الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, آذار 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

في محراب القيم الإنسانيّة

الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد؛

فلم يكن الوجود الإنساني مجرّد صدفة فوق هذا الكوكب الصغير، كما أنّ القيم الإنسانيّة لم تكن لتتطوّر عبر العصور لولا وعي ُ الإنسان لهذا الوجود. فالإنسان بطبيعته يحبّ الحياة، لأنّه يدرك أبعادها الزمكانيّة، فهو قادر أن يعود بذاكرته إلى طفولته، أو أن يستشرف شيئا من المستقبل من خلال قوّة التخيل التي يتمتّع بها، وقادر أيضًا أن يتكيّف مع الظروف التي يعيش فيها مستفيدًا من تجاربه أو من تجارب غيره.

لذلك عندما نتكلّم عن هذا الوجود، فإننا نتكلّم عن القيم الإنسانيّة، فلولا وجود الإنسان لما كان ثمّة قيمة لهذا الكون الواسع الأرجاء، فبالإنسان تكتمل صورة الكون الذي وُجِد لأجله، فهو سرّ هذا الوجود المعنوي والماديّ علما ومعرفة ومسلكا وقدرة على التحليل والاستنباط. من أجله أنزلت الصحف على الأنبياء الكرام عليهم السلام، وتنزلت الكتب السماويّة على الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام، فكانت خارطة طريق للإنسانيّة جمعاء، بها تكتسب العلوم الروحانيّة، وعليها تدور معرفة النفوس الإنسانيّة القادرة على الاختيار بين ما هو نافع لها، وما هو ضارّ، ألم يقل الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾. وهذه الآية الكريمة شرحها السيّد الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي قدّس الله روحه، فقال: «اعلم أنّا إن حملنا النفس على الجسد فتسويتها تعديل أعضائها، وإن حملناها على القوّة المدبّرة فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيّلة والمفكّرة … ونفس إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة عالم المركبات رئاسة بالذات. وأمّا قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ فاعلم بأنّ المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكّاها الله تعالى وأصلحها من الكفر والعناد، وطهّرها من الغوايات الخارجة عن الطاعة. واعلم أنّ التزكية عبارة عن التطهير، أو عن الإنماء. وفي الآية قولان أحدهما أنّه قد أدرك مطلوبه من زكّى نفسه، بأن طهّرها بفعل الطاعة ومجانبة المعصية. والثاني قد أفلح من زكّاها الله».



ولمّا كانت النفس الإنسانيّة محور الوجود المعنويّ للإنسان كان لا بدّ من توصيفها حتّى ندرك ما لها وما عليها. قال أحد الحكماء اليونانيين: «النفس الشريفة جوهر يفعل وينفعل لأنها عاقلة عالمة حيّة قابلة للصور فهي تقبل الجهل كما تقبل العقل» والجهل بمعناه الروحي يعني الصور الحسيّة التي تكتسبها النفس باستغراقها في عالم المادة من حبّ المال، والانغماس في المخدرات والشهوات والجرائم، والابتعاد عن التربية الصالحة التي تعنى بتنمية الطاقات العقلية والأخلاقية، ولهذا قال السيّد المسيح عليه السلام: «لا تعبدوا ربيّن الله والمال». أمّا العقل فيعني الصور الروحانية من فضائل نفسية وعلوم دينية تعنى بصقل النفس وتسوقها إلى معرفة الله تعالى وطلب المقامات السنية كالتوبة والورع والفقر والزهد والصبر والتوكل والرضا والأحوالِ القلبية كالمراقبة والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس بالله والطمأنينة والمشاهدة واليقين، وهذه المقامات والأحوال هي التي تسكن في القلب فتطهره من أدران الذنوب وإليها أشار الله تعالى في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (78) النحل). يقول السيّد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي(ق) في بيان معنى هذه الآية الكريمة: «أشار الله تعالى إلى أنّ الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليًا من معرفة الأشياء كما قال: ﴿وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ ثمّ تفضّل عليه بأعظم وأكمل نعمة بخلق السّمع والبصر والفؤاد فيه، كما قال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ والمعنى أنّ الإنسانيّة لمّا كانت في أوّل الخلقة خالية من المعارف والعلوم بالله، فالله تعالى أعطاها هذه الحواس لتستفيد بها المعارف والعلوم».



وبعد أن يستعرض السيد الأمير أهمية الحواس والأفئدة يقول: «واعلم أنّه لمّا كان الإنسان موضوعًا في وسط العالم فلا يمكنه أن يعيش ويحفظ نفسه إلاّ بمخالطته للأجسام المحيطة يأخذ منها وسائط معيشته. وأعضاء الحواس والجهاز العصبي هما المعدّان لمخالطته لهذه الأجسام كي يعرف بهما ما ينفعه، وما لا ينفعه؛ فيسعى في تحصيل الأولى وترك الثانية. ولهذه المخالطة أسباب ووسائط موجودة فيه، فأهمّ أسباب احتياجاته والوسائطِ، أعضاءُ الحواس، وينبوع هذه الاحتياجات منوط بوجود الحياة وتدرك هذه الاحتياجات في الإنسان بمركز المخالطة، ومتى كانت الأجسامُ الأجنبيّة غيرَ مخالطةٍ للسطح الظاهر من الجسم، ومركزُ الإدراك جاهلاً، فلا ينتج عن ذلك إلا مشقة محيّرة لا يمكن التعبير عنها، تؤدّينا إلى سعي لا نعرف نهايته. وعدم إدراك المخ للأجسام يعبّر به عن المشقة المذكورة، وعن تنهد الشباب في سن البلوغ الذين تربوا في الجهل بعيدين عن الأشياء المرضية».

ثمّ إنّ السيد الأمير يستفيض في شرح دور القوتين الإلهامية والحافظة في رعاية الإنسان منذ ولادته حتى وصوله إلى سنّ الشباب ذاكرا أثرهما في حفظ وجوده وتنمية قدراته المعرفية، مبينا أنهما وإن كانتا قوتين أساسيتين لكنهما لا يكتملان إلاّ بالقوة الحاكمة التي بوجودها يستقيم العقل عند الإنسان، وباختلالها يختل العقل فيجنح الإنسان إلى إيذاء نفسه، مما يسبب له الانتحار فيقول قدس الله روحه: «أمّا القوة الحاكمة فهي القوة التي بها يقف الإنسان على حقيقة النِسبِ الموجودة بين أجزاء الشيء الواحد على انفراده أو بين جملة أشياء متقاربة وهي أهم القوى العقلية، إذ بواسطتها نكتسب جميع معارفنا. وأول درجة منها مقابلة شيء بشيء؛ وهذه المقابلة متى اشتدت وطالت مدة الاشتغال بها سميت بالتأمل، وتسلسل الأحكام المرتبطة ببعضها يسمى تعقلا، والعقل الذي هو أصل للصفات النفسانية وكمال الذهن ليس إلا القوة الحاكمة التي بها نقتدر على تمييز الخير من الشرّ في أفعالنا. ومن المعلوم أن الحكم المستقيم، وهو ما لا يكون إلا بمقابلات ونسب محققة الوجدان فيما بين المحكوم عليها، أمر مهم جدًا، فإذا حكمنا على جوهر سامّ بالجودة فقد سعينا بالمخاطرة في إتلاف الحياة. فإذن يكون هذا الحكم الفاسد الصادر منا ضارا بنا، وقس على هذا كل ما كان من الأحكام من هذا القبيل.»

إنّ إتلاف الحياة لا يقف عند موت الإنسان جسديًّا، بل يعني إتلاف القيم الإنسانيّة التي ذكرناها سابقًا أعني المقامات الروحيّة والأحوال القلبيّة. وإذا كان الناس كما ذكر أحد الحكماء أربع طبقات طبقة نباتية وطبقة حيوانيّة وطبقة إنسانيّة وطبقة ملائكية لا تبلغها عزائم المجتهدين، فالواجب إذن أن نسعى جاهدين للخروج من الطبقتين النباتية والحيوانيّة اللتين من طبعهما الأكل والشرب والغضب والشهوة والشراسة وحب الرئاسة واللهو وما شاكل ذلك، إلى الطبقة الإنسانيّة التي من طبعها العقل والحلم والتواضع واليقين والتفكّر في عظمة هذا الوجود، وإخلاص العبادة لله تعالى، لنصبح جديرين بالوقوف أمام محراب القيم الإنسانيّة، التي لولاها لأصبح الناس كما ورد في القرآن الكريم،﴿أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.

مقام الصدق في مسلك التوحيد

عرضنا في العدد السابق من الضحى (38) لمقام «المحبة» لمركزه الأثير في ثقافة التوحيد والعرفان؛ ونكمل في هذا العدد بيان أهمية مقام «الصدق»، صُنوِ المحبة، بل صورتها الملموسة.

تتدرج معاني الصدق من الأقرب منالاً، أي «الصدق» في معناه المباشر؛ إلى الصدق في معناه الاجتماعي؛ إذْ كيف يقوم مجتمعٌ أو تقوم حضارةٌ ( كالكثير من أحوال الحضارة المادية الاستهلاكية المسيطرة اليوم) على الكذب، نقيض الصدق؟ وصولاً إلى الصدق بمعناه الديني والتوحيدي على وجه الخصوص.

الصدق في أقرب معانيه، وربما أظهرها عياناً هو: صدق اللسان. هو التطابق بين الدّال مع المدلول، والتعبير مع الأصل؛ هو تطابق الظاهر مع الباطن، والفعل مع القصد أو النيّة.

وقبل أن نتناول الصدق في معناه الأعمق بعض الشيء، نقول ومن وجهة عملية، أنّ الصدق فضيلة أخلاقية، عملية، يقوم عليها إجماع منقطع النظير بين سائر الرسالات السماوية؛ وفي تعبير ابراهيم اليازجي النهضوي: «الصدق عمودُ الدين». وعن الإمام علي بن أبي طالب قوله : «النجاة في الصدق». وعن الخليفة عمر بن الخطّاب قوله: «لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدّث صدق، وإذا ائتُمِن أدّى وإذا أشفى (همّ بالمعصية) ورع».

لكنّ الصدق في حقيقته الأعمق أكثر من ذلك: هو بطلان الثّنائية، وامحاؤها. إذ لا مكان لها في مقام الصدق. فالمعرفة الآن هي عينُ العارف، وبالحق تُعرفُ الأشياء. وأعلى مراتب العرفان الممكنة حين لا يحتاجُ الحق إلى برهان؛ فيغدو هو نفسه الدليل والشاهد والشهادة، وعلى قدر اجتهاد الساعي وقدراته. وكلما اقترب من عين المعرفة، اختفى الأين والكيف، واتّحد العارف بالمعروف، رمزيّا؛ فارتفع حجاب القول، وغدا الصمت أشدّ دلالة وأكثر إبلاغًا. وما النورُ الذي يضيءُ بعضَ الأمكنة، أو مُحيّا بعض المختارين، غير الترجمة المحسوسة (الهادفة أحياناً) لمقامَي المحبة والصدق. وعن ميخائيل نعيمه قوله: «الحياة مزيج من الصدق والكذب، أمّا السكوت فصدقٌ لا غشّ فيه».

وإذا انتقلنا إلى ثقافة مسلك التوحيد وأخلاقياته، فغيرُ خفيٍ المقام الرفيع الذي يوليه مسلكُ التوحيد لمقام الصدق، في مستوياته ومندرجاته كافة؛ فمثلُ الصدق من الدين، وفق مسلك التوحيد، كمثلِ الرأس من بقية الجسد.. وكذا تشديده على أن الصدق كمالُ التوحيد. وقد تجسّد التوحيد العرفاني هنا في مسلك أخلاقي، عملي صارم: الصدق في صلب الإيمان، لا مكان للكذب وأهله، ولا تبرير له في كل الأوقات والأحوال. وبسببٍ من التشدد هذا، أشار الرحّالة، والكتّاب، الأجانب والمحليون (الشدياق، اليازجي، مارون عبّود مثالاً)، إلى تجذّر فضيلة الصدق في سلوك الموحّدين، إذ جعلوا صدق اللسان فضيلة ترقى إلى مستوى الإيمان الديني. ومارون عبّود يقول: « إنّ ذلك متوقّع من رجال الدين، لكنّ الأمر عند الموحدين الدروز يتعدّى ذلك إلى عموم الجمهور» (مارون عبود، في مقدمته لكتاب أمين طليع «أصل الموحدين الدروز).

نقيضُ الصدق الكذب، بكل مندرجاته وألوانه. ولا تبرير للكذب، كما يُزعمُ أحياناً، إلا بما تدفعُ إليه أنانيّتنا، وغرائزنا، أي الجزء الحيواني فينا. وإذا كان الصدقُ هو صدقُ اللسان والسريرة والفعل ؛ فنقيضه الكذب وهو النفاق والتزوير والمخاتلة والرّياء والخداع. لكنّ مدلول ذلك أخطر شأوًا. فإذا كان الصدق هو تجلّي الإيمان عياناً، فالكذب هو الكفر، أي الشك، عياناً. وقبل أن يكون الكذب خداعاً للآخر، هو تجديفٌ على الحقيقة، بل محاولة مضحكة للتجديف على الحق المطلق أو الله تعالى، العارف العالم بما ظهر وما خفي، من أفعالنا ونوايانا «وكان الله بكل شيء محيطا» (سورة النساء، 4: 126)

هوذا حال مقام الصدق، المفضي إلى التّصديق؛ الأظهرُ لحقيقتنا كأفراد، والأظهرُ لحقيقة إيماننا، والأقربُ تعبيرًا عمّا فينا من خير بالمعنى الأشمل؛ أي الالتزام بالحق والحقيقة؛ والنأي كليًّا عن الشرّ، بما هو جهل بالفضائل، وشكٌ بحقيقة النظام الكوني، والبشري، المؤسس على مركزية فكرة الله الخالق لكل شيء، العارف بكل شيء، القادر على كل شيء، عن عدل لا عن ظلم؛ كمالُ الصفات، بل كمالُ الكمالات: ما نعرفُ منها، وهو القليل، وما نسعى إلى المزيد من معرفته والاستضاءة بنوره.

اختصارًا، الصدق يكون على أنحاء ثلاثة: صدقٌ مع الناس، صدقٌ مع الذات، وصدقٌ مع الله تعالى، وهو معنى التصديق.

وما من نحوٍ يُغني عن نحوٍ آخر، أو يقوم مقام نحوٍ آخر. بل الصحيح أن كل صدقٍ (إذا صحّ) إنّما هونَحوٌ يقود إلى النحو الثاني فالثالث. فإذا صحّ الصدقُ مع الذات، صحّ بسهولة الصدق مع الناس؛ وليكتمل ويتوّج بالصدق مع الله. وفي السويّة نفسها، إذا صحّ الصدقُ مع الناس، غدا سهلاً الصدقُ مع الذات، واكتمل بالصدق مع الله. وإذا صحّ أعظمها، الصدق مع الله، بات الصدق مع الذات والصدق مع الناس من باب تحصيل الحاصل، ولا يحتاج إلى جهد كبير.

الأنحاء الثلاثة من الصدق نحوٌ واحد في الحقيقة: فإذا صدق المرء في واحد منها، صدق تلقائياً في النّحوَين الباقيين.
أخيراً، الصدق مطلوب ليس فقط حين يلائمنا؛ وإنما في كل الأوقات.
يبقى أن أفضل تعيين لمقام الصدق (وأهله)، ومن وجهة مسلكية أخلاقية عملية، القول: «الإيمان هو أن تؤثر الصدق حين يضرّك على الكذب حين ينفعك»
هكذا يكتمل، إلى حد ما، التعريف بالرّكن الثاني في ثقافة التوحيد، مقامُ «الصدق»، (دون الدخول في المعاني القصوى لمفهوم الصدق) وهي خارج حدود هذه الفقرة.

مقاما المحبة والصدق في مسلك التوحيد

رغم ما يجمع الحبّ إلى المحبة؛ فهما متمايزان، دون أن يكونا متناقضين.
المحبة أوسع من الحبّ. الحبّ جزئي، المحبة مطلقة.

الحبّ هو الودّ أو الإيجاب، أو الشوق المحدد، في المكان والزمان، المتّجه إلى غرض مقصودٍ بعينه دون سواه غالباً؛ وأحياناً على حساب سواه. هو أمرٌ جيّد محمود، لكنه يبقى محدداً، محدوداً، لا يتعدّاه، بل لا يخلو غالباً من تعلّق شخصي، نفعي، ظاهر، ولا يخلو من «الأنا» تحديداً.

أما المحبة (في معناها القريب) فهي الودّ، أو الإيجاب، أو الشوق بالمطلق غير المحدود بغرض مباشر، أو منفعة شخصية، أو غاية جزئية.

المحبة هي التخلّي عن «الأنا»، نحو المُطلق؛ والتوجّه بكلِّيتنا نحو ما هو أسمى من «الأنا»، والشوق، والتعلّق، بما هو أسمى من الظاهر والمتغيّر والجزئي والمحدود.

ولعل أظهر أشكال المحبة، محبة الإنسان لباريه، خالقه. وليست المحبة هنا عبادة في عدم، بل هي أبسط واجبات العبد تجاه خالقه، خالق كل شيء، مُوجِد كل موجود، فيضٌ من وجوده وخيره وكرمه…. ومحبته.

فمحبة الخالق سابقة لمحبة المخلوق. فمن محبة الخالق كان المخلوق، وكان معها وبها كل ما يجعل حياة هذا المخلوق، بل وجوده، أمراً ممكناً، مثمراً، جميلاً، ويبعث في نفسه الرضا وراحة البال والسلام والسعادة (وهي الغاية العملية لكل إنسان)، ولكن شرط أن يتوفّر لديه (أولاً) الإيمان الحق والمعرفة الحق – لا الإيمان اللفظي، أو المعرفة الجزئية القاصرة – وأن يتخلّق (ثانياً) بسلوك عملي نابع من المعرفة الحق والإيمان الحق، يعكس التزامه الداخلي، الطوعي، بهما، في كل شأن، صغير أو كبير. ويندرُ في آيات القران الكريم أن يرد مصطلح «الذين آمنوا»، إلا ومعها مباشرة «والذين عملوا الصالحات». فلا خير في علمٍ لا يلحق به عملٌ بالموصَفات والإلزامات نفسها. وهو عموماً مدارُ علم الأخلاق.

أمّا إذا توسّعنا أكثر في مفهوم المحبة – وهو خارج وظيفة هذه الفقرة المحدودة – فسنجد أن المحبة صفةٌ من صفات الله تعالى (وإن لم تُذكر حرفيا). ففيضُ الله في خلقه، وعلى خلقه، هو في باب المحبة، ولا تفسير آخر له غير ذلك. وقد ألمح القرآن الكريم إلماحاً يقترب من حد الإيضاح التام، إذ ورد في الآية الكريمة: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً» (مريم).
وكما في القرآن الكريم، كذلك في الأناجيل التي سردت عِظات يسوع الرسول، وكلها دالةٌ إلى حب الخالق لمخلوقه، ومنها قوله: «من يحبُ أخاه يثبتُ في النور؛ أما من يبغضُ أخاه فهو في الظلمة».

حبّ الخالق لمخلوقه بستدعي، في أبسط الواجبات، حب المخلوق لخالقه. وطالما أن الخالق مستغنِ بطبيعته عن أي أمرٍ أو شأن، وجبَ أن يتحول حب المخلوق نحو خلق الله في كل الأحوال، لا بشراً فقط بل في كل ما يحمل آثار فيض الله، في طاعة ما أمر به، وتجنّب ما نهى عنه.

هذه مجرد مُقدَّمة تُدخلنا إلى ما أسهم به، بتمكنٍ وعمق، المرحوم الدكتور سامي مكارم. وسنخصص الفقرة التالية لنصٍ مطوَّلٍ من كتابه «مسلك التوحيد».

وفق الدكتور مكارم «على الموحّد إذ يسبح في بحر التوحيد أن يملأ قلبه بالحب….ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا تجاوز الموحّد علمه إلى معرفة يقينية، وذلك لا يكون إلّا يحبّه للواحد الأحد حُبّاً كما يحبّه الواحد الأحد، أي حُبّاً مُتبرِّئاً من «الأنا»، متوجّهاً إليه سبحانهُ الذي لا موجود غيره. هذا الحبّ لا يصلُ المرء إليه بتكلّفِ الحبّ أو بتكلّفِ وسائلِ الحبّ تكلّفاً. لا يصلُ الإنسانُ إلى هذا الحبّ إلآ بالصدق، وبحفظِ حقوقِ أخيه الإنسان وهدايته إلى الخير وإرشاده إلى العدل وإعانته على قيامه بما هو حقٌّ وصلاحٌ وقضاء حاجاته المادية والروحية والعقلية بقدر الإمكان، ونهيهِ عن الشرّ والظّلم ومنعهِ من العدوان ومخاطبتهِ بالتي هي أحسن وقبولِ نُصحه وإرشادِه. كذلك، لا يصلُ المرء إلى التوحيدِ الحق إلا بالتخلّي عن عبادةِ العدم، وعن السيرِ على طريق البهتان والظلمة والغَيبة عن وجود الحق. فإذا تمّ له ذلك حقق التبرُّؤ من الإبليسية التي تعوقه عن التوجه إلى الحق. والإبليسية إنما تكمنُ في الأنانية التي تجرّهُ إلى طغيان الرغائب الدنيئة عليه. فإذا حقق الإنسان هذه الخصال دخل حالة من السلام الداخلي وانعتق من استبعاد الأهواء والشهوات والرغبات له التي تعوقه عن تحقيق كماله الأخصّ به، وارتقى في سلّم المعرفة وحقق الحرية؛ فإذا هو إنسان سيّدٌ على نفسه، مستغرقٌ بصفات الناسوتية الحق، أهلٌ لإدراك غايته ووعي حقيقةِ وجوده؛ فيعرف الله بوحدانيته الأحدية ويدرك أن لا موجود إلّا الله، فيحقق التوحيد الحق. وتنقله هذه الحالةُ المعرفية التوحيدية إلى حالة من الرضا، إذ يكون قد أيقن أن الله في وحدانيته هو الخيرُ المَحض، وأن ما يصدرُ عنه تعالى إنَّما هو مظهرٌ من مظاهر وجوده، وأنه حقٌ وخيرٌ وجمال؛ فيسلمُ ذاته إليه، إذ يدركُ أنه في ملكوتِ الله العالّ لكلّ علّة، الموجودُ الواحدُ الأحد الذي لا غيرَ له ولا حدّ.» (مسلك التوحيد، ص 121)

هذا في مقام «المحبة»، على أن نكمل البحث لاحقاً بمقام «الصدق»: وجهان لحقيقة واحدة.

المرضُ ونعمة الصحّة والعافية

بسم الله والحمد لله مولى النّعم وباعث الخيرات وقاسم الأرزاق، نعبده ونستعين به في السّرّاء والضّرّاء وقضاء الحاجات، والحمد والشكر لصفيّه في كلّ الأوقات حمداً لا نفاذ له وشكراً على كلّ الحالات.

يقال «إنّ الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه الّا المرضى»، وهي نعمة مغبون فيها الكثير من الناس والمقصود بالغبن «الخسارة»، فمن استعمل هذه النعمة في معصية الله فهو المغبون الخاسر.

للصحة جانبان: صحة البدن وصحة النفس
ومن حكمة الله تعالى أن ركّب في المرء من مقومات الصحة ما يجعله سليم النفس قوي البدن وشرّع له من الأحكام ما يحفظ له ذلك ويحول بينه وبين الأسقام والعلل ونهى عن الإضرار بالنفس وما يؤدي إلى تلفها بأي وجه كان ولعلّ أهم أمراض النفوس الابتعاد أو الانسلاخ عن الأمور الدينية حيث تنمو وتعشعش فيها الذنوب المؤدية إلى هلاكها.

في موضوعنا هذا نلقي الضوء على:

أولاً: صحة البدن
ثانياً: صحة النفس

أولاً: صحة البدن

ورد في بعض النّصوص الدينية «ألا وإنّ من البلاء الفاقة وأشدّ من الفاقة مرض البدن وأشد من مرض البدن مرض القلب، ألا وإنَّ من النعم سِعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن وسلامة الدين وصحة البدن خير من المال».

من هنا نستنتج أن لبدننا علينا حقاً في المحافظة عليه وصيانته وإلّا فمسؤولية التقصير والإهمال ترتد علينا، وخاصة عندما نعي أن بدننا «جسمنا» يحمل في داخله أمانة وهبها الله تعالى لنا وهي «الروح»، فيصبح لزاماً علينا رعايته وفق ما شرعه الله عز وجل. فمسؤولية كل عاقل أن يمتلك ثقافة صحية تمكّنه من التعرف إلى ما يؤدي إلى الإضرار بصحته، فيصونها ممّا يسيء إليها، بالوقاية أولاً بأن يقيها كل ما يتسبّب لها بالضرر فيعتدل في طعامه وشرابه، فيتجنّب أكل المواد المشبوهة والعناصر غير المرغوب فيها، ويعمل على ترويض جسمه على الاكتفاء بالقليل، وتقبّل الموجود والمتوفّر، فبالاكتفاء بالضروري من المأكل والمشرب فائدة للفرد ولأسرته ومجتمعه وللبنية التي يعيش فيها.

فالشبع يورث البلادة، ويعوّق الذهن عن التفكير الصحيح، ويدعو إلى الكسل والنوم، لذا من الضروري الاعتياد على المقدار المناسب من الطعام، وهو ما يقيم الحياة ويحفظ الصحة ويبعد عن الأضرار والأمراض.

كما عليه أن يعتني بنظافته الشخصية والبيئية وأن يبتعد عن كل ما يهدد صحته، بل ولا يهملها ويتفقدها من حين الى آخر، ويعوّدها النشاط وممارسة الرياضة أو أي عمل بدني يساعد في تطهير بدنه من السّموم.

فالله سبحانه جعل هذه الأجساد التي تحملنا أمانة في أعناقنا لتعيننا على القيام بمسؤولياتنا وواجباتنا تجاه أنفسنا وتجاه الله وتجاه الآخرين، وأي تقصير في هذه المسؤوليات سوف نُسأل عنه ونتحمل تبعاته.

فالأمراض والأسقام والبلايا وإن صعبت مرارتها، إلّا أنّ الله تعالى جعل فيها حكما وفوائد كثيرة إذ إنّ أحدهم أحصى فوائدها فزادت على مائة فائدة، حيث قال: انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض أمر لا يحس به إلّا من فيه حياة. فالوقاية خير من العلاج والعافية مع الشكر خير من المرض مع الصبر.

ثانياً: صحة النفس

من وجهة نظر علماء النفس، فأمراض النفوس تحصل نتيجة الصراع بين الضوابط والقواعد والقيم الدينية والاجتماعية والاخلاقية التي تحكم بيئة ما ومجموعة أفراد معينة، وبين حاجات النفس الأمارة بالسوء أي رغباتها ومخاوف الإنسان التي تتعارض مع هذه الضوابط ممّا يؤدي إلى إضعاف إرادته فيقع فريسة الاضطراب النفسي.
إلّا أن من مبادئ العلاج النفسي أن يترافق مع مساعدة الفرد للتوافق مع بيئته ضمن الإطار الديني والإيماني الذي يحكمه، وهذا إن دلّ على شيء فعلى أهمية الدين في علاج أمراض النفوس بل هو في صلبه، فالصلاة والمناجاة والدعاء بما في ذلك من سمو ورقي، تقتلع من النفس الأفكار السلبية وتغرس فيها الطمأنينة والأمان وتُذهب السيئات وتبدلُها حسنات، فبذلك يكون للدين قدرة شفائية عظيمة، وعلاج فاعل لأعراض الخوف والاضطراب والقلق، حيث يملأ الفراغ الذي منه تتأتّى الاضطرابات، فيسيطر التفكير الإيجابي والقناعات المحمودة، وهنا نتوقف عند قوله تعالى:
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِّ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين (هود 114)

وثمة قواعد دينية تحفظ صحة الإنسان النفسية ليبقى سليم الفطرة، موفور العطاء، متوازن الشخصية، ومن ذلك تلك القاعدة المثلى وهي تبديل السيّئات إلى حسنات، فتتبدل ظلمتها نوراً في القلب، ولا يبقى لها أثر أو خبر ويقول الله تعالى: «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» (الفرقان 70).

ولا بد من الإشارة إلى مدى تأثير الحالة النفسيّة للفرد على جهاز مناعته بشكل كبير، فإنّ الشعور بالحزن والاكتئاب ومشاعر الياس والإحباط تسبب إضعافه وقلة مقاومته للأمراض، وهذا ما شاهدناه في الآونة الأخيرة، فإنّ حالة الهلع والخوف من الإصابة بفيروس كورونا Covidf19 قد تضعف جهاز المناعة لدى الأفراد وبالتالي قد تزيد من احتمال الإصابة بوقت أسرع. إذ إنّ جهاز المناعة خط الدفاع الأوّل والرئيسي عن جسم الإنسان، يقي الجسم من الإصابة بالأمراض المعدية والخطيرة. إلّا أنّ مشاعر القلق والخوف والإرهاق الشديد قد تؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة، وبالتالي تزيد من خطر الإصابة بالأمراض، بعكس الحالة النّفسيّة المستقرة التي تساعد في نشاط خلايا الجسم الدفاعية وزيادة كفاءتها.
ومن ذلك أيضا الأمل وعدم اليأس وحسن الظنّ بالله تعالى، وهذه مشاعر يفيضها الإيمان على القلب فيسري فيه النور، اذ لا يأس من رحمة الله تعالى ولا قنوط من مغفرته وعفوه. وقيل في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنّ بي عبدي ما يشاء. فمن ظن بالله ظنّاً حسنا ناله الخير بحسب ما ظن، فعلينا التنبّه للظنون وما تكتنفه السّرائر فالله تعالى لا ينظر إلى وجوهنا بل إلى قلوبنا.

وحسن الظن جليل القدر إذ تهبُّ نسماته على القلب فتحميه من الأمراض، ثمّ تسكب عليه بَرْدَ الرضا والقناعة، الرضا بما منح الله تعالى وأعطى والقناعة بما لديه، وعدم مقارنته بما لدى الآخرين من مال وعلم وجاه وغير ذلك، حتى لا يدخل في القلب الحسد ويتولّد منه عدم الرضا، وهذا مدخل إلى القلق والاضطراب النفسي، فيكون على المرء بذلك ألا يشغل نفسه بما لا يعنيه، ويرضى بقضاء الله عز وجل ويعمل على إصلاح نفسه وتقويمها، ويحرص على جعل ساعته في طاعة الله تعالى فيبقى سليماً معافى من الاضطرابات والوساوس، ومع ذلك فالعلاج ضرورة يجب أن يطلبها المريض، بما لا يتنافى مع الشّرع وهناك خطوات قد تساعد الصَّابر(مَن يعاني اضطراباً نفسياً أو حالة نفسية) أن يلتزم بها ليحقق تكيّفاً سليماً، ثمّ صحة نفسية، ومنها:
– تقبّل الواقع، فبالقبول اعتراف بالمشكلة وهذا مدخل إلى إيجاد حلّ لها
– البحث عن الأسباب التي أدّت إلى ظهور الحالة التي يعاني منها، بدلاً من معالجة الأعراض (بالأدوية مثلاً).
– ممارسة الرياضة، وتحسين نوعية الحياة (كالأكل والنوم والعلاقات الاجتماعية… (
– البحث عن الموارد التي تسمح له بالتصدّي لصعوبات الحياة، (كالمطالعة، الصّلاة، العمل التّطوّعي..)

وعلى المريض أن يوقن بأنّ الشّفاء كلّه بإذنه تعالى، وأنّ الأطباء والمعالجين والأدوية، ولو اجتمعوا كلّهم ما استطاعوا أن يحدثوا ذرة شفاء وعافية إلّا أن يشاء الله.
اللهمّ أسبغ علينا لباس الصّحّة والعافية، واجعلها عوناً على طاعتك ومرضاتك.

.

حول مكانة الأخلاق عموماً

لا حاجة، بالتأكيد، لتكرار ما نبّه اليه علماء التربية من جهة، وعلماء تاريخ الحضارات والشعوب من جهة ثانية، حول الدور الحاسم الذي تلعبه، ولعبته، الأخلاق، والتربية على الأخلاق الرفيعة، في بناء الشخصية الإنسانية، كما في بناء المجتمعات والحضارات المزدهرة وحياة الشعوب السعيدة. والعكس صحيح، أي الدور الحاسم الذي تلعبه، ولعبته، الأخلاق الهابطة في تدمير الشخصية الإنسانية، كما، على نطاق أكثر شمولاً، في تدمير الحضارات التي تراجعت ثم زالت. وعليه، لم يخطئ الشاعر أبداً في إصداره حكم التاريخ، بل حكم الزمن، حين قال:

وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ
فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا

وهذا هو أيضاً حكم هيجل، فيلسوف التاريخ مطلع القرن التاسع عشر، في أنّ الأمم إذا فقدت ثقتها بروحها، وعقلها، فقدت الركن الأساس الذي نهضت على قاعدته. وهو أيضاً حكم علماء الحضارات في النصف الأول من القرن العشرين من أنّ انهيار أي حضارة إنما يبدأ بفقدانها المبرر الأخلاقي لوجودها.
وقبلهما بأكثر عشرين قرناً، بدأ أفلاطون كتابه الأكثر شهرة ونفوذاً، كتاب «الجمهورية»، بسؤال عن فضيلة العدالة: «لماذا عليَّ أن أكون عادلاً؟»، أي بسؤال أخلاقي، بل بالسؤال التأسيسي المركزي في كل منظومة أخلاقية، وفي تعريف علم الأخلاق أصلاً: ما هو الخير؟ لماذا عليّ أن أكون خيّراً؟ ومنهما اشتُقَ السؤال الأخلاقي العملي: كيف أفعل الخير؛ أو وفق كانط، فيلسوف الأخلاق دون منازع أواخر القرن الثامن عشر: إلزامية فعل الخير. معرفة الخير، لإفلاطون، هي أصل كل معرفة، وأصل كل الفضائل؛ وفعل الخير، لكانط، هو إلزام obligation.

هيجل

وفي ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية العربية، كان القرآن الكريم الخزانة، بل الخزنة، الذي أعطى، وما انفك يعطي، الأخلاق الأولوية المطلقة، مقارنة بالثقافات الجاهلة التي كانت تسود الجزيرة العربية، والقسم الأعظم من الكوكب قبل ورود البعثة النبوية والدعوة إلى الإسلام الحنيف. فقد قال الله تعالى في مدح نبيّه (ص): « وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم». ولعله أعظم ما قيل في تبرير الأخلاق، واعتبارها أُسّاً مركزياً من أسس الدين الحنيف. بل لا يتردد كثرة من علماء التفسير (إبن كثير، وآخرون محدثون) في تفسير الآية تلك كما لو كان الله تعالى يقول: «إنك على دين عظيم» (ابن كثير).

لا شك في أن ذلك التفسير تضمّن أقوى رافعة ممكنة لعلم الأخلاق، إذا جعلها متلازمة مع الدين نفسه. والحقيقة إننا لا نبالغ حين نقول إن الأخلاق متلازمة مع الدين بل ستصبح جزءاً منه. يقول محمّد عبد الله الدرّاز (في كتابه: «بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان»، ص 33): «إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو معرفة الحق الأعلى، وتوقيره، وإلى الخلق من حيث هو قوة النزع إلى فعل الخير وضبط النفس عن الهوى، كان أمامنا حقيقتان مستقلتان (متلازمتان)…، تختص أولاها بالفضيلة النظرية، والأخرى بالفضيلة العملية». إلا أنَّ ما يميّز الحقيقتين، إحداهما من الأخرى، هو أن الثانية مشتقة من الأولى، أو لاحقة بها، لأن العملي يتبع النظري، ولو على سبيل الأسبقية المنطقية لا الزمنية أو التاريخية. فالعمل بالحق أو الصحيح يتبع تعريف الحق أو الصحيح، وهو جوهر ما جاء به الدين من وحي ومن معرفة للحق. العملي يتبع النظري؛ وبهذا المعنى الدين هو الذي يزود الأخلاق بالمبادئ والقيم العليا.

بدأنا بذروة ما يمكن أن تكون عليه الأخلاق، أي جعلها مساوقة، موازية، متلازمة مع الدين الحنيف نفسه.
هنا بدت الأخلاق استجابة إلزامية، لا بد منها، لحاجة اجتماعية ملحّة. ورغم ما يقال عن أصل عقلي للأخلاق، أو أصل اجتماعي، أو اقتصادي، وخلافه، لا يستطيع المرء إلا ملاحظة أن الأخلاق لم تكن لتقع ذلك الموقع الإلزامي الحاسم في حياة الأفراد لو لم تكن مستندة ومؤيدة صراحة بمصدر علوي، إلهي، قدسي، قطع الطريق على كل راغب بتجربة الخطأ أو الحرام أو الشرّ عموماً. وعليه، يمكن أن نفهم بسهولة قوة الصلة بين الأخلاق والدين وصدقيتها.

تقع الأخلاق في ثلاثة أقسام، بل مستويات متدرجة، صُعُداً:
الأخلاق الفردية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق المتسامية.
الأولى، وتتألف من القيم والفضائل التي تخص الفرد، أي التي تتصل بالخير الشخصي: من مثل المبادئ التي يؤمن بها ويعمل بموجبها، الشجاعة، والكرم، والتروّي، نزوعه إلى الخير وكره الشر، وتعلقه بما يتصل ويعزز العقل والضمير وينأى به عن الهوى والغريزة، وسلسلة طويلة من الخصال الشخصية من مثل الصدق، والأمانة، وعمل الخير، والإحسان، التواضع مع عزة النفس، والقناعة مع السعي لكسب الرزق بالطرق المشروعة، وسواها من القيم الفردية، أي المبادئ التي يؤمن بها الفرد، وتحكم سلوكه، ويسعى لتحقيقها.
ويدخل هنا على وجه الخصوص الدور الحاسم الذي تلعبه الأسرة في تنشئة أفرادها، وتزويدهم بالقيم والأهداف الحميدة. هو دور الأب والأم معاً، ولكن مع حيّز خاص للأم على وجه الخصوص، إذ هي التي تقضي الوقت الأكبر مع طفلها وتخلّقه عموماً بأخلاقها. وقد قيل الكثير في دور الأم هذه، وبحق؛ ومنها:
الأمُّ مدرسةٌ أذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
وقيل أيضاً:
تربية الطفل في الأسرة تبدأ قبل خمس وعشرين سنة من ولادته، أي في التربية التي حصّلتها الأم في أسرتها الأولى وقبل أن يكون لها أسرتها الخاصة.
ويجب أن يتذكّر المرء هنا المكانة الخاصة التي أفرزها الأمير السيّد التنوخي (ق) حين شدد على أهمية تنشئة المرأة الصالحة، ومن ثمة الأم الصالحة، كي تنشأ من بعدها الأسرة الصالحة، والفرد الصالح، والمجتمع الصالح في النهاية.

وهناك أقوال مشابهة كثيرة أخرى، مصيبة دائماً، إذ يتفق علماء التربية دون استثناء على أن جزءاً كبيراً من قيم الفرد – أي المبادئ التي توجّه أخلاقه – إنما تُكتسبُ في سني حياته الأولى. دون أن ننسى هنا أهمية المدرسة في المرحلة التالية، ودورها التربوي الحاسم، وهي المؤسسة التي يقضي فيها الناشىء معظم سنواته قبل بلوغه سن الرشد.

في وسع الباحث أن يتوسّع في أنواع الأخلاق الفردية ما رغب في ذلك، إذ هي في النهاية مجموع الإرشادات والنواهي المحفّزة لصنع ما هو خير، والنأي عمّا هو شر. وهو عين ما جاءت به الأديان أيضاً. وعليه فهما لا يتناقضان في شيء، بل متوافقان على أهمية أن ينشأ الناشئة في أسرة فاضلة، ثم ما يتدرب عليه الفتى في المدرسة الصالحة، والنادي الصالح، كيما يكون فرداً صالحاً يصنع مع أفراد صالحين آخرين: المجتمع الصالح – وتعريفه: المجتمع الفاضل والسعيد. وهو موضوع المستوى الثاني من الأخلاق.
الثانية، هي الأخلاق الاجتماعية، أو ما يمكن تسميته: أخلاق المعاملات.
تشتمل الأخلاق الاجتماعية هذه على كل ما اتصل بسلوك الفرد والدور الاجتماعي الذي يلعبه، أي علاقة الفرد بالمجتمع، وبمؤسساته المختلفة: الأسرة، الحي، البلدة، المدينة، مكان العمل، وأشكال العلاقة الاجتماعية الكثيرة، والتي لا مفر للفرد عموماً من الانخراط فيها طوال حياته – من الولادة والنشأة في كنف أسرة، في طقوس اجتماعية محددة، إلى حين مغادرته هذه الدنيا في النهاية، وفي مكان اجتماعي محدد ووسط طقوس اجتماعية محددة أيضاً. بين أهم المبادئ التي تنشأ منها القيم الاجتماعية التي يلتزم بها الفرد الصالح:

إبن طفيل

– التعاون مع الأفراد الآخرين في الجماعة الصغيرة (الأسرة، أو المدرسة، مثلاً) ثم في الجماعة الأكبر، المجتمع، لتحقيق الأغراض الخيّرة من قيام الجماعة والمجتمع، وحسن إدائهما لوظائفهما. فمن دون هذا التعاون القائم على الخير لا تقوم أسرة بما يفترض أن تقوم به من وظائف أولية تربوية وأخلاقية حساسة؛ ولا تقوم مدرسة بما يتوقع منها من تربية وتعليم وتثقيف بالمعنى الصحيح؛ ولا ينهض مجتمع في النهاية إلا أذا تعاون أفراده تعاون أعضاء الجسم الواحد، بحيث يقوم كل فرد فيه بالوظيفة التي يصلح لها أو اختارها لنفسه والتي يجد نفسه فيها، متكاملاً مع الوظائف الأخرى التي يقوم بها الأفراد الآخرون في المجتمع: لا تنقص ولا تفضل وظيفة من أخرى، أو على أخرى، إلّا بمقدار ما يُحسن صاحبُها إداءها والإخلاص لها بمعزل عن الكسب المادي الذي يتأتّى عنها، بالمعنى المباشر، إذ إنّ الغاية من الوظائف الاجتماعية هي في الأصل تكامل المجتمع، لينهض، ويكون مجتمعاً فاضلاً، يجد كل فرد فيه نفسه، ينال حاجته من تقديماته، ولا يبخل بعطاء يستطيع تقديمه – أمّا تلبية الحاجة المادية المباشرة للفرد وللأسرة فلا تغيب عن البال لكنها يجب أن لا تتقدم على تكامل الوظائف الجوهرية للمجتمع.
– يلحق بهذه الوظيفة الأصلية سائر القيم الاجتماعية، وقد نصّت عليها تفصيلاً مواثيق حقوق الإنسان في الأندية المختلفة – وبخاصة شرعة حقوق الفرد والمواطن التي أصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 11 كانون أول سنة 1949، والتي لا تتعارض في أي من بنودها مع ما جاءت الأديان من حقوق وموجبات – طبعاً خارج تفسير الجماعات المتطرفة والموجودة على هامش الأديان كافة والتي تفهم دينها على أنه إقصاء للآخر، بل وتكفير له. قائمة القيم هذه تتضمن طريقة النظر إلى الآخر، الرحمة والتراحم، قبول الآخر، الاحترام المتبادل، نظام الحقوق والواجبات التي يتضمن عموماً كل ما هو ضروري لتعزيز المجتمع واللحمة بين أفراده من غير إفراط أو تفريط.

أما المستوى الثالث من الأخلاق فقد أسميناها: الأخلاق المتسامية transcendental values، المستندة إلى قيم وأهداف أعلى مما هو فردي، ومما هو مجتمعي أيضاً.
قيمُ المجموعة الثالثة هذه، إنما تنشأ من حقيقة أن الإنسان ليس فرداً فقط، وكذلك ليس فرداً-في-جماعة فقط. هو أكثر من ذلك.

هو في الأصل والجوهر، كائن متسامٍ، أي فيه من الدوافع والتطلعات والمحركات والأهداف (أي القيم) أكثر بكثير مما يتضمنه الكائن البيولوجي (الأكل والشرب والتكاثر)، والكائن الاجتماعي (طلب الصحبة والتعاون والتجاور) – رغم عدم نفي وجود الكائنين فيه ولكن على نحو أوّلي (البيولوجي) ثم ثانوي زائل (الاجتماعي).

الإنسان هذا يملك فوق البيولوجي والاجتماعي مستوى ثالثاً أعلى، ويتفرّد به عن سائر المخلوقات، ألا وهو: مستوى البحث عن الحقيقة، مقاربتها ومحاولة بلوغها، ومن ثمة التماهي بها أو وفق هديها – إذا حالفه الحظ وتأتت له نعمة معرفة الحقيقة تلك.

ولا نأتي جديداً إذا كررنا مع الفيلسوف الأندلسي إبن طفيل (وآخرون) أن الطريق إلى الحقيقة العليا تلك يكون في واحد من اثنين: إما بالوحي (أي النعمة الإلهية) أو بالعقل (أي من خلال كمال التفكّر والتعقّل). كلاهما طريق صحيح، يوصل إلى الخاتمة نفسها، وعليه فواحدهما لا ينفي الآخر.

في الأخلاق المتسامية، يعود الباحث باستمرار إلى كانط (1724-1804) الذي جعل لموضوعة الأخلاق معظم كتبه الأخيرة، وبخاصة كتاباه «نقد العقل العملي» (أي الأخلاقي)، الذي صدر سنة 1788، وأعقبه سنة 1797 بكتابه «ميتافيزيقيا الأخلاق»، والذي وضع فيه أسس الأخلاق العملية، أخلاق الفضائل.

كانط

يمكن العودة إلى كانط، كفيلسوف أخلاقي نظري وعملي من الطبقة الأولى، ولكني أختصر هنا فكرته المركزية برؤيته إلى الأخلاق كمعرفة «قبْلية» apriori، أي تتجاوز، وسابقة، للمعرفة المنطقية الشكلية، من جهة، وللمعرفة التجريبية البحت من جهة ثانية. لا تستمد الأخلاق أولويتها، وقبليتها، من أي برهان منطقي، ولا من علم النفس، ولا من أية خبرة عملية تجريبة جزئية. هي بالعكس «قانون كلّي»، تقوم على فكرة «إلزامية الواجب»، الذي لا يستطيع أي عقل إلا التسليم به، كما لا تستطيع الطبيعة الإنسانية إلا الاستناد إليه، كما لا تستطيع الخبرة اليومية إلا الانصياع له.

هذا أعظم دفاع عن أولوية، وقبْلية، فكرة الأخلاق في العصر الحديث، وربما في كل عصر. وقد تركت أفكار كانط نفوذاً هائلاً في كل النظريات الدينية والفلسفية والأخلاقية التي جاءت بعده. ولعل أعظم برهان عليه ما نقوله هو الخلاصة التي انتهى إليها الباحث في أعمال كانط، الفيلسوف الألماني هرمن كوهين، حين انتهى إلى الخلاصة التالية: «حتى لو لم يوجد الناس، لبقيت الأخلاق مع ذلك موجودة» (من كتاب «الأخلاق عند كانط» للفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي، ص 36).

هذا القدر كاف، كما اعتقد، لتأسيس البحث في فكرة أولوية «الأخلاق»، بل أولويتها المطلقة، إلى الحد الذي ساوت فيه الآية الكريمة، التي مرّت معنا، بين الأخلاق والدين نفسه.
وللبحث صلة، وبخاصة في فضائل الأخلاق المتسامية.

الشّيخ العَلَم الوَرِع الديّان، أبو حسين محمود فرج،الجزء الثالث

مقدّمة:

ورث عقّال الموحدين الدروز منذ نشأة مذهب التوحيد الأخذ بسِيَر السابقين من النجباء الذين لم يخل منهم زمان، فشكلوا عبر الأجيال سلسلة لا تنتهي من العارفين بنقل أمانة التوحيد وخصاله ومسلكه الى إخوانهم ورفاقهم وأبنائهم من الناشئة، وهو ما يعرف بقاعدة «المفيد والمستفيد»، وترتكز على ثابتتين:

الأولى – إنّ العلم الحقيقي هو المنبثقُ من أمر الله وتأييده وواسطته، فهو للنفوس كالماء في الطبيعة، جُعِلَ منه كل شيء حي. وغاية العِلم المُثمر أن يهديَ النَّفسَ الى المعرفة الصادقة التي من شأنها أن تحيي الرُّوحَ، وتُسدِّد خطاها في مسالكها المعنوية والعملية.

والثانية- ارتباط العِلم بالعمل، فلا يُنتفَع بالعِلم حتى يصدقه العمل، كذلك، لا يُنتفع بالعمَل حتى يثبته الإخلاص وحسن النيَّة. وذلك استناداً الى قوله تعالى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر 19)، وقوله تعالى أيضاً: (يعلم ما في قلوبهم (النساء 63)، وقول النبي (ص) (إنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعمالكم).

يقول أحد العلماء العارفين: «إن المفيد في التوحيد هو الذي يُرشد ويحرّك وعيَ الطالب باتجاه نور العقل الكلي، أي علمُه المعبَّر عنه برسالات الأنبياء وصولاً الى الطور الأخير المعروف. بهذا، يصبح الإخوان حالة يشدّ بها الواحد منهم حال الآخر كما قال «على سررٍ متقابلين»، تجمعهم في ذلك «الصلة» بالحقّ، وكلٌّ يحترم شيخَه، وفي الوقت عينه الشيوخ الثقات.

المرحوم الشيخ احمد امين الدين

منهم قاصد بالتقوى والزهد، ومنهُم مجاهد بالورع والخوف، ومنهم مثابر بسعة الاطّلاع والدّرس، ومنهم متميّز بالشجاعة، ومنهُم متلهف بالشوق والوجد أكثر من غيره. ويوجب هذا على الموحّد أن يستقي المعاني من هذه الكوكبة المستنيرة بيقينها المرتكز على العمل، والتّحقّق، وصدق اللسان.
والدرس الذي يستفاد في موضوع المفيد من المفهوم التوحيدي، هو أن حلقة التوحيد لا بدّ أن تكون جامعة، تصل الكلّ بالكلّ في روضة الخير. صحيح أن علم الطالب ينمو بتوجيه شيخ من الشيوخ، ولكن على درب «الصلة» بالكلّ»(1).

فكيف إذا كان المفيد الشيخ أبو حسين محمود فرج صاحب الفضل والمعرفة والثبات في المسلك الذي جمع وجوهاً متعددة في قصد التقوى والزهد والمجاهدة بالورع والخوف، والمثابرة لسعة الاطلاع والدرس والتلهف بالشوق والوجد. فقد كانت لمريديه ورفاقه مناسبات تجددت فيها سعادات القلوب بنور التوحيد، وارتاضوا في رياض الخير الى حد أن تلك المرحلة باتت مثالاً للمعشر بين الاخوان. وقد اتفق المنصفون وسادة العصر وأعيان البلاد على الاعتراف له بالفضيلة فجعلوه لمحض تقواه إمامهم المطاع ومرجعهم الأعلى.

ومن المستفيدين الناجحين الذين تابعوا الشيخ أبا حسين ورافقاه الشيخان أبو سعيد حَمُّود حَسَن وأبو داوود كامل حسن وهما من بلدة البنيه المجاورة لبلدة عبيه، فكانا نغماً عطراً طيباً من نغمات أهل التوحيد والسلف الصالح، وتابعاه من الاجتماع الديني في خلوة الشيخ أحمد أمين الدين في عبيه،(الشخصية الثانية بعد السيد الأمير«ق» الذي أوقف كافة عقاراته لعموم الأجاويد) خلوة الصدق والإخلاص والعمل الصالح، الى معظم الاجتماعات واللقاءات الدينية، حتى زكت بهما النفس وطابت القلوب بحميد الذكر ونور الاستشعار، فكانا من الأعلام الشاهدة على الرسوخ في السبيل القويم واتباع النهج السليم الذي استقى من ينابيع السادة الأوَل، وارتقى في معراج الثبات في رياض الذكر الحكيم، محققاً للنفس شرفها الذي وجدت من أجله وهو العبادة والتوحيد.

الشيخ أبو داوود كامل حسن (1909 – 1982):
المرحوم الشيخ ابو داوود كامل حسن

هو الشيخ الدَّيان المخلص الواعظ والأخ المحب المتابع والجار الوديع للشيخ أبي سعيد حمود حسن، رفيقاً مجاهداً في الطاعة والعبادة. تابعا معاً اجتماعات الشيخ أبو حسين محمود فرج ورافقاه في معظم تجواله. كُلّف كلّ منهما لفترة مسؤولية سياسة مجلس البلدة وحقوق أوقافه مع لجنة من مشايخ البلدة الكرام.
حرص الشيخ أبو داوود، كما هو مسلك الأتقياء، على الرزق الحلال فعمل في الزراعة ومواسم الزيتون والقز وغيرها.

إلاّ أن القدر فرّق بينه وبين الشيخ أبو سعيد اثناء أحداث الشحار 1983 حيث شاءت الأقدار ان يبقى الشيخ أبو داوود في البلدة ولم يتمكن من مغادرتها، فقتل برصاص الغدر أمام منزله الذي تمّ حرقه، وبعد تحرير الشحار وُجدت محفظته سالمة بين رماد جسده الطاهر. فقد كان يحتفظ في جيب عباءته بأمانة أموال لمجلس البلدة ولعدد من أبنائها مُبيّنة بأسمائهم وبقيت سالمة وأعيدت الأمانة لأصحابها مما يعتبر حقاً كرامةً له.

الشيخ أبو سعيد حَمُّود حَسَن (1903 – 2004) (2):

هو ابنٌ لعائلة عريقة في التديّن والورع والتقوى، وعندما سُأل أحد معمّري البلدة عنه في تسعينات القرن الماضي اجاب أننا نعرف الشيخ أبا سعيد متكملاً، مرتدياً العباءة البيضاء منذ شبابه، وكان منزله عامراً بالسهرات الدينية للمشايخ الأعيان وكذلك بالزيارات والوفود. فقد كانت اليقظة الروحية والنهضة الدينية ملازمة له في سن مبكرة.

واجهته صعوبة الحرب العالمية الأولى وهو في الحادية عشرة من عمره، لكنه تخطّى الظروف الصعبة تلك بفضل ما منحه الله من ثبات الإيمان وقوة البُنية. وكان الشيخ يروي بعضاً من تفاصيلها وبخاصة المجاعة التي طالت لبنان في ذلك الحين، وكان يردد: « لم يسلم من المجاعة إلا من كان يملك رأس ماشية يدر لبناً».
وعلى خطى السلف الصالح وعن قول جبرائيل لداوود عليهما السلام: «وما من عبد أحب الى الله من عبد يأكل من كد يمينه». حرص الشيخ حمود على الرزق الحلال، وعلى جني رزقه من تعبه طوال حياته، فأستقر عمله (بعد سنوات عجاف) في الزراعة ومعاشرة الأرض، وجني مواسم الزيتون والصنوبر والفواكه ومواسم القز التي ازدهرت في منتصف القرن الماضي، وصناعة الصابون البلدي التي استمر بها حتى آخر أيام حياته.

مرحلة المرافقة مع الشيخ ابي حسين محمود فرج:

من المرجح أنه في أواخر عشرينات القرن الماضي تابع الشيخ أبو سعيد برفقة الشيخ أبو داوود كامل حسن اجتماعات الشيخ العلَم، حيث كان يردد في غالب الأحيان أن مرافقتهما استمرت أكثر من عشرين عاماً (وفاة الشيخ أبو حسين 1952). تأدبا بآدابه وتعلَّما الكثير من مآثر الخير على يده، بل يصحّ القول انهما تتلمذا على يديه، واقتديا بكثير من مسالكه الشريفة، وأخذا عنه الخصال الحميدة كالدقّة والحلم وسعة البصيرة وغيرها.

وقد منحهما الشيخ العلم لفتة خاصة من المودة والعطف، حتى أمكن القول إنه كان يصعب على شيخ البلاد الرجيح من عبيه، إذا قصد زيارة المشايخ والإخوان في لبنان او سوريا او بعض الأماكن المقدّسة في أي مكان، ألّا يكون الشيخان أبو سعيد وأبو داوود رفيقيه مع المشايخ الأفاضل.

وفي معظم لقاءات الشيخ أبو سعيد بعد ان تجاوز الثمانين من عمره المديد، كانت مذاكرته عندما يُزار، ويزور، عن المشايخ الكبار الذين سلفوا، وفي مقدّمهم الشيخ أبو حسين وتعلّقه به فكانت ذكراه حية على لسانه وفي قلبه وكان يُعيد ما وقع منه أو من أخيه الشيخ أبي داوود من أخطاء في بداية المتابعة بمنتهى البساطة والبشاشة وكيف كان الشيخ بحلمه الواسع يصحح لهما ويرشدهما ويدلهما على الأصوب والأفضل.

كما كان يروي عن مناقب الشيخ أبي حسين كما عرفها عنه، رواية شاهد من أهله، حيث كانت الزيارات بمعظمها تتم مشياً على الأقدام، وكثيراً ما يُعيد الشيخ أبو سعيد لطائف المودّة والعطف بدعوة الشيخ أبي حسين لهما لزيارة مقام النبي شعيب (ع) في فلسطين في أربعينات القرن الماضي والتي ألحّ بها شوقاً لرؤية الإخوان، أو مواقف الشيخ الذي قرر ترك بلدته عبيه لمدّة ثلاثة أشهر ليمنع وقوع خلاف بين بعض أقربائه وجيران له، أو حرص الشيخ العلم على العمل بالنية مع نفسه دون الحاجة الى قرطاس أو قلم أو الى الكلام مع الغير أحياناً، وهذا هو جمال التعامل مع الله، والمراقبة الدائمة للنفس. أو غير ذلك من سيرته العطرة.

واختصاراً نختار هذه الواقعة من مرحلة المرافقة التي تعبِّر عن صفاء العلاقة ومتانتها بين الشيخ أبي حسين ورفيقيه:
ففي موعدٍ سهرة دينية في بلدة عرمون الغرب، جرى حديث بين الشيخ ابي حسين والشيخين أبي سعيد وأبي داوود لحضور السهرة، وبعد ظهر ذلك اليوم تبدّلت الطبيعة وتحول الطقس ماطراً وعاصفاً. وقناعةً منهما ان الشيخ العلم لن يبقى في عبيه قررا الانتقال الى عرمون للقائه، وهذا ما حصل فعلاً، ولم تمنعهما الطبيعة من تنفيذ الوعد رغم الانتقال سيراً على الأقدام، في حين تعذّر على جمع غفير الوصول في تلك الليلة فعاتبهم الشيخ بطريقته اللطيفة في اليوم التالي. ويروي الشيخ أبو سعيد ان الشيخ أبا حسين لم يجد في تبدّل الطبيعة عذراً وأجاب على سؤال: «لو كان المرء في حقله وهطلت الأمطار فهل يبقى في الحقل أم يعود الى البيت»؟.

الشيخ أبو سعيد حمود حسن: مسيرة مستقلة
المرحوم الشيخ ابو سعيد حمود حسن

لقد كانت مسيرة الشيخ أبو سعيد مسيرة مستقلة مشرقة، واضحة لأصحاب البصائر، فأضفت احترامه ومكانته في المجتمع التوحيدي وفي مقدمّهم المرحوم الشيخ أبو حسن عارف حلاوي وخاصةً بعد ان أصبح الشيخ حلاوي المرجع الديني الوحيد المتوّج بالعمامة المدورة والشيخ أبو سعيد كبير مشايخ الغرب. وقد تعارفا في ريعان الشباب قبل ان ينتقل الشيخ أبو حسن عارف الى بلدة معصريتي. وهما متقاربان في المواليد وحياة الطاعة المديدة (الشيخ حلاوي 1899 – 2003) (الشيخ أبو سعيد 1903 – 2004). كذلك كان الحال مع المشايخ الذين تُوّجوا فيما بعد بالعمائم المدوّرة (الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين، الشيخ أبو محمد صالح العنداري، الشيخ أبو ريدان يوسف شهيب).

يقول سماحة الشيخ أبو علي سليمان أبو ذياب في مخطوط خاص عن المرحوم الشيخ أبو سعيد:
«أنه شيخٌ فاضلٌ صَرَفَ حياتَهُ في طاعة الله تَعَالى عابداً، زاهداً، مجاهداً، وراضياً قانِعاً، مُخلِصاً، أميناً، وفيّاً، محافظاً، ومثابراً تقياً.».

رافق شيوخَ البلاد وأعيانَها (في الجبلين) وصاحبهُم، وأحبوهُ وأحبَهم، وكان فيهم ومنهم رفيقاً كريما صحيحاً صالحاً، وأخاً محباً عطوفاً عفيفاً ناصِحاً، وشيخاً وقوراً رزيناً راجحاً.
إقتَنَعَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْفي وَجَلَسَ بيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِ عَزَّ وجلَّ مُستأْنِسًا بِذِكْرِهِ حَامِداً شَاكِراً هَادِئاً مُطمَئِناً سَاكِناً ذَاكِراً.
زَارَهُ المشايخ والاخوان وزارهُمْ وأكرموهُ وأكرمهم وارتاحوا اليه وارتاحً إليهم.

ويتابع الشيخ أبو ذياب: كان الشيخ أبو سعيد وقورَ المحضر، رزين المنظر، تبدو مُراقبَةُ الخالق عزَّ وجَلَّ على وجهِهِ الهادئ ونَظَرِهِ الخاشِع يَعظُ حَالُهُ قَبْل قَالِهِ، حَسَن المُقَابَلَة حَسَن التَّرْحِيبِ بِضُيُوفِهِ يَبْدو عَلَى مُحْيَاهُ الْوُقُورِ اللُّطْفُ وَالْعَطْفُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْحَنَان، جَزِيْلَ الإِكْرَامِ والكَرَم يُجَالِسُ ضُيُوفَهُ مُجَالَسَةَ المُرْتَاحِ السَّعِيدِ الْهَادِئ وَيَسْتمعُ إلى أَحَادِيثَهُم بِإِصْغَاءٍ وَوَعْيٍ وَاهْتِمَام. وإذا شَكَوا إليهِ هُمُومَهُمْ يُهَوِّنُ عليهم بكلماتٍ لطيفةٍ؛ يُحبّ الرِفْقَ والوِفاق ويأبى العُنْفَ وعدمَ الاتفاق، ويحملُ هَمَّهُمْ وَان اقتضى الأمرُ يسعى إلى مَنْ كانَ السَّبَبَ، مضَى إليهِ مُخلصاً وَأزَالَ الهُمُومَ بمَسْعَاهُ وَصحةِ نَوَايَاه.

كانت مساعيه في الخير ولله عَزَّ وجَلَّ مع ارتجاءِ رِضاهُ وكانَ يُوفَّق فاللهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّق مَنْ سَعى في مرضاتِهِ وكان مُعتَدِلاً في أمُورِهِ وأحكامِهِ وَحَيَاتِهِ حَيْثُ قَالَ الحُكَماء العِظامُ عَلَيْهِمِ أزكى السَّلام: خيرُ الأمورِ أوسطُهَا، وَحيَاةُ الاعتِدَالِ والفضيلة هي الحياة السعيدةُ الحقيقية لا تَحْتَمِلُ الزِيادَةَ أو الانتقاص وهي قانون الحياة الصحيح لكل ذي عقل رجيح ونعمةٌ مِنَ الله تَعَالى على من خُصَّ بِهَا وسرُّ القوةِ انّ يحتفظ الإنسانُ بطبعٍ هادئ كي يُفكِّرَ ويستعين بخالِقِهِ ويكونَ مُعْتَدِلاً كيْفَما تقلَّبَت ظروفُ الحياةِ وَصروفُها عليهِ.

هكذا مارس الشيخ أبو سعيد حَيَاة الاعْتِدال والفضيلة مُرتاحاً سعيداً سديداً، وَكان في خَلْوَتِهِ مَعَ خَالِقِهِ إذا اسْبَلَ اللَّيلُ سِتَارَهُ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ مُحَاسَبَةَ الأَلِبّاءِ الصّالحينَ الخَاضِعينَ الخَاشِعِينَ الْخائِفِينَ.

ومن أشهر ما عُرف عنه:

1. سداد الرأي والشجاعة في قول الحق:
عرف عن الشيخ أبي سعيد أنه: إذا استشير في أمرٍ فيتأنَّى ويفكِر ثُمَّ يُبْدِي رَأيَهُ وكان كثيراً مَا يُسْنِدُ رَأيَهُ الى رأي من سَبَقَهُ مِنَ المَشَايخ واستشيروا في أمرٍ يماثله، وكان مستنده في ذلك الكتاب الكريم وتفاسيره.

وكانَ سديد الرأي مَبْنِيٌ قولُهُ على الصَّواب، ولا يُطيلُ الشرح ولا يكثر الكلام يختارُ كلماتِهِ ويُوضِحُ ما يريدُ عن فكر رشيد، كريم الأخلاق. أما في المسائل العامة فكان يرغب بمشاورة المشايخ الأعيان.
ومن المعروف عنه أنه كان حازماً عندما يتعلق الرأي بأمر سبق حدوثه أو خطأ تم الوقوع فيه. وقد إتخذ الشيخ أبو سعيد العديد من مواقف الجرأة والشجاعة، حتى أنه امتنع مرّة عن تناول الطعام من أجل حلّ سريع لمسألة طرأت بين المشايخ الأفاضل.

2. قوله المشهور: لم أقل يوماً بلساني مخالفاً لما في قلبي
الصدق في التوحيد هو وحدة الحال في عمل اللسان والقلب والنيّة، وكافة الجوارح، والتبرؤ من المخادعة والتدليس، وما من سبيل للوصول الى حقيقة التوحيد دون المدخل الصدق اليه، وفي مذاكرة مع حفيده قال له: «يا جدي لم يخطر ببالي يوماً أني قلت بغير ما في قلبي؟».
وكان من مسالكه قاعدة « إذا غيّروا لا نغيّر»، وكثيراً ما حصل اتفاق ما مع آخرين ثم بدّلوا رأيهم، ولم يبدّل رأيه.

3. الابتعاد عن السياسة:
تميّز الشيخ أبو سعيد حمود حسن بالابتعاد عن السياسة، فلم يعرف قلبه الميل ولا الجاه على الرغم من متابعته لما يجري من قضايا وأحداث داخل طائفة الموحدين الدروز، ثابت الموقف والعمل تجاه وحدة الصف والكلمة، متلهفاً لجمع الشمل وحفظ الاخوان، وكانت شخصيته علامة فارقة، فريدة بين مشايخ عصره، ومواقفه خالصة لوجه الله كالماء العذب الزلال، مستقلة تماماً عن أي تأثّر دنيوي. وقد حرص أحفاده الذين عرفوا كثيراً من تفاصيلها أن تبقى في أوراق الذكريات.

4. العمامة المدوّرة:
تأكدت نية الشيخ أبو حسن عارف حلاوي والشيخ أبو محمد جواد ولي الدين مجتمعة بعد وفاة الشيخ أبو ريدان يوسف شهيب والشيخ أبو محمد صالح العنداري على تتويجه بالعمامة المدوَّرة ولكن ظروف لا تتعلق بالشيخ أبو سعيد حالت دون إتمامها قبل وفاة الشيخ أبو حسن عارف حلاوي فأصر الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين على إتمامها في اللحظات الأخيرة من حياته، مكرراً مزايا الشيخ أبو سعيد ومناقبه التي أهّلته للحصول على هذه المنزلة الرفيعة، فكانت بمثابة وسام ديني لعلو همّته وسامي منزلته.

وفاته

مَضَى الشيْخُ أبو سعيد في سَبيلِ النَّجَاةِ والهُدَى. وفي يوم وداعه تقاطرت الوفود من الجبلين الى إلقاء التحية الأخيرة. وألقى عدد من الخطباء ما يليق من المراثي ويكفي أن نقول أن العديد من المشايخ الأفاضل الذين ما زال بعضهم على قيد الحياة سمعوا صوت السماء بلحن الخلود المتعارف عليه دينياً أنه يصدر بإرادة ملائكة الرحمن ويخصص تكريماً للمشايخ الثقات يوم وداعهم الأخير؛ هو الصوت الذي تحدّث الشيخ أبو سعيد يوماً انه سمعه في وداع والده المرحوم الشيخ حسين بشير حسن. رحمهما الله.

مقامه وضريحه

على خطى المشايخ الأعيان أقيم له مقام في بلدته البنية، وكما في حياته كذلك بعد وفاته بقي مقصداً لأهل الفضل من المشايخ، وبخاصة مشايخ الغرب من عبيه وعرمون وبيصور وغيرها. وقد نُقش على ضريحه آية الكرسي من جهة وتاريخ وفاته من جهة أخرى تقدمة الشيخ منذر عبد الخالق، بالأبيات التالية:

يـا عَابِـداً زَانَـت التَقـوى مَنــَاقِبَهُ
أَلبِرُ تَاجُكَ وَالمِنهَاجُ محــــمُودُ
بُشـْرَاكَ في الجَنَّةِ العَلْيَـاءِ مِنْ حَسَـنٍ
تَنَالُ خَيــرَ جَزاً يَرْعَاكَ مَعْبُــودُ
لَـكَ المـآثِرُ فِـي التَـارِيخِ أحمَـدُهَا
أبو سَعِيدٍ رَبِيبُ الفَضـلٍ حَمُّـــود

ورد خطأ مطبعي في الصفحة 19 من عدد مجلة الضّحى 31 في الفقرة بعنوان (بعض الخصال) ضمن المقالة بعنوان «الشيخ العلم الورع الديان، أبو حسين محمود فرج الجزء الثاني».

السطر الخطأ التصحيح
الخامس عشر طيّباً طبيباً
السابع عشر رضاه في الباطل لا يدخله رضاه في الباطل
التاسع عشر للغيوم لغيوم
(المزيد…)

الشّيخ العَلَم الوَرِع الديّان، أبو حسين محمود فرج

شجاعتُه في دينه وجرأتُه في يقينه

شجاعته في دينه وجرأته في يقينه إنّه لم يكن يساير ذوي السلطان فيما يغضب الرحمن.
فَصَحَّ فيه قول القائل:
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ.

وكان شديد الخوف والحذر من حدوث شرٍّ ما بسببه وله واقعة مُهمّة أنه ترك عبَيه لمدَّة ثلاثة أشهر. كذلك كانت مهابته واحترامه لدى العقلاء والجُهلاء على السواء فسبحان من قدّر له الهيبة والاحترام في قلوب الناس.

لم يكتفِ رحمه الله بإصلاح طريقته، وتحسين سيرته الخاصة، بل أسرع لتلبية نداء صاحب الحق، إمام الخلق، سلام الله عليه، إذ فرض على نفسه القيام بحفظ الإخوان، الذي به اكتمال الإيمان، ولمّا كانت أصول المحافظة ستّة، وهي، محبَّة الإخوان، ومعونتهم، وإسداء الحسنات إليهم، وإفادتهم، والإصلاح بينهم، وقضاء حاجتهم، ولمّا كان القيام بهذه الفريضة، وما يتبعها من الفرائض الدينية التوحيدية، أصولها وفروعها، يقتضي التعاون الدائم بين الإخوان في جميع أمورهم، ويحتاج إلى معرفة الغاية الشريفة نادى رحمه الله إخوانه للاجتماع العام في الزيارات، ودعاهم للمذاكرة في دين الله ومعرفة الواجبات، والنهوض بالأمر والنهي لتحقيق المُفترضات.
وكان يريدها حسب نيّاته، المخلصة لوجه الله خالية من المقاصد السياسيَّة الدنيوية، مُقتصرة على الفوائد الدينية والعقلية ليرتقي بها الجمهور في المعارج التوحيدية، ويستنير بنورها في سبيله الروحاني بغير تكليف من الإخوان بنصرة أخيه الضعيف، ويسيران معاً في طريق الحق والنهج القويم، عملاً بالواجب المفروض وأملاً بعفو المولى الرحيم، وقد قيل، للمؤمن على أخيه المؤمن ثلاثون حقّاً، منها، إنّه يريد سلامته، ويُحسن مودَّته ويُديم نصيحته، ويقبل معذرته، ويقيل عثرته، ويستر عورته، ويحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويرشده إلى ضالَّته، ويواليه، ولا يعاديه، ويحبّ له الخير كما يحبّه لنفسه، ويكره له الشرّ كما يكرهه لنفسه، رحم الله من عرف حقّ أخيه، ونهض لأدائه بإخلاص تام كما عرفه وأدَّاه دون أن يتلهَّى الإخوان بالولائم، إذ على الإنسان أن يأخذ ما يكفيه من الزاد، ثم ينصرف للإفادة والاستفادة الحقيقية، فذلك خيرٌ وأبقى، إذ قال تَعَالى (قد أفلح من تزكَّى، وأنْ لَيْسَ للإنسان إلّا ما سعى، وأنَّ سعيه سوف يُرى).

الزيارات السّنوية وتعدُّدُها ومواعيدُها

 

تقرّر تعدُّد الزيارات الدينية العامة كلّ سنة، مثل زيارة النبي شعيب عليه السلام في فلسطين، وجعل ميعادها في شهر نيسان، كما جعل ميعاد زيارة النبي أيوب (ع) في أواخر الصيف، وزيارة المقام الشريف (ع) في شمليخ في فصل الخريف، فيما بعد ثلاث زيارات، الأولى، لمقام النبي هابيل(ع) في جبل قاسيون بسوريا، والثانية لمقام سيدنا الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي قدّس الله روحه (في عبيه) والثالثة، لخلوات البيّاضة الزاهرة، وكان الإقبال في تلك الزيارات شديداً.

مرحلةُ الشيخوخة وتركُه الدنيا وإقبالُه على الله بالكليَّة

 

قال أفلاطون الحكيم سلام الله عليه، في الإنسان، عقل، وهوى، وعفَّة، وشهوة، فالعقل ينهى الهوى، والهوى يقاتل العقل، والعفّة تنهى الشهوة، والشهوة تقاتل العفّة، والإنسان، مُسلَّط على مشيئته، فمن نصر العقل والعفة، على الهوى والشهوة، فقد أدرك الوطَر، وسَلِم من الخطر، ورقي إلى رتبة الإنسان، وظفر من الله بأمان وهذا هو الجهاد الأكبر، وبدا واضحاً بأن المرحوم الشيخ أبو حسين قد أمدَّه الله بمعونته، وأنار عقله بمعرفته، ووفَّقه لارتقاء الدرجات في طاعته، إذ استعمل في جميع أعماله العفَّة وَسَارَ في سبيلها، وملك بقوة إرادته زمام الشهوة فاضعف تأثيرها، وأخضع لمشيئته ببالغ عزيمته رغبته وهواه، وأوجب عليهما الانصياع، لِما أمر به العقل ونهى عنه، ولم يزل في رياضة نفسه الأبيَّة، وفطمها عن كثير من الملاذِّ الحسِّية، لتستزيد من صفاءِ النورانية، وقد أراد لمحض تقواه، التعفُّف عن الفضول، واكتفى في غذاء جسده بالضّروريات.

إذ قال تعالى «وأمَّا من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى» وقال الشاعر:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
وكلُّ نعيـــمٍ لا مـحـــــــالــــة زائِـــــــــلُ
وكلُّ امرئٍ يوماً سيعلمُ سـعيَـــــه
إذا كُشفت عند الإلهِ الحصائلُ

كان في أثناء كهولته وشبابه نادر المثال في ثباته، في كل أمرٍ تولّاه، في دينه ودنياه، وقد لبث على هذه الحال أكثر أيام شيخوخته، عاملاً نشيطاً ينسجُ في مهنته، عاكفاً على طاعة الله وعبادته، والإخوان الأطهار يتبارون في التشبه والاقتداء بورعه، وتقواه، ويتسابقون للتبرّك بكسوة أبدانهم ممَّا صنعته يداه.

ومن أقواله لولده حسين:
المرحوم الشيخ ابو حسين محمود فرج

 

«يجب على الإنسان أن يترك الدنيا قبل أن تتركه، ويتزوّد منها لآخرته قبل أن تُقْبِلَ عليه المنيَّة وتدركه، فقد صار عندي الآن فوق الثمانين، ومرَّ أمامي من العِظات والعِبَر ما فيه كفاية لكل موحِّدٍ ذي دين». وعندها تذكّر مُعتبراً الراحلين من إخوانه وَخُلاَّنِهِ الثُقات الصالحين وقد صدق من قال:

الــمــوْتُ أفْــنَــى مَــنْ مَضَــى
وَالــمــوْتُ يُفْني مَنْ بَقِي
وَالقبـــــــــر مَثْوًى جَامــــــــــعٌ
بَيْـــــــنَ المُنَعَّمِ وَالشّــــــــَقِي
يَا مُسْرِفًا فيمــــــا مَضَى
كُــنْ مُــحْسِنًا فِيمـــــــا بَقي
العِــــــــــزُّ فَـــــــــــــانٍ زَائـــــــــــِلٌ
وَنِعْــــــــمَ عُــقْـــــــبَى المُتَّقي

ولمّا كان المرحوم الشيخ لا يقول قولاً باللسان، إلّا بعد أن يعقد عليه ضميره والجنان، عازماً على إخراجه إلى الفعل والعيان، عندئذ، أقبل على ما في يده من مال، جمعه بجدّهِ ونشاطهِ من الرزق الحلال، فَوزّع منه الصدقات، وبذل الحسنات، وأقرض بقيته لذوي الحاجات، وانسلخ مُختاراً عن دنياه، مقبلاً على طاعة مولاه، جبّار الأرض والسماوات، وَجَعَلَ دأبه تلاوة الكتاب العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ولسانه لا يفتُر إلّا قليلاً عن التسبيح والتقديس لله الواحد القهار، ودام على هذا النمط الشريف بقية عمره.
وقصده بذلك واضح وجلي نلخصه:
تهذيب الأخلاق واستشعار الخلّاق، والاهتمام الكلِّي في إصلاح النفس الجوهرية الخالدة، والانصراف التام عن الأعراض الزائلة البائدة، لأن المعرفة الحقيقية تفرض على صاحبها الإدبار بقلبه عن هذه الدنيا الدنيّة، والإقبال بكليَّة جهده على طلب الآخرة الأبدية، قال تعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للَّذين لا يريدون علوَّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمُتَّقين».

وَفَاتُهُ رَحِمَهُ الله

 

ولم تزل الأيام تمرُّ مسرعةً، تُدْني، بسيرِها الآجال، وتفني الأجيال، وتُظهر الحكمة والعظمة والقدرة لله العلي المتعال، إلى أن حضر اليوم الذي أراد الوادع الحكيم أن يستردَّ فيه وديعته، وذلك نهار الاثنين الواقع فيه 17 ربيع – الأول سنة (1373) للهجرة الموافق (23) تشرين الثاني سنة (1953) للميلاد.

في مُلحق أُضيف لسيرة سيّدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج الفاضلة يذكرُ حفيده المرحوم الشّيخ أبو عفيف محمد فرج مجموعة من مناقبه أُثْبِتَت على أَلسُن مُعاصريه.

تدقيقُه في اللّفظ الصَّادِرِ عنهُ والوارد إليه

امتاز سَيّدُنَا الشَّيخُ عَلَى أهْلِ عصْرهِ بدقة لفظه وبالغ صِدْقِه بما لا صارَ بمثْلِهَا من سِواهُ، ولا لاقَ لِمَنْ حاول تقليدَهُ، بل غدا مَضَرِبًا للمِثَالِ، حتى عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ وَعِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُ أو يسمعُ بهِ من الطوائفِ الأخرى.
اقتصرنا على تقديم أمثلة يُنتَفع بها وتدُلُّ على غيرها.
مرّةً قصد أحد الإخوان أن يُطعِمَهُ بُرتُقَالَةً قائلاً لهُ « قشِّرْ ها الليمونة « فقشّرها وأرجعها لهُ. فأوضح لهُ الأخُ أنَّ قصْدَهُ ليقشِّرَها ويأكُلَهَا. فأجابهُ مُذَكِّرًا: « قلْتِلّي قَشِّرْها…»
فنراهُ لا يُرَخِّصُ لنفسه بما يُسْتَدَلُّ عليه من مقاصِدِ الغيرِ مَا لَمْ توضَع هذه المقاصد في قوالِبِهَا وَيَتَّضِحُ ظَاهِرُهَا عَلَى الكمالِ. بينما نَرَاهُ يقومُ بتأديةِ ما هَجَسَ في قلبِهِ وَنَوَاهُ، وَلَوْ لَم تَتَبَلْوَرْ خَلَجاتُهُ عبر الأقوال. فإذاً، ما كان منه للغير حقَّقه وأدَّاهُ مُتبنِّيًا السِّرَّ وَالْمَعْنَى، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْغَيْرَ تَلَقَّاه بِحَسَبِ وُضُوحِ اللَّفظِ والمبْنَى.
وفي أحد الأحاييْنِ كانَ مَارًّا على طريقٍ، دَعَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى تَنَاوُلِ تِيْنٍ كانَ يحمِلُهُ مَعَهُ في سَلَّةٍ. فَسَاَلَ رَحِمَهُ اللهُ إنْ كَانَ التِّيْنُ لهُ فأَجَابَ إنَّهُ لِبَيْتِ عَمِّهِ. فَلَمْ يَتَنَاوَلْ شيئًا مِنْ ذَلِكَ.

نُبَذٌ مِن وَرَعِهِ

كانَ لأُسرةٍ من آل الخازن من نصارى بلدة «اعْبيه» مَمَرٌّ إلى منزلهم في جَلٍّ في أحد الأملاك التي يحقّ لسيدنا المرحوم استثمارُها وفي إحدى مواسِمِ زرْعِ القمح كلَّف مَنْ يَعْرِفُ حدودَ الأرض ليقوم بزرعها. وعندما آن حصادُها رأى أنَّ الجَلّ قد زُرِع بكامله ولم يُستثْنَ الممرُّ. أوْقَفَ الشيخُ الحَصاد ريثما يواجه صاحبة المنزل، التي كان قد مَاتَ زوجُهَا وكانوا يقطنون غالب وقتهم في المدينة. فطلب إلى شقيقته التي كانت تسكن بجوار منزلها أن تُعْلِمهُ حَال حضورها. وفي يوم من أيَّام الآحادِ أتَتِ المرَأةُ إلى البلدةِ، فواجَهها مع شقيقتهِ وطلب إليها أن تحصُدَ من الجلّ المساحة التي تختارُها، فأبَتْ بادِئَ الأمر كونَهَا لم تُساهم في كُلفةِ الزَّرع. أصرَّ المرحوم على ذلك طالباً من شقيقتِهِ إقناعَهَا وإلّا فسيترُكُ حَصَادَ الجَلِّ بكامِلِهِ. وبعد الحوار رَضَخَتْ السيّدة للأمر الواقع، وصارت تُخْبِرُ العديد من معارفها وأصدقاءهَا، وهي مُعَجَبةٌ وذاهِلةٌ من معامَلتِهِ.
وكان فَلاَّحٌ مِنَ الإخوان يحرُثُ لِسَيِّدِنَا المرحوم حقلَهُ وبرفقتهِ ولدُهُ القاصرُ. عندما حان وقت الغداء أتى الولدُ ببعض ما قطفه من الفول الأخضر من ذلك الحقل، ووضعه أمامهمْ وَدَعَاهُم للأكل مِنْهُ، وصارَ ووالدهُ يُطَمْئِنانِ سيِّدنا المرحوم أنَّ الفول من حقله. لم يكن معه رحمهُ الله سوى الزيتونِ والخبز، فأبى ذلك. وذهب وقطفَ من هذا الصِّنفِ بيدِهِ الطاهرةِ الكريمةِ ليضيفَهُ إلى طَعَامه ودعاهُما إليهِ مُجدَّدًا، ولم يسمح لنفسهِ العفيفةِ تناوُلَ شيءٍ من الفول المقطوفِ دونَ علم صاحبه واستئذانِهِ ولو كان هو الصاحب بالذَّات، مُعتبراً أنَّ الوسيلة التي استُعْمِلَتْ في قطفِ الفول مُنَافيةً للحقِّ والدِّينِ.. ويكون بهذا التعامل قد أعطى درْسًا غير مُباشرٍ بكيفيّة سلوك الطريق السليم الدَّاعيةِ لبراءَةِ الذِّمَّة وإثباتِ الحلال.

لُطفُهُ في التَّعليم

وبينما كان رحمُهُ الله سائراً مع جملةٍ من الإخوان، مَرُّوا بمكان حوى الكثير من الأشجار المقطوعة للاحْتطاب. فقال أحدُهُمْ: «يَا بارَك الله، ها الحطب كلوُّ سنديان»، فسمعه سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ وأشار بعصاه إلى حطبةٍ وسأله بتأنٍّ وَهُدُوءٍ: «شُوْ هَيْ»؟ فأجابَ الأخ «مَلوُّلْ»، وَبَعْدَ قليلٍ، وهُم في سيرهم دَلَّ إلى أخرى وسألَهُ: «شُوْ هَيْ»؟ فأجاب: «بُطْم» وكان هذا الأخ يرويها عن نفسه ويقول، بنبرته القوية: «وبَسْ»…. يعني، كانت هذه ملاحظة المرحوم ليس إلّا.
هكذا كانت اشاراته وملاحظاته رَحِمَهُ اللهُ بلطافةٍ وخفةٍ ولباقةٍ… كانت أشبهَ بالإيماء منها إلى التّصريح، لأنّ قصده بالتعليم لم يكن لأجلِ الانتقاد وإظهار المعرفة، بل كان بإخوانه رفيقاً وعليهم شفيقاً.

أمَّا في دقّةِ إشارته وحسن معاملتهِ، التي تُنْبِئُ عنْ لطافَةِ جوهريَّته، وسلامة نهجه، نسمع أنَّهُ حصل بين اثنين من الإخوان خلافٌ على أمرٍ ما، ذهب بعده أحدُهُمَا إلى منزل سَيِّدِنَا الشيخ مُشتكيًا ومُبَرِّئًا نفسَه ليثبتَ تعدِّي الآخر. وبعد مُدّةٍ اتّفق أن طرق مسامع بعض الإخوان هذا النَّبأ. فقصد إلى الأخ المُشتكىَ عليه وأخبرَهُ بما عَلِمَ، وَحَثَّهُ عَلىَ توضيح حَقِيْقَةِ الأمْرِ لشيخنا البصير رَحِمَهُ اللهُ، ورافقه هو أيضاً على هذه النيّة. بعد وصولهما بقليل طلب سيِّدنا المرحوم مِنْ هذا الأخ أن يقرأ له بعضَ وصايا لُقْمان الحكيم سلام اللهِ عليهِ، وكان رحمهُ اللهُ في سِنٍّ مُتَقَدِّمٍ وقد تأخَّرَتْ صِحَّتُهُ بعض الشّيءِ، فجلس مُتَّكِئًا يصغي إصغاءَ الأَلِبَّاءِ فما أن وصل الأخ في قراءته إلى القولِ: «يا بُنَيَّ، مَنْ عاملك بالقبيح فعامِلْهُ بالمليْح وكُلٌّ يلقى عملَه» حتَّى استَقَامَ مُسْتَقِيْمُ السَّجَايَا والْفَعَالِ، في جلسته وطلب منهُ إعادةَ قراءتِها، فأعَادَها، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: «يا خَيّي؛ مَا قَالْ مَنْ عَامَلَك بالقبيح فاصْبِرْ عَلَيْهِ واكتفى، بل قال عامِلْه بالْمَليح» وَكَانَ هذا التَّوضيحُ قَبَسًا عانقَ سلامةَ طَوْيَّةِ هذا الأخ الذي اكتفَى بِمَا سَمِعَ طَارِحًا إلْحَاحَ رُفَقَائِهِ في تَبْرِيرِ مَوْقفه.

يضاف الى ذلك، حرصُه على تأدية الفرائض وتمسُّكُه بما رسم السّلف الصالح، وموافقته لقضاء باريه والحقّ أحقّ أن يُتّبع. وامتناعه عن دخول الأماكن المحظورة، وابتعاده عن السياسة، وتساويه بإخوانه، ويريد لإخوانه كما يريد لنفسه واهتمامه بجمع الشمل وإحلال الصّفاء.

بعض الخصال

وكان رَحِمَه الله يريد الخير لإخوانه كما يريده لنفسه، ويلاحظ أحوالهم بالعناية والرعاية وَيُسْهِمُهُمْ بما قسم له المَولى من دينٍ ودُنيا. وإذا زاره إخوانٌ له، على غير ترقُّبٍ، من قرى بعيدة كـ «راشيّا وحاصبيّا مثلاً» أو من خارج البلاد، ولم يساعده الوقت على إنفاذ دعوة لبعض من يرغب حضورهم حتى يَحْضُر ويبصر المشايخ، كان يخصُّهم مع ضيوفه بزيارات تعوّض عليهم الحرمان. ومن عاداته رَحِمَهُ اللهُ أنّه كان يحافظ أشدّ المحافظة على توحيد الكلمة، ولَمِّ الشملِ، وحلول الصَّفاء في القلوب، قبل أن يُداخِلَهَا الكدرُ. وإذا أحسَّ بعكوراتٍ عند إخوانه يحاول إزالتها تمامًا، بأيَّةِ وسيلة، لتبقى النفوس قابلة لآثار العقل. وإذا تعرَّضَ الدّين لأيَّة مخالفة كان رحمه الله بلطافة معاملتِهِ، وصادق طَوِيَّته، وإخلاص محبَّته، وواسع حلمه وشفقته، يلقي عليه الملاحظة، والقصاص والمحاسبة، بمهابةٍ الوالد الصارم وهدْهَدَةِ الأمِّ الحنون، فتتمُّ المنفعة وينتشر شذاها، وتنطفئُ الفتنةُ ويندثِرُ أذاها. وكان رَحِمَهُ اللهُ طيّبًا حاذِقًا في وصف الدواءِ، وعالمًا ماهرًا في معرفة الأدواء، ومراقباً باسلاً في دفع السيِّئاتِ، لا يحسُدُ الأخيارَ، ولا يعيبُ الأشرارَ، رضَاهُ في الباطِل، ولا يُخرجُهُ غضبهُ -إذا غضبَ- عَن الحقِّ، مُطاوعًا لإخوانِهِ، غيرَ مُعْتمد على التَّفرُّد برأيِهِ وتبيَانِهِ قَالِيًا للمنازعاتِ، جاليًا للغيوم التّهماتِ، مُذْعِنًا للحَقِّ أينما كان موطِّدًا لهُ بالدلائلِ والبُرْهَانِ، مُتَرَفِعًّا عن الميل لأقرانٍ دُونَ أقرانٍ، مُحاسِبًا نفسَهُ قَبْلَ أنْ يُحاسَبَ، مُؤَدِّيًا الأمانة قبل أن يُطالَبَ، خاشِعًا لأمرِ مَوْلاهُ قبْلَ أنْ يُعَاتَبَ، طائعاً لهُ فَلَمْ يُغَالَبْ.

إنَّ النصّ المنشور في العدد السابق لمجلّة «» (كانون الثاني 2020) تحت عنوان: «الشيخ العلَم الورع الديَّان أبو حسين محمود فرج»، فضلا عن الجزء الثاني المنشور في العدد الحالي هما في الأصل مُنتخَبان من كتاب «الشَّيخ أبو حسين محمود فرج، سيرته الفاضلة» الصادر في طبعته الأولى في عبيه، عام 1956 م. وفي طبعة ثانية مزيدة عام 1982 م. وكان قد كتبه نجلُه الشيخ المرحوم أبو محمّد حسين فرج. وإضافة حفيده المرحوم الشيخ أبو عفيف محمد فرج.

والنيَّةُ أن يتمَّ إلحاق هذا الموضُوع بسيرةِ مشايخ أفاضل ممن رافقوا الشيخ الكريم، وذلك في إطار استحضار صفحات من تراث أثيل شريف في آداب الدِّين ومسالكه.

.

.

الشّيخ العَلَم الوَرِع الديّان، أبو حسين محمود فرج

مولده

وُلِدَ سيدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، في بلدة (اعْبَيْه) من شحّار غرب لبنان، في شهر شوّال سنة ألف ومئتين واثنتين وثمانين (1282) للهجرة، من أبوين كريمين.

نَشأَتُهُ
المرحوم الشيخ ابو حسين محمود فرج

نشأ رحمه الله في رعاية أبويه عزيزاً مُكرّماً، وكان ذلك في أوائل عهد النهضة العلمية في لبنان، فتلقّى العلوم الابتدائية البسيطة، وحينما بلغ سنَّ الرّشد ظهرت عليه دلائل الورع والاجتهاد في البحث عن مناقب أولياء الله الصالحين، وطرائق أهل الفضل من الزهَّاد والعبَّاد الورعين، فجدَّ في استقصاء أخبارهم وتتبّع خططهم الشريفة، وكان أكثر تردّده في بداية أمره إلى بلدة بَيْصور، حيث يرى فيها ضالته المنشودة، من إخوانٍ له كثيرين أتقياء مؤمنين، وعلى رأسهم شيخ مشايخ ذلك الزمان في جبل لبنان، المرحوم الشيخ أبو علي اسماعيل حسيكة ملاعب.

وكان من جملة الواردين إليه شابّان ناهضان، هُما الشيخ أبو فارس محمود عبد الخالق من بلدة مجدل بعنا في الجُرد _ والشيخ أبو محمّد رشيد عيد، من بلدة بشامون في الغرب _ والشيخ أبو حسين محمود فرج ثالثهم.

وقد عَلِم رضي الله عنه وتحقّق، وأيقن وصدَّق، أن بلوغ الغاية والمُراد والفوز في دار المعاد، هو بامتثال الأوامر والنواهي الدينية، والنهوض التام في شطريها اللّذين هما الاكتساب، والاجتناب، وكان في كليهما من السابقين حقًّا.

وقال بعض الحكماء: الكمال في أربعة “رصانة العقل، وحسن الخلق، وسخاء النفس، وقمع الشهوة” وقد كانت هذه الفضائل والأوصاف من بعض مزاياه، التي خصّه بها مولاه، وتميّز بها وبأمثالها عن سواه.

منها مَيْزُ كلامِه، وصيانة لسانه دائم الأوقات، مع الصّدق التام في كل الحالات، وتجنّب الحرام والشّبهات، فكانت هذه الخصال الثلاث في بداية أمره، من الدلائل الواضحة، والبراهين الساطعة، على سمو فضله وصحة فضيلته، وعلو مقامه في الدين.

وكان رحمه الله، على مبالغته في تجنب الحرام شديد الحذر من الانسياق في شططه، ولطالما قال بتلهُّف وتوجُّع: إنّ بعض أهل الورع والخوف ممَّن سلف، كانوا يتركون اثنين وسبعين باباً من الحلال، مخافة دخول باب من الحرام.

ويردِّد مُستحسِناً قول لقمان الحكيم لابنه ثاران يا بني، من عاملك بالقبيح، عامله أنت بالمليح، وكلّ يلقى عمله.

ومن خصائصه المشهورة، التي أثبتت فضله، وشهرَت أمره، ورفَعَتْ منزلته منذ بداية أمره، حتى نهاية عمره، طول صمته وأناته، وصدق لسانه وطهارة جنانه، وحسن نيّته، وقلَّة كلامه، إلّا فيما يعنيه ويلازمه في الإفادة والاستفادة، بِرَوِيَّة فائقة، وحكمة بالغة، قال تعالى في كتابه العزيز (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة، فقد أوتي خيراً كثيراً) وقال بعض الحكماء: أعقِل لسانك إلّا عن حقٍّ تُوَضّحه، أو باطل تدحضُه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تشكرها. وقيل: ما خلق الله شيئاً أحقّ بالسجن من اللِّسان، وسجنه طول صمته عن الكلام، إلَّا فيما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بميزان الحكمة والعدل، وهو أنّ الكلام أربعة أقسام، قسمٌ هو ضررٌ مَحض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة، أمّا الذي هو ضرر محض، فلا بدَّ من السكوت عنه. وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة، لا تفي المنفعة بالضرر. وأمّا الذي لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول، والاشتغال فيه تضييع زمان، وهو عين الخسران. فلا يبقى إلّا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام، وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر. وقيل: على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مُقبلاً على شأنه، حافظاً لِلسانه، ومَن عَلِمَ أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه.

ويمكنني القول: إنّ المرحوم لم يَعِدْ وعداً في حياته كلِّها إلّا وفى به، ولا عاهد عهداً إلّا قام بموجبه، ولا قال قولاً صادراً عن نفسه الطاهرة، أو نقلاً عن غيره إلّا صدق فيه، اللَّهم إلّا أن يقع سهو، وَجلَّ من لا ينسى ولا يسهو….

عملُه وزواجُه

تعلَّم المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج صنعة الحياكة على كِبَر وصار ينسج العباءات على أنواعها والبُسْط، فكانت هذه الصّنعة بتوفيق الله، أساساً لعمران البيت، وسبباً للاتصال والتعارف بينه وبين إخوانه مشايخ الدين، في المناطق اللبنانية عامة، ووادي التَّيْم والإقليم وفلسطين، وكان يعمل جادّاً في صنعته هذه، دون كلل أو ملل.

ولمّا بلغ من العمر ما يُقارب الثلاثين سنة، فكّر في أمر الزواج، سنّة الله في خلقه، على أن يأتي بقرينة صالحة تكون عوناً له في دينه ودنياه، وكان رحمه الله يقول، نقلاً عن شيخنا الجليل الفاضل المفضال، المرحوم الشيخ أبي محمّد صالح الجرَماني: “إنّ المرأة سترة للرجل، وأعمال الخير كثيرة. يعني بهذا إنَّ الرجل المُخلص في عمله، الساهر على صيانة نفسه، يتمكن من القيام بفرائض دينه، وامرأته في بيته تشاركه في أعماله وفي وجودها سترة لبعلها، ويتمُّ بذلك النظام الطبيعي الإلهي..

وحينما أراد الله سبحانه وتَعَالىَ توفيقه، سهّل في ذلك طريقه، فكانت الواسطة والهداية على يد الشيخ أبي محمّد علي نصّار من بَيصور، إذ كانت والدة المرحوم المُشار اليه، من بلدة معاصر الشوف، وكان لخاله هناك ابنة في سن الزواج تُدعى زهيّة، وهي ابنة المرحوم الشيخ أبي محمّد محمود سلمان فياض.

وقد ابتدأا حياتهما الأولى، في اجتهاد دائم مُقيم، واقتصاد حكيم، مع حسن تدبير، وأضاف المرحوم إلى شغله في النسيج أعمالاً أُخرى زراعية، مثل تربية دود القز، وهو موسم الحرير المشهور في لبنان، وقد كان من أعظم موارده ومحصولاته فيما مضى، وأخذا زيتوناً بالأمانة، يجمعان ثمره ويعصرانه، ويأخذان سهماً منه لقاء أتعابهما، فكان لشدة ورَعه، وخوفه على نفسه، أثناء جمع ثمر الزيتون، لا يتناول طعامه إلّا بعد أن يغسل يديه، كي لا يبقى أثرٌ لزيت الزيتون عليهما، وغير ذلك من الأعمال لبراءة ذمته.

وعلى النهج القويم استمرَّ سائراً مدَّة حياته، في سائر معاملاته، في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والقرض والوفاء، مُدَقِّقاً على نفسه في القطعة والدرهم، وقد تسهَّلت بعونه تعالى وحسن نيّته أشغاله، وبارك الله له في جميع أعماله، فغدت حركاته الشريفة دائماً موفَّقة وآراؤه بالخير والتسديد مُحقّقة، كما قال سيدنا الأمير قدَّس المولى روحه “العبد إذا كمَّل صفاه وأتمَّ تقواه وجرَّد قواه، واستعبد هواه، واستصحب في جميع أحوالهِ معرفة مولاه، وتوسَّل إليه بهادي الهُداة، وكان عقله الصافي أكمل سجاياه، واستعان بالله في كل ما يتوخَّاه، فلا شكّ في توفيقه في دنياه وأخراه”.

المرحوم الشيخ ابو فارس محمود عبد الخالق
مأكلُه ومشربُه

ان رحمه الله يقول، إنَّ النظام العادل التام، للأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في طعامهم وشرابهم، الترفُّع عن ثقل الشّبع، وعن ألَم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم، والنَّسج على منوالهم جُهد الاستطاعة مع العلم والتحقيق إنَّ الغذاء بمثابة الدواء، يجب أن يُحدَّد مقداره، ويُتناوَل في أوقاته، بعد ِّ المَعدة من فضَلاته، لكي تحصل بتناوله المُقنَّن المنفعة المتوخاة، من دوام الصحة، واتّقاء المضرَّة.

فبسلامة الجسم ونشاطه، يستمرّ الإنسان في العمل والخدمة، والشّكر لله الرازق الحكيم، ويكون لصاحبه صفة القادر الآمر، في سلوك النَّهج القويم، بحيث إنَّ العقل السليم، لا يكون إلَّا في الجسم السليم، ومن بعض ما أورده السيد الأمير(ق)، ورسَمه في تناول الطعام والشراب وحدَّده، قوله: “ينبغي للإنسان أن لا يأكل في نهاره وليله، سوى أكلتين، وأن يترك المائدة وعنده بقية من شهوة الطعام، وأن لا يشرب الماء وقت الأكل أو عقبه تماماً، والأحسن أن يكون الشرب بعد الأكل بساعة أو ساعتين، وأن لا يستوفي الشُّرب، بل يتركه ونفسه قابلته، وحكمه في ذلك مثل حكم الأكل، وإن كان للإنسان عادة في كليهما يشقُّ قطعها عليه أن يقطعها بالتدريج، فأحسن الأحوال الاعتدال، فلا شَبع ولا جوع.

ومن آدابه رحمه الله، أمام الرازق العظيم، في أثناء تناوله الطعام والشراب، دوام ذكره، وأداء حمده وشكره، قال السيد الأمير(ق)، “إذا شَرَعَ الإنسان في الأكل، فليعلم أنه ضيفُ الله، لأنّه تَعَالىَ وتقدَّس الذي يُطعم ولا يُطعَم، فليُسمِّه في الابتداء، وَيَحمَدْهُ في الانتهاء وإن استطاع فليفعل في كلِّ لقمة، وليعرف نعمة الله عليه في كلِّ حال”.

كان المرحوم الشيخ أبو حسين رضي الله عنه، لا يضع في فمه لقمة من طعام، ولا جُرعة من ماء، ولا ثمرة واحدة من جميع الثمر، حتى يذكر اسمه العزيز، قائلاً بلفظ صريح في كلِّ مرة: (بسم الله الرحمن الرحيم) ومن عادته في موسم الفواكه أن لا يأكل العنب، إلّا حبّة، حبّة، ويذكر البسملة عند تناوله كلّ حبة، والغاية من ذلك دوام المراقبة، والإ كثار من ذكر من له الحمد المُقيم، والشُّكر العظيم، كيلا يُنسيه ولا يُلهيه، شيء من شهوات الجسد في جميع الأحوال، عن استشعار وجود المُنعم الخلاَّق، ولزوم الأدب أمامه وتهذيب الأخلاق، لأنَّ الواجب على المُوَحّد العارف أن يُجرِّد المحبة لله تعالى وتقدَّس، ويُخلص العبودية له، ويلازم النظر إليه، والاعتصام بحبله، وأن لا يَسْكُنَ إلّا إليه، ولا يأنسَ إلَّا به، ولا يتقوَّى إلَّا بمعونته، ولا يُؤثر غيرهُ عليه، فيصير هو بعينه، لفرط الاتِّصال به، والتقرُّب إليه، عقلاً خالصاً، وحقَّاً محضاً، وروحاً صافياً، ونوراً إلهياً، وذلك هو الكمال الحقيقي المجوهر الأنسي.

اكتمالُ بدرِه، ودوامُ سؤدُدِه ونَصْرِه

في الحديث النبوي، “أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل” وكان رحمه الله لطيب عنصره، وعظيم صبره، وشدّة عزمه، وطهارة نفسه، كالفضّة الصافية، التي كُلما زادتها النار حَمَّاً، زادتها جوهراً وصفاءً وكان كلما زاده الزمان امتحاناً، ازداد في نفسه يقيناً وإيماناً. بعد كل هذا وصل راقياً بنفسه العفيفة، إلى الرتبة الشريفة، التي هي رتبة الإنسان كما وصفها وعيَّنها سيدنا الأمير(ق)، قائلاً: “ومَن منحه الله القبول والترقِّي والعروج إلى حد الإنسانية، كان من ثمرة أفعاله العقل، والسكون، والرّصانة، والرّجحان، والعفاف، والصيانة، والنزاهة، والنظافة، والطاعة، والطهارة، ومكارم الأخلاق، والزّهد في المطالب الدنيوية، والخوف من الله، والمراقبة له، والثبات على الأوامر، والتزام ترك النواهي، والصبر والاحتمال، والإغضاء عن بلوغ الأغراض، والانصراف بكليَّة الجهد في التطلّع إلى العلوم البسيطة، والتَّلَمُّح من إشارات مضمون معانيها، والمبالغة في العمل بأوامرها، والانتهاء بنواهيها، والبحث والاستكشاف عن أصول مبانيها، القائمة بالفروض الواجبات، والسُّنن المشروعات، إلى أن قال، فهذه درجة الإنسان، التي تبعها السلف الصالح من أهل الفضل والتَّبيان”.

وقد اقتضت الحكمة الربانية، ما ورد ذكره في النصوص الجوهرية، وهو: إنّ الدار لا تخلو من الفاضل، لتثبت به الحجّة على العالم والجاهل، فلمّا اكتملت في جوهره الشريف الأوصاف الإنسانية، وتفرَّد بنفسه حاملاً لواء الفضائل والمحامد الدينية وظهرت عليه هذه الآثار الحميدة، والآراء السديدة، والطريقة الرشيدة، بانت له الفضيلة والمزيَّة على الاقران، في جميع الأصقاع التي توطّنها المعروفيّون، لأنَّ المقامات تعلو بأهلها، والفضائل تشير إلى أصحابها، عندئذ أجمع المخلصون على اختلاف درجاتهم، واتفق المنصفون من سادة العصر وأعيان البلاد، على الاعتراف له بالفضيلة، والرتبة الجليلة، فجعلوه لمحض تقواه، ومراقبة مولاه، وتجرده عن هواه، في سره ونجواه إمامهم المطاع، ومرجعهم الأعلى ورمزهم الأسمى في السبيل الروحاني دون نزاع، وغدا موضع ثقتهم الوحيد، لمسلكه الدقيق الفريد، فأصبح منزله محطّ رحال الإخوان، أهل الفضل والتصديق والإيقان، من قاصٍ ودانٍ، ولطالما سعى الكثيرون من الناس شوقاً لرؤيته والتماس بركته، والتَّفكُّه بمحادثته، واقتباس إفادته، من لفظه العذب الموزون وحميد سيرته، ولطالما جاءه الكثيرون: شاكين: مُتظلّمين: وبه مستعينين ومستنصرين.

فكانت نيّته الصادقة، مصروفة دائماً إلى لمّ شمل إخوان الدين، والإصلاح العام التام بين الموحدين، ليكونوا قائمين على نفوسهم بقسطاس الحقّ والعدل، معروفين لدى الجميع بالإحسان والفضل، مُترفّعين عن الانغماس في الشّبهات والحرام، مقتصرين على طلب الحلال، لستر الحال، مع حسن الاتّكال، ولزوم الورع، وترك الطمع، والعدول عن الفساد، إلى طريق السَّداد، والصلاح والرشاد، فبهذا وأمثاله تتاجر الأبرار، في هذه الدار، وتُدَّخر الحسنات والأعمال الصالحات لدار القرار، أملاً بالرضى والعفو من الكريم الغفّار.

فضائل من سورة يوسف

المُقَدَّمَة

الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، سبحانه لا إله إلَّا هو، أحمده وأشكره، وأصلِّي على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه الطَّيِّبين.

أمّا بعد فإنَّ الله / خلق الإنسان وميَّزه بالعقل ليختار طريق الفضيلة لتوصله إلى برِّ الأمان. ولمّا كانت معرفة الفضائل والعمل بها هما الحجر الأساس في نجاح الفرد والمجتمع، والطَّريق الموصل إلى الفردوس الأعلى، كان لا بدَّ من تسليط الضّوء على الفضائل لبيان أهمِّيَّتها وتأثيراتها.

فالمَيْدان الأوسع لاقتباس هذه الفضائل وتَعلُّمِها هو القصص الواردة في الذّكر الحكيم،المعقودة بالفضائل، الزاخرة بالحِكَم والمواعظ، وفي مقدّمة ذلك ما وصفه تعالى بأحسن القَصص، فكانت كذلك، إذ احتوت على آيات بيّنات وحِكَم ومواعظ واضحات، أظهرت الفضيلة بأشكال مختلفة وظروف مُنوّعة، فكانت (الفضيلة) سيّدة الموقف في حلّ ألغاز القصّة وإعادة شمل العائلة والإخوة، والوصول بذلك المجتمع المصري القديم إلى برّ الأمان في الدّنيا والدّين.

في هذا البحث سنقوم بسرد مُختصر لقصّة نبيّ الله يوسف بن يعقوب، ثمّ نجمع ما تيسّر من فضائل وحِكم وعِبَر وردت في آيات السّورة الكريمة، فنعرّفها ونحلِّل نتائجها، مُستخلصين منها دروساً نستفيد منها في حياتنا ومجتمعنا، والله وليُّ التوفيق.

مختصر قصّة نبيّ اللّه يوسف(ع)

في أرض فلسطين عاش يوسف(ع) وأخوته الأحد عشر في كَنَف والدهم النبي يعقوب حفيد إبراهيم الخليل، وذات ليلة قصّ يوسف(ع) على أبيه رؤياه الغريبة قائلا: ﴿… يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف، 4)، نصح الأب ولده ألّا يُخْبر أخوته برؤياه خوفاً من كيدهم، ولعلمهم بمحبَّة والدهم العظيمة ليوسف(ع). إلّا أنّ الحسد الْمُكمِن في نفوس الإخوة جعلهم يتآمرون على يوسف(ع) ويأخذونه بعيداً عن أبيه ويرمونه وسط الجبِّ ويرجعون إلى أبيهم قائلين إنَّ ذئباً قد افترسه. لم تنطوِ الحيلة على الوالد المفجوع، لكنّه سلّم أمره إلى الله /صابراً خاشعا متوكّلاً.

من وحشة الجبّ إلى قصر عزيز مصر، مُكرَّماً مُعزّزاً إلى أن صار فتيَّاً حيث أنعم الله عليه بالحكمة والعلم وجمال الخلقة ما جعله فريد أهل زمانه. كانت إحدى هذه الإنعام سببا لابتلاء كبير امتحنه الله به، إذ أُعجبت امرأة العزيز ببهائه وحسن صورته، فلجأت إلى أساليب مختلفة لإغوائه والإيقاع به، لكنّه أعرض عنها مُعتصماً بالله، فكان مصيره السّجن لسنوات عديدة.

في السّجن أخذ يوسف(ع) يدعو إلى توحيد الله /، ويذمُّ عبادة ما سواه ويُصَغِّر أمر الأصنام والأوثان، فاكتسب ثقة المساجين خصوصاً بعد تفسير رؤياهم وتحقُّقها. جاءه طلبٌ من الملك بتأويل رؤيا له، فأُعجِب بما قاله يوسف(ع) وما قدّمه من خطط لتفادي كارثة طبيعيّة تَنبَّأ بوقوعها من خلال تلك الرؤيا. عندها أمر الملك بخروج يوسف(ع) من السِّجن معلنا براءته ممّا نُسب إليه، مُسَلّماً إيّاه زمام الأمور ليكون كما قال أميناً حكيماً.

أصبح يوسف(ع) ذا مكانة عالية عند الملك بعد ما رأى من براعته ونزاهته، فجعله أميناً على خزائنه مُتصرِّفاً في أمواله، ومرّت السّنون السَّبع الخِصاب وبدأت سنوات الجدْب، وعمَّ القحطُ ووصلَ بلاد كنعان (فلسطين) حيث النَّبي يعقوب(ع) وأولاده. وجاء إخوَةُ يوسف(ع) إلى الدِّيار المصرية يمتارون طعامًا، فَدخلوا عليه فَعرَفَهم وهم لَه منكِرون،فأعطاهم حِصَّتهم من الْمُؤَن واشترط عليهم أن يأتوا في المرّة القادمة مع أخيهم الصّغير. وهكذا عادوا إلى مصر مرّةً أُخرى هم وأخوهم بعد أن عاهدوا أباهم على رعايته، فأخذوا نصيبهم من الكيل وشرعوا بالعودة إلى ديارهم، فأوقفهم المأذون مُتَّهِما إيّاهم بِسَرِقة صَاع الملك، وعند تفتيش أوعيتهم وُجِد الصَّاع في مَتاع أخيهم، فبقي في مصر مُحتَجزاً.

لم يكن النبي يعقوب(ع) قد نسي ولده يوسف(ع) أو سلاه، وعندما جاء أبناؤه بخبر احتجاز أخيهم ازدادت حرقته واشتعل قلبه حزناً، وطلب من أولاده العودة إلى مصر لاقتفاء أثر ابنيه المفقودَيْن. وفور دخولهم على يوسف(ع)، بادرهم بالسؤال عن فعلتهم بأخيهم يوسف، فأدركوا على الفور أنّ الذي يخاطبهم هو يوسف، فاعترفوا بذنبهم وأقرُّوا بأنَّهم أساؤوا إليه وأخطؤوا، فغفر ذنبهم وسامحهم على فعلتهم،وأرسل في طلب أبَوَيه وأجلسهم على العرش حيث سجدوا له جميعا. وهكذا اجتمع شمل آل يعقوب بعد فراق طويل وتحقَّقت رؤيا يوسف التي رآها في البداية، إذ إنّ الأحدَ عشر كوكبا هم أخوته والشّمس والقمر هما أبواه.

إنّ الناظر في تفاصيل أحداث القصة يجد فيها الكثير من الخيرات البارزة من تصرّفات النّبيَّين الكريمَين يعقوب وابنه يوسف(ع)، ومن هنا كان لا بدّ من الإضاءة على هذه الفضائل الكريمة والسّعي إلى العمل بها، لتكون معراجاً لنا في الوصول إلى رضا الله/. وسنعتمد اسم الفضيلة ليكون عنوانا لكلّ قسم من هذا البحث، فنقوم بتعريف الفضيلة أولاً ثم نذكرها كما وردت في الآيات الكريمة، ثم نشرحها ونحلّلها مستخرجين منها ما استطعنا من دروس وعِبَر.

التَّوحيد

قال عزَّ وجل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة،163). فالتَّوحيد هو: «هو اعتقاد الوحدة لله تعالى والإقرار بها»(١)، وقيل هو: «إفراد الموحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحَدِيَّته إنَّه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل»(٢).

إنَّ التوحيد أفضل عطيّة يمنُّ بها الله تعالى على عباده الصّالحين، لأنَّ من اعتقد بوجود الله تعالى ونزّهه عن صفات الخلق والعبيد، وعمل بمواجب الأوامر والنواهي، فاز بالثّواب الأبديّ. وقد رأينا نبيَّنا يوسف موحِّداً مُصدِّقا بالله الواحد الأحد، على خُطى آبائه وأجداده، كيف لا وهو المسمّى صِدّيقاً.

تنتشر معاني التّوحيد في سورة يوسف في مواضع كثيرة منها:

 توحيد الأسماء والصّفات، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف، 6) ، وقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (يوسف، 53)، و ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف، 92). فهذه الأسماء والصفات التي ذكرها تعالى، هي بعض ممّا اثبته لنفسه ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا …﴾ (الأعراف،180)، وهو بالحقيقة منزَّهٌ عن الأسماء والصِّفات.

توحيد الالوهية: كانت دعوة يوسف إلى توحيد الإله الواحد الحقّ، وخلْع عبادة الأوثان المتعدِّدة، دلالةً على إقراره بألوهيّة الباري تعالى وأنّه واحد في ذاته لا شريك له. قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف،40)، وكذلك قوله بعد اجتماع شمل آل يعقوب: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف، 108).

توحيد الرّبوبيّة: قال تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف، 101). فكان توحيد يوسف جليَّا بأنَّه أَفْرَدَ الله سبحانه بأفعاله فهو وحده الخالق الفاطر وهو المحيي المميت.

إنّ هذه الفضيلة التي سار عليها نبي الله يوسف(ع) كانت سببا لنجاته في كلّ المواقف العصيبة، بل كان توحيده يغذِّي في نفسه الفضائل وينمّيها فتنشط به ويقوى بها. فالتّوحيد هو أصل الفضائل وجوهرها، وهو الدَّافع القويُّ الّذي عصمَ يوسف من رذيلة الفاحشة، والبلسم الشّافي له عند دخوله السّجن، حيث استأنس بخالقه تعالى، وكان سجنه فرصة استغلَّها في الدّعوة إلى التّوحيد. وباختصار يمكن القول: إنّ سورة يوسف تدور حول قضية جوهرية هي التوحيد، إذ استطاع هذا النبي المرسَل أن ينقل أهل مصر من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام إلى نور التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد.

الصِّدق

لعلّ أكثر الفضائل ارتباطاً بالنّبي يوسف هي فضيلة الصِّدق، ولأجل صدقه في جميع أقواله وأفعاله وأحواله تسمَّى صدّيقا. وفي مضمون سورة يوسف الكثير من الأحداث والعبارات التي تدلُّ على ذلك. فالصّدق هو «الإخبار عن الشّيء على ما هو عليه»(٣). وقيل هو: «استواء السّر والعلانية»، والصِّدِّيق «مَنْ صدَقَ في جميع أقواله وأفعاله وأحواله»، وعرّف بعض العلماءُ الصّدقَ بأنّه: «صحَّة التّوحيد مع القصد»، وقيل: «حقيقة الصِّدق أن تَصْدق في موطن لا ينجِّيك منه إلَّا الكذب»(٤).
فيوسف الصّدّيق، إضافة إلى قوله الصّدق في كلّ ما ينطق به، فإنّ الصّدق قد تجلّى بوضوح في رؤياه الخاصّة، وفي تفسيره لرؤيا غيره، وعندما استفتاه السّجينان عن تأويل رؤياهما قال: ﴿يَاصَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي سيِّدَه خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رأْسِهِ﴾ (يوسف،41)، وصحَّ تأويله وصدق، فنجا أحدهم وصُلِب الآخر.

ويمكننا القول إنّ تأويل الرؤيا كانت اختباراً حقيقيّاً أثبت صدقه لأنّ مُفسّري الأحلام بمعظمهم لا يَصْدُقون، إلّا أنَّ الأمر مختلف مع نبيٍّ خَصَّه الله بالعلم والمعرفة وكشف له من الغيب ما لم يكشفه لعموم البشر.

يمكن القول إنّ صدقه في تأويل رؤيا السَّجينَين شكّل نقطة مفصليّة في أحداث حياته، فحين جاءت الملك رؤيا غريبة وعجزَ الجميع عن تأويلها، تذكّره السَّجين الذي صَدّقَ تأويل يوسف في رؤياه ونجا، فأخبر الملك بأمره، وكان ما كان من استحسان الملك لتأويل يوسف، وخروجه من السّجن بعد أن أقرّت النّسوة ببراءته،
﴿… قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف،51)، فقد اعترفت بصدقه وهي التي اتّهمته بالخيانة، فخرج من السّجن عزيزاً وعلى خزائن الملِك أميناً، فصحّ قول الحكماء إنّ صِدق اللِّسان أوّل السّعادة(٥).

وبالصِّدق يكتسب المرء ثقة الآخرين، فحين اعترفت امرأة العزيز بصدقه، ازدادت ثقة الملك به وبنزاهته وملَّكه خزائنه، بعكس أخوة يوسف الذين لم يَصدُقوا فخسروا ثقة أبيهم، ولم يسمح لهم باصطحاب بنيامين معهم بعد ذلك إلّا بعد إبرام العهود عليهم حيث قال ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّه…﴾ (يوسف،66).

وكانت شهرته بالصّدق دلالة على صدق سريرته، فكما كان صادقا في أقواله وأفعاله كذلك كان صادقا مع ربّه، وهذا هو الصِّدق الحقيقي الذي تجلّى في صحَّة توحيده فأخلص لله تعالى في عباداته ومعاملاته.

الإحسان

وَرَدَ في الحديث المشهور عن الرسول محمّد(ص) في تعريف الإحسان قوله: ﴿أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراه فإن لم تكُن تراه فإنَّه يراك﴾(٦).

الإحسان فضيلة محوريَّة نجدها في سورة يوسف في غير موضع، وهي من الصّفات التي تحلّى بها الصِّدِّيق يوسف. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،56). وفي موضع آخر: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،78). وقد أمر الله تعالى بالإحسان بقوله: ﴿… وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة، 195).

والْمُحسِنُ كما ورد في تعريف الرسول(ص) هو مَن يعبُد الله ويستشعر حضوره دائم الأوقات وفي شتَّى الأحوال، وَمَن كانت هذه صفته لا يُقدِمُ على فعلٍ يغضِبُه تعالى، وقد رأينا كيف استعاذ يوسف بربّه إذ قال لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ (يوسف، 23)، قالها بنبرات المحسن المراقِب المستشعر وجود الله تعالى وهذا هو الإحسان في العبادة. ولعلَّ ما وصل إليه من فضل وعلم وعلوِّ درجة كان جزاء إحسانه، لقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف،22).

أمَّا إحسانه في المعاملة مع النّاس فقد ظهر جليًّا في قيامه بدعوة النّاس إلى التّوحيد وهو أجَلُّ طرُق الإحسان إلى الآخرين وأتمُّها نفعاً، وكان في نصيحته للملك حين أوَّل رؤياه، وفي إطعامه طالبي الرِّزق ممّن حلَّ بهم القحط والجوع، إحساناً كبيراً، ونتيجة هذا الإحسان اجتمع شمله بأهله من جديد، إذ حين ذاع صيته في البلاد إنه يُحسِن إلى من يأتيه وصل الخبر إلى أهله فجاؤوه يبتغون الميرة. ولعلَّ معاملته لأخوته أيضا أدلّ دليل على إحسانه وكرمه، فعندما كشف لهم عن هويَّته بعد غيابٍ طويلٍ ومعاناةٍ شديدةٍ كانوا هم سببها، قال لهم: ﴿…لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف،92). فهو لن يثرِّب عليهم أو يعيَّرهم بذنبهم، وبهذا القول أعطاهم الأمان ولم ينتقم منهم أو يقاصصهم على ما ارتكبوه رغم مكانته وقدرته، ثم ذكر لهم سجنه ولم يذكر الجبَّ حين قال: ﴿…إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي…﴾ (يوسف، 100)، رغم أنّ الجبَّ كان أشدّ خطرا وأكثر إيلاما له من السّجن، لكنَّه لم يذكّرهم به ونسب الشّرَّ كلَّه إلى الشَّيطان كرماً منه ودلالة على إحسانه وشهامته.

أحسن النّبيّ يوسف في عبادة الله حين استشعر قربه فابتعد عن الخطايا، وعمّ إحسانه البلاد والعباد حين بذل ما استطاع من النَّفع والخير والنَّصيحة.

النَّصيحة

كان للنَّصيحة دور فعّال في أحداث هذه القصة ومجرياتها، وقد عرفها أحدهم بأنها «الدُّعاء إلى ما فيه الصّلاح، والنّهي عمّا فيه الفساد»(٧).

وقد تجلَّت النصيحة في قصّة يوسف في مواضع مختلفة، إذ بعد رؤيا يوسف، نصح الأب ابنه بعدم الكشف عن حاله لإخوته، بقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يوسف، 5). وجاءت نصيحته هذه بعد عِلْمه بما يدور في خَلَد أولاده وما يضمرونه، فكان من الطبيعي أن يلجأ الأب الخائف على ولده إلى نصيحته كوسيلة لحمايته والذَّود عنه.

ثم كانت نصيحة يعقوب لأولاده عند خروجهم إلى مصر طلباً للكيل والمؤونة، دلالة على حرصه عليهم ومحاولةً منه لإبعاد الخطر عنهم، فقال: ﴿… يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾.(يوسف، 67). ثم نرى كيف أنَّ يوسف في سجنه يبادر إلى النّصيحة فيدعو المساجين من هذا المكان الموحش إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن الشِّرك، بقوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف،40). وإذا كانت النصيحة كما عرّفناها دعاءً إلى الصَّلاح ونهياً عن الفساد، فيكون يوسف قد ارتقى بنصيحته هذه إلى أسمى وأشرف النصائح، وهي الدَّعوة إلى التَّوحيد التي هي أعظم صلاح للإنسان، به يحقِّق سعادته في الدنيا وفوزه في الآخرة، وفي النَّهي عن الشرك يكون خلاص المرء من فسادٍ في حياته وعقابٍ يوم حسابه.

ثمّ جاءت نصيحة يوسف للملك بقوله ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف،47)، لتكون على جانب كبير من الأهميّة، إذ أنقذت مصر وجوارها من القحط الكبير الذي حلّ بالبلاد، فرغم أنّ الجوع والقحط انتشر وعمَّ الأصقاع المجاورة إلَّا أنَّ نصيحة يوسف خلّصت مصر من هذه الأزمة، بل كانت البلد المنقذ للجوار.

العفَّة

العفّة هي: «ضبط النفس عن الشَّهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته فقط، واجتناب السَّرف والتّقصير في جميع الملذات وقصد الاعتدال…»(٨).

إنَّ من يقرأ سورة يوسف يدرك أنَّ نجاته من مخالب الشّهوة والخديعة لم يكن أمراً عاديّاً بسيطاً، فلولا قدرته على ضبط النفس، واستعانته بالله، لما نجا منها مع تهيّؤ كلّ الأسباب المُسهِّلة لها: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ (يوسف،23).

تجلّت العفَّة في قصة يوسف بأبهى أشكالها، فهي حِصن يوسف الحصين الذي به خَلص من هوى النَّفس ومن الفتنة، فقد عفَّ نفسه عن إغواء امرأة العزيز حين راودته عن نفسه: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ…﴾ (يوسف،23)، ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَم…﴾ (يوسف،32)، وقد رأينا أنّ هذه المرأة صاحبة مركز وسلطة فهي زوجة الحاكم، ومكانتها هذه تجعل الجميع في خدمتها وتحت طاعتها وربَّما يتمنَّوْن قربها فلا يرفضون لها أمرا، لكنَّ يوسف لم يأبه لهذا كلّه، ولم يستجب لطلبها المخالف لأمر الله، ورغم تهديدها له بالسّجن، قَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف،33)، عرف يوسف أنّ مصيره عذاب السّجن والمرارة، إلّا أنَّه اختار السّجن على مُواقَعَة المحذور وهو الفاحشة وهوى النَّفْس، وفضَّل العذاب الحسِّي الذي مهما طال فلا بدَّ له من نهاية وآثر رضى ربّ العالمين على رضى المخلوقين.

أصبح يوسف، وبفضل نزاهته وبراءته، ذا مكانة عالية عند الملك واكتسب ثقته. صحيحٌ أنّ تفسير الرّؤيا لاقى استحساناً عند الملك فأخرجه من السّجن، إلَّا أنّ الملك كان منذ البداية على علم بنزاهة يوسف وعفَّته بدليل الشّاهد الذي عرف أنّ قميصه قد قُدَّ من دبر، ثمّ قُطِع الشّك باليقين حين طلب يوسف سؤال امرأة العزيز والنّسوة الَّلواتي قطَّعن أيديهنّ: ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف، 51)، فكانت هذه الشّهادة بعفّته وطهارته ما شدَّ ثقة الملك به، فلو لم يكن أمينا على أهل بيته، كيف له أن يُملِّكه خزائن ماله ويجعله أميناً على مملكته؟ فقد أعطاه الله الثّواب على هذه الفضيلة في دنياه قبل آخرته.

ورأينا كيف قام يوسف بتدبير الأمور حين طلب من الملك أن يولّيه إدارة المملكة، لقد كان مثالا في العفَّة والأمانة ولم يكن عليه مشرف ولا يدٌ تعلو يده فهو المتصرِّف الوحيد بالشّؤون الماليّة، وفي مثل هذه المواقع المهمّة يفشل الكثيرون عن ضبط نفوسهم خصوصاً حين تصبح الأموال تحت تصرُّفهم فنراهم يُسرِفون، لكن نبيّنا الكريم حقَّق كلَّ شروط العفَّة، فضبطَ نفسه عن الشّهوات واجتنبَ الإسراف وقصَدَ الاعتدال.

العدل

جاء في تعريف العدل: «العدل وهو القسط اللازم للاستواء وهو استعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها من غير سرَف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير»(٩).

قال تعالى ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة، 42). أمر سبحانه وتعالى بالعدل وبيَّن أنّ الحاكمَ العادلَ ينالُ محبَّةَ الله، وما بعد محبَّة الله سوى الحياة الطيِّبة في الدُّنيا والنَّعيم الأبديّ في الآخرة. ولا يقتصر فعل العدل على الحُكَّام، بل هو واجب على كلِّ انسان من موقعه. يقول في الحديث الشريف: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيّته»(١٠)، فالحاكم مسؤول عن رعيّته والمدير مسؤول عن عماله، والعمّال عن عملهم، والأهل عن أولادهم، فعلى كلّ راعٍ أن يقيم العدل في رعيّته، ولا نجاح لأيّة مسؤولية بغير العدل.

كان العدل سمةً اتَّصف بها النبي يوسف(ع) أثناء سنوات حكمه، ورأينا كيف كان عدله مُعينا له في خطَّته لاستقدام إخوته مرّة ثانية ومعهم أخيهم بنيامين حين قال لهم: ﴿أَلَاتَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ (يوسف، 59)، فلا أبخِّس النّاس أشياءهم، بل أعطيهم بحسب ما يستحقِّون، وكان يعطي لكلِّ رجل حملَ بعير، ليعدلَ بين الجميع. فأخبر أبناء يعقوب أباهم بهذا الأمر ليرسل أخاهم معهم، قالوا: ﴿نَزْدَادُ كَيْلَ بعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ (يوسف، 65)، فعادوا إلى يوسف برفقة أخيهم.
وقد ورَدت حادثةٌ أخرى بيَّنت كيف كان يوسف(ع) يحكم بالعدل بين الناس، فحين أمَر بحجز أخيه عنده لوجود الصّاع في أمتعته، طلب أخوته أن يأخذ أحدهم مكانه فقال ﴿… مَعَاذَ اللَّهِ أَن نأخُذ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ﴾ (يوسف، 79)، فلا تَزِر وازرة وِزْر أخرى. ويُستشَّفُّ من هذا القول أنَّ يوسف لم يكن ليساوم في أمور الرّعيّة، وإن كان في تلبية طلبهم وإخلاء سبيل أخيهم هذا نوع من الإحسان والرَّحمة لأبيهم الشّيخ الكبير، إلَّا أنَّ الإحسان إنَّما يكون إحسانا إذا لم يتضمّن فعلا مُحَرَّما أو ترك واجب، فترك العدل ظلما وليس إحساناً بأيّ وجه. لذلك حكم على أخيه بالعدل وطبَّق عليه القانون الجاري من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير.

ولا شكّ أنّ هذا المسلك الذي سار عليه النّبي يوسف قد بعث روح الولاء والطّمأنينة لدى رعيّته، وكانت هذه الحادثة التي ذكرناها وحكمه بالعدل فيها سببا لإبقاء أخيه عنده تمهيدا لعودة إخوته مرة أخرى ومن ثمَّ جمع شمله بوالده.

إنِّ عدل يوسف(ع) مع رعيّته كان انعكاساً لعدله مع نفسه، حيث زكّاها وطهَّرها من العيوب ولم يظلمها بالذنوب والوقوع في المحذور، ومن كانت معاملته لنفسه بهذه الأمور فقد عدل معها ولم يكلِّفها وزرَ المعاصي وثقل الخطايا والسّيئات وهذا ظلم للنّفس لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ…﴾ (النساء، 110).

وإذا كان الحاكم لا يملك قدرة على العدل مع نفسه بترفُّعها عن الرَّذائل، فكيف سيتمكّن من إقامة العدل مع رعيّته؟ ولم يكن عبثا قيام الفيلسوف اليوناني أفلاطون بوضع شروط لانتخاب رئيس مدينته الفاضلة، وأهمّ تلك الشّروط ترفُّعه عن الرّذائل والفواحش والموبقات.

{ارتَقَى يوسف} إلى أسمى وأشرف النصائح، وهي الدَّعوة إلى التَّوحيد التي هي أعظم صلاح للإنسان.

الصّبر

قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النحل، 127).

سُئِل أحدهم عن الصّبر فأجاب: «هو تجرُّعُ المرارة من غير تعبيس»، وقيل «الصّبر مطية لا تكبو»(١١). وقال لقمان الحكيم: «الصبر صبران: صبر على ما تكره فيما ينوبك من الحقّ وصبر على ما تحبّ ممّا يدعوك إلى الهوى»(١٢).

إنّ الأحداث التي عاش فيها النّبيّان الكريمان يعقوب ويوسف(ع) استوجبت التّمسك بحبل الصّبر ليكون مطيّتهما التي لا تكبو، واستعانا بالصّبر مع الرّضا بقدر الله تعالى وقضائه، فكانا مثالين في الصبر الجميل، وقد تجلى ذلك واضحا في آيات السّورة الكريمة.
فمنذ أن فقد يعقوب(ع) ولده الحبيب وعد نفسه بالصّبر، إذ قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف، 18) واستعان بربّه ليأخذ بيده ويمدّه بالعون، فنجح في ذلك،وصبر صبراً جميلاً، و»الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى النّاس»(١٣).

كانت حرقته على فقدان يوسف كبيرة حتّى أنّه فقد بصره، ولكنَّه لم يفقد صبره، ولم تهتزَّ ثقته بالله بل كان الله شفيعه ومشكى همّه. فقوله تعالى ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف، 86) لا ينافي الصّبر، فالشّكوى إلى الله محمودة وإنّما ينافي الصّبر الشَّكوى إلى المخلوقين، لأنّ أيّوب(ع) كان شكى ألَمه إلى ربّه من غير اعتراض قائلا: ﴿… أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الانبياء، 83)، ومع ذلك فقد صحّ صبره وأثنى الله سبحانه عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص 44).

ثمّ رأينا يوسف(ع) في خِضَمِّ المحن والبلايا التي توالت عليه رَضيَّ القلب مطمئنّاً إلى إرادة الله ومشيئته،إذ بالتوحيد عرف ربّه وأحبّه فرضي بفعله، وصبر على حكمه، فكان يناجيه ويستعين به على كلّ مكروه، فيزرع الله في قلبه المزيد من الصّبر والتّسليم عند كلّ ضيق وابتلاء.

كان البلاء الأوّل شديداً، هذا الطفل الذي تربَّى في كنف والده على العطف والمحّبة ولم يعهد عهداً للقسوة والظُّلم، ها هو يتلقَّى أوّل صفعة غدر وخيانة ومن أقرب المقرّبين إليه، ولم يقابل يوسف هذا الابتلاء بأيِّ اعتراض أو استنكار، فجاء وحي الله يثبّت قلبه ويقينه أنّه تحت الرعاية الإلهية وسينبّئ إخوته بأمرهم وهم لا يشعرون.

ثمّ اختار الصّبر على إغواء امرأة العزيز ومحاولاتها المتكرّرة لإيقاعه بحبائل الهوى فقال ﴿… رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف، 33)، وهذا هو البلاء الأصعب الذي صبر عليه يوسف طوعا واختياراً، كما صبر على تهمة الزَّور ومرارة السّجن، وفي كلّ هذه الأحوال لم نرَه يلجأ إلاّ إلى ربّه ومالك أمره فهو الذي يسدّده كيف يشاء. فكان صبره على ما يكره مثل صبره على ما يحبّ، بلا تعبيس أو استياء.

وكان للصَّبر الذي تحلَّى به يوسف تأثيراً هامّاً على أحداث حياته من حين ابتعاده عن أهله إلى حين لقائه بهم، فصبره شدّ أزره، وثبّت فؤاده وقوّى عزيمته على المضي قُدُما في طريق الخير، فصبَر على المكروه من أذيّة وغربة وظلم، كما اختار الصّبر على الشّهوات من ملك وجاه وهوى، فنال بصبره أعلى الدّرجات، وخلص إلى القول: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف، 90).

هذا الَّذي يحصل مع كلّ مؤمن حين تحاصره المحن، لا يترك طريق الخير الذي رسمه لنفسه، ولو ضاقت به الحِيَل، بل يتمسَّك بتوحيده ويجدّد إيمانه بالله فهو وحده كاشف الكربات، ولا بدَّ من بعد الصّبر أن يأتي الفرج، فكان اللِّقاء المبارك بين يوسف وأهله الذي أثلج صدورهم ثوابا لهم على الصّبر وصحّة الإيمان.

هذا الَّذي يحصل مع كلّ مؤمن حين تحاصره المحن، […] يتمسَّك بتوحيده ويجدّد إيمانه بالله فهو وحده كاشف الكربات، ولا بدَّ من بعد الصّبر أن يأتي الفرج.

التّوبة

جاء في تعريف التّوبة بأنّها: «الرّجوع عمّا كان مذموماً في الشّرع إلى ما هو محمود فيه»(١٤).

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة، 222)، وقيل: «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له…»(١٥) وهذا من فضل الله على العباد أن يغفر لهم قديم زلَلهم بعد التّوبة.

إنَّ ما قام به أخوة يوسف من رميه في الجبِّ وإبعاده عن أبيه، هو ذنب يستوجب التوبة، ورغم مرور الزَّمن، لم نرَ أخوة يوسف مُقرِّين بذنبهم أو مستغفرين بل كتموا أمرهم، ولم يتوبوا إلّا بعد زمن طويل حين كشف لهم يوسف عن نفسه فاعترفوا بذنبهم وأقرّوا به: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف، 91)، ثمّ ذهبوا إلى أبيهم وطلبوا السّماح واستغفروا، وأظهروا النَّدم: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (يوسف، 97)، فكان اعترافهم بخطئهم واستغفارهم لله، دلالةً على توبتهم. فمن يَنْوِ التوبة يبدأها بالاعتراف بالخطأ ثم الإقلاع عنه بالكليّة ثمّ الاستغفار.

أمّا زوجة العزيز فرغم اعترافها بذنبها في المرة الأولى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ (يوسف، 32)، إلّا أنّها أصرّت على المضيّ قدُما في المعصية ولم تَتُب، ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف، 32). وحين ظهر فضل يوسف وحان خروجه من السّجن، أقرّت بذنبها أمام الحاضرين وقالت ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف، 51). فكانت توبتها شهادة بيّنت فضل يوسف واستقامة طريقته، ونقلتها من رذيلة المعصية إلى فضيلة الطاعة والتوحيد.

رغم أن توبة أخوة يوسف جاءت في نهاية القصّة، إلّا أنّهم بتوبتهم كانت الخاتمة السّعيدة لهذه القصّة وتحقّقت الرّؤيا التي طلب يعقوب من يوسف أن يكتمها عنهم، حيث خرّوا له سُجَّدا وأقرّوا بفضله.

الخاتمة

في غيابةِ الجُبِّ المُظلمِ وَوَحشَته، لاذَ بربِّه فاطمأن…في وَحدة الغُربة المقفِرة وقَسوَتِها، لَجَأَ إلى خالقه فاستأنَس.به في غَيَاهُبِ السّجنِ الحالِكِ وقيودِهِ، ووحَّدَ بارِيهِ فَتَحرّر…

طريقُ طويلٌ شائكٌ وَوَعر، سلكه نبي الله يوسف(ع) بصبر ويقين وثبات. بلغ يوسف(ع) أعلى المناصب الدُّنيوية لكنّ وجهته هي الآخرة ورضى الله تعالى، لأنّ الدُّنيا لا تغني عن الآخرة بشيء بقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف، 101). فسعى إلى الثَّواب ودعا الرّعيّة إلى معرفة الواحد الأحد، فنقل مصر من ظلمة الشِّرك إلى نور التّوحيد، وحازَ أعظم الفضل.

وكان جماله وحسن صورته ممزوجاً بجماله الرّوحي والأخلاقي، فأصبح جمالاً كاملاً تُضرَب به الأمثال، وعلى هذا فالإنسان مهما وهبه الله من الجمال والمظهر الكَيِّس، فلا يُسمَّى جميلاً إن لم يتمتّع بالأخلاق والفضائل الرّوحانيّة. ولم يبلغ يوسف ما بلغه من الرِّفعة والسُّموّ إلّا بالامتحان،فالله سبحانه يبتلي عباده بالشِّدة والرَّخاء والسُّرور والحزن واليسر والعسر ليمتحن صحّة إيمانهم بالشُّكر عند الرّخاء وبالصّبر عند الشِّدة والبلاء. ومن الَّلافت في هذه القصّة اتِّحاد الفضائل وسيرها بالتّوازي والتّوازن مع بعضها البعض، وكأنّها فريق واحد يعمل بتناغم وانسجام في سبيل ردع الرَّذائل وتحقيق الثّواب، والتَّوازن بين الفضائل ضرورة كي تقوى وتُحقِّق غايتها.

بعد هذا البيان لأهميّة الفضائل لابدّ ختاما من القول أننا إذا كنّا مؤمنين بالله وبرسوله الكريم وبكتابه العزيز وقد تحقَّق عندنا صدْقَ ما أنزله في هذه السُّورة المباركة من برهان جليّ على ثواب من تمسَّك بالفضائل وسار على طريقها، فَلْنبادر إلى تحصيل ما أمكننا من هذه القِيَم وتطبيقها في عباداتنا ومعاملاتنا فلا تبقى شعارات نرفعها بل نجعلها حياتنا التي نحيا بها ونعيش، علَّنا نخرج من الظّلمة فتشرق علينا أنوار الصّفي المختار ونصل إلى برِّ الأمان.


الحواشي

  1. ثقافة إسلامية: محاضرة بعنوان: الإيمان بالله. تقديم الشيخ باسم أبو كروم.
  2. لأبي القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص: 377.
  3. أبو الحسن علي البصري الماوردي. كتاب أدب الدُّنيا والدين، تحقيق: د.محمّد صبّاح، د.ط. (بيروت، دار مكتبة الحياة:1987م).ص: 262.
  4. أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق.ص،ص: 285، 286،287.
  5. أنظر: أبو الحسن علي البصري الماوردي، كتاب أدب الدُّنيا والدين. مرجع سابق.ص: 261.
  6. رواه مسلم.
  7. علي بن محمد الجرجاني: مُعجم التعريفات. تحقيق ودراسة: محمد صدّيق المنشاوي. (القاهرة، دار الفضيلة للنشر، 2004م). ص: 203شوهد بتاريخ 1-12-2019. على الرابط:  https://www.noor-book.com-pdf
  8. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. تعليق: أبو حذيفة ابراهيم بن محمد. ط.1. (طنطا، دار الصحابة للتراث:1989م). ص،ص: 21-22.
  9. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. مرجع سابق. ص: 28.
  10. أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عمر.
  11. أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص،ص: 258،259.
  12. جمال الدِّين يوسف الكفرقوقي: اللُّمَع النورانية والمعشرات الكفرقوقية. د.ط. (لجنة تكريم سيدنا الشيخ يوسف الكفرقوقي في كفرقوق: راشيا، لبنان). ص: 204
  13. أبو عبد الرحمن اللُّمى: الطبقات الصوفية. تحقيق: د.أحمد الشرباصي. ط2. (مؤسسة دار الشعب،1419ه). ص: 17.
  14. أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان: الرسالة القشيرية في علم التصوّف. مرجع سابق. ص: 156.
  15. المرجع سابق نفسه. ص: 156.

المراجع

  1. ابن عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: تهذيب الأخلاق. تعليق: أبو حديفة ابراهيم بن محمد. ط.1. (طنطا، دار الصحابة للتراث:1989م).
  2. أبو الحسن علي البصري الماوردي. كتاب أدب الدُّنيا والدين. تحقيق: د.محمّد صبّاح. د.ط. (بيروت، دار مكتبة الحياة:1987م).
  3. أبو عبد الرحمن الُّلمى: الطبقات الصوفية. تحقيق: د.أحمد الشرباصي. ط2. (مؤسسة دار الشعب،1419ه).
  4. أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان ابن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي: الرسالة القشيريةفي علم التصوّف. ط.1. (بيروت،دار إحياء التراث العربي:1998م).
  5. ثقافة إسلامية: محاضرة بعنوان: الإيمان بالله. تقديم الشيخ باسم أبو كروم.
  6. جمال الدِّين يوسف الكفرقوقي: اللُّمَع النورانية والمعشرات الكفرقوقية. د.ط. (لجنة تكريم سيدنا الشيخ يوسف الكفرقوقي في كفرقوق: راشيا، لبنان).
  7. علي بن محمد الجرجاني: مُعجم التعريفات. تحقيق ودراسة:محمد صدّيق المنشاوي. (القاهرة، دار الفضيلة للنشر، 2004م).

طبائع الخير

  الموحِّدُ مسؤول، بمعنى أنَّهُ يُسأل عن أعمالِه وعن مكنونات صدره أمام الله تعالى. والعبْد دون إحساسٍ قلبيّ صادق بالمسؤوليَّةِ التي في عنُقه يُصبحُ ويُمسي وهو عُرضة لأهواء النّفس تأخذُ به كما تشاء مُبتعدةً عن نورِ العقل الذي لم يعدم غذاءَه بالمعرفةِ التوحيديَّة. وهذا أمر بالغ الخطورة يحذِّرُ منه الأميرُ السيِّد قدَّس الله سرَّه باعتباره «استدراج إلى غير الرِّضى»، أي إلى غضب الله عزَّ وجلَّ.

  يقول السيِّد الأمير(ق) ان العبد مطالب بثلاث… نَفَسٌ(1) يمضيه بغير محل الرضى، ولحظٌ(2) يلحظه في غير اعتبار في تصاريف القضا، ونطقٌ(3) ينطق به في غير سبيل الرضى.

  والـمسؤوليَّةُ التَّوحيديَّةُ دقيقة وجليلة يحملُها المرءُ في ذاتِه كلّ وفق المستطاع مع الحذر الشديد من الغفلة والإهمال واستسهال الأمر. وشيوخُنا من السَّلف الصَّالح جعلوا من ميزان الخوف والرَّجاء قاعدةً جوهريَّةً من قواعد المسلك. وقيل في الصوفيَّةِ القديمة: «إنْ غلبَ الرَّجاءُ على الخوْفِ فسد الزَّمان»، وقيل في المأثور التوحيدي: «مثَلُ الخوْف والرَّجاء مَثَل جناحين إن ضعفَ أحدُهُما سقَطَ المريدُ كما يقع الطَّيْرُ أرضاً عاجزاً عن التَّحليق».

الثَّمر الحقيقي هو نعمة شعور النّفس بالرِّضى حين تُدركُ بكينونتها الجوانيَّة معنى السَّعادة والاغتباط الرُّوحي.

  ويعتبر الأمير ناصر الدين التنوخي: «ان المعترف بذنبه ازكى لديه من المدّل بعلمه عليه». ويحث السيد الأمير(ق) على الخوف والرجاء والاستحياء فيقول: «لا يَخَافَنَّ أَحَدُكُمْ إِلا ذَنْبَهُ، وَلا يَرْجُوَنَّ إِلا رَبَّهُ، ولا يستحي إذا لم يعلم الشيء ان يتعلمه، ولا يستحي إذا سُئل عما لا يعلم ان يقول لا اعلم».

  العودةُ إلى مواجهة النّفس بالحقائق هي السَّبيل إلى استدراكِ الأمر. عودةٌ تكونُ فيها المعرفةُ المرسومةُ من صاحب الحقِّ «مرآةً وعلماً»، أي نواجهُ النّفسَ بميزان الحقّ وأوَّله قواعد الأمر والنَّهي. وهي قواعد من شأنها حماية الجوارح وصوْنها من كل أشكال التلوُّث المحيطة بنا. صفاءُ النيَّة في القلب، ويتبين من مواعظ الشيخ الفاضل(ر) أنّ القلب يشمل العقل، والبصيرة، والنيّة الطيبة، وجاء من مختصر اقواله بهذا المعنى:

  «فعليك بحفظ القلب وإصلاحه وتطهيره وبذل المجهود في ذلك، وأذكر أربعة أشياء، الأولُ قوله تعالى: «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور»، وقوله تعالى: «يعلم ما في قلوبهم». والثاني قول النبيِّ(ص)، إن الله لا ينظر الى صوركم وابشاركم وإنما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم، فالقلب إذاً موضع نظر رب العالمين. الثالث ان القلب هو الأصل والمركز، والجوارح كلها تبع له، وإذا صَلُحَ المتبوع صَلُحَ التابعُ. والرابع إنَّ القلب خزانة كل جوهر نفيس للعبد، أولها العقلُ واجلها معرفة الله تَعَالَى التي هي سببُ السعادة في الدارين، ثُمَّ البصيرة الشفافة التي تُدرِكُ الأشياء وبها التقدم والوجاهة عندَ الله تَعَالَى، ثم النية الخالصة في الطاعات التي بها يكون ثواب الأبد».

  نقاءُ العيْن بحجبها عن كلِّ ما يُـبطِلُ الحياء، والتزام اللسان أوَّل الخصال وأعظمها وهو الصّدق، واجتنابُ الإنصات إلى كلِّ لغْوٍ أو غيبة أو نميمة أو لجْلجة، وصدق اللسان التزامه بترك الكلام فيما لا يعني(٤)، قال بعضهم، الكلام أربعة أقسام: قسم ضرر محض، وقسم نفع محض، وقسم فيه منفعة وضرر، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة، أما الذي فيه ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة، أما الذي لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، فلا يبقى الا القسم الرابع وهذا الربع لا يخلو من خطر عدم الدقّة.

  وتطهير الجوف من كلِّ حرام، وقيل: «إن باب الجنة له مفتاح والمفتاح كلمة التوحيد. وله أسنان أربع لا ينفتح الباب الا بالمفتاح بأسنانه، فالسن الأولى تطهير القلب من الخبث والخيانة. والسن الثانية تطهير اللسان من الكذب والنميمة. والسن الثالثة تطهير البطن من الحرام والشبهة. والسن الرابعة تطهير العمل من الرياء والبدعة. فإذا صح للعبد هذا المفتاح بأسنانه انفتح الباب ودخل الجنة وشاهد العظمات. ما لا اذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر».

  وإخضاع آلة الرُّوح أي الجسم إلى كلّ ما يُرضي الله، وما يُرضيه هو استخدام الشيء لِما خُلقَ له دون انحلال الإرادة وطغيان الرغبة في استخدامها في المعاصي. وللمعاصي شبكة واسعة لا ينجو منها إلَّا كلّ عاقل لبيب أو كلّ مستجيب مُحبّ للفضيلة ولمعلّمي الفضيلة ولأهل الفضيلة.

  إنَّ طبائع الخيْر التي هي بيتُ الدّين ومسكنُه لا يُمكنُ أن تستقرَّ من دون تغذيتِها عِلماً وعملًا لا انفصال لأحدِهما عن الآخَر. وهذا هو جوهرُ المسؤوليَّةِ الرُّوحيَّة التي يحملها أمانةً كلُّ من التزمَ السلوكَ نهجاً توحيديّاً مثمراً. كان الشيخُ(ر) الفاضل يسألُ الله تعالى في دعائه الجليل «صحَّة الدّيانة» وهو الّذي أمضى عمره سائحاً في معارج الطاعات. هذا درسٌ عظيم علينا امتـثاله على الدوام. هذا أمرٌ جوهريٌّ لنا في كلِّ وقت. على الموحِّد أن يكون في عصرنا هذا، أي في يومنا هذا وفي كل يوم، شاهداً للفضيلةِ والاتّزان والخيْر والأخلاق الرَّفيعة والأدب الرّزين. عليْه أن يكتسبَ سمةَ الجُودة بقلبه وبروحِه وبصفاء داخله الأمين لتعاليم الكتاب الكريم. وليست مسألة جانبيَّة أن يشيرَ الأميرُ السيِّد قدّس الله روحه إلى أنَّ العائق يأتي «من قِـبَل العبْد» الذي لا يجب أن يرمي «سَوْطَ التأديب من يده» أراد تأديب نفسِه وتطهيرها من كلّ خيانة.

  قيل من أعظم الآفات ثلاثة: رؤية الخلق، ورؤية العمل ورؤية النفس، والواجب على العبد أن يغيب عن الثلاثة برؤيته خالقه تَعَالَى «ان تعبد الله كأنك تراه» هي المحبة لله وقال بعضهم من عبد على المحبة لا يحب ان يرى عمله سوى محبوبه وقال بعضهم: «من أحب أن يعرف بشيء من الخير او يذكر به فقد أشرك في عبادته».

  إنَّ الاجتماع على كلمة التوحيد هو أمرٌ جلل لا يليقُ به إلَّا زكاء العمل، أيْ المنقَّى من كلِّ دواخل طباع الخبْث عليه. نقولُ «الله يــثمر» والثمر الحقيقيّ الذي تسمو إليه نفوسُ الأجاويد هو رياضة النّفس بما أوتيَ لها من لطائف العقل ومعاني التَّوحيد، واتّحادُها به قلباً وقالباً أي علماً وعملًا كما هو سمتُ الشيوخ الثقات على الدوام. والثَّمر الحقيقي هو نعمة شعور النّفس بالرِّضى حين تُدركُ بكينونتها الجوانيَّة معنى السَّعادة والاغتباط الرُّوحي الذي يحقِّق أجمل ما في حقيقة الإنسان من معنى، وهو ائتناسُه بمن هو أحقّ بالوجود من كل موجود.


حواشي

1- (كل شهيق وزفير للإنسان) تمضي في تصرف وعمل بغير رضى الله.
2- نظرة العين للحظات أو ثوانٍ) والاعتبار (النظر في أحوال الدنيا كالموت والحياة والاتعاظ منها).

3- نطق أي كلام مهما كان قليلاً او كثيراً بغير ذكر الله ورضاه.
4- ﴿لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ (النساء 148)

مَسْلكيّة الموحّدين الدّروز

مُحاضرة أُلقيت في مؤتمر الجالية الأميركيّة الدرزيّة ADS في ميامي فلوريدا في ٢٠١٦/٦/٣٠ وأُعيد إلقاؤها في لوس أنجلوس بطلب من اللّجنة المنظّمة للمؤتمر في ٢٠١٨/٦/٢٦.

أوقيانوس الصّفات النّبيلة، والأخلاق العالية، والمثاليات ومسلك الموحِّدين الدروز، كيف أُحيطُ به وأنتزِعُ الدُّرَرَ من لُجَجه؟؟ أمَا ترَوْنني بقصوري أعجزُ عن التّعبير؟؟ أسقطتم الكلمات، لِتسَطّروا على صفحات الخلود وبأحْرفٍ من نور، ذكرى أمجادَكم الخالدة إلى الأبد.

الموحّدون استلهموا الأخلاق الرّفيعة والدعوة السماوية الخالدة واستوحَوْها بِمَهداة العقل النيّر والفكر الثاقب الرّزين، وبنوْا على أساسها مجدهم وصانوا كرامتهم.

هي دعوة إلى معرفة الذات، دعوةٌ إلى المُثل والقِيم. دعوةٌ إلى الأصالة الأخلاقية عند الموحّدين الدّروز، وهي الرّكن الرَّكين والأساس المتين للشخصيّة الدرزيّة وللعادات والتقاليد الموروثة من الآباء والأجداد، وإنّه لَفخرٌ لي واعتزاز، أن أتكلَّم في أمريكا عن مسلك التوحيد لدى الموحدين وصفاتهم المُثلى ومسلكيّتهم الخلُقية، وتقرّبهم إلى الله تعالى، هذا التراث الكامل، هو مصدر شهامة وتَعالٍ لطائفة الموحّدين الدروز وإلى الأبد. الموحّد الدرزي إنسان آمن بالله، وحقّق وجوديته كاملة في خلال ألف سنة، فتوجّه بقدراته الإنسانية نحو الحقّ وبقي ذُخراً للحقيقة ومثالاً وعطاءً. إنّها حقيقة العقل الذي هو نور الله في جميع مخلوقاته فبِه هدانا الله إلى الخالق المبدع، وإنّه لصادِقُ العِلم… تجلّت منجزات العقل أيضاً بالعِلم في المُخترعات كآلة التلغراف والتلفون والراديو والطائرة، ثم بالانطلاق إلى القمر فالمريخ، وجعْلِنا نتبع مسلكيّة معينة ونؤمن إيماناً ساطعاً بالله «الإيمان بالله والتوحيد بكماله» «عَقِلتم فآمنتم وأدركتم فوحّدتم» لِنَسلكَ الطّريق المستقيم وما يقتضيه العقل المستنير بالحق والصّدق والعمل الصالح لنميّز بين الأفعال المحمودة والمذمومة، وبين الحلال والحرام، وبين الحقّ والباطل، ونسير على هدى الله في مندرجات الرقي الرّوحيّ والثقافيّ والحضاريّ والأخلاقي للوصول إلى كرامة الإنسان وشرفه ونبله، وهو ثمرة الهداية والطاعة للباري جلّ وعلا فنصل إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. مسلكيّة الموحّد هي تهذيب النّفس وهي الإسُّ المتين والرّكن الرّكين في عمليّة معرفة الله لترقى إلى جوهرها، وتُحاسَب على أعمالها في اليوم الآخر يوم يُدان الإنسان بالحساب (الطّبري ص 25). قال عزّ وجل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِين﴾َ (الأنبياء 47)، والأمير السّيد(ق) يقول: «أن يصرف نفسه عن الشّهوات والمُحرّمات، وأن يعرف الله حق معرفته ويوحده ويُنزهّه»، قال تعالى: ﴿وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ (النّحل 111).

عليك بالنّفـــــس فاستكملْ فضائلَهــــا        فــــــأنت بالنّفس لا بــــــالجسم إنسانُ

والدين مَعينُه في نفسي، يستحيل على إنسانٍ آخر أن يهديني الدّين، إذا لم تهدِني إليه نفسي، ومن يَقُل بلسانه الله ويعرف بقلبه الله، وتحبُّ روحُه الله، تتعلق بظاهره وبباطنه بين يدي الله. وليكن مطلب كلّ موحّد هو الله، وقصده هو الله، وذكره هو الله، ونطقه هو الله، وفكره هو الله، قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ﴾(العنكبوت 45). فالله فردٌ في أزليّته، لا ثاني مَعه، ولا شيء يفعل فعله. «مسلك التوحيد هو جوهرة غنيّة، رحِم الله من صقل هذه الجوهرة الثمينة إلى ذروة الإيمان التّوحيدي، إنّها تعاليم إنسانيّة راقية قديمة وحديثة» (نجيب العسراوي). التوحيد عُزلةٌ وسترٌ، التّوحيد آداب، التوحيد هو الإكثار من ذكر الله تعالى، مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت، عليكم أيّها الموحّدون بفناء وجودكم في اللّه، فَتُصْقَلُ مراياكم، وتنجلي حقيقتُكم.

التوحيد عقيدة علم، وفلسفة طريق سعادة. يا مُوَحّد، اِعمل بما أمرك به الله، والأديان منذ نشأة الكون لها هدف واحد: تعريف الإنسان بحقيقة دربه، وتعريفه على حقيقة ربّه: «خَلَقْت الوجود كلّه لأجلكم وخلقتكم لتعرفوني وتعبدوني». التّوحيد هو طريق النفوس النقيّة التقيّة والعقول المُدركة للأسرار، عقول من عرفوا الدنيا دار فناء، وعرفوا الحقّ إماماً فاتّبعوه، وميثاقاً وحُجَّة ودعوة استجاب لها الموحّد المؤمن المستجيب. التوحيد هو الارتقاء الكبير بين يدي النّور، على الموحّد أن يُدخل نورُ الحق والخير إلى قلبه حتى يحرق ما فيه من شهَوات، ويُجري فيه دماء الإيمان ونور اليقين، وإيمان الموحّد هو طريقه المستقيم، إيمانُه أبداً بالله سبحانه وتعالى، هو الحقّ، وأنّ الموت هو الحقّ، والقيامة حقّ؛ والميزان حقّ والجنة حقّ (شفيق أبو غانم). التوحيد أوّلُ ما أنزل الله من عِلم على جميع الأنبياء «أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تَرَه فهو يراك».

مسلك التوحيد لا يصحّ إلّا إذا شعرنا بهيبة الله تعالى، قال عزّ وجلّ: «أنا عند ظنّ عبدي بي، إذا كان خيراً فلَهُ، وإذا كان شرّاً فلَه»، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة 7 و8). الدين هو التوحيد، هو الصلة بين العبد والمعبود، الدّين هو الإيمان «الإيمان بالله والتوحيد بكماله» هو منبع الفضائل في النفس والنور في القلب، الدين هو الطاعة ليسلك مسلك التوحيد للباري سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ﴾ (التوبة 33). مسلكيّة الموحّدين الدّروز أن يُحْيوا هذه القوة الكامنة في ثنايا هذه الروح، ليدركوا جوهر الدين، والبعد عن الخطايا والمعاصي. هو الدين، أرسله لنا بالهُدى والحقّ، فهو حقيقة الإرادة الإلهية، وعلى النّفس أن تعرفَ الله سبحانه وتعالى، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصّفات عنه.

مسلكيّة الموحّد هي الصّلاة وصدق اللسان، فالصّلاة هي الصّلة الروحيّة بين الله والإنسان، طَهّروا نفوسكم من الجشع والحسد والحِقد والنميمة، تَخلَّقوا بأخلاق الأنبياء والرسل الكرام، فيستطيعَ العالم الترقّي إلى درجات الكمال، والتقرّب إلى الله ذي الجلال والإكرام. فصدق اللّسان هو رأس الفضائل، هو التصديق بوحدانية الخالق وحده لا شريك له. الصادق يفي بالوعد والعهد، لا يكذب، لا يسرق، لا يشهد بالزور،
ولا يضرّ أحداً. الصدق منجاةٌ ولو تحت شفار السيوف، هو أفضل مكارم الأخلاق، ومن أقدس الواجبات عند الموحدين، لتبقى العبادة خالصة لوجه الله وحده. والعبادة المرتكزة على التربية الدينية الصحيحة، هي شرف للعابد، وأي شرف أغلى من صلة العبد بربّه، ليستقيمَ خلقه إنّها العبادة الحقيقية في الدنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان. من يعمل على مرضاة خالقه بحسن أخلاقه تتجلَّى فيه الحكمة. إنّ التربية الدينية والوعي الخلاّق هي النّعم الوافرة. أمّا كسب المال الحلال فيكون بتجنّب الطمع والحسد، وهذان أساسا كلّ خطيئة، فتواضعوا يرحمْكُم الله، وابتعدوا عن التكبّر والإعجاب، لتصلوا إلى الرّضا والتّسليم فهما من أُسس التوحيد، والقناعة بالعدل الإلهي، وليُحبَّ كلٌّ منكم لأخيه ما يحبّه لنفسه. الخلق كلّهم عباد الله، فليسلّم المؤمن أمرَهُ لربه، راضياً بأحكامه، صابراً على بلواه بعيداً عن المحرمات، كالكذب والنميمة والطمع والكبرياء والسرقة والقتل وشهادة الزور، وليُمسك لسانه إلاّ عن الحق، وليعلم بأنّ اللّه جلّ وعلا ناصرٌ للحقّ.

«الصّدق في أقوالنا أقوى لنا والكذب في أفعالنا أفعى لنا». وأكبر الجهاد هو جهاد النّفس ومعرفتها: «من عرف نفسه عرف ربّه»، «العزّ في الطاعة والذلّ في المعصية» علينا بمخافة الله جلّ وعلا «رأس الحكمة مخافة الله»، والنبيّ هِرمس (النبي إدريس) دعا الناس إلى دين الله عزّ وجل، والقول بالتوحيد، وعبادة الخالق، وتخليص النفوس من العذاب وأمرهم بالصلوات.

وكذلك كان النبي داود(ع)، «اختار من الكهنة والقضاة، مائتين وثمانيةٍ وثمانين كاهناً، يسبّحون للّـه، ليبقى ذكر الله دائماً». والصّلاة هي من أعظم الشعائر، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ﴾ (الأعراف 55)، ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه 14). يا داود أعرف نفسك تعرفْني، «النفس المطمئنّة هي التي اطمأنت بذكر الله»، يا داود حذّرْ وأنذر قومك من الشهوات، فإنّ القلوب المتعلّقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عنّي. وعلى المرء ألّا يكون أسير المال والمُلك والموقِع. يقول الشيخ الفاضل(ر): «على المرء أن يسلّم أموره لله، ويتكّل عليه في السرّاء والضرّاء، ليرضَا بقضائه، ويصبر على بلائه ويستغفر ربّه، ويهذّب أخلاقه بالفضائل، وليُقْبل على الرزق الحلال، ويعتمد الصفاء والوفاء… فيكون صادق اللسان، حميد الخصال، حميد الفعال»، فمن جمع هذه الخصال نال عظيم المنال. قالت رابعة العدَويّة(ر): «نعبُده لذاته، ويكفينا نِعَمَه التي لا تُحصى، نخِّر له ساجدين»، ارتفعت رابعة عن درجة العبادة والزّهد إلى درجة الرّضا. كانت في رضاها أروع وأصلب العباد «سُئلت يوماً كيف أرضى بالله؟ أجابت: «يوم تفرح بالنّعمة كما تفرح بالنّقمة لأنّ كليهما من عند الله، وأردفَت: «ثمرة العِلم الرّوحي هي أن تصرف وجهك عن المخلوق كيماتوجهه الى الله الخالق وحده، لأن المعرفة هي معرفة الله». «من عرف خالقه تهذّبت أخلاقه، ومن أستغفر من ذنبه، قَبِل الله وسيلته، ومن بادر إلى التّوبة، لم يَعُد إلى الذنب»، «لا تأنَسْ بغيري إذا ما وجدتني، وستجدني حيث تطلبني، ولا تخشَ سلطاناً ما دام سلطاني».

والأمير السيد(ق) يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله، له البقاء والدوام، وله الحمد على ما أعطى ومنع، وعليه الاتّكال وبه المُستعان. قبول أوامره طاعة وصبر، والاتّكال عليه عزٌّ ونصر، فهنيئاً لمن أطاع وصبر». صاحب الخُلُق الرفيع، رزقه حلال، عقله يقوّيه بمقابلة العلوم الحقيقية، ونظره بمقابلة المُنعم ورؤية جماله، مستأنسٌ بالله عزّ وجل، فلا خطايا ولا ذنوب ولا مجال للشرّ، والله العلّيُّ القدير، هو العَوْن والنّصير، ولا يخَفْ أحدكم إلّا ذنبَه ولا يرجُ إلّا ربّه (نايف عبد الخالق) الدّنيا تطيب بذكره والآخرة بعفوه. حَسَنُ الخُلق لا يَغْضبُ، ومن كفّ عَصَبَه، كفّ الله تعالى عنه عذابَه «تواضعوا يرحمْكم الله، واعفوا يعزّكُمُ الله، وتصدّقوا يرحمْكم الله، وابتعِدوا عن التكبّر والإعجاب. أوحى الله سبحانه وتعالى إلى النبي داود(ع): «لا تجالس المُتكبّرين ولا النمّامين، وإنّما الكبرياء لي، وأنا صاحب العزّة والعظمة والجبار الأعلى»، لا تحتقروا الفقير، ولا تسخروا من غيركم، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات 13).

هي التقوى، اتَّقوا الله حتى يُصلحَ لكم أعمالكم، ويغفرَ لكم ذنوبكم. إنّ الله يحبّ المتّقين، ويُنْجي الذين يتَّقون والجنّة خُلقت للمُتّقين، لا تَحاسَدوا ولا تباغَضوا وكونوا عند الله إخواناً. فالموحّد الخَلوق مع إخوانه وجيرانه وقومه رؤوف شفوق، لا يتأخّر عن واجباته في التّعزية والفرح، يُسَرّ لِسرورهم ويحزن لحزنهم ويمدّهم بالعَون المادي والمعنوي، ويتّقي ربّه في السرّ والعلانية فللفرائض قُدسِيّتُها. يُرحّب بالضّيف، فالضّيف عنده ضيف الله، يؤمن بالقدَر وبالعمر المحتوم. الصادق الديّان صاحب الخُلُق الرّفيع، لا يُهمل العلم الرّوحاني ساعةً واحدة لأنّها ثمرة الرّوح وبه حياتها، وهو نور البصيرة وبدونه تستولي الظّلمة على النّفوس. الموحّد الحقيقيّ هو الزّوج العطوف والأبُ الحنون، حريصٌ على الكرامة، ونَيْل الرّزق الحلال، يعمل لتأمين أُسرته ورفع العوز عنها. والموحّدة الحقيقيّة، صفاتها صفات الموحّد، فهي الحانية على أولادها، المُخلصة لعائلتها، المتعاونة مع زوجها، تُتقن وتتمّم واجباتها الدينيّة والدنيويّة وشعارها «الكدُّ أمام العائلة عبادة ثانية». هي مهذّبة كريمة، عفيفة النفس، لا تلهيها بَهرَجةُ الدنيا عن عبادتها والأمير السيّد عبد الله التنوخي(ق) قد أمر بفتح المدارس للفتيات قبل الفتيان. وهو يعلم علم اليقين، أنّهنّ الركن الركين والأُسّ المتين في عملية بناء الأوطان المبنية على التقوى والفضيلة وتنشئة الأولاد والتّربية والتعليم والآداب والأخلاق العالية. فتاتَكم؛ هذّبوا خُلُقَها، ورَقُّوا نُهاها، وارفعوا قدرَها ولا تهملوها، هي بنتٌ لكم وأُختٌ وزوجة وهي أمٌ يطيب فيها بنوها.

إذاً، نستنتج إنّ مسلكيّة الموحّد والموحّدة الخُلُقيّة هي مسلكيّة حضارية، هي احترام للحياة العائلية، لا تفكيراً بالخروج عن الآداب الزّوجية. بيئةُ الموحّدين بيئةٌ نظيفةٌ، فيها عِفَّةٌ وعزّةٌ للنفس وبذلٌ للمعروف وصبرٌ ولينٌ وكرامةٌ وجِدٌّ ورِفقٌ، وصدقٌ مع النّفس ومع الآخرين، والتزامٌ بحسن التّعامل، «عامِلِ الناسَ بالتي هي أحسن، وبمثل ما تحب أن يعاملوك به». ومَن هو المسؤول عن بناء الأسرة وتربية الأطفال؟؟ لا شك أنَّ المسؤولية تقع ليس فقط على أكتاف الأمِّ وحدَها، بل على عاتق الأب والأم، في التأديب والتعليم والمراقبة. الولدُ أمانة عند والديه فإنْ عُوِّدَ الخيرَ نشأ عليه، وإنْ عُوّد الشرَّ نشأ عليه (الامام الغزالي). على الأهل أن يُحْسنوا التربية منذ الصّغر، لتترسّخ فيهم عادات السلوك الشّريفة وإشراق نور العقل وصفاء القلب، وذلك بفضل التربية الخلقية واستشعار هيبة الله، (الله معي، الله ناظري الله شاهدي)، وكذلك يقول الأمير السيّد(ق) «بدء الكلام بذكر الله: بسم الله، الحمد لله»، وأيَّة رسالة أشرف وأنبل وأعظم من رسالة العبادة للّـه.

والعبادة شرفٌ للعابد، هي صلة العبد بربّه ليستقيمَ خُلقه، إنّها السعادة الحقيقيّة في الدّنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان والدِّين، يعمل على مرضاة خالقه بحسن أخلاقه، فتنجلي فيه الحكمة السامية، فيستطيع العالم الترقّي في درجات الكمال، والتقرّب إليه ذي الجلال والإكرام. إنّها النّعم الوافرة في معرفة علوم الدين التي أمدّنا الله بها عزَّ وجلَّ، لكسب المال الحلال، توصُّلاً إلى تمام النعيم بتجنُّب الموبقات والمعاصي، التي هي أساس كلّ خطيئة «فجنّات النعيم دوماً وأبداً لمن عمل الصّالحات».

إنَّها الثقافة التوحيدية الخلقية التي يجب أن تُعمّم، والصّلة الروحيَّة التي يجب أن تُحتَرم، لتكوِّن الموحِّدَ ذا الخُلق الحَسن:

وإنَّمــــــا الأممُ الأخـــــلاقُ مـــــــا بقيت         فــــــإن همُ ذهبت أخـــــلاقُهم ذهبـــــوا

وإذا أصيب النــــــــاس في أخــــــلاقِهم          فـــــــــأقِمْ عليهم مأتمـــــــــاً وعويـــــــــلاً

والله العليّ القدير هو العَوْن والنّصير، فتقرّبوا إليه بالعِلم والعمل، إنّها البُشرى، إذْ يعلم ويعمل فتحصيلهما هو الكمال الحقيقيّ، وهما مطلبان يقرّبان إلى الرّضا الإلهيّ. فالجهل يُخفِضُ أمّة ويذلُّها والعلم يرفعها أجلّ مقام. العلم فرح وسعادة، ونور، والعلم هو مِن نِعَم الله تعالى، والله سبحانه وتعالى اختار آدم، لِسرِّه المكنون وعلمهِ المخزون، فاعلمي يا نفس أنّك لم تُخلَقي إلّا للعلم والعمل. اقتران العلم بالعمل هو من الثوابت الأساسية في مسلك التّوحيد، وهما متلازمان. ﴿أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ مُعَلِّمُكَ لِتَنْتَفِعَ، وَأُمَشِّيكَ فِي طَرِيق تَسْلُكُ فِيهِ﴾ (سفر إشعياء ١٧:٤٨)، فالسيد المسيح كان يعلّم تلاميذه كلّ يوم في الهيكل. جاء في القرآن الكريم: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه 114). فغاية العلم: التّوحيد، الذي هو علم الحقيقة، ويهذّب النفس إلى المعرفة، لتسيرَ في مسالك الارتقاء الرّوحي ولتصلَ إلى مفاهيم التوحيد التي هي العدل والحق والخير. العلم الحقيقي هو المنبثق من أمر الله، هو الغذاء الروحيّ للنفس والعقل وسلّماً للارتقاء من فيض الحكمة الربّانية لنصل إلى الغاية المُثلى التي حضّنا الله عليها. إنّ مسلك المُوَحِّد يوجب عليه العمل الصالح بما يقتضيه التوحيد من واجبات مسلكيّة والتزامات أخلاقيّة. قال تعالى: ﴿وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ (النحل 111)، هو البرهان الصّادق على حقيقة نواياه، وتصديق قلبه بالحقّ وإيمانه الرّاسخ بوجود الله.

تلك هي باختصار مسلكيّة الموحّد وأخلاقيته وأُهيب بكم إخواني وأخواتي، احترامها حيث كنتم، فالتوحيد غير محصور بمكان أو زمان أو لُغة. هو نزعةٌ في القلب وتوجُّهٌ في العقل، نحو الارتباط بالعقل الكُلِّي، فهنيئاً لمن يستطيع التألُّق في رحاب عليائه.

علينا أن نقرأ تراثنا، ونحاول بثّ هذه الحقائق بين أفراد مجتمعنا، خاصّة في هذه الأيام التي فُقدت فيها التربية الدّينية والأخلاقية وطغت المادة على الأخلاق والقيم الرفيعة، وأصبح شبابنا وشابّاتنا في ضياع، لأنّهم لا يفقهون شيئاً من علوم الدّين، وأصبح القابض على الدين في هذه الأيام كالقابض بيده على الجمر ذلك موضوع مُهِمّ ولا مجال للتوسّع في البحث فيه الآن. أمّا مسألة استمساك أمّة التوحيد بأخلاق الدّين كما أمر بها الله تعالى فهو أمرٌ شهد لهم فيه القاصي والداني، بأنّهم أعفُّ الخَلق بفضل خَشيتهم لله عزّ وجلَّ ومحبّته الممزوجة بدمائهم إنها خيرُ أمَّة خصّها الله بالمكرُمات.

وصيّة المرحوم سماحة الشَّيْخ محمّد أبو شقرا

بسم الله الرحمن الرحيم

إخواني وأبنائي..

 لم أشأ أن أغادر هذه الدّار الفانية لملاقاة وجه ربِّي دون أن أُبلغكم بعض هواجسي التي لم تَغِبْ عن تفكيري وتوجُّهاتي طوال حياتي وقد رأيت أن أُوجِزَ تلك الهواجس في هذه الرسالة التي وددت أن تحمل معنى (الوصيّة) لما أُعَلِّقه على استيعابها والأخذ بها من أهميّة قُصوى في الحاضر والمستقبل بالنّسبة لطائفتنا الموحّدة الكريمة عامّة ولكلّ فرد من أفرادها بصورة خاصّة.

وعليه فإنّي أناشدكم بحقِّ ما عُرِفْتم به من إباء وشَمم ووعي ومروءة:
أن يتذكّر كلّ فرد منكم دائما أصله وتراث الطائفة الموحّدة وتاريخها وأمجادها وأن يروي لأحفاده وأولاده ويزرع في أفكارهم ونفوسهم فضيلة التمسّك بالقواعد المسلكيّة والأخلاقيّة التي كانت وراء تلك الأمجاد الباهرة والتاريخ المُضِيء وأن تحافظوا على تماسُكِكُم ووحدة صفّكم في السرَّاء والضرَّاء على حدٍّ سَواء.
أن تعملوا دائما على بقاء قيادتكم واحدة مُوَحّدة في جميع الظروف لأنّ التجاربَ الكثيرة التي مرَّت بها الأُمم والشّعوب قد أكّدت أن لا منعةَ لأيّةِ أمَّةٍ ولا رفعةَ ولا تقدُّمَ ولا طمأنينةَ ولا استقرار ولا كرامة إذا ابتُلِيَت بالتّخاصم والتفرّق.

أُحَذّركم من الهِجرة المُتَمادية التي تحمل في طيّاتها بذور التّفتُّت والتفكُّك المولِّدَيْنِ للضّعف العام على المدى الطّويل مع ما ينشأ عن ذلك في كثير من الأحيان من فقدان لهويّة وطنكم التي وفّرت وتوفِّر لكم كلّ عوامل المَهابة والاحترام والاستقرار.

أحذّركم الزّواج من الأجانب لِما في ذلك من تنكُّر لمبادئ العقيدة التوحيديّة وخروج عن كلّ تقاليدها وعاداتها الشريفة فضلاً عمّا يتولّد عن ذلك من طمس لهذه العادات والتقاليد ووأد لكلّ ما يتّصل بها – مما نفخَر به من تاريخ وتراث لا

تقتصر نتائجه عليكم بل تتعدّاكم إلى أبنائكم الذين يصبحون في غُربة تامّة عن كلّ تلك القواعد الصّلبة التي ساعدت آباءكم وأجدادكم على النّهوض بأشَقّ المسؤوليّات ومواجهة أفدح الأخطار واحتلال المركز المرموق خلال تاريخهم الحافل بالمآثر والمروءات.

أحذّركم من السّقوط في حمأة المُخَدّرات وتعاطيها والمُسْكرات وممارسة ألعاب القمار والتّدخين ليس لأنّها مُحَرّمات فَحَسْب بل لأنّها تُفْقِدُ الصحَّةَ والمالَ والرّجولة والكرامة أيضاً في أحيان كثيرة.
أحثُّكم على الإقبال على تحصيل العلوم التطبيقيّة وعدم الاكتفاء بالعلوم النَّظرية كما أحثُّكم على إيلاء النشاطات التّجارية والصناعيّة والفنيّة المُحْترمة قِسطاَ وافراً من جهدكم وذلك لكيلا يسبقكم الزّمن فتظلوا على ثقةٍ وثيقةٍ بما هو مألوف في العصر الذي تعيشون فيه والمليء بالتحدّيات القائمة بين الأفراد والجماعات.

أحثّكم على الاهتمام بإقامة المؤسّسات على اختلاف وجوهها ومواضيعها ونشاطاتها من صحيّة واجتماعيّة وثقافيّة وإنسانيّة لأنَّ المؤسّسات السّليمة تُحَصّنُ وجودَكم وتحفظ كرامتكم وتؤكّد عزَّتّكم وتساعدكم على تلبية حاجاتِكم وتدفع بكم إلى الأمام في مجالات التقدُّم والتَّحرُّر والازدهار

 هذه هي رسالتي بل وصيّتي لكم أيها الإخوان والأبناء الموحّدون وأتمنَّى أن تتأمَّلوا مضامينها وتدقّقوا أبعادها وتعلموا أفراداً وجماعاتٍ لأنّي مؤمنٌ بأنَّ في الالتزام بها صَوْناً لوجودكم الكريم وتحصيناً لهذا الوجود في الوطن وخارج حدود الوطن على مدى الأيّام والدُّهور والله المُستعان على ما فيه خيركم وعزّتكم وسعادتكم. ■

أخلاق توحيدية