الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قلعة نيحا

من أبـــرز معالــم محميــة أرز الشــوف

قلعــة شقيــف فــي نيحــــا
حصــن منيــع لــه تاريــــخ

حـــررها صــلاح الــدين مــن الصليبييــــن
واحتفــــظ بهــا العثمانيــــون 400 سنــــة

تتميز المحمية بوجود كبير من المعالم التاريخية في نطاقها وهو ما يزيد جاذبيتها السياحية وقيمتها الثقافية، ومن هذه المعالم مقام النبي أيوب في نيحا، ومقام الست شعوانه في منطقة البقاع، وآثار قلعة قب الياس، لكن أهم المعالم التاريخية هي ولاشك قلعة شقيف تيرون التي تقع في بلدة نيحا على بعد 33 كلم من بيروت، وهي محفورة في قلب جرف صخري يطل على وادي بسري، وهذه القلعة المذكورة في بعض النصوص “مغارة شقيف تيرون” وردت في كتابات الصليبيين منذ القرن الثاني عشر ميلادي، ويدعوها سكان القرى المجاورة قلعة نيحا لأنها تقع في منطقة جبل نيحا، وبحكم موقعها الاستراتيجي المسيطر على الطريق الممتد بين صيدا والبقاع والشوف، أصبحت حصناً عسكرياً يتيح لحاميته المقاومة والصمود لأشهر طويلة.
ونظراً لأهمية الموقع الكبيرة، تعرضت القلعة للعديد من الاحتلالات والكرّ والفرّ وإعادة السيطرة، كونها شكلت هدفاً دائماً للحكام والجيوش المتعاقبة، فانتزعها اتابك دمشق السلجوقي شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك بوري في سنة 1134م. من الضحّاك بن جندل، وسيطر عليها الصليبيون بعد ذلك قبل تحريرها من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي في سنة 1165م.. وقد هيمن عليها الصليبيون مجدداً (1182م.). لكن الملك صالح اسماعيل (ملك دمشق) استعادها سنة 1238م، وبعد أعوام عدة عادت إلى عهدة الصليبيين بموجب معاهدة والي صيدا سعد الدين بن نزار
(1251 م) وبقيت القلعة موضوعاً لكر وفرّ إلى أن احتلها شهاب الدين بن بحتر سنة 1260م. واحرقها قبل ترميمها وتحصينها من قبل السلطان المملوكي الظاهر بيبرس سنة 1270م.
ومنذ سنة 1516م وحتى أوائل القرن العشرين ظلّت القلعة تحت سيطرة أمراء الجبل والسلطة العثمانية، وفي سنة 1585م لجأ إليها حاكم الشوف آنذاك الأمير قرقماز (والد فخر الدين الثاني) بعد أن طارده العثمانيون بتهمة السطو على خزينة السلطنة في جون عكار، وتوفي بعد ذلك بقليل بعد انتقاله إلى مغارة قرب جزين.
عرفت القلعة في تاريخ لبنان الحديث بـ “قلعة فخر الدين” عندما اتخذ منها الأمير المعني فخر الدين الثاني ملجأ في سنة 1633م بصحبة عائلته وبعض المقربين، على أثر هزيمته أمام الجيوش العثمانية في عهد أحمد باشا كجك، وبعد حصاره لفترة طويلة وصموده قام أحمد باشا بتلويث المياه الجارية إلى القلعة بالدماء وكروش البهائم، بعد اكتشاف المجاري الجوفية من نبع الحلقوم القريب، عندها هرب الأمير واختبأ في مغارة جزين، حيث القي القبض عليه. وتزعم إحدى الروايات الشعبية أن ابنة الأمير انتحرت مع حصانها بعد أن عصبت عينيه وقفزت من أعالي القلعة خوف الوقوع في أسر الدولة العثمانية. أما الأمير الأسير فاقتيد إلى اسطنبول وأعدم هناك سنة 1635م.

الصيد العشوائي

الصيد العشوائي في حوض البحر المتوسط وآثاره على التنوع البيئي

500 مليــون طيـر مهاجـر تقتـل سنويــاً
وأنـواع عديـدة باتـت فـي حكـم المهـددة

في غياب القوانين المنظمة وغياب الدولة شبه التام عن فرض احترام الأنظمة، تحوّل الصيد وخصوصاً صيد الطيور المهاجرة في لبنان، إلى حال مقلقة من الفلتان التام والقتل العشوائي لملايين الطيور في العام، وتتم عملية القتل التي يسمونها صيداً بوسائل ممنوعة تماماً في الخارج مثل استخدام “المكنة”، وهي التي تبث نداءات مسجلة للطيور المستهدفة أو الأضواء الكاشفة وغيرهما. وبلغت فوضى الصيد في السنوات الأخيرة حداً تحول معه كل من يمتلك ثمن بندقية صيد لا يتجاوز سعرها الـ 100 أو الـ 200 دولار إلى “صياد” يجوب القفار والجرود والأودية بحثاً عن أي جناح يطير من دون أي اهتمام لنوعه أو لواقع كون الطير من الأنواع المهدّدة التي تستوجب الحماية، بل في كثير من الأحيان يتم قتل الطيور المهاجرة التي لا يمكن أكلها مثل النسور والعقبان والبوم أو طائر السنونو أو غيره، كل ذلك في اندفاع السلاح والرماية على أي هدف يطير في السماء. وبالنظر لغياب جمعيات الصيادين المنظمة أو السلطات المحلية أو غيرهما، فإن معظم “الصيادين” ليست لديهم فكرة على الإطلاق عن الأنواع المهدّدة ولا عن الآثار السلبية المتزايدة لقتل الطيور على التنوع البيئي، ويكفي قول بعض كبار السن إن الوفرة الهائلة للطيور قبل نحو 60 أو 70 سنة كانت عاملاً أساسياً في نقاء الطبيعة والمحاصيل من الآفات، فلم تكن هناك حاجة لرش المبيدات أو أشكال المكافحة، وقد كانت الطيور المهاجرة يومها تنعم بأمن كبير لأن الصيد كان مقتصراً يومها على استخدام قضبان “الدبق” وبعض أسلحة الصيد البدائية التي يتم حشوها في كل مرة يراد فيها قنص طير من الطيور. ومن المرجّح أن تطور أساليب الصيد وأسلحته والاتساع غير المسبوق للأشخاص الذين يمارسون الصيد أدّيا إلى إنقاص كبير في عدد الطيور المهاجرة التي تمرّ في بلداننا، والتي كان الكثير منها يشكل العدو الطبيعي للكثير من الديدان أو الحشرات الضارة . وقد شهدنا في السنوات الأخيرة مثالاً على ذلك انتشار دودة الصندل التي تفتك بأشجار الصنوبر البري وبأشجار السنديان والملول، وقد عزا الخبراء استفحال أمر هذه الدودة إلى الفتك الواسع النطاق بأنواع من الطيور، مثل السفري التي كانت تتغذى على هذه الديدان وتحدّ بالتالي من أثرها على البيئة، وذلك كجزء من التوازن الطبيعي الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة وحافظت عليه الأجيال السابقة من الأجداد على مر القرون والدهور. كما أن طيور “العابور” تتغذى على أنواع كثيرة من الحشرات التي تكثر في موسم الربيع ومطلع الصيف عندما تتحرك الطبيعة وتبدأ الحشرات الضارة بالتحرك من سباتها الشتوي.
إن التشديد على هذه الأمور لا يعني بالضرورة العمل على منع الصيد بصورة تامة، لأن الصيد معترف به كنشاط يخدم التوازن البيئي إذا تمّ ضمن قوانين وعمليات متابعة وإحصاءات مستمرة لكميات الطيور المهاجرة للتأكد من الحفاظ على معدل معين لأعدادها وتوالدها. وقد طوّرت البلدان الغربية وسائل حديثة وتقنيات متطورة لمتابعة أسراب الطيور وطرق هجرتها وسلوكها خلال موسمي الهجرة، وهما: الهجرة من الشمال البارد إلى أفريقيا قبل موسم الشتاء، ثم الهجرة المعاكسة من أفريقيا باتجاه شمال الكرة الأرضية في الربيع ومع اقتراب الصيف.
أما في لبنان، فلا توجد جهود حقيقية للقيام بهذا النوع من المتابعة والتقييم بإستثناء الجهود المخلصة لبعض جمعيات حماية الطيور أو لبعض البرامج الخاصة والمدعومة من الاتحاد الأوروبي أو برنامج الأمم المتحدة للتنمية، لكنّها جهود محدودة ولا ترقى أبداً إلى مستوى الإدارة المنتظمة والعلمية لنشاطات الصيد مع التقييم والقياس الدائمين لأثر تلك النشاطات على أجناس الطيور وأعدادها بين موسم وآخر.
ومما لا شك فيه أن عدد الكثير من الطيور المهاجرة قد تأثر مع السنين بالصيد الجائر والعشوائي حتى أن عدداً منها بات فعلاً مدرجاً في لائحة الأنواع المهدّدة، والتي تتطلب بالتالي تطبيق إجراءات فورية لحمايتها.
وتشير دراسات قامت بها المنظمات المتخصصة في حماية الطيور ومتابعة الأنواع المختلفة منها إلى أن الصيادين في لبنان يقتلون ملايين الطيور المهاجرة التي تمر في لبنان سنوياً في طريقها نحو أفريقيا،وكذلك في طريق عودتها إلى شمال الكرة الأرضية. وهناك تقديرات بأن نشاط الصيد في دول حوض البحر المتوسط أي جنوب أوروبا وشمال أفريقيا ودول الحوض الشرقي للبحر المتوسط يؤدي سنوياً إلى قتل نحو 500 مليون طير، وذلك خلال عبور الأسراب المهاجرة فوق منطقة البحر الأبيض المتوسط، علماً أن قسماً كبيراً من هذه الطيور يتم قنصها أو أسرها بالجملة بواسطة الشباك والأساليب الأخرى في منطقتي شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط المحاذية للبحر الأبيض المتوسط. يذكر أن معظم الطيور التي يتم قتلها هي أنواع تتوالد في أوروبا خلال الصيف وتقضي الشتاء في أفريقيا، كما أن العديد من تلك الطيور بات مصنفاً ضمن الأنواع المهدّدة عالمياً، وذلك في المصنف الأوروبي للطيور.

الكثير من الآفات الزراعية الفتاكة انتشر في لبنان بسبب الصيد الجائر لأجناس من الطيور تشكل العدو الطبيعي للحشرات المسببة لتلك الأضرار

وظائف الطيور
في البيئة الطبيعية

1. الطيور تنشّط نمو الأشجار بما لا يقل عن نسبة
30 %، وذلك عبر تنقية البيئة من الطفيليات وغيرها من الحشرات الضارة التي تتسبب بتأخير النمو.
2. الطيور هي أكبر وسيلة لنشر البذور وتكثير العديد من النباتات، وذلك بسبب أنها تنقل الكثير منها عبر قوائمها.
3. تساعد الطيور أيضاً في تلقيح الثمار عند انتقالها بين الأشجار ونشرها لحبوب اللقاح في الهواء.

مسارات الطيور المحلقة المهاجرة عبر لبنان

على الرغم من أن أسراب الطيور العالية التحليق (مثل البجع والكركي واللقلاق وغيرها) يمكن مشاهدتها في أي مكان من لبنان خلال مواسم الهجرة، فإن الأبحاث العديدة برهنت على أن تلك الطيور تفضل بعض الطرق على غيرها، لكن هذه الطرق ليست نفسها بالنسبة لجميع الأجناس أو في موسمي الهجرة كما يظهر من الخارطة المرفقة. إذ تظهر الخطوط الصفراء السميكة الطرق التي تأكد وجودها عبر الأبحاث، أما الخطوط الصفراء المنقطة فقط تمّ استنتاجها بصورة أولية وتحتاج إلى المزيد من الأبحاث للتأكد منها.

لا يوجد في لبنان إطار قانوني ينظم الصيد، ولا قوى كافية لفرض الالتزام بأي إجراءات تنظيمية والكثير من القرارات يبقى من دون متابعة وتنفيذ

وكذلك في طريق عودتها إلى شمال الكرة الأرضية. وهناك تقديرات بأن نشاط الصيد في دول حوض البحر المتوسط أي جنوب أوروبا وشمال أفريقيا ودول الحوض الشرقي للبحر المتوسط يؤدي سنوياً إلى قتل نحو 500 مليون طير، وذلك خلال عبور الأسراب المهاجرة فوق منطقة البحر الأبيض المتوسط، علماً أن قسماً كبيراً من هذه الطيور يتم قنصها أو أسرها بالجملة بواسطة الشباك والأساليب الأخرى في منطقتي شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط المحاذية للبحر الأبيض المتوسط. يذكر أن معظم الطيور التي يتم قتلها هي أنواع تتوالد في أوروبا خلال الصيف وتقضي الشتاء في أفريقيا، كما أن العديد من تلك الطيور بات مصنفاً ضمن الأنواع المهدّدة عالمياً، وذلك في المصنف الأوروبي للطيور.
لكن على الرغم من الاهتمام بالطيور المهاجرة، فإن المؤسسات والجمعيات المتخصصة تعترف بأن نشاط الصيد هو نشاط اقتصادي واجتماعي مهم في كافة البلدان المعنية، وأن أي خطة لحماية الطيور يجب أن تأخذ في الاعتبار واقع أن الصيد نشاط يدخل فيه مئات الآلاف من الأشخاص ويتم على مساحات شاسعة من المنطقة، وتشير التقارير إلى أن أبرز العقبات التي تواجه مهمة حماية الطيور المهاجرة في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط هي التالية:
1. لا توجد إدارة فعلية لحركة وواقع الطيور المهاجرة في المنطقة، كما لا يوجد إطار قانوني ينظم الصيد، ولا قوى ووسائل فعّالة لفرض الإلتزام بأي إجراءات تنظيمية للصيد بحيث يبقى الكثير من تلك القرارات من دون متابعة وتنفيذ.
2. لا توجد موارد كافية في هذا الصدد سواء لدى الحكومات أم لدى منظمات المجتمع المدني المعنية.
3. هناك ضعف عام في الوعي لدى الصيادين، ولدى الرأي العام عموماً، بالأثر البيئي الذي ينتج عن الصيد الجائر وغير المنظم للطيور.
4. لا يوجد إطار للتعاون الإقليمي بين الحكومات والمؤسسات المعنية من أجل تحقيق حماية أفضل للطيور المهاجرة.
5. هناك تاريخ من النزاع وسوء التفاهم المستمرين بين الصيادين وبين المنظمات المعنية بحماية الطيور حول الأولويات وأساليب التعامل مع الصيد المنظم للطيور.
الطريف أن الكثير من اللبنانيين يعتقدون خطأً بأن الصيد تقليد قديم وأنه يسري مسرى الدم في عروقهم ، أما حقيقة الأمر فهي أن الصيد لم يدخل إلى لبنان على نطاق واسع إلا في مطلع الخمسينات، وذلك خلال عهد الرئيس كميل نمر شمعون الذي كان هو نفسه من أكثر المتحمسين للصيد، وقد تعلم فنونه في بريطانيا حيث أتم دراسته وعاد إلى لبنان ليمارس تلك الهواية غالباً تحت أنظار الصحافيين والجمهور. وبالنظر لشخصية الرئيس شمعون وشعبيته فقد بدأ العديد من أبناء الطبقات الميسورة دخول حقل الصيد تشبهاً برئيس البلاد، وبدأ تقليد إدخال أسلحة الصيد الحديثة وكلاب الصيد ينتشر تدريجياً مع بداية الستينات. وقد أظهر إحصاء أجري في سنة 1994 أن عدد الصيادين المسجلين في لبنان كان قد بلغ 14,000 صياد، لكن التقديرات الواقعية المبنية على معلومات وتحقيقات لاحقة أظهرت أن العدد قد يتراوح بين 60,000 حسب مصادر الصيادين وربما 200,000 أو أكثر إذا أخذ في الاعتبار نشاطات الصيد المتقطعة للكثيرين.
وفي سنة 1995 أصدرت الحكومة اللبنانية وبناءً لاتفاق مع هيئات الأمم المتحدة حظراً شاملاً على الصيد لمدة خمس سنوات، وذلك بعد سنة من توقيع لبنان على معاهدة التنوع البيئي الدولية، والتي فرضت عليه التزامات محددة بشأن حماية الحياة البرية والبحرية.
وبعد انقضاء مدة الحظر، وفي غياب بدائل أفضل فقد استمرت الدولة اللبنانية في تجديد الحظر سنة بعد سنة إلى أن تقرر في سنة 2005 إصدار قانون للصيد ينظم الموسم بدلاً من الحظر التام، إلا أن القانون يحتاج إلى مراسيم تنظيمية وآليات لم تكتمل بعد. وقد أرسل موقف الدولة اللبنانية والبرلمان رسائل متناقضة للمجتمع بحيث عاد الصيد غير القانوني بقوة غير مسبوقة. وتقول منظمات حماية الطيور إن منع الصيد لا يمكن أن يطبّق بفعالية من دون تحديد “كوتا” محددة لكميات الخرطوش وعتاد الصيد الذي يُسمح للمحلات المتخصصة بأسلحة الصيد ببيعها سنوياً، وكذلك من دون منع تقديم العصافير كطبق في المطاعم، لأن أحد المحفزات الأساسية للصيد هو إمكان بيع العصافير للمطاعم من قبل صيادين يعتمدون عليها لتحقيق دخل من هذا النشاط.

شغف الرئيس كميل شمعون بالصيد ورحلاته المصورة في خمسينات القرن الماضي لعبت دوراً في ترويج الصيد بين أبناء الطبقة الغنية أولاً ثم بين عامة الناس

الصيد في لبنان من رياضة المشي
إلى فن القتل الكسول بواسطة «المكنة»

صيد الطيور في لبنان هل هو رياضة فعلاً؟ أو هل بقيّ فيه شيء من نشاط وتقاليد وقيم الرياضة؟ في الماضي كان الصيد متعة حقيقية في الطبيعة وترصداً وانتظاراً أو سيراً حثيثاً وتسلقاً للجبال أو هبوطاً للوديان، كما كان سمراً بين الصيادين وتعاوناً ولم يكن المهم فيه كمية الصيد أو حجم الطرائد بقدر ما كانت الرياضة نفسها وما تجلبه للصيّاد من عافية للجسم وتحمل المشاق، كما أن قسماً منها ولا شك كان متصلاً بالتاريخ الحربي للعديد من مناطق لبنان بما في ذلك الجبل، فكان الصيد ولو من باب غير مباشر جزءاً من اعتياد السلاح وفن الرماية وسبباً للثقة بالنفس والشعور بالقوة. وبهذا المعنى على الأقل فقد كان الشعور العام هو شعور تسامح وإعجاب بالصيادين وبقوتهم وجلدهم وشعور الأخوة بينهم والمنافسة الرياضية بينهم.
لكن أين صورة الصيد هذه وتقاليده من الصورة التي أصبح عليها الصيد في أيامنا الحاضرة. لقد تحول الصيد إلى رياضة للقتل الكسول في غالب الأحيان. سيارات متوقفة على قارعة الطريق وطاولات ونارجيلة بالتبغ “المعسَّل” واستعراض لأنواع السلاح وماركاته والأحدث منه أو الأغلى ثمناً. لكن كل هذه العدّة لا تساوي شيئاً أمام الاختراع الذي دخل ميدان الصيد عندنا وهو “المكنة”، أي آلة التسجيل التي تخدع الطيور بإذاعة صوت طيور من جنسها وهو ما يدفع بها إلى الاقتراب من الصيادين الذين قد يقتلونها وهم في أماكنهم ومن دون الحاجة إلى أن يتحركوا خلفها أو يطاردوها.
هل هذه “رياضة” فعلاً، وأي هدف منها سوى الظهور وحرق الخرطوش على كل جناح يطير أو يقوده سوء الحظ إلى مجال الرماية هذا الذي قد يضم أحياناً أكثر من خمسين سيارة مع أطقمها وأسلحتها المتنوعة والمتطورة؟

الأرضُ تعطـي وَجهَهـا شَهــــــــادَة وتَذكِـــــــرة

في هذه الشهادة الرقيقة والقويَّة يتحدَّث الكاتب عن صديق له اختار محبَّة الأرض وبنى حياته وعقيدته وسلوكه وغبطته الداخلية على العيش في كنفها والتعرّف على أسرارها وأسرار الرزق والرزَّاق وغيب الطبيعة وأحوالها. إنَّها قصة حياة غابت أو غيَّبناها وتذكرة في زمن الغفلة لأُولي الألباب، أو قُلّ لذوي الحظوظ الذين «قالوا ربنا الله ثمَّ استقاموا» فانفتحت لهم أبواب النِعمة وباتوا من الذين «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
يقول الحق جلَّ وعلا: «أنا جليس من ذكرني» وجليسُ الأرض ذاكر للحقِّ في حلّه وترحاله لأنَّه خادم لأعظم مظاهر إبداع الحياة وعبد للنعمة وشاكر لها وراض بالعطاء، صابر على المنع.

1 –
هذه المقالة الشهادة هي عن صديق لي لن أذكر اسمه الحقيقي بل سأكتفي بتسميته “صديق الأرض”، وأعلم أنه هو ربَّما الاسم الذي يحبّ أن يُكنَّى به والذي ينطبق على الطريقة التي صاغ فيها حياته والتي بها يعيشها منذ زمن غير قصير.
كان يتحدَّث عن صفقة العمر التي اتَّخذ القرار بشأنها خلال عشر دقائق. لم يكن على استعداد، لكنَّ الأمر كان أشبه بثمرة ناضجة

تغريه بقطافِها. علَّمتْه الأرضُ نفسها أن لا يؤخر القطاف. كان يتحدَّث بفرح وانطلاق عن قطعة الأرض التي أضافها مؤخراً إلى ممتلكاته الزراعية المتواضعة؛ فهو ليس ملاَّكاً كبيراً، لكن الأرض مهما صغرت كبيرة في عقله وأحاسيسه ووجدانه. عندما قرَّر شراء الأرض لم يكن القرار تجارياً، ولم ينخرط عقلَهُ بالتالي في حساباتِ عقاريَّةٍ، لكنه علم من ظاهر الأمر أنَّ ثمنها يناهز الـ150 ألف دولار، وكان عليه بالتالي أن يجد وسيلة لتوفير هذا المهر الغالي. كان قلبُهُ جاهزاً كأنَّه تواطأ مع البستان عينه قبل الدخول في أيّ حديث. وهو لشدَّةِ رسوخ قناعته وشوقه كانت كلُّ كلمةٍ يقولُها للمالك الذي يوشكُ أن يصير مالكاً سابقاً في دقائق معدودة، بمثابة صكّ لا يحتاج إلى ورق. ربّما رتَّب مسألةَ سياق الدّفع في طريقه إلى المكان، ولمّا كان الرَّجُل يستشعر نظيرَهُ في ثوانٍ، طُوي الجدَل، وانتهَى الأمرُ من غير بنود وشرائط قانونية كثيرة، إنّما بالتراضي ثمَّ بالتوقيع “لأنَّ الدُّنيا فيها موت وحياة”.
أُضِيفَت الأرضُ المغرُوسة بالأشجار المُثمِرة إلى أراضٍ كان صديق الأرض قد تملّكها بكدِّه وعرقِ جبِينه خلال مراحل الكفاح الأولى من حياته، والتي بدأها ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين. إنَّها نتيجة باهرة وفتح حقيقي لإنسانٍ أدار وجهَه نحو الأرض في وقت يتفرَّق الناس عنها ويتركونها نهباً للشوك والغبار وحر الشمس، أو يلقون بها إلى وحش الإسمنت.
طلبتُ من صديقي، صديق الأرض، أن نمضي في بعض أرضِه تِمشاءً نتبادلُ الأسئلة الموجَزة من قِبلي، والإجابات الحرّة والعفوية من قِبلِه، ليكونَ سرُّه والأرض في نور الشَّمس. والحقيقة، كلّ أسرار الرَّجُل منضوية في عبارة ردَّدها تكراراً كاللازِمَةِ أو كالعروة الوثقى بينَ عقله وقلبه: “كلُّه مِن فضل ربِّي”.

2 –
الفقرُ الماديّ أقعَدني عن متابعة الدراسة. إنَّ أوّل ما يقفز إلى ذهني عن أيّام المدرسة هو صورة الثياب المرقّعة، وعدم القُدرة على شراء كتب التّعليم، وخصوصاً الخجل الشديد عندما أُدعى للوقوف أمام اللوح من أجل الإجابةِ على سؤال وفي قدميّ مَداس (شحّاطة) البلاستيك. هكذا، واجهتُ الحياةُ في الثالثةِ والعِشرين منعمري بلا عِلم، وكان البلدٍ ينوء تحت وطأة اجتياحٍ إسرائيليّ غاشِم. كانَ السّائدُ لدى أبناء جيلي هاجسُ السّفَر. داعبتني الفِكرةِ، وأنجزتُ الخطوةَ الأولى في هذا الدّرب، وهي الحصول على جواز سفر. كنتُ واضحاً مع نفسي: أريد أن أجمعَ مالاً، أن أخرج من دائرة العوز الذي كنت فيه. استطلعتُ أخبارَ مَن سبقَنا في خوض هذا الغِمار. وجاءت المعلومات مثيرة للقلق. الفردُ في بلادٍ غريبة ضعيف، لا يمكنه أن يختار وفق هواه بل عليه التقاط أيّ فرصة عمل سواء أكانت الخِدمة في مطعم، أو في محطّة وقود، أو البيع بالمفرّق كما فعل أصحاب “الكشّة” قديماً. سرعان ما التقطتُ الإشارة، فالأمرُ بحاجةٍ إلى بذل الذات وإفراغ الجهد، وإلى تعَبٍ وكدْحٍ لا هوادة فيهما كي يحقِّقَ المرءُ ما يوازي ما سيصرفه مِن عُمر وسنوات عزيزة. وجدتُني في نهاية المطاف اقتنع تماماً بأنَّ المكانَ الَّذي وُلِدتُ فيه أقدر على أن يمنحني الفرصة، لكن يجب أولاً أن ينعقدَ عزمي على الكِفاحِ والعمَل الدؤوب بالطاقة ذاتها التي ستتطلّبها منّي ظروفُ الغُربة. غيَّرتُ رأيي من دون تردّد. وباتَ حلمُ يقظةِ السفر بسرعة ذكرى من الماضي.

3 –
اقترضتُ من أحد أفراد عائلتي أربع أونصات ذهب، واشتريتُ بها قطعةَ أرضٍ على الفور. نويتُ البيع وتحقيق الرِّبح. كانَ هدفي العيشَ مستوراً. بِعتُ واشتريتُ ثاني وثالث. تابعتُ في هذا السّياق بوتيرةٍ متسارِعة. خلال ستين يوماً حقَّقتُ ثلاثة آلاف دولار ريعاً من هذه التِّجارة. ثمّ صرت أُخرِجُ الأرضَ التي تناسبني منَ العروض. بِعتُ منها الكثير، واحتفظت بالأكثر. لم أتعاطَ الفائدة. لم أتعامل مع المصارف. أخاف منها. هي عندي خط أحمر. طلبتُ منَ الدّنيا فأُعطِيت منها، لكن كانت تتردّد في بالي حِكمةٌ سمعتُها مراراً عنِ الأسلاف: ماذا يفيد المرء أن يربح الكَونَ ويخسَر نفسَه؟

 

الأرضُ غيورة، تعرف أنك قدمت إليها. كلّ هذا
في دائرة “من فضل ربِّي”، وليس “الأنا”

تأهّلتُ، وكانَ يوم العُرس وَفق خاطر المشايخ. شاهدتُ بعد أيّام صورةً للجَمع العائد بابنةِ العمّ يتقدّمُهُم الشيوخُ بمهابةِ كَنفٍ عائليّ وقور. تحرَّك أمرٌ ما في قلبي وفي أعماق نفسي من أثر تصوّري للمشهد. قلتُ هذا ما أريدُه، هذا مَداري. قمتُ بعد مدَّةٍ بزيارةِ شكرٍ للأفاضِل، وكانَ ثمّة ضيوف أجواد من نظائرهم في الحِلم وغايةِ الأدب. أبصرتُ آنذاك خِياري في الحياة، وعدتُ معاهِداً روحي سرعة المبادرة إلى تقواها. وفي خِلال أيّام معدودة، بتُّ ملتزماً مسلكَ القوم.
تأصّلتْ فكرةُ العملِ مع الأرض أيضاً عبر سماعي الكثير من أخبار أعيانٍ في الفضيلةِ، جاهدوا في كسب الحلال ووسّعوا الرّزق، استصلحوا الوعرَ ولم يقطفوا الثّمار إلاّ بعد سنواتٍ طوال من الكدّ والتّعب والمُثابرة. تركوا إرثاً امتزج بالتراب والهواء، وكانوا في الأعرافِ الدّينيَّةِ قُدوة في الشّرف والطّاعة.

4 –
مَضت ثلاث سنوات في التّجارة قبل أن أبدأ العمَلَ بالغَرس. غرستُ كلَّ قطعةِ أرضٍ أبقيتُها وَفق بيئتها الملائمَة، فالدافئة تريد الزّيتون، والعالية التي يأتيها الجليدُ تريدُ التّفاح. كانت الجذورُ بدورِها تمتدّ في طبيعةِ علاقتي بالأرض. تراكمَتْ الخِبرةُ لديّ بعد تكبّدي خسارات في التّجارب. أنصب ثمّ أقتلِع. هذه الأرض لا يؤاتيها شجرُ الجَوز، فالصّقيعُ أدّى إلى يباسِها. وتلك لا يوافقُها الكرز، فأُبدِّل النَّوع بما يروق لها. ليس لديّ مهندِسٌ زراعيّ. اكتشفتُ أصول الزراعة ومعظم قواعدها من تجربتي الشخصيَّة. لم أتعلَّم مِن أحد بطريقة منهجيَّة، ولكن لا يخلو الأمرُ من سماعِ فائدة كبرى كتلك التي سمعتُها مِن أحدِهم في قرية عُرنة الشام، قال إنَّ الملِك في شجرةِ التّفاح (يعني الطَّربون الأعلى) يجذبُ النَّسغَ إليه، فيأخذ الجنى كلّه، فإذا تمّت إزالته، تدخُل الشّمسُ إلى قلبِ الشّجرة ويتوزَّعُ الخير في أرجائها. كانت ملاحظته مُحِقّة. وهذه ما اكتشفتُها من ذاتي، بل تعلّمتها.
ليس الحبُّ ما يقودني بل الشّغَف. أغنَتني الأرضُ عنِ السّوق. المازوت لا يدخل بيتي لأنّ الأرض أعطتني. الفاكهة لا أشتريها. “الصحرا” (أي الخضار البعل التي لا تحتاج إلى نظام رِيّ) تعطي العديد من أنواع الخضروات. وثمّة خيرات كثيرة تصلِح أعلافاً للمواشي وللطيور الدّاجنة التي تعلّقتُ بتربيتها أيضاً من دون اعتبارها مشروعاً بذاته. وجودها حافزٌ لي إلى زيارةِ الأرضِ يوميّاً، فضلاً عن الاستفادة من لحومها وألبانها، فإن أُطعِمتُ منها وأَطعَمت أكُن عارفاً بطِيبِ الغِذاء ونقائه بعيداً عن أيّ سموم أو مواد مضرّة أو مصنَّعة.
لا أفضِّلُ زراعةً على أُخرى. كلُّ ثمرةٍ هي الأحبّ في وقتها. أغالي في كلِّ صنف، لأنَّ الثِّمارَ لا تُقبِل سويّة. إن أتى الكرز لا يأتي الجوز. وإن أتى الزّيتون لا يأتي اللوز. إن لم يُعطِ التّفاح في هذا الموسم، يعطي غيرُه. وعند القطاف أغالي في الحبَّة الواحدة. أتكدّر إذا ما بقيت الغلَّة على الرّزق وأكلها الطَّير. بطيبة خاطري لا أقبل ذلك. هذا حلال “بَهدلتُ فيه”. قبل الشّتوة أحرثُ الأرض، أفلحها. بحيث تنام استعداداً للشتاء مشقوقة. لا أدعها بُوراً. فإذا قدم الشتاء، دخلها ماؤه. الآلة سهّلت هذا العمل. لولاها لما اقتنيت أرضاً. ستون يوماً من الفلاحة اليدويَّة اختصرتهُم الآلةُ بأيّام. أمّا المياه، فالطبيعةُ تخبِّئ لنا آباراً جوفيّة. ولديّ خزّان في كلِّ قطعة أرض. وجود المياه استمرار للحياة. الأرضُ مدرستي. وظيفتي. قيل لي دع عنك العناية ببعض الأنواع، “خلّيك متل جدودك”. أجبتُ: لديكُم وظائفكم. أنتم تجهّزون أوراقاً مطلوبة لعملِكم. أنا ما استعملتُ يوماً ورقة ليُقبَل طلبي في العمل مع الأرض. هذه الأنواع تدرّ مالاً. كسولٌ من يسعى إلى ورقة، ولا يغامر في الأرض ويضحِّي من أجلها.

5 –
الأرض تعطي، وأخالف كلّ قائل بغير ذلك. ثمّة سلف صالِح استصلحوا الوعر، وثابروا وقاسوا الشِّدَّة سنوات كي يأكلوا خيراً. باتَ رزقُهم مضرب مثَل. ردَّدوا كثيراً هذا القول: “معكن مصاري حطّوها بالأرض، تستغنوا”. كلّما ابتعتُ أرضاًَ أتخيّلهُم قُبالة عيني. أشعر أنّني أتابع المسيرة. الأرض يعني كرامة. أتشبّثُ بالبقاء هنا، “مش دغري بفلّ”. وُلِدتُ هنا، وهنا أموت كما يبدو لي. عطتني الأرضُ وجهَها من فضلِ ربِّي. أسمعُ من بعض النّاس: “الأرض دايرة وجهها”، يقصدون ضعف المواسم. لكنّني تيقّنتُ أنَّ الأرضَ لا تفعل ذلك، بل الإنسان هو الّذي يُدير وجهَه عنها. الأرضُ موجودة، فإذا ضحكتَ عليها ضحكت منك. بقدر ما تعطيها تعطيك. بقدر النزول فيها تنزل معك. الأرضُ تتكلَّمُ كثيراً، ومَن له أذنان سامعتان فليسمع. النَّصبَة تعرف أنّك أتيت، لأنها تعطش وتجوع، تريد المياه والسّماد الطبيعيّ. تريد أن يُقلَّمَ منها مَا يعوِّقُ غايتها. أعرف من لون ورقة الشّجرة مبلغ اكتفائها من كلِّ شيء. هذه تُبشِّرني بالعطاء، وتقول لي من ذاتها: “لستُ بحاجةٍ لشيء، تستطيع الغياب عنِّي شهراً، فليهدأ بالك. إذهب لغيري”. و”خِلف” الزيتون هذا يقول لي: “الأرض استقبلتني”. انظر نضارة لون الورق فيه، هذه النضارة للورد، وليست للزيتون، ليست للشجر. الأرضُ غيورة، تعرف أنك قدمت إليها. كلّ هذا في دائرة “من فضل ربِّي”، وليس “الأنا”.
ثمّة أسباب لِمن يُعامِل الأرضَ ولا يكون مُنتجاً. المُشكلةُ ليست في الأرض بل في إدارتِه، وضعف تدبيره، وعدم قبول النّصيحة الصادقة، والتكاسُل من حينٍ لآخَر. لديّ أشجار زيتون عمرها ثماني سنوات، ولدى غيري منها ما يناهز عمره ربع قرن، والغلَّة عندي أكثر. ليس الفارق في أيّ شيءٍ آخَر سوى في حُسن معاملتها. إذا غطَّى الثلجُ سطح الأرض، لا أقضِّي الوقت كلّه قرب الوُجاق، بل أذهب إلى “أرضاتي” لأخفِّف الحِمل الأبيض عن الأغصان الأقلّ متانة. ولا أمضي يوم الانتخابات في قيل وقال، بل إلى “الأرضات” أذهب وأسايِر حاجاتها. أصابني همٌّ وضِيق، فألوذ بالأرض التي تنسيني كلّ كربة. ورعيُ “الطّرش” عندي أحيانًا هو حُجّة لكي أتجنَّب حضور بعض المناسبات الحاشِدة.
مرَّت ظروف صعبة ومخيفة في أزمان الحروب، لا أذكر أنّني بوَّرتُ قطعة أرضٍ واحدة في كلّ تلك الفترات العاصفة. لديّ إصرار على المحافظة على الرّزق على الرغم من أنّ مواسم نُهِبَت آنذاك. بقي لديّ التصميم والمثابرة على الدّوام. احتجتُ في بعض الأزمات أن أنام في البريَّة أسابيع. هذا الأمر زوّدني بعلاقةٍ حميميَّة مع الأرض، بل مع الأفاضل من السَّلف الصّالح، إذ أشعر، كلّما حقَّقتُ نجاحاً في هذه الحقول، بأنّني أضيف لَبِنة فوق الأساس الصلب الَّذي وضعوه. أغتبطُ في جوّانيَّة روحي مثل فردٍ في مسيرتهم الشريفة.

أغنَتني الأرضُ عنِ السّوق، وإن أُطعِمتُ منها وأَطعَمت أكُن عارفًا بطِيبِ الغِذاء ونقائه بعيداً عن أيّ سموم أو مواد مضرَّة أو مصنَّعة

مـن أيــن نـبدأ هل جفــــــــاء الموحِّــدين للأرض قدر محتوم، أو مسار يمكن تبديله؟

السؤال مطروح وبجدية: هل هجر الموحِّدون الدروز أرضهم؟ وما هي الأسباب الرئيسية وراء هذه الخسارة؟ وهل الجفاء الذي قام مع أرض الأجداد لا علاج عملياً أو واقعياً له؟ هل أصبحنا أُمَّة موظَّفين ودكَّاكين وخدمات وجُباة للريع العقاري؟ هل علينا أن نضع وراءنا تاريخ القرون والدهور من تراث الأرض وحياة القرية ونقبل بأننا أصبحنا شيئاً آخر، جنساً آخر من الناس يشبه كلَّ شيء إلاَّ ما كُنَّا نعتقد أنَّه نحن وأنَّه حقيقتنا الأصلية؟

وإذا كان تطوّر الاقتصاد اللبناني والاقتصاد العربي حولنا عامل أساسي لا يمكن تبديله، وقد نالنا نصيب من آثاره على المجتمعات الريفية في كل مكان في العالم العربي.
وإذا كانت ثورة الاتصالات والعولمة وصناعة الإعلان والغواية قد أصابتنا بموجها، فهل يعني ذلك أنه لم تعد هناك طاقة لنا على التفكير واسترداد حقّ القرار؟ هل يعني ذلك أنَّه من غير الممكن الرد على هذا التفتت عبر خيارات واقعية؟
نشير هنا إلى أنَّ أكثر البلدان تقدُّماً في أوروبا، مثل ألمانيا أو هولندا أو سويسرا أو الولايات المتحدة أو اليابان، تشهد نهضة زراعية وتنوّعاً كبيراً في المُنتجات الزراعية المُتخصِّصة، والتي يمكن إنتاجها بصورة اقتصادية ومربحة وفي حالات عديدة بهدف التصدير. ولن نفصل في هذا المجال، لكن الهدف من هذا المثال هو التأكيد على الزراعة الحديثة والمربحة التي يمكنها أن تعيش جنباً إلى جنب مع التطوّر المجتمعي وتبدُّل العادات؛ كما أنه يشير إلى أنَّ هجرة الموحِّدين للأرض قد لا يكون سببها الأول عدم الرغبة في العمل في الأرض، بل عدم وجود البدائل والخيارات الزراعية التي تجعل من الأرض رأس مال اقتصادياً (عينياً) مُنتجاً ومُربحاً.
وفي هذا المجال، نودُّ التذكير بأنَّ الجبل يشهد حالات فَقر وبطالة صريحة أو مُقنَّعة، وبالتالي فإنَّ مناطقنا تحتوي على فائض عمالة قد يكون جاهزاً للانخراط في نشاطات زراعية مدروسة وحديثة، من حيث أساليبها وتنظيمها وقابليتها على الازدهار والربح، وربَّما التوسّع.

وفي هذه الحال، من أين نبدأ؟

نقطة البداية هي في إعادة تفكير علمية في النمط الاقتصادي للجبل، ويجب أن تنطلق من تحليل حجم التراجع في الاقتصاد الزراعي في الجبل وأسبابه. وفي هذا المجال، يجب طرح السؤال عن تأثير المُلكيَّات الصغيرة مثلاً أو الطبيعة الجبلية أو النقص النسبي للمياه في موسم الصيف أو نوعية الزراعات الموروثة وملاءمتها لاقتصاد تبادلي، أو الطبيعة الفردية للمزارع الجبلي أو أساليب الزراعة غير الملائمة أو الاستخدام المفرط وغير المراقب للأسمدة والمبيدات، وبالتالي الإيذاء المنهجي للبيئة الزراعية الطبيعية.  يجب أن نتذكَّر هنا أنَّ الزراعة التي ورثناها لم تكن زراعة تبادلية، أيّ زراعة تستهدف إنتاج فائض سِلَعي كبير يتمّ تبادله من أجل النقود. صحيح أنَّ بعض كبار الملاَّكين كانوا يمثِّلون حجماً مهماً في الإنتاج وكانوا يبادلون إنتاجهم بالتالي في السوق، لكن أكثر المزارعين في الجبل كان إنتاجهم بهدف الاستخدام المنزلي حتى إذا حقَّق المُزارع فائضاً في بعض السنوات فإنَّه كان يلجأ إلى مبادلته في السوق المحلية بالنقود أو بأغراض عينية. وبهذا المعنى، فإنَّ نمط الزراعة الذي نراه اليوم كان ملائماً أكثر لاقتصاد اكتفائي وليس لاقتصاد تبادلي.
على العكس من ذلك، إنَّ ما نسميه اليوم أزمة الإنتاج الزراعي يُقصد به أنَّ المحصول الزراعي لم يعد كافياً لسدِّ حاجات المواطن الجبلي. وقد شهد هذا المواطن تضخُّماً مطرداً في الحاجات وفي مستلزمات العيش وتربية وإعالة الأُسرة، في وقت كانت إنتاجية الأرض تشهد تراجعاً حثيثاً سنة بعد سنة. إنَّ أزمة القطاع الزراعي تكمن إذاً في تبدُّل نمط الاستهلاك وحاجات الأُسرة والتي كانت في الماضي حاجات بسيطة، ويمكن سدّها عبر زراعة الكفاف أو الاكتفاء النسبي.
لكن السؤال المطروح هنا هو هل يمكن للزراعات التي كانت مناسبة لاقتصاد الكفاف أن تبقى مناسبة لاقتصاد تبادلي يحتاج فيه المزارع لأنَّ يبادل جزءاً من محصوله على الأقل مقابل نقد يُنفقه على حاجاته الأخرى التي وَلَّدها تضخّم الاقتصاد الاستهلاكي؟ علماً أنَّ الاقتصاد الزراعي التبادلي يتطلَّب الآن الالتزام بمواصفات مُعيَّنة، كما يفترض تحقيق إنتاجية عالية وخبرة في الطلب وفي الأسواق وخلق علامات تجارية وخبرات تسويق وترويج، وغير ذلك من المهارات الأساسية التي وعلى الأرجح نفتقدها إلى حدٍّ كبير.

على العكس من ذلك، فإنَّ المزارع الجبلي ما زال على العموم يزرع ما كان يزرعه الأجداد مع استثناءات قليلة تمّ فيها اختبار بدائل مُعيَّنة، كما حصل في “فورة التفاح” في الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من التطوّر الهائل على جبهة الطلب وتبدُّل أذواق المُستهلكين وتفضيلهم، فإنه لم تجرِ في الجبل حتى الآن أية دراسة شاملة لأحوال الزراعة تستهدف وضع مخطط توجيهي Master plan يساعد على تعيين الميِّزات التفاضلية للجبل (لجهة الدورة الزراعية والعامل الموسمي والقيمة المضافة وسُبل تدوير الفائض عبر عمليات المعالجة أو التصنيع، وغير ذلك من العوامل)، ولم يتمّ بالتالي وبصورة علمية تعيين الزراعات البديلة أو الرديفة ونوعية المنتجات ذات القيمة المضافة ومنهج الزرع وإدارة الأرض والتربة والبيئة؛ كما لم يتمّ تعيين حاجات التأهيل البشري والمهني واستكمال بُنية القطاع عبر مستوياتها أو حلقاتها كافة.
العامل الأهم المفقود هو استراتيجية الترويج واكتساب الزراعات الجبلية قوَّة العلامة التجارية القادرة على الانتشار في العالم. والمقصود هنا ليس فقط خلق العلامة التجارية لك، سلعة أو منتجاً لشركة أو تعاونية، بل خلق العلامة التجارية أو الهوية التجارية لزراعة الجبل بكاملها، بحيث يصبح الجبل مشهوراً بمجموعة من الزراعات أو المنتجات التي تجعل منه مقصداً لشبكات التجزئة أو المُصدِّرين أو المُستهلكين الذين قد يتوجَّهون مباشرة للتسوُّق في مراكزه التجارية المُتخصِّصة.
إنَّ النجاح الكبير لتجربة “جمعية أرز الشوف” قام على الإنجاز الأهم الذي تمثَّل في خلق العلامة التجارية، وكذلك خلق القيمة المضافة المرتبطة بالقيمة الغذائية للعديد من تلك المنتجات التي يتبع في إنتاجها أسلوب الزراعة العضوية. وقد أثبتت تجربة المحميَّة أنَّ هناك طلباً كامناً هائلاً على المنتجات العضوية، هو طلب  يتجاوز لبنان في الحقيقة إلى كلِّ بلدان العالم، وهو ما يمثِّل الآن قطاعاً ناشئاً وسريع النموّ لم يتمّ البحث في كيفية البناء عليه في إعادة توجيه الزراعات الشوفية أو زراعات الجبل بصورة عامة.

علينا لذلك أن نفتِّش بإخلاص عن أسباب تراجع مكانة الأرض وأن نواجه واقعنا الحالي بأمانة وجرأة، لأنه على هذا النوع من المواجهة الشجاعة والعلمية يتوقّف الكثير من مستقبل الموحِّدين ومكانتهم، بل وأمنهم ومناعة وجودهم للأخطار التي لم تدع لهم عبر التاريخ فرصاً طويلة للاسترخاء أو الاستقرار الوجودي.
نوّد التأكيد على أننا نطرح ملف الأرض بصيغة واقعية وعلمية تأخذ في الاعتبار التطوّر الذي طرأ على نمط اقتصاد الجبل بالذات، وعلى مصادر عيش الناس التي ابتعدت في معظم الحالات عن الزراعة ومتفرِّعاتها. وواقع الأمر هو أنَّ الجبل تغيّر وبصورة كبيرة في غضون العقود الثلاثة الماضية، أي منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية. وهو تغيّر نتيجة لجملة من العوامل المُعقَّدة، منها انعكاسات فورة النفط في الخليج على مداخيل أهل الجبل الذين هاجر العديد منهم للعمل في تلك البلدان، ومنها تبدّل نمط الاقتصاد اللبناني باتجاه المزيد من السيطرة على اقتصاد الخدمات، وضعف التزام الدولة اللبنانية بالقطاع الزراعي غير الممثَّل أصلاً لا في مجلس النوَّاب ولا في المستوى الحكومي، ومنها فورة العقار التي رفعت أثمان الأراضي بحيث بات من غير المجدي، إلاَّ في حالات قليلة، تملّكها للأغراض الزراعية. تبدّل الجبل حتى كادت النشاطات الجديدة، مثل: الوظائف العسكرية والحكومية، أو العمل في قطاعات البناء والتجارة والتجزئة والمصارف وغيرها، تتحوّل إلى المصدر الرئيسي لعيش المواطنين، بينما تراجعت باستمرار حصة القطاع الزراعي من اقتصاد الجبل، وتراجعت بصورة كبيرة نسبة السكَّان الذين يعتمدون على عيشهم جزئياً أو كُلِّياً على نشاطات الزراعة التي جعلت الأرض المهملة أو المُعدّة وحدها لا تبدّل مجرى الأمور، بل يبدّلها فهم المشكلات فهماً صحيحاً ثمَّ العمل على بلورة البدائل والحلول، وتوفير السُبل لوضع تلك الحلول موضع التنفيذ.

في ندوة لرؤساء تعاونيات وخبراء زراعيين “الضحى” تسأل: لماذا تتعثَّر التعاونيات الزراعية في الشوف؟

ما هو واقع التعاونيات الزراعية في الجبل، ولماذا لم تتمكَّن معظم تلك الهيئات من تحقيق الغايات التي أُنشئت لأجلها؟ هل السبب هو في ضعف القاعدة الزراعية وتراجع المساحات والمصالح الزراعية التي تستند إليها تلك التعاونيات؟ هل هو في صِغر المُلكيَّات وعدم وجود فوائض تجارية كبيرة؟ هل هو في تأخُّر الزراعة نفسها وتراجع القدرة التنافسية للإنتاج الزراعي؟ هل هو في الفردية المفرطة وضعف روح التعاون والفريق بين الأعضاء المنتسبين، أم هو في ضعف الإدارة

نفسها وانشغالها عن التعاونية بشؤون أخرى، أم أنَّ المشكلة هي في الحقيقة مزيج من كلِّ تلك العوامل؟

الزراعي في الجبل، نظّمت «مجلة الضحى» ندوة في المكتبة الوطنية العامة في بعقلين تحت عنوان: “التعاونيات الزراعية في قضاء الشوف، المشاكل واقتراحات الحلول”، واستهدفت الندوة تعيين المشكلات التي تواجه عمل التعاونيات واستشراف وسائل المعالجة الممكنة. شاركت في الندوة السيدة جومانة كرامي، رئيسة مصلحة التعليم والإرشاد في وزارة الزراعة، والخبيرة الدكتورة فريال أبو حمدان، وممثِّلا تعاونية كفرنبرخ رياض جابر وحسن أبو عجرم، ورئيس التعاونية الزراعية في عمَّاطور محمود أبو شقرا، ورئيس التعاونية الزراعية في الباروك توفيق أبو علوان، ورئيس التعاونية الزراعية في كفرفاقود فؤاد نصر، ورئيس التعاونية الزراعية في بريح عبَّاس العلي، وممثِّل تعاونية الورهانية عفيف غانم، والناشط البيئي والخبير في الزراعات العضوية رائد زيدان.

السيدة كرامي: غياب المؤسسات يفوِّت فرصة الإفادة من المعونات الدولية

ستهلَّت السيدة جمانة كرامي مداخلتها بالحديث عن تركيز وزارة الزراعة الدائم على تشجيع المزارعين على الانضمام الى التعاونيات الزراعية القائمة من جهة، وانشائها في البلدات التي تفتقد الى مثل تلك التعاونيات؛ معتبرة أنَّ منافع التعاونيات لا تقتصر على الفوائد المادية للمزارع، بل قد تتعدَّاها إلى المساعدة في تسويق المنتجات الزراعية. ولفتت إلى أنَّ في إمكان التعاونية أن تعمل كمؤسسة تستهدف تحقيق الربح لأعضائها وهذا إذا ما أحسنت إدارتها، وقد أجاز القانون لها ذلك.
وإذ لفتت إلى أنَّ إقدام المزارعين الشوفيين على الانضمام الى التعاونيات الزراعية لا يزال خجولاً قياساً إلى أقضية أخرى، أعادت السبب إلى افتقاد التوجيه “السياسي” للمزارع للانضواء في عمل مؤسساتي هو بأمسِّ الحاجة اليه لتطوير انتاجه، وبالتالي المساعدة على تصريفه، خاصة اذا ما علمنا، أضافت السيدة كرامي، أنَّ الهبات والمساهمات الدولية التي تخصِّصها الدول أو المُنظَّمات غير الحكومية للقطاع الزراعي في لبنان وتوزّعها الوزارة على المناطق، لا توجِّهها إلى الأفراد بل إلى مؤسسات ذات إطار قانوني. إذاً، المزارع غير المنتمي إلى مثل تلك التعاونيات لن يستفيد من تلك التقديمات. مشكلة أخرى تعاني منها التعاونيات الزراعية في الشوف أضاءت عليها السيدة كرامي، وهي ضعف التسويق، مُحمِّلة إيَّاها المسؤولية لتخلُّفِها عن اللجوء إلى دراسة حاجات السوق وتوجيه المزارع إلى المنتجات المطلوبة، لأنَّه من المفترض أن ندرس ماذا تريد السوق ثمَّ نزرع ونبيع لها، وليس العكس. ولفتت السيدة كرامي في هذا المجال إلى النشرة التوجيهية التي أصدرتها وزارة الزراعة “GLOBAL GAP” لإدارة نوعية الإنتاج الزراعي بمواصفات عالمية، استفادت منها تعاونيات زراعية عديدة في مناطق لبنانية مختلفة، فضلاً عن نشرات يومية ودورية تصدرها الوزارة عبر غرف التجارة والزراعة والصناعة بالأسعار والمواصفات التصديرية والأصناف الزراعية المطلوبة التي تُرشد المزارع والتعاونيات الزراعية.

إلى ذلك، كشفت السيدة كرامي أنَّ تعاونيات الشوف تفتقد أيضاً إلى مفهوم العمل الجماعي، لتقتصر المهام على رئيسها وعضو آخر فيها فقط أحياناً؛ مع العلم أنَّ أنظمة إنشائها راعت تحديد الأدوار وتوزيعها على مجالس الادارة وهيئات الرقابة بشكل مُنصف. لكن المشكلة تبدأ عندما تتداخل الصلاحيات بسبب محاولات مصادرة الأدوار، وفي أحسن الأحوال نتيجة سوء الإدارة. وهنا يأتي الدور التوجيهي لوزارة الزراعة التي كانت لها تجربة ناجحة في هذا السياق مع التعاونية الزراعية في عمَّاطور. كذلك تحدَّثت السيدة كرامي عن تجربة ناجحة أخرى مع التعاونية الزراعية في بعقلين التي أنشأت معملاً حديثاً لإنتاج الصابون بمواصفات تصديرية.

بعض التعاونيات تحوّل إلى “كونتوار” خاسر بسبب تهرُّب المزارعين من تسديد القروض

أبو شقرا: تجربةٌ ناجحة في مجال عصر الزيتون

في مداخلته، ذكر رئيس التعاونية الزراعية في عمَّاطور محمود أبو شقرا الدور التوجيهي الذي تحدَّثت عنه السيدة كرامي، والذي أثمر عن إنشاء معصرة حديثة لزيت الزيتون في البلدة بمبادرة من التعاونية، حيث أنَّ عمَّاطور تعتمد إنتاجياً على زراعة الزيتون، ومعاصرها أصبحت قديمة العهد تعود إلى الستينات ولا تلبِّي الكمِّيَّات المُنتَجة، وبالتالي حاجة السوق المحلية. لكن أبو شقرا لفت إلى أنَّ هذه التجربة الناجحة لم ترتقِ بعد إلى مستوى تسويق الإنتاج إلى خارج البلدة، كما عبّر عن مصاعب كثيرة لا تزال تعترض التعاونية الزراعية في عمَّاطور، أهمها تقاعس المزارعين المنتمين إليها عن القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم.

أبو علوان: افتقاد الرساميل يشلُّ عمل التعاونيات

اعتبر رئيس التعاونية الزراعية في الباروك توفيق أبو علوان أنَّ افتقاد الرساميل أو كيفية استخدامها إن وجدت، هو العائق الرئيسي في شلِّ عمل التعاونيات الزراعية في الشوف؛ كما أنَّ افتقارها إلى آلية لتحصيل ديونها من المزارعين، من العوامل المهمة في عرقلة عملها. كاشفاً في هذا الإطار عن ديون لتعاونية الباروك تبلغ أربعة عشر مليون ليرة، لم تستطع تحصيلها منذ ثلاث سنوات. ومع غياب أي صلاحية قانونية تخوِّلها استرداد ديونها، رأى أنَّ التعاونية تحوَّلت إلى دائن من دون جباية. إلاَّ أنَّ واقع الحال هذا، يضيف أبو علوان، لم يمنع التعاونية الزراعية في الباروك من المبادرة إلى إنشاء معمل تصنيع زراعي بتمويل ذاتي ومن مُتبرِّعين آخرين. وينتج هذا المعمل عصير البندورة، ودبس العنب، ومُكثَّف عصير التفاح. لكنه لفت إلى أنَّ المشكلة التي يواجهها هذا المعمل، تكمن في التصريف خارج البلدة، “إلاَّ أننا باشرنا الإعداد لدراسة تهدف إلى التحوُّل نحو الزراعات البديلة كالأعشاب الطبِّية”.

نصر: أين مشروع “مصرف التسليف والإنماء الزراعي”؟

وقال رئيس التعاونية الزراعية في كفرفاقود فؤاد نصر إنَّ الأولوية يجب أن تكون تفعيل ودعم التعاونيات الزراعية القائمة، وذلك قبل البحث في إنشاء التعاونيات المُتخصِّصة وفق التحوُّل نحو الزراعات البديلة كـ: الزراعة العضوية وغيرها. وتحدَّث في مداخلته عن أزمة تمويل تعانيها التعاونيات القائمة، تُشكِّل ثغرةً أساسية في تطوير دورها، مقترحاً في هذا السياق انشاء اتِّحاد تعاونيات زراعية للتكاتف والدعم المتبادل في الانتاج والتسويق، من دون اغفال الاستمرار في التفتيش عن مصادر تمويل، والدفع لتحقيق “مشروع مصرف التسليف والإنماء الزراعي” الذي اتُّخذ القرار بإنشائه، لكنه لا يلقى المتابعة الرسمية الكافية كي يبصر النور بحجَّة عدم توافر مصادر تمويله، بحسب رأي نصر.

زيدان: هيئات دولية دعمت مُبادرة لـ “جمعية أرز الشوف”

وقال الخبير الناشط في حقل الزراعات العضوية والبيئة رائد زيدان إنَّ الهيئات الدولية أظهرت استعدادها لتوفير الدعم المالي للمُبادرات الزراعية المحلية، خصوصاً في مجال الزراعات البديلة كـ: الزراعات العشبية، أو الصناعة الغذائية القروية التي تستخدم فائض المنتجات المحلية، وأعطى مثالاً على ذلك تجربة مرستي، حيث قام “البنك الدولي” وهيئتا التنمية الفرنسية والإيطالية بتمويل مشروع تقدمت به “جمعية أرز الشوف” لتأهيل وتجهيز مشغل لمربِّي النحل والسيدات اللواتي يعملن في تصنيع المنتجات الغذائية القروية وفق مواصفات الجودة الغذائية المعتمدة عالمياً، ومن ضمنها المُربيات والمُقطرات ومُكثَّفات العنب والبندورة والتفَّاح والمُجفَّفات. وأضاف زيدان إنَّ هذه التجربة تدلُّ على أنَّ التعاونيات في حدِّ ذاتها ليست حلاً ما لم تتمّ إعادة النظر في الخيارات الزراعية الحالية باتجاه مواكبة الحاجات الجديدة في السوق.

أبو عجرم: التعاون ليس من ثقافتنا

وأشار الخبير الزراعي حسن أبو عجرم إلى أنَّ المشكلة الأساسية في تجربة التعاونيات هي أنها لا تتعاون، لافتاً إلى وجود نقص في ثقافة العمل التعاوني الزراعي لدى المزارع الشوفي، وهذا على الرغم من اقتناع هذا المزارع بأنَّ التعاونيات الزراعية هي الملاذ الوحيد له، إن لم يكن الأخير، في ظلِّ غياب الدعم والارشاد الزراعيين الرسميين.

جابر: الفسادُ تسلَّل إلى بيئة التعاونيات

وافق الخبير الزراعي رياض جابر على أنَّ إخفاق التعاونيات الزراعية بشكل عام في الشوف، سببه غلبة المصلحة الفردية على روحية التعاون. ويعود ذلك، بحسب رأيه، الى انتقال عدوى الفساد من الطبقة السياسية الى المجتمع الزراعي. وروى جابر تجارب له في هذا السياق، خلال توليه سابقاً رئاسة التعاونية الزراعية في كفرنبرخ ورئاسة تعاونية مُربِّي الدواجن في الشوف. مشدِّداً على ضرورة ايجاد آلية للتسويق الزراعي مستقلَّة لكنها مكمّلة لمهمة التعاونية الزراعية، ومقترحاً في هذا الإطار، إمَّا إنشاء مؤسسات مُتخصِّصة بالتسويق الزراعي، او أسواق لتصريف الانتاج الزراعي تحمي المزارع من المضاربات غير المشروعة واستغلال الوسطاء.

العلي: تقهقر الزراعة انعكس بتراجع العضوية

رئيس التعاونية الزراعية في بريح عبَّاس العلي سلّط الضوء على مؤشر مهم يؤكِّد تراجع التعاونيات الزراعية وتقلُّص تأثيرها على المزارعين، وأعطى مثالاً على ذلك، ظاهرة التسرُّب الذي تشهده تعاونية بريح، والتي تقلَّص عدد المنتسبين إليها من ثمانية وستين مزارعاً الى أقل من خمسة وعشرين. وكشف أنَّ العديد من الذين تخلُّوا عن عضوية التعاونية فعلوا ذلك بسبب تخليهم عن نشاطهم الزراعي الأساسي وتحوُّلهم إلى قطاعات إنتاجية أكثر ربحية، الأمر الذي يطرح مجدداً إشكالية تصريف الإنتاج الزراعي في الجبل.

تفتُّت المُلكيَّات وضعف التنافسيَّة والنزعة الفرديَّة، من بين أهمِّ الأسباب التي أعاقت انطلاقة التعاونيات

 

 

بيئة