الإثنين, آذار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, آذار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سيرة الجليل الطاهر سيدنا وشيخنا الشيخ أبي محمد صالح العنداري
‏(جزء 1)

كم نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى ذكر فضائل المشايخ الأسياد رضي الله تعالى عنهم ونفعنا ببركاتهم، علّنا نستلهم بركتهم ونقتدي ببعض مآثرهم لتبقى ذكرًا وقدوة لمن يأتي بعدهم بخاصة في هذا الزمن الذي كسدت فيه الفضائل وقلّ الإخلاص ووهنت فيه القوى.

فالهدف الحقيقي والقصد الأول هو خلاص النفوس من أدرانها وإعزاز دين الإسلام وتوطيد دعائم الإيمان وإيضاح الطريق لأهل التوحيد والإيقان.. ‏ومهما بذلنا من الجهد وقدمنا من العزم وشحذنا ذاكرتنا وذاكرة المعاصرين والمعاشرين، فلن نتوصل إلّا إلى القليل النادر من درر ذلك البحر الزاخر لأنّ هذا الوميض الظاهر الحسيس يعجز عن تعبير سر الباطن النفيس، فهل يمكن للعين أن تتذوق كل ما تراه مهما بالغت في النظر والتدقيق.

وهكذا مزايا ومناقب الأولياء الأطهار وحركاتهم وسكناتهم وألفاظهم وأفعالهم تبقى أنوارًا سواطع تخاطب النفوس وتناجي العقول بلغات نورانية ومعانٍ شعشعانية يعجز القلم عن ترجمتها إلى حروف وتسطيرها في أوراق وطروس. ‏ونحن وإنْ كنّا رافقنا سيدنا وشيخنا الشيخ أبا محمد صالح في الربع الأخير من حياته نبقى عاجزين عن تدوين مزاياه ومناقبه إذ كيف ندوّن ما كان يكنّه قلبه من الخضوع والخشوع لمولاه وانشراحه المشعّ لقبول أوامره وما تجنّه روحه الطاهرة من الحب والشوق للقياه. ‏وكيف نسطّر تعابير حزنه لرؤيته الإنجراف في الملاهي والمآثم ومن أين لنا أن ندرك ما ينطوي عليه حلمه الواسع الرحيب وما يكنّه في صدره من صبر واحتمال؟. ‏ومَن يسجل حرارة شوقه وتوقه وهيامه وما هو مفعم به من العطف والمحبة والرفق ولين الجانب، غير إنّه لعظم صدقه وإخلاصه وتوافق باطنه مع ظاهره ترى تعابير وجهه وحركاته وإشاراته كأنّها تنطق بما يريد فيفهمها الناظر إليه قبل أن يتكلم.

حياته

ولد سيدنا الشيخ أبو محمد صالح في بلدة العبادية سنة ١٩١٣م أي قبل الحرب العالمية الأولى بما يقارب السنة وكان والده المرحوم الشيخ أبو علي بشير حسين العنداري من الشباب المجاهدين في طاعة الله تعالى المثابرين على واجباتهم الدينية. ‏ووالدته التقية الفاضلة أم علي زين كريمة الجليل المرحوم الشيخ أبي فارس منصور العنداري. توفي والده وعمره حوالي ثلاث سنوات ثم توفي شقيقاه علي الذي يكبره بما يقارب التسع سنوات ومحمود الذي يكبره بحوالي أربع سنوات. ‏فتربي في كنف والدته الفاضلة وقاسى ووالدته الفقر الشديد وتحمّل من شظف العيش الشيء الكثير على أثر الحرب والمجاعة والمصائب التي ألمّت بالبلاد في ذلك الوقت، فسلك طريق الدين والتقوى محافظًا على الواجبات والفرائض رغم فقره الشديد ومعاناته المعيشية التي أجبرته على القيام بالعمل القاسي لكسب القوت. ‏فتارة يحمل الوقيد إلى الأتون لصنع الكلس وتارة يحمل أعدال القمح في المطحنة وطورًا يتفرغ للحراثة والزراعة ومتطلبات الأرض وهو إلى ذلك لا ينفك محافظًا على واجباته الدينية وطالبًا مجاهدًا في اكتساب العلم الحقيقي مغترفًا من معينه الصافي قائما بحقوقه متنقلًا بين منزل جدي المرحوم الشيخ أبي فارس منصور والمزرعة التي كانت مدرسة دينية في ذلك الوقت.

وعندما بلغ سن الشباب ‏وقع الإختيار على الفاضلة المصونة نجيبة جابر العنداري حفيدة الورع الزاهد المرحوم الشيخ أبي حسين نجم العنداري، فأنجبت له ولدين لبيبة سنة ١٩٣٢م ومحمد سنة ١٩٣٦م. ‏وكانت رحمها الله تعالى زوجة موافقة فاضلة حنونة تربي أولادها على ما يوافق تعاليم الدين وسنّة الرسول، وأمّا هو فكان يواظب على تأدية واجباته الدينية وعمله الذي يكسبه ما يقوم بأود بيته وعائلته ويقيهما غائلة الجوع.

‏وعلى أثر قيام الحرب العالمية الثانية وانقطاع المصادر الخارجية خيّم شبح المجاعة على البلاد وأصبحت الأعمال قليلة والمكسب صعبًا فكان رحمه الله رغم ضائقته ‏المالية الشديدة لا يقبل من أحد صدقة أو زَكاة، بل كان يحمل ما تيسّر من متاع البيت قاصدًا المدينة ليبيعه ويسدّ بثمنه غائلة الجوع، ولم تكد تلوح تباشير السلام والهدوء حتى فجع بوفاة زوجته سنة ١٩٤٨م ‏وكان لوفاتها فراغ كبير في بيته فحمل هَم تربية أولاده إضافة إلى أعماله الدنيوية وواجباته الدينية، وهكذا وزّع وقته بين العمل والعبادة والتربية والقيام بحقوق إخوانه فكان عاملًا مواظبًا على عمله الشاق وعابدًا ملازمًا للصلاة في أوقاتها قائمًا بمفترضاتها وواجباتها ومربيًا صالحًا قائمًا بحقوق التربية ومتطلباتها.

‏عاش بقية حياته عيشة بتوليّة رغم ترمّله الباكر ورغم حاجة بيته الذي كان مَوئلًا للضيوف ‏والقصّاد ومنهلًا للعلم والأدب ومرجعًا دينيًا واجتماعيًا إلى سيدة تقوم بشؤونه وتدبيره.
‏ونشأت ابنته الفاضلة على الديانة والتقوى طائعة راضية مرضية مساعدة لوالدها في تدبير أمور البيت، ولم تتمّ العشرين من عمرها حتى مرضت بمرض السل فصرف جهده لمعالجتها ومعاملتها إلى أن توفاها رحمها الله تعالى سنة ١٩٥٤م مأسوفًا على أخلاقها وديانتها ‏وكان لفقدها صدى أليم في ‏النفوس.

‏‏التعاون والتآلف المبارك

‏وفي العقد الرابع من هذا القرن وما يليه كثر تردد الشاب الفطن النبيه ابن أخ زوجته المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم العنداري عليه ليستفيد منه العلوم الدينية ويعاونه على متطلباته الدنيوية فتحالفا وتآلفا وتعاونا على الواجبات الدينية وأعباء الحياة فكانا يعالجان الأمور معًا ويتعاونان على كل مهّم ومعضل، ويصرفان الأمور مهما عظمت بدراية ورويّة فذاع صيتهما وانتشر خبرهما وقوي عزهما فقصدهما الزوار والضيوف وحطت عندهما الركبان. ‏وقلّما يمر يوم يخلو بيت أحدهما من القصاد والضيوف فكانت أوقاتا مشرقة وأيامًا زاهرة وتجارة رابحة وديارًا عامرة ولمحات صفا بها الزمان وفاح من عبير ريحان الجنان جاد بها الحليم الرحيم الكريم المنان.

‏انتقاله إلى بلدة بعلشميه المجاورة لبلدته

‏في أواخر الخمسينات نقل المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم سكنه المؤقت إلى بلدة بعلشميه المجاورة لبلدة العبادية ليمارس العبادة بوحدة وتقشّف بعيدًا عن ضوضاء الحياة من جهة ، وليمارس الكتابة التي كانت صنعته المفضلة من جهة أخرى، كقول بشر الحافي رضي الله عنه: «غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه وخفاء مكانه عنهم»، ‏وفي السنة ذاتها قايض سيدنا الشيخ أبو محمد صالح أملاكه الموجودة في ظهور العبادية في المكان المعروف بالزهّار بعقار في بعلشميه بجوار الشيخ أبي يوسف سليم رغبة منه في البعد عن الضوضاء، ‏وطلبًا للوحدة التي فيها الأسرار الإلهية والإنصراف بكليته إلى العالم العلوي في عالم البهاء والنور. وبدأ بإنشاء مسكن متواضع يكنّه ويَقيه حرّ الشمس وبرد الليل بعيدًا عن كل فضول.

‏وفي أواخر سنة ١٩٦٠م ‏فجعت البلاد بوفاة الشاب التقي العالم الزاهد المجاهد نفسه حق الجهاد السالك طريق الرشاد والسداد المرحوم الشيخ أبي يوسف سليم تاركًا له الوصاية على أولاده الثلاثة وقد ترك بفقده رحمه الله فراغًا عظيمًا عند إخوان الدين وألمًا ووحشة في قلوب الموحدين وبخاصة عند الشيخ أبي محمد صالح، وكأنّما لسان حاله يقول:

يا سادة في سويدا القلب مسكنهم

وفي منامي أرى أنّي أحادثهم

أوحشتمونا وعزّ الصبر بعدكم

يا من يعزّ علينا أن نفارقهم

حياته في خلوته

‏تحول منزله الجديد إلى خلوة للعبادة وتنمية الإرتباطات الدينية فكان مقصدًا للمريدين لتلاوة ما تيسر من الكتاب العزيز واستماع الشرح والتفسير والمواعظ والإرشاد والحكم، والتداول بذكر مناقب السلف الصالح الذين كان الشيخ يحث على الإقتداء بمآثرهم الحميدة وآرائهم السديدة، ‏ويتحسر التحسر الشديد على التقصير والإهمال والعجز والكلال عن همم مثل هؤلاء الرجال والرضى بالقعود عن إدراك درجات الكمال. ‏وكان نجله الكريم الشيخ محمد نِعْمَ رفيق وخير مساعد فقد حفظ كتاب الله العزيز عن ظهر قلب وغاص في بحار علومه الواسعة مستخرجًا الدرر الثمينة وشواهد الآيات الكريمة، وزهد في الدنيا وملذاتها وترك شواغلها وارتباطاتها ملازمًا البيت والخلوة والعمل في أرضه المتواضعة التي كانت غلتها القليلة الزهيدة تكفي متطلبات البيت مع كثرة الضيوف. وبارك الله تعالى القليل فجعله كثيرا فنما وزاد وفاض كثير منه في الهدايا والهبات.

‏توسعت متطلبات الناس من هذا البيت المبارك بكل اتجاهاتها فكان مجلسا لحلقات الذكر والإجتهاد الديني ومقصدًا للقضاء بين الناس وصندوقًا خيريًا للمرضى والمحتاجين بإدارة شيخه الحكيمة. ‏فكان رحمه الله الطبيب المداوي لعلل النفوس وأهوائها، والحكيم المعالج لأسقام القلوب وتشنجاتها، يصف الترياق الواقي من داء الشيطان الخبيث ويعطي الإكسير العجيب المحيي للنفوس المستمد من عين الحياة. كما قال بلوهر الزاهد الحكيم، لا طاقة للبشر أن يبلغوا نهاية معرفة الحكمة إلّا بما تحيا به قلوبهم وعقولهم. فكما ينالون من شعاع الشمس ما تحيا به أبصارهم كذلك ينالون من شعاع الحكمة ويستدلون على ملكوت السموات والأرضين وهو مفتاح الخزائن النفيسة ومراقي الدرجات الرفيعة التي هي عين الحياة، من ‏شرب منها لم يمت أبدًا وهي النور الذي يجلي العمى ولا ظلمة معها.

ضريح المرحوم الشيخ أبو محمد صالح العنداري

مسيرته رحمه الله مع الأحداث

‏كان رحمه الله له الدور الأول في إنهاء الخصومات الجماعية والشخصية وعقد راية الصلح، فقد صرف وقتًا كبيرًا من حياته في إصلاح ذات البين، وكثير من المشاكل المستعصية ما كانت لتحلّ لولا تدخله فكان همّه الأول الوفاق والرضى والمحبة والصفاء في مجتمعه بكل فئاته وتصريف الأمور باللين والتفاهم لا بالعنف والقتال ‏والحث على التغاضي والصفح ورد الأمور إلى الله تعالى لأنّ ما عنده تعالى خير وأبقى. وكان يقول «ما أفضل من الحق إلا ترك الحق في جنب الله تعالى والله سبحانه حاشاه أن يخيّب من ترك حقه لوجهه الكريم»، ‏وكم صرف من ماله الخاص لحل كثير من المشاكل.

‏أمّا دوره في الأحداث الأخيرة فكان دور دفاع وصمود ومحافظة وعدم التعدي، وقطع الطريق على كل من يحاول التضليل ومن ثم الحفاظ على كرامة المدافعين.

‏كان رحمه الله يتألم كثيرا من الأحداث الداخلية التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة ابتداء من سنة ١٩٧٥م وسار معها مسيرة سلام ووفاق، وكان ينادي بالتعايش المشترك ورمي الأحقاد وكان يتوجع من ذلك التعدي الذي لا مبرر له مما فرض علينا حمل السلاح الذي لا غاية لنا من ورائه غير الحفاظ على وجودنا والدفاع عن أرضنا التي دافع عنها أسلافنا في جميع الأدوار التي مرت على لبنان، ‏وبنوا فيها مقدساتهم وصانوها بضريبة الدم، فكانوا للفضل والعمران دعاة، وللنجدة أهلا. كان بيته ملجأ للمنقطعين واللاجئين والمصابين وهو بناء متواضع غير محصّن وفي موقع مكشوف مستهدف بقصف العدوان، وكان كل من يدخله يشعر بالأمن والطمأنينة.

وكان رحمه الله يبتهل إلى الله تعالى ويتوسل إليه برسوله الصفي المختار صلوات ربي عليه، وبخاصة في الأيام الشديدة طالبًا منه النصر والتوفيق، وكان يردد دعاء سيدنا المرحوم الشيخ أبي حسين شبلي أبي المنى بقوله:

يا قدرة الحق حلي عقد ما ربطوا وشتتي جمع أعدانا بما ارتبطوا

يا قدرة الحق سيف الحق قاطعهم وكلما علوا في جبرهم هبطوا

هذه بعض المبادئ التي سار عليها في تلك الأحداث الأليمة، وله رحم الله في تفاصيلها مواقف شريفة وآثار حميدة يطول شرحها، ولفطنة القارئ أن يتخيل مواقفه وشعوره الدقيق في كل هذه الأمور.

«ليس لعلم التوحيد إلاّ لسان التوحيد»

من إمارات التأييد حفظ التوحيد

ومن آدابه رحمه الله أنّه كان الموحّد المخلص الذي تخلّصت نفسه من درن الشهوات والمآثم فراقت وصفت واستبصرت وفاضت عليها الأنوار الإلهية، وازدادت نفسه نوراً بالإشراق على نورها الذي فطرت عليه.

كان رحمه الله يرى أنّ التوكل على الله سبحانه وتعالى ركن من أركان التوحيد، فالمتوكّل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله سبحانه وتعالى واثق بتدبيره، فيقول: التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين لا يقوى عليه إلا الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا وصحّ لهم ما يتوافق فيه مقتضى التوحيد. فمن أيقن ذلك انطوى ضميره على الرضى بكل ما يجري من الله عز وجلّ. وكذلك كان يرى أنّ اليقين من ثمرة التوحيد فمن أيقن أنّ الأشياء كلها من مسبّب الأسباب فلا يلتفت إلى الوسائط وكان يقول: «لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيّع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلاّ ما قد كتب الله لك».

فالعارف بالله هو الموحّد له، وكان رحمه الله يقول: ليس لعلم التوحيد إلاّ لسان التوحيد. وفي تفسير قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» كان يقول: أي ما عظّموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته ليوحدوه حقّ توحيده ويعبدوه حقّ عبادته. ويضيف: «حقّ عبادته أنّه يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر به». وكان يقول: الصالحون يقفون على الحدود ولا يعرفون أسرارها، أمّا العارفون على قدر معرفتهم فيزيدهم الله سبحانه من لدنه علماً فيفيض ذلك العلم من القلب على اللسان وتتأدّب به سائر الجوارح. وكثيراً ما كان يردد هذا القول: «الخلق السمح للعارفين الأوحاد».

الشيخ الجليل أبو حسين شبلي أبي المنى

وُلد الشيخ الجليل التّقي الورع الديّان الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى في بلدة شانيه قضاء عاليه محافظة جبل لبنان في العام 1204 هـ 1788م، نشأ نشأة فاضلة حتى أصبح من المشايخ الأتقياء الأعيان الأجلّاء، امتاز بصدق ديانته ورجاحة عقله وهيبته ووقاره، فكان جهوري الصوت قوي الشخصية محباً للخير وللإخوان راغباً فيما عند الله زاهداً فيما عند الناس، وكانت له عند الأمير بشير الشهابي مكانة وإعزاز وكلمة مسموعة، كان يبذلها لمساعدة كل مظلوم أكان روحانياً أو زمنياً.

بعد فترة من الزمن عقبت وفاة سلفه في مقام مشيخة العقل، كان على أعيان الموحدين الدروز إنتخاب شيخ عقلٍ بدلاً منه. فوقع خاطرهم على الشيخ أبي حسينٍ شبلي أبي المنى في الاجتماع الذي عُقد في مزرعة الشوف، قَبِلَ الشيخ مُكرَهاً بعد الحاحٍ شديدٍ، ولكن ما لبث أن غادر البلاد متجهاً إلى خلوات البياضة الزَّاهرة يخدم إخوانه وينهل من معين المعرفة الإلهيَّة حتى أصبح مقصداً لرجال الدين ومرجعاً بين أبناء العشيرة المعروفية.

مقام الشيخ ابو حسين شبلي ابي
 دوره البارز في عهد الأمير بشير الشهابي

ورد في كتاب مناقب الأعيان نقلاً عن الشيخ أبوكمال نايف أبي المنى والد سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أنّ المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي كان يضاهي بوقاره الأمير بشير وقد أضافت العمامة المكولسة على هيبته هيبةً ووقاراً وجمالاً، وزادتها هالة جبهته المنيرة رفعةً وكمالاً وكان الأمير يقدّره ويحترم طلّته ويجلسه إلى يمينه ممّا أثار امتعاض بعض رجال الدين المسيحيين، ففاتحوا الأمير بالأمر أكثر من مرّة حتى وعدهم بأن لا يكرّر ذلك، وكانت المفاجأة عندما زار الشيخ مرّة ثانية الأمير فهُرع نحوه مسرعاً لاستقباله، عندها عاتبه بعض الزعماء المسيحيين فقال لهم هناك قوة خفية دفعتني إلى تكريمه ولم يكن باستطاعتي المقاومة، وهذه الحادثة تكرّرت مع أكثر من شيخ في ذلك العصر، ممّا يدل على قربهم من الله تعالى وتسخير من كان بموقع السلطة لخدمتهم.

محافظته على إخوانه

كان المرحوم الشيخ أبو حسين يتردّد إلى منطقة المناصف في الشوف وتحديداً في بلدة دير بابا حيث كان يحلّ ضيفاً على آل أبي نكد، وكان له سهرة دينية دورية يحييها عادة مساء الاربعاء في خلوات جرنايا قرب كفرحيم وذلك إبّان إقامته المؤقّتة في تلك المحلّة يحيي فيها برفقة مشايخ القرى المجاورة تلاوة الذكر الحكيم وتفسير آيات الكتاب العزيز.

دعاؤه المُستجاب

كان المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى، يردّد هذا الدعاء يومياً ويتلوه عند مواجهة الأعداء خاصةً أثناء أحداث 1840 و1845، التي انتصر الموحدون الدروز فيها بعد محاولة الأمير بشير وإبراهيم باشا إبادتهم، وكان يدعو به كلّما احتدم الصراع فيتبارك به المؤمنون المعروفيون، وهذا نص دعاؤه أو ابتهاله رضي الله عنه:

يا قدرة الحق حلّي عَقد ما ربطوا
وشتّتي شمل أعدانا بما ارتبـطوا
يا قدرة الحق سيف الحق قاطعهم
كلّما عَلَوْا في جَبرهم هبطوا.

محافظته وابن عمه المرحوم الشيخ أبو يوسف حمدان أبو المنى على جيرانهم المسيحيين

يُشهد للمرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى وابن عمه الشيخ أبو يوسف حمدان أبي المنى محافظتهم على حق الجيرة في بلدات الجُرد ولو لم يكن سكانها من بني معروف. يورد الشيخ أبو صالح فرحان العريضي في كتابه مناقب الأعيان أنه بعد انتهاء معارك 1840 و 1845 وانتصار بني معروف دخلت القوات الفرنسية إلى قرى الموحدين الدروز للاقتصاص كما تزعم من مسببي المجازر التي وقعت آنذاك بحق النصارى من قبل الموحدين الذين كانوا في موقع الدفاع عن أنفسهم، ولمّا وصلوا إلى الجرد- مشارف بلدة شانيه فكّر البعض بمغادرة البلدة وتحييد العائلات تفادياً للخطر، إلَّا أنّ الشيخ وابن عمه ورفاقه قرّروا ملاقاة الفرنسيّين عند مدخل القرية، وعند مواجهتهم مع القوات الفرنسية تقدم الشيخ من قائد القوات الفرنسية طالباً منه عدم الدخول إلى القرية حاملاً في قلبه قوة اليقين فأجابه القائد أنّه آتٍ ليقتصّ من قتلة المسيحيين ومن الذين اعتدوا على أملاكهم، فجاوبه الشيخ بكل قوة وبسالة: نحن لم نعتدِ على أحد، أجابه القائد متسائلاً: وما الإثبات على ذلك، عندها قُرِع جرس كنيسة بلدة بحمدون. فقال الشيخ هذا هو الإثبات إذ لو حصل اعتداء على البلدة لما كان جرس الكنيسة صالحاً ليُقرع فأمر القائد الفرنسي قواته بالتراجع عن البلدة وذلك ببركة الشيخ ويقينه وكما قيل «يقيني بالله يقيني».

ابرز كراماته

من أبرز الروايات المُتناقَلة في بلدته شانيه عن أقاربه، أن الشيخ طلب مرّة من حرم ابن عمه وهي شيخة فاضلة أن تُحضّر الزَّلابية وهي من أصناف الحلوى المقليّة بالزَّيت فأجابت لا زيت لدينا في البيت، فقال لها من قلب مليء بالإيمان: «حضّري العجين واتكلي على الله»، فنزلت عند رغبته ولم يمضِ وقت يُذكر حتى وصل ضيوف أجاويد من بلدة بشتفين وهم مشايخ من آل فياض الكرام، كانت تربطهم علاقة قُربى وأُخوّة مع عائلة الشيخ، وقد حملوا معهم هدية زيت زيتون وكأن الشيخ بحدسه وصفاء عقله كان يتوقع تشريف الضيوف وانَّ عليه تكريمهم ولمَّا لم يكن لديهم زيت شعر بأن هدية زواره ستكون زيتاً فتحقّق فيه القول المآثور، «من توكل على الله عز وجل كفاهُ جميع مهمَّاته، وجبر العالمين على مرضاته».

وفاته

توفّي الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى رحمه الله سنة 1272 هـ، فكان له مأتم مهيب حضره يوسف بك عبد الملك من بلدة بتاتر المجاورة حيث كانت بلدة شانيه تعتبر ضمن إقطاعه، وعند إقامة الصلاة على روحه الطاهرة شوهد رفّ من الطيور البيضاء يحوم فوق الجنازة ثم انتقل نحو الشرق، مما أثار إعجاب يوسف بك عبد الملك وانذهال الحاضرين بهذه الكرامة فقرّر بناء مزارٍ لهُ على نفقته الخاصّة. وضع على مدخل المقام نقش كُتب عليه:

شَيّد هذا المقام الجليل
رجا رضا رب الفلك
الشّهم بين أقرانه
يوسف بك عبد الملك.

أمّا ضريحه فيظهر عليه نقش بديع مُتقَن يضم آيات قرآنية كريمة، كُتب على جهته اليمنى «لا إلهَ إلَّا هو فاتَّخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً». أمّا على الجهة اليسرى فكُتِب «إنَّ هّذِهِ تَذْكِرة فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً»، كَما كُتبت آية الكرسي على الشاهد لجهة الرأس وعلى الجهة الأُخرى كُتبت أبيات من الشّعر تؤرّخ لوفاته جاء فيها:

يا زائراً ذوي الفخر السَّني
من فازَ بالأعمال طوباه هني
قد حلّ في الفردوس مقعده لوا
في زمرة الأبرار فوزاً قد جني
أعني به الشيخ الجليل وطاهراً
الحاذق الديّان شبلي أبي بالمني
أهديته مدحاً بتاريخه رقا
فاز بجنَّات النعيم لقد هني (1272 هـ)

هذا غيض من فيض ممّا هو مُتناقَل شفهياً عن هذا الشيخ الجليل رحمه الله ورزقنا وإياكم حُسن الخِتام وعسى أن نكون من المقبولين عند الله عز وجلّ.

شيخ المكارم الشيخ أبو مؤيّد سلمان عامر

الشيخ أبو مؤيد سلمان عامر ، شيخ قرية المتونة في عصره، رجل نبيل من أسرة معروفيّة كريمة؛ ولد عام 1871، وقد عُرِف بكرمه وتواضُعه ومحبّته للنّاس وترفُّعه عن المظاهر الدّنيويّة الزّائفة كما تميّز بتسامُحِه وِبَذلِه حتّى في سنوات الشِّحِّ والجفاف، ونقص محاصيل الأرض إلى درجة أنْ لقَّبه أهلُ زمانه بـ «السّلطان حسن»(1) و «شيخ الشباب» إذ كان بيته مقصداً للضّيوف والمُحتاجين.

هو شيخ قرية المتونه في فترة أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، (تقع المتونة الأولى على مسافة نحو ثلاثين كيلومتراً شمال مدينة السويداء على الحافة اليسرى لوادي اللوى الذي يصدر من سفوح المرتفعات الشمالية لجبل حوران ويصب في سهلة براق جنوب شرق دمشق التي كانت عبارة عن بحيرة في مطلع الألف الأول للميلاد) ولم تَزل مضافته ومقعدها إلى اليوم تحافظ على ألَقِها القديم، فهي مبنيّة فوق عقد من الرّيش تم بناؤه على أيدي بنّائين مَهَرة جرى استقدامهم من ظهور الشّوير في لبنان ويعود بناؤها لأكثر من مئة عام.

كَرَمٌ في موضع الاختبار!

كان الشَّيخ سلمان يملك مساحات واسعة من الأراضي ونحو ألف رأس من الأغنام والماعز وغيرها، وفي أواخر الرّبيع عندما تكون مواليدها من الخِراف والجِداء قد نَمَت وكبرت فإنّه يبيع نِصف تلك المواليد لتأمين حاجات دارته من موادّ غذائيّة وغيرها، أمّا ذكور تلك المواليد فلا يبيعُها، بل هو يستبقيها كذبائح إلى حين يأتيه الأضياف، وذات مرّة قال له الخَوْلي الموكل بالإشراف على أرزاقه: هل من العدل أن تأخذ لِبَيْتِك النّصف وتبقي النّصف الآخر للضّيوف؟

أجابه الشَّيخ: وماذا أفعل لك إن كنتُ لا أُجيد القسمة!
وبهذا ذاع صيت الشّيخ سلمان عامر بين الحَضَر والبوادي، وفي ذات يوم دخل إلى دارته بدويٌّ مُتواضع المظهر رَثُّ الثّياب، فرحّب به الشّيخ واستقبله في مضافته باحترام جَمّ تميّز به بنو معروف، وأمرَ أحد رجاله أنْ «أَوْلِموا للضّيف»، فقال الرّجل مُستَهيناً بمظهر الضّيف «كمان هذا بَدّو ذَبيحة؟»، أجابه الشّيخ بلهجة قاطعة: «اِذبحوا خَروف ولا تتأخّروا بالزّاد». دخل الشّيخ المضافة وجلس إلى جانب الضّيف يلاطفه ويسأله عن أحواله دون أن يطلب منه التعريف عن اسمه أو عشيرته..

كانت بساطة مظهر الضيف ورثاثة ثيابه قد لفتت انتباه الشيخ، فقال له:
ــ يا ضَيف إن كُنتَ بحاجة إلى حلال (أي المواشي من أغنام وماعز) أعطيناك وإن كنت بحاجة إلى المال ساعدناك، قُلْ ولا تَخْجل.
أجاب الرّجل: «لا يا طويل العمر، إنَّما أنا عابر سبيل أردت أن أرتاح عندكم بعض الوقت».
ولم يمضِ وقت طويل حتّى كان المنسف بالذبيحة المطبوخة أمام الضّيف.
بعد أن تناول الضّيف طعامه قال:
ــ يا شَيخ أنت لم تسألني عَمّن أكون وَتَكَرّمت وتكلّفت.
قال الشّيخ: «يا ضيف؛ نحن ما تعوّدنا نسأل ضيفنا قبل ثلاثة أيام، وأنت شرّفتنا اليوم، فأهلاً وسهلاً بك».
قال البَدوي، «يا شيخ أبو مؤيّد؛ أنا شيخ من قبيلة اِعْنِزِة، لكن جئتك كما تراني، لأختبر سمعتك وكَرَمَك (كانت مثل هذه الأساليب في اختبار كَرَم الرّجال دارجة في مجتمعات القبائل والبوادي في ذلك الزمن) وعِزّ لله إنّك تستأهل لَقَبَك: شيخ الشّباب؛ وارتجل من فطرته يقول:
دارٍ تْجـــود بْزادهـــــا للضّيـف
بعطر الخزامى والهيل مْخَضَّبٍ بابَهْ
شيخٍ كريم ومقعدَهْ بْكَرَم مسقوفْ
في جَـنّة الفــــردوس يلـــقى ثَوابَـــهْ
ثمّ أضاف: يا شيخ سلمان: أنت كريم والله يحب كلّ كريم، ثمّ ودّعه حامداً شاكراً حُسن الضِّيافة.

وبالشيخ سلمان عامر اشتُهِرَت قرية المتونة في بَوادي البِلاد وحواضرِها، فكان إذا حَلَّ رجل من أهلها في مكان ما ويسأله النّاس من أي مكان هو، فيقول من المتونة، فيقولون له: والنّعم؛ بلد الشيخ أبو مؤيّد سلمان عامر! جَلّاب الضّيوف، اَلسّلطان حسن، راعي (أي صاحب) مِسحاب(2) ابن عامر…، وعلى هذا فإنّهم يزيدون من تكريمه لما له من أيادٍ سابقة وسمعة طيّبة لديهم.

المتونة محطّة للقوافل العابرة

في ذلك الزّمان من القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين كانت قوافل الجمال والخيول والدّواب وسيلة النقل للمُتاجرة بين البوادي والأرياف من جهة و دمشق، عاصمة ولاية الشام؛ من جهة أُخرى، ولمّا كانت تلك القرية تقع على خطّ القوافل بين قُرى الجبل إلى الجنوب منها وحتى بادية الأردنّ وبين العاصمة، وبسبب من وجود مَنْهَل ماء كبير فيها هو مطخ القريَة بأبعاده 60متراً بطول 90 وعمق بضعة أمتار فقد كانت تحطُّ فيها القوافل طلباً للماء والرّاحة، وإلى دارة الشّيخ العامري ومضافته كان يُعَرِّجُ الرّجال فيبيتون ويولَمُ لهم بلا مِنّة ولا حساب، وقد ينقطع الطّريق بهم أيّاماً بسبب ثلوج الشّتاء، حتى دُعِيَت مضافة الشّيخ سلمان عامر بـ: مِسْحاب ابن رشيد، وهذا كان أمير نجد قبل أن يقضي على إمارتها آل سعود وتصبح نَجْد جزءاً من المملكة العربيّة السّعوديّة وقد اشتُهر ابن رشيد بِكَرَمه.

مضافة بمثابة نجمة الصُّبح

ذات ليلة من أيّام الشّيخ سلمان عامر وكان قد صعد بُعَيْد منتصف اللّيل إلى مضافته يتفقّد ضيفاً ينام فيها، فوجده قد أطفأ مِصباح الكاز، فأعاد إضاءته ونبّه الضّيف ألّا يطفئ النّور ثانية فالنّور مقصود في اللّيالي لعابري السبيل الذين يطلبون المأوى أو الرّاحة أو الطعام …
وهكذا أنشد أحد شعراء زمنه يقول فيه:
ديـــوانـــك نَجْمِ الصّبحْ
مْشَرَّعْ أبوابهْ للصُّبحْ
كَوكَبْ عالي عا صَرِحْ
مِهْبـاجو ينـادي علينا
وقد لقّبه النَّاس حينها بـ: شَيخ نجمة الصُّبح.

مضافة الشيخ ابو مؤيد في قرية المتونة الملقبة في زمانها بنجمة الصبح قبل نحو مئة عام من زمننا هذا

السّلطان حَسن مَلْفى نازحي مجاعة السّفر برلك عام 1914

في تلك الأيام العصيبة من أيام الحرب العالميّة الأولى لجأ الكثيرون ممن أصابتهم المجاعة في لبنان إلى جبل الدّروز وكانت حِصّة دار الشّيخ سلمان حصّة كبيرة من النّازحين من رجال ونساء نزلوا ضيوفاً في دارته ومقعده، وكان الشّيخ يواسي أضيافه ويُرَحّب بهم ويقدّم لهم واجبات الضّيافة والتكريم كمألوف عادته وبوجه مُشرق يخفف معاناتهم…

ذات يوم كان الشّيخ في مضافته وعنده زُوّار من القرية، وضيوف وافدون من لبنان ترافقهم أُسرهم، وكانوا يشعرون بالضّيق لطول إقامتهم، ولم يلبث أن قَدِمَ ثلاثة رجال من ديار الأردنّ وبعد مضي بعض الوقت جرى تقديم منسف عليه ذبيحة، وكان الشّيخ يرحّب بهم: «تفضّلوا على ما قسم الله» فقال أحد الضّيوف مُتَعَجّباً: «ماشاء الله ياشيخ زادك جاهز غبّ الطّلب!
فأردف أحد الجُلساء في المقعد «من أجل هذا لقّبوه بالسّلطان حسن».

ومن مآثره في تلك الأيام العصيبة أن وصلت جماعة من مهاجري السفر برلك الجوعى القادمين إلى أطراف المتونة وكان الوقت صيفاً، فنزلوا على بيادر القرية وأخذوا يأكلون بِنَهَم من حبوب الجلبان المكومة على أرض البيدر، وغيرها من الحصائد، فرآهم رجل من أهل المتونة ونهاهم عن ذلك لكونها تضرُّ بهم، ومن ثمّ سار بهم إلى دارة الشيخ العامري الذي شكره بدوره، واستقبل القادمين كضيوف مُرَحّب بهم وقدّم لهم الطعام وأكرمهم إلى أن عبرت تلك المرحلة العسيرة من حياة الناس آنذاك.

تواضُع الكريم

ومن تواضعه انّه كان يستقبل الزُّوَّار والأضياف ببشاشته المعهودة في كل يوم وحدث أن قَدِمَ إليه رجل من قرية مجاورة. بعد تناول القهوة أحبّ الرّجل أن يدعو الشّيخ العامري لزيارته في قريته إذ للشيخ أيادٍ سالفة وفضل سابق. قَبِلَ الشّيخ الدّعوة….
في اليوم التالي ذهب الشّيخ ملبِّياً دعوة الزّيارة برفقة أصحاب له، وبالفعل رحّب المُضيف بالشّيخ ومن معه بكلّ حفاوة واحترام، وقدّم لهم ما تيسّر لديه من الزّاد، وبعد الزيارة عادوا الى المتونة شاكرين مُضيفَهم. في طريق العودة قال أحدهم للشّيخ سلمان: «أشوف مُضيفنا لم يَقُم بواجب الضِّيافة بشكل يليق بكم»، فأجابه الشّيخ «مَهْلُكَ يا أخي، هذه قدرته وإمكانيّته، أنا أشعر بأنني مُقَصِّر إن قدّمت لِضَيفي جَزوراً (أي جَمَلاً ذَبيحة)، وعندما أكون ضَيفاً فإنّي أشعر بالرّضا حتى لو قَدَّم لي مُضيفي رأساً من البصل، فالمادّيّات لاتهمّني.

الله لن ينسى أولادي من بعدي!

في سنوات الأربعينيّات من القرن العشرين مرّت سنوات عجاف على قرى وادي اللّوى وهي سلسلة من قرى بني معروف إلى الشّمال من مدينة شهبا، والمتونة واحدة منها، إذ قد شحّت الأمطار وهلك الزرع وجفّ الضّرع، وساءت أحوال النّاس المعيشيّة، وأخذوا يغادرون الدّيار إلى دمشق ولبنان وغيرها طلباً للعمل والرّزق. لكن الشّيخ أبا مؤيد بقي على دَيْدَنِه من الكَرم فقال له أحد أقاربه مرّةً: يا شيخ أَلَا تترك لأولادك شيئاً من بعدك؟

فأجابه قائلاً: أنا أُقَدّم واجبي لضيوف الله، ومن خيرِ الله، أمّا أولادي؛ فإنَّ الله لن ينساهم من بعدي، وكما رَزَقني فهو سيرزقهم بقدر ما يستحقون، وإنّما يثبت الرّجال بمواقفهم في الظّروف الصّعبة…

وممّا يجدر ذكره أنّ عدد من يحملون الإجازات الجامعيّة اليوم من مختلف الاختصاصات العلميّة من أحفاد هذا الرّجل الكريم.يبلغ أربعة وعشرين جامعيّاً من الذكور والإناث في يومنا هذا

وفاته والاحتفاء به

تُوُفِّيَ ذلك الرّجل الكريم عام 1954 عن ثلاثة وثمانين عاماً قضاها في حياة نبيلة تميّزت بالكَرَم والتّواضع والسّماحة ورجاحة العقل، وقد قال فيه الشّاعر فَوْزي حمشو واصفاً كرمه يقول:

سلمان أبو مؤيد يا أسخى السّلاطيــــن
بكلّ الوفا والجُود والطِّيب مَطْـراك(3)
بـــدار السّويــدا كُنت عَـوْدِ السَّـــخِييِّن
ويــــا ما جِياع تْجمّعوا دوم بِحماك(4)
دار الكَرَم دارك وصِيتك غــــدا ويـن
تشـهد إلك طيب الفعايــل ما نِنساك
زادك وبَـــذْلَك للمناسف بَقُـوا سْــنيـن
تِعْبوا المناسف وانت مــا كَلّْ يمناك(5)
سُلطان حسن سَمّوك من قبل والحين
والكُلّ يشـــهد لك وزادت عطـــاياك
وفيه قال الشاعر مُؤَبِّناً:
أيا راحلاً هل نلقى بعدك باذِلاً
إذا ما اسْتَبَدَّ القَحْطُ والرُّزْءُ هائلُ(6)
فَمَقْعـدُكَ الميمونُ مـا زالَ شامِخاً
شُموخَ القُليبِ بالمكارم حافلُ(7)
فَيَــدْفَــأُ مَقـــرُوْرٌ وَيَمْتـــَنُّ طارِقٌ
وَيَهْدَأُ مَـكْرُوبٌ وًيَفْرَحُ سـائلُ(8)
فَهَلْ ضَمَّتِ الأكفانُ خَيْراً مِنِ امْرِئٍ
أقـــامَ على ما شـيّدَتْهُ الأوائِل
بِصَبْــرٍ وَإيــْمانٍ وَعَـــزْمٍ وَحِكْمَـــةٍ
وَمَنْ كان هذا دربُه لايُطاوَلُ
فَمـــا عابَــــهُ إلّا ســماحـــةُ كَفِّــــهِ
وَزَيَّنَهُ التَّوحيدُ بالقلبِ ماثِـــلُ
وهـاهم بنوك الصِّيدُ قد سار رَكْبُهُمْ
تَبارَوْا على ما كان قلبُكَ آمِلُ


المراجع

1- السّلطان حسن: هو كبير قادة بني هلال المشهرين في التاريخ وقد اشتُهر بِكَرَمه…
2- بيت من الشَّعر متعدّد الأعمدة وهذا كناية على كرم صاحبه.
3- مَطْراك: ذكرك. ويشبّهونه بالسلطان حسن لكرمه وجوده
4- عَوْد السّخييِّن: أي كبير الكُرماء، والعَود: المهمّ في جماعته وقومه.(مصطلح بدوي).
5- كناية عن كرمه
6- الرّزء: المصاب الجَلل.
7- القليب: تل شاهق مشرف على جبل العرب من جهة الغرب.
8- المقرور: الذي أنهكه البرد. والمكروب: المصاب بهمٍّ كبير.

الشّيخ أحمد أمين الدين

نشأ في بيت تقوى وجاه وديانة؛ اختطَّ لنفسه نهج سَلفه الطَّهَرة فسلك مسلك التوحيد والإيمان، وبذل النفس والنفيس في سبيل الخير، واستطاع بحكمته السديدة وبصيرته النَّيِّرة الذّبّ عن إخوانه وأبناء بلده، فكان شيخاً جليلاً حكيماً… تحلَّى بسجايا حميدة أهّلته لتولِّي منصب مشيخة العقل – إذ عُدَّ أبرز أهل زمانه علماً وعملاً وأشدَّهم حرصاً على وحدة الكلمة ولمِّ الشمل.. عرفه معاصروه شجاعاً وقوراً معطاءً ذا أنفة وإباء وتقوى وذكاء وقَّاد؛ تُوِّج بالعمامة المدوَّرة دلالة على فضله وعلوِّ درجته…إنه الشيخ أحمد أمين الدين(1) خَيِّرٌ فاضلٌ من بلدة عبيه من سلالةٍ كريمةٍ تعود إلى الشَّيخ بدر الدِّين العِنداري(ر)(2)؛ وتُنسب عائلة أمين الدين إلى آل القاضي التنوخيين الأعراق..

الثريُّ الزاهد

إنّ الخيرات التي يجريها الله على عباده ليست إلّا امتحاناتٍ يمتحن بها الباري خلقه، ليبلوهم أيهم أكثر صبراً وشكراً.. وقد ابتُلي الشيخ أحمد بهذا الامتحان إذ اشتُهر بالغنى واليَسار وسعة الأملاك التي انتقلت إليه إرثًا عن آبائه وأجداده التنوخيين الأمراء، فنشأ ثريًّا ولم يذق طعم الفاقة والعوز ولا عرف الحرمان والحاجة.. إلّا أنه أدرك بعقله المميِّز أنّ المال وديعة أودعه إياها الواحد الرَّزَّاق وأنه مُستخلف فيه، لقوله تعالى: «وانفقوا مما جعلكم مُستخلفين فيه».. فسعى شيخنا الجليل إلى إنفاق ماله بما يرضي الله سبحانه منصفًا الفقراء والمساكين، زاهدًا بالدنيا وقصورها وحَشَمها، بعيدًا عن كل ألوان البذخ والجاه.. فكان فيما ائتُمن خير أمين.(3)

اعتمد الشيخ مبدأ الدّقة في محاسبة النفس، وأجرى على ماله هذا المبدأ مستخدماً إياه لسدِّ الحاجة وستر الحال؛ أمّا الفائض فكلُّه للإخوان، ولا حظَّ منه لشهوات النفس وأهوائها.. ومما يُذكَر عنه رحمه الله أنه بعد جني الغلال وتوزيع المحاصيل والأموال على مصاريف المجلس والخلوة والحقول، كان يومي بقفا يده إلى كومة المال المتبقية على الأرض ويقول لتلميذه الشيخ أبو علي ناصر الدين قرضاب(4): «وهذا المال الباقي قد انتقل من ذمتي إلى ذمتك تصرَّف به كما تشاء». فلا يلبث المال تحت إمرته ليلة واحدة بل ينفقه على الفور بعد أخْذ ما يلزم لستر الحال وسدِّ النفقات؛ وبالطبع فالشيخ قرضاب رحمه الله موضع ثقة الشيخ، ونعم التلميذ المسؤول الذي يحسن تفريق الأموال على من يستحق.. فيستظلُّ الشيخ أحمد بظلِّه ليبقى بعيداً عن الأنظار والشهرة.(5)

كما زاده ورعه تعلُّقا بالخالق دون الخلق، فلم يتّخذ لنفسه زوجًا وبالتالي لم يكن له أولاد يشغلونه عمّا هو أسمى وأبقى..
استمرَّ الشيخ أحمد على هذا النهج القويم طيلة حياته، صابرًا على النعمة، مستغلاً خيرات الدنيا كسبًا للآخرة، مُسَلّمًا روحه وماله وكل أملاكه لمولاه وفاءً لعهده..

جامع الخصوم

عاصر الشيخ أحمد حكم الشهابيين وما شهدته تلك المرحلة من شَدِّ الخناق والتضييق على الموحّدين الدروز ومحاولة شق صفوفهم، ولعلَّها من أصعب الحقبات التي مرت على الموحدين الدروز، خاصة بعد أن استتبَّ الحكم للأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل على «إضعاف شوكة الدروز» وانتهج سياسة القتل والتنكيل بمن حوله من أصحاب النفوذ وذوي الإقطاع «وزرع بذور الطائفية والتعصب المذهبي وجرَّ البلاد إلى أتون حرب الطوائف».(6)
ولم يكن تولِّي منصب مشيخة العقل بالأمر المستهان في تلك الظروف؛ فالمسؤوليات التي تقع على صاحب هذا الموقع جمَّة -خاصة عند الأحداث المفصلية حين يتعلق الأمر بمصلحة الطائفة وحمايتها، فاتخاذ القرارات عندئذ يتطلب الكثير من الشجاعة والحكمة. وهو ما كان عليه الشيخ أحمد الذي تولى مشيخة العقل بعد وفاة الشيخ حسين ماضي (ر) 1216هـ/1801مـ، فكان خير خلف لخير سلف، إذ امتلك مقوّمات تليق بصاحب هذا المنصب. وحين ناداه الواجب بذل أقصى جهده للذود عن طائفته -شأنه شأن مشايخ العقل على مر الزمن الذين جاهدوا في سبيل العزة والكرامة ولهم الفضل الأكبر في الحفاظ على كيان الطائفة ووجودها حتى يومنا هذا…

اتخذ الأمير بشير سياسة «تحطيم الرؤوس قاعدةً لحكمه ونهجاً سار عليه طوال وجوده على رأس الإمارة» (7) ، لينفرد بالحكم والطغيان، ولقد استطاع تحقيق مُبتغاه -إذ قضى على غالبيتهم، ولم يبقَ أمامه سوى الشيخ بشير جنبلاط.. ومن هنا بدأ النزاع بين البشيرين، فحاول المشايخ العقّال -كعادتهم- إصلاح الحال بينهما؛ إلا أنهم هذه المرة لم ينجحوا.. واحتدم الصراع حيث ذهب ضحيته الكثير من القتلى والجرحى.

ولم يكن الشيخ أحمد ليقف مكتوف اليدين إزاء الأحداث من حوله. فقد كان رحمه الله ذا نخوة وحميَّة، محبًّا للخير والصلاح، فسارع إلى المختارة وحتم على الشيخ بشير ومن حوله من حزبيين ومشايخ مصالحة الأمير الشهابي حقنا للدماء واتِّقاءً لشرٍ أكبر. وتمَّت بفضله المصالحة، فكرَّمه الأمير الشهابي على الاثر وقرَّبه إليه ولقبه بـ»الشيخ الرّضي» وأصبح يستشيره في أموره.(8)

لم يذكر التاريخ الكثير عن حياة الشيخ أحمد، إلّا أن هذه الحادثة كشفت عن مزايا عديدة اكتسبها شيخنا الجليل. فقد دلَّت على صدق طويَّته، لقوله تعالى «من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته» فصِدقُه وإخلاصه أوصلاه إلى مُراده.. كما دلّت على حسن تدبيره وسياسته فمثل هذه المواقف لا يوفَّق إليها إلا صاحب الحنكة والعقل الراجح – إذ سبقه الكثيرون إلى هذه المهمة ولم يُفلحوا.

ومن الواضح أن الشيخ أحمد كان يحظى بعلوِّ المكانة والمهابة والقول المطاع عند اكابر القوم من أمراء ومشايخ، فحين رأى أنَّ المصالحة حاجة ملحّة سارع إلى الشيخ بشير جنبلاط والعقال وطلب منهم مصالحة الأمير الشهابي فقبلوا خاطره واتبعوا رأيه الصائب؛ وما توفيقه في مسعاه إلّا ثمرة ديانته وورعه وتقواه، لأن من أطاع الله اطاعته العباد ومن زاد ورعه زادت هيبته، وهذا ما حدا بالشيخ أبي أحمد زين الفقيه إلى اصطحاب الشيخ أحمد معه إلى اسطنبول للحصول على بعض المطالب حيث قابلا السلطان مصطفى آغا خان وخرجا منه بفرمان يقر بمطالبه.(9)

ولعل القارئ للتاريخ يقدِّر أهمية المصالحة بين البشيرين وكيف استقرت أحوال الموحدين الدروز بعد المصالحة من وحدة الصف واجتماع الكلمة، وما آلت إليه أمورهم من تشتت وضعف بعد الخلاف الثاني الذي نشأ بعد وفاة الشيخ أحمد وعُرف بحرب البشيرين حين لم ينجح أي مسعى للصلح والوفاق وانتهى بمقتل الشيخ بشير جنبلاط عام 1825م.(10)

وصيته… كنزٌ مدَّخرٌ

قصد رحمه الله الأجرَ الذي لا ينضب، والحسنة الجارية التي لا تنقطع، لقول الرسول الكريم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له».. فَقبْل وفاته بست سنوات كتب وصيته – أرادها صدقة جارية إلى يوم الدين على يده- فعيَّن المجلس الخاص به وخلوته التي يملكها في عبيه ليكونا مجمعًا لأهل الخير ومنهلاً يرد إليهما الأجاويد من جميع المناطق، وأوقف لهما الوقوفات الكثيرة؛ وقسَّم بقيَّة أرزاقه على المستحقين الخيِّرين وشيوخ البلاد، وخصَّ الخلوات والمجالس المنتشرة في لبنان وسوريا بحصص معينة من أموال ومحاصيل وغلال.. وحرَّم أشد التحريم أن يرث الجُهَّال شيئا من رزقه أقرباء كانوا أم غرباء. وأوكل خمسة مشايخ ثقات لرعاية هذه الأوقاف وصرْف رَيعها على مستحقيها وأوصاهم بالتعاون وعدم الإهمال أو التقصير في تنفيذ الوصية كما هي. وكلّف الشيخ بشير جنبلاط حماية الوقف والقيمين عليه، «..ذكر حضرته بأن يكون نظر جناب الشيخ بشير جنبلاط المحترم على الوكلاء المذكورين في الذَّب عنهم وعن الوقف المذكور عند الاحتياج..» (11)

اقتفى الشيخ أحمد في وصيته أثر الأمير السَّيِّد(ق) الذي أوقف أملاكه لأهل الدين والمساكين وطلاب العلم، فكان للأمير السيد(ق) وللشيخ أحمد من بعده الفضل الأبرز في تكوين الوقف الدرزي- وهما المعروفان بالوقف التنوخي والأحمدي-ولعلَّ وقف الشيخ أحمد هو الأكبر بين جميع الأوقاف من حيث المساحة؛ إذ يُقدَّر بمئات آلاف الأمتار، ومنه أُنشئت المدرسة الداودية.

كما أنّ في وصية الشيخ أحمد التزام جَليّ بشرط الأمير السَّيِّد الذي أوجب على المسلم الموحد أن لا يبذل ماله لمن لا يستحقه، ولا يدّخره عمن يستحقه، ويخصُّ بوصيته الصالحين والصالحات، فلا يذهب رزقه للأشرار ينفقونه في غير رضى الله سبحانه فيستوجب وإياهم عقاب الخالق الجبار؛ بل جعل جميع ما يملكه في عهدة الخيِّرين يحسنون نفقته فيلحقه من إحسانهم إحسانٌ إلى يوم الدين.

فبوصيته هذه أدى أمانته، وتمَّم فضله.. وسيجني ثمار الفوز عند لقاء ربه يوم تُجزى كل نفس بما كسبت.
وما زال الموحدون اليوم – وبعد مضي قرنين من الزمن على وفاة الشيخ أحمد-يتنعَّمون من فضل جوده وبذله؛ خاصة في مجلسه الزاهر في عبيه الذي أُطلق عليه مجلس البلاد – إذ كان قبل الحرب الأهلية ملقًى لكبار الشيوخ وأهل الدين وبعد ترميمه عام 1988م عادت حلقات الذكر والعلم إلى أرجائه.. أمّا خلوته في عين الشاوي فهي حتى هذا التاريخ عامرة بالموحدين يؤمّونها من كافة أنحاء البلاد لنهل العلم والمعرفة.

الوداع المهيب

أتمَّ واجباته، وأنجز أعماله، وتهيأ للقاء ربه..
عاش كريماً مكرَّماً في حياته وخصَّه خالقه بالكرامة في مماته.. توفي في حزيران سنة 1809م الموافق 1224هـ، فشيَّعه جمع غفير من المشايخ والأعيان.. وترافق البشيران لحضور المأتم، وفور وصولهما إلى البلدة حُملت الجثة على الأيدي لملاقاتهما -وفق العادة الجارية ذلك الحين- وما أن شاهدا النعش المحمول حتى ترجَّلا وحملاه مع المشيّعين، ولم يتركاه إلّا بعد أن توسّل إليهما أعيان البلد؛ وقد بدا عليهما الحزن والتأسف لفقده.

وتجدر الإشارة أنّ حمل البشيرين للنعش كان حدثاً فريداً، دلّ على علوّ قدره وتفرُّده بخصال دينية ودنيوية قلَّ نظيرها..

دُفن الشيخ أحمد في عبيه بجانب مجلسه، وأمر الأمير بشير الشهابي ببناء قبة فوق الضريح وحُجرة مؤرِّخة لتاريخ وفاته وهي مزار يقصده المؤمنون للتبرُّك، كما أمر شاعره المعلِّم بطرس كرامة بنظم الأبيات التي نُقشت على الحجرة المباركة، وهذا نصُّها:

من زار تربةَ أحـمـدٍ نال المـُنى
وحَظى بطالع كوكب الأنـوار
يا سعـدَ قصَّادٍ أتـت واستنشـقـت
ريـحَ الشذا مـن ذلك المِعطار
هذا أميـنُ الديـنِ أحمدُ من وفـى
حــقَّ الـعـبـادةِ لـلإلـه البـاري
فاهدوا إليه البشرى بالتاريخ بل
هـنُّوه في فردوسِ تـلك الدّارِ (12)

وبوداع الشيخ أحمد أمين الدين ودَّع الموحدون الدروز آخر شيخ عقل أوحد للطائفة – إذ بدأت سياسة التفريق تغرس أنيابها في جسد الطائفة، وبدأت معها ازدواجية المشيخة التي سعى إليها بشير الشهابي لتحقيق مآربه في شق الصف الدرزي وإضعاف موقع مشيخة العقل وبلغ الانقسام ذروته عندما قام الأمير بشير بإضافة شيخ ثالث إلى مشيخة العقل وهو الشيخ شبلي أبي المنى، واستمرّ الانقسام قائما إلى أوَّل السبعينيات مع وفاة أحد شيوخ العقل الشيخ رشيد حمادة، وبقي الشيخ محمّد أبو شقرا (13) الذي انتُخب عام 1949م وحيداً في هذا الموقع (14). وفي عام 2006 صدر عن مجلس النواب قانون ينظم شؤون طائفة الموحدين الدروز ويوحِّد مشيخة العقل قانونياً بحيث يتم اختيار شيخ العقل عن طريق الانتخاب.(15).


المراجع:

1- هو الشيخ أحمد بن الشيخ سيِّد أحمد بن الشيخ أحمد ابن الشيخ حسين بن الشيخ علم الدين أمين الدين بن الشيخ بدر الدين العنداري رضي الله عنه.
2- الشيخ بدر الدين العنداري كان من كبار مشايخ عصره، تولّى مشيخة العقل في القرن السادس عشر للميلاد وقت ولاية الامير فخر الدين المعني، توفي سنة 1020هـ ودفن في عبيه.
3- حافظ أبو مصلح، أضرحة العبَّاد الموحدين، معرض الشوف الدائم، ص،ص:47،48.
4- ولد رحمه الله في الجاهلية نشأ على الزهد والتقوى، انتقل إلى عبيه لملازمة الشيخ أحمد وتتلمذ على يده وكان خير معين له في حياته وموضع سره وثقته، توفي سنة 1052هـ ودفن في خلوة عين الشاوي في عبيه.
5- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، عاليه: منشورات مدرسة الإشراق، ج3، ط1، 2011، ص: 61.
6- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، بيروت:المركز العربي للأبحاث والتوثيق، ط2، 1994، ص: 205،206.
7- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، المرجع السابق، ص: 177.
8- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق، ص:12.
9- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق، ص:11.
10- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، مرجع سابق، ص-ص: 174-205.
11- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق ص-ص:307-348.
12- محمَّد خليل الباشا، معجم أعلام الدروز في لبنان، المختارة – الشوف – لبنان: الدار التقدمية، ط2، 2010، ص:158.
13- الشيخ محمّد أبو شقرا، ولد عام 1910 في عماطور شارك في الثورة العربية الكبرى تولى منصب مشيخة العقل عام 1949 إلى حين وفاته عام .1991.
14- د. صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، مرجع سابق، ص:248.
15- حافظ أبو مصلح، أضرحة العبَّاد الموحدين، مرجع سابق، ص،ص: 47،48
www.lp.gov.lb/Resources/Files/09ac950f-7840-486b-b082-597881b20175.doc

سماحة شَيخ العقل الشيّخ اسماعيل أبو حمزة

مشيخة العـقـل هي رأس الهرم الرّوحي والزعامة الروحيّة لطائفة الموحدين الدروز. هـذه الزعامة الروحيّة الأصيلة، هي اشتقاقٌ معنويٌ وامتدادٌ تاريخيّ لفكرة الإمامة، أيّ الرشادُ والحكمة ُوسلطة التوجيه والتقويم، والـولاء والاستئناس بالعـرفان والاسترشاد بالمثُل العُليا، وبالتوجيه الأصفى والأمثل.

فالعقل هـو مصدر التـدبير وأساس المعرفة. وذَكر الدكتور خليل أحمـد خليل في كتابه «العقل في الإسلام»، أنّ الشراكة بين العقل العلمي والعقل الديني، تبرهن أن العقل السياسي هو جـزء من العقل العلمي العملي. فيما العقل الديني هو عقـل توحيدي. وهـو العقل الذي تُعرف به المُفتَرضات الدينية والمعارف الحقيقية.

كان شيخ العقـل يلقّـب في السابق بــ «شيخ العقّال وشيخ العصر وشيخ المشايخ» حتى استقرّت التسمية أخيراً على لقـب « شيخ العقـل». وكان مقـرّ شيخ العقل محصوراً في لبنان وهو واحـد لجميع الدروز، وتشمل صلاحياته جميع الدروز حيثما كانوا، في لبنان أم في سوريا أم في فلسطين، حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر. وبسبب الخلاف بين الحاكم الأمير بشير الشهابي الثاني والشيخ بشير جنبلاط، انقسمت مشيخة العقل بين الحزبين الدرزيين. فكان شيخ عقل للجنبلاطيين وشيخ عقل آخر لليزبكيين. وبعـد الحرب العالمية الأولى وعند تقسيم الدول العربية، انقسمت أيضاً مشيخة العقل. فكان لسوريا ثلاثة شيوخ عقل، ولفلسطين شيخ واحد، وفي لبنان كان يتراوح عددهم بين شيخين وثلاثة. أما اليوم فقـد اجتمعت المشيخة في لبنان بشيخ واحد، ينتخب بموجب قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز الصادر بتاريخ 9/6/2006. غـير أنَّ سلطة مشيخة العـقـل الروحيّة والزمنيّة كانت تتأثّرُ دائماً بشخص متوليها. (1)

الشيخ اسماعيل أبو حمزة

الشيخ اسماعيل صعب أبو حمزة «أبو سليمان» كانَ شيخاً جليلاً حكيماً عاقلاً، عالي الهمّة حسن التدبير. من مآثرهِ بناء مجلس في قريتهِ الخريبة ما زال موجوداً إلى الآن. وهـو أول مـن تلقّـب بلقـب «شـيخ العقـل»(2) ولم تذكر المصادر التاريخيّة تاريخ ولادتهِ أو تاريخ تولِّيهِ مشيخة العقل. وتوفّي سنـة (1212هـ/ 1798م). والدهُ الشيخ أبو حسين صعب أبوحمـزة من كبار رجال الدين، كان يقـيمُ في قرية السمقانية(3).

كان الشيخ اسماعيل أبو حمزه معاصراً للشيخ علي جنبلاط (ت 1778م)، الذي كان يلقّب بـ «الشيخ الكبير، أو شيخ مشايخ الشوف»، تمييـزاً لـه عن المشيخات العائلية، التي كانت تتعهّـد الجباية الضريبية في نـواحي وقـرى الجبل. ولكن ذلك لا يعني أنَّ الشيخ علي كان شيخاً لعقّال الموحدين الدروز. إذ إنّ لقـب «شـيخ» كان يجمع بيـن وظيفتين: دينيـة وينـدرج تحت مسمّاها مشايخ الدين الـدروز. وإدارية ويندرج تحت توصيفها كل متعهدي الرّيع العقاري في مقاطعات جبل لبنان. لأنّ شيخ المقاطعة سواء أكان درزياً أو مسيحياً، هـو من أوكلت إليه الشؤون الإدارية والسياسية في مقاطعته.(4)

في سنة (1763م)، وقع الخلاف بين الشيخ علي جنبلاط والحاكم الأمير منصور الشهابي. فبـدأ الشيخ علي وبالاتفاق مع الشيخ كليب النكـدي الذي كان من الفئة الجنبلاطية بالعمل على إزاحة الأمير منصور عـن كرسي الحكم، والإتيان بابن أخيه الأمير يوسف الشهابي حاكماً على إمارة جبل الدروز بـدلاً منـه. فعمـل الشيخ علي جنبلاط على تكليف شيخ العقل الشيخ اسماعيل أبو حمـزه بحضّ الأهلين على تأييـد الأمير يوسف. وذلك لمـا لموقع مشيخة العقـل من تأثير على السكان. وبحجّـة تفقّـد الخلوات الدينية للطائفة الـدرزية والنظر بأمورها، جال الشيخ اسماعيل على العـديد من القرى والبلدات في الشوف والغـرب حيث لبّى معظم الأهلين دعوته. الأمر الذي مكّن الأمير يوسف الشهابي من الوصول إلى حكم بلاد جبيل، عن طريق التزامها من والي طرابلس لأن بلاد جبيل كانت في ذلك الحيـن تابعة لولاية طرابلس. وكان الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي، يرسلان رجالاً من الشوف والمناصف إلى جبيل سـرّاً، لتقوية الأمير يوسف. وبعـد ذلك تمكّـن الأمير يوسف من الوصول إلى حكـم إمـارة الجبـل.(5)

عائلة أبو حمـزه

عائلة أبو حمزه هي من العائلات النافـذة، أو ما كان يُعـرف بالمشايخ الصّغار، وقـد حافظت على موقعها الاجتماعي خـلال عهـد المتصرّفية وحتى اليـوم. يقال أنَّ بداياتها كانت مـن قرية السمقانية، وهي أحـد فـروع عائلة أبو هرموش. وبسبب خلاف مـع أقاربهم، نـزحوا عن قرية السمقانية وأقام قسم منهم في قرية مرستي، والقسم الآخر في قرية معاصر الشوف. إن اختيار هاتين القريتين لسكناهم يعود إلى امتلاك بعضهم أراضٍ فيهما.
كانت قـرية الخريبة المجاورة في ذلك الزمن، ملكاً للشيخ خطار بن يونس جنبلاط. والتي انتقلت اليه بالإرث من والده يونس، ومن جـدّه الشيخ علي الكبير إلى والده. وبناء لطلب الشيخ خطار، انتقل أفـراد عائلة أبو حمزة من مرستي والمعاصر وأقاموا في قرية الخريبة(6). وقـد أنجب الشيخ خطار ابنتين، اقترنت الأولى بالشيخ بشير قاسم جنبلاط واقترنت الثانية بشـقيقه حسـن.

لـم تـذكر المراجع التاريخية تاريخ انتقال عائلة أبو حمزه من قريتي مرستي والمعاصر للإقامة في قرية الخريبة. لكن هناك وثيقة مؤرّخة سنة (1298هـ/ 1880م)، تبيّـن بيع عائلة أبو حمـزه حصّتهم في الخشخاشي (المـدفن) في قرية مرستي إلى أمين زيدان من نفس القرية. والحصّة هي اثنا عشر قيراطاً من أصل أربعة وعشرين قيراطاً. والبائع (كاتبه على نفسه قاسم شاهين بو حمزة).(7)

ومن الرجوع إلى إحصاء قرية مرستي الذي أجري سنة (1329هـ/ 1910م)، في عهـد المتصرّفية، تبين أن شخصاً واحداً من عائلة أبو حمزة كان لـم يـزل يقـيم في قرية مرستي، وهـو: رشـيد بن ملحم حميدان أبو حمزه، وكان يستثمـر دكاناً فيهـا.(8)

نشر يوسف ابراهيم يزبك في أوراق لبنانية (9) تحت عنوان «أوّل اتفاق يزبكي جنبلاطي سنة 1793»، معرّفاً عن هـذه الوثيقة بما يلي:

هي وثيقة اتفاق تمّ في ربيع سنة 1793، بين الشيخ اسماعيل أبوحمزه شيخ عـقل الدروز رئيس الحزب اليزبكي، وبين الشيخين أحمـد نجم جنبلاط وخطار أبو يونس جنبلاط، ابني عمَّي الشيخ بشير قاسم جنبلاط. وكان الزمان الذي تمّ فيه هذا الاتفاق – على أثر مقتل الأمير يوسف الشهابي في عكّا – مليئا بالأحقاد والتشاحن والتطاحن بين الإقطاعيين في الشوف. وكان الحاكم الشاب بشير الشهابي قـد أُقصي عن الحكم وتولاه نسيباه الأميران حيدر وقعدان شهاب. فلماذا اتّفق زعيم اليزبكيين وزعيمان من الأسرة الجنبلاطية هـذا الاتفاق الموثـّق بالأيمـان ؟ إننا سنحاول درس ذلك الحادث التاريخي في جـزء مقبل، ونكتفي اليوم بنشر وثيقته، بعـد فرنجـة تسطيرها، وهـذا نصّها:

«بسم اللّـه الرحمن الرحيم وهو حسبي وبـه استعين.
جـرا الوفق، وباللـه التوفيق، ما بيننا المدوّنه أسامينا أدناه: باننا يد واحدة، وصالح واحد، وراي واحد. وأوثقنا على أنفسنا الوثق التام، بالقول التام والعهد التام، بالإيمان على حكمته. ووكلنا على ذلك حدودا بان لا بيننا لا مفرق ولا فرق. واشرطنا أنفسنا بان ليس عندنا صالح ابدا (اهم) من صالح بعضنا البعض، لا غريب ولا قريب. ولا ينقص (الأصح يُنغّص) عهدنا وايماننا أحد، والراي مشترك. ولا نطابق على (ساج ؟) بعضنا البعض. والمسرى واحد والطريقة واحدة، ومحفوظ السر ما بيننا لا ينذاع لاحد من الأنام. وان الصديق واحد على طريقة الكمال والمروّه وعمار الصالح، ولا نطابق على بعضنا في وحيش. ولا معزه مع احد من الخلق، لا غريب ولا قريب، ولو كان الاخ او ابن العم، او حاكم الوقت، او كاين من كان من ساير الانام. وذلك لازمنا مد (ى) الشهور والاعوام، مدة حياتنا بايماننا الذي اوثقنا النية والطويه برضانا واختيارنا، لا مغصوبين ولا مجبورين، وكل من غيّر منّا نيّته، ان كان في سر او في جهر، بالشي الذي يخصنا، كما هو محرر في باطن هذه الحجه، يكون اللـه وانبياه خصمه، والحكمه قررنا عهدنا عليها في قصمه ومحقه في عاجل الدنيا واجل الاخرة، والباري يجازيه في حاله وماله، وما تنقلب يمينه مع شماله، من غير او بدل عن الشيء الذي محـرر.

حرر ذلك وجرا في شهر شوال من شهور سنة سبعة بعد المايتين وألف، والحمد للـه ختام.
(الخاتم) قابله على نفسه
احمد ابن نجم جنبلاط

(الخاتم) قابله على نفسه
خطار ابو يونس جنبلاط

حرره (وشهد …… ) الحقير سمعيل بو حمزه

وذكـر الشيخ أبو صالح فرحان العريضي في كتابه «مناقب الأعيان» ما يلي: (تولّى الشيخ اسمعيل مشيخة العقل، إلى جانب زعامة اليزبكيين «روحاني جسماني»، بسعي الأمير يوسف الشهابي ومبايعة الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام عماد بوثيقة موقّعة. وذكر الأستاذ أمين طليع أنها ما تزال محفوظة لدى المشايخ آل أبي حمزه. ومن مآثر الشيخ أنه رعى الاتفاق بين الحزب الجنبلاطي والحزب اليزبكي وكتب بخطّـه وثيقه بهذا الإتفاق(10)). مع العلم بأن الشيخ علي جنبلاط كان قـد توفّى سنة 1778م، وتوفّى الشيخ عبد السلام العماد سنة 1788. أمّا الأمير يوسف الشهابي فقـد أعدم شنقاً في مدينة عـكّا من قبل الوالي العثماني في شهر أيار سنـة 1791).

ونشر هـذه الوثيقة أيضاً الدكتور سليم الهشي في كتابه «المراسلات الاجتماعية والاقتصادية لزعماء جبل لبنان خلال ثلاثة قرون»، مطبعة نمنم، بيروت، 1980، ج2 ص 20- 21 تحت عنوان: «اتفاق ودّي بين آل جنبلاط وآل أبو حمزه على أن يكونوا جميعاً يـداً واحـدة في السرّاء والضرّاء».

لا شـك أن يوسف ابراهيم يـزبك هـو كاتب قـدير، لكنّه لـم يبيّـن لماذا اعتبر أن الشيخ اسماعيل أبو حمزة رئيس للحـزب اليزبكي، ولـم يذكـر سـنداً لذلك. مع العلم بأن الوثيقة لا تتضمّن أي كلمة تشير إلى الحزب اليزبكي أو إلى الغرضية اليزبكية. وكـذلك الدكتور سليم الهشـي الذي اعتبر أن هـذا الاتفاق اتفاقٌ ودّيٌّ بين آل جنبلاط وآل أبو حمزه. لذلك نوضح ما يلي:

لا يعقل أن يكون الشيخ اسماعيل أبو حمزه رئيسا للحزب اليزبكي، ولم يحصل على مـدى تاريخ الطائفة الدرزيه أن يكون أحـداً من شيوخ العقل قـد تسلّم منصباً حزبياً أو سياسياً. لأن مهام شيخ العقل تنحصر في رعاية شؤون الموحدين الدروز الدينية والروحية، ولا علاقة له بالطوائف والمذاهب غير الدرزية. لأن هناك أناس من طوائف أخرى إسلامية ومسيحيّة ينتمون إلى الحزبية اليزبكية، مـثل آل حبيش وآل الدحداح وغيرهم.(11)

إن مقـرّ مشيخة العقل، وقبل إنشاء دار الطائفة الدرزية في بيروت في العقد السادس من القرن العشرين، كانت في منزل شيخ العقل حيث يقيـم وإذا كان الشيخ اسماعيل يقيم حيث تقيم عائلة أبو حمزه، في مرستي أو في معاصر الشوف أو في الخريبة، وهـذه القرى الثلاث القريبة من قرية بعذران مقـرّ الشيخ علي جنبلاط. وتقع جميعها ضمن منطقة الشوف الحيطي وإقطاع آل جنبلاط. والشيخ اسماعيل كانت تربطه بالشيخ علي علاقة وثيقـة، ويزوره في منزله في بعذران من حين لآخـر. من أجل ذلك، ومن غير المعقول أن يكون الشيخ اسماعيل رأس الغرضية اليزبكيّة أو ينتمي إليها، في ظل النفوذ السياسي لآل جنبلاط.(12)

لقـد عاصر الشيخ علي جنبلاط، أربعة مشايخ عقـل وهم: الشيخ ناصيف علي أبو شقرا، ومن بعـده الشيخ فخـر الدين ورد، والشيخ يوسف عـربيد أبو شقرا، والشيخ اسماعيل أبو حمـزة. جميعهم كانوا يقيمون في قراهم الواقعة في منطقة الشوف الحيطي وضمن إقطاع آل جنبلاط. وعند وفاة شيخ العقل، كان يتم الاتفاق على تعيين البديل من بين الشيوخ أصحاب الكفاءة. فمن المُستبعد أن يكون أي منهم ينتمي إلى غرضية أو حزبية سياسية، يزبكية كانت أو جنبلاطية.

يظهر من الوثيقة الموقّعة من قبل الشيخ خطار بن يونس جنبلاط، والشيخ أحمـد بن نجم جنبلاط، والمحـرّرة من قبل شيخ العقل الشيخ اسماعيل أبو حمزه وتوقيعه عليها بصفة شاهـد، أن لا علاقة لهــا بالحزبية أو بالغرضية اليزبكية – الجنبلاطية. بل هي عـقـد مصالحة بين فرعي عائلة جنبلاط، فرع الشيخ بشير قاسم جنبلاط وشقيقه حسن في بعذران، وفرع الشيخ سـيـّد أحمـد وأبي قاسم ولدي الشيخ نجم جنبلاط في المختارة. للخلاف والعداوة التي استحكمت بينهما بسبب ممارسة السلطة وفـرض النفـوذ. وقـد تجاهر الفريقان بالخصومة والبغضاء. حيث يرغب كل فـريق منهما بامتلاك التركة الجنبلاطية والتفرّد بالقرار الجنبلاطي. لذلك عمل الشيخ خطار جنبلاط صاحب قرية الخريبة، بمساعـدة شـيخ العقل الشيخ اسماعيل أبو حمزة، على عـقـد هـذه المصالحة لإجراء الوفاق بين فرعي العائلة. لكن هـذه المصالحة لم تصمـد طويلاً. وكان الوالي العثماني آنـذاك أحمـد باشا الجزار، قـد عيّـن الأميرين حيـدر وقعـدان الشهابيين حاكمين على جبـل الـدروز، والمؤيدين من قبل الشيخ سـيّد أحمد جنبلاط وشقيقه ابي قاسم. بينما الشيخ بشير جنبلاط وشقيقه حسن كانا من مؤيـدي الأمير بشير الشهابي الثاني، العـدو اللدود للأميرين حيدر وقعدان. لذلك بـدأ ابنا الشيخ نجـم جنبلاط سيد أحمد وأبو قاسم، يتدبران مكيـدة للإيقاع بابني عمّهما بشير وحسن. وذات يوم استدعيا وجوه عائلة بني عبد الصمد ووجوه بعض العائلات الشوفية الأخرى المؤيدة لهما إلى المختارة. وتم الاتفاق بينهم على الفتك بالشيخ بشير جنبلاط وشقيقه حسن في مكان إقامتهما في بعـذران. لكن الأمير ملّا الأرسلاني من قرية غريفه والذي كان حاضراً مع الذين اتخذوا قرار الفتك بالشيخين بشير وحسن، قـد عـزّ عليه أن يصل العداء بين البيتين الجنبلاطيين إلى درجة سفك الدماء. فخرج من المختارة متظاهرا بالمجيء إلى عين قني للمبيت في منزل صهره. وعندما وصل إلى عين قني، خـفّ مسرعاً إلى قرية بعذران وأعلم الشيخ بشير جنبلاط بذلك. عندها عمـل الشيخ بشير على الفور مع شقيقه حسن على تأليب نحو خمسين رجلاً مـن مؤيديهما، وهاجموا منازل آل جنبلاط في المختارة ليلاً وقتلوا ابني الشيخ نجـم، سيد أحمـد وأبا قاسم. فانطلقت عساكر الدولة على الفـور للقبض عليهما. لكن الشيخ حسن فـرّ واختبأ في قرية عرنه في إقليم البلاّن، وتوجه الشيخ بشير إلى قبيلة عـرب بني صخر في جبل حوران. فداهمت العساكر قريتي بعذران والخريبة، وهدمت منازل آل جنبلاط في بعذران وضبطت أرزاقهم وغلالهم. وقـد حصل ذلك في شهر نيسان سنة (1208هـ/ 1793م).

وفي شهر أيلول من نفس السنة، عـزل الوالي العثماني الأميرين حيدر وقعدان الشهابيين عن حكم جبـل الدروز، وعيّن مكانهما الأمير بشير الشهابي الثاني حاكماً، وهو صديق الشيخ بشير جنبلاط. عندها عـاد الشيخ بشير من جبل حوران واتّحـد مع الأمير بشير الشهابي الثاني، واتّخـذ من المختارة مركزاً له، متخلّياً عن نصيبه في دار بعذران لشقيقه حسن، الذي عاد إليها وعمل على ترميمها والإقامة فيها.(13)

ومـع اقتراب نهاية القـرن الثامن عشر بـدأ اختلال التوازن بين الطوائف، وبسـبب ازدياد النزاع اليزبكي – الجنبلاطي بين العائلات الدرزية، وضعف نفـوذ الدروز السياسي الذين أصبحوا أقلّية في مناطقهم. أمّـا الموارنة فكانوا يزدادون قـوّة. وبخاصّة بعـد تنصّر الأمراء الشهابيين واقتـداء الأمراء اللمعيين بهـم. ومـع بـداية حكم الأمير يوسف الشهابي الماروني المذهب سنة 1770، بـدأ عهـد الشهابيين النصارى.(14).

باختصار الشيخ اسماعيل أبو حمزة هو أول من تسمى «شيخ عقل»، وقد أمكنه إدارة حقبة المشيخة تلك بكثير من الحكمة والاعتدال، وفي ظروف متغيّرة تاريخية صعبة.


المراجع:

1-أمين طليع، مشيخة العقل والقضاء المذهبي الدرزي، المطبعة الأنطونية، بيروت، 1971، ص 74 و 75. كمال جنبلاط، من مقدّمة كتاب “أضواء على مسلك التوحيد للدكتور سامي مكارم”.
2- حنانيا المنير، الدُّر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1984، ص 30.
3- معجم أعلام الدروز ص 91.
4- نائل أبو شقرا، مدارك العقلاء، لا دار نشر، 2018، ص 20.
5- طنوس الشدياق، كتاب أخبار الأعيان، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1970، ص 326.
6- مقابلة مع الشيخ رشيد محمّد أبو حمزه. والشيخ محمّد سعيد أبو حمزه، كما هو مذكور آنفا.
7- نديم الدبيسي، مرستي الشوف تاريخ وذاكرة، لا دار، 2012 ص 228.
8- لائحة إحصاء سكان قرية مرستي لسنة 1910، نسخة مصورة في مكتبتي.
9- يوسف ابراهيم يزبك، أوراق لبنانية، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1983، مج 3 ص 86 و 87.
10- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، منشورات مدرسة الإشراق، عاليه، 2000، مج 2 ص 250.
11- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، 1978، ط 4 ص 40.
12- نايل أبو شقرا، مدارك العقلاء، ن ، م ، ص 36.
13- يوسف خطار أبو شقرا، الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية، لادار، لاتاريخ، ص 88 و 89 حيدر الشهابي، لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1969، ج 1 ، ص 173و 174
14- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، بيروت، ط 4 سنة 1978، ص 40

المُجاهد علي حسين (أبورافع) الملحم

اختلف علي الملحم مع عارف النّكدي محافظ السويداء عام 1948 الذي سعى بادئ أمره لإقفال مضافات الجبل بإيحاء من حكومة دمشق أواخر الأربعينيات، لكنّ النّكدي اقتنع أخيرًا بصواب رأي علي الملحم وأنصاره الذين دافعوا عن قيم المضافة بوصفها مدرسة للرجال!!.
– كان علي الملحم عضواً في الجمعية العربيّة الفتاة في مواجهة مظالم العثمانيين، وواحداً من أركان الثورة السوريّة الكبرى 1925ـ 1927 في الجهاد ضد الفرنسيين وحتى عودة الثوار من المنفى الصحراوي عام 1937(1).
– قطعت حكومة دمشق راتبه عام 1947 وكان مدير ناحية ملح لأنّه رفض مبلغاً مالياً كبيراً (في حينه) كرشوة مقابل الانخراط في صفوف الحركة الشعبية التي جعلت هدفها الهجوم على بلدة القريّا وإذلال سلطان باشا الأطرش…
– رفض إمداد الفرنسييِّن بالقمح عام 1941 عندما كان مديراً لناحية بلدته ملح.
– فجّر الفرنسيون داره ومضافته في ملح عام 1926 لأنه رفض الاستسلام ورافق سلطان باشا والثوار السوريين عام 1927 في المنفى إلى أن اضطُرَّت فرنسا للاعتراف باستقلال سورية ولبنان في معاهدة عام 1936…

أصل العائلة

كُنْية (الملحم) هي كُنية مُسْتَحدَثة لحقت بأبناء ملحم سليمان أبو رافع القادم من لبنان إلى جبل الدروز ـ كما كان يُدعى وقتذاك ـ وبهذا فإنّ أصل الأسرة يعود إلى آل «أبورافع» في الهلاليّة وبعلشميّه من منطقة عاليه(2)، وقد ضاعت في ضباب التاريخ الأسباب التي حَدَت بالرجل ليرحل من لبنان إلى قلعة جندل في جبل الشيخ ويحطّ رحاله في قرية عرى، والراجح أنّ ذلك حدث في النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر أيام زعامة آل الحمدان لمجتمع جبل حوران، ولم تزل قطعة من الأرض التي كان يملكها سليمان أبو رافع في أراضي بلدة عرى تحمل اسم «جورة الملحم» إلى يومنا هذا….
فيما بعد وبُعَيد منتصف القرن التاسع عشر ارتحل آل الملحم ونزلوا في خربة «ملح» التابعة لمنطقة صلخد وكانوا من بين روّاد القرية الأوائل نحو عام 1866، وكسائر عائلات الجبل لم يلبثوا أن انخرطوا في خِضَم معارك بني معروف في مواجهة العثمانيين، وكانوا بالأصل من حَمَلة بيرق ملح في العهد العثماني، وقد استشهد عدد من رجالهم تحته في تلك الفترة قبل أن يؤول البيرق لآل غزالة فيما بعد؛ وكان حسين والد علي الملحم واحداً من شهداء الدروز في مواجهة ممدوح باشا، عام 1896على أثر معركة تلّ الحديد غرب السويداء….

ميلاده ونشأته:

 

وُلِدَ علي الملحم عام 1890 في ملح وعَرَف اليُتْم منذ السادسة من عمره بعد استشهاد والده. وفي عام 1910 شارك في معركة الكفر الأولى في مواجهة حملة سامي باشا الفاروقي العثمانية على الجبل. ودخل مُعترك السياسة شابّاً إذ كان واحداً من بين بعض زعماء الجبل الذين نشطوا في (الجمعية العربية الفتاة) في العهد العثماني للمطالبة بحقوق العرب…
وفي عام 1917 وبسبب من تَعنُّت العثمانيين وسياستهم المعادية لحقوق العرب فقد انضمّ علي إلى الثورة العربية التي قادها الشريف حسين من الحجاز وكان واحداً من فرسان الموحدين الدروز الذين توجّهوا إلى العقبة جنوب الأردن وانخرطوا في صفوف الثوار، وكان من بين فرسان الجبل الذين سبقوا إلى دخول دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش ورفعوا العلم العربي فيها في الثلاثين من أيلول عام 1918 قبل دخول الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللَّنْبي وقبل دخول جيش العشائر الفيصلي إليها..(4).

وفي عام 1923 في فترة التحضير للثورة السورية ضد الفرنسيين أقسم يمين الإخلاص للثورة مع رفاق له في اجتماع سرّي مع سلطان باشا، وقبيل الثّورة عام 1925 تمّ بمسعى من سلطان باشا وفريقه تشكيل خمس لجان هدفها تصفية الخلافات بين العائلات في الجبل من أجل توحيد موقف المجتمع ضد الفرنسيين. ويقول حنّا أبو راشد مؤرخ تلك الفترة أنّ «اللّجنة الرابعة تالّفت برئاسة علي بك طرودي الأطرش وعضويّة علي أفندي الملحم وقاسم بك أبو خير وسليمان بك الاطرش ومركزها (قرية) قَيْصَما»، وكان من الطبيعي أن يلفت نشاط علي الملحم المعروف بجراءته ووطنيّته نظر السلطة الفرنسية وجواسيسها فاعتقلوه وأحضروه مع يوسف العيسمي وأوقفوهما بتهمة العمل ضد الفرنسيين»(5).

السرجان في الجيش الفرنسي ابراهيم علم الدين الحاصباني يستضيف علي الملحم في بيته

 

أوقف الفرنسيّون علي الملحم في السويداء قُبَيل الثورة للتحقيق معه بتهمة التعاون مع سلطان باشا والتأليب ضد الاحتلال (كان سلطان باشا يؤسّس للثورة بالتعاون مع زعماء الجبل الوطنيين). وأثناء التحقيق مع الملحم أُعجب الحاصباني (المتعاطف سرّاً مع فكرة الثورة) أُعجب بجرأته وحِنْكته، وكان الفرنسيّون يعاملون المُتَّهمين الذين يحققون معهم معاملة سيّئة فيزجّون بهم ليلاً في مخزن الفحم أو يعذبونهم بأساليب لم يعتدها رجال بني معروف…
طلب الحاصباني من المُحَقّق الفرنسي أن يُعفى علي الملحم من المبيت في السجن، فرفض المحقّق ذلك. عندها هدّد الحاصباني بخلع رتبته وزيّه العسكري أو يسمحوا له باستضافة الملحم ليبيت عنده في بيته على أن يحضر في اليوم التالي على موعد التحقيق مقابل تعهّد خطّي!!…
ولمّا كانت الإدارة الفرنسيّة في الجبل تخشى من انشقاق الحاصباني وتعاونه مع الحركة المناهضة لهم التي يقودها في السويداء علي عبيد وحسين مرشد رضوان وغيرهم فقد تساهلوا بتلبية طلبه…
وفي استطلاعه لآراء كبار زعماء الجبل ورؤيتهم السياسية للأوضاع وموقفهم من فرنسا قُبيل الثورة عام 1925، سجّل لنا حنَّا أبو راشد رأي علي الملحم الذي قال ما يلي: «يوجد أيّها الأخ في الجبل ما ينوف عن العشرين شخصاً؛ منهم توفيق بك الأطرش وغيره وكلّهم يقدّسون فرنسا الحرَّة لا فرنسا المُستبِدَّة لأنّ أحرار فرنسا الماسون إذا كانوا ماسون حقيقة؛ يجب أن ينظروا إلى إخوانهم الماسون في بلاد مشمولة بانتدابهم وتَنْصُرهم من هذا الظلم اللّاحق بهم من استبداد رجل فرد كَكَربيه»(6).

سلطان باشا ينطلق بالثّورة من القريا

سلطان باشا الاطرش

 

في تلك الأيام من بُعَيد منتصف تموز من عام 1925 وفي السابع عشر منه أعلن سلطان باشا الثورة وانطلق من قريته القريّا جنوباً إلى قرية بكّا يرافقه بضعة عشر فارساً من القريا وقد انضم إليهم من بكّا صياح الأطرش وبهاء الدين ورشراش مراد وجدعان المعاز، ثمّ انتقلوا إلى أمّ الرّمان فباتوا ليلتهم في بيت حمد البربور أحد أبرز أعوان سلطان باشا، حيث وافاهم صبيحة اليوم التالي عدد من فرسان قرية حوط وهم فرحان العبدالله وحسن وحسين وحمّود العبدالله ورافقهم من أمّ الرمان يومها نصّار ومحمّد ومحمود وحامد وحمود البربور وحمد النبواني…(7) ومنها إلى قرية عنز فالمشقوق التي تبعد عن صلخد بضعة كيلو مترات «حيث حلّ سلطان باشا ضيفاً في بيت اسماعيل الحجلي …»(8) فيما توزّع الثوّار في مضافات القرية ومن هناك راسل صلخد التي كانت تحت رقابة من قوّة فرنسية فيها لكونها مركز القضاء؛ غير أن صالح عزيز اتّصل بسلطان سرّاً وأبلغه بلسان أهل صلخد أنهم سينضمّون إلى الثوار في الوقت المُناسب، وفي اليوم التالي انطلق سلطان ومن معه من الثوار القلائل إلى امتان التي تردّد شيخها اليافع آنذاك (علي بن مصطفى الأطرش) الذي لم يكن قد تجاوز السابعة عشرة من العمر فقال له سلطان بحدّة: «اسمع يا بني يا علي! إنّ والدك كان قائد الثوار وعقيد المُحاربين.. ويجب عليك أن تسلك مسلكه وتعطي المثل الأعلى في تصرفاتك لبقية المواطنين». فلم يلبث علي أن شارك هو ويوسف العيسمي في إثارة نخوة أهل القرية فاندفعوا وراء بيرقهم وقاموا بعراضات حماسية في الساحة العامة واتفقوا على اللقاء في اليوم التالي في قرية عرمان، ولا يستطيع المرء أن يتصوّر مدى قلق سلطان حينها على فشل خطواته الأولى في الثورة التي يرتجيها، ويعقد عليها آماله بعد مغادرته امتان حيث لم يصل عدد مرافقيه في تحرّكه ذاك منذ انطلاقه من القريّا وحتى امتان وإلى ملح سوى اثنين وثلاثين فارساً(9).

مَلَح علي الملحم وخليل الباسط: التّصعيد على طريق الثورة

 

مدخل القرية (أي مَلَح) علي الملحم وخليل الباسط وأبلغانا أنّ سَرِية من الحرس السيّار تعدادها نحو مائة خيال موجودة في القرية، ولكي نُرهب هذه القوة ونستثير النَّخوة في نفوس الأهالي، فقد عقدنا في ميدان القرية حَلَبَة سباق وراح بعض فرساننا يتصايحون أثناء الطّراد ويطلقون الرصاص في الفضاء.. فلم تمْضِ دقائق معدودة حتى خرج رجال القرية ونساؤها لاستقبالنا والبيرق (بيرق ملح) يخفق بألوانه الزاهية فوق حامله البطل شهاب غزالة…»(10).
نعم كانت ملح نقطة تحوّل هامّة على طريق الثورة المرجوّة، حيث وصل عدد الثّوار في ملح إلى 250 خيّالاً وفي تلك الليلة بات سلطان مع بعض رفاقه في مضافة خليل الباسط، وفي تلك المضافة يقول سلطان «كتبنا رسائل عديدة لأعيان قرى المقرن الشرقي والشّمالي… وهنالك قرى كثيرة في المقرنين الشمالي والغربي لم يكن اتصالنا بها قد حان، ومع ذلك انضمّ إلينا من أهاليها بعض المحاربين.

عرمان: اندفاع الثورة!

 

كانت ملح قد شدّت أزرَ سلطان باشا بفرسانها ورجالها الذين انتقلوا معه ومع رفاقه الأوائل إلى عرمان وقد وثّق وقائع تلك الأيام بقوله: « في صبيحة يوم 20 تموز وجدنا الأهالي مُحتشدين في الساحة العامة وأصواتهم تهدر بالأهازيج الحربية وفجأة ظهرت طائرتان حربيّتان وأخذتا تحومان فوقنا…»، أسقط الثوار واحدة منها وأُسر طياراها… ومن ثم انطلق الثوار إلى صلخد فحرروها من القوات الفرنسية.

وفي يوم 21 تموز من عام 1925 كان سلطان قد توجّه من صلخد إلى موقع نبع العيّن شمال غرب المدينة ببضعة كيلومترات وكان من نيَّته التخييم هناك ولكن وصول ثوار ملح ببيرقهم، وكان علي الملحم في طليعتهم قد أحدث تغيّيرًا مفاجئًا في الخطة المقررة حيث «أثار موجة عارمة من الحماسة للحرب وملاقاة العدو في الكفر دون إبطاء…» وقد صاح شهاب غزالة من على ظهر جواده بصوته الجهوَري يخاطب سلطان باختصار شديد قائلًا: «يا باشا ما هي بطرق المكاتيب؛ فعلاً تِشُوْفَهْ» واندفع شهاب ببيرق ملح وتبعه سائر الثوار نحو الكفر التي تبعد عن العَيِّن بضعة كيلو مترات… ودارت هناك جوار قرية الكفر معركة خاطفة لم تتجاوز مدتها الأربعين دقيقة تمّ فيها سحق معظم أفراد الحملة الفرنسية. يصف سلطان باشا كيف جرت المعركة فيقول: «رأيت شيوخاً وفتياناً يقتحمون المراكز الدفاعية الحصينة صعوداً إليها من بعض الجهات المنخفضة أو يخترقونها هبوطاً من بعض الجهات المرتفعة لا يحملون بأيديهم سوى عِصِيِّ السِّنديان الثّخينة أو الأسلحة البيضاء المتنوعة التي كان يشاهَدُ لبعضها بريق خاطف عندما تنعكس عليه أشعة الشمس الوهَّاجة وسمعت بأذني نَخْوات مقاتلينا وصيحاتهم المرعبة بعد أن توسَّطوا المعسكر الفرنسيِّ ثم لم أسمع بعد قليل سوى صرخات ألم متأتِّية تنبعث من أولئك الجنود التعساء الذين مالت على رقابهم السيوف الباترة وهوت على رؤوسهم وأجسادهم الفؤوس القاطعة، ولم يكن ضبّاط الحملة وجهاز القيادة فيها أسعد حظاً وإنَّما لقَوْا المصير نفسه، وكُتبت النجاة لأفراد قلائل تمكنوا من الوصول إلى قلعة السويداء بكلّ صعوبة.
وكانت الخسائر بالأرواح أربعةً وخمسين شهيداً ومن بينهم خليل الباسط وشهاب غزالة حامل بيرق ملح…

علي الملحم في موقع أحد أركان الثّورة السورية الكبرى

 

وعندما صُعِق الفرنسيون بعد هزيمتين متتابعتين في معركتي الكفر والمزرعة عمدوا إلى تعيين قائد لحملة فرنسية جديدة هو الجنرال «غاملان» وبعثوا بالفرق العسكرية التي استقدموها من فرنسا والمغرب العربي والسنغال ومدغشقر والهند الصينية إلى محطّتي أزرع ودرعا بقصد التجمّع في سهل حوران لغزو الجبل(11). وفي تلك الفترة من تصاعد الحماس الوطني لتحرير سورية ولبنان من الاحتلال الفرنسي يقول سلطان باشا: «أمّا إخواننا في جبل لبنان ووادي التيم وإقليم البلّان والغوطة فقد شاركت أكثريتهم الساحقة بالثورة وجدير بالذكر أنّ الطائرات الفرنسية كانت تواصل غاراتها المدمّرة على القرى التي كان الثوار يتوافدون إليها لعقد الاجتماعات فيها بالإضافة إلى غاراتها اليوميّة على مدينة السويداء ومواقع المرابطين حول قلعتها المحاصرة…».

وردّا على التعبئة الفرنسيّة تلك فقد انعقد مؤتمر ريمة الفخور الذي حضره ممثلو الحركة الوطنية السورية في دمشق ومن كان يصحبهم من المجاهدين وعدد كبير من أعيان الجبل وقادة الرّأي فيه، وجمهور غفير من المواطنين…
في ذلك المؤتمر أُعلِنَ عن تشكيل أركان قيادة الثورة وكان المجاهد علي الملحم واحداً منهم وهم حمد عامر وفضل الله هنيدي ومحمّد عز الدين وعقلة القطامي وسليمان نصار وحسين مرشد رضوان ويوسف العيسمي وعلي الملحم».
وفي معركة المسيفرة كان علي الملحم في طليعة الثوار الذي اقتحموا الأسلاك الشائكة التي نصبها الفرنسيون حول معسكرهم هناك، حيث استُشهد إلى جانبه أخوه ابراهيم واثنان من أبناء عمه هما مهَنَّا وهايل الملحم كما شارك بعدها في حملة الإقليم الأولى التي ذهبت إلى لبنان تحت قيادة زيد الأطرش شقيق سلطان حيث قاتل الفرنسيين في معارك أهمها معركة قلعة راشيّا وحاصبيّا ومرجعيون وكوكبا وسواها.

وعندما قَدِمت حملة الجنرال غاملان الأولى أواخر أيلول من عام 1925 لِفَكّ الحصار عن القوة الفرنسيّة المحاصَرة في قلعة السويداء كان علي الملحم في طليعة المشاركين في قتالها وكذلك كان الحال في أوائل تشرين الأوّل إذ كان الرجل بين المجاهدين في معارك القتال التي استمرت سبعة أيام في عدّة مواقع منها عرى والمجيمر وتلّ غسان ورساس؛ حيث دارت معركة رهيبة لثلاثة أيام مُتتالية لم يذق الفرنسيون خلالها طعماً للنوم أو للراحة ممَّا اضطرهم إلى التقهقر باتجاه كناكر غرباً مُتَخَلِّين عن خطتهم بالزحف شمالاً نحو السويداء ودخول قلعتها الحصينة. وفي كناكر تمكن «خيّالتنا من ردّ الحملة على أعقابها وكبدوها خسائر فادحة بالأرواح وغنموا خيول قتلاها التي شردت في السهول المجاورة. وفي تل الحديد والمزرعة وفي الثّعلة جنوب غرب المزرعة تكبّد الفرنسيون خسائر كبيرة وعاد غاملان في النهاية دون أن يحقِّق المُهمّة المُكلّف بها وهي احتلال مدينة السويداء والثّبات فيها.
ويشير سلامة عبيد أنَّ علي الملحم وقّع على منشور ينص على تقوية الثورة وتنشيط عمليات الثوَّار وتحميل المسؤولية لِمَن يُقصّر عن المساهمة في ذلك، وكان المندوبون يمثّلون قرى عرمان وملح ومتان والهويَّا وأبوزريق وتلّ اللَّوز والحريسة وقيصما (12).
وفي ربيع عام 1926 اتَّخذ الثوار قراراً بأن ينقسموا إلى قوّتين: الأولى في المنطقة الجنوبية بقيادة سلطان باشا الأطرش، والثانية في منطقة اللَّجاة بقيادة الأمير عادل أرسلان، وكان علي الملحم ضمن المجموعة الأولى (13).جابر.

الثورة السورية الكبرى.. يوم الخلاص من المُستعمِر الفرنسي‎

علي الملحم عضواً في اللجنة العليا للإشراف العام على الثورة

ولما انعقد مؤتمر خازمة في الثاني من تشرين الأول عام 1926 تقرّر تأليف لجنة للثورة برئاسة القائد العام سلطان باشا الأطرش، تُدعى اللجنة العليا للإشراف العام على الثورة والقيام بمهام شؤونها السياسية والمالية والإدارية ومتابعة شؤونها العامة، وأعضاؤها «عبد الغفار باشا الأطرش عبد الرحمن بك شهبندر ونسيب بك البكري والأمير عادل أرسلان واسماعيل بك الحريري وصياح بك الحمود (الأطرش) ومتعب بك الأطرش وسعيد بك حيدر ومصطفى بك وصفي ومحمّد بك عز الدين وسليمان بك نصار وعلي بك الملحم سكرتيرها نزيه بك المؤيّد ومعاونه علي بك عبيد. على أن يبقى الحق للغوطة وسائر المناطق الثائرة أن تضيف مِنْ قِبَلِها بحسب نسبة الأعضاء الموجودين عن الجبل (14)..

وفي الحملة التي قادها أندريا على المقرن القبلي شارك علي الملحم في معركة تل الحبس جنوب شرق صلخد في 4 حزيران 1926 كما اشترك في معارك المقرن الشرقي. وممّا يجدر ذكره أنّ القادة في الثورة السورية الكبرى كانوا يقاتلون في طليعة صفوف المقاتلين…
وفي معركة قيصما شارك مع أبناء عمّه حسن وسليم وخزاعي الذي استشهد في تلك الموقعة وبحكم كونه من قرية ملح المحاذية لبادية الأردن حيث مواطن العشائر الأردنية التي كانت لها علاقات متبادلة مع بني معروف، وهو أحد وجهائهم البارزين فقد كان يقوم بمهمات التواصل مع تلك العشائر لمسائل تخص حماية ظهر الثورة وتأمين سند لها، ومنطقة آمنة للثوار الذين كانت تصلهم إمدادات السلاح والذخيرة والمساعدات عبر فلسطين…(15).

وعندما توافق الإنكليز مع الفرنسيين على محاصرة الثورة وقمعها انتقل علي الملحم مع سلطان باشا ورفاقه إلى موقع الأزرق وهي أرض من ممتلكات جبل الدروز قديماً وهناك واجه الثوار المضايقات من جانب البريطانيين الذين تشدّدوا في مساعيهم لإجبار الثوار على الاستسلام لفرنسا، وفي تلك المنطقة الصحراوية انتشر مرض الملاريا بين الثوّار وأُسَرهم ومات الكثير من الأطفال (16).

علي الملحم إلى جانب سلطان باشا في المنفى الصّحراوي

 

ومع انتقال القائد العام سلطان باشا إلى المنفى الصحراوي في شمال غرب نجد من الأراضي السعودية كان علي واحداً من وجهاء الثوّار الذين أصرّوا مع قائدهم على قبول المنفى ومتابعة النضال السياسي حتى تنال البلاد استقلالها، وهناك في وادي السرحان عانى المجاهدون شظف العيش وقسوة مناخ الصحراء، يقول سلطان باشا: «كان علينا أن نتآلف مع المناخ الصحراوي في حياتنا اليومية، وأن نعيش متاعب البادية وشقاءها… وأكثر ما كنّا نعاني في الفصول الانتقالية (الربيع والخريف) رياح السّموم الهوجاء التي تهبُّ عادة من الشرق والجنوب الشرقي فتبدّل من معالم الأرض وتغدو الرؤية خلالها صعبة وكذلك التنفس بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء والتي تكتسح خيامنا وتسدُّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان…

ويصف سلطان باشا موقع المخيَّم في النبك بوادي السرحان فيقول: «في أواخر تموز من عام 1927 وجدنا الأرض صحراوية مقفرة ما خلا نبع ماء عذب يسمّى «جوخة» وبضعاً من أشجار النخيل تضفي على المنطقة جمالاً طبيعياً، فكان نزولي في الجهة الشرقية من المكان حيث جاورني أقاربي وفريق من المجاهدين ونزل في الجهة الغربية منه رفاقنا الآخرون، بينهم:
الأمير عادل أرسلان ومحمّد عز الدين الحلبي وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم.. والمسافة الفاصلة بين الحيين لا تزيد عن ثلاثمائة متر ولقد آوينا أنفسنا في الخيام القليلة التي كانت بحوزتنا ثم اضطُرَّ الكثيرون منَّا إلى استخدام قطع «اللِّبِن» الذي صنعوه من التراب لبناء مساكنهم البدائية الصغيرة وجعلوا سقوفها من أشجار الحَور والقصب» (17).

ولكن الثوار في منفاهم لم ينقطعوا عن التواصل بالحركة السياسية في الوطن وكانت تصلهم الصحف التي تنقل أحداث الوطن بين حين وأخر، ويزورهم صحفيون أجانب وعرب وكبار السياسيين السوريين للتشاور في المستقبل السوري مع القائد العام للثورة سلطان باشا الأطرش وأركانه، وفي تلك الأثناء نشأت صداقة شخصية بين علي الملحم والمجاهد شكري القوتلي الذي سيصبح رئيساً للجمهورية فيما بعد…
وبسبب المضايقات في الفترة اللاحقة لنزولهم في الأراضي السعودية فقد سمحت السلطات الأردنية بلجوء الثوار إلى أراضيها كلاجئين سياسيين في داخل إمارة شرق الأردن، كما كانت تُدعى آنذاك، وبعيداً عن الأراضي السورية. وقد نزل علي الملحم في مدينة السّلط إلى جانب عدد من المجاهدين منهم: حسن وعبد الكريم عامر وحسين مرشد رضوان وقاسم أبو خير ومحمّد النبواني ويوسف العيسمي وغيرهم..

وفي عام 1934 كُلَّف علي الملحم وعبد الكريم عامر بتحرير جواب مشترك إلى إبراهيم صافي من قرية ملح وسلمان البَكفاني من قرية عرمان المغتربَيْن في بيونس أيرس في المهاجر الأمريكية حيث بعثا بمبلغ من المال لمساعدة الثوار المنكوبين وكان الجواب مشفوعاً بوصل استلام مبلغ 10 ليرات إنكليزية من إجمالي المبلغ الذي هو 50 ليرة إنكليزية…
وبتكليف من سلطان باشا بتاريخ 28 نيسان عام 1937 وبعد توقيع معاهدة عام 1936 التي تنصّ على اعتراف فرنسا باستقلال سورية ولبنان وبنتيجة صدور قرار العفو عن الثوّار كان علي الملحم واحداً من أعضاء اللّجنة المكوّنة من عُقْلة القطامي وعلي عبيد وعبد الكريم عامر وقاسم أبو خير وسلمان وزيد طربيه بمهمة استقبال الوفد الشامي في مدينة عمان والمؤلّف من: صبري العسلي وفايق المؤيد العظم وغيرهم ثم اصطحبوهم إلى مقرّ سلطان باشا في مدينة الكرك الأردنيّة حيث سلّموه أوراق مرور المجاهدين للعَوْدة إلى سورية….

إبراهيم الحاصباني يزوّج علي الملحم إحدى بناته

 

في عام 1937 فُجِعَ المجاهد علي الملحم بوفاة زوجته أم أولاده ورفيقة جهاده السيّدة شمخة بنت هلال محمّد الملحم التي توفيت في المنفى ودُفنت في عمّان، ولما عاد علي مُتَرَمِّلاً بعد عودة الثوار وقائدهم إلى سورية فقد طَلب إليه إبراهيم الحاصباني أن يزوره في بيته في السويداء، وعند استقباله عزّاه بزوجته المتوفّاة وقال له: عندي ثلاث بنات، والدتهنّ مهيبة الريّس من عاليه، اخترْ واحدةً منهنّ لتكون زوجة لك…
قال علي العائد من المنفى خالي الوفاض من المال والمَتاع وكان الفرنسيون دمَّروا داره في ملح:
والمَهر ياعم؟
قال الحاصباني: مسدّسك هذا، وأشار إلى المسدس الذي يحتزم به.
ناوله علي المسدس، واستدعى الحاصباني عدداً من المشايخ قاموا بعقد قران علي على «غازية» ابنة الحاصباني على سنّة الله ورسوله…
أركب علي عروسه الفتاة غازية على جواده وانطلق بها إلى ملح ليقيم عرسه هناك!!..

علي الملحم شاعر شعبي وفارس وصاحب مواقف ظريفة

في مِحنة المنفى لم ينسَ الثوّار همومهم الحياتية والثقافية والسياسية بل ظل القائد العام والثوّار على صِلة بالحركة الوطنية في الداخل وكان وجودهم في المنفى يشكّل عامل ضغط على الفرنسيين ليعترفوا أخيرًا بحق البلاد في استقلالها…

ومن طرائف تلك الأيّام أنّه في 12 تشرين الثاني من عام 1930 وبينما كان المجاهد علي عبيد يقوم بمهمة في عمّان، وصله نبأ مُفاده أنّ كلبَه المسمّى (حَمَر) قد حدث له أن أُصيب برصاصة أطلقها عليه أحد الثوار ليلاً في المخيّم ظنّاً منه أنّه وحش، فبعث برسالة مُداعَبَة مُسَجّعة مشفوعة بقصيدة إلى علي الملحم في مخيّمهم في الصحراء يتمنّى فيها السّلامة لكلبه المدعو (طربوش) راجياً ألّا يُصيبه ما أصاب المسكين حَمَر، منها: «… هذا وإن قُدِّر لنا الظَّفَر ورجعنا قبل شهر صفر فالأمل أن تديروا بالكم (أي تهتمُّوا) على الغَفَر لأنّي سمعت أنّه فقد إحدى رجليه فالأمل ألّا تكمّلوا عليه لأنّني أميل إليه، كونه خادم أمين وليس من المشاغبين ولا من الطامعين وكل ما أعلمه عنه أنّه ودوعٌ قنوعٌ وتابعٌ غير متبوع فما ذنب هذا الفقير، هل نهب «شي» بعير أم تعدّى على الغير ولكنه مأمول أنّه أكل نصيبه وهو مكتوب عليه وعلينا معاً أن لا يبقى عندنا شيء صحيح سوى الرّيح والشيح (نبات صحراوي مُعمر طبِّي طعمه مُرٌّ ولا يؤكل) هذا عسى طربوش ألّا يصيبه ما أصاب زميله حَمَر..».

فأجابه علي الملحم بقصيدة منها:
يا علي قلبي على مثل الجَمر
ما منعرف كيف تالي ها العمر
بعد ما كان الزمن معنا ملِيح
ما بقي يا غير طربوش وحَمَر
ومن شعره هذه القصيدة المؤثّرة من فن «الشّروقي ـ نوع من الشعر البدوي» ويدعونه في جزيرة العرب بـ (المسحوب)، بعث بها إلى صديقه الشاعر سليم الدّبيسي من قرية عرمان يشكو فيها ما يعانيه من متاعب ويفصح عن حنينه للديار في الوطن وكان كلاهما يقيمان في المنفى في الصّحراء، يقول:
أمس الضّحى خاص الخَواوِير شدِّيت
حُـــرٍّ وَلَــدْ حُـــرٍّ طـويــل السنامِ(18)
الكور عندي خاص مالي أنا اشريت
والميركي جتني هَدو من ابن لامِ(19)
خُــــرج العقيلي مكلّفَهْ بالتصـــاميـت
شــــاريْـهْ من بَغداد مَنْوة مرامي(20)
ورْكابها مِـــن مَعْـــدنٍ خاص خَزّيت
قوم اعتلي عَ الفور ودِّي كلامي
يا هلال ما مِنْ بُعْد يا قُرْب ما ابـديت
طارف عَرَبْنا ما تعوز الطّعامي
يإنْحَرْ عميمَك يا ولد نِعْم مــا اطــريت
وِلْد الدّبيسي صِجّْ ما بو اتّــهامي(21)
يا عَـم لـولا ضيقة الصّدر مـــا جيـت
والـ غيركم ما ظنّ يشفي مرامي
سَليم من حَــرّ الهَجر اَنا عايف البيت
……الحُر خــاب ويرتعون الــرّخامي(22)
ومن الزَّعل روس العوالي أنا اشفيت
…..وانْحَرّ كبـدي واوجس الـدم عامي(23)

بين ماء المَعِيّ وبين ماء القَصر الجمهوري!!

في أيام الثّورة على الاحتلال الفرنسي عامي 1925 ـ 1927 وأثناء تنقّلات الثوار في مواقع القتال من مكان لآخر كانوا يضطرون للشّرب من مياه الجَمع في البرك والغدران ذات المياه الآسنة، ومنها ماء غدير «المَعيّ» الواقع شرق قرية «اسعنا» التي تقع على الحافة الشرقية للجبل وعلى مسافة نحو عشرة كيلو مترات منها في داخل بادية «الصفاة» الشديدة الوعورة. وحدث مرّة أنَّ الثوار قد مرّوا بذلك الغدير أواخر الربيع وكان ماؤه الآسن مُغَطّى بالجراد المَيْت وكانوا في عطش شديد فامتنعوا عن الشرب، فما كان من سلطان باشا إلّا أن تقدَّمهم وشرب من ذلك الماء، فتبعه في ذلك الثوار وَشربوا على مضض…!

وبُعيد الاستقلال عندما تشكلت أوّل حكومة وطنية عام 1946 في عهد الرئيس شكري القُوَّتْلي ذهب وفد من زعماء الجبل برئاسة سلطان باشا الأطرش إلى دمشق لتقديم التهاني. عند اللقاء في مكتب الرئاسة قدَّموا لهم شراباً من عصير الليمون المُشعشَع بالثلج فما كان من علي الملحم إلّا أنْ رفع كأسه بين الحاضرين وقال: «وين ماء المعيّ من ها المَيّ» فقال القوَّتلي:
ــ إي والله!..، عندها قال سلطان باشا:
ــ لو لم تشربوا من ذاك الماء، لما شربتم من هذا الماء.

علي الملحم يزور رئيس الجمهوريّة ويثير غَيْرَة وجهاء دمشق

الرئيس شكري القوّتلي

في مناسبة اقتضت زيارة تهنئة للرئيس شكري القوّتلي استدعى المجاهد علي الملحم رفاقه في الجهاد من بلدة ملح، واستأجروا حافلة وصلت بهم إلى القصر الجمهوري في دمشق، وعلى مدخل القصر استوقفهم الحرس فقال علي لرئيسهم: أبلغ الرئيس أن علي الملحم ووفداً من مجاهدي ملح يقصدون زيارتكم، وأَبلِغه أن هؤلاء الذين جاؤوا من أقصى الجبل يستحقون أن ينزل الرئيس كم درجة ليلاقيهم…
استكبر رئيس الحرس التوصية الثانية وقال لعلي:
هذه لا أستطيع أن أبلغه إياها.
قال علي: أبلغه إياها، وقل له أنّها من علي الملحم.
وبالفعل أوصل رئيس الحرس التوصية للقوّتلي الذي لاقى الوفد خارج قاعة الاستقبال مرحّباً بهم، وهنا استغرب العديد من وجهاء دمشق الذين كانوا في القاعة تصرف الرئيس الذي لم يستقبلهم بالحفاوة التي استقبل بها وفد ملح، وتجرّأَ أحدهم وصارح الرئيس بذلك أمام الحضور ابتسم القوّتلي والتفت إلى صديقه صديقه علي الملحم وقال له:
«أبو نايف هؤلاء وجهاء دمشق، حدّثهم عندما كنّا نجوع في الصحراء وهم يأكلون البامي في الشام ويولمون الولائم للضباط الفرنسيين، قل لهم قصيدة «البامي» عندما زرناكم وأخذنا لكم علب الراحة بالفستق شو قلت لنا وقتها. فوقف علي وحدثهم بمعاناة الثوار في المنفى وأنشدهم قصيدته التي سبق أن أسمعها للقوّتلي في الصحراء… وفيها يقول:
شو هـــا العيشي الرّدِيِّي
صبـح وظـــهـر وعشـــــيِّي
الصـبحـيـي عَ الكثايـات
…….ومن غير عشا عـــم نْبــات
لا السّمنات ولا الدُّهنات
…….بالنّـبــــك تـــلاقـي أوْقـــيي
أنْجَـــقْ بـــلاقي الدّامي
وشــــوف السمن بمنـــامي
واللي عَ بيــــاكل بامي
شــــو همّــو مـــن القضيّي
تركتونا بـــها الحالــي
ومــــا حـــدا فيـــنا مْبــالي
وفـقــدتونـــا بالتــــالـــي
بعلبـــة راحـــة مـحشــيِّي

عندها استحيا الوجيه الدمشقي المحتج وقال: إي أخي، لا تؤاخذونا، معكم حق.

علي الملحم يرفض الرَّشاوى والفساد، فيزدري الوظيفة الحكوميَّة

في عام 1940 عُين علي الملحم مديراً لناحية ملح
– وفي عام 1941 جاءه ليوتنان فرنسي وطلب منه الموافقة على بيعه كميّة من القمح لتصديرها إلى فرنسا فاستمهله ليستشير وجهاء الناحية الذين امتنعوا عن ذلك، وكان علي بوطنيته يدرك ما سيكون عليه موقف الوجهاء، وبهذا تمّ رفض تقديم الكمية المطلوبة للفرنسيين. استاء الليوتنان وقال «إنِّي أسمع صراخ الأطفال الجوعى في باريس يستغيثون طالبين الخبز…

فأجابه علي من فوره: إنِّي أسمع صراخ أطفالنا الجوعى هنا، جوار بيتي، فخرج الليوتنان غاضباً واتّجه إلى سيارته يتبعه مرافقوه وقد نسي حقيبة نقوده؛ فما كان من علي إلّا أن أمر ابنه واسمه «عبدو» قائلاً له: يا إبني يا عبدو، خذ ها الممحوقة ـ وأشار الى الحقيبة المتروكة محل جلوس الليوتنان ـ وناوله إياها. وبقي في مضافته ولم ينهض لوداع الليوتنان وفريقه من العسكر الفرنسي…
– في عام 1947 قبيل انتفاضة الحركة الشعبية في جبل الدروز؛ كما كان يُدعى آنذاك؛ جاءه أحد قادة تلك الحركة التي قامت ضد الأطارشة (وكان لها بعض المبررات الواقعية)، لكن تحريض حكومة دمشق حرفها عن أهدافها الاجتماعية؛ ممّا حوّلها إلى سفك الدماء، وإلى حالة من حرب أهلية لا مبرر لها داخل مجتمع الجيل.

– رفض علي الملحم مبلغ خمسمئة ليرة سورية كرشوة له مُرسلة من جميل مردم ــــ وزير الداخلية؟ــــ من دمشق آنذاك كثمن لانضمامه إلى تلك الحركة، فكان عقابه قطع راتبه لمدة خمسة أشهر، ممّا أثار غضبه ودفع به إلى ترك الوظيفة.عِفَّةً منه.
وعندما تحرك الشعبيون للهجوم على القريا وقف علي وأهالي بلدة ملح ضدهم، وكان قد رفض تسَلُّم رشوة مالية من أحد كبار الشعبيين في الجبل للانضمام إليهم، وقيما بعد فقد ابنه هلال الذي قضى نحبه في وقعة بكّا الدامية تلك الوقعة الفاصلة التي هُزم فيها الشعبيون وبذلك خابت آمال حكومة دمشق التي كانت تهدف لإذلال سلطان باشا كقائد عام للثورة السورية الكبرى عام، 1925 تلك الثورة التي أسست لتحرير سورية من الاحتلال الفرنسي، وعندما وصلت جنازة ابنه هلال وجنازة الشاب حمّود الحلح بعد الوقعة أكبّ علي على إحدى الجنازتين متأثراً لفقد ولده الشاب، قالت له إحدى الباكيات «هذه ليست جنازة ابنك ياعم» فقال لها مستدركاً: «كلهم أولادي»….

جميل مردم وزير الداخلية

– أمّا عندما أقدم الدكتاتور أديب الشيشكلي على إرسال الجيش السوري إلى الجبل في هجمة عسكرية ظالمة؛ وضع فيها الجيش ضد شعبه الذي طالبه بالديموقراطية، لكن الشيشكلي كان يهدف إلى الحفاظ على كرسي الحكم؛ وهنا وقف علي الملحم وِقفةً شجاعة وقاوم تلك الخطوة غير العاقلة التي أدت إلى سقوط نظام حكم الشيشكلي نفسه في النهاية.
توفي المجاهد علي الملحم في كانون الثاني 1974 في طقس مُثلج عاصف قُطِعت فيه الطُّرقات وكان له مأتم متواضع حضره أهالي بلدته ملح فقط، وصادف في تلك الفترة إلغاء الأسبوعات المُكْلِفَة تطبيقًا لمنشور سلطان باشا ومشايخ العقل، حيث كان يجتمع المعزّون ثانية بعد أسبوع من حصول الوفاة (وفيها كانت تُنحَر الذبائح وتُقام الولائم ويضطر ذوو المتوفّى إلى الاستدانة أحيانا في الإنفاق على المناسبة..)

وبعد أشهر توفّي المجاهد يوسف العيسمي رفيق علي الملحم في جهاده، حضر سلطان مأتمه في بلدة امتان وانتقل ليعزّي آل الملحم في ملح، خاطب سلطان باشا الشيخ أبو حمد محسن الملحم معاتباً «لمَ لم تقيموا مأتما يليق بالفقيد؟» قال الشيخ:
«يوم الوفاة كانت الطرق مقطوعة، وبعدها التزمنا بتحريم الدعوة إلى الأسبوع».
عندها قال سلطان شهادة صريحة في الفقيد «إنَّ علي الملحم لم يكن من رجال الثورة فحسب، بل من المخططين لها»…
رحم الله المجاهد علي الملحم فقد كان واحداً من قادة المجاهدين في الثورة السورية الكبرى، أولئك الرجال الأفذاذ الذين حرروا البلاد من المحتل دون أن يطمعوا بكسب منصب ولا بتحصيل ثروة…وفي ذلك الجهاد الحقُّ..


المراجع:

1ـ جابر، محمّد،أركان الثورة السورية الكبرى، مكتبة نهى، ص 263.
2ـ مقابلة مع فيصل الملحم، (نجله) في 13 /9 /2019.
3ـ البعيني، حسن أمين، سلطان باشا الأطرش، مسيرة قائد..، ص 46.
4ـ جابر، محمّد، م. س، ص 264.
5ـ ذكريات المجاهد علي عبيد، مخطوطة، ص 8.
6ـ أبو راشد، حنَّا، جبل الدروز: حوران الدامية، ط2، 1961، ص 239.
7ـ مذكرات سلطان باشا الأطرش، ص 94.
8ـ أحداث الثورة السورية الكبرى كما رواها قائدها العام..، ص 100
9ـ مقابلة مع العقيد سلامة الملحم، شريط مسجل بصوت سلطان باشا الأطرش.
10ـ أحداث الثورة..، م س، ص 130.
11ـ أحداث الثورة..، م س، ص 101.
12ـ سلامة عبيد 379
13ـ جابر، محمّد، م س، ص 268.
14ـ بعيني مسيرة قائد، ص 325.
15ـ ذكريات المجاهد علي عبيد، مخطوطة، ص 30.
16ـ مذكرات المجاهد صياح الأطرش، ص 111.
17ـ أحداث الثورة السورية الكبرى…، م س، ص 333.
18ـ الخواوير: نوع من الإبل السريعة المنتقاة لقطع مفازات الصحراء وتسمّى بـ “الذّلول الحرّ”
19ـ الكور: الرحل يوضع على ظهر الجمل بمثابة السرج للجواد. الميركي: قطعة من وبر الإبل أو الصوف من أدوات الرحل، هَدو: إهداء، ابن لام: كناية عن قبيلة بني لام وهم قوم من العرب في جنوب العراق.
20ـ خُرج العقيلي: العقيلات: قبيلة عربية موطنها الأصل في الموصل واشتُهِر رجالها بالسفر والاتجار وصنع الأخراج، والخرج: قماش منسوج من الصوف أو وبر الإبل يوضع على ظهر الراحلة ويُسْدَل من عن يمين وعن شمال له فتحة من كل جانب على شكل محفظة مفتوحة يضع فيها المسافر حاجياته من طعام وغيره.
21ـ الرّكاب: قطتان من المعدن من عن يمين وشمال الراحلة معلقتان بالشداد يضع الراكب قدمه فيها عندما يهم باعتلاء ظهر راحلته. خزّيت: اخترت.
22ـ انْحَر عميمك: اذهب إلى عمك ويقصد به صديقه الشاعر المجاهد سليم الدبيسي من بلدة عرمان. صجّ: كلمة بدويّة بمعنى صدق.
23ـ مَرامي: مُرادي وغايتي.
24ـ الرّخامي: طيور الرخم، وهي طيور ركيكة تستدفها الصقور.
25ـ العوالي: التلال. انْحَرّ كَبدي: تملّكني الغيظ. أوجس الدم عامي: اغتلى دمي غيظاً وغضباً ممّا يجري من أحداث…

 

الشّـيخ نجيب علم الدين

إنّ عالـم الشيخ نجيـب علـم الـدّين، لـم يكـن يخشـى تيـهاً ولا ضياعاً. فنهجـه إنّ العقـل هـو مـن البدايات واللاّنهايات، عـقـل طحنته التجـارب فأثقـلتـه وصقـلتـه، لتجـيء أعماله تـرجمة لمسيرة حياتـه، مـن حيث ارتكازها على خـطّ بيـاني قـويـم. إذ تكـوَّن مفهومه الوطني على ضوء ثقافته واختباره العلمي والعملي، ونتيجة لصفاء عاطفته وأصالة مواطنيّته التي جعلت مفهـوم الوطنيّة يـرتقي في نفسـه إلى حـدّ جعلـه يتحـرّر مـن رِبقـة الطائفية والمذهبية، والترفّـع عـن الصغائر التي لا تـزال تقـوّض مقـوّمات الحيـاة الاجتماعية والعامّـه في بـلادنا.

مولده

وُلـد الشـيخ نجيـب علـم الـدّين في بلـدة بعقلين في الشوف عـام 1909. والـده القاضي سليـم علـم الـدين، ووالدته وداد علـم الـدين. تلقّى دروسه الابتدائية والتكميلية والثانوية في مـدارس بعقلين. انتقل بعـدها إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وتخـرّج منها سنة 1928، حاملاً شهادة بكالوريوس في الهندسة والرياضيات. بعـد ذلـك انتسـب إلى جامعة أكسـتر في مقاطعة ديـفـون في العاصمـة البريطانية لنـدن، بموجب منحـة دراسية مـن مؤسّسة British Council حيث أتـمّ الدراسات العليـا وحصل على شهادة ماجستير في أنظمـة التعليم الإنكليزي والرياضيات.

الحياة المهنية

عـد تخـرّجه مـن الجامعة الأميركية في بيروت، عمـل الشيخ نجيب في تلك الجامعة، بتـدريس الطلاب العـرب. وفي العـام 1933، غـادر لبنان إلى إمـارة شـرقي الأردن، وعمـل بتـدريس الهندسة والرياضيات في الجامعة الأردنية. التحق بعـدها بوزارة التربية الأردنية وعيّـن بوظيفة مفتّـش. فكان يتنـقـّل بين مختلـف مـدارس الإمارة لتقييـم أحوالها وسـبل تطوّرها. ونظـراً لحسـن إدارته وجـدّيته وتفانيه في العمـل والتنظيـم، تـمّ تعيينـه مفتّـشاً عـامّاً للجمـارك والصناعة والتجـارة. واسـتمرّ في التقـدّم والتـرقّي الـوظيفي. فعيّـن مفتّـشاّ في إدارات حـكومية عـديدة. وفي العـام 1940، تولّى مهام رئيس سكرتارية مجلس الوزراء الأردني، في عهـد رئيس مجلس الـوزراء تـوفيق باشا أبـو الهـدى، ورافقه إلى لنـدن، بصفة سكرتيـر للـوفـد الأردني لمؤتمـر الطاولة المستديرة، الذي انعقـد في لندن لبحث قضية فلسطين. كمـا ربطتـه علاقـة صـداقة مـع الأميـر عبـد اللـه بـن الحسين، أميـر شـرقي الأردن الذي منحه وسام النهضة الأردني، وعلاقة صداقة أيضا مع وجهاء العشائر والقادة في الإمارة.

في العـام 1942، عـاد إلى لبنان للعمـل في شـركة مـوارد الشرق الأدنى، التي كان قـد أنشـأها مـع عبـد الله سلام وشارل سـعـد وبإدارة شـقيقه سليمان، وقـد حقّقـت هـذه الشركة نجـاحاً كبيراً فحـاز نجيب وشقيقه على وسام بريطاني رفيـع تقـديرًا لهمـا. وأسّـس أيضاً شركة التحسينات الزراعية. ومـن نجـاح إلى آخـر. عُيّـن نجيب في العام 1951، في المجلس الاقتصادي، ومَثّل لبنان في مـؤتمرات دوليه عـديدة. وانتُخب عضواً ثـمّ رئيساً للمجلس الوطني لإنمـاء السياحة وعضواً في المنظمة الدولية للطيران “إيـاتا”.

شـركة طيـران الشـرق الأوسـط

في العـام 1951، انتخـب الشيخ نجيب علم الدّين مـديراً عـاماً لشركة طيران الشرق الأوسـط (MILLE EAST AIR LINES) M.E.A. ومـن ثـم رئيساً لمجلس إدارتها، والتي كانت قـد تأسست في العام 1945. فعمل على تعـزيـز وتطوير الشركة، التي أصبحت في سنوات قليلة واحـدة من كبريات شركات الطيران في العالم، بفعـل أسطولها وطاقمها، ومحطّاتها العـديدة في معظـم دول العالـم. واستمرّ في منصبه حتى العـام 1977، ومن ثـمّ رئيساً فخريّاً للشركة مـدى الحياة. وتُعتَبر فتـرة إدارته لشركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجويّة اللبنانية، بالفتـرة الذهبيـة.

كانت أسهـم شركة طيران الشرق الأوسط مملوكة من قبل مساهمين لبنانيين، من بينهم رئيس الحكومة الأسبق صائب سلام والسيد فـوزي الحص وغيرهما وشركة الطيران الأميركية “بان أميركان Pan Am . فقامت شركة الخطوط الجوية البريطانية BOA، بتاريخ 21/12/1954، بشراء أسهم شركة بان أميركان مع العلم بأن شركة طيران الشرق الأوسط، تـدين بتاسيسها وتطورها إلى شركة Pan Am، لمـا قـدمته مـن دورات تدريب ومساعدات تقنية أدت إلى تقـدم الشركة وتطورها.

في العام 1955، وصلت شركة طيران الشرق الأوسط إلى قمة نجاحها، حيث تـم شراء طائرات حديثة وتوسعت رحلاتها إلى البلدان العربية وأوروبا. وجرى تأسيس شركة تحت اسم “شركة خـدمات الطائرات في الشرق الأوسط” “MASCO”. هـدف هـذه الشركة، تشجيع بيع الطائرات البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتقديم أعمال الصيانة للطائرات وساعدت شركة الطيران البريطانية BOAC على تدريب الموظفين، وكان الرئيس صائب سلام الرئيس التنفيذي لشركة طيران الشرق الأوسط MEA. فقدم استقالته من هـذا المنصب، بسبب تضارب المواقف السياسية، وتأييـده لسياسة الرئيس جمال عبد الناصر ورفضه وقوف الإنكليز ضد سياسة عبد الناصر. وعندما حصلت أحداث سنة 1958، في لبنان، توقفت الرحلات، لكن من خلال علاقات الشيخ نجيب مع الإنكليز استطاع الحصول على مساعدات مالية وتقنية، واستمرّت الشركة في العمل.

في نهاية صيف سنة 1952، واجهت شركة طيران الشرق الأوسط، أزمـة سفر الحجاج من بيروت إلى مكّة المكرّمة. حيث تـدفّـق عـدد كبير من الحجاج الأتراك إلى مطار بيروت، بطريقهم إلى المملكة العربية السعودية وافترشوا أرض المطار بانتظار المغادرة. وقـد سرت إشاعة من أحـد الأطباء عن احتمال تفشي أمراض بين الحجاج. ولم يكن أسطول طائرات شركة طيران الشرق الأوسط قادرًا على نقل الحجاج. لكن رئيس الحكومة صائب سلام أصرّ على تأمين نقـل المسافرين حتى لو اضطرّ الأمـر لاستقدام طائرات من خطوط جوية أخرى. لكن هـذا الحـل لم يكن واردًا من الناحية التقنية. فقام الشيخ نجيب علم الدين، بطلب المساعدة من السفير الأميركي في بيروت، فعمل السفير على تكليف القوات العسكرية الأميركية في المنطقة، والتي لديها طائرات عسكرية للنقل، عملت على نقل الحجاج من مطار بيروت إلى مكـة المكرّمة بالتعاون مع شركة طيران الشرق الأوسط، التي قـدّمت جميع مستلزمات السفر وتمّت المغادرة بنجاح. أمّا تكاليف نقل الحجاج فقـد جُعلت على حساب السفير الأميركي في بيروت التي قدّمها السفير إلى الرئيس صائب سلام خلال حفل علني، باسم الجمعية الخيرية الإسلامية.

قـوانيـن الطيـران

بالنّظـرلعدم وجود قانون لتنظيم الطيران المدني في لبنان، كانت هناك صعوبة بإدارة شركة الطيران، ولم تصدر الحكومات المتعاقبة تشريعاً أو سياسة لإدارة الطيران. لذلك عمل الشيخ نجيب على استدعاء خبير إيطالي قام بإيجاد مسوّدة لقانون مدني حـديث للطيران. لكنها بقيت بأدراج مدير عـام الطيران المدني، ولم تبصر النـور.

عندما تولى الشيخ نجيب وزارتي الأشغال العامة والنقل، والبريد والبـرق والهاتف. تقـدم باقتراح لتشكيل هيئة عليا للطيران مخـوّلة إتخـاذ القرارات اللآزمة، لتنظيم سياسة وإدارة الطيران. تألفت اللجنه من مـدراء الطيران المدني، التنظيم المدني، والخارجية، والاقتصاد والسياحة، يرأسها وزير الأشغال العامة لكنها لـم تُعـطَ صلاحية اتخاذ القرارات فكانت تقوم بتقديـم الاقتراحات إلى المراجع المختصة، لكـن لـم يـؤخـذ بـها.

في العام 1955، وبموجب نظام التجارة الحـرّة في لبنان، عملت الحكومة اللبنانيّة على منـح ترخيص لشركتي طيران: الخطوط الجويّة عبر المتوسط TMA للشحـن، وليـا LIA لنقل الركاب. لكن في العام 1966، وقعت شركة ليـا تحت عجـز مالي لعـدم قدرتها على الاستمرار. وبناء لطلب الحكومة اللبنانية، ضمّت شركة طيران الشرق الأوسط موظفي شركة ليـا إلى موظفيها، ودفعت لهم رواتبهم كاملة بعـد تصفيتها. ووعـدت الحكومة اللبنانية بدفع تعويض إلى شركة MEA، لقـاء ذلك، وقـد أرسل وزير المال كتاباً إلى رئاسة مجلس الوزراء بهـذا الشأن لكن الوعـد لـم ينفّـذ.

أمّـا شركة TMA، فقـد تحوّلت إلى شركة شحن منـذ إنشائها وحصلت على عقـود عمل حـول العـالم، ولكنها توقفت عن العمل بسبب الحرب الأهلية التي حصلت في لبنان اعتبارا من سنة 1975. ولم تحصل هـذه الشركة من الحكومة اللبنانية على مساعدات لمتابعة استمرارها ولكن عندما اشترت مجموعة لبنانية أسهم الشركة، قـدّمت لهم الحكومة مبالغ ماليّـة بقيمة خمسة أضعاف ما طلبه مالكها السابق1.

في شهر تموز عام 1959، طلبت شركة الخطوط الجوية البريطانية BOAC، من شركة طيران الشرق الأوسط زيادة رأس مالها عبر قروض، بحجّة أنّ الشركة البريطانية تتعرض للخسارة. لكن الشيخ نجيب لم يوافـق على هـذا الطلب، لأنه يُوْقع الشركة بالديون. وقـام بإجراء اتصالات ومفاوضات مع أشخاص ومؤسسات مالية لبنانية لجعل شركة طيران الشرق الأوسط شركة لبنانية مئة بالمئة. واستطاع إقناع إدارة بنك إنترا لشـراء 51 بالمئة من أسهم الشركة. والأسهم الباقية بيعت إلى متموّلين لبنانيين. وأصبحت شركة طيران الشرق الأوسط شركة لبنانية.

في العام 1963، جـرت عملية دمـج بين شركتي طيران الشرق الأوسط، (MIDDLE EAST AIR LINES) وشركة الخطوط الجوية اللبنانية (AIR LIBAN) وأصبحت الشركتان شركة واحـدة تحت اسـم “طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية”، وفي فترة الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، من أبـرز شركات الطيران الإقليمية وأكثرها نشاطا باعتمادها على العناصر الشابة مـن الموظفين ذوي الكفاءة، وكان لها السبق في تطـوير أساليب الخـدمة والنقـل. لكن بسـبب حـرب الأيام الستّة (حـزيران 1967)، خسرت الشركة محطـة القـدس، إحـدى أهـم الوجهات التي يقصدها السياح القادمون من أوروبا، ومـن أنحـاء العالم والتي كانت الشركة تسـيّر إليها ثلاث رحلات يومياً2.

في سنة 1963، عُيِّن الشيخ نجيب عضوًا في معهد النقل الجـويّ (ITA)، مقـرّه بلغاريا، واستمر حتى شهر كانون الأول عام 1977. كما انتُخـب عضوا في منظمة اتحاد النقل الجويّ الـدولي (IATA)، وكان في الثامنة والأربعين من عمرة وهو الأصغر سـنًّا بين أعضاء المجموعة. وأعيد انتخابه خمس مـرّات متتاليـة خـلال 15 سـنة.

طائرة مدنية، جرى تفجيرها في أثناء غارة العدو الإسرائيلي على مطار بيروت ليل 28 كانون الأول 1968

الغـارة على مطار بيروت الدولي

بتـاريخ 28 كانون الأول 1968، شـنّ طيران العدو الإسرائيلي غارة على مطار بيروت الدولي، ونـزلت فـرقة كوماندوز إسرائيلية في المطار لمـدة 40 دقيقة، وفجرت 13 طائرة مدنية، تحطمت تحطيما كاملاً وذلك ردّاً على عملية تـفجيـر طائرة ركاب لشـركة العـال الإسـرائيلية، قـام بها في مطار أثينا، عنصران من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

الطائرات المـدمّرة هي: ثماني طائرات لشركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، وثلاث طائرات لشركة الخطوط الجوية الدولية اللبنانية، وطائرتان لشركة الخطوط الجوية عبر المتوسط. بالإضافة إلى طائرة أخـرى جـرى تفخيخها من قبل الجنود الإسرائيليين، لكنها لم تنفجـر. وكان إجمالي قيمة الطائرات المحطمـة 44 مليون دولاراً أميركيّاً وقـد وافقت شـركة “لـويـد أوف لنـدن” للتـأمين، على دفـع مبلـغ 18 مليون دولاراً منها.
وخـلال مـدّة قصيرة، عـادت شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، لمتابعة رحلاتها مـن وإلى مطار بيروت الدولي، مـن خلال اسـتئجار طائرات.

الشيخ نجيب يحقّـق العدالة الاجتماعية

كانت شركة طيران الشرق الأوسط توظّف الأشخاص في الشركة، على أساس الكفاءة، بعيـداً عن التأثيرات الدينية أو السياسية. ومنـذ العام 1956، بـدأت الشركة بتأمين الضمان الصحي لجميع موظفيها.

ثـمّ أضافت إلى ذلك تطبيب الأسنان. ومنـذ العام 1962، بـدأت الشركة بمنـح موظفيها مساعدات مدرسية لمساعدتهم في تعليم أبنائهم وتسليفهم قـروضاً دون فـوائد. وفي العام 1964، عملت الشركة على إعطاء عشرين بالمئة من أرباحها للعمال والموظفين في الشركة تقـديراً لجهودهم. كما قـررت طـرح 5% مـن أسهم الشركة وبيعها للموظفين. فشارك نحو 62 % من العمال والموظفين، وقاموا بشراء الأسهم. كما قـررت الشركة أن يعمل موظفوها خمسة أيام في الأسبوع، وأن يعطلـوا يـومين، وهي أول شركة لبنانية قامت بهذا الإجـراء.

بتاريخ التاسع من شهر تشرين الأول عام 1965، وخلال حفل أقامته شركة “طيران الشرق الأوسـط – الخطوط الجوية اللبنانية”، بشأن توزيع المنــح المدرسية السنوية لموظفي الشركة، للمساعدة على تعليم أبنائهم، ألقى الشيخ نجيب علم الدين خطاباً أوضـح فيه نهج الشركة المتّبع لتطبيق العدالة الاجتماعية على موظفيها، وشـرح مفهومه لهـذا المبدأ بقوله: “العدالة الاجتماعية حـقّ لكل مواطن. وهي ليست هِبـَة أو مِنّـة، ولا يسيطر عليها المـنّ والتمنين. ولكن هـذا الحـقّ يجب أن يكتسب بالعمـل والإنتاج والإخلاص والتفاهـم، لا بالضوضاء والغوغائية. وإننا قـد نجحنا بسبب إيماننا وإيمان معظم اللبنانيين بالاقتصاد الحـرّ، وملاءمته لوضعنا اللبناني وأحوالنا الاقتصادية، وإني لأرجـو أن يستمـر هـذا الوضع في لبنان، وأن تـدعمه عـدالة اجتماعية تساندها الدولة. ويدعمها ويؤمن بها جميع أرباب العمل والمتمولين في لبنان. فبـدون تأمين العدالة الاجتماعية للمواطنين جميعاً، لـن نتمكن من المحافظة على اقتصادنا الحـرّ ووضعنا المالي السليم. وإنّ السبيل الأقـوم، هـو تطبيق العدالة الاجتماعية، وضروري أن يرافـق هـذا التـدبير، التطبيق العادل لاقتصادنا الحـرّ الذي يكرّس المبادرة الفردية، لأن الاقتصاد الحـرّ والمبادرة الفردية يعمل كلاهما على تحقيق مـا يحتاج إليه لبنان3.

طابع بريدي يصوّر مطار بيروت الدولي عام ١٩٥٢م

اعتمـد الشيخ نجيب سياسة وطنية في التوظيف في الشركة، أي لا يوظّف أشخاصًا أجانب إذا توفّر أشخاص لبنانيون جـديرون بالوظائف الشاغرة. كما أصدر قرارًا يقضي بعـدم تسريح بعض الموظفين من أصحاب الكفاءة، أو قبول استقالاتهم عنـد بلوغهم حـدود السن القانونية، وإبقائهم في الشركة كمستشارين، للاستفادة من خبراتهم. وكان يحث الموظفين والعمال على متابعة التواصل مع الإدارة، لخلق روح التعاون في الشركة. لذلك لـم يحصل إضراب أو خلاف أو شجار بين العمال والإدارة خلال 15 سنـة.

أنشأ الشيخ نجيب في مبنى شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية مقصفاً (Cafeteria)، تقـدّم للموظفين الطعام الصحي وبأسعار رخيصة. كما أنشأ ناديًا رياضيًّا واجتماعيّاً للموظفين.

إن القاعـدة التي بنى عليها الشيخ نجيب علم الدين مخطط العمل في شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية، هي اقتناعه الكامل بأن الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، إنمـا يتحـقّق بالتلاحم بين الاقتصاد الحـرّ، الذي ينمـو بالمبادرة الفردية، وبين العدالة الاجتماعية التي تؤمن للعمال مستوى لائقاً، وتوفر لهم من الضمانات ما تبعـدهم عـن القلـق والنقمـة.

لقـد وصفت الصحافة اللبنانية خطاب الشيخ نجيب علم الدين بأنّـه “الخطاب القنبلة”، لخير لبنان والعالم العربي. ونشرت سبع عشرة جريدة يومية خطابه كاملاً على صفحاتها الأولى. كما نشرت الصحف على مـدى أسبوعين، لمـا يـزيد عن أربعين مقالاً، لنواب ووزراء وإعلاميين وأدبـاء ورجال قانون، بالإضافة إلى نقيب الصحافة حينذاك الأستاذ عفيف الطيبي. جميعهم يشيدون بخطاب الشيخ نجيب علم الدين، وصرخته الوطنية الجريئة التي أطلقها وأن يكون مثالاً يقتدي بـه جميع أرباب العمل، وأصحاب الشركات. لأنّ ما ذكره عن تطبيق العدالة الاجتماعية، هـو الحـلّ الحـقّ الذي يعمل بـه. لأنه يضمن الاستمرار والازدهار ويوطّـد الاستقـرار في لبنان.

وبمناسبة الاحتفال بعيـد العمال الذي أقامته الشركة في الأول من شهر ايّـار عام 1967، ألقى الشيخ نجيب علم الدين، خطابًا جامعًا وصريحًا في تحديد الاقتصاد الحـر والمبادرة الفردية، وشراكة العامل ورب العمل، ومسانـدة الدولة في تحقيـق المشاريع الإنمائية. وكـرر دعـوته رجال الأعمال والعمال إلى كلمة سواء والتعاون والاحترام المتبادل. في الوصول إلى تأمين العدالة الاجتماعية.

طيران الشرق الأوسط والسياحة اللبنانيّة

لـم تكن شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية شركة تجارية، تسعى بتضخيم أرباحها وزيادة عـدد طائراتها ومضاعفة خطوطها. فإلى جانب هـذا كلّه. كانت هـذه الشركة خيـر سفارة للبنان في بـلدان الاغتراب، فمكاتبها المنتشرة في مختلف عواصم العالم، كانت تبذل الـدعاية للسياحة والاصطياف في لبنان. والنجاح الذي حققتـه، كان بحـد ذاته خيـر دعاية لبلدنا لبنان، وقـدرة أبنائه على تأسيس وإدارة الأعمال البنّاءة المنظّمة.

وكان الشيخ نجيب علم الدين قـد القـى على منبـر “النـدوة اللبنانية” في بيروت، محاضرة كانت على أرفع ما تكون في البيان والأدب، حتى أدهـش حملة الأقلام من رواد النـدوة. أمّـا المحاضرة فكانت عن “الأسس الصحيحة لصناعة سياحيّة لبنانية”، لأن إسهام السياحة في بلدان صغيرة كلبنان، لا يقتصر على ســدّ العجز في ميدان المدفـوعات، بل يسهم بـدوره في معـدّل الدخل والتشغيل ونمـوّ صناعات أخرى، كالمأكولات والمشروبات والملابس والطباعة والنقـل وسواها.

وذكـر أيضاً في محاضرته: إنّ أكثر الصناعات الوطنية في بلدنا تواجه مشكلة صغـر السوق المحلّية. لذلك يمكن للصناعة السياحية أن تصبح الدعامة الرئيسية للاقتصاد اللبناني، فهي الصناعة الوحيدة التي لا تتأثّـر بصغر حجم لبنان، ولا بصغر أسواقه المحليّة. إذ تنفتح أمامها أسواق العالم كلّه، إذا عرفنا أن نبنيها صناعة سياحية لبنانية صحيحة. والدخل السياحي يمتاز بكونه لا ينحصر بطبقة معينة من المواطنين، فهـو يتوزّع على جميع اللبنانيين، كلّ بحسب اشتراكه فيـه.

في السياسـة والـوزارة

النجاحات التي حقّقها الشيخ نجيب علم الدين في أعماله، وبخاصة في شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية. قـرّبته من الحياة السياسيّة، حيث تولّى العـديد من المناصب الـوزارية. فعُيِّن بتاريخ 25 تمـوز سنة 1965، وزيـرا للإرشاد والأنباء والسياحة، في حكومة الرئيس رشيد كرامي. واستمر في منصبة حتى 21 كانون الأول 1965، حيث جرى تبديل حكومي، تـرك بموجبه هـذا المنصب، وتولّى وزارة الأشغال العامّة والنقل، واستمر حتى استقالة الحكومة بتاريخ 4 إيلول 1966. ثـمّ عيّـن مُجـَدّدًا وزيرا للأشغال العامة والنقل، في حكومة الرئيس أمين الحافظ، في 25 نيسان 1973، وهـذه الحكومة كانت من أصحاب الخبرة والاختصاص. لكنها لـم تَمْثُل أمام المجلس النيابي، بسبب الأوضاع السياسية التي كانت سائدة حينذاك. واستقالت بتاريخ 8 تمـوز 1972.

مشغـل الشّـوف في بعقلين

جـمعيّـة بعقـليـن النسائيّـة ومشغـل الشّـوف

في بدايـة ستينيات القرن الماضي، عملت جمعية بعقلين النسائية ومشغل الشوف، وبمساعـدة الشيخ نجيب علم الدين، على شـراء المبنى الحالي للجمعية في بعقليـن، وهو بناء تراثي مؤلف من طبقتين، مبنيّ بالحجر الصخري ومسقوف بالقرميد الأحمـر، وجُعِـلَ مقـرّاً للجمعيـة. وبناء لطلب الشيخ نجيب علم الدّين، بـدأت الجمعيّة والمشغل بصنع كمّيات من قطع المطرّزات والكروشّيه، مثل المناديل وفـوط السفرة، (Napkins)) والقفازات النسائية (Gloves)، وهـذه تصنع من الخيوط بواسطة الإبرة. بالإضافة لقطع أخـرى من الكـنفا والرسم على القماش والكروشية، تُصنع بواسـطة الصنّارة المعقوفة، بألوان وأشكال مختلفة، كانت تسـلّم إلى شـركة الطيران، منها ما يوضع تحت فناجين القهوة وكؤوس الشاي والمرطبات، أثناء تقديم الطعام للمسافرين على متن الطائرات. بالإضافة إلى صناعة ألعاب للأطفال وصواني الضيافة وغيرها من الأشغال اليـدويّة الفنّيـة، وتُقـدَّم جميعها للمسافرين مجّاناً دون مقابل، فكانت هـذه الطريقة تلاقي الاستحسان والوقع الطيّب لدى ركاب الطائرات. وتـؤمـن في الوقت ذاتـه دخـلاً ماليّـا جيّـداً للجمعية وللمشغـل. واستمرّ هـذا التدبير لمـدة طويلة.

كانت جمعية مشغل الشوف الخيري تؤمـن حوالي مئـة وخمسين فرصة عمـل لنساء وفتيات يعملن بصناعة المطرّزات. البعض منهـنّ كانت تعمل بداخل المشغل، والبعض الآخر يعملن في منازلهن، بعـد استلام المواد الأولية من المشغل، ومن ثم إعادتها بعـد تصنيعها. لكن هـذا العـدد تضاءل حاليّاً، كما تضاءل الإنتاج بسبب تضاؤل التسويق والمبيع.

خـلّـة خـازن أو خـلّـة خـازم

تقـع مـزرعة خلّة خازن في منطقة جبل الرَّيحان في قضاء جـزّين، وهي أراض شاسعة متعرّجة، تـقـدّر مساحتها بأكثـر مـن خمسة آلاف دونـم. تغطيها أشجار السنديان المعمّـرة ومختلف أنواع الأشجار الحرجية البـرّية، وأشجار الصنوبـر المثمـرة. وتحوي أنـواعًا عـديدة من الحيوانات البريّة والطيور.
تملّـك الشيخ نجيب علم الدين هـذه المزرعة، وجعلها محميّة طبيعية. فعمل على استصلاح نصف مساحتها وتـم غرسها بمختلف نصوب الأشجار المثمرة، وزراعة الخضار الموسمية على أنواعها، والزهور المختلفة الأنواع والألوان. وأبقى المساحة الباقية أحراجاً. وابتنى فيها منزلاً من ثلاث طبقات، كان يقضي فيـه يومي السبت والأحـد من كل أسبوع وبخاصة في فصل الصيف. كما جرى بناء 21 مسكناً لإقامة العمّال. حيث كان يقيم في المزرعة حوالي ثلاثين عاملاً بصورة دائمة. أمّا خلال موسم القطاف وجني المواسم، فكان يتواجـد في المزرعة ما يـزيد عن سبعين عاملاً، يبيتـون في هـذه المساكن.
يـوجـد في أعلى أراضي المزرعة تلّـة صخرية، جعلها الشيخ نجيب موئلاً لطيور الحجل. ومنع الصيد حفاظًا على هـذا التنـوّع الحيواني. وكان أحـد العمال يقوم بوضع الحَـبّ والماء لغـذاء الطيـور.

كانت هـذه المزرعة تنتج أطنانا من الثمـار كلّ سنة. فخـلال عام 1992، كان إنتاجها مـن ثمـار الإجاص والعنب والزيتون، مـا يـزيـد على مئـة طـن مـن كل نـوع.. أمّـا إنتاج ثمار الـدراق والخـرما والليمون والجـوز، فكان أدنى مـن ذلك بقليل. وفي العام نفـسه تـم بيـع إنتاج ثمار الصنوبر بقيمـة (32000)، اثنين وثلاثين ألف دولار أميركيّ. وكان السيد كريم علم الدين “ابن الشيخ نجيب” يحضر إلى المزرعة بصورة دائمة، للإشراف على الأعمال وتصريـف الإنتاج.
منـذ بـداية صيف سنة 1978، لـم يعـد الشيخ نجيب علم الدين يحضر إلى مـزرعته خلّة خازن، لأن الوضع الأمني في تلك المنطقة، لـم يعـد مستقـرّاً بعـد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وبعـد وفاة الشيخ نجيب، تـم بيـع مزرعة خلة خازن إلى مالكين جـدد. .

كانت مزرعة خلّـة خازن من أشهر المحميات الطبيعية في محافظة الجنوب ولبنان عامّـة، لجهة الغلاف الطبيعي المميّـز، والتنـوّع الأيكولوجي في داخلها، فضلاً عن أنواع الحيوانات البرية والطيور النادرة. وكان الجنوبيون يقولون: “إذا أردت رؤيـة الجنّة أنظر إلى خلّـة خازن”6.
لكن بعـد بيـع المزرعـة، ومنـذ العام 2002، عـمـد بعض المالكين الجـدد إلى إدخال جرافات كبيرة إلى المزرعة، وقام بـقطع الأشجار وحفـر الرمـول وبيعها إلى تجّـار البناء. فقضى بـذلك على مساحات شاسعة مـن الغابات والأشجار الحرجيّة المعمّـرة، وبخاصة أشجار السنديان والصنوبر.

مطار بيروت الدولي تحت القصف الإسرائيلي
عام ١٩٨٣م

أحـداث سـنة 1975

عنـدما بـدأت الحـرب الأهلية في لبنان، اعتبارا من صيف سنة 1975، عمل الشيخ نجيب على نقـل محـرّكات الطائرات الإضافية، وقطع الغيار والمقاعـد والأقمشة، ومعـدات متعـددة أخـرى إلى مطار أورلـي في بـاريـس. كمـا قام بنقـل أمـوال شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية مـن المصارف في بيروت، إلى مصارف في سويسرا. وعمل على تحويلها إلى “الفرنـك الفرنسي والمارك الإلماني”، هـذا التدبير ساعـد على متابعة تأمين رواتب موظفي وعمّـال الشركة عنـدما أقفلت المصارف في لبنان. وفي شهـر حزيران عام 1976، قام بنقل جميع العمليات العائـدة للشركة، من بيروت إلى العاصمة البريطانية لنـدن، ومـن ثـم إلى باريـس.

في العام 1977، قـرّر أن يستقيل مـن منصبه ويتقاعـد، فصـوّت أعضاء مجلس إدارة الشركة بالإجماع، على تنصيبه مـديراً عاماً ومستشاراً فخـريًّا للشركـة مـدى الحياة.

الوزارات والمجالس والهيئات التي شغلها

بالإضافة إلى وظيفتة الأساسية، المدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية ورئيس مجلس إدارتها. شغل الشيخ نجيب علم الـدين المناصب التالية:
– وزيرًا للأشغال العامة والنقل، مـرّتين.
– وزيرًا للبرق والبريد والهاتف.
– وزيرًا للإرشاد والأنباء والسياحة.
– عضوًا في المجلس الاقتصادي.
– عضوًا ثم رئيسًا للمجلس الوطني لإنماء السياحة.
– عضوًا في المنظمة الدولية للطيران (إياتا).
– عضوًا في منظّمة النقل الجوي.
– عضوًا في مجلس إدارة مشروع الليطاني.
– عضوًا في لجنة تنظيم القـرى.
– عضوًا في لجنة إدارة مـرفأ بيروت.
– عضوًا في المجلس الدرزي الأعلى.
– عضوًا في مجلس أمناء الجامعة الأميركية.
– رئيس جمعية متخرّجي الجامعة الأميركيّة

الأوسـمة التي نـالها

نال الشيخ نجيب علم الديـن خلال حياته العملية وعطاءاته أوسـمة عـديدة، نذكـر منها:
– وسام النهضة الأردنـي
– وسام الأرز الوطني اللبناني من رتبة ضابط أكبر.
– وسام الصليب الأكبر من قداسة البابا بولس السادس.
– المدالية الذهبية من اتحاد الطيران الأوروبي.
– وسام النجم الذهبي GOLDEN STAR من اتحاد وكالات السياحة والنقل العربية.
– وسام من مؤسسة COMENDOR OF THE BRITICH EMPAYER. وهو أرفع وسام يناله رجل عربي من ملكة بريطانيا.
– وسام من قبل الأكاديمية الكونية NOVA
PIONEER CHAIR OF WINDROS

الحيـاة العائليّة

تـزوّج الشيخ نجيب علم الدين من سيّـدة سويسرية ولهمـا أربعـة أبناء: مكـرم مواليد عـام 1944، كـريم مواليد عـام 1947، إيـدا مواليد عـام 1947، وريـمـا توفّيـت.

في فتـرة الحـرب الأهلية التي بـدأت في العام 1975، غـادر الشـيخ نجيب لبنان وأقـام في العاصمة البريطانية لنـدن، وأصدر في العام 1977، كتابين باللغة الإنكليزية همـا : “العـاصفة” و “الشيخ الطائـر”، يـروي فيـه سيرة حياته.

في بداية عـام 1995، حاول مجلـس إنماء قضاء الشوف، الذي كان يرأسه الأستاذ نجيب البعيني، إقامة حفـل تكـريمي للشيخ نجيب علم الدين، في مسـقط رأسه بعقلين، أو في الجامعة الأميركية في بيروت، أو في أي مكان آخـر يختاره، وذلك تقـديراً لعطاءاته. لكـن الشيخ نجيب اعتـذر عـن ذلك، وصرّح أن حفلات التكريم هـذه هي من المظاهر التي لا لـزوم لها. لأن ما يكرّم الإنسان هي أعماله.

قال فيـه الرئيس جمال عبـد الناصر:” لـو كان عنـدي رجل مـثل الشيخ نجيب علم الديـن، لألّفـت وزارة حكومية بشخصه وحـده.

توفِّي الشيخ نجيب عام الدين بتاريخ 11حـزيران عام 1996، وأقيم مأتمـه في بلدته بعقلين. وقـد نعتـه الجامعة الأميركية في بيروت، باعتباره عضواً فخريّاً في مجلس أمناء الجامعة. ورئيساً لجمعية المتخرّجين.

وتوفّي ولـده كـريم بتاريخ 20 آب 2015، وأقيـم مأتمه في بلدته بعقلين.

كتب الـوزير السابق غسان تويني صاحب جريدة النهار مقالاً في جريدتـه قال فيـه: من الرجال الكبار الذين سكنوا منذ سنوات فسحة النسيان، نجيب علم الدين. صار اسمه على كلّ شـفه “الشيخ نجيب”، وفي الصحف العالمية وبعض الكتب، “الشيخ الطائر”. وليس أطيب ما يخلفه الشيخ نجيب، أنه صعـد باسم لبنان عالياً إلى الأجواء، تحمل أرزته إلى كل سماء وكل عاصمة، في كل قارة، طائرات الـ “ميـدل إيست طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية”. أنجح من كل نجاحات الشرق الأوسط. ينافس بهـا الأعـرق منهـا والأكبـر. فكلّما كبر اسـمه ازداد تواضعه، والثقافة التي لا يتوقف عن تحصيلها، والوفاء والاستقامة في المعاملة والإدارة، في وجـه التيارات السياسية التي كانت في أيامه عاصفة لا تـرحم، فلم تتمكن منه، لأنـه تحصّن بالثقة بمؤسسة لـو تركها تلتوي، لكان يجازف في الجـو وعلى الأرض.

يتميّـز اللبنانيون بالفـرادة، فينجـح الأفـراد ولا تنجـح الجماعـة. فكيف يمكن أن نطمئن اللبنانيين إلى تماسك مجتمعهم، وإلى تضافـرهم في الدفاع عـن حقوقهم المشتركة.

من أقوال الشيخ نجيب علم الدين

حـول تـركيبة لبنان الطائفية، قال الشيخ نجيب ما يلي:

لا يستطيع هكـذا خليط من الناس أن يؤلف شعباً واحـداً ومجتمعاً واحـداً. فكيف يستطيع إذاً أن يؤلّـف دولـة يتفيّـأ الجميع في ظلّها على حـد سواء؟ في لبنان خليط من الناس، ولا يوجد فيه شعب لبناني، مـع العلم أنّ الشعب شيء والناس شيء آخـر. الشعب الواحد لـه حقوق واحـدة مشتركة، وعليه واجبات واحدة مشتركة. وفي لبنان الآن عشرون طائفة تقريباً. لكل طائفة قانون أحوال شخصية خاص بها. بالإضافة إلى مفاهيم وتقاليـد وطقوس خاصة. ناهيك عن أزياء الألبسة التي تميّـز كل طائفة عـن الطوائف الأخـرى.

وأضاف:

ومـع ذلك يتميّـز اللبنانيون بالفـرادة، فينجـح الأفـراد ولا تنجـح الجماعـة. فكيف يمكن أن نطمئن اللبنانيين إلى تماسك مجتمعهم، وإلى تضافـرهم في الدفاع عـن حقوقهم المشتركة.

نجيـب علم الدين من المنارات في هـذا الوطـن. هـو الإنسـان المتعـدّد المـواهب والمـزايا والمناقـب، المنـاضل الكبيـر، طاقـة تنفجـر فتعـطـي فتـرشـد وتبنـي. نفتقـده في زمـن نـدر فيـه الـرجال أمثالـه.

علي ناصر الدين

عليّ ناصر الدّين غير المعروف كثيراً من قبل العديد من المفكّرين العرب ومجهول إلى حد كبير من قبل المؤمنين بوحدة البلاد العربية هو في الواقع كما قيل عنه: إنّه مؤسس «عصبة العمل القومي»، صاحب «قضيّة العرب»، والمجاهد في سبيل القضية العربية، والمناضل البارز في الجبهات العسكريّة… (1)

ولد علي ناصر الدين سنة 1888 في بلدة «بمريم»، من أعمال المتن الجنوبي، البلدة الصغيرة والمستظلّة حفافي السنديان والصنوبر في الوادي المتنيّ الجميل، تعانقها حمّانا والشبانيّة وبتخنيه ورأس المتن شرقاً وشمالاً وغرباً، ويربض في أفقها الشرقي جبل صنّين، رمزاً أبديّاً لعلوّ الهامة وصلابة الصّخر وبياض الثلج.

تأثّر علي الابن بالمُناخ الوطني للوالد محمود ناصر الدين، وللمنطقة في مقارعة الغازي الأجنبي والمحتل عبر تاريخ سواحل الشام منذ أيام الفتح العربي الإسلامي، وبالثقافة الوطنية والقومية التي حصّلها على أكثر من معلّم ومدرّس من بمريم ورأس المتن، وصولاً إلى الكلّيّة الأزهرية في بيروت التي أسسها الشيخ أحمد عبّاس الأزهري؛ ذات التربية الوطنية والقوميّة التي أنجبت كوكبة من رجالات العمل القومي والوطني الذين لمعوا في المعارك الوطنية والقومية أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. هذا بعضٌ ممّا شكّل أو جبَل هذا العود الصّلب في علي ناصر الدين الذي اغتنى بعد ذلك بثقافته، وخبرته وغنى تجربته الأصيلة والعميقة.
في بواكير القرن العشرين بين المناخ الوطني الصّاعد والرقابة العثمانية غادر علي بيروت إلى باريس فكان يستزيد من الثقافة الفرنسية كما بات أقرب إلى المناخ القومي الصرف الذي كان يبثه من باريس نفر من أوائل القوميين العرب لبنانيين وسوريين. وبُعيْد نشوب الحرب العالمية الأولى وإعلان ولسون، الرئيس الأمريكي، مبدأه الشهير في «حق الأمم في تقرير مصيرها»، التحق علي في شمال إفريقيا بالفرقة الأجنبيّة في جيش الشَّرق التابع للحلفاء الذي شكلته فرنسا، والذي توجه إلى الشّرق في سنة 1917 لمساعدة الإنكليز ضدّ الأتراك والألمان وهزيمتهم، من ثمة، متوهّماً أنَّه يجاهد في تحرير بلده وأمّته من النير العثماني، وفي إيصالها، بالتالي، برَّ الاستقلال والحرية، لكن أوهامه لم تَطُل، فقد اكتشف بالملموس، من تجربته ومن تطوّرات قضية الثورة العربية الأولى للشريف حسين، أنّ الحلفاء غير صادقين في وعودهم، وأن حلم العرب بالحريّة قَصِيُّ وبعيد، وعليه لم يَطُل المقام بعليّ في جيش الحلفاء، فغادره.

جهاد وعفّة نفس

كان عليّ يجاهد دونما ثمن من أجل العروبة، دون طمع بمكسب أو مغنم، ومن ذلك أنّه كان في عداد وفد لبناني ذهب لتهنئة الملك غازي ملك العراق إبّان تنصيبه على عرش الرافدين، وفي المساء اختفى عليّ من قصر الضيافة المُخصّص للضيوف؛ حيث كان الوفد. قضى ليلته عند رفيق له هو نقولا خير؛ الذي كان يسكن غرفة واحدة متواضعة. كان همّ علي توطيد عرى الصداقة مع رجال الحركة العربية. وقبل العودة من العراق أصرّ الملك أن يمنح كلّ فرد من أعضاء الوفد مبلغاً ماليّاً مُحترماً عربون صداقة؛ فاعتذر عليّ عن أخذ المال بتهذيب وشمم.

هذا الأجر المادي الذي لو كان لعلي طمعٌ فيه لدى الفرنسيين لنال فوق ما يستطيع منافسوه، لكنّه كان مشغولاً بما هو أكثر أهمّيّة وأبقى أثراً(2).

يروي لطف الله الخوري في جريدة الحياة، عدد 3966، أنّ محاكمات المهداوي بعد ثورة 14 تموز في العراق 1958 كشفت الكثير من الصّلات الماليّة لبعض رجالات تلك الحقبة، أمّا برقيات السفارة العراقية التي نُشرت فبيّنت أنّ عليّأً كان وكالعادة أكبر بكثير من كلّ المال، ويعلّق الخوري: فإذا كان ثمّة من حسنة أعترف بها لهذه المحكمة العسكريّة في العراق ففي أنّها خلال محاكماتها أوردت ـ مرغمة، طبعاً بالواقع والحقيقة ـ وثيقة أو مستمسكاً يصح أن تكون مثلاً يُحتذى للشباب العربي.
كما كتب محمّد علي الرّز وهو أحد رفاق علي البارزين يقول إنّه في أواخر الستينيّات بينما عليّ يصارع المرض الذي أنهكه، سمع جَلَبة في الشارع فقالت له زوجته: إنّ حاكم الكويت حلّ في المبنى المجاور. فأرسل له رسالة يتمنّى عليه أن تتبنّى دولة الكويت مشروع مؤسسة لعلماء الذرّة العرب في موازاة علماء إسرائيل، وعرّفه بنفسه بأنّه إنسان عربي يصارع الموت، ولا يبغي مغنماً؛ بل أهداه كذلك مجموعة من كتبه؛ أُعجب الأمير بالرسالة فأرسل له مُغلّفاً يحوي مبلغاً كبيراً من المال مع رسالة احترام، فكتب له علي ثانيةً يقول: اسمح لي يا سموَّ الأمير أن أقدّم هذا المبلغ مساهمة متواضعة منّي في سبيل تحقيق المشروع الذي اقترحته على سموّك. أعاد الأمير ثانية المبلغ فأصرّ عليّ على الرّفض مع التحيّة والشكر، هذا مع العلم أنّه كان لا يملك، آنذاك، ثمن الدواء الذي كان بأمسّ الحاجة إليه…»(3)

هذا بعضٌ من رهبنة علي ناصر الدين وسموّ نفسه، ولا حاجة لاستزادة أو استفاضة. يكفي أنّهم كانوا ينادونه بـ «الشهيد الحيّ»، إشارة إلى عظيم معاناته، وجميل صبره، وبالغ حزنه في غربته في محيط أصمّ.

المواجهة مع المحتلّين

 

بيروت سنة 1922

انقطع علي عن الفرنسيين، وانقلب إلى معاداتهم مطلع عام 1919، وقبل مبايعة فيصل ملكاً على سورية العربية المستقلة، وتلا ذلك اجتياح غورو لدمشق بعد إعاقة بطوليّة قصيرة في ميسلون في 24 تموز 1924، وثبت أنّ العرب خرجوا من الاحتلال التركي ليعلقوا في براثن احتلال آخر… عندها انصرف عليّ إلى مقاومة الاحتلال الفرنسي كاتباً وخطيباً ومحاضراً، بل لعلّ بعض نشاطه التنظيمي القومي الأوّل يعود إلى عام 1921 في بيروت وفي حلقات أولى مع بعض المثقفين البيروتيين والعرب الذين كانوا يشاركونه إحباط سقوط الدولة العربية الاستقلالية الحديثة الأولى، وبواعث السعي إلى تجديد العمل العربي القومي وتجذيره وتنظيمه. وكان اعتقاله واستجوابه، وأطلق بعد ذلك وهو أشد إصراراً على مقاومة حكم الانتداب، والاستعمار عموماً، وعلى ضرورة تجديد العمل العربي القومي ونشره، فأسّس مطلع عام 1922 جريدته الأولى «المنبر»، فكانت بياناً قومياًّ عربياً في التاريخ والسياسة والأدب. كانت تتلقفها الناشئة القومية، في بيروت خصوصاً، في لهفة واهتمام، وكان لها دور في إطلاق الحلقات القومية الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت.

لكنّ «المنبر» لم تكمل عامها الأول فقد أغلقها الفرنسيون وجرى اعتقال علي ثانية فكُبّل بالحديد وأُخرج من لبنان ونُفي إلى حيفا في فلسطين، وفي حيفا تابع حملته الشعواء على المستعمر الفرنسي الذي مزّق البلاد السورية الواحدة، إلى دويلات، ونهب ثرواتها، فكانت صفحات صُحُف «الكرمل» و «اليرموك» و «الحقيقة» منبراً آخر لحملته تلك، وفي مطلع سنة 1925 عاد علي إلى بيروت بعد توسّط الأمير مصطفى أرسلان (دون طلب منه)، كانت آنذاك فترة تصاعد الثورة السوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في أنحاء جبل الدروز، وضواحي دمشق، وفي الأقسام الشرقية والجنوبية من لبنان، وأجفل الفرنسيون وأعوانهم منه، وقد أوقع الثوار في صفوفهم الهزيمة تلو الهزيمة، فاتهموه وبعضاً من رفاقه بالاشتراك في الثورة السورية ومدّها بالتأييد الماديّ والمعنويّ، فاعتقلوه في 15 شباط 1926 ونفوه إلى أرواد ومنها إلى القدس.

بعد الوعود التي أُعطيت، وانتهاء العمل العسكري للثورة، ومناخ الحرية (النّسبي) الذي ساد لبرهة وجيزة أُطلق سراح علي؛ إلّا أنّه وكالعادة عاد سريعاً إلى جهاده وبيانه وتنظيمه فكان تأسيسه سنة 1927 لعصبة تكريم الشهداء مع صحب ميامين من بينهم صلاح الدين بيهم وقسطنطين يني وفهيم الخوري والشيخ أحمد عارف الزين ويوسف ابراهيم يزبك وجورج عقل وسواهم، وحظر الفرنسيون كالعادة عمل العصبة، واعتبروها غير قانونية ولاحقوا أعضاءها. لكن عليّأً وكثيراً من صحبه لم يأبهوا للأمر.. واستمر عليّ يُرسي عمل العصبة كمحاولة وطنية واسعة لاحتضان ذكرى الشهداء الوطنيين وتكريمهم من خلال تكريم قضيتهم وحفظها وتجديدها، فناصبهم الفرنسيون العداء وطاردوهم حتى عام 1936 حين تولّى ميشال زكّور وزارة الداخلية في لبنان، فأوقف المطاردة عن عصبة التكريم، واعتبرها هيئة وطنية ذات صفة رسميّة تتعاون الحكومة مع أعضائها في وضع منهاج الاحتفال، وكان عليّ رئيساً لتلك العصبة منذ تأسيسها حتى عام 1936.

في سنة 1928، يمّم شطر طرابلس وتولّى مع رفاق له تحرير صحيفة «اللواء» لكن سلطات الانتداب كانت له بالمرصاد، فطاردته وعاد إلى فلسطين…(4) غير أنّه لم ينقطع عن الكتابة في العديد من دوريّات تلك الفترة أمثال «البيرق» و«الأحرار» و«البلاغ» و«اليقظة» وعلى الموضوع عينه وفي الواقع ذاته من الصراحة والجرأة والحدّة في المواقف.

مؤتمر العصبة

وفي مأثرة عليّ الأبرز؛ تناديه ونخبة من رفاقه القوميين القدامى من لبنان وسورية وفلسطين إلى مؤتمر قومي للبحث في شؤون العمل العربي القومي، فانعقد المؤتمر بين 24 و 29 آب سنة 1933، فتمخض عن تأسيس «عصبة العمل القومي» وكان علي، بشهادة المؤتمرين، لولب الاجتماعات؛ وقلبها الحيّ النابض كتابة، وخطابة وتنظيماً وشرحاً دائباً لأهداف العصبة، والعمل المستمر على رعاية فروعها، كما كانت فرصة لاشتراك قومي عميق من جانب علي ابن الستين عاماً في أعمال الثّورة الفلسطينية عام 1936، إلى جانب آخرين من فتيان العصبة ورجالات العمل القومي في أكثر من قطر عربي.(5)

من الذين رافقوا أبا وائل (عليّ) في مؤتمر العصبة واشتركوا في تأسيسها نذكر: الشيخ عبد الله العلايلي والمحامي فهيم خوري والأستاذ ناظم القادري والشيخ قسطنطين يني والأستاذ أكرم زعيتر والدكتور محمّد خير نوري والمحامي شوقي الدندشلي والأستاذ محمّد علي الرز وآخرون، وبعد تأسيس العصبة ترأس علي فرع لبنان كما كان الدكتور محمّد علي الرز أمينها العام، وعلى هذا كانت العصبة سبباً في اصطدام علي مع الاحتلال الفرنسي فتمّ اعتقاله…

وقد تميزت العصبة عمّ سبقها من تنظيمات مثل جمعية العربية الفتاة وحزب الاستقلال والعهد (خلال الفترة الأخيرة من الحكم العثماني)، هو أنّها ميّزت وللمرة الأولى وعلى نحو واضح وكامل بين القومية والدين، أو تحديداً بين العروبة والإسلام، لأنّ القومية غير الدين، والدين غير القوميّة والعروبة، وإن كانت (العروبة) كثيرة القربى والولاء لصعود البعثة المحمّديّة والدين الحنيف، فهي مستقلة تماماً عن الدين، وهي ليست بالتالي قضية إسلامية ــ وهو الموضوع الذي سيوضحه علي، مَلِيّاً، في مقالاته وخطبه ثم بإسهاب في كتابه «قضية العرب» الذي فرغ منه في أواخر الثلاثينيّات. وهكذا وإذا كان هناك الآن من عروبة علمانية ـ ليست ضد الدين إطلاقاً ولكنها في ميدان غير ديني ـ فإنّ الفضل فيها إنّما يعود بالدرجة الأولى إلى عصبة العمل القومي، وإلى إسهام علي ورفاقه، وإن يكُ هو الأكثر قِدَماً بينهم والأكثر نتاجاً ووضوحاً في المسألة.

كان دور علي الأساسي والمركزي في مؤتمر قرنايل في تأسيس العصبة هو «موضع إجماع، على الدوام، بشهادة المُحدِثين؛ كما المعاصرين من أمثال أكرم زعيتر وعبد الله العلايلي، ومحمّد علي الرز وابراهيم يوسف يزبك، وسواهم، وهو موقع تبدّى كذلك في ترؤسه فرع لبنان للعصبة، الفرع الأكثر نشاطاً والأكثر ديمومة. لكنّ ما لا يشار إليه دائماً أو لا يشار إليه بالمقدار المناسب هو دوره الفكري التأسيسي للمشروع العربي القومي الحديث الذي يعود إلى نهاية الثلاثينيّات وإلى ثلاثة أو أربعة كتب تحديداً منها: «دستور العرب القومي» للشيخ عبد الله العلايلي الصادر سنة 1938، و «الوعي القومي» لقسطنطين زريق الصادر سنة 1939 ثمّ «قضية العرب» لعلي ناصر الدين الصادر عام 1946»(6).

إنّ الكثير من أسس برنامج عمل العصبة، كما المشروع العربي القومي الحديث عموماً، إنّما هو في الحقيقة نتاج اجتهاد علي وإبداعه وثقافته وتجربته، مع لحظ الأهميّة الكبرى لما أضافه غيره، إلى هذا الحد أو ذاك.

وفي ذلك كتب لطف الله الخوري عن علي: «كان أحد مؤسسي أول حزب عربي على أسس علميّة وقومية خالصة». أمّا محمّد علي الرز الذي كان أحد المشتركين في مؤتمر قرنايل والذي انتخب أميناً عاماً للعصبة فيقول في ذلك»كان علي القلب النابض لذلك المؤتمر الذي انبثق عنه حزب» عصبة العمل القومي» الحزب القومي الوطني الذي جسد بشكل علمي آمال الملايين من الخليج إلى المحيط والذي تتلخص أهدافه فيما يلي:

  1. العرب أمة واحدة…
  2. الأمة العربية جسم اجتماعي واحد…
  3. البلدان العربية بكليتها وطن عربي واحد.
  4. القومية العربية تنبذ كل ما عداها من العصبيات الطائفية والقبلية والأسريّة.
  5. الحركة العربية حركة تحرير وإنشاء.
  6. تعمل العصبة لإقامة نظام اقتصادي عادل شامل يظفر فيه كل مواطن بحقه المتناسب مع عمله وتحارب الجهل والفقر والمرض.

ثمّ تركز بقيّة الأهداف على الإنماء والمشاريع الاقتصادية والعدل والمساواة بين الرجل والمرأة وضرورة التركيز على التنظيم داخل الدولة. وهكذا،
فإنّ فضل علي الفكري في التأسيس المنهجي لفكرة العروبة العلمانية الحديثة لا يقل عن فضله في الجهاد لمشروعها السياسي والتاريخي، ولعل الرّيادة التي قصدها العلامة العلايلي في تأبينه لعلي ناصر الدين تقع في هذا المفصل بالتحديد.

أما ميزة العصبة الثانية ـ ولعلّ في ذلك بعضاً من تبتُّل علي ـ فهي طلاقها المطلق مع المستعمر طلاقاً يبدأ برفض أي مركز أو وظيفة أو تعاون معه، لينتهي في أشكال المقاومة كافة وصولاً إلى القتال. ويُروى أنّ طبيباً عضواً في العصبة قبل وظيفة ناظر صحيّة دمشق، فما كان من فرع العصبة في دمشق إلّا أن أقاله من عضوية العصبة، وهذا بعض من رهبنة العمل القومي كما فهمته العصبة وكما طبقه عليّ على نفسه وإلى أقصى درجات الاحتمال الإنساني.

في 3 أيلول 1939 مع بدء الحرب العالمية الثانية اعتقل الفرنسيون علي مع كامل أعضاء اللجنة المركزية للعصبة في معتقل «الميّة وميّة» في جنوب لبنان حيث بقي مدّة أربع سنوات (وقد نال الاعتقال من جسمه وصحّته الكثير) ليُفرَج عنه صبيحة يوم استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943…
ويعلق د. شيا: «ومن الطّريف حقّاً أن يخرج علي من معتقله صبيحة يوم الاستقلال كأي معتقل أو مجرم آخر، وكأنْ لا دور له في هذا الاستقلال، بل لكأنّ هذا الاستقلال الذي تحقّق غير ذاك الذي طلبه علي، وضحّى في سبيله بأغلى ما يملك. هذه المرارة هي التي أحسّها عليّ في صدره فقال: «وإنه لمن الغرابة والشذوذ، فعلاً، بحيث يكاد المرء يكفر بعدالة السماء، وصحة السّنن الطبيعية في التطور والتقدم أن تنكشف رواية الاستقلال عن أنّ سماسرة الاستعمار وعبيده صاروا من أبطال الاستقلال وأسياده ــ وما أدري كيف يكون السماسرة والعبيد أبطالاً وأسيادا ــ وعن أن هزل القدر، مضافاً إليه قلّة حياء البشر من كهول وشبان وصبيان، شقّ لأشخاص من مثل هؤلاء طريق التبجّح… وشرف النضال!!!»(7)

نعم لقد طبقت فرنسا بحق عصبة العمل القومي أشدَّ الإجراءات القمعيّة وصلت إلى الحكم بالإعدام، بينما أمر المفوّض السامي؛ غبريال بيو، بملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي واعتقال قادتهم، وبعدم التعرّض للكتلة الوطنية والشهبندريين على اعتبار أنهم لا يشكلون خطراً!

أعضاء المؤتمر الإسلامي العام، القدس 7 كانون أول 1931.

علي في معترك الحق الفلسطيني

تعود علاقة علي بفلسطين إلى عام 1924 فقد عرفها منفيّاً عام 1924 ومجاهداً سنتي 1933 و 1936، ومشتركاً على أرضها في أوّل مؤتمر إسلامي حديث في القدس سنة 1931، المؤتمر الإسلامي العالمي الذي ضمّ وفوداً لامعة من الدول الإسلاميّة. كان ما قدّمه علي ناصر الدين عامي 1947 ــ 1948 هو نبراس آخر مضيء في الطريق القومي الصعب الذي اختاره أبو وائل.

في تلك الفترة، تحوّل علي مع نهاية سنة 1946 وسحابة سنتي 1947 ــ 1948 إلى داعية لا يلين لعروبة فلسطين، وضرورة شحذ الهمم وتعبئة الطاقات وتوحيد الصفوف، دفاعاً عنها، أرضاً وسكّاناً، فاستصرخ في العرب كلّ ما فيهم أن «احفظوا فلسطين» التي تكاد تضيع، وما ترك وسيلة شريفة إلاّ ولجأ إليها، ولم يخاطب العرب فريقاً دون فريق بل رأى، لتفاؤل فيه، أنّ كل العرب سواسية في مسؤولية حفظ عروبة فلسطين ونجدة المجاهدين من أبنائها. وعشية الدخول إلى القتال في فلسطين، وجّه علي إلى رفاقه في «عصبة العمل القومي» نداء قوميّاً حارّاً وفي ما يلي بعض منه: «أيّها العصبويون.. أيُّها العرب، من كان يستطيع القتال ولا يقاتل فهو جبان، ومن كان يستطيع القتال ولا يقاتل خائن وجبان! أدعوكم للقتال، وأبدؤه بنفسي، وملتقانا في بطاح فلسطين…»

ودخل علي فلسطين، مجدّداً، برفقة القاوقجي الذي كان قد ساهم معه في تكوين جيش الإنقاذ لمحاربة الصهيونيين، وكان في قيادة الجيش المذكور، وسهّل مرور أوّل كتيبة عبر الأراضي اللبنانية إلى الجليل في فلسطين بعد أن اجتمع، ومعه أحد رفاقه، الفريق عفيف البزري، مع صديقه قائد الجيش اللبناني، في تلك الفترة، اللواء فؤاد شهاب؛ الذي قدّم المساعدة لهما، وقد شارك علي في استطلاع طريق جيش الإنقاذ، وفي جميع المعارك التي خاضها هذا الجيش في فلسطين وتولّى إدارة قسم الإعلام فيه وإدارة إذاعة فلسطين العربية من رام الله.(8)

كان نداؤه: القتال والإقدام، وهو الشيخ ابن الستين عاماً، وكان لا يخلد إلى راحة متنقّلاً بين موقع وموقع، ومن خندق إلى خندق، وكان إذا حضر موضع حفاوة من قبل المتطوّعين، كما يروي الفريق عفيف البزري شريك بعض مراحل تلك الحملة، هذا إلى اشتراكه الفعلي في القتال والمعارك كما في حصار القدس واللطرون. عاد أبو وائل من فلسطين ـ كما يروي الصحافي المجاهد أكرم زعيتر ـ فارساً مهزوماً جريحاً مكسور الخاطر والقلب(9).

عليّ بعد نكبة فلسطين

اعتزل عليّ في بيته، لا يخرج منه، لا يكتب، لا يحاضر، لا يعتلي منبراً إلّا في النادر النادر وفي موضوع واحد، وهو كيفيّة محو العار، أو الثأر للنّكبة في فلسطين.

وكان عليّ على علاقة وطيدة بحركة القوميين العرب، التي تأسست في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1951، كان تأثيره السياسي في تطوّرها أهم ما تأثّرت به الحركة من خارجها… ويُعْتَقد أنّه كان وراء حملة المقاطعة التي قادتها الحركة في بيروت(10). كما أسّس منشورات دار الحكمة، عام 1955، مع محمود عبد الصمد وعلي أبي حيدر، ليعيد كتابة التاريخ العربي بشكل علمي وصحيح لبعث التراث العربي الفكري، لأنه يؤمن بأن الحضارة العربية حضارة إنسانية تستطيع مواكبة التطور في العالم(11). وألّف عدة كتب أهمها قضية العرب الذي عبر فيه عن مفهومه الحضاري للقومية، وردّ على الذين يخلطون بين العروبة والإسلام، واعتبر أنّ العمل السياسي يجب أن يؤدي إلى المساواة والعدالة لكل أفراد المجتمع، وقد أنجز تأليف جزء من الكتاب المذكور وهو في سجن «الميّة وميّة».

كان للهزيمة في نفسه ثمن يجب دفعه، فقد أدّى اعتكافه وخيبته وحزنه وحدّته العصبية البالغة إلى تأزّم تدريجيّ في وظائف جسمه الحيويّة وفي تصلّب شرايين القلب، خصوصاً، فانحطّت قواه، تدريجيّاً، في نهاية الخمسينيات وسحابة الستينيات وما بعدها، ليجد أخيرا،ً راحته الأبديّة في رضوان ربّه، في 29 نيسان سنة 1974، عن عمر ناهز السادسة والثمانين(12). وكانت كلمته الأخيرة حيث وُجِدت بين أوراقه مُدَوّنة قبل ساعات من وفاته: «سأبقى منقطعاً عن كتابة مذكّراتي ما دامت هذه الأمّة التي من أجلها كدت أموت، ويا ليتني متُّ قبل أن يدركها الذلّ والعار، مُتضرّعاً إلى الله أن ينقذها ولو بأسبوع قبل أن أموت رغم ما أتألّم منه من مرض النشاف»(13).

رؤية شاملة لتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده

هي رؤية صائبة، ما كان يلحّ عليه عليٌّ، في إعلانه وشرحه والتفصيل فيه، منذ أولى كتاباته في العشرينيات، عبر مجموعة كتابات، في أجزاء منها: «هكذا كنا نكتب» وغيرها…

وفي ذلك، تبلور مشروعه العربي القومي النهضوي والوحدوي، مذ هُزِمت أوّل تجربة عربية استقلالية حديثة، سنة 1920، على يد الفرنسيين بعد احتلالهم دمشق…» وليبلغ ذروته – حسب اعتقادي – في تأسيس عصبة العمل القوميّ، سنة 1933، أعظم إنجازاته على الإطلاق(14).

نظر عليّ ناصر الدين للأمة العربية في تاريخها الإجماليّ، فكتب في تاريخ العرب قبل الإسلام «سلسلة الثائرون العرب في التاريخ»، وصدر منها «أذينة والزبّاء» و»الملك سيف بن ذي يزن»…

كان له همٌّ واحدٌ وقضية واحدة هي «قضية العرب»، وهو كتاب صدر في طبعات ثلاث، الأولى عام 1946، والثالثة والأخيرة صدرت عام 1963. والكتابُ نظريٌّ رئيسيٌّ بالغ الدقّة رغم شموليّته؛ فالعروبة، عنده، قوميّةٌ، ترتكز على بعث الأمجاد السالفة، بهدف إقامة دولة عربية واحدة. ويحدّد علي هوّيّته، فيقول: «نعم، أنا قوميٌّ، ومعنى ذلك أنّني عربي مؤمن بعبقريّة أمّتي وحقها في الحياة حُرّة مستقلَّة مُوَحّدة، ومؤمن بمستقبلها العظيم وبأنني وأخواني القوميّين العرب بُناة هذا المستقبل»(15).

العروبة لدى عليّ تشمل كلّ العرب بِغَضِّ النَّظر عن الانتماء الدينيّ

يقول عليّ: «إنّني أعتبر كلّ عربي – مهما يكن منشؤه، ومهما تكن عقيدته الدينيّة – أخاً لي مُتَمِّماً لِقَومي… وإنّني حارس العروبة؛ أحميها بأخلاقي وأقوالي وأعمالي ودمي… رسالة القوميين العرب هي رسالة القوّة والحق والخير إلى العرب ثمّ إلى الناس، كافة، ويريد القوميون من وراء ذلك أن يخلقوا من الناشئة العربية، ذكوراً وإناثا،ً جيلاً قويّاً صالحاً جريئاً خَيِّراً عاملاً مؤمناً… يعمل لإنشاء كيان قومي عربي موحّد قوي: أي دولة عربية اتحادية كبرى، تستند إلى القومية الخالصة، وتحارب الفَقر والجهل والمرض والظلم وكلَّ عصبيّة إلّا العصبية القوميّة(16). وإلى اللبنانيين يتوجّه علي ناصر الدين بخطابه، فيقول: «لا قوميّة لنا إلّا القومية العربية، فنحن عربٌ، نعمل، ونجاهد في إيمان وإخلاص للوحدة العربية، ونريد أن نقنع اللبنانيين، كافة، بهذا؛ ولا يتيسر لنا ذلك ما نوقّعنّ في نفوس الذين من اللبنانيين ربّتهم الإرساليات السيّارة والمعاهد الأجنبيّة الثابتة تربية غربية، وأشربتهم روح النفور من العرب والعروبة… لا يتيسر لنا ذلك ما لم نوقظ في نفوس هؤلاء، جميعاً، الشعورَ بالقومية العربية المرتكزة على التاريخ واللغة والأدب والتقاليد والسلالة الغالبة والمصلحة المشتركة…»(17).
ومن قبل، كان عليٌّ يقول بهذا في نهاية العشرينيّات، في وقت كانت فيه الأوساط الثقافية المحلّية في سورية واقعة تحت تأثير الأب لامنس (الفرنسي) اليسوعي ونظريته حول سورية السورية غير العربية. وإلى هذا يشير د. محمّد شيا: «أرسى علي ناصر الدين، منذ نهاية العشرينيات، الخط العربي الخالص الصّراح، والذي لا تشوبه شائبة، ولا يدخل فيه غير العامل القومي دون سواه، لذلك يجب أن نضيف – ومن باب الأمانة العلمية – أنّ عليّاً يستبق، زمنيّا،ً في ذلك غالبية القوميين العرب ومنظّريهم ومفكّريهم، وأنَّ هؤلاء سيجدون، بالتالي، في كتابات عليّ، كما تثبت كل قراءة مقارنة، بذورَ كثير من أفكارهم وأصولاً غير نظرية من نظرياتهم، بل وقدراً لا بأس به من تفاصيل شكل خطابهم القومي وأدواته وصياغاته»(18).

علي ناصر الدين والثورة السورية الكبرى

يقول د. محمّد شيا إن العاصفة الهادرة التي أطلقها سلطان باشا الأطرش بإعلان الثورة السورية الكبرى عام 1925، كانت الرافعة القوميّة الضخمة التي قلبت مسار الأحداث «أطلقت من جديد التيار القومي العربي التوحيدي، وكسرت حاجز الخوف، وألزمت الفرنسيين في تنازل غير مباشر على التخلّي عن سياسة تفتيت سورية إلى دويلات مصطنعة وإلى اعتراف متزايد بالحكم الذاتي؛ مع قدر من الحرية تجلّى في تنظيم الأحزاب والانتخابات وما إليهما..» في تلك الآونة غدا علي ناصر الدين صوت الثورة في الصحافة البيروتية والعربية، إلى رفاق آخرين له، وَرَدّ الفرنسيون على الفور باعتقاله وسوقه موثوقاً إلى سجن القلعة بتهمة مراسلة زعماء الثورة في سورية، والعمل على تأمين المدد لها(19).

كتب علي في تلك الفترة «إنّ دمشق واسطة العقد في جيد هذا الشرق العربي الذي يستيقظ استيقاظ الجبار الكريم… دمشق معلّمة بلاد العرب الغضب للكرامة… فنحن نصرّح باقتناع أننا دمشقيّون شاميّون وعراقيّون وحجازيّون ونجديون ويمنيون ولبنانيون وأيّة غرابة في ذلك» ويقول أيضاً «لقد كنّا نقول: إننا عرب سوريون أصحاب عقيدة قومية.. وإننا نريد أن نكون أسياداً في بلادنا أحراراً نقول ذلك ونعمل له في صراحة وإخلاص وروية وإننا نريد وحدة سورية فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم ونعمل لذلك في إخلاص وصراحة ورويّة».

وفي رؤية حضارية غير عرقية ولا عنصرية للقومية يقول علي»العربي هو من كانت لغته العربية»(20). في شباط 1930 كتب أيضاً «إنّنا عُصَبٌ تدعو إلى تشييد الكيان السياسي على أسس القومية الخالصة وإنّ قسطا وغسان العربيّين لأقرب إلينا وأحَبُ من محمّد خان العجمي وعصمت قره بكير التركي. وأن يلحد أحدُنا بالدين لا يعنينا في شيء مثل أن يُلحد بالعروبة»(21).

آمن علي بأولويّة العروبة ولزوم تفعيل الدين الإسلامي في مواجهة الاستعمار الغربي وكان المستعمر الإنكليزي يتوجّس من نشاطه في هذا المجال، وفي هذا يقول د. محمّد شيّا «وليس من المصادفة في شيء أنّ المستعمر الإنكليزي في فلسطين يقبل علي ناصر الدين عضواً في المؤتمر الإسلامي لسنة 1931، بينما يتّهمه أنّه يسعى من وراء ذلك إلى مؤتمر عربي قومي ممنوع»(22).

علي ناصر الدين والحق الفلسطيني

حذّر علي أهل فلسطين منذ 1924 بقوله «يا أبناء فلسطين، لا تضيّعوا فلسطين» وهم لم يسمعوا همسه العاقل «أيّها العرب الفلسطينيون… ألا أن تجمعوا كلمتكم وتنظموا صفوفكم وتعملوا جادّين مخلصين وتعدّوا لهم في علم ما استطعتم حتى ترهبوا عدوّكم وتحفظوا فلسطين». بهذا، منح أبو وائل القضية روحه وعقله وجهاده، فدقّ النفير قبل الكارثة بزمن، إذ حذّر وأنذر وألمح وأفصح، وشرح بالحجّة والبرهان طبيعة الخطر الداهم في أحاديث وخطب ومؤتمرات واتصالات ومؤلّفات… وحَمَل جسده النّحيل إلى فلسطين وهو في الستين من عمره مجاهداً في جيش الإنقاذ… وبعد الكارثة كتب يقول: عاهدت نفسي بعد النكبة ووفيت على أمور ومنها أن لا أحاضر ولا أخطب ولا أحضر حفلة أو اجتماعاً إلا أن يكون الغرض منه البحث الجدي في محو العار الذي ألصقه بالعرب، فريق من العرب أنفسهم، قبل الإنكليز، وقبل الأمريكان وقبل اليهود، والمداولة في الخطّة التي يليق بالعرب ويترتَّب عليهم أن يتقيَّدوا بها ويسيروا عليها. وليس غريباً أن يكون عدد من المنظمات القومية التي حاولت الردّ على النكبة إنّما قامت تحت تأثير مباشر من أفكار علي ناصر الدين، وربما بهديه وتوجيهه، من منظمة «شباب الثأر» إلى حركة القوميين العرب «وغيرهما من ردّات الفعل التي ظهرت بعيد 1948.

ويقول علي بثقة «كانت فلسطين وما برحت جزءاً من بلاد الشام… وستظل كذلك ما دام في العالم لغة عربيّة وقومية عربية وأخلاق عربية وأنَّ الفلسطينيين كانوا وما زالوا عرباً شاميين … وسيظلون كذلك ما دامت الأرض لا تبدّل غير الأرض والسماء لا تبدّل غير السماء»(23).

علي في مواجهة الصهاينة

القائد فوزي القاوقجي
في قرية جبع سنة ١٩٤٨

ويدرك علي مدى تقصير قومه العرب في البذل دون حقّهم المُهدد في فلسطين فيقول: «التقصير من أهل الحق أحال الحقيقة إلى حلم وذكرى، هو ذا الفارق بين ما فعله اليهود وما لم يفعله العرب يقول علي ناصر الدين من على صفحات جريدة الكرمل في حيفا 1924 «عرف الصهيونيون فصرفوا معارفهم وجهودهم في المُنصَرف الذي تَصرف فيه الجماعات الحيّة معارفها وجهودها فأنشأوا الجمعيّات وألّفوا النّقابات صناعية وزراعية وتجارية وأسسوا المعاهد وأقبلوا على العلم زرافات فإذا منهم جيوش مُتعلّمة عاملة منظّمة وإذا هم يسيرون في الاقتصاد والاجتماع والسياسة في سبل قويمة وعلى خطط مدروسة مقرّرة ثابتة سيبلغون بواسطتها إلى ما يريدون إذا هم لم يُصدموا صدمة عنيفة وإذا هم لم يحارَبوا بسلاحهم من علم وعمل…»(24). وبالإضافة إلى ما سلف يقترح علي في مواجهة الصهاينة سلاح المقاطعة الشاملة اقتصادياً واجتماعياً وعلى هذا فليس غريباً أن ينعقد أوّل مؤتمر عربي قومي في فلسطين أواخر سنة 1931 في القدس وعلى هامش المؤتمر الإسلامي العالمي في حينه حيث اختير الأمير شكيب أرسلان أميناً عاماً للمؤتمر وكان عملاء الإنكليز يستريبون بنهج عليّ القومي العروبي في المؤتمرين ويعملون ضدّه في الخفاء(25)

لقد اجتمعت المذاهب الإسلامية كافة لرد الغزوة الغربية المُتمثلة في الأطماع الصهيونية في فلسطين بغضّ النظر عن التباين والتمايز، بل أمَّ المصلّين في الأقصى ولأوّل مرة إمام من الشيعة وأشاد المؤتمر في مقرراته بمواقف النّصارى الشجاعة، وانصهارهم التام مع الحركة الوطنية الفلسطينيّة، كما يقرّ علي بذلك. وتطور موقف علي من الكلام والتحذير إلى العمل والتنظيم المتمثل في تأسيس عصبة العمل القومي إثر مؤتمر قرنايل 1933 وكانت القضية الفلسطينية الحاضر الأكبر في المؤتمر، وإلى هذا يشير محمّد شيّا، أنّ العصبة « رفعت الردّ على الغزوة الغربية الصهيونية من مستوى الردّ القطري إلى مستوى الردّ القومي..». وكان بين المؤتمرين شبّان من فلسطين وسورية ولبنان… ويذكر الدكتور محمّد علي الرز أمين عام العصبة أنّ علي ناصر الدين طلب من الحاضرين وقد اتّجهوا جميعاً صوب قبلة فلسطين أن يُقسموا على الدفاع المستميت عن عروبتها.

ولهذا الموقف المبدئي من الحقّ الفلسطيني ومساعدة علي للمجاهدين والثوار وبالوسائل كافة اعتقله الفرنسيون في الفترة بين عامي 1939 و1943
غير أنّه «وبعد خروجه من السجن عاد أبو وائل إلى ديدنه في لجوئه إلى كل وسيلة ومناسبة، في الصحافة ومحطّة الإذاعة واللِّجان، وسواها، داعياً إلى تكثيف العمل والجهد في ردّ الخطر الصهيوني، وعلى هذا فقد أنهى حديثه الإذاعي من محطة بيروت في الثاني من تشرين الثاني عام 1946 بندائه: «أقول لمن يشاء منكم إلى اللقاء في ساحات الشّرف ولا أذكّركم بخضاب الرجال، فإنكم في ما أظن لذاكرون. وبين تشرين الثاني 1946 و1948، تاريخ دخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين كان اشتراك علي حاسماً في التحضيرات والاستعدادات ومَدّ المقاومة في الداخل بما تحتاجه من مال وسلاح… كانت استعدادات مشتركة مع القائد فوزي القاوقجي الذي محضه علي تقديراً يستحقّه، وتولّى عليّ محطته الإذاعية التي واكبت الحملة… وفي أكثر من حالة كان علي وقد جاوز الستّين وهو في مرضه وهُزاله يرافق الوحدات العسكريّة… وكما يروي الفريق عفيف البزري أنّه كان مرافقاً لأوّل كتيبة عسكرية دخلت عبر الأراضي اللبنانية …

وفي داخل فلسطين كان علي لا يهدأ من موقع إلى آخر، وكان حيثما حل بين المتطوعين أو الأهالي موضع انتظار وترحيب(26)… وبعد الكارثة، أو النكبة، كما يعبّر علي، صُدِمَ الرّجل. يروي محمّد علي الرز حيث كان مع بعض العصبويين في حديقة منزل أبي وائل؛ المقرّ الفعلي للعصبة، بعد سنتين من النكبة، وعلا صوتهم قليلا في مرح خفيف، فما كان من علي إلّا أن خرج من مكتبه يصرخ فيهم، فانصرف هؤلاء، ولما فاتحوه بعد يومين عن سرّ غضبه، أجاب ببساطة: كيف تستطيعون المرح والضحك وعار النكبة ما زال في الأعناق! وفي هذا يقول علي: كنت قد عاهدت نفسي بعد النكبة ووفيت على أمور منها: أن لا أحاضر ولا أخطب، ولا أحضر حفلة أو اجتماعاً، إلّا أن يكون الغرض من هذا كله البحث الجدّي في محو العار الذي ألصقه بالعرب فريق من العرب أنفسهم؛ قبل الإنكليز والأمريكان، وقبل اليهود، والمداولة في الخطّة التي يليق بالعرب أن يتقيدوا بها، ويسيروا عليها(27).

مقترحات علي ناصر الدين لترسيخ الوحدة الوطنيّة اللبنانية

من أجل لبنان العربي السيد الواحد المستقل يقترح علي جملة من الوسائل لم تزل حالة ضرورية يلزم العمل عليها إلى يومنا هذا وأبرزها: تذكرة الهويّة بدون ذكر لدين المواطن، وتطبيق التجنيد الإجباري كواجب مقدّس، وتوحيد منهاج التربية والتعليم توحيداً مُطلقاً كركيزة أساسية لتحقيق الوحدة الوطنيّة وألّا ينحصر تمثيل النواب بمناطقهم فقط لأنّهم يمثّلون الشعب بجميع فئاته، وتجريم كل من يسعى بالفعل أو بالقول إلى التفرقة بين اللبنانيين باسم الدين أو المذهب(28).

خاتمة

يتساءل د. شيا في خاتمة كتابه: ماذا تبقّى من علي ناصر الدين؟ ويجيب بقوله: لقد استقلّت بلاد العرب فعلاً، ولكن ما الذي يُثبت أنّ بلاد العرب للعرب وحدهم، دون سواهم، كما حلم أبو وائل ورفاقه، القوميون الأوائل؟ فالكثير من مقوّمات الاستقلال هي في يد القومية الاستعماريّة الكبرى التي ما خرجت من الباب السياسي والعسكري إلّا لتدخل من النافذة الاقتصاديّة، والثقافية والتقنية، وسواها.

استشعر العرب مكامن الوحدة القائمة في ما بينهم في كلّ منحى من مناحي حياتهم، فقضية العرب هي دائماً قضية الوحدة، من وجهة نظر علي ناصر الدين، وكانت الجامعة العربية عام 1945 على عيوبها وعجزها وإخفاقاتها؛ خطوة نحو الوحدة العربية(29). ولا يشذّ عن هذا مجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي، واتحاد المغرب العربي وغيره من المحاولات الوحدويّة، وهذا يؤكّد صدق ما دعا إليه وجاهد من أجله علي ناصر الدين، كما تحقَّق للعرب مقدار غير قليل من التقدُّم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي… غير أنّ «عنق اقتصاديّات العرب، ومواردهم الاستراتيجية هي في الدول الاستعمارية العظمى وشركاتها العملاقة المتعددة الجنسيّة…»(30).
نعم تحققت نجاحات، وفي المقابل حدثت خيبات، لكنّ «أشدّ ما أدمى قلب علي، ومزّق روحه وجسده هو الجرح الفلسطيني، أو نكبة فلسطين. لقد خلخلت النكبة كيانه كلّه لكأنّه عليّ بعد النكبة غير علي قبلها، كيف لا وهو العائد مهزوماً من حرب ١٩٤٨ في شهادة أكرم زعيتر الذي يقول: «بدا فارسنا وهو عائد من المعركة أشعث أغبر كسير الخاطر، جريح الفؤاد… وكأنّي به وقد توارى عن المجتمع المهزوم إنّه استُشهد قبل أن يُستَشهد، ورأيت فيه وهو زاهد في دنياه، فارس الملحمة الذي صُرع يوم صرعت فلسطين»(31).

توقيع ميثاق تأسيس جامعة الدول العربية سنة ١٩٤٥.

إنّ أعظم مآثره لا تكمن في ما كتب أو حاضر فقط وإنّما في ما فعل ومارس، بل في شكل فعله وممارسته. يقول فيه العلامة عبد الله العلايلي يوم تأبينه: «… ثمّ عرفته من قريب فعرفت فيه إيمان الأنبياء يوم تجسّد، وبراءة قلب القديسين، ومُنْعَقَدَ عزم الأبطال وتألّق وصبح الحرّية في مقلة الأحرار». وفيه يقول معاصره عارف النكدي في تقديمه كتابه «هكذا كنا نكتب «ملّت دوائر الانتداب على قوّتها المادية عداءه، وما ملّ، على ضعفه المادي عداءها». ولعلّ العالم الجليل الشيخ أحمد رضا يفيه حقه حين يقول: «… إذا قيل من هو المجاهد الحرّ الصابر على حرّ الجهاد الماضي على سُنَّته في نُصرة العرب والعروبة، الصادق في جهاده، الذي لا يبالي بالآلام والشدائد مهما عظُمت… لقلت لهم: ذاك علي ناصر الدين». أمّا فخري البارودي من الرعيل القومي الأوّل فحين سُئل في أواخر أيّامه من هم العشرة من رجالات العرب في القرن العشرين دون أن يصيبوا مغنماً ودون أن يخدعوا قومهم وظلّوا أوفياء لعروبتهم رغم النّكران والجحود حتّى وافته المنيّة فأطرق قليلا ثمّ قال: «هم ليسوا عشرة بل لا يتجاوزون الأربعة، ثمّ عدّ أربعة كان علي في طليعتهم».

وفي حفل تأبين علي في 18 أيّار 1974 قال يوسف إبراهيم يزبك رفيقه ردحاً من الزمن: تسألون ماذا بقي من علي ناصر الدين؟، وأجيب: سياسيّاً يبقى المناضل الشجاع واللّحن الصريح في أنشودة الاستقلال والعروبة… يبقى علي ناصر الدّين في القمّة. ساعة وارَوْه في ترابه دنا منه أخوه، ورفيق جهاده الذي سُجِن معه وكُبِّلا بقيد واحد قبل خمسين سنة، دنا منه وقال: يا أبا وائل، لأجل تحطيم سلطانهم، ومنع استغلالهم ستتابع القافلة سيرها… وأبشر يا أبا وائل، فالمحطمون يكثرون والحمد لله».

وفي حفل تأبينه كذلك كانت شهادة نصري المعلوف رسالة اعتذار لهذا الذي مات وحيداً مريضاً منسيّاً… فيقول: «الثمانون بما حفلت وبما حملت؛ هل كانت إلّا وقفاً على رسالة بدت في طفولتها ضرباً من الخيال… ولكنها في تصوّرك وإيمانك هي الحقيقة المحتومة الآتية لا ريب فيها؛ ولكن دعوت لها وعلّمت بالقلم واللسان والقدوة المثلى… إنّ سبيلك إلى غايتك إنّما كانت مجاهدة وجهاداً وصبراً وحرماناً… ويشير المعلوف إلى أولئك الذين كانوا يعتبرون نضال علي من أجل قضية العروبة خيالاً ومحالاً، وكفراً وضلالاً، ومجلبة للقهر والحرمان، عرفوا كيف يمتطونها وهي بوابة العز والسلطان بينما علي يقف «في الموضع النائي العالي ينظر من بعيد إلى المتزاحمين المتصارعين المتهالكين على الغنائم والأسلاب والسبايا…» ثم يضيف: «حنانيك يا أبا وائل، وكم أحبّت أذناك هذا النداء أنت في بني قومك قدوة نادرة وذكرى عاطرة ومشكاة هدًى غائبة حاضرة، أيّها القويّ في حَوْبائه، الفتيّ في هيجائه، الأبيّ في بأسائه، الوفيُّ في أصدقائه، سلامٌ عليك في الخالدين».

ويختم شيا في خاتمته: «لقد آمن علي أن الوحدة لأمّته هي الحياة والوجود والمستقبل، أمّا دونها فلا شيء يبقى أو يدوم. إنّ الأيام لتثبت أنّ عليّاً كان على حق، وأن الهدف الذي سعى إليه ومنحه عمره كان يستحق ذلك العناء رغم جحد الجاحدين وإنكار الجامدين. لقد نجح علي العليل الضعيف المُتَوحّد في كَسْرِ القيود كلّها، وشق الطريق الصحيح… فهل نخفق اليوم ونحن كثر أقوياء أصحّاء! أبا وائل؛ في ذكرى مولدك المئة، سلام عليك!


المراجع:

  1. بدران، أحمد، الاتجاه الوحدوي في فكر علي ناصر الدين، الدار التقدمية، ط 1، 2010، ص 9.
  2. بوسعيد، خطار، عصبة العمل القومي ودورها في لبنان وسورية، 1933ـ 1939، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص 127.
  3. الكبيسي باسل، حركة القوميين العرب، بيروت دار العودة، ط 2، ص 134.
  4. بوسعيد، خطار، م س، ص 129.
  5. إسماعيل، فايز، البدايات، منشورات حزب البعث العربي الاشتراكي، 1980، ص 5.
  6. شيّا، محمّد، علي ناصر الدين، صفحات من الفكر القومي العربي، منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء، 1993، ص 28.
  7. م، ذاته، ص 29.
  8. شيّا، محمّد، م، س، شهدة من عارف النكدي، هامش ص19.
  9. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 14.
  10. شيّا، محمّد، علي ناصر الدين، م، س، ص46.
  11. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص 367
  12. شيّا، محمّد، م، س، ص 49.
  13. شيّا، محمّد، ص 37.
  14. شيّا، محمّد،م، س، ص 37.
  15. شيّا، محمّد، م، س، ص24.
  16. نفسه، ص 23.
  17. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 5.
  18. بو سعيد، خطار، عصبة العمل القومي..، ص 71.
  19. ناصر الدين، علي، قضيّة العرب، ص 34.
  20. نفسه، ص 91ـ 92.
  21. “المجاهد علي ناصر الدين”، ص8.
  22. شيّا، محمّد، م، س، ص 56.
  23. ناصر الدين، علي، قضية العرب، ص 83.
  24. شيّا، محمّد، م، س، ص 57.
  25. ناصر الدين، هكذا كنا نكتب، ص 54.
  26. شيّا، محمّد، م، س، ص 69.
  27. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 15
  28. شيّا، محمّد، ص 79.
  29. ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 18.
  30. شيّا، محمّد، ص84.
  31. . ناصر الدين، علي، هكذا كنا نكتب، ص 278.

 

 

المجاهد حُسَيْن مُرشِد رُضوان

صورة تجمع سلطان باشا الأطرش وحُسين مُرشد رضوان.

آل رضوان «عائلة معروفيّة تراثيّة نامية، يمنيّة الأصل شأنها شأن معظم العائلات الدّرزيّة، جمهورهم في عاليه مقامهم الأوّل، ثمّ في السّويداء وبيروت وهم من أصحاب الرّأي والنفوذ في محيطهم».(1)

 

وُلد حُسين مُرشد رضوان عام 1887، في مدينة السّويداء في جبل العرب وتعلّم في مدارسها الأهليّة والأميريّة. وقد نشأ يتيماً بسبب استشهاد والده في إحدى معارك المواجهات ضدّ العثمانيين عشيّة القرن التاسع عشر، وقد رعته بعدها أمه التي تنتمي لآل أبو سعدى وكانت سيّدة قوية الشخصية عرفت بشجاعتها التي تضارع شجاعة أشدّاء الرجال في زمنها.

وفي الحملة الظالمة التي شنّها سامي باشا الفاروقي على الجبل عام 1910، شارك حسين مرشد رضوان في معركة الكفر، ويذكر محمّد جابر في كتابه «أركان الثورة السوريّة الكبرى، ص 243»، بأنّه «كان وطنيّاً مُخلصاً، شجاعاً ومعتزّاً بنفسه».

ولما كانت السّويداء تشكّل الحاضرة الرّئيسة في الجبل وإليها تصل المؤثرات السّياسية قبل غيرها من حواضره، فقد كان الرّجل واحداً من شباب الجبل المنتسبين إلى الجمعيّة العربيّة الفتاة التي كانت تمثّل الحراك العربي الهادف للإصلاح في بنية الدّولة العثمانيّة، ولكنّ عنصريّة حزب الاتحاد والتّرقي التّركي في السّنوات الأخيرة من عصر الدّولة العثمانيّة؛ بعد انقلابهم على السّلطان عبد الحميد الثاني عام 1908، وتبنّيهم النّزعة الطّورانية (التعصّب القومي للعنصر التركي) التي هدفت إلى تتريك العرب وغيرهم من الشّعوب غير التركيّة الخاضعة للدّولة العثمانية آنذاك جعل المُتنوّرين العرب يعملون على الانفصال عن تلك الدّولة بعد أن كانوا يطالبون بالإصلاح والبقاء ضمن إطارها.

ولهذا كان حسين مرشد رضوان النّاقم على الظّلم العثمانيّ وهو العروبيّ النّزعة واحداً من فرسان بني معروف الدروز الذين توجّهوا إلى مدينة العقبة لملاقاة الأمير فيصل بن الحسين قائد حملة الجيش العربي القادمة من الحجاز لأجل المساعدة على دخولها بلاد الشام وطرد العثمانيين؛ قاتليّ أبيه منها.

وبعد ذلك كان أحد الفرسان الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش في الثّلاثين من أيلول سنة 1918، وكان السّبق لهم في رفع العلم العربيّ على سراي الحكومة فيها، قبل وصول الجيش الذي كان يقوده الأمير فيصل بن الحسين، وقبل دخول الجيش البريطاني الذي كان يقوده الجنرال البريطاني اللّنبي الذي غضب لسبقهم إيّاه في الدخول إلى دمشق، لأنَّ اللّنبي الذي كان يعتبر نفسه من إرث الصليبيين وهو القائل عند دخوله القدس «الآن انتهت الحروب الصليبيّة»، كان يريد أن يُظْهر نفسه السبّاقَ لدخول دمشق عاصمة الأموييِّن، وكمحرّر للعرب من العثمانييِّن.

.

فترة التمهيد للثّورة

لم تَقُم الثّورة السّوريّة الكبرى عام 1920ــ 1927، هَبّة مِزاجية من رجل فرد، بل سبقها تمهيد فكريّ وسياسيّ بدأ منذ دخول جيش الاحتلال الفرنسيّ دمشق، بل منذ أن افتُضِحَت اتّفاقية سايكس بيكو، ومؤامرة الإنكليز والفرنسيين على الآمال التي بشّرت بها الثورة العربية بالتّحرّر من الاحتلال العثمانيّ الذي خيّم على الأمّة لأربعمائة عام ونيّفٍ سلفت. كان الوطنيّون والعروبيّون السوريون وفي طليعتهم سلطان باشا الأطرش يرَوْن في تنفيذ مقرّرات المؤتمر السّوري عام 1919مفتاحاً لنهضة الأمّة. ولكن بدخول غورو دمشق انقسم مجتمع الجبل بين من رفضَ الخضوع للاحتلال الفرنسي وبين من قَبِل به كأمر واقع، ومن هنا انطلق العمل السرّي الذي كان حُسين مرشد أحد عناصره البارزين في مدينة السّويداء عاصمة الجبل، ذلك العمل الذي كان على رأسه كلٌّ من سلطان باشا الأطرش ورشيد طليع وعلي عبيد ومحمّد عزّ الدين الحلبي وغيرهم.

هكذا كان الرّجل أحد الشّخصيّات البارزة المهيّأة للقيام بعمل ثوريّ تلبية لنداء الواجب الوطنيّ. فعندما قام سلطان بانتفاضته من أجل ضيفه أدهم خنجر عام 1922 لم يكن يقوم بعمل فردي لإنقاذ ضيفه شخصيّاً فقط. بل كان ذلك ضمن خطّة عمل وطني يقوم على رفض الاحتلال، ومن هنا كانت مساندة حسين مرشد رضوان وقيادته لخمسين فارساً بهدف قطع الطّريق على أيّة قوّة فرنسيّة قد تقوم بملاحقة سلطان باشا أو اعتقاله.

ولجدّيّة مساهمته في العمل السياسيّ المُمَهّد للثّورة فقد أقسم يمين الجهاد، وذلك في اجتماع سرّي عُقِد في منزل المجاهد محمّد عبد الدّين في السّويداء في اجتماع شارك فيه خمسةٌ وخمسون ناشطاً من رجال الجبل، وفيما يلي نَصُّ القسم: «أقسم بالله العظيم أن أقيم الثورة وأكون فدائيّاً تجاه خِدمة وطني وأقدّم دمي وكلّ إمكانيّاتي وأدافع عن كرامة أمّتي ورفاقي المُخلصين حتّى أُحقّق الحرّيّة والاستقلال لبلادي سوريّة والله على ما أقول شهيد». وإلى هذا القسم يشير الباحث محمّد جابر بقوله» ويُعتقد أنّه القَسَم الذي صاغه رشيد طليع منذ عام 1920». وقد عُرِف حسين مرشد بمواقفه الوطنيّة التي جعلت منه شَوْكة في عيون السّلطات الفرنسيّة في الجبل.

.

مُطْلِق الرصاصة الأولى في الثورة السوريّة الكبرى

يُعْتَبر حسين مُرشد عضواً مؤسّساً في الجمعية الوطنيّة لشباب الجبل التي رأسَها سلطان باشا الأطرش في عهد كاربييه، وكانت هذه الجمعيّة تدعو إلى وحدة الصفّ الوطنيّ والمحبّة والتعاون ومقاومة التّسلّط ومناهضة المستعمر، وقد ضمّت نحو خمسمئة شابٍّ، وكانت تتمتّع بتأييد الرأي العامّ في سائر الجبل. كما كانت تنفّذ نشاطات وطنيّة كالتّظاهرات والاحتجاجات على مظالم كاربييه، الحاكم الفرنسيّ للجبل، ومعاونه موريل. وفي مظاهرة 7 تموز 1925 عندما حاول موريل ورجال الدّرك الفرنسيّ قمع مظاهرة شباب السويداء السَّلميّة بالعنف والعصيّ اشتبك المتظاهرون معهم بالأيدي ورشقوهم بالحجارة، فأطلق موريل النّار على المتظاهرين. عندها هاجمه حسين مرشد وأطلق عليه النّار من مسدّسه كما انهالت على موريل وعلى جُنْدِه الحجارة من سائر المتظاهرين، فوقعت قُبّعتُه وتدحرجت على الأرض، وقد أصيب بجرح في رأسه وجُرِح عدد كبير من جنوده.(2)

وهكذا كانت رصاصة حسين مرشد هي الأولى في وجه الفرنسيين إيذاناً بالثورة السوريّة الكبرى. وقد أدى موقفه الجريء هذا إلى انتقام الفرنسييّن منه فعزموا على هدم داره وتغريم أهالي السّويداء بمبلغ مئتيّ ليرة ذهبية. لكنّ مئات من الرّجال المسلّحين من السّويداء وجوارها حَمَوْا الدّار، فتراجع الفرنسيّون عن قرار الهدم وأصدروا قراراً بديلاً يقضي بنفي حسين مرشد وعشَرَة من رفاقه من المدينة، وتسليم عشَرَة شبّان من أبناء وجهاء السويداء كرهائن ريثما تهدأ الحال ويستتبّ الأمن.

حُسَيْن مُرشِد رُضوان

نعم لقد كانت تلك الحادثة التي جرت قُبَيل إعلان الثورة بعشَرة أيّام من أبرز الأسباب التعبويّة التي كانت الصاعق الذي عجّل بإشهارها. تلك الثورة التي جَرّعت الفرنسيّين هزيمتي الكفر والمزرعة منذ أيّامها الأولى.

صموده أمام مغريات الفرنسييّن

كان الفرنسيّون قد عملوا جاهدين على شراء ولائه لهم، لكنّ ولاءه للوطن أفشل عروضهم، وعندها اعتبروه عدوّاً لدوداً، فراقبوا حركاته وضيّقوا عليه، وقبيل وقوع حادثة المظاهرة كان الليوتنان موريل قد اعتقله عشَرة أيّام أُجْبِر خلالها على الأشغال الشاقّة؛ منها تكسير الحجارة والعمل بشقّ الطّرق حاسر الرّأس حافي القدمين. يجلدونه كلّ يوم ثلاث مرّات ونهاية النهار يُحْبَس ليقضي ليله في مخزن للفحم!!.

دور قيادي وبطولي في عمليّات الثورة

أمّا بعد هزيمة الفرنسيّين في معركة الكفر، فقد كان حسين مرشد أحد قادة المجاهدين الذين كُلّفوا من قبل سلطان باشا بحصار قلعة السّويداء التي لجأ إليها تومي مارتان حاكم الجبل بالوكالة مع نحو خمسمائة من الفرنسيّين وبعض العملاء التّابعين لهم.

وفي يوم التّراجع أمام الزّحف الفرنسيّ مساء أول آب 1925 قُبيل معركة المزرعة بيوم واحد، كان سلطان باشا بصحبة مائة من الفرسان عند نبع عين الفارعة التي تقع بين المزرعة والسّويداء قد التقى بحسين مرشد ومعه جماعة من المجاهدين. قال حسين لسلطان باشا: «إنّ أهالي السويداء قد أقسموا على ألّا يغادروا مواقعهم، وأن يصمدوا في وجه الزّحف الفرنسيّ حتى لو مرّت آليات العدو على أجسادهم». وفي اليوم التّالي يوم معركة المزرعة كان حسين مرشد أحد الأبطال الذين وصفهم سلطان باشا بأنّهم «لا يُشَقُّ لهم غبار»، وقد أشار المجاهد علي عبيد في مذكّرته إلى فريق من مجاهديّ بني معروف ومنهم حسين مرشد وسعيد طربيه وحسين مصطفى ومحمّد عبد الدين أنّهم كانوا من بين طليعة الذين هاجموا قوّات الفرنسيين، ولازموا مُصفّحاتها وقلبوها بأكتافهم وأحرقوها بمن فيها.

وإلى ذلك يشير الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مذكّراته ص31 يقول: « ورأيت خمسَ سيّارات مصفّحة محروقة، وقد أمالها مجاهدو الدّروز على جوانبها حين الهجوم بأكتافهم وقتلوا سَوَّاقيها ومساعديهم بالمسدّسات من كُوَاها (أي: نوافذها) المرتفعة وإنّ رؤية هؤلاء السّوّاقين مُتعانقين مُلْتَحمين تدلّ على هَوْل ما لاقَوْه من المهاجمين. أمّا عندما قام ثوّار الجبل بحملة تحرير دمشق التي لم يُكْتَب لها النّجاح بسبب عدم التزام ثوّار دمشق بملاقاة الثّوار الدّروز في الموعد المتَّفق عليه للإطباق على الفرنسيّين وطردهم من العاصمة، فقد كان حسين مرشد أحد قادة الثوّار في معركة العادليّة جنوب دمشق.

وفي مؤتمر ريمة اللّحف المُنعقد في أوائل أيلول انتُخب حسين مرشد واحداً من أركان قيادة الثورة إلى جانب قائدها العام سلطان باشا الأطرش(3).
وفي معركة المسيفرة في ليل 16/17أيلول 1925 كان حسين مرشد من طليعة الفرسان الذين اقتحموا تحصينات العدوّ ودخلوا إلى خلف خطوطه داخل القرية، وقاتلوا بالسّلاح الأبيض واستولَوْا على مواقع العدوّ وعلى مراكز أسلحته وتموينه وعلى اسطبلات الخيول وركّزوا بيارقهم على أسطح منازل المسيفرة وإلى ذلك يشير المجاهد صياح النّبواني بأنّ حسين مرشد كان يبثّ النّخوة في نفوس المجاهدين، وقد رآه يوزّع الذّخيرة عليهم من الخرطوش المُستولى عليه، وإلى بطولاته في ميدان المعارك يشير شّاعر الثّورة الشّعبي صالح عمار أبو الحسن فيقول:

وحســـين يــــــا ليــــــثٍ شَديد البـــــاس
اَلسّـيـــــف مــــن دمّ الـعــــِدا حنّـــــاهــــا
كـــــم عُــقـــدةٍ كـــــانت بهـــــا عِرْبـــــاس
أنـــــت الــــــذي فَـكِّــيــــــت عُسْــــراهــــا
بـــــالمـــزرعــــة خَلّـيــتــهـــم مـــِرْكــــــــاس
ضَبـــــع كنــــــاكـر باللّقـــــــا عَشّـــاهــــا*
المْسِـيــفْــــرَهْ يومَـــــهْ غَـــــدا مِرْفـــــــاس
كـــــمْ مـــــن صَـــــوِيبٍ لاهَلَـــهْ وَدّاهــــــــا

* أي أن ضبع قرية كناكر نال عشاءه من لحم العسكر الفرنسي.

الجنرال غاملان
في مواجهة حملة الجنرال غاملان وما تلاها

عندما زحف الجنرال غاملان بحملته الأولى إلى الجبل من مواقعه في قَرية المسيفرة في سهل حوران؛ لِفَكّ الحصار عن الفرنسيّين المحاصَرين في قلعة السّويداء منذ يوم معركة الكفر قبل نحو شهرين وذلك في 23أيلول 1925، كان حسين مرشد في طليعة المشاركين في مواجهة ذلك الزّحف الذي ترتّبت عليه سلسلة من المعارك بين يومي 2 و9 تشرين الأوّل وقد دارت تلك المعارك على محور جبهةٍ امتدّت بعرض ثمانية كيلو مترات؛ من قرية المجيمر وحتى نبع المزرعة شمال غرب السّويداء. كانت معركة رساس على ذلك المحور من أعنف تلك المعارك التي انتهت بانسحاب سريع للقوّات الفرنسيّة، بعدها دُحِرَت الحملة إلى مواقع انطلاقها في سهل حوران بنتيجة هزيمتها الأخيرة عند نبع المزرعة. ويشير المجاهد علي عبيد في مخطوط مذكّراته ص 15 ــ 16، إلى أنّ الفرنسيّين خسروا في تلك المعارك نحو ثلاثة آلاف قتيل.

وعندما توجّهت حملة ثوّار الجبل لدعم الثّوار في غوطة دمشق في أوائل تشرين الثاني 1925 بقيادة محمّد باشا عز الدين الحلبي كان حسين مرشد رضوان أحد قادة فرسان الجبل في تلك الحملة وشارك في عدة معارك أهمّها يلدا وببيلا وحمورية وجوبر وعربين. ومن بعدها اشترك في حملة إقليم البلاّن بقيادة الأمير متعب الأطرش وشارك في عدة معارك هناك.

 

القتال في حرب اللّجاة ومعركة السّويداء الثّانية

كذلك قاتل حسين مرشد في معارك اللّجاة سنة 1926، وكان من بين الثوّار المُرابطين في قرية الطّف اللّجاتية بعد السيطرة على قرى جَدْل وصُور وعاسم وجَسْرة والزّباير، ومن تلك القرى كان الثّوار يهاجمون قطارات الإمداد التي كانت تنقل الجنود والإمدادات من دمشق لقوات الجيش الفرنسي المُرابط في سهل حوران؛ الذي جعل منه الفرنسيّون نقطة انطلاق للهجوم على الجبل الثّائر. وفي ذات مرّة تمكّن مع رفاق له من الاستيلاء على القطار وكَسْب ما ينقله من المؤن والمدد.

وعندما قاد الجنرال غاملان حملته الثّانية المكوّنة من نحو ثلاثين ألف جندي للسّيطرة على الجبل عام 1926 قاتل حسين مرشد الفرنسيّين في معركة السّويداء الثانية بين 24 و26 نيسان، وقد تمكّن في تلك المعركة من قتل قائد الفرقة الأولى في الحملة، واستولى على سلاحه وعدّته وعلى أثر تلك المعارك اضطُرّ الثوار للتّراجع والانسحاب من مدينة السّويداء أمام الزّحف الفرنسيّ الذي كان يتفوّق عليهم عدداً وعتاداً، فاحتلّها الفرنسيّون وكانت المدينة قد أُخليت من أهاليها، وتعرّضت للنّهب والدّمار، واستُشهد بنتيجة تلك المعارك مئات من المجاهدين وأصيب الثّلث منهم بجراح بليغة حيث لا يقع البصر إلّا على الأشلاء المتناثرة.

 

الانسحاب جنوباً إلى الأردن

على أثر انسحاب الثّوار من الجبل عام 1927 اشترك حسين مرشد في معركة جْبَيّة جنوب قرية العانات على أطراف الجبل الجنوبية من جهة بادية الأردنّ، وقد دامت تلك المعركة نهاراً كاملا، وقاد مجموعات المجاهدين فيها سلطان باشا بنفسه، وبنتيجتها تمكّن الثوار من هزيمة القوّات الفرنسيّة المؤلّفة من نحو 1500 جندي، وطاردوا فلولها حتى تلّ يوسف. وعندما حوصرت الثّورة من قبل الإنكليز والفرنسيّين، كان حسين مرشد في أواخر نيسان 1927 برفقة الأمير عادل أرسلان في الأراضي الجنوبية من الجبل، تلك الأراضي التي صارت تابعة للأردن إثر اتفاق فرنسي بريطاني تنازلت فيه فرنسا عمّا تدعوه حِصّتها من بترول الموصل لبريطانيا مقابل السماح لبريطانيا باقتطاع الأراضي الجنوبية من جبل الدروز بعمق 60 كيلومتراً جنوب الحدود الحاليّة لقرية أمّ الرّمّان وقرى الجبل الجنوبية المحاذية لبادية الأردن، وحتى موقع الأزرق جنوباً، وكان ذلك التنازل مقابل مساعدتها على إخماد الثّورة وطرد الثوّار الذين لجؤوا إلى الأراضي الأردنيّة أو إجبارهم على الاستسلام لفرنسا. وعلى هذا فقد لاحقتهم القوّات البريطانية وقصفتهم بالطّائرات في أكثر من موقع ومنعت عنهم ورود مواقع الماء المعروفة في البادية، فاضطُرّ الثوار للبحث عن الماء في الصّحراء إلى أن وجدوا غدير ماء آسن فاضطُرّوا للشرب من مائه الملوّث بالدّيدان وذلك بعد موت ثلاثة منهم عطشاً.

بعد انحسار العمليات العسكريّة للثّورة في الأراضي السّوريّة وَرَفْض سلطان باشا الخضوع للاحتلال الفرنسيّ، نزح المجاهد حسين مرشد برفقة القائد العام ورفاقه من الثوّار المجاهدين إلى الأزرق التي كانت من مُمْتلكات جبل الدروز قبل سايكس بيكو، ومن ثمّ إلى وادي السّرحان في السّعودية، وهناك واجهت أسرته الجوع والعطش وموت الأطفال الذين كانوا يموتون بسبب سوء التّغذية وافتقاد الأدوية في بيئة صحراويّة بعيدة عن الحضارة وقد خصصت لهم مقبرة في تلك المنافي.

وظلّ حسين مرشد ثابتاً على قسمه بالولاء للثّورة وقائدها العام، ففي شهر تموز من سنة 1929 ذهب في وفادة برفقة صيّاح الأطرش وسليم الأطرش إلى الأمير عبد الله، وزاروا أخاه الملك عليّ للبحث في إمكانيّة إقامة عائلات المجاهدين في الأردن بعد أن ضاقوا بالحياة في صحراء المنفى المُهلكة في وادي القُرى من السعوديّة، وحصلوا على وَعد بذلك، وعلى هذا يعلّق عبدي صياح الأطرش «ومن أين لهم القدرة على الموافقة إذا كان الإنكليز لا يقبلون إرضاءً للفرنسيين(4). وفي أيلول من العام نفسه ذهب حسين مرشد وصيّاح ألأطرش وجميل شاكر للقاء سعيد العاص بهدف طباعة المنشورات ذات الصلة بقضايا الثّورة، وهم الذين يعتبرون أن ثورتهم لن تنتهي إلّا بخروج المحتلّ من أرض سوريّة.

ومن أجل أن يعقد الثوّار مؤتمراً في الصّحراء في موقع «الحديثة» على الأراضي السّعودية أُوفِد حسين مرشد وشكيب وهّاب وصيّاح الأطرش إلى عبد الله الحواسي أمير المنطقة التي يقيم فيها الثوّار بقصد إعلامه بمؤتمر سيعقدونه لبحث شؤونهم، وفيما بعد كان الرجل أحد أعضاء اللّجنة الماليّة التي انبثقت عن ذلك المؤتمر، ومن مهامّها تلقّي الإعانات المُقدّمة للثوّار وعائلاتهم والإشراف على حسن توزيعها. كما ذهب في وفادة إلى ديار صفد في فلسطين هو وقاسم أبو صلاح وسليم الأطرش لشرح أبعاد القضية الوطنيّة التي يعمل عليها الثوّار، ولجمع التبرّعات لدعم صمودهم.

صورة المجاهد حسين امام مضافته مع مجموعة من اقاربه واصدقائه.

.المنفى البديل في الأردنّ ومقدّمات العودة إلى الوطن

 في عام 1933 انتقل حسين مرشد وسائر الثوّار إلى الأردن برفقة القائد العام ومجاهديّ الثّورة بصفة لاجئين سياسيّين على ألّا تكون إقامتهم قريبة من الحدود السوريّة(5)، وذلك بعد موافقة بريطانيا والحكومة الأردنيّة على ذلك. ولما كان الرّجل أحد أبرز وجهاء مدينة السّويداء المناوئين لسلطات الاحتلال الفرنسي؛ فقد وصلته رسالة من الكولونيل دوفيك، وهذا مندوب المفوضيّة العليا في حكومة جبل الدّروز حينها؛ ينصحه فيها بالاستسلام مع أّنّه كان محكوماً عليه بالإعدام، وتلك محاولة فرنسيّة خبيثة لكسب ولائه لكنّه لم يعبأ بتلك النّصيحة الماكرة. وبنتيجة موقف القائد العام الثّابت من حقّ سورية بالاستقلال وبالتّنسيق مع الحركة الوطنيّة في الداخل السّوري المؤيدة لثوّار المنفى، والدّاعية للاعتراف باستقلال سورية ولبنان، قبلت فرنسا بمعاهدة عام 1936، التي اعترفت بموجبها بحقّ البلدين بنيل استقلالهما، ووافقت على عودة الثوّار وأسقطت أحكام الإعدام التي كانت قد صدرت بحقّهم إبّان فترة الثورة. وعلى هذا فقد كان حسين مرشد عضو لجنة التّنسيق لتنظيم عودة الثوّار إلى الوطن. ولمّا كان الفرنسيّون يعملون على حالة خلق حال من التمييز بين السماح بعودة بعض المجاهدين اللّبنانيّين والدمشقيّين من جانب والمجاهدين من الجبل من جانب آخر، وهذا ما لم ترضَ عنه قيادة الثورة، لذا فقد شُكِّلت لجنة من كلٍّ من حسين مرشد وعلي عبيد وزيد الأطرش ومحمّد باشا عز الدين الحلبي للعمل على إزالة بعض الموانع القانونيّة التي وُضِعت بحق المعنيّين من أولئك المجاهدين بدعوى أنّه سبق أن صدرت بحقّهم أحكام عديدة، ولهذا عُقِدت عِدّة اجتماعات لتسوية هذه المسألة في منزل المسؤول الأردنيّ (اللبنانيّ أصلاً) حسيب ذبيان في عمّان.
.

جبل العرب لا جبل الدروز وعودة لمجاهدين الظافرة إلى الوطن

 يخطِئ من يظنّ أنّ الثّورة السورية الكبرى انتهت عام 1927، ففي ذلك العام كانت نهاية المواجهات الحربيّة بين الثوّار وبين القوات الفرنسيّة، غير أنّ العمل السياسيّ في الداخل السوريّ كان مُكَمّلاً للعمليّات الحربيّة؛ وقد رفض سلطان باشا ورفاقه ومنهم حسين مرشد العودة إلى سورية والتخلّي عن فكرة الثورة طالما بقي الفرنسيّ يحتلّ البلاد تحت اسم الانتداب كذريعة تزيينيّه زائفة للاستعمار البشع، وعلى هذا فإنّه بعد اعتراف فرنسا باستقلال سورية ولبنان؛ صدر عفو فرنسيّ عن المجاهدين ولمّا كان الشّعب الأردنيّ متضامناً مع الثّورة السوريّة، فقد أقيم احتفالٌ وَداعيٌّ في سينما البتراء في عمّان، شاركت فيه وفود عربيّة من سورية ولبنان وفلسطين وسواها احتفاءً ووداعاً لمجاهديّ الثّورة السوريّة وقائدها العام سلطان باشا الأطرش بعد سنوات مُضْنِيَة من القتال والمنفى، وفي ذلك الاحتفال أعلن عجاج نويهض المجاهد اللّبناني العروبيّ النّزعة والصّحافي اللّامع، في كلمة ألقاها في ذلك الاحتفال؛ قال فيها مخاطباً سلطان باشا وجمهور الحضور: «إنّ هذا السّيف الذي انتضيتموه في سبيل سوريّة هو مدعوٌّ لِيُنتَضى اليوم في سبيل منطقة الإسكندرون لأنّ بلاد العرب واحدة لا تُعطى لُقَماً إلى اليهود والغرباء، لذلك فإنّك رَمْزُ الجهاد العربيّ المستقلّ، وهذا مُتَوارث فيك وفي عشيرتك الأكرمين بني معروف، فالجبل الذي يقال له زمن الفرنسيّين جبل الدّروز، أصبح بفضل جهادك وجهاد إخوانك جبل العرب»(6)، ومن فوره في ذلك الاحتفال وافَقَهُ سلطان باشا ورفاقُه على هذه التّسْمية وعُمِّمَ الاسم في الصّحافة ووسائل الإعلام آنذاك.

قائدٌ مجاهدٌ وفقير!

وصل حسين مرشد برفقة القائد العام والثوّار العائدين إلى الجبل في أواخر أيار 1937، غنيّاً بنفسه وجهاده، لكنّه منكوبٌ من جانب آخر، وعلى ذلك يقول محمّد جابر(7) إنّه «كان خالي الوفاض فقد أُصيب بنكبات فادحة (وفاة عدد من أبنائه في المنفى، كما وجد داره ركاماً بعد أن دمّرها الفرنسيّون انتقاماً منه وكانوا قد نهبوا وصادروا أملاكه».

من ثائر منفي إلى نائب في مجلس النوّاب

ولم ينعزل ذلك المجاهد الكبير بعد عودته من المنفى إلى الوطن، بل انتقل إلى الجهاد السياسي، إذ تمّ انتخابه لعضويّة المجلس النيابي السوري بنسبة عالية من الأصوات لكونه من نشطاء التجمّع القوميّ، وكان له رصيد اجتماعيّ كبير في مدينته السّويداء فهو من مؤسّسيّ الهيئة الشعبية الوطنية في جبل العرب آنذاك. ومن مقاوميّ العدوان الفرنسي على دمشق في حوادث أيّار 1945 ومن معارضيّ الفصل بين جبل العرب والوطن الأمّ سورية، وفي عام 1947 كان واحداً من الرجال البارزين في الحركة الشعبيّة في الجبل؛ تلك الحركة التي انحرفت عن أهدافها الاجتماعيّة التّغييريّة إلى العمل المسلّح.

وفي العام 1948وبدافع من الحسّ الوطنيّ العروبيّ في أسرة المجاهد العريقة بنضالها، اندفع ابنه فهد لقتال الصّهاينة المدعومين من بريطانيا في فلسطين إلى جانب فريق من شبّان بني معروف واستُشْهد على الأراضي الفلسطينيّة في معركة الخان.

وعندما انحرف أديب الشيشكلي إلى الاستبداد وجنح إلى الحكم الدكتاتوري؛ أُوفد حسين مرشد ويوسف العيسمي من قبل القائد العام سلطان باشا الأطرش لتمثيل الجبل في مؤتمر القوى الوطنيّة المُنعَقد في حمص عام 1953، وقد أدّى هذا بالدكتاتور إلى تسيير حملة انتقاميّة إلى الجبل عام 1954، وكان المجاهد حسين مرشد ممّن حملوا السلاح في وجه ذلك العدوان.

وفي عهد الوحدة كان واحداً من أعضاء لجنة الاتحاد القومي في السّويداء، وذلك كان التّنظيم الذي اعتمدته سلطات حكومة الوحدة بديلا للأحزاب السوريّة التي تمّ حلُّها، وملاحقة المُعْترضين على ذلك.

كان الرّجل مخلصاً بحقٍّ في تأييده للوحدة بين سورية ومصر عام 1958، تلك الوحدة التي عُقِدَت عليها آمال الوطنيّين العرب في بدايتها قبل أن يتمّ اغتيالها بسبب الفساد الإداري في الدّاخل، والتآمُر الاستعماريّ من قوى الخارج المعادية لأيّة قوّة عربيّة ناهضة.

وبقي حسين مرشد وجهاً اجتماعيّاً مرموقاً ومُحترَماً في مدينة السّويداء إلى أن توفّاه الله في الثالث من نيسان عام 1968، في مدينته التي طالما أحبّها، وتكريماً له سُمّيت باسمه مدرسة ابتدائيّة في الحيّ الذي كان يقطنه، وقرب داره التي هدمها الفرنسيّون، وقد قام الفنّان فؤاد نعيم بإنجاز تمثالٍ له منحوت من حجر الجبل البازلتيّ الذي تعشّقه حسين مرشد رضوان، وسمّيت باسمه ساحة على مدخل السويداء الغربي.

نعم سيبقى المجاهد حسين مرشد رضوان علماً من أعلام بني معروف الموحّدين في جهادهم النضالي ضد الاستعمار وفي جهادهم السياسي ضد الدكتاتوريّة ومن أجل قيام مجتمع عادل لجميع أبناء الوطن…


المراجع:
  1. يحيى حسين عمار، الأصول والأنساب، دار الضحى للنّشر، ص 85.
  2. أحداث الثورة السّوريّة الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، 1925ــ 1927، دمشق، دار طلاس 2007، ص86.
  3. كتاب أحداث الثورة السوريّة الكبرى 1925ــ 1927، م.س، ص 131.
  4. عبدي صيّاح الأطرش، أوراق من ذاكرة التاريخ، ط1، دمشق، دار الطليعة، 2005، ص127.
  5. أحداث الثّورة السّورية الكُبرى، م. س، ص 339
  6. نويهض، عجاج، ستّون عاماً مع القافلة العربيّة، دار الاستقلال، بيروت، لبنان،1993، ط1، ص 76ــ 77
  7. جابر، محمّد، أركان الثورة السوريّة الكبرى.

الشّيخ أحمد تَقِيّ الدين

الشّيخ أحمد تَقِيّ الدين.

بين كَوكَبة من أعلام الأدب العربيّ، أوائل القرن العشرين، يشعُّ وجه شاعر القضاة وقاضي الشّعراء، الشيخ أحمد تقيّ الدّين، ويبرز اسمه إلى جانب مشاهير الأدباء والشعراء والمتزاحمين في المواسم الأدبية، والمتبارين في حَلبَة الشعر الرفيع، أمثال داود عمُّون، وشبلي الملّاط، ووديع عقل، وأمين آل ناصر الدين، وبشارة الخوري وأمين تقيّ الدين… شاعراً عبقريّاً حكيماً، عالج علل المجتمع، بفكر نيّر، ورأي صائب، ومدارك واسعة، ووطنيّة خالصة. عاش في حِقبة من تاريخ لبنان السياسي والأدبي متراكمة الأحداث وافرة العبر، شهد فيها الانقلاب العثماني الأوّل، فإعلان الدستور، ثم خرق البروتوكول، فإلغاء الاستقلال اللبناني، والحكم التّركي المباشر، فانتشار الجوع والمرض، فإقرار الانتداب، وإعلان الجمهوريّة، وظهور تباشير الاستقلال. كما شهد مدَّ الموجة الرومنطيقية في الشّعر والقصص، وبوادر النزعات التحرّرية المستوحاة من الغرب تفكيراً، ومحاولة الجمع بين الجديد النافع والقديم الصالح.

نشأ الشيخ أحمد في بيت لبناني عريق، اشتُهر رجاله بالعلم والتقوى والاستقامة والمروءة والوطنية وكان له من محامد بيته الكريم، ما دعم مواهبه الفكرية الشريفة، من ذكاء النفس، وصحة الخلق ولطف الشمائل، وإشعاع العبقريّة، فإذا هو فوق الكرسيَّين؛ كرسيّ الأدب وكرسي القضاء مفخرة من مفاخر لبنان والعروبة، كما عبّر عن ذلك صديقه الشاعر بولس سلامة:
أحمـــــدُ، غصنُ العــــــزّ مـــــن دَوْحـــــةٍ
لهــــا علــــى الأفيــــــــاء عــهـــدٌ وثــيـــقْ
ظــــلالُـــهـــــــا في الشّــــــــوف مُـمــتـــدّةٌ
عرضَ الرُّبــــى في كُلِّ فجٍّ ســحـــيـــــــقْ

وقد أكَّد ذلك أيضاً أمير الدولتين الشاعر أمين آل ناصر الدين سراج اللغة العربية المُشع من «كفرمتى» كما كان يلقبّه الأديب الكبير مارون عبّود إذ قال:

فُجِعَتْ بـــه غُرُّ المنــــاقـــبِ إذ قضـــــى
وانْــــــدكَّ ركــــــنٌ للقضــــــاء مـشــيَّـــــدُ
وتــلــهّـــــف الأدبُ الصميمُ ولــــــم يَزلْ
دمـــــعُ اليَراعـــــة ســــــائلاً لا يجـمــــدُ

وُلد الشاعر أحمد تقي الدين عام 1888م في بعقلين، البلدة الشوفيّة اللبنانية ذات التاريخ المجيد، وتلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة الداوديّة في «عبيه» والثانوية في مدرسة الحكمة في بيروت ونال جائزتها الشعريّة. درس الشّرع والقانون على كبار رجال الفِقه والشريعة والقانون. زاول مهنة المحاماة ثم تولّى القضاء العدلي سنة 1915 وتُوفّي في 29 آذار 1935، وَرُفع رسمُهُ في دار الكتب الوطنية سنة 1974 تخليداً لذكراه مع الخالدين… في شعره بساطة الطبيعة الشوفيّة وتنوُّع مناظرها وألوانها، وفيه أيضاً شكوى هذه الطبيعة التي ظلّت فترة من الزمن وربّما ما تزال، منسيّة إلى حد ما، مظلومة إلى حد ما، كما ظُلم الشاعر نفسه. ومن ثمّ فيه من عِبَر الحياة وحِكَمها الكثير ممّا خلفته العصور السياسية المتعاقبة، فطبعت الشوف بطابَع فريد، هو مزيج من الزّهد والطموح والخشونة والرِّقة، «كيُنبوع الصفا خشنوا ورقوا»، والكبرياء والتواضع وهواية الخناجر والمحابر معاً.

وطـــــنٌ كســــاهُ اللهُ أحســــنَ حــلــيـــــةٍ
يُكســـــى بهـــــــا جبلٌ علــــى الإطـــلاق
وبقدرِ مـــــا حَبَـــت الطبـيـعـــةُ أرضَــــهُ
ضنَّــــــــت علــــــى سُكـــانــــــه بوفـــــــاق

فالشاعر هو ابن الشوف، ابن العشيرة، ومن ثم فهو ابن لبنان وابن العروبة والإنسانية الشاملة:

يـــــــــــــــا وطنـــــــــــــــي الغــــــــــالــــــــــــي
وعـــريــــــــــن الأُسْـــــــــــدِ الأبـــطـــــــــالِ
أفـــــديـــــــــك بــــروحــــــــي والمـــــــــــــالِ
فــــالمـــجــــــــدُ بــــعــــــــــزّ الأوطـــــــــــــان
إنَّ الأوطــــــــــــــانَ تـــــنــــــــــاديـــــنـــــــــــا
لـــنــــعــــــزِّزَهـــــــــــا بمبـــــــــاديــــنــــــــــــا
فــلـنـجــعـــــــــلْ خدمـــتَـــهــــــــا دِينــــــــــا
ونــــكــــــــــــرّمْ كـــــــــــــلَّ الأديـــــــــــــــــــان

والشاعر أيضاً ابن لبنان ووارث أرزه ومورث ولاءه لأولاده.
هــــذي بــــــلادي والــــــبــــــــلادُ عزيزةٌ
عندي ولــــــــو جــــــارت عليّ بــــــلادي
وأنـــــــــا ابـن لـــبــنــــــــــــانَ ووارثُ أرزه
ومـــــــــورِّث لــــــــــولائـــــــــــــــــــه أولادي

أنعِمْ به من ميراث، ولكنّ الخطر الأكبر أن ننسى أنّ في جبال الباروك منابت الأرز العظيم، وأنّ تلك السفوح الشوفيّة الشامخة، وإن حُجِبت عن أنظار السياح الأجانب إلّا أنّها لا يمكن أن تُحجب هاماتُها الشامخة في تاريخ لبنان وفي حاضره ومستقبله.

ويلتفت الشاعر إلى أفق المجتمع فإذا نِظرتُه عميقة، تحفل بمعالم الإنسانية والدعوة إلى أُخُوَّةِ الناس وإزالة ما بينهم من الفوارق المُصطنعة شأنه شأن العباقرة المُصلحين الذين نادَوا بالعدالة والمساواة:

يـتـقــــــاتـــلـــــون ديـــــــــــانةً وجهــــالـــــةً
وَمُــريــــــدُ هــــذا القتـــــل أكبرُ مُلحــــدِ
اســـتـغـفـــــــرُ الرّحـــمـــــــــــنَ أنَّ اللهَ لا
يوحــــــي بـتــــفــــريق المَــــــلا فلنَهْــتَـــــدِ
إنّ الــــــــذي أوحــــــى وفــــرّق بيننـــــــــا
سقـــــمُ العقولِ وسقمُ وعظِ المرشــــــد

وبمثل الحرارة التي يدعو بها الشاعر إلى العدالة والمساواة يدعو أيضاً إلى الإصلاح والتجديد واعتماد العلم منهجاً لتحقيق التقدّم والرّقي:
ونظرتُ في الأوطــانِ نِظْرةَ مُصلحٍ
وجـــدَ العلـــــــومَ مطيَّـــــةَ الإســعـــــــــادِ
فــــــرأيتُ أنَّ الغـــــربَ يـــرقــى للسُّهى
والشرقُ يـلـــهــــــــو في ثرى الأجـــــــدادِ
عبثاً نـــرى الإصـــــلاحَ إنْ لــــــم نَطَّرِحْ
مــــــا قد ورِثنـــــــا من ســـــقـــيــــم تِلادِ

واعتزاز الشاعر بوطنه يوصله إلى الاعتزاز باللغة العربية، ففي تعلُّمها وتعليمها كما يقول الشيخ أحمد صيانة لكرامة لبنان، وهو حين يُحَيّي معهده الكبير، الحكمة – فإنَّما يُحيِّي فيه حمايته لواء الضاد الذي يرى فيه الرّباط المقدس للِّسان ومن ثم الموحّد للقلوب:

بدَت المنــــــــازل فأتـــئـــــد يـــــــا حادي
هــــــذي معــــــاهدُ (حِكمتي) ورشادي
صَرحٌ حمى بعــلومـــــــه علمَ الـهــــــدى
وحــمـــــى بنهضــتــــــه لــــــواءَ الضـــــاد

ولا يقلُّ اعتزاز الشاعر بمآثر آبائه وأجداده العرب عن اعتزازه بوطنه وبلغة الضّاد، فهو لم يتورّع عن أن يتغنى مُفاخراً بمزاياهم من على منبر الحكمة، مترجماً إحساسه الصادق بعروبته الأصيلة:

هـــذي مــــــآثرُ آبـــــاءٍ لــنــــــــا نُجُــــــبٍ
سَطعنَ في أفق التـــــــاريخ كالــشُّــهــبِ
وبِتن مفخـرةً تبقـــــى علــــــى الحِقَـــبِ
فـلـنـفـتـخـــرْ بمزايــــــا قومِنــــــا العربِ
ولــــــنحتفظ بــعـــلـــى آبائنـــــــا الصِّيدِ

والميدان الذي يُجَلّي فيه الشيخ يقول الشاعر سلامه عبيد، هو ميدان الدّعوة إلى الوحدة الوطنية والتعبير عن الأهداف الاجتماعيّة والخلُقية، فلا نسب عنده غيرُ صالح الأعمال، والإنسانُ يقاسُ بسَنا الأعمال لا بالمَحْتِد وفي هذا جرأة وفعالية للنفس، وفيها شجاعة البطل الذّكي، ولذا فهو يشعر بعطف على الفقراء أولئك المهضومة حقوقهم والمجتاحة ديارهم، وينبّه إلى فضل الأكواخ في تقدُّم البشرية:

واخرجْ إلــــــى الدُّنيـــــا عصاميّاً فــــلا
فوزٌ لمــغــتــــــرٍّ بـــطــيــــــبِ المــــحــــتِــــــد
إنّ الذيــــــــن تـــفـــوّقـــوا خرجـــــوا من
الأكــــــــواخ لا من عـالـــيــــــات المولـــــدِ

وفي هذا السياق الاجتماعي الإنساني، ينظر إلى المرأة نِظرةَ عطف وعدل وحقّ، فيرى فيها صورة الشعوب، فيهتف بصوتٍ عالٍ مخترقاً سُجُف التقاليد وسدود التخلُّف والأوهام:

شريعتي الــعـــدلُ فمــــــــا بــــالُــــهـــــــم
قـــد حبَســــــــوا المــــــرأةَ في المـــخــــدعِ

ومن واجب المرأة اللبنانية – العربية اليوم أن تُولي أدب الشيخ أحمد الاهتمام الذي يستحقه فالوِقفة المبدئية التي وقفها الشاعر من المرأة الشرقيّة، كانت وِقفةُ رجل شجاع، عميق الإدراك، شديد الشعور بالحق والإنسانية والتقدم:

عـــلِّــمــــــوا البنتَ أيـــهـــــــــا الآبـــــــــــاءُ
إنّمـــــــــا الـعــلــــــــمُ للفتـــــــــاة سنــــــــاءُ
هــــــــي في الشَّعـــــــب صــــورةٌ للتَّرقّي
إنَّمــــــا صورةُ الــــشــــعــوب النِّســــــــاءُ

والشيخ الشاعر امتازَ شعره بالذكرى والعاطفة والحكمة تماماً كتحديدات أحمد شوقي للشّعر الجيّد.
وتميّز على حدِّ قول فؤاد أفرام البستاني: بفكرٍ صافٍ، ومنطق سليم، ونظم سهل، وأسلوب لطيف، وشعور بالطّبيعتين الداخليّة والخارجيّة ما جعله ينخرطُ فارساً قويّ الطّبع مجيد الأصل. ولا شكّ في أنّ من يطالع شِعرَه يرضى كلّ الرّضا عن الشاعر البليغ الرقيق، شاهد عصره، ومصوّر بيئته.

الشَّيْخ علي فارس العابِد المُشتاق

يَركا

وُلِد سيدنا الشيخ علي فارس لأبوين فقيريْن في قرية يركا» في النصف الآخَر من العقد الثاني من القرن الثاني عشر للهجرة (بدايات القرن الثامن عشر للميلاد(١). ويركا قرية قديمة «من أعمال ساحل عكَّا»، تميَّزت في أوائل القرن الخامس للهجرة بوجود «كبير شيوخ الساحل من آل أبي تراب» فيها، الموصوف بـ «الخيِّر والأمين والسِّراج»(٢)، لكنَّها باتت في حقبة حُكم العثمانيّين، كما كانت «جميع البلاد»، واقعة تحت وطأة «ظلم شديد من الولاة والحكَّام» الذين كانوا لا يقفون عند استيفاء مال الميري وعوائده، بل تتعدَّى سطوتهُم إلى نهب الفلَّاحين… وحبسهم ومطالبتهم بما هو فوق طاقتهم(٣).

انخرطَ والدُ الشيخ علي في جموع المقاتلة (العسكر غير النظامي وفق أحوال العصر)، فنُقِـل أنَّه «كان جنديّاً في قلعة جدين عند أحد ضبَّاط الظاهر عمر»(٤)، وهو الأمر الذي لا يتطابق مع التسلسل التاريخيّ إذ يردُ في «تاريخ ظاهر العمر» أنَّ المذكور استولى على القلعة المذكورة سنة 1738 م. وهي كانت قبل ذلك في ولاية «أحمد الحسين (وهو) من بيت قديم شريف كان أهله ولاة قلعة جدين الحصينة أباً عن جدّ»(٥). هكذا، تكون سنوات الطفولة واليفاع من حياة الشيخ علي قد انقضت في زمن سطوة أحمد الحسين الذي كان يحكم جميع البلاد الجبليَّة التي حول القلعة، ومثله من الولاة المحليّين الجائرين بحيث كان الناسُ في زمانهم «في ضيقٍ لا يُطاق»، فضلًا عن عبث «العربان» الذين كانوا «يعيثون فساداً في البلاد لعدم إمكان والِيها دفعهم ومنعهم»(٦). بذلك يكون والده قد التحق بجُند الظاهر عمر حين كسر هذا شوكة الحسين واستولى على القلعة، وكان ولدُهُ الشيخ علي، وفقا للسياق، يقارب سنّ الثلاثين.

عرَف الشيخُ عليّ في طفولتِه الفَــقـر، وكان عَجِيّاً (أيْ فاقد الأمّ) قبل أن يتجاوز السَّنة من عمره. ترعرعَ وله أخت تكبره وتحنُو عليه بخلاف زوجة أبيه التي اتَّخذها بعد إرْمَاله. ولا بدَّ من أن يكون الصبيُّ استشعر الوحدة بعد زواج أخته وهو في العاشرة، فضلًا عن ظُلم الخالةِ التي «عاملتْه بكلِّ قسوة وشدَّة»(٧). لكنَّه، قبل ذلك، انجذب بما في أصالة طباعِه الخيِّرة في مكنون فِطرتها، إلى ما هو أبعد منالًا من ظواهر الدُّنيا، فتردَّد إلى مجلس الذِّكر «في سنٍّ لا يُعهد أحدٌ غيره سبقه إلى ذلك»(٨). ولا بُدَّ من أنَّ عليّاً في طفولته المُبكِرة وما بعدها بقليل قد ألِفَ الأجواءَ الرُّوحيَّة في يركا، وسمع من مشايخها، واستشعر لطائفَ المسلك الدينيّ بتهيُّبٍ ولَهْـفـة. وكان له خالٌ من أفاضل المشايخ هو الشّيخ أبو ماضي حسن الذي «امتاز بديانتِه وشوقه»(٩)، ولهُ قصائد منها ما نظمه اشتياقاً إلى «علَميْن زاهريْن» من شيوخ عصره(١٠)، يُستدلُّ منها على عِلمه ومحبَّته لإخوانه. وقد تُوفِّي الشيخ في يركا في العام 1120 هـ. ولا شكَّ بأنَّ ابنَ أخته شبَّ وفي مسامِعِه الكثير من أخباره ومآثره فضلًا عن المعاني الروحيَّة الكامنة في أشعاره.

يروي الشيخ طريف في السيرة أنَّ عليّاً في صغره عندما سمع عن أحوال الآخرة في الخلوة، التهب الشوقُ في قلبِه، وظهرت ملامحُ ذلك على وجهه، فقرَّر مع نفسِه أن يقصدَ عائلة طريف في قرية جولس(١١). وفي هذه الإشارة دلالة على أنَّه سمعها للمرَّة الأولى في بلدته يركا، حيث أنَّه من العادات الراسخة في التقليد أن تُتـلى مجريات يوم الحساب مساء يوم وَقـفة عيد الأضحى من كلِّ عام وفقاً لروايات السَّلف الصَّالِح، ومنها ما كتبهُ الشيخ أبو صالح سلمان طريف من جولس (المتوفّى عام 1110 هـ.)، المشهور «بدقَّة ورعه وسلكِه، والذي فاق على أقرانه بعِلمه ومعرفتِه» وضبطه الخطّ، وكان لفترةٍ «على أخوَّةٍ» مع خال الشيخ عليّ من يركا(١٢).

أحد المزارات في قرية يَركا.

كان لهذا «السَّماع» أثرٌ جذريّ في رُوح ولدٍ لا يزالُ في رَيَعان عُمره. ولا شكَّ في أنَّ جُلَّ المعاني التي تضمَّنها ذكر أحوال الآخرة قد امتَثـلها عليٌّ بمُخيَّلته ووجدانه وقلبه بقوَّةٍ ألهبت جمرةَ الشَّوق في كيانِه، فالتزم الصِّدق لها بما اكتنزهُ من طباع البراءةِ والخيْـر. وما لبثت أن اتَّــقــدَت جُذوةُ التَّعبير بفطرته، فحاكى تلك المعاني ونَظَمها شِعراً بلُغةٍ عفويَّةٍ بسيطةٍ تكادُ في بعض أبياتِها أن تكونَ عامّيَّة، لكنَّها في كلِّ حال تتوالى تباعاً كدفقاتٍ من اختلاجاتِ نفسٍ تائقةٍ إلى صفاءِ الحال ونقاءِ البال في مِرآةِ ما رأتهُ البصيرةُ، وما أدركهُ الفكرُ الغضُّ من أبعادٍ ناءت «بحَملها الجبال».

وكان من لطائف الإرادةِ أن خُلِّدت تلك الحالة بقصيدةٍ من مائةٍ وتسعة عشر بيتـاً، وازتْ ما كتبهُ الشيخ أبو صالح الكاتب نثراً قبل ما يزيد على المائة عام. وقد استُهِلَّت الأبيات جميعها بعبارةِ «أَلا يا نفس»، مخاطباً إيَّاها، مؤنِّباً ومنبِّهاً لها، ومحذِّراً ومستحضِراً مواجب الأمر والنَّهْي وفقاً لِما اتَّبعهُ من حكمةِ السَّلف الطائع، وما سمعهُ من مواعظ مُدرجة في الصحائف القديمة.

تُسمَّى تلك القصيدة التي لا شكَّ أنَّها من بواكيره بـ «النَّـفسيَّة»، وتُجسِّدُ حالة من فرائد الأحوال قياساً إلى سِنِّه. ومثل هذه الأمور الجليلة لا تحدث بين ليلةٍ وضحاها، لذلك يجدر التوقُّف في محاولةٍ لتصوُّر الصيغة الأقرب إلى وقائع الأمور، استناداً إلى قاعدة الانسجام بين المأثورات المنقولة في «السِّيرة»، فيما خصَّ تحديد زمنِ اللقاء مع عائلة «طريف» في جولس، القرية المجاورة لِيــرْكا، في تلك الأرض المباركَة بالعُـبـَّاد في منطقة الجليل شمال فلسطين.

إنَّ سلوكَه وسمْتهُ وحـركاته وسكَناته كانت جُـلُّها انعكاساً ظاهراً لباطنِه المأخوذ بالمعاني الحيَّة من حيث أنَّ القصدَ الأسمى منها (القصيدة) كلّها هو «تهذيب الأخلاق واستشعار الخلَّاق» وهي القاعدة المحوريَّة المنقولة عن كبار العارفِين.

جـولس

تُصنَّف النّصوص الدينيَّة المتعلِّقة بتصوُّر أحداث يوم القيامة في باب «الملاحم»، وهي عموماً جامعة لمحمولاتٍ من المعاني والتصوُّرات المُزلزلة لمفهوم الاستقرار الدنيويّ والخلود فيه إلى الأعراض السائلة في اللحظة الزمنيَّة الآنيَّة. ولا شكَّ بأنَّ الانطباعات التي تتكوَّن في ذِهن المرء من جرَّاء تلقّيه لتلك «المجـريات» تختلف باختلاف خُـلوّ القلب من «علائق الدنيا» كما يعبِّر المتصوِّفة.

كان عليٌّ(١٣) دون العاشرةِ حين ألقِيت على سمعِه «ملحمة» من هذا النوع في أجواء ليلةٍ لا نظير لها من كلِّ عام. ولا بدَّ من أنَّ المؤثّرات التي انغرست في ذاكـرته وقلبِه وخواطره قد وجدت لها أرضاً طيِّبة فسيحة في روحٍ بـريئةٍ صادقةٍ مهيَّأةٍ بجِبلَّتها للتصديق الخالص الذي هو عيْن الإيمان. بات الولدُ، حين يتَّبع شيوخ قريتِه في زياراتهم إلى قرية جُولس المجاورة ليركا، ومجاورته لهم في مجالس الذِّكر وغيرها، متنبِّهاً للأحاديث خصوصاً في تطرُّقها إلى مأثورات الشيخ أبي صالح سلمان طريف الكاتب وما يحفظُه الخلَف من عائلته عنه. وتقرَّب بذلك إليهم حيث يردُ في «السيرة» أنه «دخل بيتهُم لأوَّل مرَّة وهو لا يزالُ في العاشرة من عُمره»(١٤). والأرجح أنَّ هذا «الدخول» المُشار إليه جرى بتبعيَّة شيوخ يركا في إطار تقاليد الزيارات المتبادَلة، وانتقال الوفود من قرية إلى قرية بنيَّة إقامة سهرات الذِّكر الحميد، وإحياء الليل بالطاعة، فضلًا عن آداب القِرى من أجل «المجابرة»(١٥) طبقاً لأصُول الضيافة تكريماً وتبرُّكاً وتمتيناً لأواصر الصِّلة الرُّوحيَّة، وما يتوخّاه المرءُ بذلك من حسن ثواب.

مزار الشيخ علي فارس (جولس).

إنَّ نصَّ قصيدة «النفسيَّة» المحفوظ يُقدِّمُ لنا ثَــبَـتـاً بالأفكار والمشاعـر والتأمُّلات والاختلاجات التي جالت في صدر ناظمِها المتورِّع، في تلك السنوات القليلة التي سبقت سنَّ البلوغ. وهو استهلَّها بعذْل النّـفس (لوْمها) ورؤيتها في محلِّ الغفلة والمعصية ونسيان العهود والوقوع في الزلَّات من أثر الهوى(١٦). ثمَّ التنبُّه لمعنى الغرَض الدنيويّ وزواله، وأنَّ الآخرة آتية لا ريب فيها حيث الوقوف أمام الحقّ بما في الزاد من الأعمال(١٧). وامتثال هذا الأمر يدفع المرء المصدِّق به إلى بذل الهمَّة والجدّ والاجتهاد وحبّ الرسل العظام سعياً إلى رضاهم الموصل إلى رضى ربِّ العالمين ورحمته، فإن تعثرت النفس في ذلك السَّعي بات البكاءُ دواءها، واستشعار حلول الساعة وظهور العدل بكلِّ ما يعنيه ذلك من أحداثٍ «ملحميَّة» تؤولُ إلى دحض الباطل وقيامة الحقّ(١٨).

ولا شكَّ أنَّهُ بالحال نظَمَ «النفسيَّة» لا بمجرَّد القال. وسواء اشتهرت القصيدة آنذاك أم بقيت في عُهدته، فإنَّ سلوكَه وسمْتهُ وحـركاته وسكَناته كانت جُـلُّها انعكاساً ظاهراً لباطنِه المأخوذ بالمعاني الحيَّة من حيث أنَّ القصدَ الأسمى منها كلّها هو «تهذيب الأخلاق واستشعار الخلَّاق» وهي القاعدة المحوريَّة المنقولة عن كبار العارفِين. ولقد بات من الطبيعيّ أن تتعزَّزَ الثقة الروحيَّة وأن تـتوطَّد العلاقات ومشاعر الألفة مع أصحاب البصيرة، وهو الأمرُ الذي يتبدَّى في ما ذكره جامع مأثورات «السيرة» حين أورد في مستهلّها بأنَّ «زيارته الأولى لعائلة طريف حدثت وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عُمره»(١٩). لقد بات موضع ثـقة آلـ طريف، ولقِيَ منهُم «حفاوة وبشاشة وجه وكرَم…فتكثَّفت زياراته لهُم…»(٢٠)، ويتَّضحُ من صِيغة العبارة أنَّه المُبادِر إلى القيام بها لِما استشعرهُ منهُم من ودّ واستئناس.

المَغارة

كابدَ عليّ منذ أوائل العمر مصاعب الحياة الدّنيا، وقاسَى «مرارةَ العيْش» اليوميّ إذ «أذاقتْهُ (زوجة أبيه) في طفولتِه الغضَّة ألواناً من العذاب والحرمان.»(٢١) ولم يُعرَف عنهُ إلَّا أنَّه واجهَ كلّ ذلك بالتـقـوى والصَّبْر والرِّضَى، منصرفاً إلى تعلُّم القراءة والكتابة بدافع الشَّوق إلى المعرفة والإدراك السليم للطائف المعاني الدينيَّة وفقاً لتدرُّجه في هذا المحراب الشريف. وعُرف عنهُ جِدّه واجتهاده في الدَّرس والاطّلاع على «مواعظ الخير وقصص الأنبياء» فضلًا عن إنصاته وإمعانِه فـيما يسمعُه في رياضِ الذِّكْر الزاهرة. وقصَّته السَّالفة في سهرة الأضحى وما سمعه فيها وما نظَمه بعد ذلك، فيه دلالات قويَّة واضحة على مدى «الميدان الفسيح» الذي جالت فيه خواطرُه، وما «أشرقت عليه مطالع الرُّوح»(٢٢)، وما اشتغل به كيانُه اللطيف، مُسلِّماً بالكامل لحِكمة الحكيم، ربِّ الأكوان، الرَّحمن الرَّحيم، وكأنَّه يردِّدُ في سرِّه ﴿فَاصْبِر إنَّ العاقِبَة لِلمُتَّـقِـين﴾(٢٣).

صورة مغارة الشيخ علي فارس.

ولا شكَّ أنَّه، عند مشارفتِه سنّ البلوغ وما تلاه، اشتدَّ وعيُه وإدراكُه للصّعوبات التي من شأنها أن تعكِّر صفْوَ سعيِه في التدرُّج الرُّوحيّ المُلازم لصِدق الطَّويَّة (السَّريرة) والتحقُّق السلوكيّ للطائف المعرفة، والارتقاء الدائم في منازل الارتِياض. وتبدَّت لهُ الفجْوةُ التي تولِّدُها تلك «العوائق» لتُباعِدَ المسافات بين الواقع والمِثال. وإذ بالحلقة تضيق حين تيـقُّنه من أنَّ «المَكارِه» في دار أبيه هي اختبارٌ جزئيّ لإيمانِه قياساً إلى عمومِ الفساد والظُّلم في سائر نواحي البلاد من حواليْه، حيث كان لكلِّ مقاطعةٍ منها «شيخ (عشِيرة) من البيُوتِ القديمة ذات الصَّولة»(٢٤) لهُم السَّطوة والنفوذ. وفضلًا عن رجالهم وما يـرتكبونه من مظالم، كان ثمَّة «عسكر الولاية… وهُم أخلاط… دأبُهم الثقلة على الأهالي والتعدِّي عليْهم… وكان يُضرَب المثَــل بسفاهتهِم… يُقال فلان نظير عسكر الدولة مِلْحُه على ذيْله أي لا ذمَّة له ولا عهْد…»(٢٥).

كان للوضع العام أثرٌ مباشَر في الحياة اليوميَّة لفتًى وَرِع ما زال بحُكم الواقع في رعاية أبٍ خادمٍ بسلاحِه لذوي الإمْرة. ويترتَّب من جرَّاء ذلك العـديد من الأمُور المتعلِّقة بالإعالة وبشؤون العيْش تحت سقفٍ واحد. وقد اشتدَّت إلى حدٍّ مُقلِق، هواجسُ الشابّ الصَّاعـد لِما تعلَّمهُ وآمن به، وعلى وجه الخصُوص القاعدةِ الضروريَّة المتعلِّقة بأمر اجتناب الحرام قطعاً، والابتعاد عن الشبهات والمال المغصُوب الذي يحصِّلُه المتسلِّطُون قهْراً وعَنْوة. وما زاد من وحشة الدار قبل ذلك بأعوام، مغادرة شقيقته له بعد زواجها وخلاء أجوائه لخالةٍ مُتعسِّفة (زوجة أبيه).

وتاقتْ روحُه إلى صفاء التحقُّق. وأيقن بأنَّه من المُحال النفاذ إلى مدارج هذا الدَّرب الحميد وسط العقبات الكؤودة المُـزمنة المُعشِّشة وسط الدَّار. إنَّ ما يُحرِّكُ في دخيلةِ ذاته ما يُعتِقُه من كلِّ عَلاقةٍ مانعة هو الصِّدقُ والإخلاص والشُّعور العميق بأنَّ المعاني التي أوْطَن نفسَه عليها، ونظَمها بوْحاً بما اختلجَ في صَدْره، وخاطبَ بها نفسَه، هي أمانة لا بدَّ من الاتِّحادِ في محمولاتِها، باطناً وظاهراً، كما كان في القوْل يكونُ في السلُوكِ والفِعل، وكما كان في العاطفةِ والانفعال يكونُ في العقْل والتَّدبير، وكما كان في الانجذابِ الرّاهـب والخوْفِ التقيّ يكونُ في السَّكينة والثَّبات ووليمة المعرفة الحقّة.

هكذا، وجد نفسَهُ حرّاً بالحقّ، فضاق به سجنُ المكان، ورأى في خَلاء الأرض ما يأويه وهوَ المتآلِف معها في غَدواتِه ورَوْحاته بين يــركا وجولس حتَّى عُرف أنَّ صخرةً كبيرةً بجانب الطريق بينهما كان «يجلسُ بجانبِها ويتفيّأُ بظلِّها»(٢٦) قبل متابعةِ السَّيْر. وثمَّة، إلى الشرق من القـريتيْن، مغارة في «وادي السماك» واقعة بين الصّخور الجبليَّة وسط منحدرٍ عَموديّ حاد، تعلو فوق السَّفح بما يقاربُ ثلاثة عشر مترا،ً ويحتاج الصّعود إليها إلى شيءٍ من الجهد والحذَر، فكانت مأواه الذي صبَتْ نفسُه إليه.

أمضى الزَّاهدُ في «خلْوتِه» المنعزلة أيّاماً لا يعرفُ أسرارها إلَّا ﴿السَّمِيع البَصِيـر﴾. فالغارُ «منقطعٌ عن النَّاس لا يهتدي إليه سوى القاصد والخبير بالمكان»(٢٧). والانقطاعُ عن العلائق سبيلٌ يتوخَّاهُ التقيُّ سعياً إلى الاستقرار في الأُنس وحال الصِّلة بما في طاقة النَّفس من استعداد. لقد عبَّرت قصيدة «النفسيَّة» عن نفسٍ «لوَّامة»، وهي الآن «تكدحُ» لتصير ﴿النّفس المُطمَئنَّة﴾(٢٨). فضلًا عن ذلك، فإنَّ الاستغراق الهادئ في عقْـل المعاني ولطائف دلالاتها الرُّوحيَّة يُصَيِّرُ «العقلَ بالقوَّةِ» عقلًا بالفِعل حيث تصيرُ المعقولات صُوَراً للنّفس على أنَّ النَّفسَ صارت هي بعيْنها تلك الصوَر، وهي الحالة المعبَّر عنها بـ «الرّياضة» إذ تتَّحدُ النّـفسُ بأثر العـقل المتيقِّظ بحقائق الوجود العميقة(٢٩).

صورة المغارة من الداخل.

المراجع:
  1. «سيرة حياة سيدنا الشيخ علي فارس»، عبد الله سليم طريف، جولس 1987. ويقوم هذا الكتاب مقام المصدر لأن مؤلفه استقى معلوماته من الشيوخ الثقات، وعلى الأخصّ من آل طريف في جولس القرية التي عاش فيها الشيخ علي فارس مقرَّبا منهم، كما من بعض الوثائق المحفوظة لديهم. وهو الكتاب الذي أشار إليه د. سامي مكارم بقوله: «معلومات أساسية مروية عن المشايخ الثقات نقلا عن السلف حول حياة هذا الشاعر العارف» وذلك في مستهل كتابه «الشيخ علي فارس»، المجلس الدرزي للبحوث والإنماء والمركز الوطني للمعلومات والدراسات، المختارة، 1990، ص 7. وترجَّح سنة الولادة في أحد الأعوام من 1115 إلى 1119 هـ (1703 إلى 1707 م.)
  2. من مأثور منقول عن الشيوخ، وهو الشيخ أبو السرايا (ذكره الشيخ الأشرفاني).
  3. «تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وبلاد صفد»، مخائيل نقولا الصبَّاغ العكّاوي، شركة نوابغ الفكر، القاهرة، ط1، 2010، ص 24.
  4. هكذا ورد في كتاب طريف، ص 127، ويبدو انَّ د. مكارم نقل عنه التوصيف ذاته، ص 16. وموقع قلعة جدين غير بعيد عن «يركا» باتجاه الشمال.
  5. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 33… وكان نفوذ الزيادنة (عشيرة الظاهر) محدودا آنذاك قبل أن يقوى ويشتد لاحقا.
  6. المصدر ذاته، ص 25، وص 33.
  7. سيرة حياة…، ص 126. أيضاً: «مناقب الأعيان»، الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، منشورات الإشراق، عاليه، سنة 2000، الجزء الثاني، ص 159.
  8. المصدر ذاته، ص 130، وقد وردت العبارة فيه كذا: «في سنّ لا يعهد أحدا ان غيره سبقه على ذلك.».
  9. مناقب الأعيان، ج2، ص 86، ذكره الشيخ العريضي استناداً إلى مخطوط «نبذة عن مشايخ البلدان للشيخ أبي زين الدّين حسن العقيلي».
  10. المصدر ذاته، ص 86 – 88. وكلاهما من آل طريف، وهما الشيخ أبو صالح سلمان، والشيخ أبو محمّد خيْر.
  11. تمَّ الاعتماد هنا على المأثورات الواردة في كتاب (طربف، «سيرة حياة…»، جولس 1987) وذلك من أجل ضبط السياق الواقعيّ لسيرة الشيخ، ولاجتناب اختلاط المأثورات في تواترها الزمنيّ. والسبب في ذلك أنَّ هذا المصدر استند بدوره إلى جمْع تلك المأثورات (كما سبق ذكره في الهامش 1) من البيئة التي عاش فيها الشيخ علي، ومن وسط العائلة التي رَعتـهُ في كنفها، ومعظم المنقول منها شفهيّ متواتر، والقليل منها، فضلًا عن مجموع القصائد، مدوَّن مخطوط.
  12. مناقب الأعيان، ج2، ص 82. وللشيخ أبي ماضي حسن قصيدة اشتياق وتحسُّر بعد انتقال الشيخ أبي صالح مع أخٍ له إلى البيَّاضة، جنوب لبنان.
  13. يُسمَّى الشيخ هنا باسمه المجرَّد قياساً إلى سنّه المبكرة.
  14. سيرة حياة…، ص 141.
  15. الجَبْرُ خلاف الكسر. هو أن تغني الرجل من الفقر أو تجبر عظمَه من الكسر. وقال ابن سيده: وجبَر الرجلَ أحسن إليه. والعرب تسمّي الخبزَ جابراً. (لسان العرب). وفي كل حال، فإن استخدام مصطلح «المجابرة» بين الأجاويد عائد إلى أنّ تناول القِرى (الطعام وما يُقدَّم) عند المضيف هو بمثابة «جبْر» خاطر، والتمنُّع عن ذلك يكون «كسراً في خاطره». والله تعالى جابر كلّ كسير وفقير.
  16. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس كم هذا الظلاما- وكم أنت تخوضي في الجراما/ ألا يا نفس كم هذا التمادي – على العصيان ثم الاقتحاما/ ألا يا نفس كم لله تعصي – وكم خنتِ عهودا مع ذماما.
  17. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس ذا الدنيا دنيَّة – فلا يأخذنكِّ فيها غراما…/ألا يا نفس ما تخشين يوماً – يشيبُ الطفلُ فيه والغلاما/ ألا يا نفس يوم ليس ينفع- لموقعه سوى حُسن النظاما.
  18. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس جدّي واستعدّي- وشدّي الحزم مع شدّ الحزاما/ ألا يا نفس اسعي في رضاه- عسى يشفع لك يوم الزحاما.
  19. «سيرة حياة …»، ص 125.
  20. «سيرة حياة …»، ص 141.
  21. «سيرة حياة …»، ص 130. أيضاً «شيوخنا الأعلام»، جميل أبو ترابي، السويداء، 1992، ص 235. وورد في «مناقب الأعلام»: أنها “لم تُحسن معاملتهما» (هو وأخته)، وأنَّه «عاش حياة مريرة لكنه صبَر صبْر الكرام». ص 159، وص 160. وفي «الشيخ علي فارس»، د. مكارم، ص 16 تُذكَر قسوة المعاملة.
  22. «الشيخ علي…»، ص 17.
  23. سورة هود، الآية 49.
  24. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 11.
  25. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 13. وهذا قبل عهد ظاهر العمر الزيداني كما تقدَّم.
  26. «سيرة حياة …»، ص 139. وجاء فيه أيضا: «تلك الصخرة التي بقيت مكانها لأكثر من قرنيْن من الزمن، ولم يحدث مرَّة أن مرَّ هناك رجل أو امرأة… إلَّا وقبَّـل تلك الصخرة إكراماً وإجلالًا ومحبَّة للمرحوم سيدنا الشيخ علي فارس.»
  27. «سيرة حياة …»، ص 126.
  28. عن النفس اللوامة، راجع الآية 2 من سورة القيامة. وعن «المطمئنة»، الآية 27 من سورة الفجر. والكدح كما قال تعالى في سورة الانشقاق، الآية 6: ﴿يَا أيُّها الإنسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى ربِّكَ كدحاً فمُلاقِيه﴾.
  29. التمييز بين حالات العقل ورد في «كتاب النفس» لأرسطو.

ملاحظة: «لله ما كان للمعبود أشوقهم» شطر من قصيدة للشيخ علي فارس.

الأمير نديم آل ناصر الدين

عَلَمٌ من أَعلامِ الفِكْرِ والأدبِ واللّغة والنّقد والصّحافة، ظلَّ خفّاقاً نابضاً إلى أن انتقل إلى رحمة ربِّه ورضوانه يوم 15 كانون الأول سنة 2003. الأمير نديم آل ناصر الدّين، إمام اللّغة والحُجَّة والمُدَقِّق والمُتَبحِّر الذي عمل في مجال الأدب والنّقد والصّحافة والثّقافة قرابة سبعين عاماً وأكثر عاكفاً على البحث والتّنقيب والمطالعة والدّرس والتّمحيص.

This content is locked

Login To Unlock The Content!

من أعلام بني معروف