الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه الذي هدى فأهدى وعفا فأعفى وجاد فأجاد،
الحمدُ له في كلِّ بَدءٍ وختام، حمداً على الدوام، ما شقَّ فجرٌ وما ليلٌ دجا، وما غرّد طيرٌ وما طيرٌ شجا،
الحمدُ لله على نعمةٍ كنَّا عنها غافلين، وعلى بليَّةٍ كنَّا منها هاربين، حمداً لا منَّة فيه ولا كللا، ولا غنى عنه ولا بدَلا.

إخواني القرَّاء الأعزَّاء،

عامٌ جديد وعددٌ جديد، ورحلة العطاء تستمرُّ من محطةٍ إلى محطة، في توقٍ دائمٍ نحو الأفضل والأكمل، مع غروب شمسٍ وشروق شمس؛ نغوص في بحر التأمُّل ونحلِّق في فضاء التفكُّر، مدركين أنّه إذا كان الثبات على الإنجاز المحقَّق أفضل من التراجع عنه فإنَّ التقدُّم إلى الأمام هو الأفضل، سائلين أنفسَنا ومتسائلين ما إذا كان الموتُ نهايةً أم بداية، وهل أن كلَّ من مات مات وكلَّ من هو على قيد الحياة حيٌّ.

هي ذي المعادلة العادلة، فإمَّا موتٌ وإمَّا حياة، فماذا نختارُ؟ أليس من الأجدى والأجدر أن نرومَ الحياة في كل ما نفكِّر به أو نقولُه أو نفعلُه؟ لكي لا يكون أُفولُ سنة وحلولُ سنة سوى انتقال من أعلى إلى أعلى، وسوى استكمالٍ لمسيرة الترقّي والمسافرة في درجات الخير والمعرفة، وكي لا يكونَ الموتُ نهايةَ الحياةَ، بل الولادة الجديدة لرحلة الروح: «نموتُ لنحيا، عندنا الموتُ مولِدُ».

صحيحٌ أنّ أوضاعَ البلاد تسيرُ من صعبٍ إلى أصعب، ومن أزمةٍ إلى أزمات، عاماً بعد عام، في سنواتٍ سبعٍ عجافٍ أو أكثر أو أقل، لكنّنا وإن خسرنا ما هو غالٍ ونفيس لا نتذمّر ولا نتفجّع ولا نركن لليأس والإحباط:
«لكنَّنا نأبى التفجُّعَ كاليمامْ»،

ولا نرضى بأن يأخذنا الواقعُ المريرُ إلى الإحباط واليأس، بل نريدُه أن يدعوَنا إلى تعزيز الثقة بالله تعالى وإلى المزيد من شحذ الهمم والمثابرة وتحمُّل المسؤولية، أليس التاريخُ مليئاً بمحطاتٍ عديدةٍ معقَّدة ومراحلَ متكرّرة مؤلمة كمثل تلك التي نمرُّ بها اليوم، وقد تجاوزتها الشعوب وتخطّتها، ونهضت من كبوتها وتابعت مسيرة الحياة والتقدُّم، فرُبَّ كبوة أنتجت صحوة، ورُبَّ ضارَّة نافعة، أمَّا الواجب فيقضي بالإتّكال على الله وتثبيت الإيمان في القلوب وترسيخ اليقين في النفوس وعقد العزم على تجاوز المحن والصعاب، والتعاون في مواجهة الواقع بالتكيُّف معه وعدم الإستسلام أمام تحدياتِه وبذل الجهد للنهوض ومتابعة السير إلى الأمام.

رسالتي إلى إخواني وأبنائي الموحِّدين أولاً أنِ ارجِعوا إلى الآية الكريمة القائلة:

«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا»،

وكونوا معاً قلباً نابضاً بالمحبة وفكراً طامحاً للخير ويداً عاملة بجدٍّ واجتهاد، غنيُّكم سخيٌّ كريم وفقيرُكم متعفِّفٌ قانع، شبابٌ لا يعرف الخمول والكسل، وكهولةٌ لا تتوانى عن العطاء والنصح والتوجيه. حذِّروا بعضكم بعضاً واحذروا من أن تتسلَّل إلى بيوتِكم ومجتمعكم الآفات القاتلة وأن تجرفكم التيارات الفاسدة، فخطر تلك الآفات والتيارات أشدُّ تأثيراً من خطر الحروب وأخطار المجاعة، إذ لتلك دروعٌ تُصَدُّ بها وملاجئ تقي من أهوالِها وحِيَلٌ ووسائلُ تحمي منها، ولكنَّ مجاعة الأرواح ومخاطرَ الآفات الفكرية والقلبية والروحية والأخلاقية تخترق الدروع والحصون والملاجئ ما لم يكن هناك رادعٌ من إيمان ووازعٌ من قِيم وحارسٌ من تربية صالحة وثقافةٍ رفيعة وإرادةٍ صلبة لا تقوى عليها الإغراءاتُ ولا ينالُ منها تهديدٌ أو وعيد، ولا ترهيبٌ ولا ترغيب.

ورسالتي إلى اللبنانيين جميعاً؛ مسؤولين ومواطنين، أنِ ارتقوا بلبنانيتكم إلى مستوى المواطَنة الحقَّة، لتكونوا موحَّدين غير متفرّقين، متعاونين ومتّحدين لإنقاذ البلاد من الفراغ الدستوري والشلل الإداري والإنهيار المالي والعدوان الإسرائيلي الجاري، اصغوا لصوت الحكمة في عقولكم ولنبْض الأخوَّة والمحبة والرحمة في قلوبِكم، فالمهمُّ وحدتُكم وولاؤكم الخالص للوطن، فهذ هو أمضى سلاحٍ لمحاربة العجز والفساد والترهُّل والإعتداء الخارجي على البلاد، فكلُّ المشاكل والتحديات قابلة للحلّ وللمواجهة إذا ما كنتم أقوياء في وحدتكم وصادقين في ولائكم، أمَّا إذا كان الخلل موجوداً في ذلك فهو إذاً في أساس وطنكم، وإذا ضعف الأساس يُخشى على البناء من السقوط، وهذا ما لن يحصل، بعونه تعالى، طالما أنّ هناك حكماء وعقلاء ووطنيين أصيلين من كل المذاهب والقوى السياسية والاجتماعية والروحية اللبنانية.

وما بين عددٍ وعدد من «الضّحى»، كي لا نقول ما بين عامٍ وعام، أملٌ يتجدَّدُ وعملٌ يتضاعفُ، علّ العمل يحقِّق الأمل، فيتزيَّن العدد القادم بنبأٍ مفرحٍ وصورٍ مبشِّرة بالخير لرئيسٍ جامعٍ مقتدر ولقادةٍ ومسؤولين يملؤون الفراغ في المواقعَ العسكرية والأمنية والإدارية فتنتظم مسيرة الدولة وينتصر لبنان بأبنائه ومؤسساته، وتحلو المعايدةُ إذّاك والقول: «كلُّ عام وأنتم بخير».

كلمة سماحة شيخ العقل في المكتبة الوطنية بعقلين
خلال استقبال غبطة البطريرك الراعي

أهُو لقاءُ الشوف الجامع، أم لقاءُ الجبلِ ولقاءُ الوطن؟ أهِي دعوةٌ لجني ثمارِ المصالحة أم دعوةٌ لرسم آفاق المستقبل؟ أم هذا وذاك وتلك؟ في مكتبة بعقلينَ الوطنية، بل في مدينة التواصل الثقافي عاصمةِ الإمارة المعنية، بعقلينَ التاريخِ المشبَعِ بعبير التقوى الصاعدِ من شذا شيخِها الجواد والسلفِ الصالح من الأعلام والأسياد، وبعبقِ الرجولة والأصالة الدافقِ من مَعين العقل والدين الذي ميّز أبناءَ عائلاتِها الأصيلين، وبطيبِ العيش الآمن معَ الله في مَداهُ الأرحب، والمتجلّي بعيش الصفاءِ والأُخوَّةِ معَ أبناء كلِّ عائلةٍ ومذهب… بعقلينَ النموذجِ الأرقى للجبل الموحِّد والموحَّد، منذ أن كان للموحِّدين ولإخوانِهم المسيحيين يدٌ تقاومُ وتدافع عن الوجود، ويدٌ تزرعُ ومن خيراتِ الأرضِ تجود، ومنذ أن كان لرجال هذا الجبل عينٌ تسهرُ وتتعبَّدُ اللهَ، وعينٌ تنعمُ بمحبة أبناءِ الله؛ يدٌ تصافحُ وفمٌ يُصارح وقلبٌ يُصالح، وعينانِ تنظرانِ بشغفٍ منَ بَعقلينَ إلى دير القمر وبيتِ الدين، ومن تلال السموِّ والعنفوان الممتدّة من قِممِ الباروك الشمَّاء إلى ودايا البركة وسهول الخير المعطاء… إنَّه الشوفُ: صخرٌ لا يتفتَّت، وعطرٌ لا يتشتَّت، ونبعٌ لا ينضَب، وأرزٌ لا يبوخُ ولا يتعب.. شوفُ المختارة؛ مختارةِ الكمال العصيّةِ على التعصُّب والتقسيم، شوفُ الخلوة؛ خلوةِ جرنايا الواصلة بين دير القمر وكفرحيم، شوفُ الكنيسة والمسجد؛ كنيسةِ سيِّدة التلّة وكنيسة الدرِّ ومسجدِ الدير ومسجد الأمير شكيب أرسلان.

أنْ نلتقيَ وصاحب الغبطة وأصحاب السيادة والمشايخ الأجلَّاء اليومَ، وبحضور نُخبةِ القوم والمجتمع والوطن، وفي رحاب سجنٍ تحوَّل مكتبة، فذلك ليس بغريب، فبكركي وزعامةُ الجبل وكلُّنا معاً حوّلنا هذا الجبلَ منذ عشرينَ عاماً ونيِّف من ساحة حربٍ وحقدٍ وخِصام إلى واحة مصالحةٍ وحبٍّ وسلام، والتقينا في الإرادة والرهان قبل أن نلتقيَ في الزمان والمكان، وها نحن مستمرُّون في تلاقينا لتعزيز الثقة وإنعاش الأمل، ومستعدُّون دائماً لأن نجعلَ من هذا الجبلِ المعروفيِّ المسيحيِّ الدرزيِّ المجلببِ بعباءات التقوى والأرز والسنديان والمعمَّمِ بعمائم المحبة ونقاء الثلج نموذجاً أرقى لكلِّ لبنان، إذ هو قلبُ لبنان، وقد تعاهدنا في المختارة وفي بكركي، وبالأمس القريب من أمام بوَّابة الديمان أن نصونَه بالصلاة وبرموش العيون؛ بالروح الطيّبة والكلمة الطيِّبة وبالعمل الطيِّب. كيف لا؟ ونحن أبناءُ الحقِّ والتوحيدِ، والمحبةُ هي لُبُّ التوحيد، والتوحيدُ جامعٌ مشترَك فوق المظاهر والطقوس، وقد عبَّرنا بالأمسِ عن ذلك شعراً، فقلنا:

تعمَّقتُ في ديني الحنيفِ فقادني

                 إلى  غيرِه، لو أنّ ذاك مُغايِرُ

وأدركتُ أنَّ الحقَّ أصلٌ، وكلُّنا

                فروعٌ وأغصانٌ له وأزاهرُ

إذا ما فرَّقَتْ  بينَ  الأنامِ عبادةٌ

                فتجمعُهم فوقَ الطقوسِ الجواهرُ

من هذا المنطَلَقِ الروحيِّ والإنسانيِّ والاجتماعيّ لم تكن مصالحةُ الجبل التاريخية ورقةَ تفاهمٍ موقَّعةً من زعيمٍ وبطريركٍ وشيخٍ وشهودِ حال، بل كانت عهدَ الحكماء والأبطال الرجال، عهداً من العقل إلى العقل ومن القلب إلى القلب، عهداً يقولُ إنَّ الجبلَ تاريخٌ، والتاريخُ لا يُمحى بحادثةٍ هنا ومواجَهةٍ هناك، وتراثٌ اجتماعيٌّ وأخلاقيٌّ لا يتبدَّلُ بخطأٍ من هذه الجهةِ أو بخطيئةٍ من تلك. الجبلُ سيرةُ أبطالٍ قادةٍ نُجباء وفلَّاحين أُخوةٍ شرفاء، الجبلُ كهفُ تعبُّدٍ وصومعةُ نُسكٍ وساحةُ جَمعٍ في الأفراح والأتراح، الجبلُ مَيدانُ عملٍ وشراكةٍ ولقاء، الجبلُ كرْمٌ وكرَم، سيفٌ وضَيف، نسمةٌ وبسمة، فيه وُلِدنا وفيه نعيشُ وفيه نموتُ وفيه نُبعَثُ من جديد، معاً نحميه، معاً نبنيه، معاً نُعليه فوق الخلاف والاختلاف، ومعاً نجعلُه النموذجَ الحيَّ للإنسان، ولكلِّ لبنان.

زيارتُكم صاحبَ الغبطةِ الممتدَّةُ من بلدتِنا شانَيه في جُرد عاليه إلى الباروكِ فبيتِ الدينِ فبعقلينَ فالمختارة خطوةٌ مبارَكةٌ، لها رمزيَّتُها العالية، إذ هي رسالةُ تأكيدٍ وتجديد، أردناها معاً بإرادةٍ واحدة ورؤيةٍ مشترَكة، تأكيدٍ على نهج المصالَحة والأُخوَّة والمحبة، وتجديدٍ لمسيرة العمل المشترَك من أجل نهضة الجبل وصَون الوطن. التطلُّعاتُ كثيرة والانتظاراتُ كبيرة والتحدياتُ خطيرة، فلماذا لا نتَّحدُ لمواجهتِها ولجَني ثمار المصالحة وتعزيز الأمل بالمستقبل؟ الدولةُ تتراجعُ وتنهارُ، وأبناؤُنا يعيشون حالةَ البطالة واليأس أو يهاجرون بحثاً عن غدٍ أفضل. الأرضُ تكادُ تتصحَّرُ والأوقافُ مُهمَلة، وأغنياؤُنا يستثمرون بعيداً ومعظمُهم في ما وراءِ البحار، ألا يستوجبُ الأمرُ مصالحةً من نوعٍ آخر؟ مصالحةً على شكل مبادراتٍ عمليّة لبناء المؤسسات وإقامةِ المشاريع المُنتِجة؟ ألا يجدُرُ بنا أن نضعَ خطةً استراتيجيةً للنهوض بأوقافِنا وجبلِنا، وبالاعتماد على أنفسِنا أوَّلاً؟ ومن خلال تشكيل مجموعةٍ استثماريةٍ قادرةٍ على تنفيذ ما يُتَّفقُ عليه من مشاريعَ تنمويةٍ في مختلَف المجالات الزراعية والصناعية والخدماتية والسياحية وغيرِها؟

لقد واجهَتِ المختارةُ الأزمةَ الاقتصاديةَ الخانقة كعادتِها بالمزيد من العطاء وتَحمُّلِ المسؤولية واحتضانِ العائلات والمؤسسات، وهي التي لم تعرفِ التخاذلَ والتواني أبداً، فقامت إلى حدٍّ كبيرٍ مقامَ الدولة، كما فعل آخرون على قَدر طاقاتِهم ومواقعهِم، ولكنّنا، كقياداتٍ روحية وكقيِّمينَ على الأوقاف، مَعنيُّون بالوقوف إلى جانب أهلِنا ومجتمعِنا، من خلال خطةٍ منظَّمة تفتح الآفاقَ نحو المستقبل، سيّما وأنّ في الجبل رجالاً قادرين مُقتدرين، مؤمنين بوطنِهم، حريصينَ مثلَنا على الكرامةِ والوجود، ونحن معهم نُردِّدُ القولَ المأثورَ ونقول»: «إنَّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد»، ونؤمنُ أنّ اللهَ لا يُريدُ لنا إلَّا الخيرَ متى ما أردناه لأنفسِنا. جاء في الحديث القُدْسيِّ: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصرُ به…»، وهذا ما نرجوه؛ أن يُحبَّنا اللهُ، واللهُ لا يُحبُّنا إلّا إذا تقرَّبنا منه وكنَّا مُتحابِّين فيه، لا متخاصمين، مجتمعينَ في كنَفِه، لا متفرّقين، مُدركينَ أنَّ للمصالحةِ روحاً وجوهرَاً، لا اسماً ومظهراً فحسب. روحُها الإيمانُ بالله وبالوطن، وجوهرُها المحبةُ والأُخوَّة، وقد أردناها «كَلمَةً طَيِّبَةً كشَجرةٍ طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمآءِ»، فتعهَّدنا زرعَها بالعنايةِ والعمل، وتعاهدنا على ألَّا نقطفَ ثمارَها الطيِّبة إلَّا معاً موحِّدين موحَّدين؛ مسلمين ومسيحيين.

نعيشُ وإيَّاكمُ اليومَ حالةً وطنيةً مُحبِطة على مستوى الدولة؛ من تعطيل المؤسسات إلى غيابِ الحلول والتسويات، وكأنَّ الدستورَ أصبح عندَنا تعميماً يُلغى بتعميم، أو كأنَّ المُهَلَ الدستوريَّة أضحت فُرَصاً تَروحُ وتأتي ولا مُوجِبَ لاحترامِها، أو كأنّنا لم نبلغْ سِنَّ الرُّشدِ السياسيِّ بعد، فبِتنا ننتظرُ الخارجَ لِيرسُمَ لنا سبيلَ الخروج من الأزمات، وغالباً ما نسألُ عن دورِنا كمرجعياتٍ روحيّة، وإنّني أراهُ دوراً إنسانيّاً وأخلاقيَّاً جامعاً، بل مِظلَّةً روحيّة للتلاقي السياسيِّ الوطنيِّ المنشود، فهل يُمكنُ من موقعِنا أن نُمهِّدَ لمجلس النُوّابِ ولرؤساء الكُتَلِ النيابية بالدعوة إلى لقاءاتٍ حواريَّة على مستوى النُّخَبِ والمثقَّفين الوطنيِّين؟ وقد صدرت بالأمس القريبِ من إحدى تلك المجموعات ومن قاعة بكركي وثيقةٌ جيِّدة بعنوان «رؤية جديدة للبنانَ الغد»، وصدرت مثيلاتُها من هذا المِنبر أو ذاك الملتقى، أفلا يُستحسَنُ أن يلتقيَ أصحابُ هذه الوثائقِ على طاولة حوارٍ وتفاهمٍ علَّهم يُنتِجون وثيقةً مشترَكة تُحفِّزُ المسؤولين لإنتاج الحلولِ الناجعة بدلاً من المراوحة وعادةِ انتظار الخارج وارتقاب الفرَج؟

إنَّ الحوارَ سبيلٌ وليس غاية، فلماذا لا ندعو إليه ونسلُكُه لاختراق جدرانِ التعطيل والإغلاق؟ لا قفزاً فوق الدستور ولا تغييباً للحياة الديمقراطية، بل سعياً إلى «جمال التسوية» النافعة المُجدية، فالرئيسُ المنتظَرُ لا يجوزُ أن يبقى مُختطَفاً ومفقوداً، بينما الناسُ في حالةِ بؤسٍ، ومعاملاتُهم في حالة جمودٍ وتسييب، وعواصمُ القرار تسعى وراء مصالحِها أولاً، أفلا نسعى من أجل مصلحة الوطن؟ والدولُ العربيةُ في حالة جفاءٍ معنا ونحن متخاصمون، أفلا يجب أن نتلاقى ونتصالحَ معَ أنفسِنا لنعيدَ رونقَ تلك العلاقة معَ عمقِنا العربيّ التي هي سبيلُ خلاصٍ وحياةٍ للبنان؟ والثروةُ النفطيَّةُ المرتقَبة يُخشى عليها من الضَّياع في خضمِّ التجاذب السياسي، ألا يجدرُ بنا أن ننظرَ إليها كخشبة خلاصٍ فنرفعَها فوق المصالح الفئوية وفوق المراهنات على هذه الدولة أو تلك؟ لتصبَّ نتائجُها في صندوقٍ سياديٍّ بامتياز يساهمُ في إنقاذ الوطن وحماية اقتصاده ووفاء ديونه للمودِعينَ وللدائنين، لا صندوقَ محاصصاتٍ يتحكَّمُ فيه القويُّ ويُحرَمُ منه الضعيف، ويكونُ مصدرَ نِقمةٍ لا مصدرَ نعمة، لا سمحَ الله؟

لقد قيلَ وقُلنا: «إذا كان الجبلُ بخيرٍ فلُبنانُ كلُّه بخير»، ذلك هو الشِّعارُ وتلك هي الحقيقة، وإنَّنا لَمؤمنون بالجبل إيمانَنا بالوطن،، مؤمنون بالشوفِ، وللشوفِ أقول ما قُلتُه يوماً في تكريم أحد الآباء المحترمين:

آمنتُ  بالشوفِ أرزا شامخاً حُرَّا

                   وأرضَ خيرٍ ونبعاً فجَّرَ الصَّخرا

آمنتُ  بالشوفِ،   والمعروفُ  مِيزتُهُ

                  والحبُّ أيقظَ في شِريانِه الجَمرا

فأوقدتْ   خَلوةُ    التوحيدِ    أنجُمَها

                   وأشعلَ الدَّيرُ من أنوارِه بَدرا

فعادَ   يُشرِقُ   في   تاريخِنا   جبلٌ

                   وعاد يَصنعُ من آلامِنا فجرا

لقد بزَغَ الفجرُ في آب 2001، فجرُ المصالحة والوفاق، وها نحن اليومَ في أَوج النهار نَنعمُ بالدفءِ والنور، وما علينا إلّا الجِدُّ والاجتهاد وبذلُ الجُهود، حتى وإن غابت الشمسُ جوازاً، فمجدُ الجبلٍ بعونِ الله لن يَغيب.

رسالة الوحدة والتوحيد

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم

«وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحدِّثْ». صدق الله العظيم

تبرُّكاً بالآية الكريمة المُنزَلة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإيماناً منَّا بأفضلية العمل للآخرة وبألَّا ننسى واجبنا الدنيويّ، وتقديراً للهداية ولنعمة الله علينا، وبالواجب القاضي بأن نحدِّث بنعمة الله، وسعياً لإيجاد صلة ثقافية بيننا وبين أبناء مجتمعنا ومساحة معرفية نتشارك فيها ورئاسة التحرير ومجموعة الكتَّاب والمحرِّرين لنشر ما هو مفيد ومغذٍّ للفكر والروح، والتزاماً بنهج من سبقنا في مشيخة العقل ورئاسة المجلس المذهبي، ومحاولةً لإضافة ما يمكن أن يساهم في حفظ التراث وفتح آفاق الارتقاء والمسافرة في درجات العلم والتعاليم.

لأجل ذلك كلِّه كانت «الضّحى»، ولأجل ذلك تعود إلى قرّائها الأعزَّاء، ولن تغيب عنهم، وستبقى بعونه تعالى سبيلاً لتثبيت الهوية التوحيدية العرفانية الإسلامية للموحدين، ولترسيخ الهوية «المعروفيّة» الأخلاقية المشبَعة بمكارم الأخلاق والمناقب الاجتماعية، والهوية الوطنية العربية لـ «الدروز»، بكلّ ما تعنيه تلك الهوية من تاريخٍ مثقَلٍ بالتضحيات والبطولات دفاعاً عن الثغور والانتماء والوجود، ومن واقعٍ مليءٍ بالمحبة والرحمة والأخوّة، ومن اندفاعٍ صادقٍ للتسامح والتصالح والحوار.

وفي إطلالتها الأولى لهذا العام، نرى من واجبنا تضمينها رسالة مشيخة العقل والمجلس المذهبي التي أطلقناها منذ اليوم الأول لتكليفنا وتشريفنا بهذه المهمّة، وهي رسالة الوحدة والتوحيد؛ الوحدة الداخلية على صعيد الطائفة «المعروفية» بما تتضمنُّه من معاني الإيمان والإحسان و»حفظ الإخوان»، والوحدة الإسلامية الإسلامية على صعيد الطائفة الإسلامية الكبرى بما تَعنيه من ترفُّعٍ عن الحزازات والعداوات والاختلافات ومن اعتصامٍ بحبل الله؛ «وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»، والوحدة الإسلامية المسيحية على مستوى الوطن والمنطقة بما تحتويه من مبادئ الاحترام والحوار وعدم الإكراه؛ «لا إكراه في الدين»، وفي هذه وتلك مسيرة فكرٍ وعملٍ وهدمٍ للجدران وبناءٍ للجسور، مدركين أنّ الغنى يكمن في التوُّع، وأنَّ نعمة العقل تفرض علينا تقديرها أوّلاً، وتدعونا لتذليل العقبات والمعوقات المتربِّصة بنا هنا وهناك، لكننا واثقون «أنّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد»، وأن مساحة الخير ستتسع، وإرادة الحقّ ستتغلّب في النهاية على إرادة الباطل؛ «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» صدق الله العظيم.

إنَّها رسالتُنا إلى جميع اللبنانيين والموحدين أينما كانوا، تُحمِّلُنا وتحمِّلُهم المسؤولية في مواجهة التحديات والعواصف التي تكاد تدمِّر المجتمعات والأوطان؛ مسؤولية القيادات الروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومسؤولية الرُّعاة وأُولي الأمر على كلِّ المستويات؛ الداخلية والخارجية، الرسمية والشعبية؛ «فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه»، وكلٌّ يتحمَّلُ المسؤولية على قدر موقعِه وطاقتِه وتأثيره، ولكن ما ليس مقبولاً هو أن يتحوَّلَ الوطنُ إلى ساحة مستباحة للصراعات، وأن يُحمَّلَ أكثرَ ممّا يحتمل من أعباء، وأن يُترَكَ الشعبُ في معاناته المعيشية والاجتماعية يواجه مصيره المشؤوم بعجزٍ ويأس، وأن يتنكّر أهلُ الحكم لمسؤولياتهم ويتقاذفونها كما كرةُ اللعب فتضيع وتضيع معها المؤسساتُ الحافظة للوطن والناهضة به، ويتشتّت أو ينزوي الشبابُ وأصحابُ الكفاءات، بدلاً من احتضانهم وفهمهم والأخذ بأيديهم وإطلاقهم على الطريق الصحيح والاستفادة من قدراتهم واستثمار طاقاتهم.

أمّا القضية الفلسطينية فلا تزال تقلق الأمّة، في عالَمٍ تطغى فيه القوة المتغطرسة على الحقّ المسلوب والمُغتصَب، بينما المطلوب تضافر الجهود لردع العدوان بالوسائل السلمية أولاً وباحترام القرارات الدولية وحفظ حقوق الشعوب، وبوسائل المواجهة المشروعة ثانياً، والتي توجبُ وحدة الشعب الفلسطيني والاحتضان العربي لهذه الوحدة والتضامن الإسلامي والعالمي لنصرة الحقّ.

ختاماً نقول: كم من الأحلام تذهب سُدىً في غياب القانون والعدالة والنظام والتخطيط! وكم من الأوطان تتدهور وتفقد هيبتَها إذا لم تلتقِ فيها إرادات الوحدة والتعاون والنهوض! وكم من الرؤى تتلاشى إذا لم تتماشَ مع العصر والتقدُّم! ولكن وفي الوقت نفسه، كم وكم من الآمالِ تتغلَّب على مشاعر اليأس والأسى! وكم من الطموحات تتحقَّق إذا ما تلاقت العقول وتعانقت القلوب وإذا ما وضع الجميع مصلحة الشعب والوطن فوق كلّ اعتبار وإذا ما انطلق الجميعُ إلى ميدان المحبة والعمل إرضاءً للضمير وللناس ولله أولاً وأخيراً!؛ «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». صدق الله العظيم.

خلاصات مرحلة مثمرة

استخدمَ الأميرُ السيِّدُ مصطلح «سياسة» في معرِض توضيح واجبات الَّذي يُولَّى – لثباتِه في الفضل – مسؤوليَّة الحفاظ على السَّالكِين في مدارج الطَّاعة وفق شروط سلوكٍ من شأنه أن يُثمِرَ في الرُّوح اتّزاناً لطبائع الخيْر. وهذا الاتّزانُ هو «بيتُ الدِّين» ولا بيت للدِّين سواه.

ينطبقُ القصدُ الرّوحاني للمفهُوم على التّفسير اللغويّ ل»السّياسة» وهو: القيامُ على الشَّيءِ بما يُصلحُه. وإصلاحُ «الأخْيار» يوجبُ معرفةً تُحقِّقُ في ذاتِ القائم بالأمر الاتِّزان اللطيف، وإلَّا كيف لمن لم يفلِح في إضاءةِ سراج قلبه أن يضيءَ قلبَ ساعٍ في الخيْر إلى نبْع النُّور!

يُـنـبِّهُ الأميرُ السيِّدُ على وجود «تفرُّعات» في أنواع السّياسة، وهذا مردّهُ إلى تنوُّعِ «أهل الإجابة بمقدار القوى والاستطاعات». وهذا أمرٌ بالغ الدقَّة، وخطير، بحيثُ لا يُمكنُ مقاربة الكُلّ في المستوى الواحد من «السّياسة»، لذلك بيَّن الأميرُ الجليل أنَّ للسياسةِ «أشراط» وامتداداً للفروع من أصُولها.

ينعكسُ المعنى الجوهريّ لفِعلِ «القيام على الشَّيءِ بما يُصلحُه» على المعنى العام لـ «السّياسة» التي يتوجَّب على «مشيخةِ العقل» أن تنتهجها. لقد وجدنا أنفسَنا، منذ خمس عشرة سنة، في دارٍ تذوَّقت مرارة التّعطيل طوال نحو ثلاثين عاما من أثر الحرب وتعذُّر الاتّفاق على كيفيَّة إعادة النهوض بمؤسَّسات «البيت الدّاخلي». وكان قانون عام 2006 القائم على مبدأ انتخاب النُّخَب والفعاليَّات الاجتماعيَّة في كلّ الحقول، والمرتبط بالقوانين الماليَّة الرسميَّة لجهة التنظيم مع استقلال تام بالشؤون الداخليَّة.

كانت المهمَّة الأساس، بدعمٍ من القيادة السياسيَّة الرّشيدة، وعدد من الأفاضل وذوي المروءة، متعلّقة بمسألة النّهوض عبر الإشراف على تثبيت أركان التنظيم العام للجسم الوظيفي، ولجان المجلس وأنظمتها الداخليَّة، وتوحيد الأوقاف عبر إعادة تنظيم الملفَّات، واستحداث القاعدة المعلوماتيَّة، والخوض في دعاوى قانونيَّة لمسائل شائكة عالقة منذ عقود، والتمهيد لإنجاز ما يجدر إنجازه على قاعدة التخطيط والدرس وتحقيق المصلحة والنّفع العام.

وفي أقلّ من سنة، باتت الدّار مقصدَ قادة روحيّين وسياسيّين وفعاليَّات إجتماعيَّة من كافّة الأرجاء ومن بلاد الاغتراب، وسفراء دول ورؤساء مؤسَّسات إسلاميَّة ودوليَّة. وكانت مدار الأحاديث في الوضع الداخلي اللبناني والاقليمي بشكلٍ عام، وبالطبع أسئلة عن المعروفيّين في إطار ثقافي لائق، وعن موقف المشيخة والدروز عموماً في هذا الأمر الرّاهن او ذاك.

لذلك، كان للمشيخة أن تقف على أسُس ثابتة في «السّياسة» بمعناها السّليم من دون خوضٍ على الاطلاق في يوميَّاتها السّجاليَّة، بل ثباتٌ مترسّخ على المبادئ والقيَم الوطنيَّة المستمدَّة من عمق التّاريخ ومن ثوابت بني معروف وأصالتهم وأخلاقهم وأعرافهم، ومن الخطوط الأساسيَّة المتَّفق عليها بين القادة الروحيّين حفاظاً على العيش الواحد في الوطن الواحد. وهذا يتطلَّب ثقافة الحوار والتفاهُم وحسن الاستماع والحرص البالغ على تجنُّب الانزلاق في الأمور العرَضيَّة والمسائل التي لا يجب أن تدخُل في «مشاغل» المشيخة.

يبقى شأنُ «البيت الداخلي» الَّذي يتطلَّب «سياسةً» قائمة على ما ذكره الأمير السيِّد استمداداً من الأصول، وهي باختصار قائمة على قواعد «المسالمة والتآلف…» والانكباب في السّعي إلى نيْل الفضائل، والحرص الزائد على اجتناب كلّ ما من شأنه أن يُفسدَ الودّ. والحِلمُ، الَّذي هو قاعدة جوهريَّة في نظام النّـفس العاقلة، يسع الكلّ في كنف العائلة الواحدة التي يجب أن تضعَ المسائل الكبرى للمصلحة العامَّة خارج إطار الاختلافات العرَضيَّة في واقع «السياسة» بمعناها المتداول يوميّا امتثالًا للتحذير الحيوي القائل بأنَّ «الاختلاف يورث الفشل».

يا حبَّذا لو أنَّ كلَّ المسائل المذكورة تخضع لحوار عقلانيّ هادئ، في إطار نُخبة عاقلة مثـقّـفة تضع أمامها التراكُم الموثَّق الذي تمّ إنجازه خلال السنوات الماضية، فضلا عمّا هو موثَّق في المراحل السابقة في الماضي القريب والبعيد، لأنَّها مسائل لا يمكن معالجتها بالمواقف الآنـيَّة، بل بقدرة العقل الحكيم على إيفاء الأمور حقّها بحسن التّدبير و»حسن السّياسة»، وهو بالمناسبة تعبير ذكره الأمير السيّد في أشرف قصد.

﴿ وَقُـلِ اعْـمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ والمُؤمِنُون﴾، صدق الله العليّ العظيم.

المئويَّة وأصول بناء الدولة

دخلنا العام الأول بعد المائة لِما سُمِّي ولادة «لبنان الكبير». سبق تلك الولادة ورافـقها وواكبها بعد ذلك الكثير من المواقف المتباينة في السياسةِ والأفكار والمقاربات التي جسَّدتها شرائح اجتماعية جمعتها الخارطة التي رسمتها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في أطُر دُول عدَّة كما هو معروف. وبعد قرنٍ ونيف من تلك الولادة بات يمكننا القول بأن «الشعب اللبناني» قدَّم لنفسه وللعالَم صيغة «وطن قابل للعيش»، بل وللتقدُّم والإزدهار، استحقَّ بها نيْل الاستقلال.

تلك الصيغة، بأبسط التعابير، كناية عن «اتّفاق مبادئ». ويمكن لكلِّ لبناني في وقـتـنا الراهن أن يقرأ تلك المبادئ، ويتعمَّق بدلالاتها ما شاء له التعمُّق في أبعادها النظريَّة/السياسيَّة والفكريَّة، في مقدِّمات الدّستور الَّذي يُعتبَر في كلِّ دولة تحترمُ أوليات الحقوق المدنيَّة، الضامن التشريعي (القانوني) لاحترام شعبها وحقوقه الأساسيَّة في المواطنة والحرّية والعيش الكريم.

بدا أنَّ رجالًا من لبنان وجدوا الفسحة المشترَكَة لبناء وطن جامع. كان ذلك عملًا سياسيّاً رفيع الشأن، قائماً على الفهم والتـفهُّم المشتركَيْن، وعلى إرادة جميلة في المحافظة على أساس العيْش المشترك، معاً، بل والاتفاق على مفاهيم من شأن الالتزام بها وطنيّاً أن تعزِّز التقدُّم نحو صورة لبنان بكلِّ إمكاناتها. هكذا كان لبنان من المؤسّسين في هيئة الأمم، في الجامعة العربيَّة، في اتّفاقـيَّات دوليَّة شتَّى مرتبطة بمؤسَّسات أمميَّة هادفة إلى تعزيز كرامة «المواطن» بوصفه إنساناً حائزاً على إمكانات الإرتـقاء بكلِّ ما وُهِب من خيرات.

بات لدينا مؤشِّر دالّ على أنَّ كلَّما كانت درجة الالتزام بإرادة المضيّ قدُماً في عمليَّة البناء الوطني، انعكس ذلك في ثمرات الإزدهار وشبك النسيج الإجتماعي والقيام بدورٍ لافـت في مجالات السياسة والعلاقات الدولية والثقافة إلخ استحقَّ عليه لبنان صفة «وطن الرِّسالة»… ومن جهة مضاددة، كان تزعزُع تلك الإرادة، والانحراف عن مبادئها نحو أوهام مشاريع متطرّفة وفئويَّة ومغمَّسة بالتعصُّب الطائفي، سبيلًا رأينا مآلاته تفضي إلى نزاعات وحروب ومراوحة في التردّي، والانكشاف بشكلٍ مريع إزاء العدوّ الصهيوني المتربِّص البارع في تحويل الإنقسامات الوطنية إلى كوارث هدَّامة.

وندخل الآن في العام الأول بعد المائة لولادة لبنان الكبير ونحن في الدرَك السفل من شتات الإرادة الوطنيَّة التي باتت «إرادات» متنازعة أوقعت البلاد في التعطيل القاتل لآليَّات عمل المؤسَّسات الدستوريَّة (الحكوميَّة)، والإنهيار الإقتصادي والمالي، والفشل المخيف في الاتفاق على سياسةٍ خارجيَّة وطنيَّة متماسكة، والإخفاق في درء المخاطر كما تبدَّى في تفشّي وباء الكورونا وانكشف إثر الإنفجار المريب الذي دمَّر مرفأ بيروت وأحياء آمنة طالما مثَّلت الوجه الحضاري والثقافي والحيويّ للمدينة.
دون ان ننسى هموم وطننا في الصراع العربي الإسرائيلي.

مفاد القول إنَّ لبنان بحاجةٍ لرجالِ دولة يحملون في رؤوسهم عِبَر التاريخ، وفي ضمائرهم أمانة لبنان الوطن الجامع، وفي وجدانهم آلام الشعب وطموحاته وأمنه في أرض الآباء والأجداد، وفي عقولهم كفاءات الاجتهاد والمبادرات المثمرة والأفكار التي تجترح الحلول في كلِّ مجال.

ساعـــة الحقـيقـــة

مائة سنة على إعلان “دولة” لبنان الكبير. “الدولة” التي تواجهُ اليوم ساعة الحقيقة القاسية. تواجهها مؤسَّساتها الدستوريَّة بكلِّ “المُنتَخَبين لتحمُّل أعباء المسؤوليَّة. يواجهها “شعبُها”، الذي يعيشُ داخل أراضيها (وخارجها) في حالة “شتات” مروِّع. ذلك أنَّه موزَّع على الطوائف والأحزاب والحركات “الثائرة” بشكل يقربُ أن يكونَ حالة “بابليَّة”، حيث تشظَّت اللغة فباتت كلّ فئة تحكي لغتها لا غير، فيما آذانها صمَّاء عن لغة الآخَرين. ويواجهها قرارُها الذي غادر “طاولة الحوار والعقلانيَّة” فاشتدَّت عواصف الخارج في الميادين الداخليَّة بكلّ الذرائع والوسائل المُتاحة.

لقد عبَّر الانفجارُ الرَّهيب في مرفأ بيروت عن هذه الساعة بشكل ملحميّ-مأساويِّ مُرعِب. وها هي تداعياته بكلِّ وجوهها تكشف عمق الهوَّة التي بات وطنُنا المسكين في جوفها. السؤال الكبير الآن: هل بعدُ بالإمكان من سبيل إلى الإنقاذ؟

نحتاج، أكثر ما نحتاجُ إليه، إلى الرُّوح الوطنيَّة العابرةِ للمصالح الصغيرة نحو المصلحة العُليا للشعب اللبناني الواحد. لقد بات هذا الأمرُ مُلحّاً وبمستوى الضَّرورة اللازمة حتماً. إنَّ الانكشافَ المُعيب للفجوات الهائلة التي سبَّبها الفسادُ والإهمالُ واستباحة الإدارات إلخ. وانتشار المعلومات بصدده عموماً، سيّما دوليا كما يعبَّر عنه في المواقف الرسميَّة والصحافة العالميَّة، هو أمرٌ لا يمكن علاجه إلَّا بتغيير أنماط التحكُّم بأدوات السلطة، آن الأوان ليقظةٍ أخلاقيَّة وجدانيَّة حقيقيَّة. وكم كان مُحقّاً شوقي في قوله:

وإنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيَت         فإنْ هُمُ ذهبَتْ أخلاقُهُمْ ذَهبُوا 

إنَّ الأمثولةَ التي يُعطيها القادةُ لشعوبهم في أوقات المحن الكبرى، بالتضحيات والشجاعة ونكران الذات، كانت عبر مجرى التاريخ العامل الأصل في تقدُّم الحضارات في ما عهدناه. أمَّا ما نراه اليوم، في عالمنا المعاصر عموما، من اندفاعات متسارعة نحو التخاصُم وتعطيل آليَّات الاحتكام الدولي الذي ترعاه هيئة الأمم (وشعارها حقوق الإنسان والإنسانيَّة)، فهو الأمر الذي يفاقمُ حتماً مسارات التوتُّر والاضطرابات، ناهيك عن عاصفة الوباء التي، عدا كونها جائحة مؤلمة للأوضاع البشريَّة، فقد عرقلت على نحو خطير دورة الاقتصاد العالمي وباتت الدول المتقدِّمة تضع خطط الإنقاذ والنهوض لسنوات قادمة.

في لقاء مع سيادة مطران بيروت السابق المطران بولس مطر الذي نكّن لشخصه كلّ التقدير والاحترام أعاد سرد حادثة حصلت في أثناء بناء دير مار جرجس الناعمة. ومما قاله إن الارض التي شيّد عليها الدير هي هبة من بني معروف، من آل نكد الذين قدّموا مليون متر مربع للرهبانية اللبنانية المارونية (سنة 1756).  وكان لهم شرط واحد ان يسمى الدير بإسم مار جرجس.

أمّا الحادثة فهي التالية:

في أثناء أعمال البناء وتحديد الأرض حصل سوء تفاهم على ترسيم الحدود بين القيّم على الدير والمسؤولين من آل نكد. أبدلت الرهبانية المارونية القيّم على الدير الذي وقع معه الخلاف وعيّنت بديلاً منه. اتصل القيّم الجديد بآل نكد وذكر لهم فضلهم وأن هذه الأرض هي تقدمة منهم وليضعوا الحدود أينما أرادوا فكان جوابهم انهم يتركون الأمر للرهبانية المارونية والقيّم الجديد وهكذا حُلّت المسألة.

هذه الحادثة تختصر مشكلة لبنان ليس فقط بين طائفتين كريمتين بل مع جميع مكونات الشعب اللبناني، وتختصر أيضاً الطريق لحل معظم مشكلاتنا. ألا تواضعوا، حدّثوا وتخاطبوا بالكلمة الطيّبة، أحسنوا النوايا، واعتمدوا مصلحة لبنان. وإلّا فلبنان الى زوال – لا قدّر الله

اعتبروا يا أولي الأَلباب

  تتلقَّى الدُّولُ – كلُّها على حَدٍّ سواء من دون أيّ تمييز في مقياس «العظَمة» الذي اعتمدته وكرَّسته قياساً لمبدأ القوَّة وتفوّقها الحربيّ – صدمةَ «الفايروس» ومفاعيل انتشاره بالعدوى بين شعوب الأرض بسرعةٍ مُذهلة، بأشكالٍ متفاوتة لا يخلو أيٌّ منها من فجَوات قاتلة يُعبِّر عنها الجدول اليوميّ المُريع الذي يُسجِّلُ دوريّاً أعداد الإصابات والضّحايا واتّساع رقعة الانتشار الذي، واقعيّا، «غمَر الأرضَ» برُمَّتِها.

 إنَّهُ من السابق لأوانه الخوض في استخلاصِ الدروس. وفي كلِّ حال، تفيضُ المواقع الإخباريَّة والدوريَّات الصحفيَّة بأقوال عُلماء وسياسيّين ومفكّرين بطروحاتٍ لا تخلو من الخوضِ في محاولات «تشخيص» الدّروس. ذلكَ أنَّ الأمرَ لا يتوقَّف إطلاقاً عند حدِّ أزمة كبرى يتعرَّضُ لها أمنُ الأرض الصحّيّ بشكلِ «جائحةٍ وبائيَّة»، بل تداعيات تلك الصَّدمة التي باغتت الكُلّ بلا استثناء على مختلف الصُّعُد. والأمرُ يُشبهُ وقوعاً فجائيّاً لمركبة الاقتصاد العالميّ في بؤرة كثيفة من رمالٍ متحرِّكة ثقيلة أصابتها بالشَّلل والعجز، وتُهَدِّدها على المَديَيْن القريب والبعيد بالغرقِ الذي ليس بإمكانِ أحد تقدير عواقبه في كلّ المُستويات.

 فوق كلّ هذا، لا يُعطي «الفايروس» أيَّ مؤشِّر على بلوغه ذروة فعله وتأثيره، بل على العكس تماماً من ذلك، والتوقّعات المنطوقة على لسان حكَّام دولٍ كبرى تعبِّرُ بواقعيَّةٍ قاسية عن آفاق المأساة.

 ثمَّة، في التاريخ البعيد والقريب، أوبئةٌ شاملة حصدت الكثير من الضّحايا. إنَّ الشأنَ الذي يدفعُ إلى ضرورة التوقُّـف أمام الحدث بتواضُع ومقامِ مآب هو أنَّ الأمرَ الآن يحدثُ لا في القرون الوسطى وواقع الفقر (الطاعون)، ولا في عالَمٍ خرَّبته حربٌ عظمى (الانفلونزا الإسبانيَّة)، بل في العالم الحديث الذي شهد في أقلِّ من مئة سنةٍ أعلى مؤشِّرات التّسارُع لِما سُمِّي بـ «التقدُّم العِلميّ» و»اكتشاف أسرار الطَّبيعة» بل والمحاولات الدَّؤوبة المُكلِفة بشكلٍ خياليّ للتحكُّم بموادها وخفايا بُنياتها المُعَقّدة، بل وبمستقبل الإنسان في شروطه «الثابتة» أي الولادة ومُعطَيات الحياة والموت أيضاً. لقد بُذِّرت تريليونات من العملات من أجل السَّعي النَّزِق خلف هواجس او أحلامٍ يُشبعُها الكبرياء بروحٍ نهِمة تتطلَّع، كما قالوا بألسنتِهم، إلى قهر الموت وتقـدُّم العمْر بالسيطرة على التّكوين الجينيّ، وإلى تأبيد الشخص بالاستنساخ وإلى آخره من كلِّ ما يُشبه ذلك من أمور.

نحتاجُ اليوم إلى إيلاء بديهيَّاتِ الحياة العناية القُصوى. والأمر معها بسيط وشديد الوضُوح: حُسْنُ التَّدبير بالحكمةِ الإنسانيَّة العاقلة والصِّدق والتواضُع و… النَّظافة. لقد ارتبطتْ «طهارة» الأيدي والوجه وغيرها بمقاربة الصَّلاة في الإسلام الحنيف. وارتبط المعنى بالتوحيد إجمالًا بالدَّلالة على وجوبِ «تطهير» الباطن، أي القلب والنِّيَّة وخفايا الصُّدور من كلِّ خبثٍ نَزَّاع إلى الشّرور المُخرِجة عن الأخلاق التي بها يتقدَّم الإنسانُ إلى كماله، ليس انغماساً في دائرة الذّات والعُزلة، بل خطوة أولى ضروريَّة لإصلاح الحال والأهل والمجتمع. فهل من الضروري هنا التذكير بمفهوم «الاستخلافِ» الوارد في القرآن الكريم، والذي يَمُسُّ بالمسؤوليَّة المُلقاة على عاتق البشر في «إدارة» الأرض؟

هل من الضَّروري التذكير بمستويات التّلوُّث والتخريب البيئيّ والسُّخرية من تحذيرات علماء البيئة بشأن العديد من المَلفَّات الكونيَّة المتعلّقة بالمُناخ والجوع والتّصَحُّر إلخ…؟ دون أي احترام لنظام الطبيعة. هل نحن بحاجة إلى الإشارة إلى أنَّ المخزون الاستراتيجيّ من مُقدِّرات الأرض يذهبُ، بهمَّة القُوى الكبرى المُتَسلِّطة، إلى تغذية ميزانيّات «الدفاع» وبالمعنى الأصدق، إلى تدعيم ترسانات الأسلحة وأنظمة الحروب المُبَرمجة الكترونيًّا والتّسابق المحموم المؤذي للسيطرة على فضاءات الأرض والأفلاك من أجل امتلاك اليد العُليا في التسلُّط والتحكُّم بالآخرين؟

لقد تمَّت التَّضحية ببديهيَّات الحياة عبر إهمال إيلائها الجُهد الأكبر، دون المحافظة على البيئة، وها نحن اليوم إزاء ما «باغَتَ» الكبيرَ والصَّغير من كلّ الأنظمة شرقاً وغرباً. عسى أن تكونَ «الصَّدمةُ» مناسبةً للعَودة إلى تلك البديهيَّات بتعزيز الرِّعاية الواجبة للحفاظ على الإنسان، ليس فقط في حياته وأمنه، بل وفي حقوقه الأساسيَّة بالكفاية والحرّيَّة والعدل والكرامة.

ما هو مطلوبٌ الآن:

لطالما عَصفت رياحُ الأزمات الصّعبة في أرجاء الكيان الوطني لِعِللٍ تُصيبُ النّظامَ السياسيّ فيه، وليس أوَّلها اضطراب العلاقات وتناقض الأدوار في مراحل مختلفة بين مكوِّناته، كما ليس آخرها الفجوة المُتفاقمة على الدوام في قلب الإدارة نتيجة إهمال الأخذ الصارم بمبادئ الفصل بين السلطات والتَّفعيل الحيويّ الدائم لأجهزة الرقابة والتفتيش والمساءلة.

اليوم، تتبدَّى الأزمة عن تصدّعات مَشهودة تُصيبُ الأسُس التي يجبُ أن تكون راسخةً للاستقرار الاجتماعي حيث إنَّ مؤشّرات الزلزال الاقتصادي لامَسَت الخطوط الحمراء وأكَّدت الحقيقة القاسية بإمكان تجاوزها إلى انهيار لا يَعْرِفُ أحدٌ بالغ مداه. وأقسى من ذلك ما تُرْهِصُ به التداعيات وأكثرُها تأثيراً مخيفاً هو الانهيار الفعلي للثّـقة عند فئاتٍ واسعة من الشعب بالأداء السياسيّ والإداري والمالي وما إلى ذلك من مؤسَّساتٍ.

لا مجالَ في أوقات الضِّيق المصيريَّة إلَّا في الحَثّ على روح المسؤوليَّة في كلّ المستويات. والمسؤوليَّة لا يرقى بجوهرها المعنويّ والإدراكيّ بل والأخلاقيّ إلَّا الالتزام الحكيم الرَّشيد والواعي السَّديد بمقتضيات الواجب الوطنيّ والإنسانيّ بل والضَّميريّ عبر المبادرة فوراً، كلٌّ في نطاقِه، إلى المساعدة في تحقيق التكافل الاجتماعيّ إلى أقصى حدود إمكاناته. ثمَّةَ أوضاع طارئة لا يُمكن أن تُعالَج بانتظار أن يُلْهَمَ من لهم شأن في الوضع الحكومي إلى الصَّواب، بل المُعَوَّل عليه في هذا الوقت، في أوساط مجتمعنا، هو التفاعُل الإيجابي الخلَّاق لكلِّ فعاليَّة اجتماعيَّة شخصيَّة وبلديَّة ووطنيَّة عامَّة قادرة على العطاء أو المبادرة إليه عبر خطط ميدانيَّة فوريَّة واقعيَّة ومدروسة وفعَّالة، مع البيئات المحليَّة والأوساط الواقعة تحت وطأة الصُّعوبات الاقتصاديَّة، للقيام بما يتوجَّب علينا جميعاً القيام به، وهو الخدمة النزيهة، والمساعدة وفق الإمكان، ودعم كلّ الآليَّات الناتجة في هذا المجال لرفع الأعباء، وتخفيف وطأة الأزمة وما يُمكن أن يتولَّد عنها عن مجتمعنا.
ونرى، ولله الحمد، خُطواتٍ لها شأنها في هذا القصد، من قيادات ومؤسَّسات وحتى أفراد، والمطلوب الدَّفع نحو دورة متكاملة في كلِّ البنى الاجتماعيَّة التي لها دورها من دون أدنى شكّ، من الجمعيَّات في كافَّة المناطق، إلى المجالس، إلى الأندية والرَّوابط العائليَّة وما شاكلها. إنَّ الأمرَ الطارئ يعلو فوق كلِّ غرضيَّة، فالخيْر لا نسبة له إلَّا الخيْر عينه. والواجب أن يرتبط كلّ نشاط لكلِّ مبادرةٍ خَيِّرة بالنزاهة والمصداقيَّة العمليَّة والقصْدُ المُخْلِص هو خشبة خلاصٍ مهما قَست الظروف واشتدَّت العواصف.

إنَّ السَّعي في هذا السَّبيل هو أمرٌ مُبارَك، مرتبطٌ بكلِّ قِيَم الخير والمعروف والشهامة والمروءة التي طالما كانت ذخيرة الموحِّدين في كلِّ الأزمنة. إنَّ مجتمعنا، خصوصاً في الأوساط المتعثِّرة اليوم، بحاجةٍ إلى نور هذا الأمل عبر النتائج العمليَّة لـ «نَخْوَة الخير». وكم تعظُم بَرَكةُ هذه الحركة أمام ما يُضادُّها من التباسات وشائعات. إنَّ النقـدَ السليم هو نقد يتوخَّى الخيْر الأفضل، لكنَّه إذا بُنِيَ على افتراءات وأغاليط وظنون وأحقاد فإنَّه لا يعدو كونه معاول هدمٍ في زمن كالح. ولا يجب في كلِّ حال أن يكون هذا الخِيار عند البعض عائقاً أمام أيّ عملٍ إيجابيّ بنَّاء خَيِّر. ولا أمرَ أفضل أمام الله تعالى يوم الحق من العمل الصالح في سبُل الخيْر.

الأخُوَّة والصَّداقة

  يرقى مفهوم «الإخاء» إلى المستوى الأسمى في الخِصال الإنسانيَّة، ولَإنْ كان الأقرب إلى المعنى هو رابط النَّسب، فإنَّ الآيةَ الكريمة ﴿إنَّما المؤمنُون إخْوة﴾ رفعت من سموِّ هذه العلاقة بين البشر إلى منزلةٍ إيمانيَّة وإنسانيَّةٍ بالغة الرِّفعة حتَّى أنَّ بها يُقاسُ صدقُ الإنسان في مسلكه ومعاملاته ودرجة إدراكه لمعنى التآلُف الاجتماعيّ المرتبط بغاية وجود المجتمعات ودرجة رقيّها الأخلاقيّ والمعنويّ الحميد.

  والأخُ، أيّاً كان، هو الآخَر المُتقابِل. ومقياسُ الصِّلة به والتَّواصُل هو السجايا الطيِّبة التي تُميِّزُ الإنسان في حقيقـتِه في أيِّ وجهٍ من وجوه وجودِه (الذاتي والاجتماعيّ والبشريّ عموماً). وأهمّ تلك السجايا على الإطلاق الصِّدق، فلا يكون لك معه وجهان، ولا يكون بينكما خُلفٌ لا في دين ولا في دنيا، بل هو التُـناصُح والمودَّة والإيثار والتّعاطُف بالعقـل والنيَّةِ وإرادة الخيْر.

  وفي المأثُور السَّديد أنَّ ما من خلافٍ يبرز بين أخَويْن إلَّا وعِلَّتُه المطمع الدّنيويّ في مالٍ أو جاهٍ أو حسدٍ أو طلبِ رئاسة وما شاكَل. وهذه كلّها مفاسِد في السّلوكِ وفي حقّ الأخوَّة وفي التَّقوى، لأنَّ من اتَّقى الحقّ بذل الجهد في الحفاظ على ما هو أطيب للنَّفس من دنايا الأمور.

  والعلاقة الصَّادقة تولِّد الصَّداقة التي هي كما قال التوحيديّ: «أذهب في مسالك العقل، وأدْخَل في باب المروءةِ، وأبْعد من نوازي الشَّهوة، وأنزه من آثار الطَّبيعة وأرمى إلى حدود الرَّشاد…» وهي عبارة تكتـنزُ لطائف معنى الصَّداقة وخفايا مفاعيلها في الذّات. فالمودَّة فيها تجعلها بمنأى عن جنوح النَّفس إلى اعتدادها بذاتها والمماحكة في الكبر والمنافسة على الأمُور البخسة، بل هو العقـل الذي يُدركُ قِيمة الشأن الإنسانيّ ويسعى إلى إثراء الحال الداخليّ بما هو أبقى. فالعلاقة بين الصَّديق والصَّديق، كما قِيل، هي علاقة «فيها مُمازجَة نفسيَّة، وصداقة عقليَّة، ومساعدة طبيعيَّة، ومواتاة خُلُقيَّة.» حتَّى لَيشعر الصديق بلسان حالِه قائلًا: «اختلَطتْ ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونا…»
  وكلمة الصديق تدّل بمعناها اللغوي على صفة الصدق، والصداقة من جذرها، لذلك هي من كمالات المرء لأنَّ المروءةَ تغذّيها بأجلِّ الصِّفات السامية، فهي بمأمنٍ «من نوازي الشهوة» كما قال، وهو من «النَّزْو» والتنزّي أي التوثُّب والتَّسرُّع في الشَّرّ، لأنَّ الصداقة لا تليق باسمها إلَّا إذا بلغت محلًّا في حقيقة النَّفس لا تصله مناكفات الخفَّة وسقَطَات النَّزق. والصَّداقة إذا ما بلغها اثنان بصدق أدركا أنَّها لا توازي أعظم الأثمان، بل تضاهيها وتسمو عليها لأنَّها في ذاتها قيمة رفيعة بالغة السَّناء.

  وبهذا يكون الصديق الذي نعنيه بحقّ هو أخ كما ذكر الشاعر حين قال:

ويحفظـنــي إذا مـــــــــا غبـــــت عـنـــــــه              وأرجـــــوه لنــــــــائــبــــــــــة الــــزمـــــــــان

  ولا غرو بعد ذلك في أن يكون التَّوحيد قد قرَنَ معنى الأخوَّةِ بتزكية النَّفس، أي بحياتِها الرُّوحيَّةِ السليمة لجهة تهذيبها وتطهيرها والارتقاء بها في المسالك الحميدة. والموحِّد يرى في مرآةِ أخيه الموحِّد الصِّدق والنَّصيحة والألفة والائتناس بالفضائل المشتركة التي بها وحدها يُستشعَرُ حضورُ الحقّ والنِّعمة واللطف والرَّحمة الإلهيَّة. ولا بدّ من إدراكِ أنَّ هذا يدخل في فسحة «المُشترَكاتِ الإنسانيَّة» التي بها يتفاضلُ الخَلق، لأنَّ جوهر كلّ من الأخوَّة بمعناه الواسع والصَّداقة بمفهومها الشامل هو جوهر إنساني غير مُنفصِم، فكلاهما له وجه واحد، وكلاهما من الصِّدق الَّذي به يكون الإنسانُ لائقاً بالنِّعمة أو لا يكون.

  اليوم وفي ضلال سيطرة الفوضى على مجتمعاتنا، أين هو الأخ الصديق او الصديق الأخ الذي يحمل همّك، ويسدّ غيبتك، ويدافع عن كرامتك، ويصون عرضك، ولا يخونك بيد أو بلسان ولا بخطرة بال ولا بخفقة فؤاد دون أن يكون له غرض ودون أن يمّن عليك؟

وحدة الجبل، وحدة الوطن

  عاصر التـنوخيّون، أسلاف الموحِّدين الدّروز الأوائل، العبَّاسيّين والسَّلاجقة والفاطميّين والأيوبيّين والمماليك والعثمانيّين، وكانوا ولاة إمارة جبل لبنان. استطاعوا بحِكمتهم وحسِّهم السياسيّ الرَّفيع أن يكونوا عبر أكثر من سبعمائة عام على الأقلّ، حماة ثغور وموضع ثقة سلاطين وحكَّام كتبوا «المناشير» و»الكتُب» في تثبيت مواقعهم وإمْرتهم حتَّى باتت الإمارة تُعرف بـ «جبل الدروز» إلى زمن الشهابيّين كما هو معروف. حافظ التنوخيُّون الموحِّدون على «هويَّة» الأرض، وتمكَّنُوا بحنكةٍ بالغة، أن يجتازوا «محنة» تولية أمراء ترك وشركس على أجزاء كبيرة من جبل لبنان باعتبار أنَّ الأراضي التي يقيمون فيها ليست كلّها «مشاع السلطان»، وأنَّها بعهدتهم كوصايا من أجدادهِم وأسلافهِم الذين ما تخلَّفوا يوماً عن الِّدفاع عنها دفاعَ «المرابِطين» في وجهِ الغزاة وأعداء الأمَّة.

  وحافظَ المعنيُّون من بعدهم على «الأمانة»، بل ذهب الأميرُ فخر الدِّين مذهبَ القادة الكبار في تحصين الأرض، وتعزيز معنى الانتماء إلى المكان، وتوحيد الجيش في غير تمييز بين الطوائف. لُقِّب بالكبير، ليس على قاعدة التمرُّد على العثمانيين كما يحاول البعض من «المؤرّخين» المأخوذين بنزعة «العثمنة» تصويره بعيداً عن الصُّورة الشاملة، بل لأنَّه نافس ولاة طغاة، ولأنَّه استشعر بعمق معنى الحرِّيَّة الكامن في نفوس أهل الجبل كلّهم، بشكل يتجاوز قوقعات العصبيات الفئويَّة، والممارسات السلطويَّة لولاةٍ يشترون المناصب بالحيلة والمال المنهوب. وبات الأمير الكبير رمزاً وطنيّاً من حيث أنه زرع النواة الأولى لفكرة الوحدة الوطنيَّة التي حقَّقها بصورة شبه ملحميَّة في «الجبل».

  نحنُ في تلك الفسحةِ أدركنا هويّـتَـنا الحقيقـيَّـةَ كأبناء بلدٍ جمعتنا فيه أقدارُنا، وبرغم كلّ الصُّعوبات حقَّـقنا صيغةَ العَيش فيه، وظلَّلتنا إمارةُ الجبل عبر مئات السّنين فيما يُشبه استقلالاً ذاتيّاً، بنينا عبرهُ وطنًا جميلاً، وإمكانًا حضاريًّا، بل حُلمًا عشناهُ كان لبنان فيه درَّةَ الشَّرق، وأملَ النّهضةِ الموعودة التي أضاءَ أنوارَها كلُّ بَنيه، واستمرت فيما بعد في السياسة الوطنية الجامعة لمعالي الأستاذ وليد بك جنبلاط.

  قدرُنا أن ندخلَ أحياناً مصهرَ النَّار، لكنَّ قدرَنا أيضًا أن نجدِّد دائماً العهدَ، وأن نستلهمَ العبرةَ العظيمةَ التي يقدِّمُها لنا تاريخُنا، وجوهرها أنَّه بوحدتِنا، وإرادتِنا الجامعة، وميثاقِنا الوطنيّ، نصونُ لبنان، وندرأ عنهُ رياحَ الفتن والويلات. نعم، أن نعودَ إلى الله سبحانه وتعالى، وكلُّنا يقدِّسُه بإرثٍ هو من عين الحضارة الإنسانيَّةِ وينابيعِ خيرها. فكم من ردِّ فعلٍ على رزيئةٍ أصابتنا سمعنا صوتَ المؤذِّن وقرعَ الأجراس متلاحمَين. وكم من مناسبةٍ تجمعُ شملَ اللبنانيِّين في الأفراح والأتراح كلٌّ يحترمُ الآخرَ ويقدِّر الأصُول. البعض يقول خير لك أن تُحتَرم من أن تُحبّ، ونحن نقول في الجوهر والحقيقة هما مقاربتان لا تتناقضان. ذلك أنّ الاحترام الصحيح هو وليد المحبة العميقة. وإذا فُقدت المحبة فيجب ان يبقى الاحترام عنوان العلاقات الاجتماعية. ولمّا كانت محبة المؤمن بالله مصدرها في الحقيقة الرجاء وليس الخشية فقط لذلك فإننا نتوجه برجاءٍ إلى اللبنانيين جميعاً أقيموا على المحبة والتعاطف علاقاتكم وتحرروا من أحقادكم، فالخير لا يتأتى من رحمة ٍينعم بها انسان دون آخر، أو عبثٍ بنظام عام يجرّ إلى فوضى مدمّرة لا خير فيها ولا فائدة منها.

  رسالتنا لكم احفظوا وطننا يا أهل السياسة، لبنان القوي المعافى هو لبنان الموحد وهذه الوحدة لا تكون الا بشراكة وتعايش جميع مكوناته. لبنان لا يُحكم إلاّ بالتوافق ولا تبنى دولة ولا يعزز اقتصاد إلاّ بالإصلاح الحقيقي الجاد. ابعدوا التحالفات السياسية عن علاقاتنا الاجتماعية في الجبل. واحذروا الوقوع في مخططات تهدّد وطننا وسلامته واياكم والانجرار الى الفتن. تواضعوا بالكلمة الطيبة.

  أما على صعيد البيت الداخلي فلا بد من التلاقي، مجتمعنا أسرة واحدة، أخوة أو أبناء عم، مصاهرة، جيرة ورثناها عن آبائنا، بلدة واحدة، ما يضرّني يضرّك، وما يصيبني يصيبك، تربطنا رابطة الدّم الذي يقول المثل: «إنه لا يصير ماء». نمدّ يدنا للجميع دون استثناء، وداركم دار طائفة الموحّدين الدروز هي دار جامعة.

  نسألُ الله العليّ القدير أن يُلهمَنا إلى كلّ ما فيه الخيْر والفلاح، وأن يُنعم بظلال نعمتِه ورحمته وكرمه علينا جميعاً، إنه هو الكريم الحليم، السميع المجيب. 

أحْوجُ ما نحتاجُه اليوْم

إذا كانت النّفس – وهي أَمّارة بالسّوء – تدفع صاحبها إلى الشرّ والفِتن ومهاوي الاختلاف والتّفرقة والرذائل والشّهوات وغيرها، فقد أوجد الله ضدّاً لها يكبح جماح هواها وهو الضّمير.

وأحياناً تسيطر النفس الهاوية لما ذُكر على الضّمير فيبدو ضعيفاً لا قوّة له على المعارضة منقاداً إلى غاية تلك النّفس، ولكنّها وإن تغلّبت عليه في الفتن والمعاصي، فإنّها ستبقى عاجزة عن قتله، ولا بُدّ يوماً من أن تضعف، ويكون الضمير هو المُنتصر يدعوها إلى التّوبة، ولو قبل رجوع النفس إلى خالقها بساعات.

ضميرُ المُوَحِّد بمثابة رُوحه، لا يُهمِلُه، ولا يتغافل عنه، ولا يغدر به، لأنَّه إنْ فعل – لا قدَّر الله – ضاعت روحُه وتاهتْ عن الغاية التي وُجِدت أصلًا لبلوغها مقدار الوُسْع. والضَّميرُ هو سرُّ المرء وما في «داخل الخاطِر»، لكنْ يُعرَف منهُ للنَّاسِ ما يُظهِره صاحبُه من أعمال. ولا يجبُ بأيِّة حالٍ من الأحوال الحُكم على مُجرَّد الظاهر والأقاويل والتأويلات، بل إنَّ ذا البصيرة يتحقَّقُ الصِّدق فيما يُضْمرُه ويحكم به. فالسّرائر يعرفُها ربُّ العالَمِين معرفةً تقومُ بها الأحكامُ يوم الدِّين ﴿يَوْمَ يتـذكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى﴾.

و«الخَاطرُ» لُغويّاً هو «ما يخطُرُ في القـلبِ من تدبيرٍ أو أمْر». والقلبُ كما قال الشيخ البقعسماني:

أرى القلبَ مَوْلًـــــــى والجوارحَ جُنـــــــده
وكـــــــــلٌّ هَـوَ بـــــــادٍ بمَــــــــــا هوَ عنـــــــدَهُ

أي أنَّ ما تجترحُهُ آلةُ الرُّوح (الجسم) من أفعال هي في الحقيقةِ مُترتِّبةٌ عمَّا في القلب من أحوال، فإنْ مالَ القـلبُ مع الهوَى، ضعُـف العـقلُ وكثُرت العثَرات. أمَّا إن كان القلبُ خفّاقاً بمحبَّة الفضيلة، مُتَشوِّقاً إلى تحقيق ثَمَراتها في ذاته ومع أهله وفي مجتمعه، فهو إذاً القلبُ المُوحِّد، وهو إذاً الذي سكنَت فيه لطائفُ المعاني لا يزحزحُها منه أيُّ شأنٍ مُخالِف.

إنَّ أحوجَ ما نحتاجُه اليومَ، وسط عواصف الرِّمال الخانقة من الأقاويل المُلتبسة، والظنون المُركَّبة، والالتباسات المُشوِّشة، والتلفيق المتكاثر في الإعلام، وسيْـل الصُّوَر والخبريَّات التي ليس لها شأن سوى إثارة الغرائز والتحريض والانفعالات وزرع هواجس الشكوك والشُّبهة من عن يمين وعن شِمال دون الأخذ بعيْن الاعتبار الأولويَّة الأولى الضروريَّة (وهي ما نحتاجه) أي التزام التعقُّل والهدوء والحكمة والإمعان في استيعاب الأمور تقرُّباً إلى حقائقها وفق ما هي عليه لا وفق ما تشتهيه نفوسُنا، وتتمنَّاهُ أهواؤنا، وترغب به أطماعُنا في الوصول إلى مصالحِنا الخاصَّة أو الفئويَّة أو العصبيَّة في غفلةٍ عمَّا تقتضيه المصالح العُليا للمجتمع المتضامن.

نحتاجُ إلى جلاء بصيرتنا لترى ما لا تراهُ العيون ولا تنقله الألسُن المُغرضَة. والتي زادت حدّتُها مع وسائل التواصل الاجتماعي، فسهُلت الغيبة والنميمة خلافاً للقاعدة التي تقول «إنّ الغيبة تأكل الحسنات كما النار تأكل الحطب»، نحتاجُ إلى المثال الأخلاقيّ الذي يعلِّمنا إيَّاه تراثنا التَّوحيدي في بُعْدَيْه: الذاتي والاجتماعي. وهو مثـالٌ يوجبُ الكثير من الخصال السامية منها: التواضُع والحِلم والإيثار وحُسن الظَّنّ واتِّساع فُسحة العقل، هذا بالطبع بعد الخصال البديهيَّة التي يجب أن تكون في جِبِلَّاتنا وهي الصِّدق والتعاطُف والتمييز والتقوى التي هي «جماع الخير كلّه».

ولا شكَّ عندنا أنَّ الإخلاص في هذا السياق الآنف الذِّكر هو السِّلاح الذي يجدُر بنا أن نتحصَّن به إزاء كلّ الصِّعاب التي هي من طبائع الزَّمن. والمُوحِّدون يهذِّبون أنفسهَم وأخلاقَهم وعاداتهم ومسالكهم بما هو أشدُّ رسوخاً من كلِّ الأزمنة، مُرَدّدين قوله تعالى
﴿وَاتَّــقُوا اللهَ وَاعْلـمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُـتَّـقِـين﴾.

نسألُ اللهَ أن يجعلَ في الضّمائر قوّةً في مواجهة النفوس الهاوية إلى الفتن والمعاصي لكي تستفيق تلك الضمائر، وقدَّرَنا على اتّباع الرّأي الصائب إنّه سميعٌ مجيب.

Constants and variables

The constants, in the life of a human community, are linked to the essence of their existence, not only in their own dimensions, but also in their open horizons over the past, present and future of human beings. And also, in the principles which their historic memories acquire throughout the ages, as well as origins that have been fought for against tyrannies for the sake of strengthening their roots, and against all turbulent crises and tribulations and the challenges that came from everywhere to steal their most precious possessions of dignity, freedom and fraternity of life.

As for the variables, they are linked to the immediate circumstances, the succession of events, the contrasting aspects of crisis, and to the conflicts of interest. In any case, the approaches that could be taken under the pressure of certain circumstances, shall not touch the constants, during evolving times, while the principles associated with the community formation and their record of honor should be as solid as the mountain’s rocks.

Bringing urgent attention to this vital issue is a necessity, and an obligatory duty for anyone who cares about the supreme interests of our people and their presence, and especially in their homeland; such that their health as an entity is also the health of what constitutes their homeland. This is considered a fundamental rule that no one should ignore.

Everyone is aware of the critical situations that our country and even neighboring countries are going through in the midst of an internationally instable world. And in every case, emotion should be restrained in every crisis and instead the logic of wisdom and self-restrain and deliberation should be practiced. It is everyone’s responsibility to take ultimate care to rise above conflicts and sacrifice for the benefit of the community and its virtue and dignity, and also for the rest of the fellow citizens of the country as a whole.

The history of our gracious monotheistic faith is well-known to be one full of honor, merit and harmony, especially in critical times which occurred frequently over a thousand years of their existence, and which was maintained with dignity and wisdom and fulfillment. By doing that, the land was preserved, not through sectarianism, but through the spirit of participation in terms of space and humane embracement which kept the emirate as solid as a nucleus upon which the Lebanese unified establishment was built. In spite of the contrasts of the same authoritarian influence in the local environment that has both influenced to separate and to unite, the sense of unity of destiny has remained in the conscience and thoughts in the general sense.

Our Boys and Girls today, in their homelands and overseas need to be inspired by the historical sense of excellence that their ancestors have lived on, including leaders, princes, elders, and the general public with courageous, ethical and honorable personalities to be grateful for, whose actions have conserved their people, their country and their nation as history proves without anyone’s recognition.

Everyone must realize that problems could only be solved by impartiality, sincerity and through searching for traces of light in the midst of darkness. And the proper way to mitigate adversities and to tackle such challenges and to come up with appropriate solutions would be through moderate speech, for there’s nothing that matches good and respectful words as keys to solve complex contrasts.

Survival, stability, and prosperity are the noble values ​​of our gracious faith, individually or community wide, through adopting a polite culture which avoids absurdities and wrong approaches to our ethnical heritage, and through education for which origins must be firmly rooted in the irreplaceable family blend, instead of otherwise intellectual distraction and spiritual impurity. These responsibilities fall upon every individual, every family, every forum, every party active in social affairs and in the public sector (holy verse: and do well, for I know what you are doing).

My message to the members of our gracious faith (sons of Maaroof) will always remain a message for enforcing their pride and denouncing anything that tries to undermine their dignity, and I can only remind you of the ancient wisdom that our noble leaders have maintained throughout our history, which has been great caution against division of opinion and disunity of the community, but also striving for harmony and cooperative efforts to achieve public virtue, in both our mountain and country alike.

كلمة سماحة شيخ العقل