليم ما قبل الجامعي أكثر سوءاً. مع أن الصحيح هو أن التعليم التقني والمهني هو الأكثر قدرة على خدمة مطالب التنمية وخططها، على المستوى المحلّي كما على مستوى البلاد عموماً. التعليم التقني والمهني لا ينال ما يستحقه من اهتمام وإنفاق، وأحياناً شهاداته لا تعادل إلاّ بشق النفس: على سبيل المثال الإجازة الفنية LT لا تعادل حتى الآن بالإجازة الجامعية!.

3. غياب التوجيه الفني الفعلي Vocational Orientation، فلا المدارس ولا مجالس الأهل ولا الدولة تقدّم في نهاية المرحلة المتوسطة، أو في نهاية المرحلة الثانوية، توجيهاً حقيقياً للطالب مستنداً لا إلى رغبات أمه أو أبيه، وإنما إلى ميوله وقدراته الفعلية وما هو أفضل لمستقبله المهني والوظيفي.

4. فوضى التعليم المهني والتقني بحيث بات صعباً التمييز بين من يتاجر بالتعليم المهني ومن يقدّم تعليماً مهنياً كفوءاً ومفيداً لمحيطه ولتنمية هذا المحيط. أنا مع إعطاء الترخيص لمن يرغب ولكن شرط الالتزام بالعلانية والشفافية والمراقبة من السلطات المحلية ودوائر وزارة التربية الوطنية. وأشدد على دورالسلطات المحلية التي يحب أن تُعطى دوراً أساسياً، فهي أقرب إلى المدرسة المهنية وفي وسعها أن ترى وتراقب وتستنتج: أنّ هذا خطأ وذاك صواب، وهذا ما تحتاجه البيئة المحلية وذاك لا تحتاجه، وهلمّ جرّاً.

5. «غرق» البلاد في السياسة، ولا شيء غير السياسة. ومع احترامي للسياسة بمعناها الحقيقي، ومع قناعتي أن السياسة هي أمر جيد، ودليل ديمقراطية البلد وحيويته، ولكن هناك أموراً أخرى مهمة أيضاً مثل: مستقبل أولادنا المرتبط مباشرة بنوعية التعليم الذي يتلقَّوْنه في المدرسة والجامعة، ومثل فرص العمل غير المتوفرة، وكذلك الجو غير الصحي وأحيانا غير الآمن الذي يتعلم فيه أبناؤنا وبناتنا في المدارس والجامعات، وعلى الطريق إلى المدارس والجامعات. هل هناك من يسأل عن الجو النفسي لأبنائنا وبناتنا وهم يعيشون لبعض الوقت ويتعلمون ويدرسون ويبحثون عن نتيجة علمية فيما هم في غابة من الأعلام والصورالحزبية والأناشيد الحماسية والثياب المرقّطة وعرض عضلات الشبّان المفتولة، وعلى مرأى من مسؤولي المدارس والجامعات وموظفيها وحرّاسها، ولا من يرى أو يسمع، بل كأن ذلك هو آخر ما يعنيهم، هذا مُناخ غير صحِّي وغير معقول في الأساس ولا يحدث حتى في أفغانستان! ولكن من يسأل أو يهتم، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داود!

هذه فقط بعض المشكلات لا أكثر، مشكلات رغبت الإضاءة عليها لأن لها علاقة مباشرة بتحفيز التنمية المحلية والوطنية الشاملة والمستدامة. ويجب أن تنال عناية، ومتابعة، الأطراف الرسمية والسياسية والثقافية لأنها ببساطة تمسّ مستقبل أهم رأسمال في كل مجتمع وكل زمان وهو: الإنسان، وبخاصة الأجيال الشابة. فالمجتمع الذي يربح معركة الإنسان ومعركة إيجاد تعليم أساسي وجامعي ملائم، وإيجاد فرص عمل لأجياله الشابة، هو الذي يربح المستقبل. ومن يفشل أو يُهزم في المعركتين يخسرالمستقبل، ويستمر تابعاً ولاحقاً لمن هو أكثر تقدُّماً منه، ويبقى مجرد سوق لأسوأ ما لدى المتقدمين من بضاعة رديئة، وثقافة رديئة، وفنون رديئة، وسياسات رديئة كذلك، وشكراً.

الشاعر الفارس ورجل المجتمع جاد الله سلاَّم

 

كنا قد قدَّمنا دراسةً خاصة بالقصيد النبطيّ في جبل العرب لمجلّة الغرّاء، وذلك في الأعداد 16 و 17 و 18 من عام 2016، وأوضحنا من خلالها جذورَ استخدام شعراء الجبل (للهجة البدوية) وسنعرضُ هنا لأعتى رموز هذا الشعر (النبطيّ / البدويّ) من شعراء جبل العرب الذين حُفظت قصائدهم في الذاكرة الشعبية، وما زالت تُستخدم إلى الآن في جُلّ المناسبات كالأعراس، ومآتم الشهداء والأبطال، والأمسيات الشعبية، لما فيها من معانٍ خالدة حاكت المجتمع وأصبحت جزءاً من وجوده، مثَلُها مثَلُ الأرض والغيث، وشأنها شأنُ السلاح الذي يحققَ النصر.

نعرضُ لها اليوم ونحنُ ندرك أنّ دورَ الشعر قد تضاءَل جدّاً أمام معطيات الحضارة، وقد وصلَ في بعض محطاته إلى دَرَكِ اللامبالاة ، حيث حُمِّلَ إثمَ الرَّجعية وتُهمَةَ الرِّدّة إلى البداوة من قِبلِ حُماة اللغة الأمّ ومَن في صَفّهِم من دُعاة التَّحضُّر، ولستُ بصددِ تفصيل الدفاع عن هذا الموروث وبيانِ ماهيته ودوره التاريخي، ولكن لابدّ من الإضاءة على أمثلةٍ بارزة في سجلاّته العريقة؛ بغيةَ التوثيق والإيضاح.. وستكون وقفتنا الأولى مع الشاعر الكبير جاد الله بك سلام:
ــ يعود أصل آل سلاّم إلى منطقة راشيا في لبنان، حيث هاجروا منه إلى جبل حوران بعيد أواسط القرن التاسع عشر، ومن ثم استقروا في المقرن الشرقي من الجبل…

وُلدَ شاعرنا الفارس جاد الله بن حسن سلاّم عام 1896 م، في قرية طربا الواقعة في (المَقْرَنِ الشَّرقيّ) من جبل العرب، وهو أحدُ فرسانها ورجالها المعروفين، الذين كان لهم دورٌ فعالٌ في الثورة العربية وفي الثورة السورية الكبرى، كما أنّه كان قاضياً عشائرياً يفصل في خلافات الناس، وقد توفاه الله في قريته طربا بتاريخ 22/2/1982.

وجاد الله سلام كشاعر يُعتبر من الرَّعيل الذي تأثر بكبار الشعراء الشّعبيين في جبل العرب أمثال شبلي بك الأطرش واسماعيل العبد الله، وقد تأثرَ كغيره من شعراء الجبل باللهجة البدوية ومعطياتها، حيث نظمَ بها كلَّ قصائده، وهذه نتيجة حتمية، حيث إنه عايَشَ البدوَ وجاورَهُم في فترةٍ حسّاسةٍ من عمره، وذلك في طفولته ورَيعان شبابه، إضافةً إلى أنَّ البدوَ كانوا يشكّلون مساحةً غير قليلة من محيط الشاعر، إلا أنهُ أضفى على شِعره صِبغةَ الاختصار وحاكى واقعَه بطريقةٍ تميّزَت بالسلاسة والجزالة، حيث نجد كلماته تتردد في الأفراح والمناسبات الوطنية بشكلٍ منقطع النظير، ومنها أبياته المشهورة:
هِيهِ يا الِّلي راكبين على السلايل
فوق ضُمّر يمّ طربا ناحرينا
سَلّموا عَ ربوعنا وقولوا لهايل
بالسويدا ثارنا حِنّا خذينا

ــ لقد أرَّخَ شاعرُنا لأحداثٍ مهمّةٍ في تاريخ جبل العرب، ومنها أحداث الثورة السورية الكبرى التي شاركَ في جُلّ معاركها الجسام، مثل (المزرعة والمسيفرة ومعارك الغوطة وغيرها)، ومن أبياته الخالدة في الذاكرة الشعبية هذا الحُداء الشهير في معركة المزرعة التي جَرَت في غُرّة شهر آب 1925 م:

يا الله نَطْلُبْك السِّتر يوم ان فَتَل دولابها
شَرَّابة الدَمّ الحَمَر والذلّ ما نرضى بها
جرَّد علينا مْنَ البحر عسـاكراً وِطْوَابها (1)
عينيك ياللي ما حَضَر حنّا كَفينا غيابها
يا بنت يا عين الصّقر ريح النَّفَل بِجْيابها (2)
لا تاخذين الما صَبَر يوم الخَوِي ينخى بها
وآخذِين خيّال السِّكَر المـــرجـَـــلة عَيـــّا بها (3)

وفي ثلاثينيات القرن الماضي أرسلَ هذه القصيدة إلى الثوار الذين نزحوا إلى وادي السرحان في الأراضي السعودية ــ حيث لجأوا إليها من عام 1927 حتى عام 1932 وعادوا آنذاك إلى الأراضي الأردنية إلى أن عادوا نهائياً إلى سورية سنة 1936 بعد اعتراف فرنسا باستقلال سورة ولبنان ــ وفي قصيدته يُذكّر بالنصر ويتأمل الفرج القريب ، ومن أبياتها:

يا رُسل يالِّلي تمِدّ مْنَ آرض طَرْبا
فوق حُرَّه كنَّها ظبْيَ الحَمَادي
سلّم على اللي ساكنين ديار غُرْبه
النشاما مْخضِّبة سْيوف الهَنادي
ديرتي قامت تِبَسَّم عُقب حَرْبه
يوم تلفوا تَخْلع ثياب الحْدادي
العَفُو ما هُوْ بَعيدٍ يوم قُرْبه
يوم يلفي الوفد ياتيكم بجادي (4)
يا طويل الباع هَدّ الحيل ضَرْبه
لا نوى ربَّك قضى كل المْرادي (5)

وفي خِضَمِّ الثورة والنصر يسجّل لنا الشّعرُ ما في نفوس المجاهدين من أنََفةٍ وشهامة، فهم يريدون الحرية والعزة ولا يرضخون للمحتل؛ وهم إن نشدوا حاجةًً فهي حاجة الحر لسلاح الحرية، لقد أرسل المجاهد صالح عْمار أبو الحسن قصيدة إلى جاد الله سلام عام 1928 وفيها يطلبُ بارودة ، ومن أبياتها:

ملفاك طربا خُشّ دار اَبو سلام
الضَّيغَمي ما هي غبيّة فعاله (6)
من مصر لبغداد لنجد للشام
لوّ الرجال بعَدّ حَبّ الرماله
ما مثلكم رَجلٍ على الحق مقدام
وللمثلنا دايم تِفقّد حواله
أريد موزر ترعب الضدّ وخصام
مَعْمَل بْرِنْد وْمِن مْعَدَّل طواله
وِمْخُومَسات بْصَفَّها عَشْرة آدْوام
أريدها يوم الوغى يا حَلاله
أدري بكم بين المخاليق فهّام
وَدّي جواباً مثل عَدّ الرِّساله

يجيب ابو سلام وقد أُعطيت البارودة لصالح عمار فوراً :

يا عْمار لا جانا من الربع منضام
حنّا بعون الله نْعَدِّل آحماله
بوجوه ربعٍ من مواريث سلاّم
عُقّالهم وآن ثار الاشْهَب جَهَاله (7)
لك طُلْبةٍ مَوْزَر تِشيله مع آحزام
تستاهله والاَّ الرَّدي ما يناله
خُوذه وَلاني مْدَوَّر الرِّبح سَوَّام
والرِّزق عند اللي يدبّر احواله (8)
تَضْرُب عَدوَّك بالعظم ضَرْب قصَّام
يوم الحرايب ما يريعَك آهواله
الطَّيْب ما بين المخاليق حَوَّام
كِلْ ديرةٍ يا عْمار بيها رجاله

ولقد اهتمَّ هذا الشاعر الفارس بقضايا وهمومِ وطنِه، وأرسلَ زَفَراتِ صدرِه مع أبيات قصائده، ووظّف رؤيتَه ونصيحتَه مترجماً الحلَّ في أكثر من نداء، ومن أجمل ما يقال في هذا السياق؛ تلك المجموعة من القصائد التي تبادلها مع الشاعر أحمد الغباغبي والشاعر حمد المُصفي وهي بعنوان (تل الفرس).. القصائد التي يتحدّى أصحابُها العدوّ الصهيوني الغاشم ومن يشدّون على يده. ومن قصيدة جاد الله سلام التي يشيرُ من خلالها إلى حرب حزيران 1967:

مَبْداي باللهْ والذي هُوْ رَجانا
هُوْ خالق الدِّنيا وْعَليه التَّدابير
يَدْمَح لنا الزَّله وْيغفر خَطانا
وِيْفكََّنا مِن لايذات العَواثير
مِن عُقب ما كِنّا بعزٍّ، دَهانا
حربٍ بْسِتَّ آيام ما عَقّبَتْ خير
أمْرٍ مْن الله مار ماهِيْ جَبانه
وْهذي آسعرات الحرب وِرْدٍ وتصدير(9)
حِنّا هَلَ الرَّدَّات عاللِّي بَغَانا
لابُدّ يومٍ يزحَفُون الطوابير (10)
ونَمْطِر على الغاصب صَواعق سمانا
والله على الباغي تدور الدواوير
عشرين عامٍ يا عَرَبنا كفانا
ما فادنا كثر الخُطَب والمشاوير
تلّ الفَرَس وِتْلول مِثْله تَرانا
وْحِنّا نراعيها بشَوف النواظير
مِن شَرْقنَا وْمِن غَرْبنا وِش بلانا
ما عاد نقبل يا عَرَبنا معاذير
القدس تنخاكم، عليها مهانه
حَنَّت على الفَرقه حنين النواعير
امشوا عليها واحفظون الأمانه
وعلى بَعَضْكُم لا تصيروا دبابير
وان ما خذينا حقَّنا باليَمانه
عيبٍ علينا الهرج عند الغنادير
شبُّون نار الحرب باربَع آركانه
والرِّبــح ما ياتي بَليَّا مخاسير (11)

وتميَّزَ شِعرُه بكثافة المفردات التي أنتجَت تركيباً جَزْلاً يخدِمُ مضمونَ القصيدة ومنحاها العام، ونحن نتكلم هنا عن لهجةٍ بدويّةٍ صِرفة لا يُخِلُّ الشاعرُ في استخدامها ولا يخلط بينها وبين العامّية القروية المتعارف عليها (والتي هي لهجتُهُ في الأصل)، ومثال هذا؛ أبياتٌ من قصيدته التي عُرفت باسم (قصيدة الدَّهر)، وهي القصيدة التي بكى من خلالها أهلَه الذين فقدَهم إثرَ أحداثٍ داخلية مؤلمة، وفيها يذهبُ مذاهبَ الحكمة والنصيحة وقد اعتملَت تقلُّباتُ الدهر في أُسْرَةٍ أجلََّتْ يدُ الجماعةِ من شأنها عبر المواقف البطولية والاجتماعية المشهودة:

الدَّهر دولابٍ على النَّاس دَوّار
واليوم دَور آرحاه داير علينا(12)
خمسَة سنينٍ نَجْرَع الصَّبر وِمْرار
مع سِتّْ هَدّنَّ القصور الحَصينا
أبكي على اللي بْميلة الدَّهر صَبّار
فَصَّال وان دارَت عليه السنينا
وابكي على اللي بَدَّل الدَّار بديار
هيهات مِن عقب المْفَارَق يجينا(13)
ياما رَكبنا فوق طوعات المْهَار
وياما على قَبّ السَّبايا حَدينا(14)
وياما مَشينا بْدِيرَة الخوف بِنْهار
وياما بْعَتمات الليالي سَرينا
أيام بِيضٍ كنّها زَهر نَوَّار
أبْيَض مِن المَقصُور هُوّ واللُّجينا(15)
وايام أسْوَد من صَدى الجاز وِشْحار
وِتْقُول عتمات الدُّجى آلمِظلمينا(16)
وايام تَدْعي واسع الفكر محتار
يَخْطي وْلوّ انّه فَرِيزٍ فَطَينا
وايّام تَدْعي عَادِمَ الشَّور شَوَّار
واليا هَرَج تلقى المَلا تابعينا
وياما هَفَت دنياك حُكَّام وِكْبار
ياما ملوكٍ قوطَرُوا ذاهبينا(17)
انظر بني عثمان يوم الدَّهر دار
جارَت عليهم مِغِبْرات السِّنينا
خَلّوا قصور العِزّ تنعي وآلاسوار
هُم بالحياة وْغيرهم وارثينا
والدَّهر خَطّ بْصَفْحَة القلب تذكار
من شُوم فِعْلَه يا آلاجاويد فينا

هي القصائد الذَّاتيَّة الموسومة بآثار الحزن التي تطغى على جسد القصيدة بشكلٍ مكثّف؛ وأقول (ذاتية) لأميّزها عن القصائد العامّة التي حاكت المجتمع من خلال الصيغة الوطنية والصيغة الاجتماعية المتمثّلة بشعر الحِكمة وشعر المدح من رثاءٍ أو ترسيخٍ للعادات والقيم. ومن قصائده الذاتية؛ قصيدته المشهورة في رثاء الأهل الراحلين عام 1917 على أثر الأحداث الداخلية المؤلمة التي أشرنا إليها، ومنها:

ما لُوم عيني وان بكت دمعها دَمّ
ما لومها وان طَوّلَت في سَهَرها
تبكي على اللي فارقوا الدَّار يا عَمّ
وِمْنَ البكا كَن زاغ منها نَظَرها(18)
صَبَرت انا وْعَيّا الصبر يَفْرِج الهَمّ
صبري على بلواي مَحْدٍ صَبَرها(19)
صَبْرَ الحديد اللي تِلوَّى على الحَمّ
ما جَضّ وان زادَ المعَلِّم شَطَرها(20)

عارف النكدي

ومن القصائد الإنسانية التي تنمُّ عن الشاعرية الحقيقية؛ هذه القصيدة التي عُرفت بــ (نشيد بيت اليتيم في السويداء) ، نظمها الشاعر عام 1948 عند افتتاح بيت اليتيم والذي يعود الفضل في تأسيسه ورعايته إلى المرحوم الأستاذ العلاّمة اللبناني (عارف النكدي) محافظ السويداء آنذاك، وقد تبارى الشعراء الشعبيون وقتها في تخليد ذلك الحدث من خلال قصائد عُرفت كُلّها باسم (نشيد بيت اليتيم)، وشاعرنا جاد الله سلام تكلَّمَ ــ وهو في الخمسين من عمره ــ بلسان الطفل اليتيم، وفي ثنايا القول ؛ نجدُه قد استغنى عن المفردات والجُمل المُغرقة في (البدويّة)، إذ هَلهَلَ القصيدة وبسَّطها في سياق كلامه بلسان الأطفال، وهذا ما يُلفِتُ النظرَ ويعبّرُ عن إحساسٍ رقيقٍ ووعيٍ مُدركٍ، فنحنُ في حضرِةِ شيخٍ وفارسٍ مجاهد فاضَت قصائدَهُ عن ساحات الوغى ومعتركِ المجتمع القَبَليّ فجاءت عاتيةً في مجال اللفظِ والصوَر، أمّا هنا، فللقول منحىً آخرَ تماماً؛ منحى السهل الممتنع ، ومن قصيدته:

 

 

لا نِذِلّ وْلا نقول اِنّا يتامى
والقَدَر من قبلنا يتّم نبينا
ما نِذِلّ ومدرستنا بانتظاما
والعيون العاطفة تسهر علينا
اليُتم ما ضرّ لَرْجالٍ عِظاما
قَـبْلنا ياما رجالْ مْيتّمينا
وان دعا داعي الوطن يوم الخصاما
وْقِيل وين اللي يرُدّ المعتدينا
مَن نشَد عنّا يجدنا بالأماما
مع طلايع جيشنا بالأوّلينا
ومَن غَرَس طيبٍ جنى عزّ وكرامه
ومَن عطت يسراه ياخذ باليمينا
والشكر لازم علينا بالختاما
للذي يرعى اليتامى القاصرينا

… عارف النكدي وجاد الله سلام، جمعتهما الإنسانية وذاكرةُ اليتمُ في حومة ما وَرَد، ومنها جاء هذا النسيجُ الماديّ والمعنويّ..


شروحات:

1. طوابها: الطُّوب: المدفع
2. ريح النَّفَل: يريد رائحة العطر، والنَّفَل: نبات برّي طيّب الرائحة، بجيابها: في ثوبها الذي يكسو صدرها
3. السِّكَر : صفة للخيل مصدرها نشوة الفارس الذي يعتز بفرسه وفروسيته, عيّا بها: أي رفض المساومة عليها.
4. الوفد: إشارة إلى الوفد السوري الذي سافر إلى باريس عام 1936م برئاسة هاشم الأتاسي بشأن التفاوض من أجل حرية البلاد واستقلالها
5. لا نوى: (لا) أصلها لو وهي من اللهجة البدوية ويكثر استخدامها عند الشعراء العاميين.
6. غبيّة: خفيَّة
7. الأشهب: كناية عن البارود، وفي البيت يصف تحوّل العقلاء (عقّالهم) إلى حالة الجنون (جهاله) عند احتدام وطيس المعارك
8. خوذه : خُذها
9. مار: من استخدامات البدو وتعني (ماغير) وتفيد أيضاً معنى (ولكن), اسعرات الحرب: سعيرها
10. هَل الرَّدات: أي أهل الثأر والنخوة
11. بليّا مخاسير: من غير خسائر.
12. دَوْر رحاه: رحاه تقرأ بتسكين أوّلها ليستقيم الوزن وهي بلفظها هذا من استخدامات العامة والرحى هي آلة حجرية قديمة تستخدم لطحن الحبوب
13. المفَارَق : بتسكين الميم و فتح الراء وتعني الفراق
14. قبّ السَّبايا: الخيل الضامرة, حَدينا: أي أنشدنا الحُداء وهو لون من الشعر الذي يخص الحروب
15. المقصور: الثوب الأبيض، اللجينا: اللجين: الفضة
16. صدى الجاز وشحار: يريد بصدى الجاز عتمةَ القبر، وشحار: أثر الدُّخان الأسود
17. قوطروا : وَلّوْا إلى غير عودة.
18. كَن زاغ منها نظرها: أي كأن نظرها مالَ وذهب
19. عَيّا: عَجِزَ, محَْدٍ : أصلها (ما أحد) ولكن تُسقط الهمزة وتُسكّن الحاء على حسب اللفظة البدوية
20. جَضّ: هي تصحيف لمفردة ضجّ والعامة تستخدمها بمعنى تضايقَ وأصدرَ أنيناً, زاد المعلّم شطرها: أي أمعنَ الحدّادُ في عمليّة طرق الحديد.

من الماضي الجميل

كان شعراء جبل العرب يلتقون كل اسبوعين يحيون التراث وكان عميد الاجتماع المغفور له المهندس ابو رياض جادالله عز الدين المحترم الرزين والمثقف المميز صاحب مكتبة على رفوفها احدى عشرة ألف كتاب تحت تصرف الجميع.

تم تداول فكرة هي ان نكرم الافذاذ بعد رحيلهم ولم يبق من سيوف المجد صانعي الاستقلال المشاهير غير اللواء ابو غالب زيد الاطرش الأخ الشقيق لسلطان ويده اليمنى في كل المواقف التاريخية فلماذا لا نُسمعه وهو على قيد الحياة رأي الشعراء به واتفقنا ان نزوره في عرين سلطان باشا الاطرش وفي مضافته فنقول رأينا به وحددنا يوم الثلاثاء في١٣-٣- ١٩٩٦ وقبيل الظهر زرت ابا رياض جادالله عز الدين وهناك التقيت الاخ العقيد الشاعر ابو نزار محمد شجاع عنده، وبحثنا الخطوات اللازمة للمناسبة؛ فاقترح ابو رياض ان نبحث في السوق عن هدية رمزية نقدمها للواء ابي غالب زيد؛ فوجدنا هدية ترمز الى الفتوّة والنضال فاشترينا سيفا كهدية رمزية ..

وفي المساء كانت مضافة سلطان باشا تغص بالشعراء وأنصار التراث، بدأت السهرة بكلمة ألقاها عميد السهرة جاد الله عز الدين باسمه الكبير وقدم الهدية (لابو غالب) باسم الجميع ونيابة عنهم ففاجأته الهدية ووقف بطوله المهيب ليقبّل السيف ويقول: وصيتي ان يوضع تحت راسي في قبري!!

ابتدأت السهرة التي كانت حفلة منضبطة ومنظمة وبرنامجها محترم من الجميع …وجاء دوري فقدمت قصيدتي هذه:

ما المجد غير تجشّم الأخطار
والذِكر غير حصيلة المشوار
الليل يغتال الوضوح تغلّساً
والصبح خير هديّة للساري
والبدر في كبد السماء مميّز
والشمس تمحو لألأ الأقمار
يا زيد مَن للخيل في يوم الوغى؟؟
حين ارتخاص الروح للأقدار؟؟
يوم العجاج امتدَّ يسحب ذيله
ليلاً يحدّ خوارق الأبصار؟
حين استجار الشرق من أغلاله
هذا العزيز الصعبُ بالثوّار؟
تالله كُنتَ الليث ينثر لبدةً
والثائرون منائرُ الأكوار
والسيف منصلتٌ تعندم راعفاً
يهوي بوهج نيزكيٍّ عاري
إن هُجتَ هاجوا دمدماً وصواعقاً
سيلَ السيولِ وجذوة الإعصارِ
مزّقت أجناد العدوّ بفتيةٍ
في كلّ موقعةٍ كسهم النار
وهززت راشيّا بجمعٍ ثائرٍ
حين اقتحمتم شاهق الأسوار
يا فارساً بالحرب يزجي مهره
مستهزئاً بالنار والأخطار
يا زيدُ أغنيت الجهاد ولم تزل
تُعطي عطاء الديمة المدرار
صلبٌ إذا اعتبكت وطار شرارها
تغشى الوطيس بهمّة المغوار
يا زيد شاخ الدهر إلّا أنكم
كبشٌ عليه غُلالة من غار
يا شاعراً أغنى القريض بشعره
يا قائداً يا أحصف السمّار
أنجزت صرحاً للتراث مشيّداً
بالسيف والتنظيم والأشعار
يا زيد ليت الدهر في امكاننا
إرجاعه قرناً بدون ضرار
فأراك في النبك البعيدة بادياً
شاكي السلاح مهلهل الأطمار
ترنو الى صوب الشمال وأهلهِ
والروح تهدي ذاتها للشاري
إنّي أحيي الآن شيخاً فارساً
في أعظم الأيام، في آذار
في دار سلطان العظيم وحصنه
نسقي أصول المجد بالتذكار
يا ربُّ هَبْ زيداً شموخاً دائماً
هذا بقيّة نخبة الأبرار

مقاومة دروز الأرض المحتلة لقوانين التجنيد الإلزامي الإسرئيلية

«ظهرت البوادر الأولى لمعارضة قرار فرض التجنيد الإلزامي على الدروز مباشرة بعد صدوره في بداية سنة 1956، وخصوصاً عندما بدأ قائد وحدة الأقليات حملته في إسكات أصوات المعارضين التي ارتفعت في كل القرى الدرزية، كما أكد تقرير الحاكم العسكري في الشمال في 26 كانون الثاني 1956، أي بعد ثلاثة أسابيع من سريان القانون.
أبرزت نقارير الحاكم العسكري في الشمال دور الشيخ فرهود قاسم فرهود (1911-2003) أحد أبرز مشايخ الدين في الجليل الذي لم يترك مناسبة من مناسبات اجتماعات مشايخ الدروز من دون أن يرفع صوته ضد فرض القانون….وبعد أيام أرسل الشيخ فرهود عريضة موقعة من 42 شيخاً إلى رئيس الدولة طالب فيها بإلغاء القانون المفروض على الدروز. وفي نيسان من تلك السنة بادر الشيخ فرهود إلى عقد اجتماع عام في مقام الخضر في كفر ياسيف بهدف إعلان موقف موحد ضد التجنيد وعلى الرغم من الضغوط التي مارستها السلطات الإسرائيلية على الشيخ أمين طريف (الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في فلسطين يومذاك) لإلغاء الاجتماع وإقفال باب المقام، فإن المجتمعين نجحوا في عقده وإصدار بيان مشترك دعوا فيه السلطات الإسرائيلية إلى التراجع عن قرارها. زد على ذلك، وجّه المجتمعون إنذاراً بأنهم سيدعون إلى إضراب في المدارس وإلغاء احتفالات النبي شعيب في حال رفضت السلطات الاستجابة، ثم هددوا بسحب اعترافهم بالقيادة الروحية إذا ما أحجمت عن الوقوف إلى جانب رافضي الخدمة العسكرية (1).
وفي إحدى الرسائل التي وقعها 55 من رجالات الدين والشبّان بعثوا بها إلى وزير الأديان وإلى رؤساء الطائفة، أعلن الموقعون يوم الاحتفالات في مقام النبي شعيب 25 نيسان يوم حداد (2).وفي 22 آذار توجه المحامي نمر الهوّاري باسم 16 شاباً درزيا من رافضي التجنيد في مدينة شفا عمرو إلى رئيس الحكومة برسالة مفصّلة شدد فيها على التالي: 1- يعتبر الدروز أنفسهم أبناء الأقلية العربية، وما دام لم يُدعَ أبناء هذه الأقلية إلى الخدمة العسكرية، فيجب عدم الفصل بينهم وبين وبين الدروز في الدعوة إلى الخدمة العسكرية. 2- ليس ثمة مبرر لتغيير كانتهم من متطوعين وتحويلهم إلى مجنّدين إلزاميين….يعتبر فرض الخدمة اإجبارية على الدروز، بالاستناد إلى طلب تقدّم به من لا يمثلونه، عملاً استبدادياً.
ونتيجة تعاظم حركة الرفض بين الشباب الدروز لجأ الحاكم العسكري في الشمال إلى الطريقة التي اتبعها أمنون يناي في سنة 1953 في الاستعانة بوجهاء الطائفة لكي يوزعوا أوامر التجنيد في القرى. ففي قرية يكا على سبيل المثال رفض 28 شاباً من أصل 93 استلام الأوامر، فاقترح الحاكم العسكري في الشمال معالجة حالة الرفض في يركا قبل انتشارها في القرى الأخرىعن طريق استخدام الشرطة ضد الرافضين. وفي مواجهة هذا الرفض طلب نائب رئيس أركان الجيش من الحاكم العسكري في الشمال عقد جلة في 7 آذار 1956 لأعضاء لجنة التنسيق العسكري ضمّت بالإضافة إلى الحاكم العسكري في الشمال ممثلين عن الشاباك والشرطة وقائد وحدة الأقليات. وبحسب المعطيات التي عرضها مكتب التجنيد أمام هذه اللجنة لم يوافق سوى 28% من المطلوبين للخدمة الإجبارية على تسلّم أوامر التجنيد، إذ رفض 291 شاباً من أصل 374 مطلوباً للخدمة العسكرية (146 شاباً من أصل 197 مطلوباً في قرى الجلي، و145 شاباً من 177 في قرى الكرمل) (3).
في ضوء هذه المعطيات، طلبت لجنة التنسيق اللوائية من نائب رئيس الأركان أن يصدر أمراً إلى مكاتب التجنيد في طبريا وحيفا يقضي باستخدام قوة الشرطة ضد رافضي التجنيد. وعلى الرغم من اعتقال العديد من الشبّان وفتح ملفات جنائية ضدهم، فإن عدد الرافضين لم يتناقص كثيراً، إذ مثل في مكتب التجنيد في حيفا 60 شاباً فحسب من أصل 141 مطلوباً من قرى الكرمل، ومثل في مكتب التجنيد في طبريا 74 شاباً من اصل 240 مطلوباً من قرى الجليل، وهو ما دفع لجنة التنسيق اللوائية إلى الطلب مجدداً من السلطات العسكرية تقديم المعارضين للمحاكمات وجلب الرافضين بالقوة إلى مكاتب التجنيد. ونتيجة هذا الرفض، عقد أعضاء هذه اللجنة جلسة ثانية، اعترف فيها ممثل الشاباك بفشل الإجراءات البوليسية في وقف حالة الرفض، وأشار أعضاء آخرون في اللجنة إلأى أن تدخل بعض وجهاء القرى وخصوصاً في دالية الكرمل وعسفيا وبيت جن كان محدوداً جداً.» (4) (ص 282-285)
هذه صفحة واحدة من صفحات مقاومة دروز الأرض المحتلة لقوانين التجنيد الإسرائيلية، ويمكن متابعتها وسواها في عمل المرحوم قيس فرّو المهم.


المراجع:

  1. أرشيف الجيش الإسرائيلي، ملف 72\70\752 تقرير نائب الحاكم العسكري في الشمال
  2. أرشيف الجيش، التقرير نفسه،
  3. أرشيف الجيش، الرقم نفسه، تقرير هيئة الأركان بشأن تجنيد الدروز، 11 آذار\مارس، 1956.
  4. أرشيف الجيش، الملف نفسه، ملخص جلسة لجنة التنسيق بشأن التجنيد الإجباري للدروز، 22 آذار\مارس، 1956

الفيلسوف جُبران خَليل جُبران

لم أشـأ أن أكتب إلّا ذاتي عندما أكتب عن جبران فقد تغلغل في ثنايا فكري، ثورة تنادي للحرية، صرخة تسكب حناناً على جائع بائس، جرأة تزيل القناع عن وجوه بشريّة ممسوخة من الداخل تسكنها الشياطين والغرائز فلا يوفّرها في أي مقام كانت وأي جاه تستّرت به، جبران يا وجدان وطن ما زال يعاني، ويا ضمير أمّة انتهك حرمتها الأقوياء وسخرّوها لمآرب وأطماع. كلمتك لا تموت ولا يحتويها الزمن ويبخّرها، فقد كنت بكل جيل نهضة، وإنسانية وحقاً، والحق لا يموت، رأيت فيك لبنان، لبنان الخير والجمال، لبنان الألم، لبنان الصبر والعزم والإيمان، لبنان الأصالة، فأزفّها كلمة ثقة بريئة شفافة لكل أبنائنا وأقولها: أقرأوا لجبران، جبران أنتم بكل أبعاد الذات المنيرة المستنيرة، عبقري من بلادكم حمل عبقريتها إلى بلاد الاغتراب فكبُر وطنكم الصغير به، وأصبحنا نُعرَف ببلد جبران! تلك النفس الأبية المعطاء التي ما دنستها المادة ولا استهوتها الإغراءات ولا نالت منها الذاتية والأنانية، تلك النفس التي سكنتها الروح الكونية فتماهت مع كل عناصر الطبيعة، ومع الإنسان حيث كان، فما استكانت ولا ملّت ولا تعبت ولا تغيرت أو ترددت بحكم تقلبات الزمان والمكان، وإذ قال جبران: «وجه أمي وجه أمتي» أُحرِّف وأعدِّل وأقول: وجه جبران وجه أمتي، كما يجب أن يكون وكما أريده أن يكون وكما هو حقاً إن تُرك على عفويته دون كل تلك المحاولات التي تعمل لتسلبنا أصالتنا. جبران القيمة الإنسانية بحق والتي لا تضاهي، تلك العدالة الاجتماعية التي لا تساوم فلا تمايز ولا تمييز، فالكل أبناء الله وللكل الحق في الحياة… وكأنّه عاش آلام البشرية كافّة، آلام الطبيعة المخضَّبة بالدماء أثر الحروب وآهات المعذبين، آهات المسيح بالذات «مساء العيد» والناس في غرورهم قد ابتعدوا عن رسالة صاحب العيد: «العالم يردد اسمي والتقاليد التي حكتها الأيام حول اسمي، أمّا أنا فغريب أطوف تائهاً في مغارب الأرض ومشارقها، وليس بين الشعوب من يعرف حقيقتي» يا ليتهم يعرفون ليكون لنا السلام المُرتجى، وأتساءل ألم يكن لجبران ليلاً أو نهاراً أو لخطاب يعيشه لذاته بل كلّه بوح المقهورين والمعذَّبين، والجياع، والتصدي لمبعثها، ومسبّبها، فهل يضيع الصوت الصارخ. وينعدم الصدى؟ كلّا، ابن لبنان، يا بن الأرز، يا بن الوطن الجريح فقد عهدت للمحبة أن تفعل فعلها والمحبّة لا تسقط، ولا تخيب، المحبة هي الله عزّ وجل فأتناولها اختصاراً لكل ما أتحفتَنا به رغم أنّه يحلو لي أن أكتب في كل ما كتبت، وألتقي، وأكرّر أن أسأل قومي أن يقرأوا لك، فحرام على من لا يقرأ جبران ويهدي إلى سبيله الفيّاض المعطاء، إلى رسالته المنتصرة دوماً وأبداً، «حلقة تصل بين هذا العالم والآتي» والمحبة تلك الذخيرة، الشعلة الملهبة في قبله كانت المصدر والأساس لهذا التفاعل بلا حدود مع كل ما وهب الله، وخلق فهي هو وهو في ذات جبران، فلا ينكرن أحد لفيضها «فاتبعوها» «أطيعوها» «صدقوها» تحرركم أتقياء جديرين «بمائدة الرب المقدسة»، حقّاً بدون محبة لا طريق إلى الله وهي التي ترتفع بنا إلى قلب الله حيث هي منزّهة تعطي وتأخذ من نفسها فقط مُنعَتقة من التملُّك والتّمليك، مكتفية بذاتها لأنّها أكبر من كل ما عداها، مغتبطة بها دوماً وأبداً، شاكرة معها تسير، ومعها تعطي ومعها تعمل تلك المحبة التي أراني أعيش نشوتها صلاة إن في كِلَمِ جبران أو صوت فيروز واللحن، وأتصوّر مشاعر جبران وخياله النابض بها يجول كلّ الآفاق، ويخترق كلّ الحواجز متواجداً في مكان محدد ومع المحبّة في كلّ مكان! فسبحان من أعطى ووهب، وتباركت يا جبران يا نعمة من نعم الله، دخلت تراثنا المجيد، وبعد مئة وخمسة وعشرين عاماً أقولها: مبارك تاريخ ولادتك فيك ولنذكر تاريخ المولد دون ذكر الوفاة لأن في الواقع لا ولم تغب، ديمومة أنت في ما أعطيت وتبقى، ويبقى لبنان خلوداً فلهُ ولك ولأمثالك تضاء الشموع.

سُمُوُّ الرّوح في تقاسيم سناء البنّا

لا تملُّ الشاعرة سناء من إعلان استحالة العيش بلا شِعر. هو ذا ما تشعر به وأنت تطوي الصّفحة الأخيرة من ديوان سناء الجديد. من يستطيع أن يحيا حياةً لا يحبها؟ من يستطيع أن يعلن الانتصار على ليلٍ أسودَ أسدل كلّ الستائر المُمْكنة؟ من يستطيع أن يعيش بلا جسد؟ وحدها سناء تفعلُ ذلك بامتياز، وكما لم أقرأ لأحد من قبل، أمّا سلاحها فبسيط وهو: الشِّعر. هل رأيتَ جسداً لا يخصّ صاحبه! تلك هي علاقة الشاعرة سناء البنّا بجسدها، علاقةٌ لو طُلِب إلي أن أصفها لقلت إنّها «الرّفقة المُستحيلة». الجسد قناع، لا بدّ لنا به. أكثر من ذلك، لا نريدُه، لا نرغبُ به. كلّما امتطينا عربة الشِّعر واقتربنا منه، فرَّ منّا. لا شيء يستطيع أن يميّز بين الجسد – المقدّس، والجسد – القناع مثل الشِّعر… وهو ما تفعله سناء. هي تُسقط بالشِّعر الجسد – القناع وتلتصق أكثر بالجسد – المقدّس. هي ذي قوة الشِّعر، وتفرُّده. فلنقرأ سناء:

«لم أجدْ غير جسدي يفلتُ من بين ذراعيك هارباً،
حين خلعتُ القناع،
بادرني وجهي بالسؤال:
لمن ترسمين النّهاية المُباغتة؟
يا امرأةَ الفرارِ الطّاعنِ
كم أنتِ خائبة!» (ص 131)

تُظهرُ مجموعة سناء البنّا الجديدة هذه أشياء كثيرة، منها أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، ما يخصّ الشاعرة بالذات، وهو أمر طبيعي، إذ لا يمكن فصل الشاعر عن شعره، حتى إن لم يتقصّد ذلك، وأحياناً لا يريده. وهو مدار هذا الكلام، وسأعود إلى هذه النقطة إلماحاً فقط، إذ المقام مقام احتفاء واحتفال وليس التحليل والتفصيل كما نفعل عادة حين نكتب مطارحاتنا النقديّة. إلّا أنَّ ما أودُّ لفت النّظر إليه، هو أنَّ مجموعة الصديقة سناء الجديدة تُظهر بوضوح قوّة الشعر عند سناء، وقوة حاجتها إليه، بل والدرجة العالية التي يحتلّها وإلى الحد الذي لا يستطيع أيّ نوع أدبي آخر أن يقوم مقامه أو يأخذ وظيفته ودوره في تجربة سناء. أليس ذلك ربّما ما دفع هيجل، أعظم الفلاسفة بعد أفلاطون وأرسطو، إلى القول: إنّ الشّعراء الحقيقييِّن هم أنصاف آلهة. وسأشرح فكرتي.

لا أعتقد أنّ أي نوع أدبي، عدا الرّواية، أصعب الأنواع الأدبية ربّما، كان قادراً أن يحمل بأمانة ودقّة طوفان مشاعر سناء الجيّاشة: أنينها، حنينها، إحساساتها المُعلنة، رغباتها المستحيلة والمكبوتة، انفعالاتها الغاضبة، زفراتُها الحَرّة، ذكرياتها المُرّة، بل ما تحت ذلك من أحاسيس قد لا تجد الكلمات المناسبة المقابلة لها أو القادرة على نقلها أو وصفها.

مرَّة ثانية، هو ذا ما يفعله الشعر، أكان عموديّاً أم حُرّا، فصيحاً أم عامياً، لا فرق. فالشعر الحقيقيُّ شعرٌ أيّاً كان شكله، والشعر غير الحقيقي، المُصطنع والمُفتعل، شعر ركيك، بل لا شعر، وكيفما انتظم عقده – وقد دلَّلتُ على ذلك في كتابي «في الأدب الفلسفي» قبل ما يقرب من أربعين عاماً، حيث أظهرتُ بالتّحليل والدليل أنّ أضعف شعر جبران خليل جبران (مثلاً) هو قصيدته المواكب (رغم غناها بالأفكار المُهمّة، لكنّ الأفكار لا تصنع وحدها الشعر). وبيّنت من ثمّة أنَّ معظم ما خطّه قلمه أو ريشته كان شعراً في الحقيقة وتجاوز بكثير قصيدة «المواكب». وهي أيضاً خصوصيّة جماليته غير المُبتذلة أو السّطحية أو الظاهرة افتعالاً: فبعض قوّة الشعر هي حين يُلمِح لا حين يُفصِح، وحين يدعوك إلى وليمته «السرّية»، لا حين يقدّم لك أطباقاً جاهزة، مُعلّبة، مكرورة، وقد شاهدتها وذقتها ألفَ مرّة. قوّة الشِّعر في عُذريّة صُورِه حين لا شيء يشبهُها، لا صورَ أُخرى تشبهُها، بل حين لا صورةٌ تشبه صورةً أُخرى.

ربما يُفاجأ البعض حين أختم كلمتي الاحتفائية هذه بالقول: إنّ سناء فعلت ذلك كلَّه، وإنّ شعرها كان بالفعل ذلك كلّه، وربما هي نفسُها لم تنتبه لذلك. في شعر سناء، وبمعزل عن الأفكار، وشعرها لا يقع في باب شعر الأفكار، ستجد من الأحاسيس والطقوس والمشاعر والأسرار ما لا يُعبَّر عنه إلّا بالشعر. لحظةُ سناء الشعريّة غنيّة على نحو غير اعتيادي، ومشحونةٌ بكثافة حِسيّة أو «مَلمسيّة» قلَّ نظيرُها، ولنقل بالغة الغنى والتّعقيد. ولا تخدعنّك نبرتها الخافتة. نبرةُ سناء الخافتة هو الإغواءُ كيما تدخل إلى عالمها، ولتكتشفَ من ثمّة مدى ثراء عالمها الدّاخلي وتفرّده.

أكتفي من بين عشرات فقرات هذه المجموعة بأن أقرأ لسناء قطعتَها اللّافتة، رقم 30، ص 27، تكتب سناء:
«وكان أن دعاني إلى وليمة،
كان المذبح مُمَدَّداً
كأنّه المطافْ
آخر الخطايا…
والحطامُ مُغطى على كرسي الاعتراف،
طَوفٌ وطَواف…
وليس لي غير قدمين حافيتين
تتعانقان في نسج خطوات خائفة…
في مخبوء الهيكل مدفنٌ، وعينٌ راصدة، وتُرَّهات….
زاخرةٌ بأدوات الصّلاة الأوّلية،
زيْتٌ وبخور فوق الجمر…
ويدا راهبٍ خفيّ ترسم المكان بأجراس شَبِقَة،….
أسكرني عِطرُ يَديه،
أوهمتني أصابِعُه أنّ الجسدَ رداء،
فخلعتُه…

ومارسنا الصّلاة في الخبايا
كلٌّ على وسادة،
على طقس فوق أوثان العبادة…..
في حضرة الجسد
تتقمّص روح الأنبياء…» (ص 28-29)

إذا كنتُ أفهمُ الأمورَ جيّداً فاللّوحة أعلاه لا ينقصها شيءٌ لتكونَ لوحةً سرياليّة خاصة بسناء…. ولن يجلو سرَّها إلّا سناء. وكذا في تساؤلاتها الكونيّة العميقة، اِقرأ معي في الفقرة 31، ص 30، بعضاً من نصٍّ طويل، تقول:

«حين اعتراني إحساسُ وجودي،
دخلتْ دوائرُ الصّمت من ردهة المعنى
كما زقاقٌ على بوابة كونيّة….
كأنّي امتلكتُ نفسي على يابسة شاسعة…
فهمتُ أنّي لستُ وحدي حليفةَ الفراغ المُمْتلئ وجوهاً
وحكايا وانشطارات…» ص 30

هذه عيّناتٌ فقط رغبتُ أن أُظْهِر من خلالها قوّة شعر سناء وعمقه، والفكرة تغدو جليَّة كلّما تقدّمنا أكثر في مجموعتها… ولن ينفعَ الإلقاء في شعر سناء، فهو شعرٌ جُعِلَ ليُقرأَ مرّتين وثلاثاً لِسَبر غورِه وإخراجِ ما استَتَر في قاعه السّحيق من انفعالات وذكريات وأحاسيس أقرب إلى اللّاوعي منها إلى الوعي. وفي كلّ الأحوال، وَبِثقة أقول، شعرُ سناء هو سناء بجسدها وروحها، بحُلوها ومُرّها، بانكساراتها الكثيرة ونجاحاتها القليلة، باندهاشها وخوفها، بحزنها وفرحها، وإنْ بدا كما قلتُ أقرب إلى لا وعيٍ لا سلطان لها هي نفسها عليه. مبروكٌ جديدُك سناء البنّا، وفي انتظار المزيد.

على اللّغة أن تتحرّك مع العصر

اللّغة «قاموسيّاً»: لفظ مشتقّ من «لَغِيَ» بالشيء، أي لهجَ به(١). و«اصطلاحاً»: «هي الكلام المُتّفق عليه بين كلّ قبيلة»، وقيل «هي اللفظ الموضوع للمعنى»(٢). و«علميّاً»: هي حركة لسانية – صوتيّة مقصودة(٣).

ويقول إنستاس الكرملي «لُغة مشتّق من (logo) اليونانيّة(٤)» وأنّى كان مصدر هذه الكلمة واشتقاقها، فإنّي أجد اللّغة أعظم قفزة في تاريخ الحضارة البشريّة، نقلت الإنسان من التّعبير بالإشارة، إلى التّعبير بالنُّطق، وأقامت أداة اللسان، وأرست وسيلة التفاهم بين البشر، فارتسم الفِكر باللّسان، وتنّفس الوجدان، وتولّدت المعرفة، وشاعت الحضارات.

ولن أستغرق في الجانب الأكاديمي القائم على شواهد السّلف وحدهم، باستثناء من سبق منهم عصره، ودعا إلى انفتاح العربيّة، كالشيخ ابراهيم اليازجي وأقياسه. وممّا لا رَيبَ فيه أنّ لغة شعبٍ من الشعوب، هي هُوِّيّته، وانتماؤه، وثوبُ فكره، ومن ذا يشكّ في أنّ (اللغة) وظيفةٌ تأثيريّة، وهِبَة طبيعيّة، خصَّ الله بها الإنسان، وهي حتماً شكلٌ متميّز من أشكال السلوك الإنسانيّ، فتاريخ البشريّة لم يعرف مجتمعاً لم تكن له لغة خاصة تربط أبناءه، وتشير إلى سلوكهم وقِيَمهم، ومواريثهم الاجتماعية، ولن أتوسّع – ها هنا – لأقول على علاقة الفكر بالكلمة، وصيرورة تطوّرها معه، أو لأردّدَ مع المفكّر المعلم كمال جنبلاط: «إنّ اللغة مضمون حياتي، وجوهرٌ من الجواهر التي يقوم عليها محضُ الإنسان»، كذلك فإنّي لا أكتب الآن لأدافع عن اللغة العربية، فأمّ اللغات لا تحتاج إلى من يدافع عنها، لا لأنّها لغة القرآن، ووعاءُ الإيمان فقط، ولا لأنها مخزون علوم العرب، وثقافتهم، وتاريخهم، وخبرتهم الإنسانيّة فحسب، بل لأنّ فيها من جذور التاريخ وأسرار الإبداع ما يغني عن ذلك، كما أنّني لا أرغب في استعمال الألفاظ (المُحنّطة) على شحّ دلالتها وهجانة تراكيبها، فأفوز باصطلاحات هذا العصر التاعس، (كالأقلويّة) و (الإسلامويّة) ومثيلاتها الشائعة عند بعض أهل الصّحافة وأساتذة المدارس والجامعات، ممّن يحرسون قبر اللغة، بإعادتهم المفردات إلى «العهد اللفظي الأوّل».

تتصّل هذه الدراسة بموضوعٍ واحد، أشرنا إلى حاضنته قبل الخياضة فيه، وهو واجب تبسيط اللغة والدعوة إلى انفتاحها وتحركّها مع العصر. ولا يتأتّى لنا ذلك بالتحجّر والانكماش ولا بإهمال اللغات الأجنبيّة، ولا بإحياء الأوابد، ولا بفصل قواعد العربية عن بيانها، كما لا يتأتّى لنا ذلك (بعصرنة) تُسيء إلى كيان اللّغة، كاستعمال جيلنا الطالع بعض (الأرقام) بديلاً من بعض (الحروف)، وهم لا يعلمون أنّ للحروف أسراراً تختلف عن أسرار الأرقام(٥) وأنّ اللغة الحروفية هي التي ترتسم أشباحها في الأذهان لتعبّر عن الأفكار والشعور وليس (اللغة الرقمية) التي لا صلة لها بالوجدان.

وقد سبقت العربية أخواتها الساميّات إلى آفاق العلم، يوم كانت لغة العلوم، والفلسفة، والموسيقى، قبل اللغة الفرنسية، والإنكليزيّة، وقبل كلّ لغةٍ عصريّة أُخرى، وهذا تاريخ الأندلس، وعصرُ الرشيدِ والمأمون، يدلّنا على أنّ العلوم انتشرت – حتّى في أوروبا – بواسطة اللغة العربية، (فالجبرُ) و (الكيمياء) يحملان اسميهما من اللغة العربية، واللّسانُ الذي استطاع أن يَنشُرَ العلوم في القرون الوسطى باستطاعته (اليوم) أن يُحافظَ على كيانها، إذا ما أرادَ أهلُ هذا اللّسان ذلك.
وبعد، يواجه التعبيرُ اللغوي اليوم، صعوباتٍ جمّة، تتطلّبُ إعادةَ النظر في كثيرٍ من اللغة الوضعيّة التي لا يحتاج المعاصرون إلى استعمالها… بناءً على ذلك، ووقوفاً على مسؤوليتنا، ينبغي علينا أن نتيح للغتنا أسباب التوثّب والانطلاق، لتواكب العصر بمقدار ما يمليه التطوّر والحاجة، ولتتكامل وتوفّر أداة التعبير عن طلبات الحياة.

ولا رَيْب، في أنّ نِتاج التقدّم العلمي والتقني والثقافي الهائل، الذي ولّد مئات الاصطلاحات الجديدة، هو أحد أبرز الضّرورات اللغويّة التي ينبغي مجاراتها لكي تعيش اللغة وتستمرّ.. وقد سبقَنا الشيخ ابراهيم اليازجي، حين كتب سلسلة من المقالات بعنوان (اللغة والعصر)، وممّا قاله في مقدَّمة مقالته الأولى(٦): «لم يبقَ في أرباب الأقلام، من لم يشعر بما صارت إليه اللغة لعهدنا الحاضر من التقصير بخدمة أهلها (…) واللغة لا تزداد إلّا ضيقاً باتّساع مذاهب الحضارة، وتشعّب طرق التفنُّن في المُخترَعات والمُستحدثات».

ونعم، فاللغة التي لا تتسّع لحاجات عصرها ومُقتضيات التطوّر، مآلها الزوال، وللتطوّر أحكامه في مضمار اللغة، ما يجعلها وافيةً بحاجات عصرها، وفي بُرهةٍ رهيبة كالتي نعيشها، لا تكاد لغة – مهما تحصّنت ضدّ التغيير – أن تكون في نجوةٍ منه.

واعلم أنَّ اللغةُ تتّسع وتضيق على قدر المُعطى الحضاري (السياسي، والاقتصادي، والثّقافي، والاجتماعي)، رغم أنّها بطبيعتها لا تسير بسرعة التطوّر اللّاحق بالمجتمعات(٧)، فالحضارة إذن تفرضُ حاجاتها اللغوية فتدفعُ باللغة إلى النّمو والاتساع لكي تفي بهذه الحاجات، وما علينا نحن إلاّ أن نرفع من أمامها عقبات الطريق، وتسألون كيف يكون لنا ذلك؟ يكون لنا ذلك في النظر إلى(الموروث) و (الراهن) معاً… فنأتي جديداً ولا نتنكّر للقديم، أي أننا نحقّق دلالاتها القديمة، ثمّ نأخذ بفروع المعرفة الحديثة، بحيث تتناغم لغتنا المعاصرة مع مطالب الحضارة الحديثة. «وحبّذا من يأخذ اعتبارات المدرسة القديمة، على أنها اعتبارات فقط، لا على أنّها اللغة نفسها، أو قانون عملها الثابت»(٨) ولغتنا العربية – «لا يحيط بها إلّا نبيّ» فهي أوسع اللغات الحيّة وقد أحصى (الخليل بن أحمد) صاحب (كتاب العين) عدد كلمات اللغة المستعمل منه والمُهمل، فبلغَ 12،302،912 كلمة(٩) وهذا يفسّر قول (آرنست رينان) «العربيّة أمُّ اللغات، ساميّات وآريّات».

وإني لأعجب – بعد هذا – من بعض رجال اللغة، يتوهّمون ضيق الأصول العربية عن الإتيان بالتعابير على اختلافِ مراميها، ولو أنّهم دقّقوا في الصِّيغ الأجنبيّة التي بُنيت عليها ألفاظُ الأوروبيين للدلالةِ على المعاني، لاتّضح لهم أنّ هذه الصِّيَغ أضيَق بما لا يُقاس من الأصول العربيّة، فكلمة (service) مثلاً، في الفرنسية، تعني (الخدمة) (إسماً لفعل)، ولكنّ الفرنسييّن يضمّنونها معنى (الإدارة) التي تقومُ بهذه الخِدمة، ومعنى (المكان) أيضاً… وقِس على هذه الكلمة أُلوفاً من الكلمات التي قادَ الغربُ لغتهَم فيها إلى مرونةٍ فرضَها العصر، وأقرّها التساهُل، وأخذَ بها الإجماع.

ونحن اليوم في حاجةٍ الى أكثرْ من ذلك، فالفُصحى لا تعجز عن وضعِ تسمياتٍ لكلِّ ما يطرأ من ألفاظٍ (تكنولوجية) لأنّ في لُغتنا من الطواعية(10)، والثروة اللفظيّة، والتوليد والقياس، والاشتقاق.. وفيها من الموازين، أي من تنوّع حروفيّة الأفعال وتوقيع الأصوات، ما يضمن لها ذلك ويجعلها قابلة للاستمرار، بيد أنّ بعضها يأتي ابتكاراً بعيداً من قواعد التعريب ولا أساس له في العربيّة، ككلمة (تلفاز) التي لا تعبّر بتاتاً عن وظيفة هذا الجهاز في الحيّز العملي، فضلاً عن أنّ فعل (تلفز) لا وجود له في لغة العرب… ويأتي بعضها الآخر غريباً لا يفهمه الكُهول، (وشبابنا الطالع بنوعٍ خاص)… فقبل أن يُسمّى (التلفون) بالهاتف، أسمَوهُ (إرزيزاً)! وأراكم تعرفون أنّ وظيفة اللغة أصلاً، هي التواصل والتفهيم، فما يمنعُنا، إذا عزَّ التوليد، من استعمال اللفظ (التكنولوجي) كما هو، بحروفٍ عربية، مثل: (الكومبيوتر) و (الانترنت) و (التلفزيون) و (التّلفون) وسواها، مثلما سمّاها مخترعوها الغربيون، وما يمنعنا من القول: (تلفن، يتلفن، سيتلفن) ما دام كل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، كما قال (المازني) في كتابه (الاقتراح).

إنّ التسميات التي وضعَتها وتضعها المجامع اللغوية والعلمية، غير كافية للدلالة على المعنى الوضعي والمعنى الاستعمالي للأجهزة التقنية، ما لم نشتقّ من الاسم السّهل اللّفظ – أفعالاً تراعي الدقّة العلمية والدلالة العملانيّة للوظيفة التي تقوم بها هذه الأجهزة في حيّز الاستعمال، فاللغة كما نعلم، هي كائن حيّ يولد ويموت، وقَدَرها أن تأخذ وتعطي، وتتلاقح مع سائر اللغات الحيّة، لأنّه لا يمكنها أن تتقدم إلاّ إذا كانت لغةً حيّة تعبّر بوضوح عن ثقافة الأحياء وشعورهم وأغراضهم، ولكي تكون كذلك، علينا أن نقنع المتحّمسين لها – على غير هداية – بأنّ اللّفظ الدخيل ليس عدوّاً لنا، بل هو صديق، يقول الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر(١١): «اللُغة العربية أوسع اللغات مذهباً(١٢)، وهي واسعة الصدر للدخيل، ما أن تراه حتى تخلع عليه ثوباً من ثيابها، وتردّه إلى أوزانها، وتتّخذه ولداً من أولادها، تعامله معاملتها فتنشقّ منه وتنصرف فيه».

فلندعُ إلى التساهل والمُلاينة، ضمن حدود، لكي تبقى العربية ماثلةً ومشّعة، «فغلبةُ اللغة – كما يقول ابن خلدون – بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات، صورة لمنزلة دولتها بين الأمم».

إنّنا – يعلم الله – نحبُّ هذه اللغة العريقة حبّاً جَمّا، ونغار عليها غَيرة بصيرة، ولقد أحرقنا رؤوسنا في دراستها والتعمّق في علومها، سحابة نصف قرن، غير أنّنا نُحبّها بموضوعية وانفتاح، لا بعصبيةٍ وانغلاق، ونريد لها أن تتوسع في رحاب العصر، وأن تفي بمتطلبات العلم. وما يحتاج إليه ذلك من تحقيق وتصحيح، لأننا نريد أن نحافظ على لغتنا، بوعي مسؤول، وأن نحرسها بعقولنا، خلافاً عن الذين يتوهّمون أنّ المحافظة عليها، تكون في وضعها داخل صندوق مغلق، تحرُسه غابةٌ من الرماح. إنّنا على مذهب الشيخ عبد الله العلايلي، ونحن مع شعاره القائل: «ليس محافظةً التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقّق المعرفة».

وإليك – أيها القارئ – طائفةٌ من الأسماء (الجامدة السهلة) التي وضَعَها علماء اللغة (اللبنانيون) في عصر النهضة والانبعاث، والتي لم يزل العرب يستعملونها في شتّى ديارهم منذ (مائة) عامٍ ويزيد.

وضع اللبناني أحمد فارس الشدياق:

  • الموصِل البرقي        للتلغراف
  • الحافلة                  للأُتوبيس
  • المنطاد                 للبالون

ووضعَ الشيخ ابراهيم اليازجي:

  • الحاكي                 للفونوغراف
  • الطّلاء                  للفرنيش
  • المجلّة                  للجورنال

ووضع الدكتور يعقوب صرّوف:

  • الصُّلْب                 للفولاذ

ووضع سعيد الشرتوني:

  • العاديات               للمصائب الكُبرى
  • القِطار                 لترام السكة لحديد

ووضع بشارة زلزل:

  • لبونة                   (للحيوانات الولودة) التي تغّذي صغارها بلبنها

ووضع الشيخ عبد الله البستاني:

  • «عقيلة»               مُقابل «مدام»

ولم ينشد أحد من هؤلاء العلماء، استعمال الألفاظ الوحشيّة الجافية، فالمشكلة عندنا في المتفاصحين الجُدُد، لا في القدماء. واقرأ معي – أخيراً – ألفاظاً ليس فيها لفظ عربي واحد، وقد استمرأتها الألسن وألِفَتها الآذان وغدت، لانسيابها، في صلب لغتنا:

ألفاظ آراميّة: قمح – غدير – صَنَم – كمين – نبراس – منارة – ملاك – بيدَر – سفينة – سكّين – سُلطان – سِوار – سيف.

ألفاظ لاتينية: منديل – إسطبل – بترول – صقر – قُرصان – قِنديل – فُرن.

ألفاظ إيطالية: برميل – كمبيالة – بُرتُقان.

ألفاظ فارسية: بُستان – مِيدان – وزير – فُنجان – إبريق – بلّور – دستور – صندوق – زهور – طراز – ديباج.

ألفاظ يونانيّة: لجنة – نَرجِس – قِرميد – قِرط – مرهَم – إقليم – سفير – بُرج – بطاقة.

فنحن إذاً مطالبون بالتّوسع فيما لم يتوسّع فيه الغابرون، فإذا تخطيّنا باللّغة الأدب والدّين والإنسانيّات، إلى العلوم والتّقنيات، نكون قد اختزنّا تراثنا العريق، وتطلّعنا – عبر العربيّة – إلى إرساء الاصطلاح العلميّ الذي نتمنّى أن يكون مُوحَّداً على امتداد بلاد العروبة.


المراجع:
  1. كتاب أقرب الموارد في فُصح العربية والشوارد، لسعيد الشرتوني بيروت سنة 1889.
  2. كتاب «محيط المحيط» للمعلّم بطرس البستاني، بيروت 1867.
  3. درس الألسنية العامة – فردينان دوسوسير (1857 – 1913).
  4. مجلة «لغة العرب» لإنستاس الكرملي، بغداد 1912.
  5. الألفاظ والحروف، للفارابي (مخطوط) نسخه العبد الضعيف عبد الله الخفيف، سنة 1124 هـ / 1712 م (مكتبة شوقي حماده).
  6. مجلة البيان / يونيو 1897، السنة الأولى – الجزء الرابع.
  7. وهذا هو رأي أستاذنا الشيخ عبد الله العلايلي.
  8. وهذا هو رأي العلايلي أيضاً.
  9. كتاب التهذيب في أصول التعريب، للدكتور أحمد بك عيسى – ط 1 – القاهرة 1923.
  10. كان كارنيليوس فانديك الكبير من معسكر القائلين بطواعية العربية لتكون لغة علم.
  11. الشيخ مصطفى المراغي، شيخ الأزهر (1935 – 1945).
  12. يريد بمذاهب اللغة، المجاز في النسبة، والمجاز في المفردات، والمجاز في المركبات، والتشبيه والكناية.
  13. نماذج من كتاب (مرجع الألفاظ الدخيلة على اللغة العربية) يحتوي على 1014 كلمة دخيلة، مخطوط لشوقي حمادة.

نجيب البعيني….

انعقد في المكتبة الوطنية في بعقلين، نهار السبت في ١٦ حزيران ٢٠١٩، حفل تكريم للمرحوم الأديب الأستاذ نجيب البعيني بحضور شعبي وثقافي حاشد. عرّف بالمتحدثين الشاعرة زلفا أبو علي، وكانت كلمات للأستاذ غازي صعب، الدكتور ميشال كعدي، الدكتور رياض غنام، الأستاذ فادي الشامي، ورئيس تحرير مجلة الضّحى، الدكتور محمد شيّا.

وفي ما يلي أجزاء من كلمة رئيس تحرير مجلة الضّحى.

السيّدات والسّادة،

تأتي مُبادرة الاحتفال بذكرى الأديب الأستاذ نجيب البعيني في مَحَلِّها الصّحيح وزمنها الصّحيح؛ فلطالما شكّلت المكتبة الوطنيّة في بعقلين للمرحوم الأستاذ نجيب مكاناً أثيراً على قلبه، وفسحة ثقافية يعود إليها باستمرار لمتابعة آخر ما وصلها من مؤلفات، أو ليهديها أعماله، أو ليشارك في ندوة أو احتفال. والمكتبة الوطنيّة على ما أعرف، وكما عبّر مديرها بُعَيْد وفاة الأستاذ نجيب، كانت تعتبره من أصدقائها المُقرّبين، بل ربما الأكثر قُرباً.

أمّا بخصوص زمن هذه اللفتة التكريمية لذكرى الأستاذ نجيب فهي أكثر من ضروريّة، ليس فقط لإعطاء نجيب البعيني الشخص حقّه من التكريم والتقدير، وإنّما أكثر من ذلك لأخذ العِبرة الصّحيحة من عطاءات الأستاذ نجيب الواسعة، ومن نوعيّة إنتاجه، والقيمة المُضافة الكامنة في إنتاج المرحوم الصديق الأستاذ نجيب.

في هذا الباب حصراً، رغبتُ أن أُسهمَ بشيء يُضاف إلى كل ما قيل على أهميته في نجيب البعيني وإنتاجه.

من هذه الجهة بالذات سأقرأ سيرة المرحوم نجيب وإسهامه الثقافي من منظارين مُتكاملين: منظار أنطونيو غرامشي، الفيلسوف الإيطالي اليساري في ثلاثينيّات القرن الماضي، ومنظار المُعلِّم الخالد الشهيد كمال جنبلاط في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي أيضاً.

طَوّر أنطونيو غرامشي، الفيلسوف والمفكّر الإيطالي اليساري، والذي مات تحت التعذيب في سجون الديكتاتور موسوليني سنة 1937، نظريّة البراكسيس الثقافي، وهي تعني الممارسة الصحيحة المستندة إلى نظريّة أو إطار نظري صحيح. المُمارسة هنا هي الأفكار وقد أصبحت قيد الإنجاز. جوهر البراكسيس هو وحدة النظريّة والممارسة، أي وحدة الأفكار وتجلّياتها على أرض الواقع، في سياق الانتماء لهموم وقضايا أوسع الشرائح الشعبية الأكثر حاجة وفقراً. وترجمة النظرية والأفكار على الوجه الصحيح إنّما تكون بالالتزام الداخلي العميق بنشر الوعي بين الشرائح الشعبيّة تلك، وتعميقه جذرياً برفعه من مستوى الوعي اليومي الحدثي الآني والعارض إلى مستوى الوعي الجذري الذي بات في وسعه أن يلتقط ويدرك ليس فقط تعاقب الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة وإنّما ترابطها وأسبابها ومكمن الأزمة فيها؛ وإذ ينجح المثقّف في إداء رسالته فهو يسهم في جعل ردّ الجماهير على أزماتها ردّاً شاملاً عميقاً، لا سطحياً، مُجتزءاً، أو متفرّقاً. وعلى أساس هذه المرجعيّة الفكرية يصبح بمقدور الشرائح الشعبية الأكثر فقراً وحاجة أن تكتشف – وهو الأهم – نوعية المشاريع والقادة الذين يحملون همومها بصدق ويتحمّلون في ذلك ما يتحملون من تضحيات، ونوعية الساسة الآخرين المعادين للقضايا الشعبيّة عند كلّ مفصل حقيقي، والمدافعين بطرق مختلفة عن مصالحهم الفئوية أو الطبقية أو الشخصيّة لا أكثر. وبسبب من إدراك غرامشي العميق لأهميّة الثقافة والمثقّف فهو يميّز بين نمطين من المثقّفين: الأوّل هو المثقّف التقليدي الذي يعيش في برجه العاجي ويعتقد أنّه أعلى من كلّ الناس، أمّا الثاني فهو المثقّف العضوي المُنخرط في هموم عصره والمرتبط عضوياً بقضايا شعبه، وبخاصّة هموم الطبقات الكادحة وسائر المظلومين والمُهمّشين فيه. كان غرامشي يؤمن بالأهمّية القصوى لفئة المثقفين، وكان له نقده لنظريات ماركس ولينين، وبخاصة ستالين، تلك النظريّات الحتميّة التي تقول إنّ في وسع العمّال أن ينجزوا ثورتهم على نحو حتمي حين تصل البروليتاريا إلى حافة المجاعة. رأيُ غرامشي أنّ الأمر لن يكون كذلك فعليّاً، وأنّ الثورة، والبروليتاريا، بحاجة دائماً للمثقّف الثوري العضوي المُنتمي.

وظيفة الثقافة، ووظيفة المثقف، أن يقوما،إذاً، بهذا التمييز؛ وحين لا يفعلان ذلك فهما وفق غرامشي لا يستحقّان عنوان الثقافة والمثقّف الحقيقيين وينزلقان بسرعة ليتحوّلا إلى ثقافة رجعيّة ومثقف رجعي – وما أكثرهم في أيامنا هذه رغم اللبوس الخادع الذي يرتدونه.

هذا هو دور، بل تعريف، المثقّف العُضوي المُندمج والمُنتمي حسب غرامشي. وإذا أمعنتم النّظر جيّداً في سيرة الأديب نجيب البعيني اليوميّة، وفي إنتاجه على وجه العموم، لاستنتجتم من دون صعوبة أنّ المرحوم الأديب نجيب البعيني كان مثقّفاً عضويّاً منتمياً بامتياز؛ هكذا عاش قضايا مجتمعه وشعبه مدافعاً عن مصالحه ومطالبه دون هوادة ومن على كل المنابر، وهكذا مارس قناعاته تلك حتى لحظات عمره الأخيرة معنا من على صفحات مجلّة الضّحى، كما في منابر ومُنتديات ثقافيّة أُخرى عدة؛ له نرفع القُبَّعة هذه الأمسية وفي كلِّ حين تقديراً واحتراماً.

المقارنة الثانية والأخيرة التي سأجريها باختصار شديد هي مع تعريف كمال جنبلاط للمثقّف الحقيقي، المُثقّف الملتزم، المثقف الذي يستحق شرف حمل رسالة الثقافة في المجتمع، وذلك من أجل فَهم أفضل لحقيقة الوظيفة التي تمثّلها وقد أدّاها فقيدنا الأديب الأستاذ نجيب البعيني.

إذا راجعنا كتابات المعلم كمال جنبلاط بعامّة، وبخاصّة محاضرته التي افتتح بها اجتماع كتّاب آسيا وإفريقيا في بيروت سنة 1967، لرأيناه لا يملّ من التأكيد أنّ للأدب دائما وظيفة ودوراً بالغ الأهميّة في حياة الجماعات؛ وأنَّ للأدب رسالة مُحدّدة حدّدها جنبلاط بأنّها «التزامٌ ما أمكن، لا إلزام»؛ وأنّ للأدب قضيّة، إذ لا يمكن لأدب حقيقي إلّا أن يحمل قضية سامية يدافع عنها، وقضيّة الحريّة برأي جنبلاط هي القضيّة الحقيقيّة في كلّ أدب حقيقي، يقول في محاضرته تلك: «قضيّة الحريّة التي نجتمع لمناقشتها… هي قضيّة الإنسان منذ أن وُجد…. والأدب استثارة لهذه المعرفة الحقيقيّة الدائمة، وليس هو تغشية للواقع أو تخيُّلاً أو خلقاً من عدم، أو إبداعاً من الخواء الفارغ، أو تقليداً أجوف للحرف والخطّ الميت» ونصح جنبلاط المؤلّفين عمليّاً بالتنقيب عن كنوز حضارتنا وثقافتنا المعنويّة والروحيّة والتي نكاد ننساها من فرط أخذنا بالمعايير الغربيّة وتركْنا لحضارتنا وثقافتنا ورموزنا التي صَنعت عبر التاريخ ثقافتنا وحضارتنا. يقول جنبلاط: «يجب أن ننظر إلى فنونها وآدابها وعلومها الدّفينة وعاداتها بعين شعوبها، أي ببصيرة فتوّة الإنسان فينا، لا بمنظار مدنيّتنا الغربيّة التي هي في معظم الأحيان سطحيّة في نظرتها للغير وغروره وتبتعد بنا عن الطبيعة».

لهذه الفئة المُتغرّبة من المثقّفين، يوجّه جنبلاط النقد القاسي، فقد انقطعت الفئة تلك عن جذورها وحيّدت نفسها عن قضايا مجتمعها وأمّتها وباتت غريبة عنه وعن شعبها، وتخلّت عن شرف قيادة مجتمعها وشرف الخدمة العامّة فيه، ويضيف جنبلاط على نحو لا يُصَدّق: «.. لقد كان همّ معظم هؤلاء التعلّم لأجل بلوغ وظيفة أو تحصيل أو التميّز بجاه…وهكذا تحوّل أكثر المثقفين»، يضيف جنبلاط، «إلى طبقة ارستقراطية برجوازيّة جديدة.. وانفصلوا بشعورهم وبتفكيرهم وتوجُّههم عن الشّعب ومصالحه الأساسية». وينهي المعلّم بملاحظة ميدانيّة ثاقبة ولافتة، ومُحزنة، إذ يقول: «قليل من المثقفين في بلادنا من يستطيع أن يكون مُختاراً في قريته أو عضواً في بلديّة بلدته، نتيجة هذا التأفّف والانفصال والابتعاد».

أكتفي بهذا القدر من المعايير التي وضعها الشهيد كمال جنبلاط للتمييز بين المُثقّف الحقيقي والمثقف الزائف، المثقّف الذي يبذل كلّ ما يستطيع لخدمة قضايا مجتمعه وشعبه، والآخر الذي لا يعنيه غير طموحاته الشخصية الصغيرة، الماديّة والمعنويّة.

لن استرسل أكثر لضيق الوقت، إلّا أنّ ما أوردته مُختصراً هو كاف كما أعتقد لإظهار المعدِن الحقيقي الذي تتكوّن منه شخصية الأديب المرحوم نجيب البعيني، شخصيّة المثقف العضوي المُلتزم قضايا الناس؛ وكما تعرفون فقد بادلته الناس في غير مناسبة في بلدته ومنطقته وفي لبنان بعامّة الحبَّ نفسه، والتقدير والاحترام في كلّ مناسبة.

المرحوم الأستاذ نجيب البعيني، مثقَّف حقيقي، سنفتقد باستمرار عطاءاته وكتاباته وأنشطته الثقافية الواسعة؛ وسنفتقد أكثر شعوره الإنسانيّ العميق وتواضعه الجمّ وحبّه لأصدقائه، وإخلاصه للقضايا العامة، وعلى نحو يكاد ينسى فيه نفسه ومصلحته…. لم يعمل يوماً لمنفعة شخصيّة أو لجاه أو لمركز… على ما بات سائداً هذه الأيام مع الأسف.

رحمة الله لروح فقيدنا الأديب الكبير الأستاذ نجيب البعيني، وهو باق فينا وفي أسرته ومجتمعه بالتأكيد.

مقالات ثقافية