الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

جمعيةُ الغد للتّنمية والإسكان تعلنُ عن طَرح وَحَداتٍ سَكَنيّةٍ فخمةٍ في مشروع الشّوَيْفات

متوسّط مساحة الشقّة بين 145 و 155 متراً مربّعاً
سعر البيع بين 800 و1000 دولار بالمتر المربع

أعلنت جمعيَّة الغد للتّنمية والإسكان وهي جمعيّة تابعة للمجلس المذهبيّ لطائفة الموحّدين الدّروز عن طرح أوّل دفعة من الوحدات السّكنية في مشروع الشّويفات للبيع (وهي شقق البلوك A ( كما أعلنت أن وحدات البلوك B ستكون جاهزة للتّسليم بعد سنة. أمّا البلوكات الثّلاث الأخرى فقد أنجزت أعمال الباطون فيها بالكامل، ويتوقّع أن يبدأ طرح وحداتها السّكنيّة للبيع ابتداء من العام المقبل.
وتُعنى جمعيّة الغد للتّنمية والإسكان بالدّرجة الأولى بإقامة مشاريع سكنيّة لأبناء مجتمعها. وقد باشرت عملها بإشادة مُجَمّع سكنيّ على العقار رقم /896/ في مدخل الشّويفات الشّمالي (العمروسيّة) وهو يتألّف من أربع بلوكات سكنيّة A,B,C,D وكلّ بلوك عبارة عن أربعة طوابق ويضمّ كلّ طابق أربع شقق سكنيّة تتراوح مساحة الواحدة منها بين 145 إلى 155 م2. ويحتوي المجمّع على طابق أرضي مُخصّص لمواقف السّيّارات وغرف النّاطور والكهرباء وطابق سفليّ تجاريّ وذلك على كامل مساحة البلوكات الأربعة.

مواصفات فخمة وتفصيل المُحتويات

تتألّف كلّ شقّة من صالون مع سُفرة وموزّع ومطبخ وثلاث غرف نوم وثلاثة حمّامات وشرفات وأحواض للزّهور عِلماً أنّ كلّ مبنى يضمّ مصعداً كهربائياً ذا مواصفات عالية وموقف سيّارة لكلّ شقّة.
الواجهات الخارجيّة تتضمّن نسبة عالية من تلبيس الحجر الطّبيعي. كما أنّ الحوائط الخارجيّة مزدوجة وذلك لمنع تسرّب المياه والحرارة.
أعمال الألمنيوم نوعيّة مُمَيّزة Sidem 2000 double glazing وإكسسوارات فولدا.
أعمال الصّحيّة من الطّراز العالي (الأنابيب الـ PPR ماركة RAK الإماراتية وقساطل الصّرف الصّحّيّ ماركة MIA اللّبنانية الصّنع ) مع تأمين مياه للشّرب وخطّ مياه بارد وساخن منفصلين وسَخَّان عدد 2 لكلّ شِقّة وتجهيز المواسير لزوم الطّاقة الشّمسيّة وخلّاطات إيطاليّة الصّنع مع بئر ارتوازي لكامل المشروع.
أعمال الكهرباء ذات مواصفات عالية ( كابلات لبنان + ticcino) وانترفون لكلّ شقّة.
أعمال البلاط الدّاخلي للمطابخ والحمّامات هي من السّيراميك ليسيكو الصّنع والصّالونات والموزّع قياس 60X60 إسبانيّة الصّنع وهي أيضاً من السّيراميك.
أمّا الأدراج والأقسام المُشترَكة فهي من الغرانيت والحجر الطّبيعيّ للمدخل الرّئيسيّ.
أعمال الطّرش والدّهان من شركة تينول.
أبواب الخشب الرّئيسة هي من خشب الماسيّف ( فراكيه) والبقيّة من الـ mdf ذات مواصفات عالية.
خزائن المطابخ من الألمنيوم والدّرف pvc المقاوم للرّطوبة مع غرانيت وستانلس في الأسفل.
هذا وقد بوشر ببيع الشّقق. ويترواح حاليّاً سعر المتر المربّع الواحد بين 800 و 1000 دولار أميركي.

للمراجعة :هاتف المشروع 800998/03 المكتب 341355/01

السيد الامير

مكرمة لافتة لرجل الأعمال الأستاذ عدنان الحلبي

إنجاز ترميم وتجميل مقام السيد الأمير (ق) في عبيه

التزاماً بمسؤولياتها في تطوير المعالم الدينية البارزة لطائفة الموحدين الدروز، قررت لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز خلال العام 2014 إعادة صيانة وترميم المقامات الثلاثة: السيد الأمير عبدالله (ق) والنبي أيوب (ع) والست شعوانه (ر)، وقد تمّ تكليف شركة عابد للمقاولات بإجراء الكشوفات وتقدير تكلفة الأعمال كل مزار.
بعد ذلك وبتاريخ 3/9/2014 قررت لجنة الأوقاف المباشرة بأعمال الترميم والصيانة في مقام السيد الأمير(ق) في عبيه، وكانت الكلفة المقدّرة لهذا المقام اقلّ من غيرها وفي حدود 164 ألف دولار.
عَلِم بهذا القرار المحسن الكريم الأستاذ عدنان سليم الحلبي فتقدّم من تلقاء نفسه متبرعاً بالقيام بأعمال الترميم في عبيه من ماله الخاص، وبإشرافه الشخصي، وبمساعدة المهندسة الأستاذة هلا ابو شقرا، في مبادرة قلّ نظيرها. ولم يقبل الأستاذ الحلبي بتسجيل اسمه متبرعاً في سجلات الأوقاف والمجلس المذهبي، كما قدمت المهندسة أبو شقرا مشكورة جهدها تبرعاً من دون مقابل.
وتمّ تنفيذ أعمال الترميم والتجميل في مقام السيد الأمير (ق) خلال العام 2015 وبلغت القيمة الإجمالية الفعلية للأشغال 196 ألف دولار. وتبين ان شركة السادة ايلي ميشال صليبي واولاده وكما تعودنا على مساهمتهم الدائمة في اعمال الخير قدمت مشكورة عشرين طنا من الاسفلت لدار المقام.
وتضمنت أهم الاعمال بناء غرفة الحارس من حجر بشكل مميز وتجديد مفروشات المقام وغرف الاستقبال وإعادة تأهيل البنى التحتية ووتأمين خزائن للملابس وطرش ودهان وأعمال عزل ونش وتأهيل دار المقام، وغير ذلك مما استلزم القيام به.
ان مشيخة العقل والمجلس المذهبي يوجّهان الشكر للمحسن الكريم سائلين المولى عزّ وجلّ أن يجعل هذا في ميزان حسناته، ويرسل عليه الفائض من نعمه، ويديمه مثالاً صالحاً يقتدى به في عمل الخير والحسنات، ويمدّه بالقوة والعافية لفعل المزيد من الخيرات، فالخُطى في العمل الصالح هو أربح المتاجر.

اعلان بيروت

«إعلانُ بَيروت للإعلام الدّينيّ المستـنير»

مكتب الدِّراسات في مَشْيخَة عقل الموحِّدين الدروز خطوةٌ في مسَارٍ حَكيم

بادرَ سماحةُ مفتي الجُمهوريَّة اللّبنانيَّة الشّيخ عبد اللّطيف دَريان في حَفل تنصيبه إلى توصيف كيفيَّات مواجهة المحنة العاصفة بالعالم الإسلاميّ، وهي التَّطرُّف من أيّة جهةٍ أتى، وذلك بالدَّعوةِ “إلى الخيْر قولًا وعملًا ونضالًا وتضحيةً، موضّحًا بأنَّه ليس صحيحًا أنَّ الاعتدالَ ضعيف أو خفيض الجانب، بل هو، مع كونِهِ اختيارًا صعبًا وسط صيحات التعصُّب، “قويّ وقويّ جدًّا بموازين الحياة الكريمة، وصلابة الحقّ، وقيَم الخيْر والعدْل وإنسانيَّة الإنسان”.

لم تكن تلك الدّعوة مجرَّد تعبيرٍ عن موقفٍ مثاليّ تجاه الوقائع، إذ إنَّ سماحتَه ما لبث أن أعلنَ عن التزام دار الفتوى النَّهج والمبادئ والوثائق المُكرَّسة في مواقف مُعلِنة لمرجعيَّاتٍ عُليا في الحقل الرُّوحيّ في مستوى العالم الإسلاميّ حيث أوضح أنَّ “نهجَ السّلم والاعتدال هو نهج القرآن والنّبيّ (ص)، وهو نهج وثيقة الأزهر الشَّريف الصادرة بتاريخ 31 يناير عام 2013 ووثائق إسلاميَّة أُخرى”. كما أكَّد على الاتّفاق التَّام مع وثيقة الأزهر الشَّريف الصادرة بتاريخ 8 يناير عام 2012 والمُسمَّاة بــ: منظومة الحرِّيات الأساسيَّة الأربع: حرِّيَّة العقيدة والعبادة، وحرِّيَّة الرّأي والتَّعبير، وحرِّيَّة البحث العِلميّ، وحرِّيَّة الإبداع الفَنِّي والأدبي”. ومن ناحيةٍ ثانية، في المستوى الوطنيّ اللّبنانيّ حيث أعلنَ عن التّمسُّك بالعيش المُشترَك الإسلامي المسيحيّ، وباتّفاق الطّائف، وبوثيقة الثّوابت الوطنيَّة الصادرة عن دار الفتوى عام 2011 والتي صرَّحت عن تأييدها لها في حينه معظم القوى السّياسيّة من كلّ الأطراف باعتبارها “موقفًا جامعًا عبَّر عن ثوابت الرّؤية الوطنيَّة في العيش المشترك وحماية لبنان”.

يندرجُ هذا الموقفُ في إطار استنهاضٍ عامّ، “رسميّ” بشكلٍ أساسيّ، في جهات العالم الإسلاميّ الواسع، للعمل عبر المؤسَّسات الرَّسميَّة، خصوصًا الدّينيَّة والثقافيَّة والتّربويّة منها، وعبر إطلاق المبادرات الكبرى، بهدف استعادة الوجه الحضاريّ للدِّين الحَنيف في عصر الإعلام المرئي والمسموع، والفضائيّات المتناسلة بإيقاع عجُول. ومعلومٌ أنَّ هذه الوسائل، بحُكم الضرورات المهنيَّة، والوقائع المتسارعة، طغتْ على الحيِّز الأكبر من هوائها المبثوث، الأخبار المتعلِّقة بالإرهاب وبقوى التطرُّف والغلوّ، التي بدورها تملَّكت ما استطاعتهُ من هذه الوسائل تُرَوِّج عبرها لرؤيتها العُنفيَّة، وخِياراتها المتطرّفة التكفيريّة للعديد من مفاهيم الدِّين.

إنَّ مؤتمراتٍ عدَّة انعقدت في هذا السِّياق في السّنوات الأخيرة المُنصرمَة، منها ما تطرَّق إلى مواضيعَ في العُمق الفِقهيّ والتّفسير العقديّ في دراساتٍ نهَجتْ سبيلَ المواجهة العِلميَّة “للأفكار المُنحرفة والمفاهيم الخاطئة “حول كثيرٍ من القضايا والمفاهيم الإسلاميَّة التي من شأنها أن تشكِّلَ منظورَ الرؤية للعالَم وللعصر الّذي نعيش فيه. ومنها ما يُمكِن اعتباره من الرَّوافد الحيويَّة لهذا المسار، نتوقَّف هنا عند آخرها الّذي انعقد في دار الفتوى تحت عنوان “الإعلام الدِّينيّ في تعزيز قِيَم التّسامُح والاعتِدال”.

طرح سماحةُ المُفتي في كلمته مسائل هامَّة في هذا الاتّجاه داعيًا إلى إنشاء شبكة إعلاميَّة فضائيَّة، واستحداث مواقع من شأنها أن تُقدِّمَ للشباب فُسحةً نضرةً وحيويَّةً عبر المُنافحة عن الإسلام بأساليب مميَّزة، تسمح أيضًا بمحاورة الآخَر المخالِف والمختلِف، على أن يتزامنَ ذلك مع وضع مناهج تعليميَّة دينيَّة وعِلميَّة، وتأهيل أئمَّة المساجد بأساليب علميَّة ونفسيَّة وتربويَّة، ملمِّحًا بأنَّ التّقصير في هذا الحقل، وسط ظواهر العنف والتطرُّف السائدين، سيؤدِّي إلى السّقوط في الهاوية.

سجَّل المؤتمرُ الذي شارك في افتتاحه شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز الشّيخ نَعيم حسن مؤشِّرات عدَّة دالَّة على التَّصميمِ في المضيّ قُدُمًا في سبيلٍ تحديثيّ للمقاربة العامَّة للخطاب الإسلاميّ. منها مشاركة المُفتِيْنَ في تقديم الدّراسات لبحث الإشكاليَّة بالتّرابط مع الوقائع التي يواجهونها، وحضور بعض ذوي الاختصاص عبر تقديم بحوث واقتراحات، وفتح باب المناقشة والحوار، والخروج بتوصيات، وتُوِّجَت هذه المؤشِّرات بإصدار وثيقةٍ سُمِّيت بــ “إعلان بيروت للإعلام الدّينيّ المستنير” وقَّعها مُفْتُو لبنان ومصر والأردن. وتضمَّن الإعلانُ التزامًا بالخطاب الدّينيّ الإصلاحيّ والوسَطيّ، وبتطوير إعلام دينيّ مستنير، وبالتعاون بين دُور الإفتاء وتبادُل الخبرات والزيارات، والدّعوة إلى إنشاء “مَرْقَب” للعيش المشترك. إنَّ مضامين هذه الالتزامات تنسجم كُلّيًّا مع المسار العام المذكور آنفًا، ومن شأن المفاعيل النّاتجة عن التقدُّم في الخطوات التنفيذيَّة العمليَّة أن تعزِّزَ فضاء “اللّغة السّمحاء” التي هي التّعبير الأرقى عن مقاصد الدِّين الحنيف.

“السَّماحة” و “التَّسامُح”
طُرحَ في فعاليَّات المؤتمر الحِواريَّة سؤال حول بعض التّحفُّظات المتواتِرة بشأن الفرق بين مُصطلحَيْ “السَّماحة” و “التَّسامُح”. ونَحَتْ كلُّ إجابةٍ من الإجابتيْن منحًى مختلفاً من دون الدُّخول في التّفصيل، وحتَّى من دون ذِكْر العامل الأساسيّ لإثارة تلك التّحفُّظات. ولا بدَّ من الإشارة إلى الإطار العامّ للمسألةِ بشكلِ مدخلٍ إلى إشكاليَّةٍ يُستحسَنُ درْكُ أبعادها نحو المزيد من الوضوح.

لقد أُخِذَ مفهومُ “التّسامُح” على محمَل الفعاليَّة الفلسفيَّة/الدِّينيَّة/السّياسيَّة، خصوصًا، منذُ الرّبع الأخير للقرن السابع عشر، حين كتب جون لوك، الفارُّ من الاستبداد الدّينيّ إلى هولنده عام 1682، ما أسماهُ “رسالة في التسامُح” بتحريض من صديقه اللّورد شافتسبري “المُلتزم بالتسامح” في إنجلترا في أجواء الشّقاق الدّيني الذي كان سائدًا في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، ونشرَها بإغفال ذِكر اسمه عام 1689. كان يقصد بـ: التّسامح الدّيني بمعنى “إنه ليس من حقّ أحد أنْ يقتحمَ باسم الدّين الحقوق المدنيَّة والأمور الدنيويَّة… ولهذا فإنَّ فنَّ الحُكم ينبغي ألّا يحمل في طيَّاته أيّة معرفة عن الدِّين الحقّ؛ ومعنى ذلك أنَّ التَّسامح الدّيني يستلزم ألَّا يكون للدّولة دين لأنَّ خلاص النّفوس من شأن الله وحده…”. (“رسالة في التسامح”، تر. منى أبو سِنّه). كانت مقاربة “لوك” تتمحور حول “الفصل بين الكنيسة والدّولة فصلًا حادًّا… فما هو قانوني في الدّولة لا يمكن للكنيسة أنْ تجعله مُحَرَّمًا وممنوعًا” (د. بدوي، الموسوعة الفلسفيّة). كان هذا تطوُّرًا في مقاصد المفهوم الذي استمرَّ وبات “في آخرِ المطاف يشمل الفكر الحرّ” (موسوعة لالاند)، وأكثر ما جسَّد هذا الأمر في الزّمن الحديث هو ما صدر عن المؤتمر العامّ لليونسكو المنعقد في مدينة باريس عام 1995، إذْ اعتمدَ نصًّا اتَّفقت عليه الدّول الأعضاء في مُنظّمة الأمم المتَّحدة للتّربية والعلم والثقافة هو “إعلان مبادئ بشأن التّسامح” تضمَّن الالتزام باتّخاذ “كلّ التّدابير الإيجابيَّة اللّازمة لتعزيز التّسامح في مجتمعاتنا لأنَّ التّسامح ليس مبدأً يُعتـزّ به فحسب، ولكنَّه أيضًا ضروريّ للسَّلام والتّقدُّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ لكلِّ الشّعوب”، بعد ذلك أطنب الإعلان في ذكر كيفيَّات القيام بهذا الالتزام، ليس فقط في كلِّ دولةٍ ضمن حيِّز سيادتها، بل وبين كلّ الدول الأعضاء في مستوى “الأسرة الدّوليَّة”.

يمكن اختصار المآخذ على استخدام مفهوم “التَّسامح” بصيغة المُقاربة “الدَّوليَّة” بما ذكره د. الجابري في كتابه “قضايا في الفكر المعاصر” في فصل “التّسامح بين الفلسفة والدِّين والإيديولوجيا”، وخَلُص فيه بعد مناقشة الإشكاليَّة إلى القول بأنَّ “فلاسفة التنوير في أوروبا وَقَعوا في تناقض صارخ حينما رفعوا شعار التَّسامح لتجاوز الخلافات الدِّينية، وعدلوا عنه إلى نوع من اللّاتسامح عندما تعلَّق الأمر بالقضايا السّياسيَّة والوطنيَّة… إنَّ عالَمًا يفتقرُ إلى العدل، وإلى الاعتراف بالآخَر وبحقّه في تقرير مصيره… هو عالم مبنيٌّ على الظُّلم… وبالتَّالي فلا معنى لرفع شعار التَّسامح ضدّه إلَّا مقرونًا بالعدل”.

أمَّا مفهوم “السَّماحة” في اللُّغة فهو يُفيدُ الجُود، ويُقال: “سَمُحَ”، إذا جاد وأعطى عن كَرَمٍ وسَخَاء. وفي الاصطلاح هو التَّيسير وعدم القهر. ويُقال في المسلكِ “مِن طبيعة النَّفس السَّمْحة أنْ يكون صاحبُها هيّــنـــًـا ليّنــًـا… يُلاحِظُ جوانب الخير في كلّ ما تجري به المقادير.” (نضرة النعيم). وبالإجمال، فإنَّ مفهوم “السّماحة” يقرِّب إلى الشّمول في المعنى الأخلاقيّ الرَّفيع الذي فيه اكتمال العقل المُسْتَنير بمقاصدِ الشَّرع الحنيف المتعلِّقة بكلِّ ما هو: أمرٌ بالمعروفِ ونهيٌ عن المُنكر، ولا يستقيم إلَّا بالاعتدال والحِلم والاستشعار العميق لسموّ أدب الدِّين. وفي الحديث الشّريف: قيل لرسول الله: أيُّ الأديان أحبُّ إليك، قال: الحنيفيَّة السَّمْحة. وقيل هي التي تلائمُ فِطرةَ النّاس، لا غُلوّ فيها ولا تقصير.

وفي كلّ حال، فالسَّماحة تشمل فيما تشمل معنى التَّسامح بالدَّلالة الأخلاقيَّة للكلمةِ، وتتجاوزه بكثير من الدَّلالات في باب قِيَم السُّلوك الأخلاقيّ المتكامل على حدِّ الوسط الَّذي لا يغيب عن ميزانه العدل الَّذي به تستقيمُ أمُور النّفوس والمُجتمعات وأنظمة الحُكم.

المرأة عند الموحدين الدروز

كرامة المــــرأة عنــــد
الموحّــــدين الـــــدّروز

الموحّدون الدّروز يحرّمون تعدّد الزّوجات توخّياً للعدل
ويحظرون إعادة المطلّقة بل مقابلة الرّجل مطلّقته

نساء جبل العرب اخترقْنَ صفوف المقاتلين يستَنْهضْهنَم للقتال
فكُنّ بذلك سبباً مهمّاً في تغيير مجرى الكثير من المعارك

للمرأة في كلّ المجتمعات دورٌ خاصّ قد يتفاوت من حيث الأهمّية حسب التّنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ومنظومة العقائد والقيم والتقاليد، لكنّ مجتمعَ الموحّدين الدّروز جعل للمرأة مكانةً تتميّز بها عن غيرها من النساء، وهذه المكانةُ مستمدّةٌ من صُلبِ مذهب التّوحيد الذي خصّها بقواعد ووصايا، فكان الموحّدون بذلك سبّاقون في إعطاء المرأةَ دورَها الكاملَ في المجتمعِ، وقد تكرَّست لها تلك الحقوقُ بنصوصٍ مكتوبة وأحكام مُلْزِمة.
من الفروضِ التّوحيدية أنّه عندما يتزوج موحّدٌ موحّدة، عليه أن يجعلَها مُساويةً له في كلّ شيء، وأن يُقسّم بينه وبينها كلَّ دَخْله، وأن يستشيرَها في كلّ أموره، وعليه احترامُها بحيثُ لا يُسمِعُها أيَّ كلمةٍ نابية.
كما أقَرّ مذهبُ التّوحيدِ الموحّدين على ألاّ يظلموا النّساءَ، ولا يسيئؤوا معاملتهنّ ، وأوصى النّساء بالعدل والتّعَفُّف، وعلى المؤمن أن يتّقي اللهَ في النّساء، ومن جانب آخر فإنّ المولى قد نهى النّساء عن التهتّكِ والظّهورِ بمظهر المُسْتهترات، أو أنْ تسلك إحداهنّ سلوكاً في الطّريق لِلَفْتِ النظر سواءَ في مَشْيتها، أو لبسها وكلامِها، أم في صوتها الذي يجب ألاّ يرتفعَ، وعليهنّ عدمُ لبسِ الفاقع من الألوان والمكشوفِ من الثياب1.
وقد حَرَّمَ مذهبُ التّوحيد تعدَّد الزّوجات. لذلك، فالمرأة الدّرزيّة هي سيّدةُ بيتها من دون أن ينازَعها منازع. كما حَرَّمَ المذهبُ أيضاً الزّواجَ بطريقةِ التّهديد أو التّرغيب إذْ “لا يتزّوجُ أحدٌ بالرّغم منه”. وإذا أَجبر وَليُّ أمرِ فتاةً على الزّواج، فلها الحقُّ في إبطالهِ أمام أولي الأمرِ من الموحّدين، ويُعاقَبُ الأبُ ــ الوليّ ــ عقابا” أدبيّا”.

مكانة اجتماعية رفيعة
إنّه لَأمرٌ مُشتَهر أنّ أكبرَ إهانةٍ في نظر الموحّدين الدّروز هي التعرّضُ للعِرض ــ النّساء ــ وتستوي في ذلك نساؤُهم ونساءُ غيرهم، حتى الأعداء. فهم يوجِبون لهنّ الصَّوْنَ والاحترام، حتى إنّ قاطعَ الطّريق منهم الذي ثارَ على الفرنسيين في عهد انتدابهم على لبنانَ، وأطلق الناسُ عليه لقبَ “روبن هود” كان يرفعُ يدَه عن المرأة الفرنسيّة أو غيرها من النّساء باحترامٍ، ويعفُّ عمّا مع أيّ منهنّ، وهو يعلم أنّ رفقاء السفر حين رأوه خبّأوا محافظَ نقودِهم في مطاوي ثيابِ النّساء.

“من الفروضِ التّوحيديّة مساواة الرّجل لزوجته بنفسه في كلّ شيء وأن يقسّمَ بينه وبينها كلَّ دَخْلِه وأن يستشيرَها في كلّ أموره وأن يحترمها”

النصّ والصورة
الصّورة في باحة القرية: مناديلُ بيضٌ كسربِ حمامٍ حطّ على دوحة، مناديلُ تنحدرُ من على الرّأسِ التفافاً حول الكتفينِ إلى ما دونِ الخَصرِ. ثيابُ المرأةِ هادئةُ الألوانِ، أمْيَلُ ما تكونُ إلى العمقِ والقتامة، بسيطةٌ تتهدّل بحرّيّة في خطوط تسيلُ هَوْناً حتى لا تعلو عن سطح الأرض إلاّ قليلاً، وتستديرُ المناديلُ البيض استدارةَ الهالاتِ بوجوه – إنْ هي التمّت على فرحٍ ــ ففي بشاشةٍ رَضِيّة، أو على حزنٍ ففي أسىً وَقور.
من باحة المناديلِ هذه يستطيع بحثُنا أنْ يستمدَّ حقائقَه ونماذِجَه للمرأةِ الدّرزيّة، فهي هناك في بيئتِها الأصلية على سجاياها وخصائِصِها المُمَيّزة.2
تمثّلُ المرأةُ في مجتمعها الدّرزيّ رمزاً للشّرفِ والكرامة3. كما تمثّلُ العنصرَ الأوّلَ والضروريَّ في إقامةِ عائلة متماسكة. إنَّ هذه المكانةَ مُستقاةٌ بصورةٍ رئيسيّةٍ من تعاليمِ المذهب التوحيديّ ومبادئه، والذي أمر بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ وضروريّ، حيث يُعتبرُ التّعليم حقّاً لها لمساواتِها بالرّجل. كما خصّص لإنصافهن العديد من الوصايا.
لقد يسّرَ المذهب أو المسلك التّوحيدي الأمرَ على المرأة الموحِّدة، وساعدها في الرّياضة الرّوحيّةِ التي أوجبَها عليها. فهو صريحٌ في إِعزازِه لها وتكريِمها، فأعطى في ذلك المثلَ، ورسمَ الطّريقَ للمجتمع وللرّجل خاصّة. قال لها في ما قال:” إنّ المقصود بمخاطبة النّساء ودعوتهنّ للمسلك القويم لم يكن فقط حُنُوّاً عليهنّ، بل “اجلالاً وشرفاً وإعزازاً”.
ويظهر جلِيّاً في التراث التوحيدي، ورواد المسلك القويم للنّساء أسلوب الاحترام ومناداة العقل، كما يظهر فيه معنى التّشاورِ والاستفتاء، ومعنى موقفِ العاقلِ من العاقل، وتكليف الإرادة الحرّة في الاختيار. إذ أن مسلكها الذي سيغدو دستورَ حياتها، ومرتكزَ إيمانِها لا يتقرّر بضغطٍ، بل بإرادة واعية من المرأة، وعقلٍ ومَلَكَة تمييز.
إنّ عدَم تعدّدِ الزّوجاتِ في مجتمع الموحّدين الدّروز، زاد من اقدام المرأة، وعمّقَ شعورَها بالعزّة والكرامة والاستقرار النفسيّ. وقد حـرَّم مذهب التّوحيد تعدّدَ الزّوجاتِ لتحقيق العدل وفقاً للآية الكريمة” وإنْ خِفْتم أنْ لا تعدلوا فواحدة”، وقد رافق هذا التّحذير توكيد من الله تعالى بقوله “ولن تستطيعوا ان تعدِلوا بين النساءِ ولو حرِصْتم”. ومن نصائحِ الخليفةِ المعزّ لدين لله لأتباعه أنْ “لا يميلوا إلى التكثيرِ من النساء، بل يكتفي الرجلُ بزوجةٍ واحدة، فحسبُ الرّجلِ الواحدُ المرأة الواحدةَ”. ويقول المؤرّخون إنّ ما يسترعي الانتباهَ هو إشارةُ المُعزِّ لدين لله إلى زوجته كرفيقةٍ يبحث معها الشؤونَ العامّةَ وكشريكة في مجالسه، وإنْ كان ذلك من وراءِ حجاب4.
فالمرأةُ في مجتمع الموحّدين هي” سيّدةُ بيتها، تتمتّع بالاحترامِ والكرامة والطمأنينة على مصيرها فلا ينازعُها منازعٌ، بل تحظى بمحبّة زوجِها وأولادِها وعائلتِها. وكانتِ البنتُ تُربّى منذُ نعومةِ أظفارِها لتكونَ زوجةً صالحة، لأنّ العائلةَ تُعتبر مؤسّسةً مقدّسة، فعليها أن تعيشَ بوئامٍ وفضيلة مع زوجها ومن أجل استقرار أسرتها وهنائها وصلاح أولادها.
والعمل بين الزّوج والزّوجة تعاونيٌّ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. المرأةُ شريكُ الرّجل، ولم تقتصر مساهمتُها على حفظ التّراثِ والتقاليد وتربية الأطفال، والمحافظةِ على كيان الأسرة من حيثُ التّماسكُ الاجتماعيُّ والأخلاقيُّ فحسب، بل ساهمت مساهمةً فعليّةً في الإنتاجِ الاقتصاديّ والماديّ. فكانت اليدَ اليمنى للرّجل من حيثُ المشاركةُ في أعمال الحقل والأرزاق، أو إدارة المنزل وتأمين الغذاءِ والكساء للعائلة.

المرأة في ميادين الحياة
في مجتمع الموحّدين الدّروز، هناك الكثيراتُ من النّساء ممّن اتّبعنَ سيرةَ التّقوى والتّقشّف، وابتعدنَ عن الحياةِ الدّنيا ليكرّسنَ وقتَهنّ للصّلاة والعبادة؛ ففي قرى الشوف وعاليه والمتن وحاصبيا وراشيا وجوارها، وفي بيروت سيّداتٌ تقيّاتٌ تصعبُ الإحاطةُ بهنّ جميعاً، وعلى سبيل الذّكر لا الحصر نذكر:
على الصّعيد الدّينيّ، “ السّتُّ سارة والأميرَة نفيسة التنّوخيّة التي حفظت الكتابَ العزيزَ عن ظهر قلب وهي بنتُ سبعِ سنوات”5. وعلى الصّعيد السّياسيّ، نذكر الأميرةَ “طيبة معن” والدة الأمير قرقماز، وأم دبّوس أبي اللمع والسّيّدة نَسَب التّنوخيّة والدة الأمير فخر الدّين الثاني والسيّدة حبوس أرسلان زوجة الأمير عبّاس أرسلان، والتي اغتالها الأميرُ بشير الثاني بكمين أعدّه خِصّيصاً لها. والسيّدة نايفة ابنة الشّيخ بشير جنبلاط وزوجة الشيخ خليل شمس. والسّيّدة نظيرة جنبلاط والدة الشهيد كمال جنبلاط التي لعبت دوراً” سياسيّاً كبيراً” في لبنانَ خلال الانتدابِ الفرنسيّ، وبدايةِ عهد الاستقلال.
وقد قيلَ كثيرٌ في تقييم السّتّ نظيرة، ومن ذلك القولُ الشائع: إنّ الكُبراءَ والأجانبَ الّذين يزورون لبنان لا يكونون قد أنصفوا أنفسهم ما لم يزوروا مَرْجِعَين هما: البطريرك المارونيّ، والسّتّ نظيرة جنبلاط في المختارة.
وفي هذا الأطار، لا بُدّ من الإشارة إلى بعضِ العلاماتِ البارزة في مسيرةِ بعضهنَّ، كالسيّدة نايفة جنبلاط مثلاً، والتي قال فيها الدكتور حَريز” كانت السيّدةُ نايفة جنبلاط على جانب عظيم من الذّكاء والحصافةِ والرّصانة. وكانت تقيّة جدّاً” وعملت على درءِ المخاطرِ والنّوازل عن أهل حاصبيّا، وخفّفت الكثيرَ من الوَيلات والمصاعب”، كما يتكلّم أحدُ معاصريها، وهو الشّيخ جمال الدّين شُجاع قائلاً بأنّ”العطفَ الفائق والثورةَ النفسيّة العنيفة التي ألمّت بالسيّدة نايفة، أثناء محنة 1860 في حاصبيّا نفسها، برهنت على أنّ السيّدةَ قد ارتقت إلى أرفعَ مستوياتِ الإنسانيّة. لقد برزت أريحيُّتها، وانفجر حنانُها وعطفُها على المشرّدين المنكوبين من إخوانِها المسيحيين، بشكل لم ترهُ عينٌ. لقد فتحت منزِلَها غرفةً غرفة، وقدمّت كلَّ ما في وسعها من عَوْن وغذاء. ثمّ إنّها لمّا حوصرت قلعةُ آل شهاب اندفعت بشجاعة فائقة تحت زخّات الرصاص، فوصلت إلى القلعة، وانقذت كلَّ من فيها من نساء وأطفال، وحَضَنتهم بحنان الأمّهات، حتى انقشعَ الأفقُ وزال القتال”. وقد زار الأمير شكيب أرسلان حاصبيّا، والتقى السيّدة نايفة وهي في آخر عهدها فكتب عنها:”لقد زرت كثيراً من الكُبَراء البارزين والفُصحاء، فلم يعتَرِني تأثيرٌ، كبعض ما أثارتني شخصيّةُ هذه السيّدة”6.

المرأة في المعارك
وعلى الصّعيد العسكريّ، كانت المرأة الدّرزيّة تقف في كثير من الأحيان إلى جانب إخوتِها وأبيها وأقاربِها، تساعدُهم بمختلف الوسائل، حتى إنَّ بعضَهنّ خُضنَ المعاركَ في ساحات القتال، واندفعنَ بين المقاتلين، يَحثُثْنَهُنَّ على القتال ويبثُثْنَ النّخوةَ والشّجاعةَ في نفوسهم، ويفرِضنَ وجودَهُنّ عاملاً هامّاً في تغيير مجريات الأحداث. وقد كانت هذه حال سعدى ملاعب مثلاً أثناء معركة “عيون” بين بني معروف في جبل العرب وبين الجنود العثمانيين عام 1895، إذ حصل في تلك المعركة التّاريخيّة أنْ تقهقر فرسان الدّروزُ القليلو العدد في بداية المواجهات أمام جحافل الجيش العثماني، وإذا بشبح يخترق الجموعَ المبعثرةَ ويصرخ فيهم:” إلى أين؟ رَمّلوا نساءَكم ويتِّموا أطفالكم. ولا تتراجعوا فَتُهتَكُ أعراضُنا؟؟ قالتها باللهجة العاميّة، وكأنّ حبّاتِ قلبِها تتناثر مع الكلمات، وما زالت تصْرُخ بهم وتستقبل نار العدوّ، حتّى ارتدَّ المقاتلون مُستميتين وتواثبوا، وصمدوا، وتلاحموا تلاحُماً أحبَط هجوم الجحفل العثماني الذي انكفأ جندُه وتبعثروا، فنال منهم المجاهدون قتلاً كبيراً، وعاد هؤلاء بهتافات النّصر والزغاريد. كذلك كانت الحالُ بالنّسبة لبعضِ الفتيات والنّساء الأُخرياتِ اللواتي لعبن دوراً استنهاضيّاً مماثلاً خصوصاً في معركة المزرعة الظّافرة ضدّ جيوش الفرنسيّين الحديثة عام 1925، وقد حفظ التّاريخ المواقف المجيدة للسّيّدة “بُستان شلغين” و “شمّا أبو عاصي” و “عبلا حاطوم” و “ترفة المحيثاوي” وغيرهنّ، واعتبر المؤرخون دورهنَّ التّعبوي، وتحرُّكهن البطولي بين خطوط القتال، وأناشيدهنّ الحماسيّة التي تحذّر الرّجال من العار في حال التخاذل من العوامل المهمّة التي ساهمت في انتصار مجاهدي سلطان باشا الأطرش في أكبر معارك الثورة، وإلحاقهم هزيمةً مُذِلّة بجيوش الفرنسيين الثّقيلة التّسليح. وما زال الدّروزُ يردّدون حتى اليوم هتافَات تلك المعركة:
لعيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك عبلا و شمّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منــــــــــــــــــــحطّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الدبــــــــــــــــّابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات
والمدفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع مــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّوا إلا بّْيْــــــــــــــــــــــــــــــــض الشّـــاشيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّات7

وبرزت عَمشة القنطار أيضاً في البقاع، وتميّزت بالقوّة والشجاعة والسّطوة والبطش، واشتُهرت شجاعتُها في طول البلاد وعرضها حتّى اليوم، فكان بنو معروف إذا تفرّدتْ امرأةٌ بالقوّة والسّطوة يطلقون عليها لقبَ “عمشة”، فهي عنترةُ النّساء8. كما تميّزت فاطمة حسام الدّين زوجة حسن حمّود عابد من كفرنبرخ، واشتهرت بأمرين هما: أوّلاً، شدَّةُ تديّنها وصِحّةُ تقواها. ثانياً، قوّةُ بُنْيَتها ومتانةُ عضلاتها9.

رائدات في العمل الاجتماعي
وكذلك على الصّعيد الاجتماعي، لعبت المرأةُ الدّرزّية دوراً مُهمَّاً في تأسيسِ الجمعيّات، والمساهمة في إنشاء الحركات الاجتماعية. ومثّلث السيدةُ زاهية سلمان والدة الوزير السابق صلاح سلمان، والسيّدة نجلا صعب، والسيّدة أنيسة النجّار، زوجةُ الوزير السابق فؤاد النجّار. أهمّ العلاماتِ البارزةِ على هذا الصّعيد. فقد ساهمتِ السيدةُ أنيسة النّجّار في تأسيس جمعيّة “نهضة المرأة الدّرزيّة”، كما انْتُخبت السيّدة زاهية سلمان رئيسةً لـ “جمعية رعاية الطّفل في لبنان”، والتي كان لجمعيتِها هذه مدارسُ ابتدائيةٌ، وروضاتٌ للأطفال في القرى النائية. كما انتُخبت السيّدة نجلا صعب رئيسةً لـ”المجلس النّسائي الّلبناني” الذي يضمّ ستّاً وتسعين جمعيّةً من جميع أنحاء البلاد.

المدرسة الإنجيلية في عين زحلتا . الإرساليات لعبت دورا في التشجيع على تعليم المرأة الدرزية
المدرسة الإنجيلية في عين زحلتا . الإرساليات لعبت دورا في التشجيع على تعليم المرأة الدرزية

نظيرة زين الدين السبّاقة
وليس خافياً أيضاً تلك الانتفاضةُ الأدبيّة والاجتماعية التي قامت بها السيدة نظيرة زين الدين ابنة القاضي الكبير سعيد زين الدين وزوجة محافظِ مدينة بيروتَ سابقاً السيد شفيق الحلبي، وكان لأفكارِها عن الحجاب، وتحرر المرأة، تأثيرٌ كبيرٌ أدّت لردّةِ فعلٍ كبيرة، انقسم على أثرِها رجالُ الفكر والدين إلى قسمين، أيّدها أحدُهما بينما عارضها القسمُ الآخر.
وكانت السيدة نظيرة زين الدين من اوائلِ من أسّسَ الحركةَ النسائيّة الإسلاميّةَ في لبنان. كما ساهمت في تأسيس “اتحاد النساء العرب، واضعةً في ميثاقِه موادَ ذاتَ قيمةٍ عالية، تختصُّ بحقوقِ المرأة المسلمة وحريّتِها وتربيتها.
وفي ميدانِ الفنون كان الدروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفظ. وكان للمرأةِ من التصوّفِ والتحفظِ النصيبُ الاوفى، وهي الموصاةُ “بألا تضحكَ من الفرحِ ولا تبكي من الخوفِ والجزع”. فلم نعرف بها أدباً أو غناء في هاتيك الحقبة من الزمن إلاّ الزغاريدَ في الأفراحِ والندبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتسجيلِ والدراسة، لما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصدقِ التعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولما ينبضُ به جيّدهُ من نفحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في ميدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النساء الدرزياتِ كنَّ على العمومِ يعرفنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النهضةِ الصحيحةِ إلى أواخرِ القرن التاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين:
وفي مَيْدانِ الفنون كان الدّروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى، لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفّظ. وكان للمرأةِ من التّصوّفِ والتّحفّظِ النّصيبُ الأوفى، وهي المُوصاةُ “بألاّ تضحكَ من الفرحِ، ولا تبكي من الخوفِ والجَزَع”. فلم نعرف منها أدباً أو غناءً في هاتيك الحقبة من الزّمن إلاّ الزّغاريدَ في الأفراحِ، والنّدبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنّه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتّسجيلِ والدّراسة، لِما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصِدقِ التّعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولِما ينبضُ به جَيِّدُهُ من نفَحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في مَيْدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النّساء الدّرزياتِ كُنَّ على العمومِ يعرفْنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدّينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النّهضةِ الصّحيحةِ إلى أواخرِ القَرن التّاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين.

” مذهب التوحيد أمرَ بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ واعتبره حقّاً مُصانا لهنّ لمساواتِهن مع الرجــال. كما خصّص لإنصافـــهن العديد من الأحكام والوصـايا.  “

دور الإرساليات
في أواخرِ القرنِ التّاسعَ عشَرَ ظهرفي لبنان رجل أميركيّ اسمُه “مستر برد”، وهو أوّلُ رئيسٍ لمدرسةِ البناتِ الأميركيةِ في صيدا، وكان يجوبُ القرى الدّرزيةَ بحثاً عن فتياتٍ درزيّاتٍ يقبلُ ذووهُن بإدخالهنّ هذه المدرسةَ، فيكنَّ طليعةً تتبعُها أُخْرَياتٌ، ويتخيّرُ وجيهَ كلِّ بلدٍ فيزورُه. وكان أوّلَ من استجابَ للمستر “بِرْد” من الآباءِ الدّروز رجلٌ عصاميٌّ ذو ثقافةٍ لُغَويّةٍ، وشَغفٍ بالشّعرِ العربيّ وسَعيٍ جادٍّ بطلبِ الكتبِ وتثقيفِ نفسِه عليها، واستقلالٍ فكريّ وإرادةٍ صلبة، اسمه الشيخ أبوعلي محمود حسن من عثرين – الشوف. في غدوةٍ من شهر تشرين الأول عام 1890، كنتَ ترى فتاتين تركبان فرساً، يصحبهُما أخوهما وأجيرٌ بينهما، يأخذون طريق جِزّين ــ صيدا، يسجّلون أوّل فتاتين درزيّتين داخليّتين في تلك المدرسة. وتلحقُ بناتُ آل تلحوق بمدرسةِ شملان الإنكليزيّة، وغيرهُن بمدرستيّ عين زحلتا وبعقلين الإنكليزيّتين. وكُنّ طلائعَ لطلبِ العلمِ تميّزن بالنَّهمِ في التّحصيل. واتّصفت خَزْما يونس بالعقلِ المتوقّدِ والتّفوّق، وحاولت نظمَ الشّعرِ بالإنكليزيّة، وهي خالةُ الشّيخ نسيب مكارم. وكان آباءُ هؤلاء الفتياتِ يتلقَّوْنَ بسببِ هذه الأسبقيّةِ سهامَ الأذى والتّجريحِ بشجاعةٍ وصدورٍ رحبة.
بهؤلاءِ الطّلائعِ ترتبطُ اليوم الأجيالُ المتلاحقةُ في المدارسِ صعوداً إلى الجامعاتِ، وأصبحَ لنا منها نماذجُ وبشائرُ في المِهنِ العلميّة.

” نايفة جنبلاط زعيمة الرّحمة إبّان أحداث 1860 ونظيرة جنبلاط مِحور السياسة الّلبنانيّة ونموذج الزّعامة المحنَّكة والآســـرة للقلـــــوب “

المرأة والــــزواج
يشجّعُ الموحدون الدّروزُ الزّواجَ ولا سيّما الزّواجُ المبكرْ، وقد كان الزّواج من الأقرباءِ شائعاً جدّاً نظراً لطبيعة مجتمعِ الموحدّين الصّارمةِ، وعدمِ سماحِهم بالاختلاط بين النساءِ والرّجال إلا ضمنَ حدودٍ دقيقةٍ وضيّقة. وفي الماضي غيرِ البعيد، لم يكن باستطاعةِ طالبِ الزّواج أن يتعرّفَ على عروسِه أو يراها قبلَ ليلةِ الزفاف. لكنّ ظروفَ العيشِ التي تطوّرت مع اقترابِ الموحّدين من الحياةِ العصريّة، سهّلت عمليّةَ التعارفِ التي تسبقُ الخِطْبة، وأصبحت عمليّةُ زيارةِ الشّابِّ لمنزلِ الفتاةِ للتعرّفِ عليها أوّلا،ً وطلبِ يدِها ثانياً، من الأمورِ الدارجةِ والطبيعيةِّ في مجتمعِ الموحّدين.
بعد الزّيارة، أو الزياراتِ التّمهيديّة من قِبَل طالبِ الزّواج، يُفاتحُ ذوو العريسِ أهلَ الفتاةِ برغبةِ العريس في الزّواجِ بابنتِهِم. عندئذٍ يقومُ أهلُ الفتاةِ بالتقصّي عن وضعِ العريسِ الاجتماعي والمادي والعائلي، وعن سمعتِه وسمعة أهله الأخلاقيةِ وطبيعةِ عملِه، إلى غيرِ ذلك، وقد يذهبون بزيارةٍ استطلاعيةٍ إلى بيتِ العريس للتعرفِ مباشرةً على وضعه، فإذا رأى أهلُ الفتاةِ أنّ طالبَ يدِها في وضعٍ ملائم، يحدّدون مَوعداً لإعطائِه الجوابَ المبدئيَ بالقبول. وإذا كان وضعُه غيرَ ملائمٍ لهم، فإنّهم يرسلون الجوابَ بالاعتذار بواسطةِ أحدِ الأصدقاءِ المقرّبين من الأُسرتين. وفي جميعِ الحالات، يكون رأيُ الفتاةِ صاحبةِ العلاقةِ هو الأساسَ الأوّلَ للرّفضِ أو القبول. لأنَّ القواعد التوحيدية تشدّدُ على وجوبِ قبولِ الفتاة بالعرضِ وموافقتِها على الزّواجِ من طالبِ يدها.
يجتمعُ أهلُ العروس، وبعضُ الأقرباءِ والأصدقاء، وتُشْهَر نِيّةُ أهلِ العروسِ بالموافقةِ على طلبِ العريس. ويُعتبَرُ هذا الإشهارُ بمنزلةِ وَعْدٍ للعريسِ بأنّ العروسَ “أصبحت على حسابِه” وعند ذلك تُقرأُ الفاتحةُ ويُقدّمُ الشّراب المُحَلّى، وتُسمّى المرحلةُ بمرحلةِ “التتميم”.
وتعقبُ هذه المرحلةَ فترةٌ من التّداولِ والتفاوض، يتّمُ الاتّفاقُ فيها على مَهرِ الزّواجِ من مُقدَّم ومؤخّر. والمَهْر ليس ركناَّ من أركانِ الزّواج أو شرطاً من شروطِه. لأنَّ عقدَ الزّواجِ يقوم ويتمّ بين الرجلِ والمرأة بمجرّدِ تبادلِ الإيجابِ والقبولِ بينهما10، شرطَ أن يتمَّ وفقاً للأحوالِ الشّرعيّةِ التي تنظّمُه وترعاه.
والمَهر يُقسم إلى نوعين:
“المُعجَّلُ والمُؤخَّر” والمَهْرُ المُعجَّلُ هو ما يقدَّمُه الزّوجُ لزوجته عند إجراءِ العقد، أمّا المَهرُ المؤخَّرُ فهو الذي يؤجَّلُ دفعُه إلى حينِ حلولِ أحدِ الأجَلَين: الطلاق أو الوفاة”11. وبعدَ الانتهاءِ من الاتّفاقِ على المَهرِ تُعْلَنُ الخطوبةُ في احتفالٍ عَلنّيّ، ويتمُّ إلباسُ خاتَمِ الخطوبةِ وبعضِ الحُلى الّتي يقدّمها الخطيب، أو بعض أفراد أهلِه وأهلها على سبيل المباركة، وإظهار السّعادة بالمناسبة.
ولا توجَدُ قاعدةٌ تحدّدُ مقدارَ المَهرِ من حيثُ حدُّه الأدنى أو حدُّه الأعلى. لكنّ القضاءَ المذهبيّ يوصي بعدمِ المُبالغة في طلبِ المهورِ الكبيرة، مُستنداً إلى الأحاديثِ النّبويّةِ الشريفةِ وخطى السلف الصالح التي تُوصي بعدمِ المغالاة في المهور، ومنها:
الأوّل:” إنّ أعظمَ النّكاحِ بَرَكةً أيسرُه مَؤونة”. والثّاني:” إنّ خيرَ الصّداقِ أيسرُه”12.

رقص جماعي وفردي في عرس في السويدا
رقص جماعي وفردي في عرس في السويدا

وبعد مرحلةِ الخِطْبةِ الّتي يُسْتحسنُ أن تكونَ قصيرةً، تأتي المرحلةُ الحاسمةُ وهي مرحلةُ عقدِ القِران. وعَقدُ القِران يتمُّ عادةً في المحكمةِ المذهبيّةِ للعامّةِ، وفي منزلِ العروس، إذا كان العروسان من الأجاويد. ويقوم بكتابةِ العقدِ شيخٌ مأذون. وقد يُجرى عقدُ القرانِ بحضورِ العَروسين شخصيّاً أو بحضورِ وكيلين عنهما كما هي العادةُ عند المُتديّنين. وبعد كتابةِ العقدِ وتوقيعِ الشّهودُ تُقرأُ سورةُ الفاتحةِ ثم سورةُ الإخلاصِ ثلاثَ مرات، تبدأُ كلٌّ منهما بالبَسملة، ثم تُتّلى خُطبةُ الزّواجِ التّالية:” الحمدُ الله الذي أبدعَ الكائنات، وأفاضَ من رحمتِه الخَيرات، وخلقَ الإنسان على أحسنِ صورةٍ فكان أشرفَ المخلوقات، سبحانَه وتعالى عن وصفِ الواصفين وإدراكِ الأنام، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدِنا محمّدٍ سيّدِ المُرسَلين، في كلِّ بدءِ وخِتام. وبعدُ: فإنّ الزّواجَ سُنّةٌ من سُننِ الأنبياء، وشِرعةٌ من شرائعِ البقاءِ، وصونٌ عن الفحشاء، ووقايةٌ من ربّ الأرض والسّماء. وقال تعالى:” ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجَين”13، و”ومن آياتِه أنْ خَلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعلَ بينكُم مودةً ورحمة”14.
وقال سيّدُنا الرّسولُ عليه الصّلاةُ والسلام:” تزوّجوا وتكاثروا، فإنّي أُباهي بكم الأُممَ يومَ القيامة”15، فأسألُه أن يلقيَ بين الزّوجين المحبّةَ والوداد، وأن يرزُقَهما النّسلَ الصًالحَ من الأولادِ، وأن يوسِّعَ عليهما الرّزقَ، وأن يحفظَهما من مكائِد الخَلق، وأن يباركَ هذا العقدَ الميمونَ إن شاءَ الله”16.
بسطتُ هذه الخُطبةَ بالتّفصيلِ لبيانِ الرّوحِ التي تحيطُ بهذه العتبةِ الفاصلةِ في حياةِ الموحّد؛ ومع عقدِ القرانِ يصبحُ مفعولُ الزّواجِ بين العروسين نافذاً، لكنَّ إقرارَه الفعليَّ يتمُّ بالاجتماعِ الصّحيح.
يتّضحُ ممّا تقدَم أنَّ الموحّدين يتزوّجون على سُنةِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلّم، وأنّ أحكامَهم في الزواجِ أحكامٌ شرعيّةٌ إسلاميّةٌ مستمدّةٌ من القرآنِ الكريم والحديثِ، ومن المذهب الحَنَفي مع احتفاظِهم بخصوصيّةٍ اجتهاديّة تقضي بعدمِ تعدُّدِ الزوجاتِ تمسّكاً بقولهِ تعالى:”ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساءِ ولو حرصْتُم”17.
أمّا الخصوصيّةُ الاجتهاديّة الثّانية، فهي في عدمِ السماحِ للموحّدِ بإعادةِ المطلّقة. وهذهِ القاعدةُ قائمةٌ أصلاً على الاجتهادِ لا على النصّ. ويدافعُ الموحدون عنها بالقولِ: إنها تجعلُ الزّوجين يفكّران مليّاً قبلَ الإقدامِ على هذه الخُطوة. كما يذكرُ أحدُ العلماءِ الموحّدين إنَّ التوراةَ تنصُ على عدمِ رجوعِ المُطّقة18. ويشرحُ أحدُ الكتّابِ الدّروزِ مسوّغاتِ هذا التصرّف، فيقولُ إنّ الموحّدين لا يجيزون إعادةَ المطلّقةِ بوجهٍ من الوجوهِ تفسيراً للآية القائلة:” فإن طلَّقَها فلا تحلُّ له من بعد، حتى تُنْكَحَ زوجاً غيره، فإنْ طلّقَها فلا جُناحَ عليهما أَن يتراجعا، إنْ ظنّا أَنْ يُقيما حدودَ الله”19.
والتّحريمَ ناشئٌ عن تفسيرٍ للفقرةِ الأخيرة من هذه الآية، لأنّ عودة المُطَلّقَيْن إلى بعضهما هي اختياريّة، (فلا جُناح عليهما) إلاّ أنّهما حسب اعتقاد الموحّدين يصعب عليهما بعد الطّلاق والجفاء، وزواج المرأة بغير بعلها أنْ يقيما حدودَ الله، وأن يعودا لبناء أسرة متحابّة، وقد صدق الشاعر إذْ قال:
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدّها مثل الزجاجةِ كسرُها لا يُجبَرُ
وهكذا، فاجتهاد الموحّدين المتعلّق بالزواجِ يحكمُه تفسيرٌ مُدقّقٌ وخاصٌّ لآياتِ القرآنِ الكريمِ يتوخّى الموحّدون من جرّائِه اجتناب الشُّبُهات، واعتمادَ ما يعتقدون أنّه أفضلُ السّبلِ للتّمسّكِ بهدي الكتّاب وتمتينِ روابطِ الأسرة20.

المرأة والطّـــلاق
لقد سمحَ مذهبُ التّوحيدِ بطلب الرّجل الطّلاق في حالاتٍ مُعيّنة، كما سمحَ للزّوجةِ بالحقِّ في طلبِ التّفريق، وفسخِ العقد إذا تعذّر استمرارُ الحياةِ الزّوجيّةِ لأسبابٍ حدّدها قانونُ الأحوالِ الشّخصيّة. فالطّلاق عند الموحّدين الدّروز لا يحصل بإرادة منفردة من الزوج لا تحتاج إلى تبرير منه، بل يمكن أن يحصل فقط بحكم قضائي من قاضي المذهبِ بعد النّظر في مُجريات دعوى الطّلاق، والحيثيات المُقدّمة من كلٍّ من الزّوجين المتخاصمين.
وبالطبع فإن هذا يتطلبُ وقتاً من الزمن، قد يعودُ الزوجان خلالَه عن نية الطلاقِ ويتوصّلان بواسطةِ المصلحين من الأهلِ والأصدقاء أو من تعيّنُهم المحكمةُ المذهبية، إلى وفاقٍ يكونُ لصالحِ العائلةِ والأولادِ وللزوجين أيضاً. أمّا إذا تعذّرَ إصلاحُ ذاتِ البينِ بين الزوجين، فقانونُ الاحوالِ الشخصية الصادر عام 1948، المستمدُّ من التعاليمِ الدينيّة ومن التقاليدِ والتراث، يشترطُ على الزوجِ أن ينصفَ زوجتَه، وكذلك أن تنصف الزوجةُ زوجها.
فأعطى القانون المذكور القاضي حق التعويض على المتضرر من الزوجين بما يزيد عن قيمة المهر وفقاً لتقدير الظروف والأسباب، أو العكس بإنقاص المهر، استئناساً لقاعدة حق الإنصاف بالملكية بين الفريقين الذي يكرسه مذهب التوحيد تبعاً لمبدأ التساوي بين الزوجين بحيث يحق لكل منهما نصف ما يملكه الآخر إذا كانت الفرقة بلا ذنب. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها اختيارياً إذا أراد الزوجين ذلك ضمن الشروط الخاصة في عقد الزواج، وللمرأة ثروتها الخاصّة بها والتي ورثتها، وفي الكثير من الأحيان الثروة التي كونتها في عملها خارج البيت أو داخله.
كما أنًّ التّعاليمَ لم تكتفِ يتحريم إعادة المُطلّقةِ، بل حُرّمَت رؤيتها على الزّوج بعد الطّلاق، وذلك لاجتناب الأسباب الّتي قد تًسهم في بعث الخلافات وتفاقمها، وكذلك على سبيل الحيطة في أن يعود الزّوجان للّقاء ببعضهما وهما مُطلّقَين بعد أنْ تكون قد هدأت انفعالاتُهما.
وبالرّغم من أنًّ حالاتِ الطّلاقِ قد زادت نِسبيّاً في مجتمعِ الموحّدين الدّروز عن السّابقِ لأسبابٍ عديدة، من أهمّها النّزوحُ إلى المدينةِ لطلبِ العلم والرّزقِ والانفتاحِ على العالم الغربي علماً وثقافةً، وعن طريق وسائلِ الاعلامِ بجميع انواعِها المكتوبةِ منها والمرئيةِ والمسموعةِ، والسّينما وخصوصاً التّلفزيونَ والفيديو والخليوي والإنترنت التي دخلت كلها المنازلَ بإذنٍ أو بدون إذن.
ولا شكّ في أنّ طموحَ المرأة للمزيدِ من العلمِ والتّخصّص، حتى بعدَ الزّواج، ودخولَها ميدانَ العملِ خارجَ البيت، وما يتبعه من حريّةِ التّصرّف، أو التّقصيرِ من حيثُ الاهتمامُ بتربيةِ الأولاد ورعايتِهم، أو إهمالُ الزّوج، أو التّفاوتُ الحاصلُ بين الزّوجين من حيثُ المستوى العِلْمِيُّ والثّقافيُّ والمِهنيّ، وأيضاً بسبب مُتطلّباتِ الحياةِ المتزايدة وضغوط الحالةِ الاقتصاديّة وغلاءِ المعيشة، كلّ ذلك يضاعف الضّغوط الماديّة والنفسيّة على الزّوجين، فتزداد بسبب ذلك حالاتُ التفكّكِ العائّلي، وبالتالي عددُ حالاتِ الطّلاق.
رغم كلّ هذا لم يتفسّخْ مدماكُ العائلةِ، ولم يتصدّعْ النّسيجُ الاجتماعيّ عندَ الموحّدين الدّروز. لأنَّ بعضاً من الموروثِ كالنّسغِ ما يزالُ مخزوناً احتياطيّاً، ويظهرُ هذا أكثرَ ما يظهرُ عندما تقومُ المرأةُ الدّرزيّةُ بدورِ الأمّ، فيصبحُ الأملُ في أولادِها، ويتحوّلُ حِرمانُ الماضي وما افتقدَت من إمداداتٍ للنّفسِ تعويضاً بأولادِها، ويأخذُ البدرُ استدارةً أوسعَ، وشخصيتُها المُهابةُ تكبر في عائلتِها ومجتمعها عندما تلبسُ ثوبَ الدّينِ كفعلِ يقين. فيصبحُ إيمانُها ثوبَ رِفْعَتِها الجديد، لاسيَّما إذا كانت تقفُ على أرضٍ صلبةٍ من الإيمانِ والثّقافةِ والعلمِ. ابتدأتْ رحلتُها هي لتستمرَّ الحياةُ، “نور على نور” وكأنّي هنا أرى طيفَ أميّ، وغيري كذلك…

المجلس المذهبي

المجلس المذهبي يطلق التحدّي في وجه أصحاب الحملات

هذه هي الصّورة الكاملة حول الأوقاف
فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

رئيس لجنة الأوقاف القاضي عبّاس الحلبي
جميع العقارات التي كانت في ولاية بعض الأشخاص والمرجعيّات
استعدنا ولايتها وأصبحت بالتّالي في عهدة المجلس المذهبي

«الدّفاع عن الأوقاف» بضاعة رائجة لأنّه يستثير العواطف
لكنّه يقوم على أوهام واختلاقات تكذّبها الحقائق والأرقام

تأكيد ولاية المجلس على العقار 2046 المصَيطبة
يفتح الطّريق أمام استثمار الأرض لصالح حاجات الطّائفة

بيروت: الضُّحى
لا يوجد موضوع يثير الجدال بين الموحدين الدروز مثل موضوع الأوقاف، وكلّ درزيّ أكان من أهل الحلّ والعقد، أم كان من عامة الناس، فإنّه يعتبر نفسه معنياً بملف الأوقاف ولا يتردد في إطلاق المواقف، ونقل “المعلومات الموثوقة” بشأنها في السّهرات أو الاجتماعات، غالباً بلغة الاتّهام والتحسّر على هذه الثّروة الكبيرة المهدورة، وعلى من لا يراعون أمانتها.
لماذا الأوقاف دائماً في عين العاصفة؟ ولماذا يسيل كلّ هذا الحبر، وتنظم الحملات وتطلق التصريحات حولها باستمرار؟ السّبب ببساطة: إنّها الموضوع الأسهل للإثارة واستدرار الشّعبية، لأنها تطرق موضوعاً حسّاساً له مكانته العاطفية لدى الموحّدين الدّروز. فمال الوقف له قُدسيّة وحُرمة، وإطلاق التّهم ضدّ المولَجين بإدارته في أيّ وقت، هو مظهر غَيْرةٍ زائفة يُلفت الانتباه إلى مُطلِقِ الاتّهام، ويلعب على مشاعر الغَرَضيّة السّياسية، ويُحرّك غريزة الظّنّ بالسّوء لدى العامة، ذلك لأنّ العامّة مطبوعون على تصديق التّهم، ونشر الأخبار السّيئة، ونادرا ما تجد بينهم مصلحون، أو من يدعون إلى التّرَوِّي والتّحقّق من الوقائع، بل غالباً ما تطغى الحماسة، فيحاول كلٌّ من “الغيورين” المزايدة على الآخرين اتهاماً وتنديداً. لهذا كانت حملات “الدفاع عن الأوقاف” دوماً بضاعة رائجة، وقد يظنّ أصحابُها أنّها تحقّق شعبيّة، لكنّهم لا يدرون، ربّما أنّهم يأثمون بذلك إثما كبيراً لأنّهم أولا لا يتكلمون بالصّدق، ولأنّه لا يأتي من عملهم إلا إذكاء الفِتَن وتفرقة الصفوف، وإضعاف الطّائفة في معرض زعم الدّفاع عنها، وهذا في وقت يمكن لأي إنسان مخلص في إرادة الإصلاح أن يطّلِعَ على ما يجري بكلّ شفافية، سواء عبر الاتّصال المباشر باللّجان، أو المشاركة بنشاطات المجلس، أو متابعة بيانات وتقارير لجان المجلس المذهبي على الإنترنت، وأن يقترح ما يشاء من إصلاحات.

حملات اختلاق وغوغائية
وبصورة عامّة، فإنّ المجلسَ المذهبيّ غالباً ما يكون منهمكا في العمل والإنجاز، ولم يكن هناك بالتالي اهتمام بالرّد على كلّ حملة تشهير أو افتراء. لكنّ التزامَ المجلس ولجانه موقف التروِّي والتجاهل لم يقنع أصحاب الحملات بأخذ جانب العقل، أو السّعي إلى العمل الإيجابيّ، فتعاظمت الحملات، وتعالى الصّراخ، وبرز استخدامُ أساليب الغوغاء في أمورٍ لا يمكن أن تُبحثَ بأسلوب الشارع، بل فقط في المجالس، وبين المُتخصّصين وأصحاب الاطّلاع، وأن يكون كلّ نقاش أو تناول لها مستندا فقط إلى الأرقام والحقائق، وليس إلى الافتراءات والكلام غير المسؤول.
لهذا السّبب وخوفاً من أن يؤدي تكرار الافتراءات إلى التصاق بعضها في أذهان العامة، وإلى تشويه الملفّ كلّه، فقد قرّرت لجنة الأوقاف في المجلس المذهبيّ أن تعقد ندوةً عامّةً مفتوحة، ويمكن لأيٍّ كان أن يشارك فيها، ويستمع ويناقش ويطرح الأسئلة. وكان هذا التّحدّي في وجه أصحاب الحملات من باب “هاتوا برهانَكم إن كنتم صادقين!” هذه وقائعُنا، وهذه أرقامُنا، وهذا كلّ ما تحتاجونه من معلومات عن وضع الأوقاف، وما نقوم بها في سبيل تنظيمها وكف يد الغاصبين عنها، ثمّ تفعيل إدارتها وتعظيم المداخيل المحققة منها، فمن كانت لديه نصيحةٌ فليقدّمها وسنكون له من الشّاكرين، ومن كانت له قضيّة فليأتِ بها وليشهرها على الملأ، ومن كان غير مُطلّع ومشارك في الحملات عن جهل بالوقائع، فلْيستمع إلى الحقائق، وليَبْنِ موقفاً ضميرياً بالاستناد إلى الحقائق، وليس إلى الظّنِّ أو الانفعال أو النّوايا السيئة..
ندوة وحضور كثيف
هذا الموضوع كان موضوع النّدوة الجامعة التي نظّمتها رابطةُ العمل الاجتماعيّ في مبنى دار الطّائفة في فردان، وقد استقطبت أهميةُ الموضوع، وعواصف الغبار المُثارة حضوراً واسعاً لأفراد النّخبة في الطائفة، من النّاشطين في الحقل العامّ على اختلاف مشاربهم السياسية، واهتماماتهم المهنية، فإلى جانب المُحاضر، رئيس لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي القاضي عباس الحلبي، حضَرَ مُمَثّلُ شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، أمين سر المجلس المذهبي المحامي نزار البراضعي، وممثل رئيس اللّقاء الديمقراطي، النائب وليد جنبلاط، مُفوَّض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكيّ، رامي الريِّس، ومُستشار مشيخة العقل، الشيخ غسّان الحلبي، والوزير السّابق عصام نعمان، وأمين عامّ المؤسّسة الدّرزية للرّعاية الاجتماعيّة عصام مكارم، ونائب حاكم مصرف لبنان الدكتور سعد العنداري، والقاضي أمين بو نصار، ورئيسة الإتّحاد النّسائي التّقدّمي وفاء عابد، وعضو مجلس نقابة المحامين المحاميّة ندى تلحوق، ورئيسة اللَّجنة الاجتماعيّة في المجلس المذهبيّ، المحامية غادة جنبلاط، ورئيس اللّجنة الماليّة الدّكتور عماد الغصَيني، والدّكتور صلاح أبو الحسن، وعدد كبير من الشّخصيّات وأعضاء المجلس المذهبي، ورؤساء البلديّات والمخاتير والجمعيات الأهليّة والنسائية، وأعضاء الهيئة الإداريّة لرابطة العمل الاجتماعيّ وجمعٌ من المهتمّين.
رئيس اللجنة الثقافية في رابطة العمل الاجتماعي الدكتور مكرم بونصّار قدّم رئيس لجنة الأوقاف، وتولى بعد ذلك إدارة الحوار بين المشاركين في الندوة وبين المُحاضر.

“هناك أوهام نُسجت حول الأوقاف تزعُم أنّ لديها ثَروات وأرصدة، وأنّ في إمكانها أن تسدّ حاجات الطّائفة، وهذه الاختلاقات لا أساس لها في الواقع”

الحلبي: مهمة “شاقّة وشائكة”
بعد ذلك قدّم رئيس لجنة الأوقاف القاضي عبّاس الحلبي مطالعةً مستفيضةّ ومُدَعّمةً بالوقائع والأرقام توضح حجم الإنجازات التي تحقّقت على صعيد الأوقاف منذ انتخاب أوّل مجلس مذهبيّ للطائفة، عملاً بقانون تنظيم أحوال طائفة الموحِّدين الدّروز الصّادر في العام 2006، لافتاً إلى أنّه يتولّى منذ ذلك الحين رئاسة لجنة الأوقاف في المجلس المذهبيّ.
ولفت القاضي الحلبي الحضور إلى أنّ التّعاطي بموضوع الأوقاف “مهمّةٌ شاقّة وشائكة” لأنّه ملفٌّ “تعرّض في تاريخه إلى التجاذبات السياسية، والحسابات الشّخصية والسّجالات الإعلاميّة” منوِّهاً في هذا السّياق بـ “الدّعم الذي توفّر لنا خلال السّنوات التّسع التي انقضت بسبب اقتناع الجميع بضرورة تنظيم الملفّ وتوجيهه وجهته الاستثماريّة”

حضور نسائي
حضور نسائي

عملية تنظيم شاملة
لَفَتَ المُحاضر إلى أنّه وعند تسلمه أمانة الأوقاف كانت المسؤولية موزعة لدى جهات عديدة لا تعاون بينها بل سجالات ومواقف كانت أصداؤها السلبية تتردد في الإعلام أحياناُ. فكانت المهمة الأولى لنا هي في لمّ الشمل وتجميع المحفظة التي هي بالأساس غير منظمة وأحيانا غير موجودة نتيجة غياب المجلس المذهبي عشرات السنوات. وقد اقتصر العمل في البداية على نَفَرٍ محدودٍ من الأشخاص غير المتفرّغين للقيام بالعمل، ولكنّ الغَيْرَةَ والحَمِيّةُ لتنفيذ المهمات تدفعُهم إلى العمل، إلى أن تمّ تعيين الجهاز الإداريّ المتفرّغ للمجلس، وأصبح للأوقاف مديريّة مصالح، ودوائر وموظّفين. كما أصبح للمجلس مديراً عامّاً مُعَيّناً، وهنا بدأت ورشة إعداد السجلاّت ومسكها، وإنشاء محاسبةٍ نظاميّة، وتوفير العدد الأكبر من المستندات المتّصلة بالعقارات التي جرى إحصاؤها، ثمّ أرشَفتُها ثمّ إعدادُ ملفٍّ لكلّ عقار، ثمّ بطاقة تعريف، وقد تمّ ذلك بإشراف لجنة الأوقاف، وسماحة شيخ العقل رئيس المجلس.
وأشاد القاضي الحلبي بجهود بعض أصحاب الغيرة على الأوقاف الذين كان لموقفهم وصلابتهم في الدفاع عنها نتائج مهمة نلمسها اليوم. وقال: “يقتضي الواجب عليَّ الإشارة إلى أن جهوداً كبيرة قام بها بعض الإخوان في الفترة السابقة لتسلمنا الأمانة، وفق ظروف لم تكن ميسرة خاصة في غياب العمل المؤسسي المنظم. كما يقضي الإنصاف القول بأن بعض ما تسلمناه نحن يعود الفضل فيه إلى تلك الجهود إن من الناحية المالية النقدية أو في استرداد بعض العقارات، ونحن في موقعنا ومنذ أول يوم تسلمنا الأمانة كنا منفتحين على الجميع ولم يدخل في حسابنا إطلاقاً إغماط حق من قام بجهد سابق أو محاسبة مقصر على عدم قيامه بالواجب. زنزّه في هذا السياق بجهود مجلس أمناء الأوقاف السابق رئيساً وأعضاء وكذلك جهود الشيخ سلمان عبد الخالق الذي يعود له فضل في مسك وإدارة هذا الملف في ظروف صعبة غير ميسرة وفي غياب الإتفاق السياسي وعدم وجود التنظيم المؤسسي”.
وأكد الحلبي بأن “علاقة طيبة لا تزال تربطنا بمن سبقنا ونحن حريصون على ان تكون العلاقة مع من سيخلفنا على نفس النحو لأن الأوقاف باقية ونحن كلنا زائلون”.
وقال رئيس لَجنة الأوقاف: “قد لا يُجدي الغَوْصُ عميقاً في هذه الورشةِ وشرح أبعادها ومضامينها نفعاً كثيراً ، لكنْ يكفي أن أشيرَ اليوم وبكلّ راحة ضمير إلى أنّ الأوقاف الدّرزية لم تعد سائبةً، وأنّها محصورةٌ، وأنّنا استردّينا جميعَ العقارات التي كانت في ولاية بعض الأشخاص والمرجعيات التي كانت في عُهْدتها، وأصبحت تالياً جميع الأوقاف في عهدة المجلس المذهبي”:.
تَطرّق القاضي الحلبي إلى الأوهام المنسوجة حول الأوقاف الدرزيّة مثل كونها “من أغنى الأوقاف” وأنّ “لديها أرصدة نقديّة مودعة في المصارف، وأنّ بإمكانها أن تسدّ كلّ حاجات الموحّدين الدّروز على صُعِدِ الاستشفاء والتّربية والتّعليم، والمساعدات الاجتماعيّة،” لافتاً إلى أنّ هذه المزاعمَ الخياليّة تجدّدت، وتناولتها بعضُ وسائل التّواصل دون أيّ إسناد أو براهين، الأمرُ الذي يفرض وضع النّقاط على الحروف، والفصل بين واقع الأوقاف وبين الأوهام المنسوجة حولها، وهنا لَفتَ النّظرَ إلى صدور كُتيِّب شامل عن إنجازات لجنة الأوقاف، وإدارة الأوقاف مُدَعَّم بجداول ماليّة شفّافّة تغطي الفترة من سنة 2007 (وهو تاريخ تأسيس إدارة الأوقاف)، ولغاية تاريخه مرفقاً بها، مُلخَّص عن المِحفظَة الوقفيّة المُحدّثة، وفيها بعض التّصنيفات المتّصلة ببعض المناطق التي تتوافر فيها عقارات قابلة للاستثمار التّجاري والزراعي والصناعي، وسوى ذلك. وهذه الجداول المفصّلة تسمح لكلّ مُنصِف بالنّظر إلى طبيعة الأوقاف، وإلى أخذِ فكرةٍ واقعيّة عنها، والتأكّد بالتّالي من أنها ليست ممّا يمكنه أن يحقّق المداخيل الهائلة التي يدّعيها البعض.

خطة العمل
عرض رئيس لجنة الأوقاف بعد ذلك إلى خطة لجنة الأوقاف، والتي تقوم على عدة محاور هي:
1. زيادة المداخيل.
2. إقامة الدّعاوى حيث يجب (متابعة الدّعاوى المُقامة سابقاً من وعلى الأوقاف) ودعاوى جديدة. بهدف إنهاء التّعدّيات واستخلاص حقوق الأوقاف.
3. إعداد التّصنيفات المناسبة للعقارات بعد استطلاع الأنظمة والبلديّات.

رئيس لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي القاضي عباس الحلبي يعرض للتقدم المحقق في تنظيم الأوقاف وتصحيح أوضاعها
رئيس لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي القاضي عباس الحلبي يعرض للتقدم المحقق في تنظيم الأوقاف وتصحيح أوضاعها

زيادة مداخيل الأوقاف
أمّا في زيادة المداخيل، فقد عمدت لجنة الأوقاف إلى تشجيع الاستثمار في العقارات الوقفيّة في الشويفات وبعورته خصوصاً، على شكل استثمارات صناعيّة وتجاريّة، وقامت بترميم وتجديد بعض عقارات عاليه المتهالكة، وبعض الاستثمارات الزراعية في البِنّيه، وأنجزنا الاتفاق التاريخي مع أهلنا في بيروت بخصوص العقار 2046، المصيطبة، وقامت بتأجير المحلاّت العشَرَة في واجهة العقار، وزادت الاستثمار في بعض عقارات بيروت، لاسيّما الموقف في مار إلياس، وأجازت إقامة العديد من الملاعب الرياضيّة في عدة مناطق من الجبل والبقاع، وفتحت فرعين للجامعة اللبنانيّة في عْبَيه وظهر الأحمر، كما أنجزت ترميم مقام السيد الأمير في عْبَيه، وهي ستباشر بإجراء التّرميم في مقام السّت شعوانة في البقاع الغربي، والمعالجة مستمرّة في مقام النبي أيّوب في نيحا. كما أنجزت اللّجنة بناءً في البِنّيه من أموال التّسويات في أوقاف الشّيخ أحمد أمين الدين، وكذلك بناء قاعة الشّيخ أمين الدين في عْبَيْه ومعهد الأمير السيد في عْبَيْه الذي فتح أبوابه لاستقبال المشايخ الطلاب لإعدادهم لمهمّتهم الدينية السامية. كما سارت لجنة الأوقاف بمعاملة استرداد العقار 512، المصيطبة للهدم، مع الأمل بأن تتمكّن من إخلائه قريباً، وإقامة مشروع سَكَني أو تجاري عليه. هذا فضلاً عن إزالة التعدّيات على عقارات الأوقاف من محتلين في بعض العقارات الوَقْفيّة في بيروت والجبل.

جانب من المشاركين في ندوة لجنة الأوقاف
جانب من المشاركين في ندوة لجنة الأوقاف

مبنى سكن الطالبات
كما أنجزت لجنة الأوقاف معاملات تملّك العقار 18 المصيطبة، بعد شرائه لمصلحة الأوقاف، وتخصيصه بقرار من معالي وليد بك جنبلاط والمجلس المذهبي، لإنشاء مبنى خاص Foyer لسَكنى الطّالبات الرّاغبات في متابعة تحصيلهنّ العلمي في بيروت، وسيكون المبنى بإدارة جمعيّة “بيت الفتاة” في الجبل، التي أمَّنت مصاريف ترميم وتأهيل العقار، وسيُعلن عن افتتاحه في وقت قريب.
كما سارت الّلجنة بمعاملة استرداد العقار 512-المصيطبة، للهدم مع الأمل بأن يتم إخلاؤه قريباً، وإقامة مشروع سَكَني أو تجاري عليه. هذا فضلاً عن إزالة التّعدّيات على عقارات الأوقاف من مُحتلّين في بعض العقارات الوقفية في بيروت والجبل.
كما تمت إعادة تأهيل صالات دار الطّائفة بما يليق بالدار ومكانتها الوطنية، وقد تأمَّنت مصاريف التّرميم، وإعادة التّأهيل من نُخبة من أهل الفضل الذين تبرّعوا لإتمام هذه المهمّة.
وَلَفَت رئيس لجنة الأوقاف إلى أن الّلجنة أعدّت كتيّباً يَتضَمّن ملخّصاً لعملها على مدى التّسع سنوات التي انصرمت منذ تأسيسها، وفيه عَرَضت لجميع الأعمال والإنجازات التي قامت بها، ونشرت الجداول الماليّة التي تَظهر في بابَيّ النّفقات والواردات بشفافيّة مُطلقة، مع الإشارة إلى أنّ محاسبة الأوقاف تخضع لنظام محاسَبيّ نظاميّ، يخضع بدوره لمدقّق داخليّ من جهة، ولمراقب عقد النّفقة من جهة ثانية، وللتّدقيق الخارجيّ الذي يُصْدِر بيانات ماليّة سنويّة لأعمال التّدقيق، كما يتضمّن الكُتَيّب ملخّصا للمحفظة الوقْفيّة نضعه بين أيدي المعنيّين والمهتمّين للاطّلاع عليها بكلّ شفافيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ أوقافاً كثيرة، تخصّ عائلات وقرى ومعابد تخرج عن صلاحيّة الّلجنة المباشرة، وإنْ كان لها حقّ الإشراف عليها، ولهذه الغاية أعدّت الّلجنة نظاماً لإدارة أوقاف القرى والعائلات أصبح نافذاً، والهدف منه تطبيق نظام واحد على جميع الّلجان دون عرقلة مهامّها، وإنّما لوضع العمل في إطاره النّظامي الصّحيح.
ولَفَتَ النّظر إلى وجود نقاشات صريحة داخل المجلس لجهة تحديد مُدَد الإيجار والاستثمار، بين مؤيّد لمُدَد الإيجار الطّويلة ومعارضٍ لها، كما يجري نقاش لجهة ممارسة الحقّ بالاستبدال لبعض العقارات الوقفيّة عينا للعين، أم نقدا للعين، وأضاف القول: إنّ هذا النّقاش “لم يُحْسَم بعد”، وإنّ القرار بشأنه يبقى خاضعاً لرأي القيادات السياسية والروحية، فضلاً عن المجلس المذهبيّ.

صلاحيّات لَجنة الأوقاف
شدّد الحلبي على أنّ القرارات الماليّة للجنــة الأوقاف تخضع لسلطة مجلس الإدارة، وأنّ لها عقدَ الإيجارات والاستثمار لمدة خمس سنوات، وكلّ ما عدا ذلك وأكثر، يعود لسلطة الهيئة العامّة وفق الآليّة المحدّدة في القانون لجهة النّصاب والأكثريّة. وأكّد على أنّ مهمّة لَجنة الأوقاف في المجلس المذهبيّ، تنحصر في توظيف وتثمير وتنمية الوقف. أمّا عائدات الأوقاف فليس لِلّجنة أية صلاحيات بخصوصها، ذلك لأنّه وفق آليّة النّظام الماليّ المُقَرّ في المجلس، فإنها تذهب إلى الصّندوق الموحّد للمجلس، وصلاحيّة التصرّف بالأموال تعود إلى مجلس الإدارة، وثم الهيئة العامة، التي تُقر موازنة المجلس وتحدّد أبواب الواردات والنفقات. ولَفت القاضي الحلبي النّظر إلى أنّه “لا مدخول للمجلس المذهبي إلاّ من واردات الأوقاف، وتالياً يخصص جزء من هذه الواردات لتغطية موازنات سائر لجان المجلس والمجلس نفسه. مع العلم أن الّلجنة الاجتماعيّة مثلا، تسعى دوماً لجمع التبرّعات تمكيناً لها من توسيع قاعدة المستفيدين من تقديماتها، وتحقيق برامجها”
بناء على ذلك دعا الحلبي بعضَ المُطالبين بإنفاق جميع أموال الأوقاف على شؤون اجتماعية، لأن يدقّقوا قليلاً في القانون الذي يرعى الأوقاف، وفي طبيعة نشاط المجلس المذهبيّ ولجانه، وأن يطّلعوا على الوقائع والأرقام حول المداخيل الحقيقية للأوقاف، ويزيلوا من مُخَيّلتهم تلك الصّورة الوهميّة عن أوقاف ثريّة لديها أموال مكدّسة في المصارف، ولا رقابة على إنفاقها متسائلاً:” هل هناك بين هؤلاء الّذين يقومون بهذا النّوع من الحملات من كلّف نفسه وسألنا تزويده بمعطيات، أو مستندات أو أرقام؟ مع الأسف لا أحد!! لكنْ إذا لم يكن هناك بين الّذين يشنّون الحملات من قام بتحقيق نزيه، أو طلب المعلومات الموثّقة والمدقّقة من مصادرها –وهي متوافرة وليست سرّاً- فإلى ماذا يستند هؤلاء في المزاعم التي يروّجونها”؟.
إنجازات إنمائيّة
تناول الحلبي بعد ذلك عدداً من الإنجازات الإنمائيّة، والمكاسب القانونيّة التي حقّقها المجلس المذهبيّ، في نطاق استعادة حقوق الوقف والطائفة، فتطرّق بصورة خاصّة إلى العقارين 2046-المصيطبة، وعقار المدرسة المعنيّة، (أنظر التفاصيل في مكان آخر) كما تحدّث عن المشروع الإسكاني الذي قامت ببنائه جمعيّة الغَدّ على أرض قدّمها تبرّعاً معالي وليد بك جنبلاط، وأقامت عليها بناء يتضمّن 64 شِقَّةً سكنية، مساحة كلّ شقّة نحو 140 متراً مربًعا، أُنجز البناء، وهي تضع هذه الشّقق بتصرّف شبابنا الرّاغبين في تملّك منازلهم مع توفير التّمويل، وقال: لقد شوّهت الشّائعات هذا المشروع، ونعتته بشتّى النّعوت، منها المتاجرة، مع أنّ الجمعية لا ترغب بتحقيق الرّبح، بل فقط باسترداد كلفة الدَّين وفوائده مع تحقيق رصيد محدود يشكل -على ضآلته- خميرة لاستكمال المرحلة الثّانية من البناء، لتوفير عدد أكبر من الشّقق توضع بتصرّف الشّباب.
وختم القاضي الحلبي مطالعته المفصّلة بملاحظة ختاميّة، دعت إلى التّعاون في سبيل الخير العام، داعياً إلى حوار بنّاء “في سبيل أوقاف مُحافَظٍ عليها من جهة، ونامية ومستثمَرة ومزدهرة من جهة ثانية، لكي يزداد دخلها، وتُنْفَق أموالها على سدّ الحاجات الكثيرة للموحّدين الدّروز” لكنّه نَبّه إلى أنّ “الأوقاف لا يمكنها أن تحلّ محلّ الدّولة من جهة، ولا المجتمع المدني من جهة ثانية، وإنْ هي شكّلت قاعدة أساسيّة وصلبة من قواعد العمل الاجتماعي الدّرزي في لبنان”.

إنجازات المؤسّسة الصّحيّة في عَين وزين

في معرض الرّد على حملات التّحريض، تطرّق القاضي عبّاس الحلبي من موقعه كرئيس لمجلس أمناء المؤسّسة الصّحيّة في عين وزين إلى الحملات التي تشن على المؤسّسة، مؤكّداً أنه يكتفي، على سبيل الرّدّ، بإيراد بعض الأرقام الّتي تُعطي فكرة عن أهميّة هذه المؤسّسة، وحجم الخدمات التي تقدّمها، والعدد الكبير للمستفيدين من خدماتها، وقدم الجدول التالي:

خدمات المؤسّسة الصّحيّة في عَين وزين
(خلال الأشهر التسعة الأولى من 2015)

2015
(تقديرات كامل العام)
2015
(حتى 30/9/2015)
مؤشّرات الأداء
11592 8694 عدد حالات الدخول
48758 36569 أيام الاستشفاء
87% نسبة الإشغال
3089 2317 عدد العمليّات الجراحيّة
26782 20087 عدد المعاينات الخارجيّة
جانب من الحضور
جانب من الحضور

انجازان رئيسيّان في معركة “تحرير الأوقاف”
حسم قضية العقار 2046
وكسب دعوى استرداد المدرسة المعنيّة

كشف رئيس لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي القاضي عبّاس الحلبي أثناء النّدوة عن إلإنجاز الّذي حقّقه المجلس المذهبي لانتصارين قانونيّين أساسيّين ستكون لهما مفاعيل استثماريّة وماليّة مهمّة في المدى المنظور:
الانتصار القانونيّ الأوّل هو نجاح لجنة الأوقاف بالتّعاون مع الّلجنة القانونيّة في المجلس المذهبيّ، ومكتب المحاماة، وكيل المجلس وسائر المحامين في استرداد معمل البلاط في العقار 2046، المصيطبة، وذلك بعد صدور سبع قرارات قضائيّة لصالح المجلس بعضها في الدّرجة النّهائيّة، (محكمة التّمييز)، وقد أثبتت تلك القرارات ولاية المجلس المذهبيّ على العقار المذكور، وردّت كلّ الإدّعاءات التي حاولت أنْ تسلخ هذا العقار من ولايته الشرعيّة القانونيّة، الأمر الذي سمح للمجلس بإنجاز الاتّفاق مع لجنة أهالي وقف بيروت من جهة، وإحباط محاولة سلخ العقار عن ولاية المجلس.
أما الإنجاز الثاني المُهمّ فهو كَسب الدّعوى المُقامة بوجه مستثمر المدرسة المعنيّة في توصيف العقد الجاري بينه وبين الأوقاف على أنه عقد استثمار وليس عقد إيجار يخضع للتّمديد القانوني، ممّا مكّن المجلس من إنجاز الاتّفاق على استرداد المدرسة في 30/6/2016، كما مهّد الطّريق أمام لجنة الأوقاف لإنجاز دفتر الشّروط، الذي سيتمّ بموجبه استدراج العروض لاستثمار المدرسة في الفصل الأوّل من السّنة الجديدة، والحفاظ عليها مؤسّسة ناجحة تقوم بدور تربويٍّ رائد في بيروت.
وفي ما خص العقار 2046، المصيطبة، أشار الحلبي إلى أنّه ولضمان أفضل استثمار للعقار، فقد تمّ تعيين لجنة لإدارة واستثمار هذا العقار مؤلّفة من مهندسين، ورجال مال وأعمال، وبدأت الّلجنة بدرس ملفّ العقار، بينما قام المهندس مكرم القاضي بإعداد مخطّط توجيهيّ Master Plan لهذا العقار لَحَظ – بعد المحافظة على موقع الدّار وحُرْمَة والمدافن وحَرَمها والقاعة والمزار- إنشاء مبنى سكني في واجهة العقار في فردان، وتخصيص مساحة للاستثمار التّجاري تشغل واجهة العقار في فردان مكان محطّة المحروقات والبناية المقامة بجانبها كما خصّصت مساحة تحدّها على الجهة الشرقية، لإقامة برج تجاري مكان معمل البلاط ومساحة بقربه.
وفي هذا السّياق تمّ تقديم طلب إلى جانب رئاسة الحكومة لنقل رفات الشّهداء إلى جانب العقار المُلاصق لمدرسة “الرّمل الظريف” الرّسميّة لتحرير هذه المساحة الّتي تشغل وسط العقار، وإقامة مركز ثقافيّ واجتماعيّ للجهة الشّرقيّة الجنوبيّة، بحيث يلبّي هذا المخطّط الحاجات السكنيّة والمكتبيّة، والتجاريّة والثقافيّة والاجتماعيّة، مع مراعاة حرمة الدّار والمدافن.

كلمة سواء

مياهٌ مُعَبّأةٌ في بلدِ الينابيع

من نِعَمِ اللهِ على لبنان أنْ منَّ عليه بعدد كبير من الأنهار الرّئيسة وبألوف الينابيع التي تنساب من سفوح جباله منذ ألوف السّنين لتوفّر المياه العذبة والسّائغة المذاق للشّاربين. ولبنان بهذا المعنى من أكثر بلدان منطقة الشّرق الأوسط تمتّعاً بالثّروات المائيّة وهو بين بلدان قليلة لا تُصنّف عالميّاً بين البلدان التي تشكو من نقص في المياه. فما هو إذن سبب هذا الإقبال الهائل على المياه المُعَبّأة بقوارير البلاستيك؟ ولماذا في بلد المياه تزدهر تجارة بيع المياه وتوزيعها على البيوت دون حسيب أو رقيب؟. وقد أحصى وزير الصِّحَّة وائل أبو فاعور أكثر من 800 شركة لتعبئة وتوزيع المياه تعمل من دون ترخيص، وبالتالي من دون رقابة حكومية؟. وقد أضاف الوزير أنَّ الفحوصات أظهرت أنَّ 90% من تلك المياه تحتوي على أثر مجارير !!
وإذا علمنا، وقد أكّد وزير الصِّحَّة ذلك أيضاً أنَّ “جزءاً كبيراً من مياه الدّولة مُلوّثة” فإنَّنا نصبح “بين شاقوفين” كما يقول المثل العامِّيِّ. فلا مياه الدّولة مأمونة ولا الينابيع ولا المياه المعبَّأة التي يلجأ الكثيرون إليها على اعتبار أنَّها هي الحلّ.
الطّلب الكبير على المياه المُعبّأة أحدث فورةً في معامل التَّعبئة والتّوزيع التي تبيع مياهها المُكرّرة تحت تسميات تجعلك تظنّ أنّها مياه ينابيع بينما هي مياه آبار أو مياه أنهُر غير نظيفة يتمّ تكريرها بتقنيّات مُتَخلّفة لا يمكنها أنْ تزيل كلَّ الشّوائب أو الجراثيم. والنّاس لا يمكنها أن تفرّق بالطّبع وهي تشتري على افتراض أنَّ هناك رقابة من الجهات المعنيّة، لكنَّ هذا الأمر غير واقعيّ لأنّ المعامل كثيرة ولأنَّ النّفوذ السِّياسيّ هو الذي يُبقي على الكثير منها في السّوق. وبسبب الإقبال على قوارير المياه البلاستيكيّة أصبح لبنان يُصَنَّف بين الدّول الأكثر استهلاكاً للمياه المُعبّأة مع معدَّل يقارب الـ 77 ليتراً للفرد سنويّاً. وهذا رقم يقترب من رقم السعوديّة التي لا تمتلك ينابيع بل مياه بحر مُحَلّاة، وهو 79 ليترا للفرد، ويبلغ المُعدّل في أوروبا نحو 85 ليتراً للفرد.
هناك بالطّبع عوامل كثيرة تفسّر هذا الإقبال ولاسيّما الحياة في المدن حيث لا يوجد ينابيع وحيث النّاس يعيشون في أبنية وشُقق لا تصلها مياه الدّولة إلّا مثل “طلّات القمر” وهي إنْ وصلت لا تُعتبر صالحة للشرب. وكثير من الأبنية حُفِرت لها آبار لكنَّ كثرة الآبار أضعفت الحاجز الأرضيَّ للمياه الجوفيّة وجعلت مياه البحر تندفع إلى الطّبقات الجوفيّة للمدن ممّا جعل أكثر مياه الآبار ذات ملوحة عالية.
لكنْ هناك مشكلات صحيَّة أساسيَّة تنجم عن التّحوّل إلى المياه المعبّأة أهمّها استحالة ممارسة رقابة حقيقيَّة على مئات معامل التّعبئة وهذه الرّقابة تبدأ بفحص أنواع البلاستيك المستخدمة في صُنع القوارير ومطابقتها للمواصفات العالميَّة ثم هناك تقنيّات التَّكرير وكفاءتها ونوعية المياه المستخدمة ومصدرها وأخيراً جَودة المياه المعبّأة وخصائصها الكيميائيّة وتوازنها المعدنيّ. والموضوع الأهمُّ هو تجارة القوارير الكبيرة (19 ليتر) التي يتمُّ توصيلها إلى البيوت لاستخدامها في أجهزة كهربائيَّة يمكن من خلالها الحصول على المياه الباردة أو الحارة. وهذه القوارير يتمُّ جمع الفارغ منها ويُفتَرض أن يتمَّ غسلها وتعقيمها جيّداً قبل تعبئتها مجدداً وتوزيعها إلى الزبائن. وعمليّة الغسل والتّعقيم هذه مهمّة لكنْ لا توجد وسيلة للتأكّد من أنَّها تتمُّ بالمواصفات المطلوبة.
ثم هناك الأثر البيئي لفوضى المياه المعبأة. فلبنان ينتج على ما يبدو أكثر من 300 مليون قارورة مياه بلاستيكيّة سنويّاً، وهذه العبوات لا يُعاد استخدامُها بل تأخذ طريقها إلى مكبّات النّفايات لتصبح جزءاً أساسيّاً من مشكلة بيئيّة خطيرة لأنّ قوارير البلاستيك كما هو معروف لا تتحلّل بصورة طبيعيَّة، وليس هناك حتى الآن آلِيّة حقيقيَّة لفرض تدوير هذا المكوّن الأساسي من نفايات البلد خصوصاً في المصدر.
السّؤال البديهيُّ هنا هل الحلول معدومة لمشكلة المياه؟ وإذا كانت الدّولة في وضع مهترئ لا يجعلها قادرة على تجديد البُنية التحتيّة لتوزيع مياه الشّرب وتأمين تعقيم المياه، وإذا كان العمران العشوائيّ يلوّث كلّ يوم المزيد من المياه الجوفيّة، فهل يعني ذلك أن نستسلم ونعتبر الوضع الاستثنائيّ الحاليّ هو القاعدة التي يجب أن نتكيّف معها أو نعتبرها قدراً لا مفرّ منه؟
نعتقد أنّ مشكلة المياه مستمرّة في الكثير من جوانبها بسبب حالة من الاستسلام ونقص المبادرة سواء على مستوى المواطن أم على مستوى المجتمع المدنيّ والجمعيّات الأهليّة وهيئات الإدارة المحليّة. ولقد قامت جمعيّات مدنيّة لكلّ غرض يمكن تصوّره بما في ذلك جمعيّات بيئيّة، لكن لم تقم حتّى الآن إلا مبادرات محدودة لمواجهة أزمة مياه الشّرب وأزمة المياه بصورة عامّة. وهناك بعض البلديّات النّشِطة التي قامت مثلاً بحفر آبار جوفية وأقامت في الوقت نفسه محطّات تكرير تستخدم طريقة التّكرير الطّردي Reverse Osmosis الحديثة لتنقيّة المياه وجعلها صالحة للشّرب، كما قامت تلك البلديّات بتجديد شبكة المياه وبات ممكناً بالتّالي للمنازل الحصول على مياه نقيّة من الصّنبور.
والأمثلة التي أعطيناها تدلّ على أنّ هيئات الحكم المحلّي ولاسيّما البلديّات يمكنها أن تلعب دوراً فاعلاً و”تغييريّاً” في مواجهة أزمة المياه ولاسيّما أزمة نقص مياه الشّرب النَّظيفة. وهناك أموال تُنْفَق على تجميل الشّوارع أو تعميم إضاءة الشّوارع أو إقامة مَعْلَم أو دار للبلدة، وكلّها أعمال محمودة، لكنَّ الأولويَّة لكلّ بلديّة يجب أنْ تُعطى لتوفير المياه النّقيّة للمواطنين ورفع ارتهان الأسر وأطفالها لمياه البلاستيك. وهناك موارد كما أنَّ هناك برامج مساعدات دوليّة يمكن الاستفادة منها لاستقدام وحدات التّكرير أو لتجديد شبكات المياه أو لتوسيع طاقة استيعاب الخزّانات العموميّة.
ولقد أطلقت الجامعة الأميركية في بيروت برنامجاً يستهدف الاستغناء عن قوارير البلاستيك من خلال تأسيس “نقاط مياه شرب” في أنحاء الجامعة وتوزيع “مَطَرات مياه” يمكن للطّالب أن يملأها من نقاط مياه الشّرب المنتشرة في أنحاء الجامعة. بذلك تُقَدِّر إدراة الجامعة أنَّ من الممكن سحب ألوف قوارير المياه البلاستيكيَّة يوميّاً من التّداول وتجنيب البلد أثرها البيئيّ السّلبيّ.
بالمعنى نفسه يمكن للبلديّات العمل على تأسيس نقاط لمياه الشّرب النّقيّة في كلِّ قرية تكون عبارة عن وحدة تكرير تعمل بتقنيات حديثة ويتمّ من خلالها توفير مياه الشّرب النّقيّة لمواطني القرية بإشراف بلديّ. ويمكن للوحدة أن تستفيد من وجود ينابيع أساسيّة وأن يكون الغرض منها تنقية مياه تلك الينابيع التي نَهَلَ الناس منها لألوف السّنين وإعادة ثقة النَّاس بها وبإمكان استخدامها للشّرب. وتفترض هذه المبادرات بالطّبع وضع ضوابط بحيث يكون السَّحب لغرض الشّرب أو الاستخدامات المشابهة مثل الطّبخ فقط، وهذا قد يفترض درجة من التّنظيم حتى لا نقول التَّقنين.
يمكن للبلديّات أيضا إجراء كشف على كافَّة الينابيع الموجودة (وبعض القرى لديها العشرات منها) وتعيين ينابيع محددّة تُعتبر صالحة للشّرب وتشجيع المواطنين على استخدامها لأغراض مياه الشّرب. وهذه الينابيع وإن كانت بعيدة عن العمران يمكن الوصول إليها اليوم بسهولة بالسَّيّارة. وفي الحالات التي لا زالت توجد فيها مثل هذه الينابيع فإنَّ على البلديّات تطبيق معايير صارمة في إعطاء رُخَص البناء التي تستهدف حماية حَرَم الينابيع أو على الأقلّ التّحقّق من استخدام وسائل حديثة لجمع المياه المُبتَذَلة وتصريفها بصورة تمنع تسرُّبها إلى المياه الجوفيّة. ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ تشغيل شبكات الصَّرف الصِّحِّي ومحطّات التّكرير التي أُقيمت في أكثر قرى الجبل يمكن أن يرفع عبئاً هائلاً عن المياه الجوفية بل يمكن أن يُحيي ذلك المصدر المهمِّ بحيث يعود النّاس للاعتماد عليه كما كانوا يفعلون في السّابق.
يجب أيضاً تشجيع المنازل في القرى (وحتّى في المدن) على إيجاد خزّانات مُخصّصة لجمع مياه الأمطار النّقيّة بهدف تخصيصها لاستخدامات الشرب، وقد كان أجدادنا أبعد نظراً عندما كانوا ينشئون لكل منزل بئراً لجمع مياه الشِّتاء النَّقيَّة. علماً أنّ المصدر الأوّل لمياه الشّرب كان عيون الماء والينابيع، (قبل تلوّث الكثير منها) لكنّ البئر كان مصدراً احتياطيًّا في حالات الشِّحِّ وكثيراً ما جرى استخدامه في فترات الصّيف.
نختم بالقول أنَّ الوصول إلى مياه شرب واستعمال نظيفة يُعْتَبر حقّاً طبيعيّاً وأساسيّاً من حقوق المواطنة والكرامة الإنسانيّة، وقد عدّلت الأمم المتّحدة شِرعة حقوق الإنسان في العام 2010 لتضيف إلى تلك الحقوق الأساسيّة حقَّ الحصول على مياه نظيفة.
إنَّنا عبر هذه الافتتاحية نطلق شعار “الماء حقّ وليس سِلْعة” على أمل أن نتابع الحديث في الأعداد اللّاحقة بهدف زيادة الوعي بالموضوع ونحن ندعو جميع المعنيّين وأصحاب المبادرات لاقتراح أفكار وحلول خلّاقة تستهدف تأكيد استعادة حقّ المواطنين بالحصول على مياه نظيفة ونقيَّه تغنيهم عن الاسترهان لتجارة المياه المُعبّأة التي تفتقد للشّفافية وللحدِّ الأدنى من المواصفات الصِّحيَّة.

هذا العدد

مَسيرَةُ تطوّرٍ

بعد سنواتٍ خمسٍ من عَوْدَتها للصّدور بصيغتها الجديدة تمكّنت “الضُّحى” من ترسيخ مكانتها كإحدى أغنى وأشمل المجلّات الثّقافيّة وأكثرها انفتاحاً على قضايا التّطوّر الإنسانيّ والمجتمعيّ. وقد أعطت هذه المجلّة المثال في الفكر الجامع وكلَّ ما هو إيجابيّ ومفيدٌ لتكوين ثقافة شاملة وأصبح القارئ النّموذجيّ للمجلّة هو الإنسان العقلانيّ الطّالب للمعرفة سواء كان من بيئة الموحّدين الدّروز المسلمين أم من قرّاء المجتمع الأوسع، والسّبب في ذلك هو أنّ المجلّة ركّزت على الشّأن التّنويريّ الذي يهمّ كلّ إنسان تائق إلى المعرفة وإلى توسيع آفاقه وأهملت الخَوْضَ في تجارة الخلافات والتّمايزات الرّائجة في هذه الفترة من زماننا. لذلك فإنّنا نجد قرّاء كثيرين من خارج البيئة المعروفيّة يُقبلون على المجلّة ويقدّرون فيها مضمونها الفكريّ ونهجها التّقدّميّ المنفتح لأنّهم لا يشعرون عند مطالعتهم لها بعقدة الفئويّة وضيق الأفق التي يتوقّعون أنْ يجدوها في الإعلام الصّادر عن مؤسّسات دينيّة مُتعدّدة.

إلى ذلك فإنَّ أكثرَ ما يفرحنا هو هذا الانتشار المتزايد للمجلَّة بين إخواننا في جبل العرب ونحن نتلقَّى أسبوعيّاً مكالمات من فعاليّات دينية واجتماعيّة ومن مثقّفي الجبل يثنون فيها على إسهام الضّحى في تغطية تاريخ الجبل وسِيَرِ رجالاته مؤكِّدين أنَّها باتت المصدر الأول لمطالعاتهم الثّقافية الجادّة، وقد أثار مقال المجلَّة عن حروب التَّقسيم والنِّفط ترحيباً واسعاً وطلب البعض تزويدهم بنصّ المقال Pdf وهذا ما حصل والمقال الآن يُتدَاول في الجبل على الإنترنت على نطاق واسع.

كذلك هناك اهتمامٌ من مثقَّفي الجبل بالكتابة للمجلَّة، وكلّ يوم نكتشف كم يحوي جبل العرب من طاقات ومن رجالات لم تُتَح لكثيرٍ منهم في السّابق فرصة المساهمة الحقيقيّة في الشّؤون التي تهمّ الطائفة المعروفيّة والوطن الأوسع. وسيُتاح لنا في الأعداد المقبلة التعرُّف على ممثِّلين للنُّخبة المثقَّفة في الجبل سواء من خلال إسهاماتهم بمقالات للمجلّة أم من خلال مقابلات وحوارات مباشرة.

هذه المستجدات في خِطَّة التَّحرير تستجيب في الواقع لمسار التّطوّر والتعلُّم بالتّجربة، وقد تمَّ منذ البدء وضع رؤية الضُّحى بالاستناد إلى فَهمٍ عميقٍ للدّوْر الذي يؤمل لمجلّة طليعيّة أن تؤدّيَه في بيئتها، ومن حُسن التّوفيق أنَّ الصِّيغة التي صدرت بها المجلَّة أثبتت صلاحيتها على الأقلِّ في المُنطلق وفي المراحل الأولى من الصّدور. لكنَّ هذه الصّيغة كان يجري تكييفها بصورة تدريجيّة مع تطوّر تجربتنا ومع ما كان يُقدَّم لنا من ملاحظات واقتراحات، وكذلك مع تنامي نادي الكُتَّاب والمساهمين لأنَّ التّطوُّر يحتاج إلى أفكار جديدة لكنَّه يحتاج إلى من يقوم بعبء تنفيذ تلك الأفكار على الوجه المطلوب.

إنَّ زيادة حِصّة جبل العرب في المجلّة كان أحد جوانب التّطوّر التي يفرضها الوزن الكبير للجبل ونضالاته التّاريخيّة وكذلك الرَّوابط الأسريّة والعاطفيّة التي تربطنا بأهلنا هناك. وقد بدأنا في هذا العدد أيضاً الإطلالة على قِصص نجاح غنيّة بالدّروس لروّاد نجحوا في تحقيق إنجازات كبيرة في حياتهم، وهي إنجازاتٌ يمكن لأجيالنا الشّابّة الجديدة أن تتعلّمَ منها الكثير. وهناك لائحة طويلة برجال أفذاذ شرّفوا الطّائفة المعروفيّة بجهادهم ومواهبهم وما تركوه من صروح وإنجازات رائدة.

أدخلنا أيضاً في هذا العدد قسماً مهمّاً يتعلّق بعلوم الطّبيعة والكَوْنِ والإنسان، وهو قسم يستهدف التّركيزَ على الأسرار والآيات العجيبة للخلق سواء في الكَوْنِ أو في الإنسان أو في المخلوقات، والهدف تعليميٌّ بالطّبع وهو أن يتمَّ بناء الإيمان والسّلوك القويم على إدراك إعجاز الخلق والقدرة العظيمة لربِّ الكَون، لاسيّما وأنّ الكثير من أنظمة التّعليم التي جرى تصميمُها في الغرب ونعتمدُها في مدارسنا وجامعاتنا مُصَمّمة لنزع الإيمان من قلوب الأجيال الجديدة وتخريج شباب مُتَشَكِّكٍ لا يؤمن بشيء.

كما أنَّنا سنُدخل ابتداءً من العدد المُقبل سلسلة من المقابلات مع معمرين من أهلنا كانت لهم تجارب وصولات وجولات في الذّود عن الحمى والكرامة ودفع العدوان، وهؤلاء كما بالنّسبة لبعض مُجاهدي الـ 58 أشخاصٌ يجب أن نشكرهم ونذكرهم ونعطيهم حقَّهم في حياتهم إذا أمكن ونتعلَّم من شجاعتهم ورجولتهم وتضحياتهم وإخلاصهم.

الضُّحى في تطوّرٍ مستمرٍّ وفي سعيٍ دائمٍ إلى توسيع نطاق خدمتها لأنَّنا نريد أنْ يكونَ لكلِّ فردٍ ولكلِّ جماعةٍ ولكلّ صِقع من أصقاعنا نصيبٌ من اهتمام المجلّة وقِسط ٌمن إسهاماتها. واللهُ وليُّ التَّوفيق.

عماطور

عَمّــاطور الزّاهرة
بلدةُ الرِّجالات والمَشايخ الثّقات

سُمّيت «بَلدة الموحدين» لكَثرة مجالسها وخلواتها
وبرز منها خَمسة مشايخ للعقل كان لهم شأنُهم

الشّيخ محمّد أبو شقرا عهده استمرّ 42 عاماً
وأكبر إنجازاته، الوَحدة وبناء المؤسّسات

كنيسة البلدة القديمة شارك الدّروز في بنائها
ولازالت رمزاً للحضور المسيحيّ في عَمّاطور

مثل معظم أسماء قرى الجبل يعود اسم قرية عمّاطور» إلى الحقبة الآرامية وأصله باللّفظ الآرامي “en mayya d tura” ومعناه عين ماء الجبل، وقد تكون القرية أُعطيَت تلك التّسمية نسبةً إلى العَيْن الرّئيسة عند مدخلها الجنوبي والتي تسمّى اليوم «عين العريش» وربّما كان السّبب أيضاً وفرة الينابيع فيها. لكنْ وفي أغلب الحالات فإنّ المعنى الآرامي لاسم القرى في الجبل سقط في أحيان كثيرة مع الزمن لتحلّ محلّه مضامين جديدة متّصلة بحياة سكانها العرب الذين أعمروها منذ ما بعد الفتح الإسلامي، وغالبا ما تُعرف القرى اليوم بمعايير مثل أهمية عائلاتها أو ثقلها البشري أو السياسي أو التّضحيات التي قدمها أبناؤها في الملمّات.  وبهذا المعنى فإنّ عمّاطور المعاصرة عُرفت بكل هذه الأمور مجتمعة، فهي بلدة ذات ثقل بشري وسياسي وأهمية تاريخية وقد اشتُهرت بقوّة عائلاتها وتعليم أبنائها وأدوارهم البارزة في مواقع الدّولة والسّلك العسكري والتّعليم والسّياسة والدبلوماسيّة والقضاء والأدب والثقافة فضلا عن كونها أنجبت مشايخ عقل ثقات كان لهم أيضا أدوار بارزة في تاريخ المنطقة والموحّدين الدّروز.  فماذا نعرف عن هذه البلدة العريقة وعن أعلامها وآثارها وعن مساهمتها ومساهمة أبنائها في العمل لرفعة المنطقة ورفعة الوطن والمجتمع.

جُغرافية البلدة
تمتدّ عمّاطور على مساحة تقارب 577 هكتاراً أو ما يعادل خمسة ملايين وسبعمائة وسبعين ألف مترٍ مربّعٍ. وتتّصل أراضي عمّاطور بالأراضي التّابعة لمحافظة لبنان الجنوبي عبر القرى التالية: الميدان – جل ناشي – الغبّاطية – عاريّ (جنوباً). وتّتصل بقرى الشوف عبر: مزرعة الشوف (غرباً) يفصل بينهما نهر الباروك. عين قني (شمالاً). بعذران – حارة جندل – باتر – جباع (شرقاً). والجدير ذكره أنّ في عمّاطور 365 نبع ماء (على عدد أيام السنة!) تساهم في ريّ المساحات الزّراعية الشاسعة، رغم عدم اعتماد الأهالي على الزّراعة بشكل أساسي.
تبعد البلدة عن العاصمة 55 كلم، وعن مركز القضاء، بيت الدين، 14 كلم. وترتفع عن سطح البحر 850 متراً مما أعطاها مُناخاً مُميّزاً في الصّيف وفي الشّتاء، كما أنّ موقعها على الطريق العام بيروت- جزين (عبر الشوف) وعلى التقاطع الذي يربطها ببلدة بعذران وبلدات الشوف الأعلى جعل منها مركزاً مهمّاً ونقطة رئيسية لأهالي القرى المجاورة.
عدد سكّانها اليوم نحو 4,300 نسمة يتوزّعون على عدّة عائلات درزيّة ومسيحيّة، وتشكل عائلتا أبوشقرا و عبد الصمد نسبة 80% تقريباً من عدد السكان، أمّا النسبة الباقية فتتوزع على العائلات التالية: ناشي، ربَح، ناصيف، حرفوش، قنديل، الدّاهوك، سْليم، جوديّة، حسنية وأبوعاصي (دروز). وعائلات: سالم، جبارة، لْطَيْف، أبورعد، طوبيا، صوايا وكنعان (مسيحيّون).

ثروة مياه واقتصاد زراعيّ ــ حِرفي
كانت عمّاطور، وفقاً لمحاضر مجلس الإدارة الكبير في متصرفيّة جبل لبنان، “من أغنى القرى خراجاً ومالاً في الجبل المذكور، خلال النّصف الثاني من القرن التاسع عشر” وقد شجّع الإنتاج الزراعي الضّخم على قيام مؤسّسات صناعية، فانتشرت في البلدة المطاحن و معاصر العنب والزّيتون، وكان فيها أيضاً معصرة حلاوة وثلاثة أفران، ومحلّ صبّاغ، ومحلّ لتصنيع الأحذية، ومحل صياغة، و نول حياكة وربما أكثر. ونظراً لاتّساع الأراضي المزروعة (آنذاك) ومنعاً لأي خلافات على المياه وضع أهالي عمّاطور اتّفاقية لتوزيع مياه الريّ هي الأولى في المنطقة، ونصّت الاتفاقية على ما يلي حرفيّاً:
اتّفاق ما بين أهالي الضّيعة – عين ماطور على مياه الضّيعة وتقسيمها إلى عدّانين (12 ساعة):
حصة بيت بو شقرا أربعة أيام (ليل نهار) حصة بيت عبد الصمد أربعة أيام (ليل نهار) حصّة النصارا وأولاد الضّيعة: يوم وليل وكّل من تعدا او خالف يكون عنده خمسين قرش الى حاكم الوقت ويكون الله وأنبياؤه خصمه.
حرّر ذلك وجرا في ثلاثة أيام خَلت من شهر جمادى الأول من شهور سنة الف ومئتين وعشرين هجري (1805 م)».
(سيرة الشيخ محمد قاسم عبد الصمد) للأستاذ عادل سليمان عبد الصمد.
لكنّ الماضي الزّراعي الزّاهر تراجع مع الأسف كما حصل في كل مكان، وبات أغلب سكّان البلدة يعتمدون، وبشكل أساسيّ، على الوظيفة (في القطاعين العام و الخاص) وقد شجّعت مكانة البلدة وقوّة عائلاتها على انخراط رجالاتها منذ عصر مُبَكِّر بالخدمة العامّة وسجل البلدة حافل بكوكبة من أبنائها الذين بلغوا مراتب عليا في الدّولة اللّبنانية (مثل رئاسة أركان الجيش اللبناني وقيادة الشرطة القضائية كما أنّها أنجبت العديد من القضاة والسّفراء والقناصل والمدراء العامّين، وكبار الضباط في صفوف الجيش والقوى الأمنية. ورؤساء مصالح، ورؤساء الدوائر الحكومية وهذا فضلا عن عشرات الأطباء والمهندسين والمحامين وعدد آخر موزّع بين مهاجرين وأصحاب مؤسّسات ومصالح (صناعيّة ، تجاريّة) ومؤسسات تربوية ومكاتب هندسة. أمّا الذين لا زالوا يعتمدون على الزّراعة كمورد رئيسيّ فقد أصبحوا أقليّة في البلدة.

 

العين .. لكن أين الجرار ؟
العين .. لكن أين الجرار ؟

“بلدةُ الموحّدين”
كان لعمّاطور موقع ديني مرموق بين البلدات الشّوفيّة، حتى لُقّبت في حين من الأحيان “بلدة المُوحّدين” بسبب ما كان فيها من مشايخ ثقاة وخلوات ومجالس للذكر ونذكر منها خلوات المشايخ: علي حسين يوسف عبد الصمد، نجم معضاد أبوشقرا، قاسم فهد علي عبد الصّمد، محمود حسن شرّوف عبد الصمد، حمّود حيدر أبو شقرا، فارس يونس أبو شقرا، خلوات الحدّ (أبوعلي باز عبد الصمد) وخلوات الضّيعة لعائلتي أبوشقرا وعبد الصمد، ومجلس آل سْليم.
كما ارتقى خمسة مشايخ من عمّاطور سدّة مَشيخة عقل طائفة الموحّدين الدّروز هم: الشيخ ناصيف أبو شقرا، الشّيخ يوسف عربيد أبو شقرا، الشّيخ حسين سلمان عبد الصمد، الشّيخ محمد قاسم عبد الصمد والشّيخ محمد داوود أبو شقرا.

كنيسة عمّاطور
تُمثّل عمّاطور منذ القدم نموذجاً مُشَرِّفاً للمحبّة والتّعايش الدّرزي المسيحيّ، وتُعتبر كنيسة البلدة من أقدم الكنائس في الشّوف، وكانت من قبل تشغل موقعاً آخر في البلدة كان يعرف باسم محلة الكنيسة، ثم أشيدت الكنيسة الحاليّة في أواخر القرن التاسع عشر وشارك مواطني البلدة الدّروز أيضاً في بنائها.
يشكّل المسيحيّون في عمّاطور نسبة لا تقل عن 10 % وهم ينتمون إلى الكنيستين الكاثوليكيّة والمارونيّة وهم مُمَثّلون في المجلس البلدي، وبلغ كاهن عماطوري من آل جبارة مرتبة دينية مرموقة عندما جرت سيامته مُطراناً. ويقيم عدد كبير من مواطني البلدة المسيحيّين بصورة دائمة فيها بينما يحرص الباقون منهم الذين يقيمون خارجها بداعي العمل أو غيره من الأسباب، على أن يفِدوا إليها أيام الآحاد والأعياد وفي المناسبات للمشاركة في المراسم والاحتفالات الدينية. وهناك راعٍ للكنيسة يحضر من مطرانيّة صيدا ليترأّس القداديس أيّام الآحاد والأعياد وكذلك في المآتم حيث أنّ 90 % من المسيحيين يَدفنون موتاهم في عمّاطور، ويتشاركون مع أبناء بلدتهم الدّروز في غالبيّة المناسبات. ويلاحظ أنّ مالكي الأراضي المسيحيّين لم يُهملوا أرزاقهم بل هم يعتنون بها مباشرة أو بواسطة وكلاء وعمّال زراعيّين.

أحد شوارع البلدة
أحد شوارع البلدة

عمّاطور سياسيّاً
منذ القرن الثامنَ عشَرَ، لعبت عمّاطور دوراً بارزاً على الصّعيد السّياسي، و قد تجلّى هذا الدّور في عدة امتيازات لم تحصل عليها أيّة مدينة أو منطقة في لبنان، أهمّها أنّه كان على الفارس الترجّل عن حصانه أثناء مروره بساحة عمّاطور، حتّى لو كان الأمير بحدّ ذاته. و كان من يطلب الحماية من إحدى العائلتين (أبو شقرا وعبد الصمد) يُفرج عنه وتلازمه الحماية مدّة سنة وأنّ الأسير لا يمرّ في عمّاطور مقيّداً أو مَكتوفاً بل يجب أنْ يُفَكَّ قيدُه.

حاضرةُ عِلم وثقافة
كان أهالي عمّاطور منذ القدم تواقين إلى العلم والبحث والمعرفة. وقد أنشأ الشّيخ اللّامع سليمان نجم أبوشقرا الذي، كان يلقّب بـ “الفقيه”، أوّل مدرسة في عَمّاطور عام 1870، وكان يمتلك تجهيزات لتسطير الورق وقطعه وخياطة الكتب.
وفي العام 1905 أسّس الشيخ نايف أبوشقرا مدرسة أخرى. وفي العام 1912 أسّس السّيد نعمان ابوشقرا مدرسة ثالثة. وفي العام 1922 أسس الاستاذان أمين عبد الصمد وعارف أبوشقرا المدرسة الرابعة. وفي العام 1934 افتُتِحت المدرسة الرّسمية وكانت أوّل مدرسة رسميّة تكميلية في الشّوْف توالى على إدارتها كلٌّ من الأساتذة:
1. الأستاذ سامي أبوشقرا الذي كان له الفضل الأوّل في نهضة مدرسة عمّاطور ولما قدمه من تَفانٍ وسهر وبعد فوز أوّل دفعة بالشهادة التّكميليّة انشأ الصّف الأوّل الثّانوي دون العودة لوزارة التّربية.
2. الأستاذ سمير لْطَيف
3. الأستاذ حسن ضاهر أبوشقرا
4. الأستاذ شوقي أبوشقرا
5. الأستاذ منصور أبوشقرا
6. وحاليّاً الأستاذة جيهان أبوشقرا
وفي العام 1936 افتُتحت مكتبة تحت عنوان (غرفة المطالعات الديمقراطيّة).
وحوالي سنة 1942 أسّست السيّدة حميدة أبوشقرا مدرسة.
ولم تكن المدرسة الرسمية في عمّاطور لأبناء البلدة فقط فقد تخرّج من تكميليّتها عشرات الطّلّاب من باتر ومزرعة الشّوف وجباع وبعذران وعين قني ومْرستي وغيرها من القرى المجاورة.

بلدةُ الطُّموح
لعبت عمّاطور دوراً فاعلاً في جميع الحركات منذ القِدم ففي عهد فخر الدين الأوّل أيّ سنة 1516 تملّكت عمّاطور بعائلتيها عبد الصمد وأبو شقرا أراضي إقليم التّفاح الذي كان يضمّ 24 قرية، وبقيت هذه الحِيازة في يد العائلتين إلى أنْ استولى والي صيدا على قسم من إقليم التّفاح.
وقد نبغ وتميّز من هذه البلدة جمعٌ من الرجال في عدّة مجالات لا بدّ من ذكرهم بصورة مُختصَرة:
• أحمد علي منصور عبد الصمد عُيّن وكيلاً عن الشّوف الحَيْطي (الآعلى) في تحقيقات شكيب أفندي سنة 1845.
• حسين بشير أسعد أبو شقرا الذي كان يحمل الوسام العثماني الرّابع، وبعد تقاعده من الوظيفة أحدث في عمّاطور نهضة صناعيّة.
• حسن يوسف حمد أبو شقرا عُيّن مديراً لناحية الباروك في عهد الانتداب وأحرز الوسام المجيديّ الخامس. تولّى مشيخة عمّاطور لثلاثين سنة.
• حسين محمد شاهين عبد الصمد كان مديراً لمدرسة الشّرطة في القدس درس القانون وعين مُدّعياً عامّاً ثم قاضياً في مدينة حيفا.
• داود علي أحمد أبو شقرا الذي ترقّى من شرطي ليصبح مفوّضاً عامّاً ممتازاً في الشرطة فاشتُهر باكتشافه للجرائم وملاحقة المجرمين أقيم له تمثال في عمّاطور وأطلقت بلديّة بيروت اسمه على أحد شوارع العاصمة.
• صبحي نايف حمد جنبلاط أبو شقرا تخرّج من جامعة القدّيس يوسف وعُيِّن مديراً لمتحف بيت الدّين حقّق مع الدّكتور أسد رستم كتاب “الجواب على اقتراح الأحباب” ومخطوطة “وثائق لبنانيّة”.
• ضاهر عثمان معضاد نجم أبو شقرا كان سعيد بك جنبلاط يعتمد عليه نظراً لمقدرته وحُسن إدارته وقوّة شخصيّته. عُيّن وكيلاً مع أحمد علي عبد الصمد لشكيب أفندي لتسوية أحوال البلاد وعُيّن عضواً في مجلس إدارة الشّوف وعضواً في مجلس الإدارة الكبير.
• رفيق علي عباس عبد الصّمد نال شهادة الحقوق ومارس المحاماة سنة 1932 ثم عُين قاضيَ تحقيق لجبل الدّروز، وبسبب انتمائه إلى الكتلة الوطنية وسلوكه الوطني نفاه الفرنسيّون، ثمّ عاد بعد تقلّص نفوذهم إلى القضاء وشغل وظيفة عضو محكمة دير الزّور سنة 1942 ثم حاكم صلح دير الدروز ثم رئيس محكمة بداية درعا ثم قاضي استئناف في دمشق 1958 ثمّ رئيس محكمة جنايات سنة 1959 وأسّس بعد تقاعده مكتباً للمحاماة في الشّام 1966.
• عارف يوسف خليل أبو شقرا أنشأ أكثر من مدرسة ودرَّس في مدرسة المقاصد الإسلامية في بيروت وأصدر مجلّة “البادية” سنة 1928 واشترك في تحرير مجلّة “الأماني” وكتب في عدّة صحف باسم مستعار “أبو ذرّ” ودرّس في الكليّة السعوديّة، وكان شاعراً وكاتباً وخطيباً له عدّة كتب وبحوث ومخطوطات وديوان شعر.
• عباس محمود نجم معضاد أبو شقرا بعد أن أنهى دروسه سافر إلى مصر وعمل محرّراً في جريدة المقطّم وتعرّف بسعد زغلول ومكرم عبيد وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم، ثم عاد إلى لبنان ومن ثمّ سافر إلى الولايات المتحدة واشتغل في الصّحافة وكتب في “الهدى” و” البيان” و”نهضة العرب” ثم أصدر جريدة “البرهان” وانتُخِبَ سكرتيراً عامّاً لحزب سوريا الجديدة، وكان يجمع المساعدات ويرسلها إلى مجاهدي الثّورة السّورية وفي سنة 1934 حضر الى الوطن ففرضت عليه السلطات الفرنسية مغادرة الوطن خلال ثلاثة أيام. فذهب إلى اللّاذقية ثم إلى الشّام فاستقبله رجال الحركة الوطنيّة استقبالاً حافلاً أمثال شكري القوّتْلي وخالد العظم وجميل مردم بك وعمل على إزالة الخلاف وإحلال الصّلح بين أعضاء الحركة الوطنيّة وعاد إلى لبنان بعد رفع الفرنسيين الحظر عنه.
• محمّد بو شديد ناصر الدّين شبلي عبد الصمد، عُيّن ضابطاً في درك جبل لبنان في عهد المتصرّف داود باشا فنفّذ حملات ناجحة لمطاردة الأشقياء وكفّ شرورهم، ثم عُيِّن في سنة 1883 مديراً بالوكالة لمديريّة المناصف ثم وكيلاً لمديرية الجُرد ثمّ مديراً لمركز بعقلين، وبعد التّقاعد انصرفَ إلى الكتابة وألّف كتاباً ضخماً في تاريخ لبنان لم يُطبع وفُقدت مخطوطته.
• الشيخ محمد قاسم سليمان أحمد عبد الصمد من بيت وجاهة وثروة وتقوى أشرف على وقف سماحة الشيخ محمد حسين عبد الصّمد وكان تقيّاً ذا وقار وهيبة، تولّى مشيخة العقل سنة 1946 بعد وفاة الشيخ حسين حمادة واضطّلع بأعمالها بكلّ إخلاص.
• الشيخ أبوعلي ناصيف علي ابراهيم تميم أبو شقرا، شيخ جليل تولّى مشيخة العقل لمدة 15 سنة وكان على درجة رفيعة من الوجاهة والتّقوى عاصر الشّيخ علي جنبلاط، الذي كان يحترمه ويجلّه وقد أوصى بثروة طائلة إلى المجالس والخلوت والمشايخ أصحاب التّقوى وخاصة المجلس الذي يعرف باسمه: مجلس الشّيخ ناصيف.

بيت تراثي
بيت تراثي

• نسيب داوود علي أحمد أبو شقرا، بعد انتهاء علومه في مدرسة اللّيسه الفرنسيّة في بيروت بدأ حياته في الصّحافة فاصدر مجلة “البادية” مع الأستاذ عارف أبو شقرا. كانت لديه رغبة في السفر إلى المهاجر لكنّ والده ثناه عن ذلك وحَملَه على دخول مدرسة الشّرطة سنة 1933 وفي سنة 1940 أحرز رتبة مفوّض وبسبب نشاطه وإخلاصه وجرأته بلغ رتبة مفوّض عامّ ممتاز وشغل وظيفة مفتّش عام للشّرطة وفي سنة 1956 أسندت إليه قيادة الشّرطة القضائية. ثم بعد تقاعده أصدر مجلة “الحديث المصوّر” مع الأستاذ سلمان جابر والتي استمرّت لسنوات. مثَّل لبنان لسنوات في قيادة الأنتربول وتولّى رئاسة قسم مكافحة المخدّرات، نال عدّة أوسمة رفيعة.
• محمود حسين محمود سليمان أحمد عبد الصّمَد، بعد انهاء علومة في سوق الغرب استدعاه الأمير شكيب أرسلان ليكون أمين سرّه فصحبه إلى سويسرا سنة 1930 وعاد بعد سنة 1939 فانتخب رئيساً لبلدية عمّاطور وكان قد أسّس مع المجاهد على ناصر الدّين البحريني “دار الحكمة” للتّأليف والنّشر واستمرّ برئاسة بلديّة عمّاطور حتى سنة 1973.
• منصور قاسم سليمان أحمد علي عبد الصّمد تعلّم في مدرسة الحكمة في بيروت ودرس الحقوق في مكتب الحقوق الأعلى عين بعد تخرجه مأمور معيّة في بيروت ثم نُقل إلى نابلس ثم عين قائمّقام في صور. وبسبب تمنّعه عن إلقاء القبض على الأمير فيصل بن الحسين بناء لأمر جمال باشا فقد نُقل إلى معان ثم إلى تيرانا في ألبانيا، ثمّ رُقِّي إلى رُتبة مُتصرّف على السّليمانية في العراق وبعد جلاء الأتراك عُيّن متصرّفاً على السّلْط، فالكرك من قبل الأمير فيصل، وبعد احتلال الفرنسيّين الشّام عُيِّن مديراً عاماًّ للقضاء، ثم انتُخب عضواً في مجلس النّواب في جبل الدروز سنة 1921 وانتخب ثانية سنة 1922 وأخيراً شغل وظيفة رئيس محكمة الاستئناف في السّويدا، وبعد التقاعد اتّخذ مكتباً للمحاماة ومارسها لسنوات.

العزّ القديم
العزّ القديم

“بلديّة عمّاطور خليّة نشاط ومشاريع بنى تحتيّة واهتمام خاص بزرع الصّنــوبر وتطوير البيئة”

• نعمان محمود رافع ضاهر نعمان أبو شقرا، تخرّج من مدرسة صيدا الأميركية ثم دخل في سلك الدّرك اللّبناني سنة 1918 وتخرّج من المكتب الحربي في حمص برتبة مُرشَّح ضابط. تقلّب في مراكز عدّة بين مرجعيون ومشغرة وزغرتا قام خلالها بالقضاء على عدّة عصابات ونال على أثرها التّرقية لملازم أوّل وعُيّن قائداً لدرك صور ثم رئيساً للحرس الجمهوريّ سنة 1927 وتقاعد برتبة نقيب.
• يوسف ملحم وهبة عبد الصمد، أكمل علومه الثّانوية في الاسكندريّة وثم سافر إلى الولايات المتّحدة ودخل جامعة شيكاغو وتخرّج منها طبيباً في جراحة الأسنان وعُيّن طبياً خاصّاً للخديوي عبّاس حلمي، ثمّ عاد إلى لبنان سنة 1906 وأنشأ عيادة لطبّ الأسنان هي الأولى في صيدا وحاضر في الجامعة الاميركيّة في بيروت بناءً على طلب الدكتور غراهام سنة 1939 تلقّى كتاباً من جلالة الملك فاروق مُنِح بموجبه رتبة البكويّة.
• (أبو زين الدين) يوسف أحمد عربيد أبو شقرا، تولّى مشيخة عقل الطائفة الدرزية سنة 1778 بعد الشيخ علي جنبلاط في عهد الأمير يوسف الشّهابي، وكان له مع الأمير جولات وأخصّها بشأن ضريبة الشّاشيّة حيث كان الأمير شديد الانحراف على الدروز وفرَض عليهم كثيراً من الضّرائب. وكانت أهمّها الضّريبة على العمائم سنة 1782 وبعد اعتراض المشايخ الدّروز ذهب الشّيخ يوسف أبو شقرا إلى مقر الأمير في دير القمر وبعد جدال محتدم قال له الأمير :البلاد لا تحتمل يوسفين” فأجابه الشّيخ أبو زين الدين “المزروك يرحل”!! وبعد عودته، وجّه كتاباً من بعقلين إلى كافّة وجوه البلاد دعاهم إلى الحضور في وقت محدّد بالأسلحة والمؤن والذّخائر “لأمر يحبّه الله” وسار أمام سبعة آلاف مقاتل نحو دير القمر بالأناشيد الدّينية ترتجّ منها أودية الشّوف، فوقع الرّعب في قلب الأمير فأراد أن يركن إلى الفرار لكن منعه من الهرب مشايخ آل نَكد ودخلوا في الصّلح وأُلغِيت ضربية الشّاشيّة وضرائب أخرى فهدأت المشاعر وصلحت العلاقة، لكنّ الأمير يوسف بدّل خطّته فأصبح يلاطف الشّيخ ويدعوه إلى مجلسه ثم أمر بأن يدسّ السم في طعامه في وقت مناسب وكان له ذلك.
• يوسف خطّار خليل ضاهر نعمان أبو شقرا، تخرّج من مدرسة الحكمة في بيروت سنة 1892 ثم درس الفِقْه على يد الأستاذ عبّاس بك حميّة وزاول المحاماة في محكمة الشّوف. وكان يعرف اللّغات الفرنسيّة والانكليزيّة وشيئاً من التركيّة. وكان أديباً وشاعراً نُشرت قصائده في جريدة “الصّفا” سنة 1900، له دراسة نشرت في أعداد متسلسلة عن تاريخ دول أوروبا. اشتغل إلى جانب المحاماة في الصّحافة مع ابراهيم بك الأسود في تحرير جريدة “لبنان” وانصرف إلى تأليف كتاب الحركات في لبنان ثمّ عاد إلى العمل في جريدة “لبنان”.

رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد
رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد

بلديّة عمّاطور
استُحدِثت بلدية عمّاطور عام 1927 بموجب المرسوم رقم 1721 تاريخ 9 حزيران 1927. وعُيّنَت لجنة بلديّة للقيام بأعمال بلديّة عمّاطور- محافظة الشّوف بالمرسوم رقم 1778 تاريخ 24 حزيران 1927 مؤلّفة كما يلي:
رئيس: علي أفندي عبّاس عبد الصمد.
أعضاء: سلمان أفندي أحمد أبو شقرا، فؤاد أفندي حسين سلمان عبد الصّمد، فؤاد أفندي حسين يوسف أبو شقرا، بولس أفندي لْطَيف. (وهذان المرسومان محفوظان في مكتبة الأستاذ نايل أبو شقرا).
ساهم وجود بلديّة في عمّاطور في ذلك الوقت في إتمام عدّة مشاريع حيويّة للبلدة، إضافة إلى استفادة الأهالي من الخدمات الأساسية بشكل متتالٍ:
ففي العام 1936 وصلت شبكة مياه الشّفة الى المنازل وكانت آلة الضّخ هي الـ belier تعمل بقوّة ضغط المياه دون وقود.
أمّا الكهرباء فقد استفادت منها عمّاطور في العام 1951 حين استحصل السّيد فؤاد حسن أبو شقرا على إذن لتوليد الطّاقة الكهربائيّة من مولّد خاص.
وفي العام 1964 أسّست بلديّة عمّاطور أوّل مستوصف في البلدة.
كما قامت في هذه الفترة بصبّ المسالك القديمة للبلدة بالإسمنت بطول إجمالي زاد على 3,000 م. وبعرض وسطي يبلغ المترين. ثم استُحدثت شبكة الصّرف الصّحي عام 1970.
وفي أوائل سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن توفّي أكثر من نصف أعضائه، حُلّ المجلس البلديّ وبقيت البلدية باستلام القائمّقاميّة حتى انتخاب المجالس البلديّة عام 1998 فاقتصر العمل في هذه الفترة على الأمور الضروريّة، لكنّ فعاليّة العمل البلدي عادت بعد الانتخابات حيث ضمّ المجلس البلديّ 12 عضواً، تميّز بوجود العنصر النّسائي، وقام بعدة مشاريع حيوية، نذكر منها:
• زرع 5,000 غرسة صنوبر جوي في مشاع البلدية في مرج عمّاطور.
• شراء قطعة أرض ملاصقة لمشاع البلدية مساحتها التقريبيّة 5,000 متراً مربعاً، وضمّها إليه.
• شراء مبنى مع قطعة أرض في السّاحة العامذة وجعله المركز البلدي.
• بناء خزّان لمياه الشّفة بسعة 380 متراً مكعّباً، واستبدال الشّبكة القديمة بالكامل.
• إصدار مجلّة مختصّة بالشؤون البلديّة، وكانت المجلّة الأولى في لبنان التي تُعنى بهذا الشأن، هي مجلّة “السّاحة”.
• إعداد مخطّط توجيهي للبلدة Zoning .
• انشاء محطّة لتكرير الصّرف الصّحيّ بتمويل من الوكالة الأميركيّة للتّنمية الدوليّة، وبالتّعاون مع اتّحاد بلديّات الشّوف الأعلى.
• إنشاء برك زراعية مخصّصة للرّي.
• إعادة تأهيل مصابيح الشّوارع بعدما كانت معطّلة بالكامل.
• إطلاق مهرجان عيد الزّيتون وجعله تقليداً سنويّاً، وذلك بمشاركة النّادي الاجتماعي الرّياضي والجمعيات الأهلية.
• بالإضافة إلى بناء الجدران والأقنية وصيانة الطّرق وغيرها من المشاريع.
بعد ذلك تمّ استحداث غرفة تعقيم على شبكة مياه الشّفة، لتصبح صالحة في جميع المنازل.

زقاق تاريخي يقود إلى فسحة الضوء
زقاق تاريخي يقود إلى فسحة الضوء

المجلس البلديّ الحالي
يقول رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد الذي يتابع مسيرة الإنماء والتّطوّر مع المجلس البلدي مجتمعاً: “قمنا بعدّة إنجازات هامّة، منها تقوية قدرة ضخّ مياه الشّفة، من خلال تأهيل نفق عين العريش الذي يفوق عمقه الـ 90 متراً بمواصفات عالميّة (بتمويل من الصّندوق الوطني للمهجّرين)، واستبدال المضخّات بمضخّات ذات قدرة دفع مضاعفة، وتركيب محطّة تعقيم ثانية على الشّبكة، تعمل المحطّات على التّعقيم بأشعة الـ UV وإضافة الـ Cl، كما قدّم الأستاذ وليد بك جنبلاط مولّداً كهربائيّاً لتشغيل الشّبكة” ومن إنجازات البلديّة أيضاً:
• إنشاء شبكة كهرباء لمولّد بقوّة 350 KVA يغذّي المنازل عند انقطاع الكهرباء، ويستفيد منه الأهالي بإنارة شوارع البلدة بشكل كامل، قدّمه الأستاذ وليد بك جنبلاط بمساهمة من معالي الأستاذ نعمة طُعمة والشّيخ وجدي أبو حمزة.
• تنفيذ أكثر من 3,000 م من أقنية الرّي، يتمّ العمل على إنجازها بالكامل.
• زراعة 1,000 غرسة صنوبر جوّي في مشاع البلديّة، وهناك قرار بزرع 1,000 غرسة أخرى.
• الاستحصال على رخصة إضافة بناء على المركز البلدي الحالي
• العمل جارٍ على تعديل تصنيف الأراضي بحيث تزيد نسبة الاستثمار.
• إطلاق “رحلة المرج” وهي رحلة سنويّة تنظّمها البلديّة إلى مرج عمّاطور، بغية التعرّف على الطّبيعة وخلق جوّ من الألفة والمحبّة بين أبناء البلدة الواحدة، وقد أصبحت هذه الرّحلة تقليداً سنويّاً.
• رعاية مهرجان عيد الزّيتون و تكريسه بشكل سنوي.
• مخطّط تجميل السّاحة العامة.
• السّعي لإتمام إضافة بناء على البناء الحاليّ لمدرسة عمّاطور الرّسميّة.

المَخْتَرَة
توالى في هذا الموقع كل من السّادة فؤاد حسن أبو شقرا ونجيب نايف أبو شقرا وحسيب عارف عبد الصمد وسمير أحمد أبو شقرا ومروان عارف أبو شقرا وعدنان فرحان عبد الصمد.
يقول المختار عدنان عبد الصمد إنّه ومنذ استحدُث منصب المختار في عمّاطور كان للمختارين المنتخَبين الدّور البارز في رعاية شؤون النّاس وتسهيل أمورهم في المجالات الموكلة إليهم، كما كانت تعهد إليهم قضايا الصّلح وفضّ الخلافات. و كانت لهم اليد الطّولى في إعلاء شأن عمّاطور وتميّزها.
وفي العام 1998 تم انتخاب مختاريَن، ومنذ ذلك الحين يتابع المختارون الرّسالة التي بدأها أسلافهم، والجدير بالذكر أنّ المختار في عمّاطور، وبحسب العُرف المتّبع، لا يتقاضى أيّ بدل من الأهالي لقاء معاملاتهم

العزّ القديم
العزّ القديم

المُنظّمات والجمعيّات الأهليّة النّاشطة
• دار البلدة: أنشأها المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا لتكون مقرّاً جامعا للمناسبات والاحتفالات في البلدة.
• النّادي الاجتماعي الرّياضي (عُدِّل الاسم فأصبح: “النّادي الثّقافي الرّياضي”).
• رابطة سيّدات عمّاطور.
• الاتحاد النّسائي التّقدّمي.
• جمعيّة الكشّاف التّقدّمي – فَوج عمّاطور.
• اللّقاء الثقافي.
• الجمعيّة التعاونيّة للتّوفير والتّسليف والسّكن.
وفي عمّاطور وجود لبعض الأحزاب والحركات السياسية اللبنانية.
لكلّ من هذه الجمعيّات حضورها وأعمالها المُشرّفة وعطاءاتها في المجالات الاجتماعيّة والتنمويّة.

مواقعُ أثريّة
في عمّاطور العديد من البيوت الأثريّة والمزارات و الحُجَرات والمدافن الأثريّة في وسط البلدة ومن أبرز هذه المعالم:
• مزار السّت أم علي صالحة.
• مزار السّت أم علي حربا.
• مزار الشّيخ ناصيف أبو شقرا.
• مزار الشّيخ أبو سليمان محمّد عبد الصّمد.
• مدفن الشّيخ محمّد أبو شقرا.
• مدفن الشّيخ أبو قاسم محمود عبد الصّمد.
• مدفن الشّيخ يحيى عبد الصّمد في عريض عمّاطور (محفور في الصخر).
إضافة إلى معابد وجسور رومانيّة وعثمانيّة في محلّتَيّ المَرج والدّرجة ومعاصر قديمة للزّيتون وآبار قديمة، و”بلاطات الهوا” و”رأس المنقود” في أعلى البلدة بالإضافة إلى عدّة مواقع طبيعيّة خلّابة وهياكل مهدومة ذات أهميّة تاريخيّة تقع بين نهر بْحَنّين ونهر عارَيْ في بِسري وقد أعطت الأعمدة هذه اسمها لمرج بسري فصار يعرف بـ “مرج العواميد”، ويُرجَّح أنْ يكون هذا الهيكل قد تهدّم نتيجة الزّلازل القويّة التي دمّرت مدينة بيروت سنة 551م أو بسبب الزّلزال الذي ضرب البلاد سنة 1261م وأحدث أضراراً بالغة في جنوب لنبان وشمال فلسطين ولا سيّما السواحل.
كما يعتزّ ويفاخر العمّاطوريون بالعريض الحاضن للبلدة من الشرق وبالسّاحة العامّة حيث اصبحت مُلتَقًى لأهالي البلدة من كلّ الأعمار.

مدفن الشيخ محمد أبو شقرا
مدفن الشيخ محمد أبو شقرا

الشيخ محمد أبو شقرا
1910-1991

عند الحديث عن رجالات عمّاطور لا بدّ من إفراد موضع خاص لشخصيّة تاريخيّة وفذّة خرجت من هذه البلدة لتلعب دورها على صعيد لبنان والمنطقة وهي شخصيّة المغفور له الشيخ محمد أبو شقرا وقد تولى مشيخة العقل لمدة 42 عاماً وطبع هذا الموقع بطابَع لا يُمحى إذ كان عهده الطّويل عهد الوحدة الدّرزية والنّضال الوطنيّ وبناء المؤسّسات والدّفاع القويّ غير الهيّاب عن مصالح العشيرة المعروفيّة بالتّعاون مع الزّعامة السّياسية.
في زمنه تمّ توحيد مشيخة العقل عبر تفاهم بين الأمير مجيد أرسلان والزّعيم كمال جنبلاط فقوي المنصب وبات له مكانته واعتباره في العلاقة مع الطوائف اللّبنانية ومع الدّولة ومع العالم الخارجيّ.
أظهر الشيخ محمّد إلماما واسعا بأوضاع الطائفة وكان عهده عهد أعمال وإنجازات ومبادرات وكان سريع الاستجابة للظّروف كما حصل عندما أدّت صدامات في وَطى المصَيْطْبَة بين سكان أكواخ دروز من جبل العرب وبين الشّرطة إلى سقوط قتلى وردود فعل شعبيّة، إذ سارع إلى تأمين أرض بين الشويفات وعين عنوب تمّ توزيعها على المتضرّرين ليبنوا فيها مساكنَ لهم وهذه القرية تُعرَف اليوم بالـ “معروفيّة”.
كان له الفضل الأوّل في تنظيم أوضاع الطائفة ورجال الدّين وإحداث نهضة دينيّة، وإطلاق بعض أهمّ المؤسّسات التي أصبحت معالم إنجاز ساطعة مثل دار الطّائفة الدّرزية في فردان والمؤسّسة الصحية في عَيْن وزين
توفّيَ، رَحِمه الله، في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 1991.

نظام المناعة

صناعة الأسلحة الدّفاعيّة في جهاز المناعة مُتْقَنَةٌ لدرجة أنّ بُنية العنصر المجهريّ الدّخيل وبُنية السّلاح المُنتَج لتدميره تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتــاح!

مع اندحار العدوّ تأمر “شرطة الانضباط” بوقف إطلاق النّار وتدعو سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها لكي لا يستمرّ الجسم في وضعية تعبئة مُكلفة وغير مجديـــة

تسامُح الجهاز الدّفاعي مع ملايين البكتيريا النّافعة وقدرته على تمييزها وعدم مهاجمتها هي مُعجزة مُبهرة لم يتمكَّن العلم بكلِّ وسائله من فهم أسرارها

قال تعالى: }وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ (الجاثية: 4) يريد بذلك أن يحثّ المؤمن على التفكّر في آيات الخلق باعتبار ذلك أحد أهمّ طرق اليقين بوجوده وهو أيضاً سبيل الاتِّضاع له والتّسليم لسلطانه ولهدي حكمته ورسالاته. فهذا الكون الهائل الذي يسير منذ الأزل وفق قوانين دقيقة وتلك المخلوقات التي لا تُحصى في البرّ والبحر والتي يمثل كلّ منها ومن أصغر بكتيريا إلى الإنسان نفسه عوالم كاملة لا يُسْبر غورُها ومعجزات ناطقة بعظمة الخالق وقدرته لا يمكن عند النّظر عن قرب في أيّ منها إلّا الخشوع والتّسليم التّام الشّاكر الحامد لمبدع الكون. لقد أراد بعض الضَّالّين المـُضِلِّين استخدام العلم لإنكار وجود الخالق إتّباعا لأصنام نفوسهم وظلمة عقولهم لكنّ العلم نفسه الذي يريدون وضعه في مواجهة الإيمان يصبح يوماً بعد يوم، وكلّما اكتملت حلقاته وتعمّقت اختباراته، أكبر ناصر للإيمان؛ لأنّ التّمَعّن في آيات الخلق والمخلوقات في ضوء العِّلم يوفّر براهين لا تردّ على أنّ كلّ ما في الوجود ليس من فعل الصّدفة إنّما هو آيات إعجاز الخلّاق العظيم }لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا{ (الفرقان:62). كذلك جاء في الآية الكريمة }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56) أيْ ليعرفون، وفق شرح إبن عباس. وهذا يعني أنّ الله تعالى جعل من الكون ومعجزة الخلق آيات ليس للنّظر إليها بعين البصر أو التّمتّع بها مثل ما تفعل الأنعام بل للتفكر في ما تشير إليه من حقيقة الخالق وتجلّيات عظمته وبراهين سلطانه، فيكون التفكّر بآيات الخلق بذلك هو سبيل معرفة الخالق ونتيجة ذلك الإقرار بالعبودية وبشرف العبادة وتصديق الرّسالات والرّسل والتزام هَدْيِهم.
وبالنّظر لأهمّية إعمال العقل والتفكّر في آيات الوجود تدخل مجلّة “الضّحى” مع هذا العدد قسما علميّاً يتناول تسليط الضّوء على آيات الخلق والكون ليظهر مع كلّ موضوع نتناوله مدى الإعجاز في كلّ مظاهر الوجود صغيرها وكبيرها ولعلّ ذلك يكون حافزاً لمزيد من التفكّر والتأمّل، وسبيل عقليٍّ إلى ثبات الإيمان في القلب وسطوع براهين اليقين.

“الضّحى”

مطار مكتظ وألوف متدافعة - نظام المناعة خطّ دفاع أول لا ينام
مطار مكتظ وألوف متدافعة – نظام المناعة خطّ دفاع أول لا ينام

مُعْجزَةُ نظام المناعة

بينما نمضي في حياتنا اليوميّة تعمل جيوش المناعة
بنظام بديع على صدّ هَجمات آلاف الأجسام المُعادية

جنود الدّفاع المَناعي يتلقَّوْنَ في الأمعاء «تدريباً»
يعلّمُهم تمييز البكتيريا النّافعة وعدم مهاجمتها!

ينصرف الإنسان كلّ يوم إلى حياته العاديّة فيستيقظ ويتناول طعامه ويذهب إلى عمله ثم يعود إلى حضن الأسرة أو لملاقاة الأصحاب أو لإجراء بعض التّمارين في النّادي أو غير ذلك من الأعمال، لكن بينما يعيش الإنسان يومه وليله بطمأنينة فإنّه قد لا يكون على بيِّنة من أنّ جسده مهدّد في كلّ أوان من أعداء كثيرين، وأنّه مُحاط في منزله أو في مدينته أو في مكان العمل أو في السوق أو أيّ مكان يقصده بأخطار تتمثل في البكتيريا والفيروسات والأجسام الميكروسكوبية التي توجد بالملايين في كلّ مكان: في الهواء الذي نستنشقه، وفي الماء الذي نشربه، وفي الطعام الذي نأكله، وفي المحيط الذي نعيش فيه.
لكنّ هذا الشخص قادر على أن يستمر في حياته العاديّة دون قلق بفضل نظام المناعة المعقّد والمتطوّر جدّاً الذي يحميه في كلّ لحظاته دون أن يدري عنه شيئاً أو حتى يشعر بخدماته العظيمة. ومثل القلب أو الكبد أو البنكرياس التي تقوم بوظائفها دون أن نشعر بها أو نفهم طبيعة عملها، كذلك يعمل نظام المناعة المعقد دون أن نشعر به مع فارق أنّ هذا النّظام ليس عضواً معيّناً بل هو نظام بديع للدّفاع والهجوم وجمع المعلومات وتبادل التّنسيق وتوزيع الأدوار لا يماثله في دقّته أيّ نظام بشري على الإطلاق. فنحن نتحدّث هنا عن جيوش حقيقيّة مشكّلة من “جنود” عدّة ومن أجهزة استخبارات وأسلحة موجَّهة عن بُعد وعن شبكة اتّصالات وفرق “مٌهمّات خاصّة” أُسندت لكلٍّ منها مهام محدّدة وهؤلاء الجنود أو المحاربون مدرّبون تدريباً ممتازاً وهم يستعملون في دفاعهم عن الجسم تكنولوجيا متطوّرة ويحاربون بأسلحة فعّالة بيولوجيّة وكيميائيّة.

الجلد هو جدار الحماية الأهم لنظام المناعة لكن هذا الجرح الصغير قد يفتح الباب لتسلل البكتيريا
الجلد هو جدار الحماية الأهم لنظام المناعة لكن هذا الجرح الصغير قد يفتح الباب لتسلل البكتيريا

حروبٌ مستمرّة
وفي كلّ يوم، أو بالأحرى في كلّ دقيقة، تنشب وبشكل متتابع “حروبٌ” بين هذه الجيوش وبين الأجسام المجهريّة المعادية التي لا يمكننا رؤيتها لكنّها تحاول على الدّوام التسلّل إلى جسدنا وإيذائنا. وقد تقع هذه الحروب على شكل مناوشات داخليّة بسيطة، لكنّ المناوشات قد تتطوّر إلى اختراق بكتيري فتنشب الحرب على نطاق أوسع وتشمل المعارك الجسد بأكمله مما ينذر بالخطر. وتسمى هذه المعارك “أمراضا”.
وفي غالب الأحيان لا تتغيّر الطّريقة العامّة التي تنشب من خلالها هذه الحرب. فقد يحاول العدوّ خداع جهاز المناعة عن طريق التّمويه وهو يشقّ طريقه عُنْوة داخل الجسد. في مقابل ذلك فإنّ جهاز المناعة يعتمد على قوّات مدرّبة تقوم، وعند أدنى تسلّل أو اختراق بمهمّة تقصّي الحقائق لتحديد هُوِّيّة الأعداء. ويتمّ التعرّف على العدوّ وتحديد طبيعته ويبدأ فوراً تحضير الأسلحة المناسبة للقضاء عليه.
يمكن دون مبالغة تشبيه جسم الإنسان بقلعة محاصرة من قِبَل أعداء يبحث كلٌّ منهم عن نقطة ضَعف أو سبيل لضرب دفاعات القلعة واقتحامها ثم إيذاء من فيها، ويشكّل جِلدُ الإنسان جدارَ تلك القلعة وخطَّ الدّفاع الأوّل عنها.

الجِلْدُ خطُّ دفاعٍ أوّل
بفضل دور الجلد كخطّ دفاعٍ حصينٍ لا تتمكّن الكائنات الدّخيلة التي تصل إلى سطحه من شق طريقها إلى داخل الجسم. ومع أنّ الطّبقة الخارجيّة للجلد، والتي تحتوي على الغلاف القَرنيStratum Corneum تمَّحي باستمرار إلّا أنّها تتجدّد بالكامل كلّ أسبوعين إذ يتكوّن الجلد من تحتها ثمّ يصعد باستمرار لتأخذ الخلايا الجديدة مكان القديمة التي زالت.. وبذلك يتمّ طرد كلّ الزوّار غير المرغوب بهم (والذين شقّوا طريقاً لهم داخل الجلد) من الجسم مع طرح الجلد الميت، وذلك خلال مرحلة نموّ الجلد من الدّاخل إلى الخارج. ولا يمكن للعدوّ في هذه الحالة أنْ يقتحم الجسم سوى عن طريق جرح ما قد يصيب الجلد.
يُعْتَبَر الهواء أحدُ الطّرق التي تتمكّن من خلالها الفيروسات من ولوج جسم الإنسان، حيث يشقّ العدو طريقه إلى الجسم عن طريق الهواء الذي يستنشقه الإنسان. لكنْ هناك إفرازات خاصّة توجد داخل غشاء الأنف المُخاطي وأجزاء دفاعيّة “تبتلع” الخلايا الضّارّة داخل الرّئة (وتسمى البلاعم) وهي عبارة عن خلايا تبتلع الأجسام الغريبة وتقضي عليها قبل أنْ يستفحل خطرها. وتتمكّن الأنزيمات الهضميّة الموجودة في حامض المعدة والأمعاء الصّغيرة من صدّ وقتل عدد كبير من الميكروبات التي تحاول ولوج جسم الإنسان عن طريق الطّعام.

صراعٌ عنيف
وهناك عددٌ من الميكروبات التي تتمكّن من الاستقرار داخل جسم الإنسان، كتلك التي تستقر في الجلد وفي طياته وفي الفم والأنف والعين وقنوات التنفّس العليا وقناة الهضم والأعضاء التّناسليّة، وهي تبقى في حالةٍ كامنة لكنّها لا تتسبّب في المَرض.
لكنْ عندما يتمكّن عنصر مجهريّ دخيل من ولوج الجسم، ومن ثمّ التّكاثر وتحدّي عناصر الدّفاع اليقِظة، فإنّ هذا الاختراق يشعل على الفَور نار الحرب لأنّ نظام المناعة سيدفع بجيشه النّظامي إلى الجبهة لشنّ حربٍ خاطفة ضدّ العدو قبل أنْ يتحوّل إلى خطر حقيقي..
وتمرّ الحرب التي يشنّها جهاز المناعة بأربعة مراحل أوّلها تحديد هُوّيّة وخصائص العدوّ وثانيها تحصين الدّفاعات وإعداد الأسلحة الهجوميّة المناسبة ثم يتمّ شنّ الهجوم وتصفية العناصر المقتحمة الدّخيلة، وأخيراً يتعافى الجسم ويعود إلى حالته الطبيعيّة.
وتُسمّى الخلايا التي تبادر إلى مُجابهة الوحدات المُعادية “الخلايا البَلعَميّة”، وهي التي تقوم بمحاصرة العدوّ والالتحام معه وهذه أشبه بجيش المُشاة وهي تعتمد على كثرتها وسرعة حركتها. ثم يقوم فريق من هذه البلاعم بوظيفة وحدات الاستخبارات العسكرية، لأنّها تحتفظ بأفراد من العدوّ الذي تمكّنت من القضاء عليه وتقوم بتسليمهم
إلى وحدة استخباراتيّة أو ما يسمى بـ “مرسال” خلايا الـ T Cells الدّفاعيّة التي تقوم بتحديد هُوِّيّة العدوّ تمهيداً لعمليّة إنتاج الأسلحة الكفيلة بتدميره.

إحدى الكريات البيض في جيش المناعة -باللون الأصفر- تبتلع جرثومة الأنثراكس -باللون البرتقالي
إحدى الكريات البيض في جيش المناعة -باللون الأصفر- تبتلع جرثومة الأنثراكس -باللون البرتقالي

إعلانُ النَّفيرِ العام
إذا تبيّن أنّ قوّة العدوّ تفوق قدرة الدّفاعات الأولى أو الأمامية، فإنّ فرقة الفرسان (بلاعم الماكروفيتجز) تأتي لدعم الهجوم وتقوم بإفراز مادّة خاصّة. وتسمّى هذه المادّة “المُحِمَّة” التي تسافر طويلا حتى تصل إلى المخّ لتقوم بعمليّة التّنبيه والتّحفيز في وسطه، وبمجرّد وصولها يقوم المخّ بإنذار كافّة الجسم وتتولّد عن ذلك حُمَّى شديدة لدى الشّخص. إنَّ الحُمَّى الشّديدة جزء من نظام المناعة لأنّها تدفع المريض إلى الرّاحة ممّا يعني أنّ الطاقة التي يحتاجها الجيش للدّفاع عن القلعة لا تُصْرَف في أماكن أخرى، وقد لاحظ العلماء وجود تفاعل سريع بين مختلف أجزاء نظام المناعة وتواصل وخِطط توزيع مهمّات معقدة جدّاً.
عَقِبَ هذه التّعبئة تصبح المعركة بين العناصر المِجهريّة الدّخيلة وجهاز المناعة أكثر تعقيداً، وقد يصبح الجسم مهدّداً نتيجة قوّة الهجوم البكتيري وعدم كفاية الدّفاعات الأوّليّة؛ عندها تتدخّل “القوّات الخاصّة” وتُسَمّى الكريفاوات (وهي الخلايا “T” و “B”).
تقوم المخابرات (بلاعم الماكروفيتجز) بتزويد الخلايا “T المساعدة” بالمعلومات عن العدوّ. وتقوم هذه الخلايا بدعوة سامّ الخلايا وخلايا “B” إلى ساحة المعركة وهذه تٌعدّ من أكثر محاربيّ جهاز المناعة فعاليّة.

إنتاجُ الأسلحة
ولحظة حصول خلايا “B” على المعلومات المُتعلّقة بالعدوّ تقوم هذه بصناعة الأسلحة. وتمتاز هذه الصّناعة بالإتقان لدرجة أنّ البُنية الثّلاثيّة الأبعاد للعنصر المجهريّ الدّخيل والبُنية الثّلاثيّة الأبعاد للسّلاح المُنتَج تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتاح.
وتتقدم المُضادّات الحيويّة ِAntibodies وهي الأسلحة التي أنتجتها الخلايا B في اتّجاه العدوّ لتنقض عليه بإحكام تامّ. وبعد هذه المرحلة يتمّ القضاء على العدوّ كما يُفعَل بالدّبابة التي دُمِّرت عجلاتُها ومدفعُها وسلاحُها. وبعد ذلك تأتي فرق أخرى من جهاز المناعة لتقضي نهائياً على العدوّ المُندحر.
وهنا يجب التوقّف عند نقطة هامّة جدّاً قصد التّمعّن فيها. وهي أنّ أنواع العدو التي يتعامل معها جهاز المناعة تعدُّ بالملايين، لكنْ مهما كان شكل العدوّ أو خصائصه فإنّ خلايا جهاز المناعة قادرة على إنتاج السلاح المناسب للأعداء كافّة، ويعني هذا أنّ جهاز المناعة يمتلك المعرفة والقدرة اللّازمتين لإنتاج المفاتيح المناسبة للملايين من الأقفال. وتمتلك هذه الخلايا اللّاواعية القدرة على إنتاج الملايين من الأجسام المضادّة، والقدرة على استعمالها بأفضل الطّرق لإلحاق الهزيمة بالعدوّ.

ما بعدَ النَّصر
وعندما يندحر العدوّ تدخل “شرطة الانضباط” من الخلايا T ساحة العمليات، فتأمر جيش الدّفاع بوقف إطلاق النار كما تتحكّم في سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها. لهذا فإنّ الجسم لا يستمرّ في وضعية تعبئة غير مجدية. وبعد أن تضع الحرب أوزارها تكون معظم خلايا “T” و “B”، والتي أنتجت خِصّيــصاً للحرب، قد أكملت دورة حياتها لتموت بعد ذلك. غير أنّ هذه الحرب الضّروس يجب ألا تُنسى دروسها. هنا يأتي دور مجموعة خلايا الذّاكرة التي تحتفظ بكل المعلومات عن العدوّ وهذه ستكون في تصرّف جهاز المناعة في حالة تكرار الهجوم من البكتيريا المعادية نفسها، لأنّ نظام المناعة سيُسارع عندها إلى حسم الموقف قبل أن يتمكّن العدوّ من تجميع قوّته. إنّ عمل ذاكرة جهاز المناعة هو الذي يفسر لماذا قد تصيبنا الحصبة مرة لكنّها لا تعاود الإصابة ثانية.

نظامُ المناعة ونظريّة التّطوّر
عند التأمّل في عمل جهاز المناعة يتبيّن لنا وجود خطّة خارقة تتحكّم بكلّ هذا النّظام العجيب وهي خالية من أيّ عيب أو نقص. فكلّ ما يعتبر ضرورياً لعمل هذا المخطّط متوفّر ولا يعتريه أيُّ نقصان: فكيف جاء هذا النّظام المُحكَم إلى الوجود؟
في هذا الشأن بالتّحديد لا يمكن لنظريّة التطور أن تقدّم أيَّ تفسير لأنّه لا يمكن لجهاز المناعة بأيِّ شكل من الأشكال أن يكون نشأ بفعل التطور والتدرّج. والسبب في ذلك أن أي نقص في أي من العناصر المكوّنة لهذا الجهاز يجعل هذا الجهاز يتعطّل تماماً ولا يمكن للشّخص أن يبقى على قيد الحياة بعد ذلك. لذا، فإنّ النّظام لا بدَّ أنَّه وجد مرة واحدة كاملاً شاملاً بعناصره ومن دون عيب أو نقص. وهذه الحقيقة تدحض فكرة الصّدفة التي تبدو في هذا المجال نظريّة فارغة لا قيمة لها.
تَمييز العدوّ من الصّديق
لنأتِ الآن إلى موضوع سيزيدنا حَيْرة وفي الوقت نفسه قناعة بأنّ نظام المناعة وكل حياتنا وكلّ مظاهر هذا الوجود إنّما هي أجزاء من نظام كوني بديع لا يمكن أن يعتريه خطأ أو نُقصان. وموضوعنا يتلخّص في سؤال هو كيف يمكن لنظام المناعة أنّ يفرّق بين بكتيريا عدوّة وبكتيريا نافعة أو صديقة؟ وفي جسمنا تعيش ملايين البكتيريات النّافعة في الأمعاء أو المعدة أو الفم أو الحلق وكذلك الخلايا التي تنتمي إلى أعضاء جسدنا، وهذه الكائنات المجهريّة تعيش وتزدهر في جسدنا دون أن يعترضها نظام المناعة أو تهاجمها فرق الدّفاع؟
على سبيل المثال فإنَّ 80 نوعاً من الكائنات (البكتيريا النافعة) الحيَّة تعيش في الفم والحلق واللّوزتين، كما أنّ هناك 200 نوع من الكائنات الحيّة التي تصون الصحّة الجيدة لأجسادنا باستمرار. وهذه الكائنات لا يهاجمها جهاز المناعة بل “يتسامح” معها أو يتعايش معها بسلام. وهذا ما يسمى “تسامح الجهاز المناعي”Immune System Tolerance وهذا النّظام يمكن وصف عمله كما يلي:
• الخلايا اللّمفاويةlymphocytes هي نوع من الكريّات الدّمويّة البيضاء في أجسامنا. وهي تقاتل كلَّ ما هو ضار بالجسم و تقضي على البكتيريا والجزيئات الخطيرة على أجسامنا.
• لكنْ أثناء تنفيذها لمهمّات الدّفاع والتّنظيف فإنّ هذه الخلايا لا تهاجم بطريق الخطأ مثلا خلايا الجسم الذي تنتمي إليه كما أنها لا تهاجم البكتيريا المفيدة للجسم.
• سبب ذلك أنَّ كلَّ خليّة من خلايا الجسم تحتوي على نظام محدّد للهُوّيّة الخَلويّة للتّعريف بنفسها (الجزيئات المحددَّة للذَّات) وهذه تُعرَف بـ “المستقبلات” Receptors. وعلى هذا الأساس فإنّ خلايا T المقاتلة يمكنها التّمييز بين جميع الخلايا الأخرى من خلال التَعرُّف على مستقبلاتها، كما أنّها تتعايش مع تلك الخلايا التي يحتاجها الجسم. وهذا ما يدعى بـ “التّسامح المناعي”.
• إنَّ التّسامح المناعي” هو في الواقع معجزة عظيمة لأنّه يعني أنّ جهاز الدّفاع قادر على التّمييز بين آلاف البروتينات التي يختلف بعضها عن البعض الآخر.
• فإذا واجهت خليَّة T مُدافعة خليّة أخرى من خلايا الجسم، فإنّها لا تقوم بمهاجمتها، بل تجعل من نفسها غيرَ فعّالة (أي تبطل مؤقتا خاصّيتها الدّفاعية) حتّى لا تهاجمها.
• وبنفس الطّريقة، إذا كانت هناك مادّة من الجسم تتصرَّف كأنَّها مضاد دفاعي antigen لكنّه قد يضرّ بالجسم فانَّ الخليَّة المدافعة لا تدمره و(لا تثير مشاكل للجسم) والسَّبب، كما كشفت الأبحاث العلميّة، هو أنَّ عنصر الدِّفاع الذي يضرُّ الجسم إمّا أنْ يموت تلقائيّاً أو يدمِّر نفسَه بنفسِه.

الكريات البيضاء باللون الأبيض والكريات الحمراء
الكريات البيضاء باللون الأبيض والكريات الحمراء

التّسامح المناعي في الأمعاء
الأمعاء عُضوٌ آخر يتسامح معه جهاز الدّفاع المناعي. بالرّغم من أنّ الجسم بشكل عام محميّ بأسلحة دفاعيّة دقيقة للغاية، فإن الملايين من البكتيريا تعيش في الأمعاء لدينا، لأن الطّعام الذي نأكله، والسّوائل التي نشربها يتمّ هضمها عن طريق تلك البكتيريا في الأمعاء الدقيقة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ هذه البكتيريا توفّر طريقة طبيعيّة للحماية لأنّها تمنع تكاثر الجراثيم الأخرى التي يمكن أن تضرّ الجسم. بل إن الخلايا الدّفاعية تتعاون مع هذه البكتيريا من أجل تحقيق الفائدة للجسم. حتى ولو حصلت إثارة لجهاز الدّفاع المناعي وبدأت حرب في الأمعاء فإنَّ الخلايا T المقاتلة تتجاهل البكتيريا النَّافعة في الأمعاء الدَّقيقة وتمنع حصول تلك الحرب.
إذاً، كيف تتسامح الخلايا الدّفاعية مع البكتيريا النّافعة في جسدنا؟

اكتشافٌ أذهل مجلّة Science World
في ورقة بحث نُشرت في مجلة طبيعة المناعة (Nature Immunology)، وجد فريق من الباحثين بقيادة شانون تورلي (Shannon Turley) أنّ جهاز الدّفاع لديه آلية التّسامح المناعي وهي آلية في عمل الجهاز لم تكن معروفة من قبل. وهي تعمل بالشّكل التالي:
1. الغدد اللّمفاوية هي مثل “ثكنات تجمع الجنود” أو المعسكرات الإستراتيجيّة التي تحيط بالجسم كلِّه. أمَّا الخلايا اللَّمفاوية Lymphocites فهي جنود الدّفاع وهذه كما أثبت البحث تقوم بسحب مُضادّات الجسم إلى العُقَد اللّمفاوية ومحاربتها.
2. بالرّغم من ذلك، فإنَّ العُقَد اللّمفاوية الموجودة في الأمعاء تشبه مركزاً للتدريب أكثر من كونها معسكراً إستراتيجيّاً. المذهل هو إن الخلايا الأساسية الموجودة هناك تقوم بتدريب خلايا T والتي هي من جنود جهاز دفاعنا، بالتصرّف بطريقة مناسبة تجاه خلايا الأمعاء وبالتّالي عدم مهاجمة البكتيريا النّافعة التي تعيش فيها وتتكاثر بحرّيّة. وهذا يماثل تدريب الخلايا T على أنْ تُمَيِّز بين مئات البكتيريات النّافعة وبين البكتيريات الضّارة فتهاجم فقط الأخيرة بينما تترك الأولى تعيش وتتكاثر بسلام.
3. لا يمكن تفسير أنَّ مثل هذا النظام في هذا الجزء من الجسم يمكن أنْ يأتي إلى حيّز الوجود عن طريق المصادفات. كيف يمكن لعمليّة التَّدريب أنْ تحدث؟ لقد عجز العلماء عن فهم هذا الأمر رغم كلّ ما يمتلكونه من الوسائل التكنولوجيَّة الأكثر تقدّماً.
شانون تورلي، اختصاصيّة علم الأمراض في جامعة هارفارد والتي قادت ذلك البحث تَملّكتْها الدّهشة ممّا وجدته وأدلت بعد ذلك بتصريح مثير جاء فيه:
“إنَّ خلايا الجهاز المناعي (الخلايا T) إمَّا تتجاهل نسيج الأمعاء أو تتعامل معه بتسامح. ومع ذلك، فإنَّه لا يزال مجهولاً كيف يمكن لخلايا في الجسم أنْ تُعلِّم وتُدرِّب الخلايا T التي تُعتبرُ حسّاسة جدّاً للميكروبات أنْ لا تقوم بمهاجمة خلايا الأمعاء وأنواع البكتيريات الصّديقة التي تقيم فيها”.
إنّ الخلايا كائنات بيولوجيّة غير واعية، ولا تملك الذّكاء والوعي والقدرة التي تمكّنها من تعليم العملية البيولوجية لخلايا أخرى. إذاً ليس هناك أدنى شكّ في أنَّ وضع مثل هذا النّظام الذي عجز أكثر الباحثين والعلماء ذكاءً عن فَهمه يحتاج إلى تفسير أوسع يأخذ في الاعتبار مُعجزَة الخَلق والقدرة المطلقة لله تعالى وهو الذي } إذا قضى أمرا فإنَّما يقول له كُنْ فيكون{ (البقرة :117).
ملاحظة: استفاد هذا الموضوع من مراجع علميّة عّدة من بينها موقع العالم الفيزيائي عدنان أوكتار .

الراهب ريوكان

“جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول
من الفجــــر وحتى وقت الغـــــــــــــــــروب
وحدي أنا أجد نفســـــــي حرّا ودون عمـــل
ملتصقا بقوة بالمصــــــدر الذي جئت منـــه”
«الريح يعطيني
من أوراق الأشجار
ما يكفي لأوقد ناري»

من شعر الناسك الياباني

ريـــوكان

عندما تدرك أن شعري ليس من الشعر
عندها فقط يمكننا أن نبدأ الحديث عن الشعر

مثل سحابة في الفضاء لا يقيِّدها شيء
أترك نفسي لتنساب حيث تشاء الريح

هذه الدنيا البرّاقة لا تثير في نفسي أي اهتمام
وأقرب الأصدقاء إليّ هي الجبال والأنهار

قليل من قراء العربية لديه الإلمام بهذه الشخصية الفريدة في تاريخ التصوف البوذي، وتاريخ الشعر الصوفي النادر في شاعريته وجماليته، لذلك عندما اطلعنا منذ سنوات على ديوان الشاعر الياباني الأصل ريوكان وقعنا فيه على حديقة وارفة من أشعار الزهد والتأمل الروحي تثير المشاعر وتهز الأحاسيس، وهي تحدث هذا الأثر في النفوس ليس بسبب بلاغة في الصياغة أو بسبب موسيقاها بل بسبب ما تعكسه من روح الشاعر الناسك ورقته وعقيدة الحب والسلام التي تلهم كل لحظة من لحظات حياته. فريوكان يبدو لنا نموذجا نادرا للروح الحرة التاركة للعالم الملتصقة بالطبيعة والأزاهير والغابات والقمر والجبال والأنهار. وهذا الشاعر الناسك السائح في الأرض لا يؤلف شعرا من الخيال بل يصف حياته الحقيقية، حتى لتكاد قصائده تكون نوعا من اليوميات الشعرية لحياة النسك والتجوال. وبسبب انغماسه في الطبيعة وحبه لها وللعزلة في كوخه البعيد عن العمران فإن الكثير من شعر ريوكان يدور حول الطبيعة اليابانية الأخّاذة وحول تفاعله اليومي مع فصولها ورياحها وبردها وسكونها وأشجارها وينابيعها .. ولننتبه إلى أن شعر ريوكان يتعدى وصف الطبيعة إلى وصف حالتة الداخلية في التفاعل معها فهنا نجد ناسكا يشرح لنا معنى السلام الداخلي والتحرر من الحاجة ومن الخوف ومن كل ما تسببه الدنيا والتعلق بها من هموم وكدر وتعاسة. ولهذا ربما فإن القارئ لشعر ريوكان سيشعر بصورة عفوية براحة كبيرة وربما تمنى لو أن في إمكانه أن يعيش ولو على سبيل الاختبار تلك التجربة الفريدة للنسك وتأمل الوجود وسط الطبيعة وبعيدا عن الناس وقد كانت سلوى ريوكان الأولى هي اللعب مع الأطفال، وهو الذي يقول في شعره أنه يبحث عن رجل واحد يكون شبيها له لكي يشاركه الحديث في كوخه (لكنه لا يجد) وفي هذا القول ما يفيد عن عمق المسافة التي فصلت الشاعر عن الناس وعن زمانه وجعلته يقول في أحد أشعاره أن خير أصحابه هي الجبال والأنهار !! أي الطبيعة النقية الصافية. فمن هو هذا الشاعر وما الذي يمكننا أن نتعلم منه؟

ولد ريوكان الناسك في العام 1758 في منطقة أشيجو النائية في شمال اليابان والتي تتميز بطبيعة جبلية ساحرة وطقس ثلجي خلال أشهر الشتاء. وقد درس ريوكان الشاب الآثار الكلاسيكية للفكر الصيني والياباني، وكان والده رئيس البلدة كما أنه كان شاعراُ معروفاً في فن الهايكو وهو فن خاص من الشعر الياباني الذي يهتم بالطبيعة ويستخدم أسلوب الأبيات القصيرة والإيحائية للتعبير عن تجربة داخلية ذات عمق وجودي أو روحي.
وكان ريوكان الشاب وسيما ومحط أنظار فتيات القرية، لكنه على أثر أزمة قلق وجودي وبحث عن معنى الحياة نذر الفقر وقرر ترك كل أملاكه ومكانة العائلة والالتحاق بدير للرهبان البوذيين وكان يومها في العشرين من عمره.
في العام 1780 أصبح ريوكان مريدا للمعلم البوذي كوكوسن وكان أشهر معلمي بوذية التشان Zen Budhism وهي الفرع النُّسُكي والصوفي للبوذية. وقد سلك ريوكان بثبات في ذلك المعتكف الجميل في قلب الجبال إلى أن مات معلمه في العام 1791، ورغم أن ريوكان كان قد أصبح المريد المُفضَّل لكوكوسن الذي اختاره كخليفة له لرئاسة المعبد والطريقة التي كان يتبعها، إلا أنَّه رفض القيام بتلك المهمة وقرر بدلا من ذلك التحول إلى ناسك جوال وأمضى السنوات العشر التالية من حياته متجولا في أنحاء اليابان. ومع بلوغه مطلع الأربعينات من عمره عاد إلى مسقط رأسه حيث أمضى البقية الباقية من أيامه يعيش حياة بسيطة وهادئة في معتكف جبلي بعيد عن الناس. وكان يحصل على قوته بالتسول وطلب الطعام من الناس وكان بعد ذلك يشارك في طعامه العصافير وحيوانات الغاب. وكما توحي أشعاره فإن ريوكان كان يمضي أيامه في التأمل الروحي في كوخه أو في النظر إلى القمر أو اللعب مع أطفال القرية أو يزور الأصدقاء ويحتسي معهم نبيذ الأرز أو يرقص في الاحتفالات ويخط أبياته الشعرية بريشته ومحبرته مخلفا بذلك مخطوطات رائعة الجمال وذات قيمة فنية نادرة.
كتب أحد أصدقائه يصفه بهذه الكلمات:
“عندما يأتي ريوكان لزيارة أحد فكأنما حل الربيع فجأة في يوم شتائي قاتم. لقد كان يتميز بشخصية شفافة ونقية لا تشوبها شائبة من تصنع أو ازدواجية. وكان يشبه كثيرا أولئك الخالدين من أعلام العبادة والزهد الذين بلغتنا أخبارهم ومآثرهم في الآداب والسير القديمة كان يشع حرارة ومحبة ولم يظهر في حياته أي غضب ولم يكن يستمع لأي نقد يوجه إلى آخرين، وكان مجرد اللقاء به يبرز في الناس أفضل ما في شخصهم وأطباعهم”.
في إحدى المرات طلب منه أحد أقاربه أن يساعده في إرشاد ابنه المنحرف، وقد أجاب ريوكان الطلب بأن قام بزيارة الأسرة وأمضى ليلته مع أفرادها، لكنه لم يتحدث إلى الشاب أو يسعى إلى وعظه، وفي الصباح وعندما كان يستعد للمغادرة كان الشاب يساعده في ربط صندله عندما أحس بنقطة ماء حارة تسقط عليه وعندما رفع نظره وجد ريوكان يبكي بحرارة لحاله. وكانت الحادثة المنعطف الذي ساعد الشاب على إصلاح نفسه.
روي أيضا أن أحد أمراء الساموراي بلغه أنباء ريوكان فأراد أن يكرمه وجاءه يوما يعرض عليه أن يبني له معبدا واسعا يسكنه. استمع الراهب إلى الأمير لكنه بقي صامتا ثم أخذ ورقة وخط عليها الأبيات التالية وسلمها إلى الأمير وقد كتب فيها:
«الريح يعطيني من أوراق الأشجار
ما يكفي لأوقد ناري»
أدرك الأمير مغزى الرسالة فانسحب وودع ريوكان باحترام وتوقير شديدين
مع تقدمه بالسن ظهرت علامات العجز على ريوكان فأقلع عن حياة التجوال والعزلة في البرية وقبل ضيافة أحد أصدقائه في منزل سكنه حتى وفاته عن عمر بلغ الثالثة والسبعين في سنة 1831.
خلال حياته الصوفية كتب ريوكان ألاف الأشعار بخط رائع جعل منه أحد أبرز وأشهر خطاطي الأسلوبين الصيني والياباني الكلاسيكيين واحتفظ الناس بآثاره وحرصوا عليها، ثم قام الشاعر تي تشن بجمع تلك الأشعار فصدرت كمختارات تحت عنوان “نقاط من الندى على ورقة اللوتس” سنة 1835 أي بعد أربع سنوات من وفاة الشاعر
ويعتبر ريوكان أعظم شعراء مدرسة التصوف البوذي Zen Budhism على الإطلاق كما أنه لغاية اليوم أعظم خطاطي اللغة اليابانية الكلاسيكية.
في الجزء التالي أشعار مختارة قمنا بترجمتها عن النسخة الإنكليزية للديوان الذي ترجمه عن اليابانية جون ستيفنس وصدر عن دار شامبالا في العام 1993.

شعري ليس من الشعر!

من قال أن شعري هو من الشعر؟
إن شعري ليس من الشعر
لذلك، وعندما تدرك أن شعري ليس من الشعر
عندها فقط يمكننا أن نبدأ الحديث عن الشعر

إلى مرشدي

قبر قديم بعيد عن الأنظار في أسفل تلّه مهجورة
تغطي جوانبه أعشاب تنمو وترتفع عاماً بعد عام
لم يعد هناك من يعتني بالقبر
وربما مر أحد الحطابين بالمكان من حين لآخر
كنت يوما مريده وكنت شابّاً أشعث الشعر
ونهلت العلم منه على ضفة النهر.
وفي أحد الأيام غادرته مسافراً لوحدي
ومرت الأيام والسنين على افتراقنا بصمت
وهاأنذا أعود، لأجده راقدا في المكان
كيف أكرم ذكرى روحه؟
أسكب إبريقا من الماء فوق شاهد قبره
وأتبع ذلك بصلاة صامتة
فجأة، تختفي الشمس خلف التلال
ويلفُّني هدير ريح يعصف بين أشجار الصنوبر
أحاول أن أنتشل نفسي بعيدا لكنني لا أستطيع
سيل من الدمع يبلل أطراف أكمامي
كوخي الجميل

في شبابي وضعت جانبا هم الدرس
وأخذني طموح بأن أكون قديسا
أن أحيا كراهب متجول يعيش على الصدقات
وقد جلت الفيافي في كل اتجاه لأكثر من ربيع
أخيرا عدت من حيث انطلقت لأقيم تحت قمة وعرة
وهاأنا الآن أعيش بسلام داخل كوخ من القش
أصغي إلى العصافير وموسيقاها الجميلة
والسحب في السماء أفضل جيران لي
وفي أسفل التلّه ينبوع رقراق حيث أطهر الجسد والروح
وفي أعلاها أشجار سنديان وصنوبر باسقة تمدني بالظل وبالحطب
ها هنا أتنفس الحرية في النهار وفي الليل
ليست لي رغبة بترك هذا المكان أبدا
إن سأل أحد عن مسكني
فإنني سأجيب:
مسكني على الحافة الشرقية
من مجرّة درب التبانة
مثل سحابة في الفضاء
لا يقيِّدها شيء
فإنني أترك نفسي
لتنساب حيث تشاء الريح

هذه الحياة!

ممزقة ومهلهلة، ممزقة ومهلهلة
ممزقة ومهلهلة هذه الحياة
تسألني عن الطعام؟ إنني أجمعه من الطريق
والشجيرات والعليّق استولت على كوخي منذ زمن
غالبا أجلس أنا والقمر كل الليل
وكم من مرة نسيت نفسي وسط الأزهار البرية
فغاب عن ذهني أمر العودة إلى البيت
لا تعجب إذن لم تركت الحياة مع الناس
كيف يمكن لراهب مجذوب مثلي أن يعيش في معبد؟

قصيدتان إلى الصديق بوزاي

حقا أنني رجل محدود الفهم
أعيش بين الشجر والنباتات
لا تسألني عن مسائل مثل وهم الوجود والتجليات
فهذا الرجل البسيط كل همه أن يبتسم لنفسه
أشق طريقي وسط الجداول برجلين نحيلتين
أحمل كيسا عندما يكون الطقس ربيعيا
تلك هي حياتي
ولست مدينا بشيء لهذا العالم
هذه الدنيا البرّاقة لا تثير في نفسي أي اهتمام
وأقرب الأصدقاء إليّ هي الجبال والأنهار
السحب تبتلع ظلي عندما أسير
وعندما أجلس على قمة الجرف تحلق فوقي الطيور
مرتديا صندلا من القش، يعلوه الثلج، أزور قرى باردة
حاول كل جهدك أن تتعمق في معنى الحياة
وسيمكنك عندها أن تدير ظهرك حتى للأزهار الجميلة

لم يأت الخريف بعد

طريق فريد بين عشرة آلاف شجرة
وادٍ غارق في الضباب، محتجب بين آلاف القمم
لم يأت الخريف بعد، لكن أوراق الشجر بدأت تتساقط
لم يهطل المطر بغزارة، لكن الصخور اتخذت لونا قاتما
مع سلتي الصغيرة أقطف الفطر
وبهذا الطاس الصغير أغترف مياه الينابيع النقية
وما لم تلق بنفسك –عمداً- في حالة من الضياع التام
فإنك لن تصل -بعيدا- إلى حيث وصلت

الكوح الذي كان يمضي فيه أيامه ولياليه ساهرا منأملا القمر وسلام الغابة
الكوح الذي كان يمضي فيه أيامه ولياليه ساهرا منأملا القمر وسلام الغاب

مرآة الماء

أرتقي إلى قاعة الحب الكبرى
وأسرح بنظري نحو الغيوم ووهج الغروب
أشجار موغلة في القدم تمتد إلى حدود السماء
ونسيم عليل يُحدِّث عن عشرة آلاف جيل من البشر
وفي الأسفل نبع التنين الملك
وهو من الصفاء بحيث يمكنك أن ترى أول منبعه
لذا فإنني أن صادفت أحد المارة أناديه:
تعال وشاهد نفسك في مرآة الماء

ليل لا ينتهي

في حلكة الليل وعمق الجبال
أجلس متربعا للتأمّل
شؤون الدنيا لا طريق لها إلى هذا المكان
كل شيء هنا هدوء تام وفراغ
كل البخور ابتلعه ليلٌ لا ينتهي
وقفطاني أصبح ثوب من ندى
لم أستطع النوم، لذلك خرجت أتمشى في الغابة
فجأة، من خلف أعلى قمة، ظهر البدر التمام

قصائد جبل الصقيع

في كوخي وجدت نسخة من كتاب “قصائد جبل الصقيع”
أجده خيراً من كتب الأصول الفلسفية
لذلك أقوم بنسخ أبياته الجميلة
وأعلقها حولي على الجدران
متذوقا كل منها مرارا وتكرارا

هرّة ..وفأر

في صومعتي يعيش معي هرة وفأر
كلاهما من الحيوانات ذات الفراء
الهِرّة سمينة وتغط في النوم في عز النهار
أما الفأر فنحيل ويتحرك في الظلمة
الهِرّة أنعمت عليها الطبيعية بمواهب ومهارات
مثل قدرتها على اصطياد الكائنات الغبية واتخاذها طعاما
أما الفأر فتلاحقه اللعنات
وهو يسرق الفتات من هنا أو هناك لسد رمقه
الفأر أحيانا يصيب بالتلف مؤونة البيت
لكن المؤونة يمكن أن نأتي ببديل لها
بينما الكائن الحي، إن مات، لا يمكن أن تجد له بديلا
لذلك فإنك إن سألتني أي الاثنين يحمل وزراً أكبر
فإنني سأقول: الهِرّة

تسليتي اليومية

تسليتي اليومية هي اللعب مع أولاد القرية
وأنا، من أجل ذلك، أخبئ في كم ثوبي دوما كرة من قماش
لا فائدة منها لغير اللعب
كذلك، فإنني أعرف كيف أتمتع بهدوء الربيع
كرة القماش التي في كم ثوبي بالنسبة لي
أثمن من ألف قطعة من الذهب
وأنا ماهر جداً في اللعب بكرة القماش
لذلك إن سألني أحدهم عن سرِّي فإنني سأجيبه:
هذا هو سرّي: “واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة…..”

لا أحد هنا لأحدّثه

أي حياة هذه التي أعيشها؟
سائحا في الأرض فإني أسلم نفسي للقدر
ضاحكا أحيانا، وأحيانا أمسح الدموع
لست برجل دنيا ولا أنا براهب
مطر ربيعي مبكر ينهمر وينهمر
لكن أزهار الخوخ لم تلق بعد بأنوارها على الأشياء
طيلة الصباح، أجالس المدفأة
لا أحد هنا لأحدثه
أبحث عن كراستي
ثم أخط بريشتي بعض الأشعار

عندما فارقت الأهل

وجود البشر على هذه الأرض
مثل زغب طير في تيار جارف
من أين إذن سيأتي الشعور بالأمان؟
لهذا السبب
أخذت عِدَّة النُسَّاك وفارقت أهلي
وودعت الأصدقاء
كل ما أملك الآن ثوب وحيد
وطاس قام بأودي كل تلك السنين

أنا وكوخي

أحب كثيرا هذا الكوخ الصغير
وغالبا ما أمضي وقتي في أحضانه
فنحن روحان متلازمان
لا يهم من منا هو الضيف ومن هو المضيف
ريح عاصفة تهب عبر أشجار الصنوبر
والصقيع يجمد ما تبقى من أزهار الأقحوان
يدا بيد –أنا وكوخي- نقف معا فوق الغيوم
متحدين كجسد واحد نجول في ما يتعدى الوجود

حُرّا .. ودون عمل

ريح شرقية جلبت معها غيثا يروي الأرض
في كوخي البسيط
مطر ينهمر فوق سقف من الأغصان والقش
بينما الناسك يغطُّ في نوم عميق
غير عابئ بما يجري خارج الجدران
الجبال الخضراء تستحم في ضوء الصباح
وطيور الربيع تُغرِّد فوق الأغصان
أمّا أنا فأخرج لأمشي ولا أعرف إلى أين!
جداول رقراقة تنساب نحو القرى البعيدة
وبساط من أزهار رائعة يكسو المنحدرات
فجأة تقع عيناي على فلاح يقود ثورا
وولد يافع يحمل معولا..
جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول
من الفجر وحتى الغروب
وحدي أنا أجد نفسي حرّا ودون عمل
ملتصقا بقوة بالمصدر الذي جئت منه

بدر الخريف

يظهر القمر في جميع الفصول، هذا صحيح،
لكن أفضل بدر في السنة هو بدر الخريف
في الخريف تضاء الجبال بالألوان وتصفو الينابيع
ويسبح قرص من الضوء في السماء اللانهائية
تنمحي الفوارق بين الضوء والعتمة
وكل الأشياء تغدو مشبعة بحضوره
الفضاء اللامحدود فوقي وهواء بارد يلفح وجهي
آخذ متاعي العزيز وأنطلق هائما بين التلال
لا يوجد هنا أثر حتى لغبرة واحدة من غبار العالم
لا يوجد إلا الضوء المتوهج للقمر
أرجو أن يكون هناك آخرين كثر ينظرون هذا البدر الليلة
هذا البدر الذي يسطع نوره على جميع أصناف البشر
خريف بعد خريف يأتي القمر ثم يمضي
وسيبقى البشر يتأملونه في السماء إلى الأبد
تعليم البوذا أو مواعظ إينو
لابدَّ أنها أيضا حصلت تحت ضوء هذا القمر
لذلك أجلس متأملا القمر طوال الليل وأتساءل
أي مسافر سينظر هذه الليلة إلى القمر ؟
وأي بيت سينهل الليلة أكثر من ضيائه؟

هنا أتنفس الحرية في الليل والنهار
هنا أتنفس الحرية في الليل والنهار

شهر شباط

الثلج يتساقط
مختلطا بالريح
والريح تزأر
مختلطة بالثلج
وأنا، مستلقٍ جنب الموقد
أمد رِجليّ
مسترخيا غير عابئ بالوقت
منعزلاً في هذا الكوخ
أعدُّ الأيام
وإنني لأجد
أن شهر شباط أيضا
أتى ثم ذهب
مثل حلم

دعاء للطبيعة

أمطار الربيع
زخّات الصيف
والخريف الجاف
دعائي أن تبتسم الطبيعة لنا
وأن نأخذ جميعا من نعمها الوفيرة

ماذا فعلت؟

أرجوك لا تظنني عصفورا
إن رأيتني أدخل الحديقة
لآكل من ثمار التفاح
لقد جئت إلى هنا
طلبا لحفنة من الأرُزّ
لكن مروج النفل
المتفتحة بين الصخور
جعلتني أنسى السبب
الذي من أجله قدمت إلى المكان

يوم جوع

لا حظَّ لي اليوم
في تسوّل الطعام
من قرية إلى قر%

محاورات افلاطون

آيُـــــون

الفنُّ احترافٌ أمْ إلهام؟

أكثر الفنَّ يعزِّزُ الانجذابَ إلى عالم الحَواسّ
ومعرفةَ النّفس هي الطّريقَ إلى معرفةِ الله

نظريّةُ الجماليّات الأفلاطونيّة تراوحت بين اعتبار الفنِّ تقليداً
وبين اعتباره إلهاماً من مصادرَ عُلْويّةٍ تستولي على الفنان

سقراط يحاول تفسير مفارقة: لماذا لا يهتمّ الفنّان آيون إلّا بشــِعر هوميروس دونَ غيره من شـــعراء اليونان؟

تُعْتَبر محاورة آيون من المحاورات القصيرة التي وضعها أفلاطون وهي تتركّز أيضا على حوار بين شخصين: المعلّم سقراط والفنّان المسرحيّ آيون. لكن رغم قِصَرِها فإنّ المحاورة تعتبرُ نصّاً مُهــمّاً من نصوص نظريّة الجماليّات الأفلاطونيّة إذ إنّ موضوعها يدور بالكامل حول محاولة تعريف الفنّ ومصدره في أعمال الفنان، كما أنّها تضيف إلى محاورات أخرى تناول فيها أفلاطون الموضوع ذاته كما في “سمبوزيوم” و”الجمهورية”
لكنْ رغم أهميّة المحاورة فإن موقف أفلاطون من الفنّ مثل الشّعر والتّمثيل المسرحي والموسيقى والغناء الشّعري يصعب تبسيطه بـ “مع” أو “ضد” لأنّ أفلاطون ينظر إلى الفن من منظار وحيد هو قدرته على تقريب الفنّان أو المستمع إليه من الحقيقة، وقارن أفلاطون بين التّأثير الذي يُحدثه الفنّ في الإنسان وبين تأثير الفلسفة أو علوم الحكمة عليه وعلى رُقْيه الثّقافي والرّوحي. ومن التفاصيل الملفتة في موقف أفلاطون أنَّه كان نفسُه قد أظهر اهتماما بالشّعر وموهبة شعريّة قبل أنْ يلتقي معلّمه سقراط ويتحوّل بصورة حاسمة نحو المعرفة وتحصيل الحكمة.
ومن زاوية الحكمة والتّرقّي بالنّفس من خلال المعرفة (شعار سقراط الشّهير: اِعرفْ نفسك) فإنّ الفنّ بدا في نظر أفلاطون نشاطاً ذاتياً يُغلِّب مظاهر العالم الخارجي ويعزّز الانجذاب لعالم الحواسّ والأشياء، ويدفع الوعي الإنسانيّ بالتالي نحو الخارج بدلاً من دفعه نحو الذات وأغوارها العميقة. ومعرفة النفس في نظر سقراط هي طريق المعرفة الشّاملة أو معرفة الله وفق الحديث النّبوي الشّريف “من عرف نفسه فقد عرف ربّه”
وبصورة عامة فإنّ التفكير الحِكَميّ الإغريقي، بدءاً من فيثاغوراس ووصولاً إلى أفلاطون، يَعتبر عالم الظّواهر الفاني غيرَ المستقرّ على حال مجرد انعكاس شاحب وضعيف للوجود المصدريّ الأزليّ الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر. وقد بنى أفلاطون على هذه الرؤية الرّوحية ما يمكن اعتبارُه نظريتَه الخاصّة في الجماليات Aesthetics ونهجه في تقييم الفنون .وحسب تلك النظريّة فإن الجمال المترائي في زهرة أو في منظر الغروب أو في كائن من الكائنات ليس سوى مؤشّر تقريبي – في عالم الحواسّ- على الجمال المُطلــق الذي هو من صفات الحقّ، وهذا الأمر ينطبق على كافة الصّفات الجوهريّة للحقّ مثل العدل أو الجلال أو الحبّ، فالعدل المطلق هو للحقِّ وحده، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يأمل بالحصول على أكثر من تعبير تقريبيٍّ ونسبي عن العدل في عالم الفساد الأرضي، وكذلك الحبّ الإلهيّ التّام هو تجلٍّ للحبّ المطلق يختلف تماما عن الحبّ الإنسانيّ المتقلّب والمختلط بالأهواء وصنوف الانفعالات. بصورة عامة فإنَّ عالم الصفات الجوهريّة (أو المثالات) هو عالم كمالات أزلية لا تتغيّر بينما عالم الظواهر الماديّة لا يستقرّ على حال وهو لذلك غير عقلانيّ وغير حقيقي.
ولأنّ الحياة الحقيقيّة هي التي يكون هدفها الارتقاء من عالم الفكر والفناء إلى عالم الروح والخلود، فإنّ هذا الهدف لا يمكن حسب أفلاطون أن يتمّ عن طريق الفنّ والشّعر أو غيره، بل عن طريق طلب المعرفة وطريق ذلك حسب أفلاطون هو التّحكّم بالنفس، ولاسيما ضبط الشّهوات والانفعالات واجتناب الجشع والإقبال على الدّنيا، باعتبار أن ذلك السلوك هو وسيلة الترقّي في طريق معرفة الوجود الحقيقيّ والأزليّ وهو وجود يتعدّى العالم الظاهر.
قبل الدخول في محاورة آيون والتي خصّصها أفلاطون للبحث في حقيقة الفن وشخصية الفنان تجبُ الإشارة إلى أنَّ الحكيم تحدّث في أكثر من محاورة عن الفن وعن الجماليات وأهمّ ما أورده في الموضوع جاء في محاورتي “سمبوزيوم” و”الجمهورية” وكذلك في محاورة آيون. وتشير هذه الحوارات إلى أنَّ رؤية أفلاطون تغيّرت خلال الفترات التي كتب فيها تلك المحاورات وهي تراوحت بين اعتباره الفنّ تقليداً Imitation وبين اعتباره الفنَّ نتيجة إلهام إلهيّ أو قُدُسيّ. Divine inspiration يستولي على الفنّان ويحوّله إلى مجرّد أداة تعبير أو “وسيط” بين مصدر الإلهام وبين الجمهور.
استندت نظريّة الفنّ كـ “تقليد” على مفهوم أفلاطون للمثالات واعتباره أنَّ كل ما هو موجود في حياتنا الأرضيّة إنَّما هو “نسخة” ضعيفة عن مثال تام كامل له من صنع خالق الموجودات أي الله. وبما أنَّ أيَّ شيء (شجرة مثلا) على الأرض هو نسخة عن مثاله العُلْوي السماوي الأكمل فإنَّ الفنّان عندما يرسم تلك الشجرة إنما ينتج “نسخة عن نسخة” A copy of a copy. بهذا التعريف اعتبر أفلاطون أنَّ الفنّ يبتعد بنا عن الحقيقة لأنه يبتعد بنا عن المثالات أو الحقائق قي جوهرها ليعطينا نسخة باهتة عنها، فهو لذلك لا يمكن أن يقود إلى الحقيقة والتي وحدها “الفيلوصوفيا” (وهي تعني باللغة الهلّينية: “محبّة الحكمة”) يمكن أن تقترب بنا منها أو تقود القِلــّة النادرة إليها.
إنَّ نظريّة الفنّ كمجرّد تقليد للتّقليد أو “نسخة عن نسخة” قد يكون منسجماً مع نظرية المثالات التي استند إليها أفلاطون في “الجمهوريّة” لكنّه بدا ربّما مع الوقت تبسيطاً يحتاج إلى مراجعة لأنّ تعريف الفنّ بكونه تقليداً بدا متعارضاً مع الكثير من الإنتاج الفنّي الذي حمل في طيّاته قوةً وسحراً يتجاوز أيَّ قوة لعمل نسخي أو تقليدي.
حقيقة الأمر أنَّ أفلاطون يبدو في محاورة آيون (كما في محاورة “سمبوزيوم”) وقد تخلَّى عن نظريّة الفنّ كتقليدٍ واتّجه لإعادة بعض الاعتبار للفنّان أو لصنف من الفنانين، فهو يورد في المحاورة على لسان سقراط أنَّ الحِرَفيَّ الماهرَ أو الفنان يمكنه بواسطة الإلهام السماويّ أن يجعل من النّسخة التي يصنعها “أفضل من النسخة التي ينقل عنها”، وبهذا المعنى فإنَّ الفنان هو كائن مُلْهَم يعمل بقوة الإلهامات التي يتلقّاها وليس مجرّد ناقل أو مُقلِّد لا يملك أن يخلق شيئاً يضيفه إلى النسخة التي ينقل عنها. وولَّدت فكرة الإلهام كمصدر للإبداع الفَنّي أيضا معاييرَ إضافية تجعل الفنّ أكثر صفاءً وقوّة كلّما اقترب الفنان من مصدر الحقيقة عن طريق السلوك والمجاهدة. لأنّه كلّما صفت النفس كلما أصبحت مثلَ المرآة الصّقيلة تعكس الحقائق وتستقبل الإلهامات، فيصبح الفنان بذلك “واسطة” أو “وسيطا” تستخدمه مصادر الإلهام العُلْوِيّة لبعث رسائل وعلامات وتعبيرات عن الجمال المُطلق تسرّ الناظرين وإنْ كان هؤلاء لا يفهمون دوماً سرّها وسرّ قوّتها التّعبيريّة.
هذه النظريّة عن الفنّان المُلْهَم تظهر بوضوح في محاورة آيون التي بين يدينا كما تظهر أيضاً في محاورة “سمبوزيوم” وهي نظريـّـة أكثر تفهّما للفنّ ولقوّته ممّا ساقه أفلاطون في محاورات أخرى (لاحقة على الأرجح) مثل “الجمهورية” فهل كان تأثير سقراط أوضح في آيون وهي كُتِبَت ربّما قبل وفاته؟ وهل عاد أفلاطون في كتاباته المتأخرة ليتّخذ موقفاً أكثر تشككاً من الفنّ باعتباره غوايةً ومُنزَلَقاً قد يُبعد طالب الحقيقة عن جادّة الصّواب، وهي جادة العقل والتأمّل المثابر في حقيقة الوجود؟ لو كان الأمر كذلك فإنَّ أفلاطون يكون قد اتّخذ منحىً فيثاغورسياً في تشديده على التّقشّف النّفسي والتزام سبيل السيطرة على الحواس والاستثارة الحسيّة. لكن أفلاطون لم يكن مناهضا للموسيقى بل على العكس كان يعتبر أن النّمط المناسب منها يمكنه أن يبعث السّلام والانسجام في النفس بدلاً من السّلبيّة أو الانقباض، لذلك لا بدّ للفنّ بكلّ أشكاله أن يَحُثَّ على فعل الخير وأن يُصوِّر الإنسان في أفضل وجوهه، والمطلوب هو أن يستخدم الفنّ كوسيلة تربية بسبب تأثيره على الناس لأنّ الأبطال الذين يتحدّث عنهم يمكن تقديمهم للجمهور كقدوة في السلوك والشجاعة والشّرف والأخلاق الكريمة.
لذلك دعا أفلاطون للاهتمام بنوع الموسيقى التي يتمّ الاستماع إليها وبالتالي إبعاد أنواع معيّنة من الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الروح. وربّما قصد أفلاطون النوع الأخير من الموسيقى عندما ألمَحَ إلى إمكان إخراج الفنانين والكتّاب المسرحيين من جمهوريته الفاضلة، أو على الأقل مراقبة الفنون بحيث يتمّ القبول فقط بما يشدّد على الخير والجمال خصوصاً في الإنتاج الموجّه للشباب في سِنِّ يَفاعهم، على أنْ يسمح بتناول أمور أخرى مثل الشّرور وأمراض النفوس فقط عندما يبلغ الشبابّ سِنَّ النُّضج.

الله يأخذ من الشّعراء عقلهم - سقراط
الله يأخذ من الشّعراء عقلهم – سقراط

“أفلاطون دعا إلى إبعاد الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الرّوح.”

موضوع المحاورة
تدور محاورة آيون بين سقراط الحكيم وبين شخص يدعى آيون وهو يعمل كمُمَثِّل وكمُغَنٍّ مسرحيٍّ لأشعار وملاحم الشاعر الإغريقي هوميروس، وفي هذه المحاورة يتناول سقراط من خلال أسلوبه في الحوار التّدرّجي موضوعاً دقيقاً يتعلّق بتعريف الفنّ والفنّان، وهو بصورة أكثر تحديداً سيسعى للخروج باستنتاج مُحَدّد حول فنّ آيون ذاته ليعلَمَ إذا كان أداؤه المُلفت والذي يثير مشاعر الجمهور هو نتيجة لمهارة ذاتيّة وخبرة طويلة بالفنّ أم أنَّ مصدره هو الإلهام الذي يتلقّاه دون جُهد منه، ويجعله قادراً على أن يلعب أدواراً مختلفة على المسرح وينشد الأغاني التي تحرّك مشاعر الحضور إبكاءً أو إضحاكا أو إخافة أو غير ذلك.
كان آيون قد ربح لتوِّهِ الجائزة الأولى في مهرجان الفنّ المسرحيّ الذي تنظّمه مدينة أبيداروس عندما التقاه سقراط، وكان الأوّل بطبيعة الأمر فخوراً بإنجازه عندما بادره الحكيم بسؤال حول ما إذا كان يعتبر نفسه متفوّقا في إنشاد شعر هوميروس وتمثيل قِصَصِه على المسرح أم أنّ تفوقَه يمتدّ إلى غيره من الشعراء والمسرحيّين. فوجئ سقراط بقول آيون: إنّ هوميروس فقط يُهِمّه، وأنَّ جميع من عداه من شعراء إغريق حتّى المشهورين منهم يوقعون في نفسه الضجر!.
مغالباً شعور التّعجّب، يلفت سقراط آيون إلى أنَّ نّقاد الفنّ وحُكّام الأعمال الفنّية مثل النّحت أو الرّسم عادة لا يحِدّون أنفسهم بتقييم عمل فنّان مُعيّن بل يمكنهم نقد وتقييم أيّ عمل فنّي بِغَضِّ النّظر عن شخص الفنّان الذي صنعه. لكنَّ آيون يعيد الكَرّة ويشرح لسقراط بشيء من الخُيَلاء كيف أنّه لا يوجد فنان في أثينا يمكنه أن يقدِّم شعر هوميروس كما يفعل هو، فلا أحدَ من فنّاني اليونان لديه ما لدى آيون من خبرة عميقة في الشّاعر وشخصيّاته.
سقراط: لكنْ كيف حدثَ أنّك طوّرت هذه المهارةَ بشأن فنّ هوميروس فقط وليس بشأن شعر هيسيود مثلاً أو غيره من الشّعراء؟ ألا يتحدّث جميع هؤلاء حول نفس الأمور مثل الحرب أو المجتمع الإنسانيّ أو علاقات البشر وخصوماتهم وعن الخير والشرّ وغير ذلك
أيون يوافق سقراط، لكنّه مستمرّ في اعتبار أنَّ هوميروس يتحدّث عن كافّة الأمور أفضل من غيره من الشّعراء.
قد يكون هوميروس عظيما حقاً، لكنّ سقراط لم يقتنع بعد لماذا لا يهتمّ أيون بشعر الآخرين وأعمالهم الكبيرة أيضاً. وهو يعود إلى المسألة البدهيّــة وهي أنّه عندما يوجد من يمكنه الحُكمُ في الفنّ الجميل أو الكلام أو الشعر وأفضلها فإنّ هذا الشخص نفسه يمكنه أن يحكمَ أيضاً على ما هو أقلّ قيمةً أو غير ذي قيمة في أيٍّ من تلك الفنون. يوافق آيون على هذه المقولة فيسأله سقراط على الفَور:
سقراط: إذنْ يا صديقي هل أكون مخطئاً في القول إن آيون يمتلك المهارة نفسها في شعر هوميروس وغيره من الشعراء، بما أنّه هو نفسه يقرّ بأنّ الشخص نفسه يمكنه أنْ يكون حَكَماً جيّداً بين الذين يتحدثون عن الشّيء نفسِه، وبما أنَّ جميعَ الشعراء يتحدثون بالفعل عن الأشياء نفسها.
آيون: لم إذن يا سقراط أشعر بعدم الاكتراث وأكاد أغطُّ في النّوم عندما يتحدث أحدهم عن شعر شاعر آخر، لكن ما أنْ يُــذكر هوميروس حتى تجدَني قد تنبّهت بكلّيتي وباتت لديّ الرّغبة في قول أيِّ شيء.
سقراط: السَّبب يا صديقي بديهيّ، وأيُّ شخص سيرى في هذه الحال أنك إنّما تنشد هوميروس وشعره دون أيِّ فنٍّ حقيقيٍّ أو معرفةٍ بالشعر. لأنّك لو تحدثتَ عنه بمقاييس الفنّ ومعاييره فيجب أن يكون في إمكانك أنْ تتحدثَ عن غيره من الشعراء بالمهارة ذاتها لأنَّ الشّعرَ كلٌّ لا يتجزّأ.
يُفاجأ آيون هنا بحكم سقراط، لكنّه لا يستطيع إلّا الإصغاء طالباً منه أن يشرح رأيه وأن يزيد.
يتبع ذلك حوار يُبيِّنُ فيه سقراط أنّ الفنّ كلٌّ متكامل وأنّه لا يوجد ناقد يقول إنّه يفهم في العمل الجميل فقط ولا يفهم أو يستطيع أنْ يُحكِّم في الأعمال غير الجميلة أو في عزف الناي أو الموسيقى الجميلة لكنّه لا يُحكِّم في أعمال العزف والموسيقى التي هي أقلُّ مستوًى من ذلك، أو أنه يوجد خبير في فنّ النّحت يتولى تقييم أعمال النحت المتميّزة لكنّه يغطّ في النوم ولا يُعطي رأيه عندما تُعرَض عليه أعمال نحت أقل شأناً. ويسأل سقراط آيون هل سمع بوجود مثل هؤلاء النّقاد؟
آيون: كــلّا أنا لم أسمع بوجود مثل هؤلاء الأشخاص.
لكنّ آيون، رغم اقتناعه بقول سقراط، يكرّر موقفَه السّابق في أنّه لا يُبدع إلّا عندما يقرأ شعر هوميروس.
آيون: لا يسعًنــي أنْ أنفي ما تقول يا سقراط، لكنْ على الرّغم من ذلك فإنني على أدراك تام، كما يوافقني الناس، بأنّني أعبّر بصورة أفضل وأُقدِّم أحسنَ ما لديّ فقط عندما أُحدِّث بشعر هوميروس بينما لا أوَفَّق عندما أحدِّث عن غيره. فهل يمكنك أنْ تقول لي ما هو السبب في ذلك؟

كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه
كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه

مطالعة سقراطية حول طبيعة الفنون
هنا يعرض أفلاطون، على لسان سقراط، لمطالعة طويلة حول طبيعة الفنّ وحقيقة الفنان، وهذه المطالعة في الموضوع صالحة لاعتبارها ملخّصاً أفلاطونياً وافياً في الموضوع.
سقراط: سأحاول يا آيون أنْ أشرح لك ما أعتقد أنّه سبب حالتك. إنَّ الموهبة التي تتمتع بها في الحديث المؤثّر عن هوميروس ليست فنّاً بل هي كما قلت من الإلهام. إن هناك كياناً عُلويا يـُحرِّكُك. مثل ذلك الذي يحتويه الصّخر الذي يسمّيه الشاعر يوروبيدس مغناطيســأً، والمعروف بين العامّة بـ “صخر هيراقليا” وهذا الصّخر ليس فقط يجتذب حلقات الحديد بل هو يجعل الحلقات نفسها مُمغنطة وقادرة على أن تجتذب بدورها حلقات حديدية أخرى. وفي بعض الأحيان يمكن أنْ نرى حلقات معلقة الواحدة بالأخرى بحيث يتشكل منها سلسلة طويلة وكل هذه الحلقات تستمدّ قوة الجذب فيها من الحجر الأصلي. بالطريقة ذاتها فإنَّ المَلاك المُلْهم Muse يمدُّ بإلهامه أشخاصا معيّنين وهؤلاء الأشخاص بدورهم يمدّون آخرين بإلهام ممّا أتاهم فتتكون سلسلة من الأشخاص الذين يُلْهِم كلٌّ منهم مَنْ يليه. بهذا المعنى فإنَّ جميع الشعراء المجلّين، سواء شعراء الملاحم أم مؤلّفي الشعر الغنائي إنّما يؤلفون موسيقاهم ليس بعامل الاحتراف الفنّي بل لأنهم مُلهَمون بل ومُسَيطر عليهم من مصدر إلهامهم. وهم لذلك ليسوا بكامل وعيهم العقلي عندما يؤلّفون موسيقاهم. وكما يقولون هم لنا فإنّهم يجلبون أغانيهم من ينابيعَ تتفجّر عسلا ويقطفون تلك الأشعار من حدائق ووديان ملائكة الإلهام، وهم مثل النّحل الذي يطير متنقّلاً من زهرة إلى زهرة، وهذا صحيح، لأنَّ الشاعر هو نور وهو شيء مقدس ومٌجنَّح أيضا. ولكن لا يمكنه ابتكار أو خلق أيِّ شيء من ذاته إلى أن يأتيه الإلهام ويخرج عن حواسِّه، عندها فإن عقله لن يكون في خدمته. وما لم يبلغ الشاعر تلك الحالة فإنّه سيكون عاجزاً تماما عن أن يُبَلِّغ إلهاماته.
وعندما يتلقّى الإلهام من ملاك الإلهام فإنّ الفنّان قد يصبح منشداً للشعر المسرحيّ، وبعضهم قد ينشد المدائح للآلهة، وبعضهم قد يغنّي الكورال والآخر قد ينشد شعر الملاحم، وهنا فإنّ من يكون متفوّقاً في لون من الفنّ فإنه على الغالب لن يكون متفوّقاً في لونٍ آخر . وهذا لأنّ إنشاد الشاعر لا يأتي من فنٍّ يملكه هو لكنه يأتي من إمداد السماء. ولو أنَّ الشاعر كان فعلا فناناً مُــلِمّــاً بنواميس الفنون كلِّها فإنّه كان سيُظهِر مهارتَه ليس في فنٍّ بعينِــهِ بل في الفنون جميعها. لهذا فإنّ الله “يأخذ من الشّعراء عقلهم” ويستعملهم كما يستعمل العرّافين وأهل النبوّة لكي نعلم عندما نستمع إليهم أنَّهم لا يأتون من تلقاء أنفسهم بتلك الآيات النّفيسة بوعيٍ منهم، إنَّما هو مصدر الإلهام السّماوي الذي يوحي عبرهم. وأنا أعطي على ذلك مثال الشاعر تينيشوس كالسيديان الذي لم يكتب من الشّعر ما استرعى انتباه أحد، إلا أن أنشودة التّسبيح التي كتبها أصبحت على كلِّ شَـفةٍ ولسان. وعن هذا الطّريق يبدو وكأنّ الله يريد أن يبيِّن لنا ولا يترك لنا أيَّ مجال للشَّكِّ في أنَّ هذه الأشعار الرائعة ليست كلاماً بشرياً أو عمل إنسان إنّما هي من وحيٍ سماوي. ألست على حق يا آيون؟.
يوافق آيون من فَوْره على رأي سقراط الذي وعلى سبيل الزيادة في الإيضاح يأخذ مثالاً من عمل آيون نفسه كمنشد وكممثّل لشّعر هوميروس وقصصه المَلْحَميّة فيسأله:
سقراط: أودُّ منكَ أن تجيبَني بصراحة يا آيون على سؤالي وهو: عندما تًثيرُ بتمثيلك أعمقَ الأثر في الجمهور عبر إنشادك لبعض الأبيات والمشاهد البليغة هل تكون مستحضراً فعلا لعقلك؟ أم أنّك تكون غائباً عن نفسك؟ ثم ألا تكون روحك في حالة من الانجذاب والغِبطة التامّة وأنت تتخيَّل نفسك بين أولئك الذين تتحدث عنهم سواء كانوا في إيثاكا أو في طروادة وبغض النّظر عن المشهد أو المقطع الشعري؟
يجيب آيون بالموافقة التامة شارحاً لسقراط أنّه في مشاهد الحزن لا يستطيع مغالبة انهمار الدموع من عينيه، وأنّه في مشاهد الرّعب مثلاً فإنّ “شَعر رأسه يقف من الرُّعب وقلبه يهلع وتتسارع نبضاته”.
بالطّبع في نظر سقراط فإنّ آيون قدّم مثالاً آخر على أنّ الممثل أو المُنشد الذي يمثّل قِصَص هوميروس لا يمكن أنْ يكون في حالة من “العقلانية” وهو يذرف الدموع أو يعبّر عن الخوف أو أيٍّ من المشاعر الحادّة على المسرح، بل لا بدّ وأن يكون “ممسوساً” وتحت السّيطرة التامّة لمصدر إلهام عُلْوِيّ.
ينتقل سقراط بعد ذلك ليضرِبَ مثلَ جمهور النظّارة في المسرح الذين أيضاً تنتقل إليهم كافّة المشاعر التي تُمثَّل على المسرح عبر منشدين وممثلين وهم جلوس في أماكنهم. فهم يَهلعون في مشاهد الخوف كما لو أنّها حقيقة وينْسَوْنَ أنّهم مشاهدون فقط لمشاهدَ تخيّليّةٍ، وأنَّهم في أمان تامٍّ ولا خوفَ عليهم من أيِّ تهديد. وقد يبكون في مشاهد الحزن ويهللون ويصخبون في مشاهد الانتصارات أو البطولة. وهذا في نظر سقراط مثالٌ على نظريّة الحلقات المِغناطيسية المترابطة والتي مصدرها إلهام أصليٌّ هو الذي يعطى من الوحي السماويَّ إلى الشاعر، ومنه إلى المنشد أو المُمَثّل المسرحيّ ومنه إلى جمهور الحضور في المسرح وهكذا.
ينتقل سقراط بعدها ليشرح لآيون لماذا يَبرع في إنشاد وتمثيل شعر هوميروس ولا يهتمُّ بإنشاد غيره. وهو يعود مجدّداً في شرحه إلى نظريّة الحلقات المُمَغْنطة التي يتعلّق كلٌّ منها بما يليه.
سقراط: أنت أيضاً حلقة من حلقات الإلهام، لكنّك مجذوبٌ بهوميروس، فإذا قرأ أحدهم قصائد شاعر آخر غيره فإنَّك تغطُّ في النّوم ولا تعرف ماذا تقول، لكنْ إذا قرأ آخرُ بيتاً من قصائد هوميروس فإنّك ستتنبَّه على الفوْر ويقفز قلبك داخل صدرك وتصبح مستعدّاً للإنشاد فوراً وقول الكثير! وأنت تسأل ما السبب في ذلك؟ إنّ سبب ذلك أنّ معرفتَك أو تميُّزَك في شعر هوميروس ليس من صُنْعك ولا يأتي من إحاطتك بالفنون ولكنَّه يأتي من مصدر إلهام عُلْوي.

الشاعر هوميروس
الشاعر هوميروس

“سقراط: الشّاعر نورٌ وشيءٌ مقدّس ومُجنَّح أيضاً. لكنْ لا يمكنه خلق أيّ شيء من ذاته إلى أن يأتيــه الإلهام ويخـــرج عن حواسِّه”

يستحسن آيون جواب سقراط لكنَّه لا يقتنع به تماماً.
آيون: كلُّ هذا جميل يا سقراط. لكنّني أشكُّ في أنَّ لديك من البلاغة وقوة الحجّة ما سيجعلني أقتنع بأنّني أبدع في التِّلاوة الشعرية لهوميروس فقط عندما أكون مجذوباً أو ممسوساً!! ولو سمحتَ لي أن أنشدَكَ الآنَ أبياتاً من شعر هوميروس فإنّني على ثقة بأنّك لن تبقى على رأيك.
يؤكِّد سقراط بأنّه يرغب جيّداً في الاستماع إلى فنِّ آيون، لكنّه يريد منه أولاً أن يجيبه على سؤال. وهدف سقراط هنا هو متابعة الحوار على النّسق السابق ودفع آيون إلى مكانٍ في الحِوار يكتشف فيه بنفسه أنّ موقفه غير منطقي وأنّ اقتراح سقراط في تعريف الفنّ والشعر كنتاج إلهام عُلْوي هو التفسير الصّحيح. وهو يفاجئ آيون بسؤال غيرِ متوقّع:
سقراط: أوَدُّ منك أنْ تجيبَني على سؤال وهو: ما هو الجزء من شعر هوميروس الذي تبرَعَ فيه أكثر من غيره؟ أكيد أنّك لست بارعاً في كلِّ شعره؟ وهنا يسقط آيون في فخّ الغرور ويجيب:
آيون: لا يوجد يا سقراط أيُّ جزء من أجزاء شِعر هوميروس لستَ فيه من أبرع الناس في فهمه وفي إنشاده.
سقراط: هذا بالتأكيد لا ينطبقُ على الأجزاء التي في شعر هوميروس ليست لك معرفة بها.
آيون: وما الذي في هوميروس لا أملك معرفة به؟
هنا يذكِّر سقراط آيون بأنَّ هوميروس يتحدّث في شعره سواء في الأوديسة أو الإلياذة عن مشاهد تتعلّق بفنون أو مهارات مثل قيادات العربات الحربيّة أو إعداد الطعام أو الطَّب أو النّجارة أو صيد الأسماك أو غيرها وهو يسأل آيون على سبيل المثال إن كان الشّخص الصّالح للحكم على شعر هوميروس في وصف عربات الخيل الحربيّة وعمل قائدها ومناوراته في المعركة مثلا هو قائد العربة الحربيّة أم مُغنّي شعر مثل آيون نفسه. وهنا يعترف آيون بأنّ قائد عربة الخيل الحربيّة هو أقدر على تقييم شعر هوميروس في هذه المهارة. سقراط يعقِّب من فَوْره بالسؤال عمّا إذا كانت أهليّة قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس بشأن عربات الخيل عائدة إلى فنِّ الشعر أم إلى فنّ قيادة العربات. يوافق آيون على أنّ الفنّ الذي يستند إليه قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس حول العربات ليس فنّ الشعر بل فنّه هو في قيادة العربات الحربيّة. هنا ينتقل سقراط إلى استنتاج مهمٍّ يقترب به من دحض نظريّة آيون حول الفنّ.
سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عَيَّنَ الله له نوعاً من المعرفة بموضوع معيّن، ولهذا فإنَّ الذي يمكن أنْ نعلمَه من فنّ قيادة عربات الخيل يختلف تماماً عن الذي يمكن أنْ نتعلمه من فنّ الطِّب.
آيون: بالتأكيد

أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح
أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح

” سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه دون غيره  “

سقراط: كذلك فإنّ ما يمكنُ أن نتعلَّمَه من خلال فنِّ النّجارة يختلف عمّا يمكن أن نتعلّمه من خلال فنّ الطِّب؟
آيون: من دونِ شكٍّ
سقراط: وهذا ينطبق بالطبـــع على جميع الفنون
آيون: نعم
سقراط: وأنت ستوافقني على أنَّــه إذا كان لفنٍّ ما موضوعٌ محدّدٌ وكان لفنٍّ آخرَ موضوعٌ آخر مختلفٌ فهذا يعني أن الفنّيْن مختلفان؟
آيون: نعم
سقراط: وهذا يعني أنَّ أيَّ فنٍّ مُحَدّد يجب أن يكون له موضوع المعرفة نفسه وأنَّ الفنون الأخرى المختلفة سيكون لها مواضيع مختلفة للمعرفة تتعلّق بها؟
آيون: هذا هو رأيي
سقراط: إذنْ من ليس له معرفة بفنٍّ معيّن لن يكون له حقُّ الحُكم أو الحديث عن نصوص أو أعمال ذلك الفنّ الذي يجهله.
آيون: صحيح.
هنا يستخدم سقراط معرفته العميقة بشعر هوميروس وملاحمه ويفاجئ آيون في كونه حافظاً لكلِّ شعر هوميروس وهوَ لا يقلُّ عنه بل يفوقه فهما للشاعر وهو يختار سلسلة من الأمثلة التي تُظْهِر لآيون أنه لا يمكن أن يكون عارفا بكل جوانب شاعره المفضّل هوميروس. وهو يختار مقاطع يتحدث فيها الشاعر الإغريقيّ عن حالات معيّنة أو مِهَنٍ أو أعمال ثم يُظْهِر لآيون أنَّ أصحاب تلك الأعمال أو المهارات هم حتماً أفضل منه ومن أي شاعر في الحكم على أشعار هوميروس التي تتحدّث عن مِهَنهم ومهاراتهم لأنهم أخبر بها من الآخرين.

مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية
مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية

إن قصد سقراط في نهاية المطاف هو أنْ يُثبِتَ وجهة نظره وهي أنَّ عدم اكتراث آيون إلّا بشاعره المفضّل هوميروس وإهماله لغيره من كبار الشعراء يدلُّ على أنَّ فنَّه لا يعود إلى مهارة ذاتية أو موهبة لأنَّه لو كان كذلك لأمكنه تذوُّق شعراء آخرين كبار لا يقلُّون إبداعا مثل هيسيود وأورفيوس وغيرهما، وهو أراد أيضاً أن يُثبت أنَّ زعم آيون بأنّه محيط بالكامل بكلِّ ما جاء به هوميروس وأنَّه مرجع في الموضوع أيضا هو من الغرور ولا يصمد للفحص.
رغم ذلك فإنَّ آيون المغرور والذي كما يتَّضح من الحوار يفتد إلى النَّباهة يعود فيرتكب الخطأ ذاتَه مع سقراط فيزعُمُ مجدَّدا أنَّه مؤهَّل للحُكم على شعر هوميروس كلِّه دون استثناء، لكنَّ الحكيم هذه المرَّة سيكون صارماً فيذكِّره أنَّه اعترف قبل قليل بعكس ذلك عندما تناولا مثال قائد عربة الخيل الحربيَّة وغيرها من الأمثلة، وهو لذلك يعتبره مُنحازا لنفسه ومخادعاً يفتقد إلى الإخلاص في الحوار أو في الرغبة في التَّعلّم وبلوغ الحقيقة، لذلك ينهي سقراط الحوار باعتبار آيون من المخادعين، لكنَّه يعرض عليه “تبرِئَتـُـه” من ذلك الحكم القاسي إن هو وافق على الخَيار الآخر وهو القبول بأنه ليس فنّاناً بالسّليقة أو بقدرته الفنِّيَّة وإنَّما متلقٍّ لوحيٍ عُــلويّ يسيطر عليه عندما يكون على المسرح. وهذا الخيار الأخير يقبل به آيون لأنَّ البديل ليس مُشَرِّفاً له. وينهي سقراط الحوار بهذه الكلمات:
“إذن فإنني يا آيون سأنسب إليك الاحتمال الأكثر كرامة وهو أنك في تمثيلك لأشعار هوميروس إنما تعمل تحت تأثير الإلهام وليس الفن”.

العدد 15