الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

يوثيديموس

يُوثيدِيموس

سقراطُ يَدحضُ السّفسطائيّين

سقراط
لو اكتشفنا كيف نحوّل الحَصى إلى ذهب فإنّ هذه المعرفةَ
لن تكونَ لها أيُّ قيمة إنْ لم نكن نعلمُ كيف نستخدمُ الذّهب

تعتبر محاورة يوثيديموس التي كتبها أفلاطون في العام 384 قبل الميلاد واحدة من عدّة أعمال أعدّها في تلك الفترة بقصد التّصدي للمدّ السّفسطائي الذي كان قد انتشر وبدأ يعيث فساداً في الحياة العامّة وفي الثّقافة الأثينيّة التقليديّة. ومن المحاورات التي خصّصها أفلاطون للتّصدّي للسّفسطائيّين تلك المسمّاة بروتاغوراس ومحاورة جورجياس ومحاورة هيبياس وغيرها لكنّ محاورة ثيوديموس كتبت في المرحلة الوسطى من أعمال أفلاطون وهي تختلف عن المحاورات السّابقة التي تناولت السّفسطائية في تعامل سقراط السّاخر مع اثنين منهم يصبحان موضوع المحاورة الأساسيّ ويجعل منهما سقراط أضحوكة للحاضرين. وفي هذه المحاورة يبيّن أفلاطون هشاشة الحيل اللّفظية والمماحكات الفارغة التي يستخدمها أتباع هذا النّهج بهدف بلبلة المحاور وإخضاعه وكيف يستخدمان نوعاً من “اللّاأدرية” كدخان مناسب للهرب من تقديم إجابات شافية وتضييع الموضوع. ولهذا الغرض ربّما فإنّ الحوار في يوثيديموس يدور مع اثنين من السّفسطائيين لم ينالا شهرة كبيرة كما نال مؤسّس المدرسة بروتاغوراس ومن بعده جورحياس واللّذين يحظيان في محاورتين لأفلاطون سُمّيتا باسمهما بمعاملة أكثر اعتدالاً رغم الاختلاف معهما في كلّ الأمور تقريباً. وبهذا فإنّ يوثيديموس جاءت ربما في مرحلة استفحل فيها أمر السّفسطائيّين لكن مع تدهور شامل في مضمون دعوتهم لصالح المهارات الكلاميّة والأحابيل الجداليّة، وهو أمر غالبا ما يحصل في كلّ تيار إذ يكون في عزّه في ظلّ المؤسّسين الأقوياء والأفذاذ لكنّه ينتقل من بعدهم إلى فريق واسع لا يتمتّع بأيٍّ من المواهب التي توافرت لمن سبقهم وهو ما يعجل في التّداعي التّدريجي لذلك التيار الفكري الذي يفقد لا محالة ثقة النّاس واحترامهم.

إن مقارنة الحوار بين سقراط والسّفسطائيين الأوائل مثل بروتاغوراس وجورجياس بالحوار الذي أورده أفلاطون في يوثيديموس كاف لوحده لإظهار التّبدل الكبير الذي حصل للسّفسطائية في مدة قصيرة نسبيّاً من الزّمن. وبسبب هذا التّبدّل أو التّراجع في مصداقية تلك المدرسة نرى سقراط على غير عادته ينحو منحى الهزء والسّخرية المبطّنة في الحوار مع بطلَيّ المحاورة السّفسطائيّين يوثيديموس وشقيقه ديونيسودوروس. وقد ظهر الاثنان للقارئ كمثال سيّىء عن المنهج السّفسطائي وبدا واضحاً قدر التّخريب الذي باتت تلك المدرسة تحدثه في النّسيج الأخلاقي والفكري للمجتمع الإغريقي. وبالطّبع وبسبب غرابة منطق الرّجلين وأسلوب المماحكة بل اللّامنطق الذي يلجآن إليه في محاولة لكسب الحجّة، فإنّ سقراط لم يجد أيّ صعوبة في كشف هشاشة منطقهما للمشاركين الآخرين في المحاورة.
ومن أجل فهم خلفيات هذه المحاورة المهمّة (والطويلة نسبيّاً) لأفلاطون سنحاول أوّلاً إعطاء وصف موجز لمدرسة السّفسطائيّين مع مقارنتها لاحقاً بالمنطق الجَدليّ لسقراط الحكيم في تعليمه للشّبيبة ولكلّ من كان يأتي إليه طلباً للمعرفة.

من هم السّفسطائيّون
عُرِف السّفسطائيّون بالدّرجة الأولى باعتبارهم معلّمين محترفين، ذاع أمرهم في النّصف الثّاني من القرن الخامس قبل الميلاد، وكانوا ينتقلون بين المدن الأثينيّة ويعرضون خدماتهم في تعليم الشّباب الإغريق من أبناء الطّبقة الثريّة مقابل أجر، وكان الغرض من تعليمهم مساعدة الشّباب على الترقّي في المناصب أو كسب الحجّة في المحاكم أو دخول مجال الخطابة والسّياسة. وبالنّظر لأنّ السّفسطائيّين لم يهتمّوا بالعلم ولا بالفلسفة بل بالجدل وفنّ المناظرة والبلاغة الكلاميّة واستخدام هذه الفنون في قهر الخصم وكسب الحجّة أو المسألة فإنّ المرداف الأقرب لتعليمهم هو ما نسمّية “الدّيماغوجيّة”. لقد تخصّصوا في فن “الإقناع” وتخريج أشخاص لديهم من حيل البلاغة وقوّة اللّغة ما يمكنهم من تشويش الحقائق وبلبلة الخصم وضعضعته. ادّعى السّفسطائيّون أنّ هدفهم بدل تعليم الفلسلفة والشؤون النّظرية هو مساعدة شباب الأسر الثريّة على النّجاح في حياتهم العمليّة والارتقاء في الحقل العامّ أو المهن وهو ما يمكن تشبيهه اليوم بدورة للتّدريب على القيادة.. وبسبب توجّه الحياة في أثينا نحو الرّخاء والثّراء المادّى أو السّلطة فقد لقيَ السّفسطائيّون إقبالاً واسعاً واشتهر الكثير منهم وحقّقوا مكانة وثروات كبيرة.
لكنّ تعليم السّفسطائيّين كان في الوقت نفسه بمثـابة نكسة أخلاقيّة وفكريّة كبيرة لأثينا والمدن اليونانيّة التي كان التّعليم فيها قبل السّفسطائيّين متركّزا على اكتساب الفضائل وقيم الأرستقراطية وخصال المحاربين الأبطال مثل الشّجاعة والقوة البدنيّة والشّهامة. وكان لنشوء الدّيمقراطيّة الأثينيّة وحالة السّلم والرّخاء دور كبير في هذا التّحول إذْ باتت الحاجة أقوى لدى الناس للترقّي الاجتماعيّ عبر قوّة الحجّة والحضور الشّخصي والبراعة في الإقناع والتّأثير على النّاس بالخطابة. ومن أبرز ممثلي المدرسة السّفسطائية بروتاغوراس وجورجياس وأنتيغون وهيبياس وبروديكوس وثراسيماخوس. وقد أقلق صعود السّفسطائيّين بشدّة الحكيم سقراط وتلميذه أفلاطون وقد خصّص الأخير عدداً من محاوراته لدحض الفكر السّفسطائيّ وإظهار فساده وخطره على المجتمع الإغريقي. وحمل العديد من تلك المحاولات أسماء السّفسطائيين المذكورين.
لذلك فإن الهدف الأوّل لأفلاطون من هذه المحاورة هو إظهار التّعارض الأساسيّ بين مفهومين لـ “المعرفة”: مدرسة السّفسطائيّين التي تقوم على الجدل وفن البلاغة وكسب الحجّة بأيّ أسلوب ومدرسة سقراط التي تقوم على المعرفة من خلال البناء المنطقيّ أو الديالكتيكي للحوار بهدف التوصل إلى المعرفة أو الحقيقة.
يعرض أفلاطون محاورة يوثيديموس ليس كحوار بين أشخاص المحاورة -كما يفعل في المؤلّفات الأخرى- بل على شكل رواية يقصّ سقراط وقائعها على صديقه كريتو وهي تتناول جلسة مع السّفسطائيَّين يوثيديموس وديونيسودوروس حضرها بنفسه مع جمع من الشبّان. وأفلاطون هنا لا يريد أن يعطي لهذين الشّخصين صفة المحاورين، لأنّهما حسب تقديره لا يستحقّانها وهو ما سيتّضح لاحقاً من خلال عرض مُجْريات “المحاورة”. .
يبدأ كريتو صديق سقراط بالسّؤال عن اؤلئك الأشخاص “الغرباء” الذين كان سقراط يتحادث معهم في اللّيسيوم وهو مكان للاجتماعات العامّة في أثينا القديمة. ويجيب سقراط بالقول أنهما “أُخرِجا” من المدينة التي كانا فيها ثم وجدا طريقهما إلى الديار الأثينيّة، وهذا الكلام يشير إلى العداء الذي كان عامّة الناس بدأوا يظهرونه للسّفسطائيين والذي كان يصل إلى حدّ سجنهم أو حتى قتلهم أو طردهم. لكنّ السّفسطائيين بدأوا مع ذلك يستفيدون من مناخ الديمقراطيّة اليونانية ويجولون في المدن عارضين خدماتهم لتعليم نهجهم في الجدل وكسب الحجّة. ويتّضح أنّ الرّجلين (يوثيديموس وديونيسودوروس) غريبان عن أثينا من قول كريتو لسقراط إنّه لا يعرف أيّاً من الرّجلين. ويردّ سقراط بتعريف ذي دلالة للرّجلين فهو يخبر كريتو أنّ الرّجلين لا يتمتّعان فقط بخبرة القتال بالدّروع والسّلاح ولكنّهما ماهران في “حروب القانون” فهما يعلِّمان من يدفع المال لهما كيفيّة سوق الحجّة القويّة أمام القضاء. وهما يمتلكان مهارة خاصّة في “حروب الكلام” لدرجة أنّ في إمكانهما أن يدحضا أيَّ حجّة سواء كانت صحيحة أو خاطئة. وإشارة سقراط الأخيرة تشير إلى علّة أساسيّة في تقنيّة السّفسطائيّين وهي إنهم على استعداد لهدم حجّة صحيحة ومحقّة من أجل كسب حرب الكلام، ولهذا السّبب بالذّات فقد شكّك أفلاطون بالمضمون الأخلاقيّ لتعليمهم واعتبر أنّ همّهم الأساسيَّ هو المبارزة بالحجّة والجدل وليس الوصول إلى الحقيقة أو الفضيلة.
يشرح سقراط لكريتو كيف تمكّن من حضور مجلس هذين السّفسطائيّين وما حصل بعد ذلك من حوار بينهما وبين الحاضرين، وبصورة خاصّة الشابّ كلينياس، الذي حضر بهدف معرفة ماذا يمكن لهذين الرّجلين أنْ يعلّماه. وكلينياس كما يصفه سقراط شابّ حقّق الكثير من التقدّم في المعارف وله معجبون كُثر رافقوه إلى مجلس السّفسطائيَّين. وهذا الوصف يجعلنا نفهم لماذا فشل الرّجلان في إقناع كلينياس بتعليمهما وبنهجهما. علماً أن أفلاطون يعطي حيّزاً مهمّا لحوار جانبيّ بين كلينياس وسقراط ليظهر الفارق الكبير في الطّريقة التي تعامل بها السّفسطائيون مع هذا المريد أو طالب العلم وبين الأسلوب الجَدَليّ المنطقيّ الذي يتّبعه سقراط.
النّقطة المهمّة التي سيبدأ بها سقراط استدراج السّفسطائيّيْن هي سؤالهما عمّا يُعلِّمانه، وهو كان يتوقّع أن يُجيبا بما يعلمه عن خبرتهما في فنّ الجدال والقانون مثلا أو الخطابة لكنّه فوجِئ بقولهما إنّهما “يعلّمان الفضيلة” وهو تصريح خطير في نظر أفلاطون الذي اعتبر أنّ من الجرأة بل الصّفاقة أن يُدليَ سفسطائي مهتمٌّ بكسب المال عبر تعليم المماحكة وقلب الحقائق بهذه الدّعوى، وهذا ما يجعله يعمد إلى عرض الحوار لإظهار كذب الادّعاء وتوضيح حجم الضّرر الذي يوقِعه السّفسطائيون في عقول العامّة وفي انتظام المجتمع والفضيلة.
يوثيديموس السّفسطائي لا يكتفي بادّعاء تعليم الفضيلة بل إنّه يزيد بالتّأكيد لسقراط أنّه وشقيقه يعلّمانها أفضل من أيِّ إنسان آخر.
صاح سقراط لدى سماعه لهذا الجواب: يا إلهي! أين تعلّمتم هذا الفنّ؟ كنت أظنّ أنّكما تتقنان فنّ القتال بالدّروع والسّلاح فقط ، لذلك أرجو أن تَعْفُوَا عن قلّة أدبي مع أشخاص عظام مثلكما، لكن هل أنتما واثقان فعلاً ممّا تقولان؟
يردّ الرّجلان بتأكيد دعواهما ويضيفان بأنّهما مستعدّان لتعليم الفضيلة لأيٍّ كان يطلب ذلك (وكأنهما يعنيان بذلك سقراط أيضاً). يردّ سقراط بأنّه متحمّس فعلاً للتّعلّم منهما وأنّ هناك أيضاً شباب مثل كلينياس وستسيبّوس ينتظرون للسّماع من الرّجلين.
يتابع سقراط مخاطباً يوثيديموس: ما يهمّني هو أن أعرف إنْ كان في إمكانكما أنْ تقنعا الشّباب الحاضرين هنا أنّ في إمكانهم تعلّم الفضيلة وأنّ عليهم أن يتعلّموها. ويشير سقراط هنا إلى وجود الشّاب كلينياس الذي يخاف عليه أنّ يسير في الطّريق الخطأ نتيجة تأثير بعض النّاس ويهمّه لذلك (على سبيل الجدل) أن يقوم يوثيديموس وشقيقه بأخذه إلى الطريق الصّحيح. بالطّبع سقراط هنا يستدرج الرّجلين وهو عالم بهشاشة منطقهما، لكنّه يريد للمجتمعين أن يلمَسوا ذلك من خلال الحوار نفسه، وهو سيلعب دوراً مهمّاً لاحقاً في هذا السّياق.

بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية
بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية

أحابيل السّفسطائيين
يبدأ هنا فصل مثير تظهر خلاله الأساليبُ الملتوية للسّفسطائيّة في ميدان المجادلة وما سمّاه سقراط “حروب الكلام”.
وافق يوثيديموس على طلب سقراط تعليم كلينياس لكنّه اشترط على الشّابّ أن يجيب على عدد من الأسئلة.
هنا يتابع سقراط رواية ما جرى لصديقه كريتو وهو يذكر أنّ يوثيديموس بدأ بطرح السّؤال التّالي على كلينياس:
يوثيديموس: أجبني يا كلينياس من الذي يطلب العلم هل هو الرّجل العاقل أم الجاهل؟
أصيب كلينياس بالحَيْرة والصّدمة لهذه البداية، لكنّ سقراط شجّعه على أن يجيب بما يفكّر به ولا يخاف!
هنا انحنى ديونيسودوروس حتى اقترب من أذن سقراط وهمس له ووجهه طافح بنشوة الفوز قائلا: مهما كان جواب الفتى فإنّني أتنبّأ لك يا سقراط بأنّه سيتمّ دحض جوابه”
يورد أفلاطون هذه اللّفتة من ديونيسودوروس ليظهرَ من أوّل الطّريق كذب السّفسطائيين في ادّعاء تعليم الفضيلة، وأنّ همّهم الأوّل هو ربح معركة الكلام وهدم المُحاوِر وليس إسداء خدمة التّعليم والإرشاد؟
أعطى كلينياس جوابه فقال إنّ الذي يطلب العلم هو العاقل.
أجاب يوثيديموس من فوره: هناك من يمكن تسميتهم المُتعلِّمون أليس كذلك؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: وهناك الأساتذة الذين يعلمون الشّباب اللّغة والقواعد أو عزف اللّير أو غير ذلك، وهؤلاء هم الأساتذة وأنتم الطلّاب؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: عندما كنتم طَلَبة في طور التَعلّم فإنّكم لم تكونوا عندها تعلمون شيئاً عمّا تتعلمونه؟
كلينياس : كلّا
يوثيديموس: وهل كنتم عقلاء عندها؟
كلينياس: لا، بالتأكيد
يوثيديموس: لكن إن لم تكن عاقلاً يومها فهذا يعني أنّك لم تكن متعلّماً
كلينياس: بالتّأكيد
يوثيديموس: إذن وبما أنّك كنت تتعلّم ما لا تعرفه فلا بدّ أنّك كنت جاهلاً عندما كنت تتعلّم؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: إذن يا كلينياس الجاهل هو الذي يتعلّم وليس العاقل كما تظنّ!
يكمل سقراط حديثه إلى صديقه كريتو فيذكر له أنّ أتباع السّفسطائيّين هبّوا في تلك اللّحظة في جوقة من الضّحك والتّهليل الحماسيّ ليوثيديموس الذي “سحق” الولد بعد سلسلة من الأسئلة التي تحمل الكثير من المنطق الشّكليّ والحيل الكلاميّة لكن التي تفتقد لأيّ محتوىً نزيه. كأنّ جمهور السّفسطائيّين كان يشهد مباراة في تسجيل الأهداف ربحها رجلهم يوثيديموس.
قبل أن يستفيق كلينياس من الصّدمة أخذ السّفسطائيّ الآخر، ديونيسودوروس بيده برفق وبدأ ما بدا أنّه فصل جديد في محاولة إذلال الشابّ. أمّا الحيلة فهي أن يظهر له ديونيسودوروس أنّ الجواب الذي أعطاه ليوثيديموس وبدا أنّه الجواب الصّحيح هو الخطأ وأنّ جوابه الأوّل الذي سفّهه يوثيديموس هو الصّحيح! وهذا هوتطبيق ما أسرّ به ديونيسيدوروس لسقراط قبل قليل عندما أكّد له بأنّ كلينياس الشابّ سيخسر الجولة مهما كان جوابه (!).
الحوار-الفخّ الذي نصبه ديونيسودوروس لكلينياس جرى كالتّالي:
ديونيسودوروس: أخبرني يا كلينياس ، عندما كان أستاذ اللّغة والقواعد يُملي عليك شيئاً ممّا يعلمه هل كان الأولاد العاقلون أم الجاهلون هم الذين يتعلّمون ما يمليه؟
كلينياس: العاقلون
ديونيسودوروس: إذن العاقلون هم الذين يتعلّمون وليس الجاهلون، وهذا يعني أنّ جوابك الأخير ليوثيديموس كان جواباً خاطئاً.مرّة أخرى. وكما روى سقراط لكريتو هبّ أنصار الرّجلين جَذلِين بالأسلوب الذي خَيّب فيه ديونيسودوروس الشابّ المسكين كلينياس مجدّداً.
أخذ يوثيديموس ناصية الحديث مع كلينياس وسأله: هل أولئك الذين يتعلمون يأخذون أشياء يعلمونها أم أشياء لا يعلمونها؟
وهنا -يقول سقراط – انحنى ديونيسودوروس باتّجاهه ليُسِرَّ في أذنه مجدّداً أنّ الأمر سيتكرّر أي أنّ كلينياس سيخسر الجولة مهما كان جوابه!
كلينياس: الذين يتعلّمون يتعلّمون الأشياء التي لا يعلمون عنها
يوثيديموس: أليست لك معرفة بالأحرف؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: كلّ الأحرف؟
كلينياس: كلّها.
يوثيديموس: إذن أنت لا تتعلّم كلّ ما يُملي الأستاذ بل الذي لا يعرف الأحرف هو الذي يتعلّم
بعد يوثيديموس تدخّل ديونيسودوروس ليبدأ جولة جديدة من هذه التّرّهات مع الشابّ الذي بدا عليه الضّيق أكثر فأكثر، وحسب سقراط بدا الشابّ مثل كرة يتقاذفها هذان السّفسطائيّان في لعبة مشينة ليس فيها شيء من تعليم الفضيلة بل كلّ ما فيها احتيال بالكلام واللّامنطق وهدف واحد هو تحطيم الطّرف المحاور. وقد ثارت الشّفقة على الشابّ في نفس سقراط وأدرك أنّه بات الآن في حاجة إلى المساعدة.
عند هذه النّقطة في المحاورة، وبعد أن يظهر سخافة الأسلوب السّفسطائي ينتقل أفلاطون ليقدّم حواراً مختلفاً تماماً يجري الآن بين سقراط وبين كلينياس، أي الشابّ نفسه الذي سعى السّفسطائيّان يوثيديموس وديونيسودوروس لإحباطه بمنطقهما الشّكلي الملفّق وأحابيلهما الكلاميّة. وقصد أفلاطون أن يقيم فوراً المقارنة بين أسلوب السّفسطائيين وبين الأسلوب السّقراطي في تربية الشّباب وتوجيهه نحو الفضيلة والسّعادة. من الناحية التقنيّة يبدو وكأنّ الحوار يجري جانباً بين سقراط والشابّ لأنّه يستمرّ لبعض الوقت، ممّا يعني أنّ الآخرين انشغلوا في نقاش آخر ممّا أعطى سقراط الفرصة لكي يحدّث كلينياس.
بادئ الأمر أوضح سقراط لكلينياس أن يوثيديموس وديونيسودروروس كانا يلعبان به ربما على سبيل تدريبه وشد عوده (سقراط يحاول دوماً إلقاء وجه إيجابي على أيّ أمر قبل أن يصل بمحاوره إلى النقطة التي يريد أن يخرج بها). واعتبر سقراط مناورات الرّجلين من قبيل “الرّقص الاحتفالي” حول كلينياس. وأضاف قوله إنّ الرّجلين غير جادّين وأنّهما يستخدمان علمها لنصب الشّراك للنّاس وتضليلهم عبر اللّعب على الكلام. وشبّه سقراط ما فعله السّفسطائيان بمن يسحب كرسيّاً من تحت شخص يهمّ بالجلوس عليها فيسقط الأخير أرضاً، فيغرق هذا في ضحك ساخر من صديقه الذي وقع على قفاه. وهذا التّشبيه الأفلاطوني لفعل السّفسطائيين فيه إدانة شديدة واتّهام لهم بسوء الأدب والرّعونة في التّصرّف.
ثم يبدأ سقراط هذا الحوار مع كلينياس يبدأ بسؤاله أولا: أليس ما يسعى إليه جميع الناس هو السعادة
كلينياس : لا يوجد إنسان على الأرض لا يسعى إلى السّعادة.
سقراط: بما أنّنا نسعى جميعاً إلى السّعادة فكيف نكون سعداء؟ ألا نكون سعداء إذا كان لنا العديد من الأشياء الجيّدة؟
كلينياس: بالتّأكيد
يسأل سقراط بعدها إذا كانت الصّحّة مثلا سبباً للسّعادة، وكذلك اليُسر أو الثّروة أوالوسامة أو الجمال وعلى كل هذه الأسئلة يجيب كلينياس بالإيجاب. يضيف سقراط عوامل مثل الأصل الشّريف والسّلطة وعُلُوّ المقام في وطن الإنسان كأسباب إضافية للسّعادة فيوافق كلينياس أيضاً.
سقراط: لكن ماذا تقول في اعتدال المزاج والشّجاعة والعدل، ألا يجب يا كلينياس أن نضيف هذه القيم إلى خانة الأمور الحسنة أي التي تعطينا السّعادة؟
كلينياس: بالتّأكيد
سقراط: فكّر يا كلينياس إذا كنا قد نسينا سبباً يحقق السّعادة أيضاً.
كلينياس: (بعد تفكير) لا أظنّ أنّنا نسينا سبباً وجيهاً من أسباب السّعادة
سقراط: لقد نسينا أهمّ سبب وهو حُسْنُ الطالع أو التوفيق. إنّ أبسط النّاس يعلمون أنّ التوفيق هو أهم سبب من أسباب السّعادة.
يوافق كلينياس على اقتراح سقراط، لكنّ الأخير يفاجئه بأنّ موافقته هنا في غير محلّها لأنّ كل ما ذكر من أسباب السّعادة قبل ذلك هي التّوفيق بعينه وحُسن الطالع، وبالتالي لم يكن ضروريّاً أن يذكر حُسن الطالع لأنّ في ذلك تكرار للأمر نفسه.
بعد ذلك سيُبيِّن سقراط لكلينياس أنّ الحكمة هي التي تجلب التّوفيق للمرء لأنه بفضل الحكمة فإنّه لن يضلّ المرء أبداً، وسيقوم بعمله جيّداً ويحقّق النّجاح. على هذا الأساس يبيِّن سقراط لكلينياس أنّ من يمتلك الحكمة لا حاجة له بحُسن الطالع أو الحظ.
يُذكِّر سقراط كلينياس بما كان قد بدأ به حديثه حول السّعادة وكيف تنجم عن امتلاك الأشياء الحسنة ، ثم يسأل الشّاب: هل تأتي السّعادة من امتلاك أشياء حسنة لا نستفيد منها أم من امتلاك أشياء حسنة نحقق فائدة منها؟
كلينياس: من أشياء نحقق فائدة منها.
سقراط: وهل نحقّق أيَّ فائدة منها إن لم نستخدمها؟
كلينياس: بالتّأكيد لا
سقراط: إذن أيّ إنسان سعيد لا يكفيه أن يكون لديه أشياء حسنة بل عليه أن يقوم باستخدامها.
هنا يبين سقراط أنّ المقصود هو استخدام الأشياء بالحقّ لأنّ استخدام الأشياء التي نمتلكها بالباطل هو أسوأ من عدم استخدامها، لأنّ الأوّل يفعل الشّرّ بينما الثاني لا يفعل خيراً ولا شرّاً.
سقراط يسأل بعد ذلك: أليست المعرفة هي التي توجِّهنا لاستخدام الأشياء الحسنة التي بين يدينا والعناية بها؟ وهو يبين لكلينياس أنّ المعرفة هي التي تعطي المرء ليس فقط التّوفيق بل أيضاً النّجاح. كما أنّه يظهر للشابّ أنّ الحكمة هي الخير الوحيد الذي يتحصّل للإنسان وليس الممتلكات، وأنّ الجهل هو الشرّ الوحيد الذي يصيبه. بناء على ذلك فإنّ كلّ إنسان عليه واجب تحصيل ما أمكنه من الحكمة قبل التّفكير بتحصيل المال وأنّ عليه أن يطلب الحصول عليها من أب أو من معلّم أو صديق سواء كان مواطناً أم أجنبيّاً.
هنا يثير سقراط نقطة تشكل مفترق خلاف أساسيّ مع السّفسطائيّين وهي أنّ الحكمة يمكن تعليمها ولا تأتي بصورة عفويّة للإنسان. على هذه النّقطة يسارع كلينياس للموافقة مؤكّدا لسقراط أنّه يؤمن بانّ الحكمة يمكن تعليمها، وهذا ما بعث السّرور في نفس الأخير.

أفلاطون الحكيم
أفلاطون الحكيم

سقراط يتحوّل لفضح السّفسطائيّين
بعد إعداد كلينياس وتوضيح الأمور له أخذ سقراط يمهّد لجولة مواجهة مع السّفسطائيَّيْن اللّذَيْن بدآ بمحاولة هدم معنويات الشابّ وإظهار تفوّقهما بحيل كلاميّة. سقراط أوصل كلينياس إلى أنّ كلّ امرئ يهدف إلى السّعادة، وأنّ السّعادة تأتي من الحكمة ومن المعرفة بكيفيّة التّعامل مع الأشياء، مثل الثّروة أو المهارات المختلفة. والأهمّ أنّ الحكمة أو المعرفة يمكن أن تتأتّى بالتّعليم. وفي هذا التّأكيد الذي أوصل سقراطُ كلينياسَ إليه تمهيد مهمٌّ للمواجهة لأنّ السّفسطائيّين لا يعتقدون بأن الحكمة أو المعرفة يمكن تعليمها.
توجّه سقراط هنا إلى الأخَوَيْن يوثيديموس وديونيسودوروس وقال:
أوَدّ أن أعلم رأيكما في ما إذا كان على هذا الشاب (كلينياس) امتلاك المعرفة كلها أو أن هناك نوعا من المعرفة يمكن أن يجعله صالحا وسعيدا وما هي تلك المعرفة في هذه الحال؟ وكما أوضحت سابقا فإننا نعلق أهمية كبيرة على أن نعطي هذا الشاب المزيد من الحكمة والفضائل.
على هذا السؤال البديهي كان جواب ديونيسودوروس صادما فعلا . فهو سأل سقراط: هل أنت جادّ في هذا السؤال أم إنك تمزح؟
أجاب سقراط: نحن جادّون تماما
ديونيسودوروس: أي أنكم ترغبون فعلا في أن يتعلّم كلينياس الحكمة؟
سقراط: بالتّأكيد

ديونيسودوروس: أليس كلينياس حكيماً بعد؟
سقراط: نحن نتمنّى أن يصبح كذلك وأن لا يكون جاهلاً.
ديونيسودوروس: أيّ أنّكم تريدون منه أن يكون ما ليس هو
دهش سقراط لهذا التّفلسف. لكن ديونيسودوروس أكمل منطقه الأعوج بالقول: أنت تريد من كلينياس أن يكون إنساناً آخر غير كلينياس أي أنّك تريد منه أن يموت؟
هذا الجواب من ديونيسودوروس فجّر الوضع إذْ هب ستسيبّوس وهو صديق حميم لكلينياس غاضباً مخاطباً السّفسطائيّ بالقول: لولا واجب الأدب أيّها الغريب لكنتُ قلتُ لك: ليذهبْ بك الطاعون! ما الذي يجعلك تردّد مثل هذه الأكاذيب عني وعن الآخرين.
أخذ يوثيديموس الحديث ليسأل ستسيبّوس: وهل تعتقد أنّ بإمكان إنسان أن يقول كذباً؟ ويبدأ نقاشاً طويلاً آخرَ لا يقلّ عقماً عن الحوارات السّابقة، لكن يظهر من خلاله مدى اعتماد السّفسطائيّين على المماحكة والجدل اللّامنطقي من أجل كَسب جولة النّقاش ستسيبّوس الذي يتمتّع بثقافة وبشخصيّة نقديّة وصراحة ردّ على يوثيديموس بالقول: ماذا تعني بقولك هذا يا يوثيديموس؟ لقد كنت أُدْهَشُ دائماً وأنا مندهشٌ الآن لسماع هذه المقولة التي تردّدها والتي استخدمها تلامذة بروتاغوراس وآخرون قبلهم، إنّها تبدو لي فكرة رائعة وانتحاريّة كما هي مدمّرة وهي قولكم: “لا يوجد شيء اسمه الكذب” لأنّ المرء إمّا أن يكون صادقاً في قوله أم ان يكون كاذباً. وأنا أسألك يا يوثيديموس: هل أنت جادٌّ في قولك أنّه لا يوجد هناك جهل أم أنّك تستخدم القول على سبيل المثال أو المجاز.
يوثيديموس: فلتدحض هذه المقولة إذن.
ستسيبّوس: كيف تطلب منّي أن أدحض قولك وأنت القائل بأنّه لا يمكن لأحد أن يقول كذباً؟!

“سقراط يخاطب السّفسطائيّ يوثيديموس: إنْ لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبـــــرني بحقّ السماء ما الذي أتيــت إلى هنا لتعلِّمه؟!”

الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثة
الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثةال

هجوم مباغت من سقراط
كان جواب ستسيبّوس مفاجئاً ومفحماً للسّفسطائيّ المغرور. وفي هذه اللّحظة قرّر سقراط التّدخّل، موجّهاً الكلام ليوثيديموس.
سقراط: إنّ لديّ فهماً شحيحاً لهذه الأمور المعقّدة وآيات الحكمة التي تأتي بها يا يوثيديموس، وأنا أبذل جهداً لكي أفهم تلك الأمور. لذلك أرجو منك أن تعذرني إن طرحت عليك سؤالاً أحمقَ وهو: إذا كان الكذب غير موجود وإذا كان الرّأي الخاطئ أو الجهل كذلك لا وجود لهما فإنّه لن يكون هناك عمل خاطئ لأنّه لا يمكن للمرء أن يرتكب خطأً في العمل، أليس هذا ما تعنيه؟
يوثيديموس: هذا ما أقصده
سقراط: سأطرح عليك الآن السّؤال: إن لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبرني بحق السّماء ما الذي أتيت إلى هنا لتعلِّمه؟ ألم تَقُلْ قبل قليل أنّ في إمكانك أن تُعلِّم الفضيلة أحسن من أي إنسان آخر لأيِّ شخصٍ يرغب في تعلُّمها؟
هذا السّؤال من سقراط يُعتَبرُ ذروةَ الحبكة الأفلاطونية وهو ولا شكّ النّقطة التي تهاوى عندها مثلَ بيت من الرّمال منطقُ السّفسطائيّين.
ماذا كان ردّ فعل ديونيسودوروس على هذه الصّفعة من سقراط؟
لنسمع كيف أجاب هذا الدّعيّ قال: هل أنت جاهل إلى هذه الدّرجة يا سقراط بحيث تثير الآن كلاماً قلتَه في أوّل الجلسة أوربّما كلاماً قلتَه في العام الماضي؟
أي أنّ هذا السّفسطائيّ لم يجد دفاعاً سوى لَوْم سقراطَ كيف يثير في وجهه كلاماً قاله قبل قليل، “أو قاله السّنة الماضية”! وهذا بالطبع تدليسٌ صريحٌ واستهزاءٌ بعقول الحاضرين كـأن ديونيسودوروس يأخذ بالقول المأثور “كلام الليل يمحوه النّهار” أي لا قيمةَ لأيّ كلام أوموقف فالمسألةُ كلُّها إذن لَعبٌ.
حافظَ سقراط على هدوئه متابعاً المناقشةَ، مضيِّقاً حلقة المنطق عليهم ومظهراً تناقض كلامهم في أيّ أمر يتحدّثون به. وبالطّبع فإنّ هدفَ سقراط لم يكن النّقاش للنّقاش بل لكي يُظهر للشّباب الحاضرين بمن فيهم كلينياس وستسيبّوس هُزالَ منطق هذين الغريبين عن المدينة كما أصبح يسمّيهما، مُسْدِياً بذلك خدمة الحكمة بصورة غير مباشرة للشّبان الحاضرين.
أحد الأمثلة على تهافت منطق الرّجلين كانت مثلاً رفض ديونيسودوروس أن يجيب عن أسئلة سقراط وإصراره أن يجيب سقراط بنفسه عن أسئلته. في مكان آخر يُحرج سقراط ديونيسودوروس في مسألة فيغضب يوثيديموس على أخيه مظهراً له أنّه أعطى بأدائه الضّعيف فرصة لكي يحشرهما سقراط ويظهر فشلهما.
هنا يعيب سقراط على يوثيديموس ضَعف منطق شقيقه، فماذا كان جواب يوثيديموس:
قال بكل صفاقة: وهل تزعم يا سقراط أن ديونيسودوروس هو شقيقي؟!!!
هذه عيّنة أخرى من اللّامعقول الذي ينحدر السّفسطائي إليه عندما يجد نفسه وقد وقع في الشّرَك الذي ينصبه للآخرين وهو سلوك يقترب من السّخف المطلق.
على هذا النوع من الهذر لم يتمالك ستسيبّوس نفسه فخاطب الرّجلين بالقول: أيُّها الغريبان! يبدو لي، وبغض النّظر عمّا تعتبران نفسيكما أنّه لا مانع لديكما أبداً لإطلاق كلام فارغ ولا معنى له!
هنا يدخل سقراط على الخطّ ليقدّم للشّباب المستمعين وصفاً آخرَ ممتعاً لهذين السّفسطائيّين. فيقول: هذان الرّجلان ليسا جِدّيّيْن على الإطلاق، لكنّهما مثل ساحر مِصرَ بروتيوس يستخدمان السّحرَ ليظهرا بصور مختلفة فيصيبا النّاس بالدّهشة والذّهول.
يغتنم سقراط هذه السّقطة المنطقيّة الأخيرة من يوثيديموس ليُظهرَ في المقابل نظرة الحكمة الحقيقيّة لأمرِ الفلسفة ولأسلوب تحصيل الفضيلة والمعرفة وهو يسهم بذلك في إظهار التّناقض بين العبث السّفسطائيّ وبين الفائدة الكبيرة التي تنجم للإنسان من تحصيل المعرفة.
وهو يخاطب كلينياس وستسيبّوس وأصحابهما مُذكّرا بأنّ الجميعّ اتفقوا على أهمّية دراسة الفلسفة باعتبارها طريق تحصيل المعرفة، لكنّه يوضح أنّ المَعرفة المطلوبة ليست أي معرفة بل هي التي تحقّق الخير لصاحبها. وهو يذكر الشّباب هنا بأنّه “لو عرفنا جميع الأماكن التي يوجد فيها ذهب في العالم أو لو وجدنا طريقة لتحويل حَصى الأرض إلى ذهب فإنّ ذلك العلم لن يكون له أيُّ فائدة إن لم نكن نعلم كيف نستخدم الذّهب”، أو “لو كان هناك علم يجعل النّاس يعيشون إلى الأبد لكنْ دون أن يزوّدهم في الوقت نفسه بعلم يرشدهم إلى الكيفية التي يستخدمون بها ذلك الخلود فما هو نفع ذلك العلم؟”. وكذلك فإنّ تعلّم أيِّ علمٍ لصُنع الأشياء مثل علم جمع المال أو الطب أو أي فن من الفنون الأخرى سيكون بلا فائدة إن لم نتعلم كيف نستخدم هذه الفنون ونفيد منها في طريق الخير. وبهذا المعنى فإن الفن الذي يصنع الأشياء هو غيرُ الفنّ الذي يعلّمنا كيف نستخدمها بالصورة المُثلى، وهذا مثل الفارق بين من يعرف كيف يصنع آلة موسيقيّة مثلَ العود وبين من يعرف كيف يَعزف عليها.
وسقراط يعيد عن طريق هذه الملاحظة التشديد على أهمّية العلاقة بين المعرفة وبين استخدامها، فلا فائدة من أيّ معرفة إذا لم يكن ممكناً استخدامها في أمر مفيد. وفي هذا تمهيد لتسديد ضربةً قاضيةً للسّفسطائيّة التي تتلهّى بالمعارك الكلاميّة وتسجيل النّقاط والظّهور بمظهر التّفوّق، لكن دون أن يكون لما تقوله أيُّ فائدة أو استخدام عَمَليّ. لقد كانت السّفسطائيّة مرض حقيقيّ ابتُليت به أثينا والمدن اليونانيّة في زمن سقراط وما بعده، لكنّه نَهْج لم يَطُل الأمر به حتى ظهر فساده للجميع فلم يبقَ من آثاره إلا ما ندر.

مؤسسة التراث الدرزي

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي.

مؤسّسةُ التّراث الدّرزيّ في إصدار جديد

“حَوْران في الوثائق العثمانيّة”

تُعتَبر مؤسّسة التّراث الدّرزي أحد أهمّ مراكز النّشر المهتمّة بتاريخ الشّرق الأوسط مع إيلاء اهتمام خاص بتاريخ الموحّدين الدّروز، وهذه المؤسّسة الّتي تأسّست عام 1999 بمبادرة من رجل الأعمال الشّيخ سليم خير الدّين الذي يرئس مجلس أمنائها، أظهرت استمراريّة في العمل ومهنيّة في اختيار المواضيع والتآليف. وتهدف المؤسّسة حسب ميثاق عملها إلى “إحياء التّراث الدّرزيّ بنواحيه التّاريخيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة وذلك بدراسته وتوثيقه ونشره في العالم العربيّ وبلدان الاغتراب وفي جامعات ومراكز ثقافيّة في مختلف أنحاء العالم. وهي أصدرت منذ إنشائها سبعة عشر كتاباً باللّغة العربيّة وستّة كتب باللّغة الإنكليزيّة.
واصلت المؤسّسة نشاطها في الفترة الأخيرة بإصدار كتاب بعنوان “بين المركز والأطراف: حوران في الوثائق العثمانيّة”، وقد أشرف على إعداده ووضع مُقدَّمتَه الدّكتور عبد الرّحيم أبو حسين، أستاذ التّاريخ في الجامعة الأميركيّة في بيروت. والكتاب هو المجلّد الأوّل في سلسلة ستصدر تباعاً عن المؤسّسة وتضمّ عدداً وفيراً من الوثائق التي تولّت المؤسّسة، بإشراف الدّكتور أبو حسين ومساعديه الاستحصال عليها من أرشيف السّلطة العثمانيّة في اسطنبول وترجمتها إلى اللّغة العربيّة. ويجري حاليّاً إعداد المجلّد الثّاني الذي سيتناول عهد القائمقاميّتين في جبل لبنان، وتبتغي المؤسّسة من هذا العمل الرّائد تسليط الضّوء على سياسة الدّولة العثمانيّة، ولا سيّما تجاه الموحّدين الدّروز، وتزويد الباحثين بمستندات تاريخيّة أوّليّة حول فترة الحكم العثمانيّ تُسْهم في إغناء البحوث التّاريخيّة عن تلك الحِقبة وتصويب بعض الاستنتاجات الرّائجة بشأن تاريخ جبل لبنان وبلاد الشّام.
كما أصدرت المؤسّسة أيضاً ترجمة إنكليزيّة لكتاب المرحوم الدّكتور سامي مكارم “العرفان في مسلك التّوحيد” الذي كانت المؤسّسة قد أصدرته عام 2006. وتهدف التّرجمة إلى تعريف القرّاء باللّغة الإنكليزيّة، لا سيّما الباحثين الجامعيّين والمغتربين، بهذا الكتاب الهامّ الذي يتناول المبادىء العرفانيّة ومسلك التّوحيد.
ورغبة من المؤسّسة بتعميم فائدة كتاب “تاريخ بيروت” لصالح بن يحيى، وهو أوّل كتاب وضعه مؤلف درزيّ في القرن الخامس عشر، بادرت، بموافقة دار المشرق، صاحبة الحقّ بطباعة الكتاب وتوزيعه، إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب الذي يتناول كما هو معروف أخبار أسرة آل بحتر من أوائل القرن الثّاني عشر حتى القرن الخامس عشر، وهو أحد مؤلَّفين تاريخيين تم وضعهما من قِبَل مؤرّخين درزيَّين يتناولان فيهما تاريخ طائفة الموحّدين الدّروز والمناطق الجنوبيّة من جبل لبنان والسّاحل. (الكتاب الآخر هو الذي وضعه حمزة بن سباط تحت عنوان “صدق الأخبار” وقد تولّت تحقيقه الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائدبيه).
وتناولت إصدارات مؤسّسة التّراث الدّرزي مواضيع متنوّعة مثل “التُّقية في الإسلام”، “الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة”، و “العرفان في مسلك التّوحيد”، و “الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة”، و “تطوّر قضاء الموحّدين الدّروز عبر التّاريخ”، و”المجاهدون الدّروز في عهد الانتداب”، و “فنّ العمارة والزّخرفة في الإمارة التّنوخيّة”، وبالإنكليزيّة ، “المرأة الدّرزية”، و “الموسيقى في الحياة الدرزيّة”، و “ظاهرة التّقمّص”، إلى جانب كتاب شامل عن مختلف العادات والتّقاليد الدّرزيّة بعنوان “أن تكون درزيّاً”. كذلك أصدرت المؤسّسة كتب سيرة لعدد من كبار الشّخصيّات التّاريخيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة ضمّت سلطان باشا الأطرش والأمير مجيد أرسلان والشّيخ بشير جنبلاط ورشيد طليع وعارف النّكدي وسليمان أبو عزّ الدّين وسعيد تقيّ الدّين. كما أصدرت مرجعاً توثيقيّا لكلّ ما كتب عن الدّروز وما كتبه دروز. وتجدر الإشارة إلى إصدار خاصّ للمؤسّسة هو ترجمة عربيّة لكتاب الرّئيس الفرنسيّ السّابق نيكولا ساركوزي حول الحريّة الدّينيّة واحترام الأديان وتقريب الحضارات. (راجع لائحة منشورات المؤسّسة).
وإلى جانب إصدار الكتب تولّت مؤسّسة التّراث الدّرزي تنظيم مؤتمرين علميّين في جامعة أوكسفورد بالتّعاون مع كليّة سانت أنطوني لدراسات الشّرق الأوسط. عقد المؤتمر الأوّل عام 2002 بمشاركة مجموعة مميّزة من الباحثين من لبنان وبريطانيا والولايات المتّحدة وجرى فيه عرض مواضيع متنوّعة متعلّقة بتاريخ الموحّدين الدّروز وأوضاعهم الاجتماعيّة والثّقافيّة. وقد صدرت وقائع المؤتمر في كتاب صدر بالإنكليزيّة عام 2006. وعقد المؤتمر الثّاني في عام 2004 حيث واصل المشاركون الأبحاث التي بدأوها في المؤتمر الأوّل. وتعتزم المؤسّسة تنظيم مؤتمر خاصّ في العام 2017.

منشورات مؤسسة التراث الدرزي بالعربية

Picture of brochuere
Picture of brochuere

العرفان في مسلك التوحيد                                   سامي مكارم
التقية في الاسلام                                             سامي مكارم
الشيخ تقي الدين ابن تيمية                                   احمد حطيط
الاحوال الشخصية للطائفة الدرزية                         الشيخ مرسل نصر
تطور قضاء الموحدين الدروز                              الشيخ مرسل نصر
حوران في الوثائق العثمانية                                عبد الرحيم ابو حسين
تاريخ بيروت                                                 صالح بن يحيى
فن العمارة والزخرفة في الامارة التنوخية                 زينات بيطار
سلطان باشا الاطرش والثورة السورية الكبرى           حسن البعيني
المجاهدون الدروز في عهد الانتداب                      عزت زهر الدين
الامير مجيد ارسلان                                        عاطف ابو عماد
بشير قاسم جنبلاط                                           رياض غنام
نيكولا ساركوزي: الجمهورية، الاديان، الرجاء          حوارات مع تيبو كولان وفيليب فردان
سجّل: أنا رشيد طليع                                        منذر جابر
مشيناها خطى:                                               سيرة عارف النكدي فارس آشتي
سيرة الاديب سعيد تقي الدين                               سليمان تقي الدين
المؤرخ سليمان ابو عز الدين                               اميمة زهر الدين

منشورات مؤسسة التراث الدرزي بالإنكليزية

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2
مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2

The Druze Heritage: An Annotated Bibliography                                        Editor:Rana Y. Khoury
2nd edition                                                                                                  Introduction by Kamal Salibi
Mysticism in the Druze Faith                                                                      Sami Makarem
Being a Druze                                                                                            Fuad I. Khuri
The Druze: Realities and Perceptions                                                       Edited byKamal Salibi
Music in Druze Life                                                                                    Kathleen Hood
Gender & Religion: Druze Women                                                             Intisar J. Azzam

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 1
مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 1

هذه الكتب بالعربية وبالإنكليزية متوافرة في المكتبات ويمكن الحصول عليها مباشرة من مؤسسة التراث الدرزي على العناوين التالية:
هاتف: 01/739750- 01/347923
Email: info@druzeheritage.org
druzeheritage@hotmail.com
www.druzeheritage.org

اللغة والحياة

اللغة والحياة

لا يمكن لأي لغة مهما تحصنت ضد التغيير أن تنجو منه

لا يكابر احد في أن اللغة العربية، ابنة اللغة السامية، وقد نشأت في شبه الجزيرة العربية، خلافاً لما يراه الصديق الدكتور مروان المحاسني رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، وجاء ذلك، في جميع المصادر الثابتة الدقة، والمراجع الصحيحة الاسانيد، حيث ذكرت “ان العربية من اللغات السامية، ترعرعت في قوم قحطان و عدنان، بين العرب العرباء والعرب المستعربة، وهم جميعاً في شبه الجزيرة العربية.
اما انها ابنة السامية،واخت السريانية و العبرية،فليس في ذلك ريب، الا عند الغلاة، او عند الذين ينشدون الامور السياسية، كصديقنا، قبل الالتفات الى الحقيقة العلمية والتاريخية، فالعربية من السامية، وهذا قاطع ولا نقبل الجدل فيه.
وبعد،،،فليست مشكلة اللغة العربية في ذاتها، بل في الذين يضعون مناهجها للطلاب،في المدارس ، والجامعات وليست هذه اللغة العظيمة،بحاجة الى من يدافع عنها،لا لانها لغة القرآن،ووعاء الايمان فقط،ولا لانها مخزون علوم العرب وثقافتهم وتاريخهم وخبرتهم الانسانية،وتراثهم الحضاري فحسب؛ بل لان فيها من الطواعية،والثروة اللفظية¹، والقدرة على استيعاب الفاظ الحضارة، ما يجعلها قابلةً للحياة والاستمرار.
فالمشكلة،اذاً، فينا وليست فيها. والعربية، – يا رعاك الله – لغة ثقافة، وعلينا ان نوازي فيها اليوم، بين الموروث والراهن، ونحن باستمزاجنا هذين معاً، انما نريد اثراءها بالدخيل من الالفاظ التكنولوجية، فلا تضيق (وهي اوسع اللغات) عن مواكبة هذا العصر التقني المتسارع، فللتطور احكامه في مضمار اللغة ما يجعلها وافية بحاجات عصرها. وفي برهة هائلة كالتي نعيشها، لا تكاد لغة، مهمت تحصنت ضد التعبير، ان تكون في نجوة منه.
ان نتاج هذا التقدم العلمي المكتسح، الذي يولد مئات المصطلحات الجديدة، هو حاجة تفرضها صيرورة الحياة على اللغات، فترغمها على المجاراة من اجل ان تعيش، فاللغة التي لا تتسع لحاجات عصرها مآلها الانقراض.
وانت، اذا اردت التعرف على الاطار الحضاري لشعب من الشعوب، في زمن من الازمان،فادرس لغته، ففي عروق اللغة يعيش نبض العصر.
ونعم، ان الاستجابة لمستلزمات التبدل داخل (الانسان) والتطور المحيط به من كل ناح، توجب اعادة النظر في الكثير من مسلماتنا اللغوية، فلا يضطر العرب الى البحث عن لغة صديقة، تفي بحاجات عصرهم وتحمل افكارهم الجديدة، فما تترجم عنه اللغات من عواطف وخواطر، لا يقف عند حد، ولا يمكن حبس اية لغة ضمن سياج وهمي من محتويات المعاجم، ومفردات الثقات، وتقارير المجامع العلمية، لان الميول الباعثة على التعبير، لا تأبه للمعاجم، ولا تعنى بآراء الثقات، ولا تتكيف بتقارير المجامع.. فخوالج الانسان هي لغة الحياة، ولغة الحياة فوق القواميس، واجدني في هذا السياق، مضطراً الى القول ان اعداء اللغة العربية هم اولئك الذين دفعتهم حماستهم (ربما) الى التحجر والانكماش والتصدي، بعصبية الجاهلية، لكل مفردة عصرية، غير عربية، تحتاج اليها الحياة؛ في حين تقضي محبتنا للغة وغيرتنا عليها، قليلاً من الملاينة والانفتاح، فاللغة كائن حي، يولد ويموت، وقدرها ان تأخذ وتعطي، لانه لا يمكنها ان تتطور وتستمرّ، الا اذا كانت لغة حية، تعبر بوضوح عن ثقافة الاحياء وشعورهم واغراضهم، ولكي تكون كذلك، علينا ان نجعلها تتفاعل مع اللغات الحية الاخرى، وان نقنع المتحمسين لها – على غير هداية – ان اللفظ الدخيل، ليس عدواً لنا، بل صديق.
اعرف تماماً، معرفة الخبير، ان العربية الفصحى، لا تعجز عن وضع تسميات عربية لكل ما يطرأ من الفاظ تقنية اجنبية، لأن في لغتنا من الموازين واشتقاقاتها، اي من حروفية الافعال² وتنوعها، ما يضمن لها ذلك، غير ان عدداً كبيراً من هذه التسميات، لا يفهمها اهل العروبة انفسهم، (وشبابنا الطالع بنوع خاص)، في حين ارى وظيفة اللغة (اصلاً) هي التواصل و التفهيم.
فماذا يمنعنا من استعمال اللفظ الاجنبي، بحروفه، او بحروف عربية، مثل:
“الكمبيوتر” و”الانترنت” و”التلفزيون” و”التلفون” وغيرها، كما سماها مخترعوها الاجانب، وانا ضمين لكم ان الوجدان لن يغترب، والقاموس لن يغضب، والعربية لن تبور.

ومشكلتنا اليوم، ان التسميات التي وضعتها وتضعها المجامع اللغوية³، غير كافية للدلالة على المعنى الوضعي والمعنى الاستعمالي للاجهزة التقنية، ما لم نشتق من الاسم – السهل اللفظ – افعالً تراعي الدقة العلمية والدلالة العملانية للوظيفة التي تقوم بها هذه الاجهزة، في حيز الاستعمال.
اننا – يعلم الله – نحب هذه اللغة العريقة حباً جماً، ونغار عليها غيرة بصيرة، ولقد احرقنا رؤوسنا في دراستها والتعمق في فقهها وعلومها ، وانفقنا اعمارنا بحثاً في تاريخها واصولها،غير اننا نحبها بموضوعية وانفتاح، لا بعصبية وانغلاق، ونريد لها ان تفي بمتطلبات العلم وما يحتاج اليه ذلك من جرأة وتصحيح، لأننا نريد ان نحافظ عليها بوعي مسؤول، وان نحرسها بعقولنا، خلافاً للذين يضعونها في صندوق مغلق ويحرسونه كمن يحرسون الضريح.
وبعد، فاننا على مذهب الشيخ عبد الله العلايلي، رحمه الله، ومع شعاره القائل: “ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً، التصحيح الذي يحقق المعرفة” .. واعلم ان (كل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم4).
واذا كان بعض “الاصوليين” في اللغة، يأنفون الدخيل، فما رأيهم بموقف سماحة الامام الاكبر، شيخ الازهر – وهو الاخلص للعروبة، والاعلم بالعربية – حين قال: “اللغة العربية، اوسع اللغات مذهباً، وهي واسعة الصدر للدخيل، ما ان تراه حتى تخلع عليه ثوباً من ثيابها، وترده الى اوزانها، وتتخذه ولداً من اولادها، تعامله معاملتها، فتنشق منه، وتنصرف فيه”؟
واليك طائفة من الاسماء الجامدة، السهلة، التي وضعها علماء اللغة اللبنانيون، في عصر النهضة، ولم يزل العرب يستعملونها في شتى ديارهم – منذ اكثر من مئة عام – ويا حبذا، لو كان ما يولدونه اليوم مثل هذا، فالمشكلة في الجدد القدماء لا في القدماء المتجددين، واريد به “العقلية” وليس العصر.
فقد وضع احمد فارس الشديق لفظ (حافلة) مقابل (اتوبيس) Autobus
و وضع الشيخ ابراهيم اليازجي لفظ (مجلة) مقابل (جورنال) Journal
و وضع الشيخ ابراهيم الحوراني لفظ (مجهر) مقابل (ميكروسكوب) Microscope
و وضع الدكتور يعقوب صروف لفظ (صلب) مقابل (فولاذ)
و وضع الشيخ سعيد الشرتوني لفظ (قطار) مقابل (ترام سكة الحديد) Train chemin de fer
و وضع الدكتور بشارة زلزل لفظ (اللبونة) للحيوانات الولودة التي تغذي صغارها بلبنها
و وضع الشيخ عبد الله البستاني لفظ (عقيلة) مقابل (مدام) Madame
ولفظ (آنسة) مقابل (مدموازيل) Mademoiselle
و وضع الشيخ عبد الله العلايلي لفظ (الاستون) للماسورة تمر الرصاصة المنطلقة عبرها.
ولم ينشد احد من هؤلاء العلماء، استعمال الالفاظ الوحشية الجافية.
ومن الالفاظ (الدخيلة على العربية)التي تقبلتها لغتنا، وصارت من نسيجها، اقتصر على الالفاظ التالية:
بيدر – زبون – سفينة – سكين – ساقية – مسمار – سمسار – سوق (كلمات آرامية)
بارجة – كوب – منديل – ميل (كلمات لاتينية)
ترسانة – قنبلة – بكرة – عربة (كلمات تركية)
ابريق – ببغاء – برنامج – بستان – جاموس – جوهر – خليج – دستور- صندوق (كلمات فارسية)
بطاقة – اسطورة – اقليم – بارود – برج – حوت – زواج – درهم – سفير – قانون – قرش – قرميد – هرطقة (كلمات يونانية)
وبالمقابل فان بعض اللغات الاوروبية، دخلت عليها الفاظ من العربية، خصوصاً بعد الفتح العربي لأوروبا سنة 1453 ومن هذه اللغات: الفرنسية، الاسبانية، الانكليزية، اللاتينية، وسواها.

الشعر العامي

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

-الحلقة الأولى-

سُجّل أوّل نزوح لبني معروف الموحّدين إلى جبل حوران عام 1685 م عندما قدم من جبل لبنان إلى أطراف اللّجاة أحد الأمراء المعنيّين وهو على الغالب الأمير علم الدّين المعنيّ مع عدد من أنصاره الذين استقرّوا في نجران عاصمة اللّجاة، ولكنّ الأمير المعنيّ سرعان ما عاد إلى جبل لبنان تاركًا أمر أنصاره إلى وكيله حمدان الحمدان الذي سيصبح زعيمًا للقادمين الجُدد، ويشير الدّكتور عبد الله حنّا في كتابه “العاميّة والانتفاضات الفلّاحيّة في جبل حوران” إلى محاولات استكشافيّة سبقت هذا النّزوح لأُسَر استقرّت في نجران… وأنّ هذا النّزوح الدّرزي الأوّليّ إلى جبل حوران كان مرتبطًا بالصّراع الدّائر آنذاك في جبل لبنان بين الأسر الإقطاعيّة، وكان هذا الصّراع قد بلغ ذروته فيما بعد في معركة عين دارة 1711م وقد أسفرت تلك المعركة عن نزوح أوسع لليمنيّين ( أحد أطراف الصراع ) إلى جبل حوران حيث نزلوا ضيوفاً على إخوانهم النازحين عام 1685م ثم ما لبثوا أن انتشروا في القرى الشّمالية من جبل حوران بعد صراع دامَ سنوات مع البدو الذين لم يُعمِّروا بيوتًا ولم يزرعوا أرضًا.
وفي مطلع القرن التّاسع عشر 1811م وفد إلى الجبل نزوح درزيّ ثالث مؤلّف من ستمائة أسرة قدمت من حلب، وجاءالنّزوح الرّابع في أعقاب الصّراعات الاجتماعية وتحوّلها إلى صراع طائفيّ عام 1860 م في جبل لبنان، هذا النزوح الرّابع سكنت أسره في المنطقة الشرقيّة والجنوبيّة الشّرقيّة من الجبل وقد نجم عن تلك الهجرات تغيير أساسي في بنية الجبل الديموغرافية لأنّها ضمّت حسب رأي كرد علي بالإضافة إلى فلّاحين من جبل لبنان مجموعات من وادي التّيم والجبل الأعلى (من أعمال حلب) ومن صفد وعكّا وغوطة دمشق وإقليم البلّان، وحسب رأي كرد علي فإنّ الدّروز “أخذوا يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة من اللّبنانين الغربيّ والشرقيّ” والواقع أنّ هذا الانكفاء نحو أخلاق وثقافة البداوة مردّه الأوضاع التي عاشوها في جبل حوران وظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية1.
ومن خلال هذه اللّمحة الموجزة لتاريخ الحضور الدّرزي في جبل العرب ندخل إلى تاريخ الشعر العامّيّ (النّبطيّ) الذي أصبحَ مكوّنا أساسيًّا في الثُقافة الشّعبيّة أو الفولكلور الجمعيّ لأهل جبل العرب.

تطوّر الشّعر العامّي (النّبطي) في جبل العرب
يعودُ بنا هذا العنوان الواسع إلى مرحلة توطُّن الأجداد في جبل العرب والموجات البشريّة المتتالية التي اتّخذت من الجبل مقرّاً لها في نهاية المطاف، منذُ أوّل نزوح من لبنان في أواخر القرن السّابع عشر ومطلع القرن الثّامن عشر الميلاديّ خصوصًا بعد معركة عيندارة عام 1711 التي أدّت إلى أكبر موجة هجرة قسريّة أو اضطراريّة لدروز الحزبيّة اليمنيّة من لبنان بعد هزيمتهم على يد حيدر الشّهابي والدّروز القيسيّة.
وكان من الطّبيعي أن تنقل تلك الموجات معها اللّغة أو بالأحرى اللّهجة التي كان أفرادها يتداولون بها في موطنهم السّابق وهي كانت على العموم اللّهجة اللبنانية المميّزة لأهل جبل لبنان ولاسيّما الدّروز الذين كانت لغتهم أقرب ما يكون إلى اللّغة العربيّة لأجدادهم الذين قدموا إلى لبنان بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشّام. لكن كان من الطّبيعي أيضًا أن تتطوّر تلك اللّهجة تدريجيًّا بتغيّر الموطن والظّروف والتّفاعل الاجتماعيّ والسّياسيّ مع المحيط الجديد الجغرافيّ والسّكّاني والثّقافي. وقد تجلّى هذا التّأقلم في أشعارهم بل وصبغها منذُ البداية بالصّبغة البدويّة مع احتفاظهم باللّهجة المتداولة ذات الجذور اللّبنانية في حياتهم اليوميّة.
في البداية كانت لغة الشّعر العاميّ في جبل العرب هي اللّهجة اللّبنانية المحكيّة التي استقدمها النازحون معهم والتي استعارت من الشّعر الشّعبي اللّبناني (الزّجل) تشكيل القصيدة ولغتها، وهذه اللّغة لم تزل إلى الآن موجودة في أشعار الجبل ولكن بنسبة قليلة قياساً للغة البدو التي سيطرت على القسط الأكبر من الشّعر الشّعبي.. وتنقل لنا الوثائق التّاريخية أُولى هذه الأشعار وهي من نظم أسعد نصار المُتَوفّى عام 1825 م والذي جاء إلى الجبل من راشيّا الوادي في جنوب لبنان، وقد برزت شخصيّة الشّاعر نصّار في غُرّة القرن التّاسع عشر، إذ نظم مجموعة قصائد زجليّة لبنانيّة بحتة وهي لغته التي لم تزل محتفظةً بمعطياتها الأصليّة والتي حاكى من خلالها محبوبته في لبنان بعد أن أصبحت بعيدة عن ناظره وبعد أن حالَ جبل الشّيخ بينه وبينها ..ومنها قوله:
فوق الجبـــــــــــــــــــــــل يــــــا ريح ســــــافــــــــــــــــر بـــــــــالعجــــــــــــــــــــل
نجمي قَـــــــــــــــــــــــــــرّب عليك بْعيد خطوات المجال
غَطَــــــــــــــــــس فــــــــــــي بــــــــــــــــــــــرج عــــــالــــــــــــــــــــــي واختفـــــــــــــى
وْطَــــــــــــــــــــــــــــــــلّ وْنَفَذ من خلف ظَهْــــــرَك يــــــــــــــــــــــــا جبَل
ونلمس في هذا النموذج أسلوب الزّجل اللّبناني المتعارف عليه في إسقاط حرف المد من قافية القصيدة عندما يضطرّ إليها الشّاعر فتراه يوفّق بين “المجال” و “يا جبل” كقوافٍ وهو يعتمد بذلك على المَدّ اللفظي لمفردة (الجبل) وفي هذا شيء من الإلقاء الموسيقيّ الخاص بالزّجل، وهذا الأمر سيبقى أثرهُ جليّاً في أشعار الشّعراء المعاصرين في جبل العرب والذين جاؤوا بعد قرنٍ تقريباً من أسعد نصار أمثال ثاني عرابي وسلمان النّجم عمّار ونجم العبّاس (أبو اسماعيل) وحامد العقباني وغيرهم.
ولكن عندما بدأ أسعد نصّار يخوض غمار الواقع الجديد ووجد نفسه وسط دوّامة من النّزاعات والتّعاملات اليوميّة مع المحيط القَبَليّ البدويّ للجبل بدأ بتغيير (لغة قصائده) في محاولةٍ جادّة لتبنّي المفردات السائدة وصياغة الشّعر بما يمكّنه من إيصال الفكرة والصّورة إلى المحيط الذي يعيش فيه، وهذا ما نلمسه في قصيدةٍ يفخر من خلالها بقومه بني معروف مخاطباً فيها الشّيخ البدويّ فندي الطيّار (قبيلةولد علي من عنزة) إثر نزاعٍ امتدّ لفترة من الزمن بين الفريقين ومنها :
حِنّا بني معروف نحمي الجار لـــــــــــــو جار
نِـــــــــــــقْنـــــــــــى المــــــــزَنَّـــــــــــــــــــــــد2 فْتيـــــلـــــــــــــــــــكْ مـــــا نْـــــــــــــــــــداريــــــــــــــه
وسيــــوفنا الحــــــــــــــــُدبْ تقــــــــــــــــطـــــع كـــــــــــــــــــــــــــــل زِنّــــــــــــــــار
وســـــــــــــــــــــــلاحنـــا لـــــــــــو صَـــــــــــدَى بـــــــالـــدّم نجــــــــــــــــــليـــــــــــه
مـــــــــــا تُذكُــــــــــــــر يـــــــــــــوم مُـــــــــــــــــــرْدُك والـــــــــــــــــــــــــذي صــار
ويــــــــــــوم الجنينـــــــــــــة يــــــا فنــــــــــــــــــــدي اِنـــــــــــت نـــــــــــاسيه؟3
وهذه القصيدة تعتبر من الإرهاصات الأولى للشّعر العاميّ “النّبطيّ” في جبل العرب، ومن الواضح أنّ لغة الشّاعر الأصليّة لم تزل مسيطرةً عليه فتجد القصيدة تحمل خليطاً من المنحى اللّبناني والمفردات البدويّة على حدٍّ سواء، كما أنّه من الواضح أنّ وزن أبيات القصيدة مُضطرب في كثير من المواضع وذلك أنّ الشّاعر نظم في وزنٍ فُرِضَ عليه وهو لم يتعامل معه من قبل وهذا الوزن هو “الشّروقي” كما يُعرف في جبل العرب وأصل تسميته “المسحوب” عند البدو.
وفي تتبّعنا لحركة الشّعر العاميّ (النّبطي) في جبل العرب ندخل في شطرٍ آخر من القرن ذاته، وذلك من خلال قصائد الشّيخ أبو علي قسّام الحنّاويّ المتوفّى عام 1884م والذي برزت شخصيّته في حروب اللّجاة ضدّ ابراهيم باشا المصري في أواخر النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر أثناء الحملة المصريّة على بلاد الشّام والتي امتدّت من عام 1832 حتى 1840، وكانت قصائد الشّيخ الحنّاوي تحمل الخليط اللغوي ذاته الذي حملته قصائد أسعد نصّار، فبين أيدينا مجموعة قصائد تدُلّ على زيادة تأثّر الشّعر الشّعبي في الجبل بلغة البدو نتيجة التّعامل الأطول والأعمق مع القبائل البدويّة وبالذات “السّْمير من ولد علي من عنزة” والسّمير من ولد علي هم فرع من قبيلة الرّوَلَة الكبيرة العنزية الأصل، وكان للشّيخ الحنّاوي دورٌ تاريخيّ في هذا المجال إذ تميّز بالفروسيّة والحنكة السّياسيّة، وعلاقاته العشائريّة الواسعة كما نستدلّ على ذلك من قصائده وأشعاره ومثالنا على هذا أبيات من ملحمته الشّعرية الشّهيرة بـ “ملحمة اللّجاة” التي نظمها في العام 1838م حول حروب اللّجاة ومقاومة بني معروف لحملة ابراهيم

باشا التي قادها ضدّ الموحّدين في جبل حوران، يقول:
من بعــــد ذا ابراهيــــم جرَّد علينـا
يبغى الحرايب عســــكرًا” جرّار
دخل اللّجــا زحفًا بجيشٍ عَرمــرم
و نحنا قـــــــــــلايل و العـدوّ كثـــــــــار
صِحْنـــا كما تهدر سبـــــــــــاع الكواسر
عَ القــــــوم بــــــــــــــالبلـــــــطات و البتّــار3
وبرج الغضب جانــــــــــــــا ابراهيـــم باشا
بـــــــــــالأرناؤوط والتّـــــرك و البلغار
ذَبَحْنا الوزير وكلّ ضباط عسكـــــرو
وثلثين جيشه راح قـَصف اعْمـــــــار
ستّيـــــن كون نـــقابـــــلو و ما نهابــــــــو
و نكســـــر جيوشـو بـــــــقوّة المختار
اخذنا المدافع و الجباخان والذُّخَـر
و الذّبـْــــــح لا يُحصــــــــى لهُ مِقــدار
و كـــــم بطــــل منّا خلاوي إذا لَكـَــد
ْ على الجمع يدعي الجـــيوش دَمـار
يفعل بهم ما يفعل الـــــذّيب بــــــالغنـــــــم
بْضَرْب اليمانـــــــــي الصـّارم البتـّـار
هذي قــــــــلــــــــعتنـــــــا و هذي لجاتنـــــــا
تربـــــة اعْــــــــدانا من دخلـها حـــــار
ترى جدّنا النّعمان خليفة سمـــــــا لخــم
ومنـــــــــذر و هـــــاني ســــادةً أخيار
سلمان والمقداد أيضَـا جــــدودنـــــا
أبو ذر و رفاعـــــة وكــــــــذا عمّــار
وهذه القصيدة تجاوزت المئة بيت وثّقَ من خلالها الشّيخ الحنّاوي مرحلةً تُعَد من أخطر مراحل تثبيت الوجود المعروفيّ في جبل العرب، وهذا النّموذج من القصائد يُسمّى “الهلالي” وسيكون لنا وقفة مع هذا الوزن ومصدرهُ وسبب تسميته في فصلٍ تالٍ من هذا البحث، وفي التّدقيق بالمنحى العامّ لقصيدة الشّيخ الحناوي نجد أنها مستقرّة الوزن أكثر من تجربة أسعد نصّار في “النّبطي “ ولكنّ المفردات والتراكيب المحلّية ذات الجذور اللّبنانية لم تزل تسيطر على جسد القصيدة بشكلٍ واضح مثل ( جرّد علينا ) و (عسكرو ) (ستين كَون) إلخ، مع بروز المنحى النّبّطي الجليّ .وللشّيخ الحناويّ مجموعة قصائد تُعدّ في الطبقة الأولى من الشعر التوثيقيّ أو شعر الأخبار.
ومن ثمّ نصل إلى مرحلة الشّعر النّبطي الأوّليّ لشعراء الموحّدين الذي تحوّل مع الوقت إلى الرّكيزة الأولى للشّعر العاميّ في جبل العرب من حيث لغة القصيدة وجزالة صورها واستعاراتها ومحاكاتها للواقع. وشيخ هذه المرحلة بلا منازع هو الزّعيم شبلي بك الأطرش المتوفّى عام 1904م، والذي استطاع من خلال قصائده توثيق مرحلة وافية من مراحل الكفاح ضد الاضطهاد العثمانيّ. وشبلي الأطرش عاصر الشّيخ الحنّاوي في أواخر حياته وتعرّض للسّجن من قبل العثمانيين وخاض في نزاعاتٍ وثورات محلّية كادت أن تنهي زعامة آل الأطرش في جبل العرب وعلى رأس تلك النّزاعات الحركة الفلّاحية 1885ـــ1890 م (الثورة العاميّة الثانية)، فنجد لدى شبلي الأطرش مجموعة قصائد تخصّ هذه الشّؤون، وفي سياق تتبّعنا لحركة تطوّر الشّعر العامّيّ في الجبل نجد أنّ شعر شبلي يتربّع على عرش مرحلة النّتاج الأوّلي للشّعر النّبطي في الجبل، إذ أرسى هذا الشّاعر قواعدَ مازالت إلى الآن مستخدمة لدى شعراء الجبل بشكلٍ جليّ وذلك من خلال الأوزان المتنوّعة التي نظم بها ومن خلال الأسلوب والشّكل، ولو أخذنا مثالاً من شعره لوجدنا هذه السّمات جليّةً ومنها قوله :
يــــــــــــــــــا راكباً من عندنا فوق سـَــــحوان
حُرًّا مْعنّى يَسـْـــهــــــــــــج الدَّوّ حايل
من ساس عَيْرات اللّحاوي شْعيلان
مثــــــــــل العَنود اللّي يقود الجمـايل
إنسِفْ عليه الكُورْ وِحْــــــزام وِبْطــان
والمَيْـــرَكَهْ أمّ الهَـــــــــــدَب والظّلايــــــــل
الصّبــح من سيناب والضَّوّْ ما بــــــــــــان
ثَـــــــــوِّرْ ودونـــــــــك للنّبـــا والرّســــايل
وهذه الأبيات مُختارة من مطلع قصيدة يرسلها من سجنه في سيناب من الأراضي التركيّة إلى صديقه أبو عجاج من آل بحصاص الرّياشنة في الجبل، ونلاحظ هنا اعتناء الشّاعر بوصف النّاقة (الذَلول الحرّ بلغة البدو) التي يُقدّمها لنا بصيغة المُذكّر ـــ هذه الصّيغة التي ستأخذ مداها فيما بعد عند شعراء الجبل المعاصرين وذلك من خلال قصائدهم الغزليّة النّبطية ـــ والشّاعر هنا يُكلّف راكب النّاقة بإيصال القصيدة، وهذه الناقة كما يصفها سريعة (سحوان) وأصيلة (حُرًّا) وتقطع الفيافي (يسهج الدّوّْ) وغير منتجة أي (حايل) لم تَلِدْ فهي قوِيّة وهذه الصّفة يحبّذها البدو في الناقة التي تُخَصَّص لقطع المسافات الطّويلة، وهي أيضاً من إبِل قبيلة الشَرارات (قبيلة اللّحاوي) الذين عُرِفَ عنهم تربية النّوق المنخوبة المؤصّلة، وهي ذات لون مائل إلى الحُمرة (شعيلان) وهي كالغزال الذي يقود الغزلان (العنود اللّي يقود الجمايل) والجميلة هي مجموعة المها التي كانت تعيش في البراري العربيّة، ومن ثمّ يدخل الشّاعر في وصف كساء النّاقة من (كور) و (حزام) و (بِطان) و (ميركة) .في أبيات مختارة تتخللّها في الأصل أبيات يُمْعن من خلالها بشكلٍ دقيق في وصف كلّ ما يخصّ هذه النّاقة، ومن ثمّ يَصف الدّرب الذي ستقطعه إلى أن يصل إلى صديقه (أبوعجاج) فيمدحه بما يليق به ومن ثمّ يطرح موضوع القصيدة، وهذا الأسلوب مأخوذ عن شعراء البدو المشهورين في نجد وشمال الحجاز وبوادي الشام وهم الذين شَكّلوا مصدر التّجربة الشّعرية النّبطية لشعراء بني معروف في جبل حوران، ومن أولئك الشّعراء البدو محسن الهزاني وابن لعبون ومحمّد القاضي وغيرهم،..وما يهمّنا تبيانه هنا هو مدى تأثر الشعر العامي في جبل العرب بمعطيات ومفردات الحياة البدويّة وأيضاً إبداع الشّاعر في توظيف هذه المكوّنات والمفردات التي أصبحت من معطيات حياته اليوميّة مع التّأكيد على مفارقة لافتة وهي أنّ شاعر جبل العرب لا يتكلّم اللّهجة البدويّة إلّا في شعره، فهو لا يستخدمها في حياته اليوميّة وكلامه النّثري، وسنعرّج على هذا الموضوع في مرحلةٍ قادمة إن شاء الله.
وقد نظمَ شبلي الأطرش أيضًا في الشّعر المحلّي “المَحكيّ” وهذا المَحكي كان بلغته (لهجته) التي يتداولها ولم تحمل قصائده التي نُظمت بالمَحكي الخليطَ اللّبناني البدويّ بل كانت تعبيرًا صريحًا عن لغته الأصلية الدارجة في الحياة اليوميّة ومثالها

بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر
بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر

قومْ يـــــــا مـرسال يـــــــا طَيْر الحَمــــــــام
عا بلاد الشّــــــام وَدّيلـــــــــي سَـــــــلام
إنْ كان هجرك طال يا بدر البُدور
نَفسي عَزَت منّي عَلى الدُنيا السَلام
إِنْ كان هَجرك طال يا بَدر البُدور
يا نُور عيني وَمُهجَتي جُوَّا الـصُّدور
يا ريت لَو كُنـــــا هْفينا بـــــــــالقبــــــور
خان فينا دَهـــــرنا وَالــــــوَقت جـــار
بيظل فكـــري فيك يـــــا نــارًا وَنورْ
دُومْ دايـــــمْ يـــــا حلــــــوْ ليل وَنــــــــــــــــهـار
يا بو خدود معطّرة وَعيون حُــور
يـــــا بَدر يـــــا ريـــّان بــــــــــــانور النـّْـــــــوار

وهذا الأسلوب هو الأسلوب اللّبناني بعينه وهو امتداد للموشّح الأندلسي، ولكنّه باللّهجة المَحكيّة في جبل العرب، اللّغة التي انسلخت عن اللّبنانية والتي بقيت في منأىً عن الانصهار في لهجة البدو والتي هي في المحصّلة اللّهجة المَحكيّة في جبل العرب. ومن هنا كان إبداع شبلي الأطرش الذي عَرَف ماذا يكتب وبماذا يكتب .
وهنا نصل إلى المرحلة التي شهدت ولادة الشّكل النّهائي أو المكتمل للشّعر النّبطي في جبل العرب وهي مرحلة الشّاعر اسماعيل العبد الله الذي عاصرَ شبلي الأطرش في خواتيم حياته وأكملَ مسيرته الشّعرية، وقد لعب العبد الله دورًا كبيرًا في وضع اللًمسات الأخيرة على شكل ومضمون الشّعر النّبطي الجَبَليّ، وذلك بعد أن تمّ الانسلاخ بصورة أتمّ عن اللّهجة اللّبنانية التي نقلها الآباء والأجداد، ونتيجة التّوغّل في الأحلاف والنّزاعات مع البدو. واسماعيل العبد الله شاعر فارس برز في عشيّة القرن التاسع عشر ومطلع العقد الأوّل من القرن العشرين من خلال قصائده التي لاقت انتشارًا منقطع النّظير والتي كانت الوسيلة الإعلاميّة والسّلاح اللّغوي الأمضى في استنهاض الهمم والتصدّي بشعره للإعلام المعادي المحيط بواقع الجبل إن جاز التّعبير .. وقد ساهمَ اسماعيل العبد الله من خلال قصائده وحضوره في توثيق مرحلة تهاوي السّلطنة العثمانية والتي انتهت بسقوطها عام 1918م. وقد عانى الشاعر ما عاناه من السّجن وخوض المعارك في أواخر عهد الاحتلال العثماني، إلا أنّه لم يكحّل عينيه برحيل آخر جندي عثماني عن الأرض العربيّة حيث توفّي عام 1915 على ما يُرجّح .. ومن المادّة التي تركها لنا هذا الشّاعر العملاق نأخذ مثالاً بسيطاً من قصيدةٍ له يجيب من خلالها على قصيدةٍ أرسلت من قبل “اللّحاوي” أحد شيوخ قبيلة الشّرارات حيث تهكّم اللّحاوي فيها على بني معروف في جبل العرب وعلى أحلافهم من العشائر البدويّة المجاورة لهم بقوله :
من الجبــــل جِتْنا جـــــــــــــــــــموعٍ تِبَنّـــى4
مثل سَـــــعاع الجِيْـــــــجْ مِخْتِلف الاجناس5
الكنــــج وابـــــــــن مــــــــــــاضي دليلـــــهنَّه
واهل الجبل ودروز قطّــــاعة الـــــــــــــرّاس6
كــــــــــم واحـــــدٍ منهم لَابلْــنــــــــــــــــا تَمنّــى
مـــــــــــــــا يدري اِنـّـــــــــــه دومْ عَ اللّـــــــوح دَرّاس
حِنّا اليـــــــــاصــــار العدو في وطنّــا
رَصاصْنا ينزل على العظــم والــرّاس7
ومن جواب اسماعيل العبد الله على هذه القصيدة :
قم يا حَمَــــــدْ وَفِّقْ من الهِــجِن دَنّا
سِتّة رَكــــايب يا ولد نُبْــــــل القياس8
يا مَسندي جَدّي الـــــرّكـــــايب9 مْعَنّى
يَمّ اللّحــــــــــاوي شوق مدقوق الْلّعــــــاس
الشّيــــــــــخ تَوَّهْ مظـــــهرًا بَـــــــــــدوْ فَنّـــــــــهْ
من قبل واللهْ ما وَحينـــــاه بقيـــاس
سَوّى علينــــــا قـــــــــــالة الدَّرس لَــنّــــه10
كــــــــــار الفِتى يا قَرْمْ ما عَذْرَب النّاس11
نَذْرِي علـــــى كـــــــل المخاليــــــق حِنّا
الحَضَر راعـــــوا يا فتى وابن عبّاس12
عدوّنـــــــــا فـــــــي عيـــــــــــشــــته ما تهنّــــا
لوْ هو بَعيدٍ من ورا بلاد مِكْنــــــاس

الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل
الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل

نلاحظ هنا أنّ الشّاعر لم يضع من شأن عدوّه بل امتدحه بالفروسية والسّيادة وهذه من أدبيّات الشّاعر الذي يأبى أن يكون عدوّه قليل الشّأن فهو يقارع الأبطال لا ضعاف الهِمّة والعزيمة ومن النّاحية الفنّية نلاحظ أنّنا أصبحنا بحاجة إلى شرح الكثير من المفردات والتّراكيب اللّغوية التي وردت في القصيدة وهذا ما سيأخذ أبعاداً أخرى في مستقبل “الشّعر الجبلي النّبطي” عندما تتفرّع عنه مذاهبٌ شعرية عديدة.
إنها القصيدة البدويّة النّبطية بأسلوبيّتها ولهجتها المكتملة والتي ستصبح لغة الشّعر العامّي الأكثر استخداماً والأوسع انتشاراً في جبل العرب، وطبعًا هذا الكلام لا ينفي وجود الأشعار الجبليّة باللّهجة المحكيّة والتي تجلّت في الفنون القصيرة والعتابا والمطاليع وأشعار النّدب ولكن أعود للتّأكيد على أنّ هذه قليلة بالمقارنة مع هيمنة الشّعر النّبطي .
هذا مثالٌ بسيط عن تحوّل منحى الشّعر بشكلٍ تامّ من اللّهجة المَحكيّة المتداولة (المتحدّرة من اللّهجة اللّبنانية) إلى لهجة البداوة خلال أربع مراحل امتدّت عبرَ أكثر من قرنٍ من الزّمن تقريبًا إلى أن أصبحت السِّمة العامّة لفولكلور جبل العرب، ومن هذه المقدّمة المُبسّطة والتي جسّدنا من خلالها ملامح من مراحل الشّعر النّبطي في جبل العرب ندخل في العدد القادم من “الضّحى” بإذن الله إلى التّعريف الخاصّ بهذا الشّعر وإلى الشعر النّبطي المعاصر في جبل العرب.

دروز سوريا والبداوة

دروز سوريــــا والبــداوة

غّلَبَةُ الشّعر النّبطي والأخـلاق العربيّــة في جبــل العــرب
عنوان لأكبر عملية تفاعـــل ثقافــي في تاريــخ المنطقــة

بيـن الدروز وقبائل الباديـة قامـت علاقـات إعجــاب ونفـور في آن
لكن الدروز أدركوا أهمية التفاعـل مـع الثقافـة والقيـم البدويـة

يعتبر تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب من اللّهجة اللبنانية التي حملها النازحون الأوائل إلى جبل حوران إلى اللهجة النَّبَطيّة البَدوية إحدى أعجب ظواهر تكيّف اللّغات المحكية وتحوّلها، والأعجب في هذه الظّاهرة أنها لم تستغرق أكثر من قرن من الزمن تحوّل فيها شعراء العامية في جبل العرب (جبل الدروز) بصورة تدريجيّة من لغة الزّجل أو الشعر اللّبناني المحكي إلى الشعر النَّبَطي السّائد بين القبائل العربية التي كانت تجوب القفار المحيطة بجبل حوران وتتفاعل مع المجتمع الحوراني الدّرزي بأشكال مختلفة. لقد كانت هناك التّبادلات التّجاريّة والأحلاف القبلية التي عزّز بعضها شوكة بني معروف، وكانت هناك أيضًا المساكنة القلقة على التّخوم ونزاعات الأراضي أو علاقات الجوار التي تتراوح بين مراحل هدوء وتفاهم وبين الاحتكاكات والغزوات والصّراعات الدامية. وكما في كل آن فقد كانت هناك الجهات الخارجيّة التي تسعى بين الحين والآخر لتأجيج النّزاع بين المجتمعين.
لكن مما لا شكّ فيه أنّ تاريخ دروز الجبل لم يكن تاريخًا منعزلا لأنّه كان في جزء منه تاريخ تطوّر علاقات السّكان الوافدين بالمجتمع البدويّ والقبائل الكثيرة التي كانت تحيط بهم وتهددهم أحيانا، وكان لهذه العلاقة أثر حاسم ومباشر في إعادة تشكيل هُوّيّة الجبل وثقافته. وربما ازداد هذا التفاعل وبلغ أقصاه خلال القرن التّاسع عشر عندما ضعفت سلطة الدّولة وانتشر الفساد في أوساط الإدارة العثمانيّة فكان على الموحّدين أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم مع البدو الذين اعتادوا حياة الغزو والتجاوز على حياة الحضر والزّراعة وأن يطبّقوا السّياسات والإجراءات الآيلة إلى احتواء التّهديد الخارجي عبر نوع من “تعايش الأقوياء” مع المحيط القبلي طالما أنّ الدّولة لم تكن قادرة على حمايتهم.

“بيئة الجبل تتشارك مع البيئة البدويّة في القيم والعادات والخصال العربية رغم الاختلاف الظاهر في أســـــلوب الحياة أو في المعتــــقد”

إن الكثير من سمات حياة البداوة يتحدّد بالتّناقض والتّعارض مع نمط حياة المجتمع الحضريّ وهذا الصّراع البدويّ الحضريّ كان على الدوام، كما أوضح ابن خلدون، من أهمّ سمات طبيعة حياة المجتمعات وتحوّلها وانهيارها أحيانًا. بالمعنى نفسه فقد طغى التّعارض الحَضَريّ البدوي على العلاقة بين النازحين الدّروز الذين اهتمّوا بإعمار القرى الخَرِبة وبناء مجتمع زراعي مستقر وبين القبائل البدويّة التي تتميز حياتها بعدم الاستقرار المكاني وقدر كبير من الشّظف والحياة الخشنة كما تقوم على عادات الغزو والتنظيم الاجتماعي الحربيّ، وقد كان البدو يتمتعون بحريّة تقليدية في التّنقّل واستغلال الفيافي والمراعي لكنّهم لم يلبثوا أن اصطدموا بـ “الجدار” الدّرزي وببُنية اجتماعيّة تشدها عصبيّة لا تقلّ أبدًا عن عصبية القبيلة وتماسك شديد وقوّة بأس وخبرة قتالية بل وشراسة عندما يتعلق الأمر بحماية الدّيار والذّمار والأرزاق والكرامة.
لقد حدّ الانتشار الدّرزي في بلاد حوران ونجاح الدّروز في حماية مواطنهم الجديدة من حرية الحركة التي كانت للبدو في السّابق في الجبل ومحيطه، وقلّص إلى حد ما وصول هؤلاء إلى بعض أخصب الأراضي في الجبل تلك الأراضي التي كانت مجرّد مراعي موسمية لمواشيهم في الماضي قبل قدوم النازحين من بني معروف إلى الجبل.
بذلك ارتسمت على الأرض حدود جغرافية واجتماعية وثقافية مائعة بين الفريقين وقد فرض الدّروز احترامًا متبادلًا بينهم وبين البدو إذ عاملوهم بتهيُّب واحترام وتعلّموا منهم الكثير، وفي بعض الأحيان قامت بين الفريقين علاقات إعجاب ونفور في آن واحد، وساهم هذا في نشوء إطار للتّعامل السّلمي لأكبر عملية تفاعل مجتمعي وثقافي بين بيئتين يجمع بينهما الكثير في القيم والعادات والخصال العربيّة رغم الاختلاف الظّاهر في أسلوب الحياة أو في المعتقد.
في هذا التّفاعل المجتمعي لعب عامل اللّغة أو لهجة التّخاطب مع الوقت عاملًا حاسما في صياغة العلاقة بين الطّرفين. لقد كان البدو، كما كان عرب البادية دومًا، شعب فخور وفصيح في آن، وهو شعب يكاد يتخاطب في جميع أموره العامة والمهمة بلغة الشّعر حيث كان الشّعر لغة “الدّبلوماسية” القبليّة وهو وسيلة الإعلام الوحيدة والتّواصل بل هو عماد هُوّيّة الشّخصيّة البدويّة ومصدر اعتزازها وعنوان خصوصيّتها. وقد وجد الدّروز في وقتٍ مبكّر الحاجة ماسّة للتّواصل والتّعايش مع تلك البيئة التي تغطّي القسم الأكبر من شمال شبه الجزيرة العربيّة وبلاد الشام وتتشابك عشائرها في تحالفات تجعل منها قوّة يحسب حسابها، كما أنّهم اكتشفوا في الوقت نفسه أهميّة الشعر في التّخاطب وتعزيز روابط الانتماء إلى البيئة الجديدة. لكنّ الظاهرة الملفتة هي أنّ خيار الدروز العفوي ومن دون صعوبة كان التّفاعل مع لغة البداوة وصيغة الشعر البدويّ (النّبطي) في تعبيراتهم الشّعرية حتى أصبح الشّعر الشّعبي في الجبل بمعظمه شعرًا نبطيا فكيف حصل ذلك وما هي دلالاته؟
لقد وجد نازحو بني معروف إلى جبل حوران أنفسهم أمام واقعٍ مختلف وفي محيطٍ تحكمه التّقاليد والأعراف واللغة البدويّة القبلية، لذلك فهم لم يتأخّروا في الاندماج مع الواقع الجديد، ولم تكن من حدود إثنية بينهم وبين مجتمع البلاد التي أعمروها، فقد كانت غالبيّة القبائل البدوية من حولهم من أصول يمنيّة، كقبيلة زبيد على أطراف الجبل الشمالية، وقبيلة السّرديّة في البادية الجنوبية للجبل، وهم اضطرّوا للنزوح من لبنان بسبب حزبيّتهم اليمنيّة، لذا فهم في موطنهم الجديد، جبل حوران، لم يكن بينهم وبين جوارهم حاجز لغة، وكان التباين يتمثّل بالدّرجة الأولى بالتعارض بين حياة التحضّر وحياة البداوة، هذا التباين الذي دخلت عليه السلطة السائدة وحولته أحياناً إلى تنازع ضمن سياسة فرِّق تسد. ورغم هذا كلّه فقد كانت العلاقات الطيّبة تغلب في نهاية الأمر على التناحر والقطيعة سواء مع البدو أو مع سكّان السّهل الحوراني من الفلّاحين.
في الجبل تفاعل الموحّدون مع لهجة المحيط من حولهم، لأنه كان المحيط الغالب ولأنهم كانوا غريزيا يسعون لأن يكونوا مقبولين في الوسط الحورانيّ من خلال الانسجام مع الثقافة السائدة التي لم يكونوا عنها ببعيدين من حيث المبدأ لأنهم جميعًا أبناء البوتقة العربية على تمايزاتها.
ولقد عبرت تلك العملية عن تكيّف تام للدّروز مع البيئة البدويّة والحوارنيّة الأوسع من حيث تفاعل الموحّدين مع ثقافة البادية الأصيلة وقيمها الرّاسخة. وسهّل ذلك عليهم تبنيهم الكثير من مفاهيم منظومة التعبير البدويّة في عمليّة التفاعل اليوميّ مع المحيط، كما أنّ ذلك سهل بلورة الهويّة المستحدثة للنازحين الدّروز في إطار البيئة السّورية الأوسع وفرض في نهاية المطاف الاعتراف بالدّروز في جبل حوران كواقع له شرعيّته غير المنقوصة كما فرض احترام خصوصيّتهم ودورهم في الإطار الوطني. ولنلاحظ أن عمليّة التناغم الدرزي مع البيئة الحورانية وبيئة البادية الأوسع تمثلت أيضًا بتبني بعض مظاهر الزِّي البدوي كالعباءة والكوفيّة والعقال، بالإضافة إلى التأثّر بتقاليد الرّقص الشعبي لمواطني سهل حوران الحوارنة، والأشعار الاحتفاليّة المنقولة من بيئة البادية وسهل حوران، بالإضافة إلى التفاعل مع كثير من تقاليد البادية مثل تقاليد الضيافة والاعتزاز بالعشيرة وتقاليد إعداد الوليمة الجامعة(المنسَف)، وغيرها ..
لكن اللّافت للنّظر مع ذلك أنّه بينما اعتنى الدروز بقوة بإتقان الشّعر النبطي واستخدموه بوفرة في المخاطبة اليوميّة الوديّة أو المتحدّية لأقرانهم من قبائل البادية فإنّهم لم يسحبوا ذلك التّبنّي على لغتهم اليومية المحكيّة، والتي بقي فيها الكثير من سمات اللّهجة اللبنانية الجبلية التي حملوها معهم (ولكن مع دخول اللّكنة السورية). لقد كان في هذه التسوية الفذّة ما مكن دروز الجبل من الاحتفاظ بالمكوّن الأساس لهوّيّتهم الاجتماعيّة والثقافية (تلك التي يعتمدون عليها في ممارساتهم الاجتماعية وعباداتهم ومعاملاتهم في ما بينهم) في الوقت ذاته الذي اعتنوا فيه بتطوير الشّعر البدويّ باعتباره “اللّغة ــ اللّهجة الرّسمية” للمخاطبات السّياسية والاجتماعية في مجتمع البادية الذين كانوا قد أصبحوا جزءا مميّزّا من مكوّناته.
أعددنا هذه المقالة الموجزة على سبيل التّقديم للبحث الجاد والموفّق للشاعر الباحث السوري الأستاذ حازم ناصر النّجم بشأن تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب، والذي يعرض فيه لمراحل تفاعل التعبير الشّعري في الجبل بين اللّغة ــ اللّهجة المحكيّة التي حملها النازحون بنو معروف من لبنان وبين اللغة ــ اللّهجة النّبطية البدويّة الصّرفة، والدّور الذي لعبه شعراء الجبل في حقبات متتابعة في عملية التّفاعل الذي انتهى إلى حالة من التوسّط بين الحالتين. وفي ما يلي الحلقة الأولى من هذا البحث القيّم وسيتبعها في العدد المقبل من الضّحى الجزء الثاني والأخير.

رئيس التحرير

كميل سري الدين

“في حالات قليلة تنازلنا لتسهيل العمل لكن في أمور ثانويّةلكن إنْسألتني اليوم فإنّني سأقول بثقة إنني لن أقبل بها”

تحدّثَ عن تجربتهِ الغنيّةِ في حقلِ الأعمال والعمل العامّ

كميل سَرِيّ الدّين

كنتُ أولَ عربيٍّ يُنتَخبُ إلى مجلس إدارة غرفة أبوظبي

تعجّب صديقي من نيّتي الهِجـــرة إلى فنــزويلاّ
وزيــارةٌ واحــدةٌ إلــى أبوظبــي غيّــرت مســار حيــاتي

الموحدون في المُغتربات مشتّتون جغرافيا وبلا مرجعية
لذا يجدون صعوبة في حماية هويِّتهم ويميلون للاندماج

في غضون 40 عاماً من العمل وكسب النّاس وبناء السّمعة الطيّبة تمكّن كميل سَرِيّ الدّين ابن بلدة بزبدين المتنيّة من بناء مملكة أعمال تمتدّ من صناعة الرّخام التي يُعتبر أبرز ممثليها في الإمارات إلى قطاع السّيراميك ومستلزمات تجهيز الأبنية إلى المقاولات التي دخلها بقوّة عبر مشاريع كبيرة مثل أبنية وزارة الدّفاع وتجهيز متحف اللّوفر وبناء ديوان المحاسبة. العامل الأوّل في نجاح كميل سَريّ الدّين هو دماثةأخلاقه وموهبته في اجتذاب النّاس وكسب ثقتهم. وقد كانت هذه هي العوامل الأهمّ التي وضعته عل طريق النّجاح. لكنّ كميل سرِي الدّين لم يكتفِ بتحقيق النّجاح العمليّ بل أظهر على الدّوام اهتماماً بالعمل الاجتماعي وتميّز بصورة خاصة بمساهماته في المبادرات الرّامية لتعزيز وضع الطائفة ومن هذه المشاريع الأخيرة إسهامه في تجديد مباني دار الطائفة في فردان ببيروت، ودعمه لإعادة إصدار مجلة “الضّحى” بصيغتها الجديدة في العام 2010 علماً أنّه عضو في مجلس أمنائها. وهناك الكثير من المساهمات التي تتمّ بعيدا عن الأضواء ومن أهمّها مبادرته في توفير المنح التّعليميّة الجامعيّة لعدد من أبناء الطائفة المتفوّقين عبر صندوق أنشأه لهذه الغاية. ومن الإنجازات التي تُحسب له نجاحه في تنظيم أوّل مؤتمر اغترابي للموحّدين الدروز في صيف العام 2010 والذي شكّل منعطفا مهمّاً في تعزيز الرّوابط بين المغتربين في مختلف أنحاء العالم وبين الوطن الأم.

“الضّحى” التقت الشّيخ كميل في منزله في الرّملة البيضاء وسألته عن تجربته الطّويلة في حقل الأعمال والاغتراب والعمل الاجتماعي فكان هذا الحوار:

>كيف دخلتَ مجالَ الأعمال؟
دخلته في العام 1965 لِظَرف عائليّ. فقد كنت يومَها طالباً في الجامعة عندما طلب منّي والدي المغترب في ليبيريا أن أساعده بسبب تعرّض تجارته هناك لصعوبات. علماً أنّ تّجارته كانت مزدهرة قبل ذلك بسبب علاقة الصّداقة التي ربطت الوالد برئيس الجمهورية حينها وقد سهَّل ذلك أعمالنا. لكنّ تسلم نائب الرّئيس المنصب ولم يكن والدي على علاقة جيدة به بدّل الأحوال فصرنا نتعرّض لمضايقات مَرّة من دائرة الضّرائب وسواها من مفتّشي الصّحّة وغيرها من دوائر حكوميّة أخرى، فأدركنا أنّه لم يعد لنا نصيب في ذلك البلد، وقمنا في غضون ثلاث سنوات بتصفية تجارتنا وبيع المخازن التّجارية والبناية التي كنّا نملكها، وسافر الوالد إلى الغابون بينما قرّرت أنا السّفر إلى البرازيل التي كان فيها ابن عم للوالد وكان ثريّاً ويشغل منصب حاكم منطقة واسعة، كانت لي آمال بأن يساعدني ذلك على تأسيس أعمالي في تلك البلاد.
وصلت البرازيل وبدأتُ التّجارة بالأحجار الكريمة، وكنت أخطّط للبقاء هناك وتأسيس عمل وكان معي رأس مال جيّد جلبته معي من ليبيريا، لكنّني اكتشفت في وقت قصير أنّ رابط القربى لا يعني لابن عم الوالد شيئاً. وقد أضعف ذلك حماسي للبقاء هناك. أخيراً قرّرت أنّ الأمر لا يستأهل أن أكون في تلك المجاهل البعيدة لذلك وبعد نحو ثلاثة أشهر من وصولي إلى البرازيل جمعت حقائبي وركبت الطّائرة إلى فنزويلا.
وصلت فنزويلّا في العام 1973 وكانت آنذاك في عزّها تعوم على أكبر احتياط نفط في العالم إذ كان الدولار يساوي 3 بوليفر، وعملتها قوية بعكس اليوم والبلد في ازدهارغير مسبوق. لكنّني رغم حماسي لفنزويلّا لم استمرّ هناك بسبب مرض أصابني. تساءلت عندها ربما لا يوجد نصيب لي في هذا البلد أيضاً فغادرت إلى لبنان، وفي نيّتي العودة في وقت لاحق.

 

كميل-سري-الدين-مترئسا-المؤتمر-الاغترابي-الأول-للموحدين-الدروز-في-تموز-2010
كميل-سري-الدين-مترئسا-المؤتمر-الاغترابي-الأول-للموحدين-الدروز-في-تموز-2010

“مغترب درزي من آل القنــطار ســـألني بتــأثّر شــديد: «لماذا لا ندمج المذهب الدّرزي مع الدين الكاثوليكي؟”

> كيف وصلت إلى أبوظبي؟
كانت صدفة بدّلت مجرى حياتي بالفعل، والحياة أقدار. التقيت صديقاً لي من أيام ليبيريا سألني عن خططي فقلت له إنني أفكّر بالرّجوع إلى فنزويلّا . استغرب وقال لي: “لماذا لا تأتي إلى أبوظبي فهي بلاد فرص وكل شيء مطلوب فيها الآن” وكان العام 1977 أي في عزّ الفورة النّفطية. ذهبت في أول زيارة إليه في أبو ظبي على سبيل المجاملة إذ إنني لم أكن أعرف شيئا عن أبوظبي من قبل. لكن عندما وصلت البلد أعجبني. كان العمل متوافراً لأي كان، لأنهم كانوا في مرحلة إعمار وطنيّة وتطوير اقتصاد. وكان عندي رأسمال بسيط لكنه كان كافيا لكي أبدأ العمل. وشجّعني ما رأيته من أنّ النّاس هناك فعلاً طيّبون ويتعاملون على أساس الثّقة والسّمعة. بذلك قررت البقاء فيها وتأسيس عمل تجاريّ.
>كيف بدأت تجارتك؟
بدأت باستيراد الرّخام الإيطالي ولم يكن لي تجربة سابقة في هذا المجال.لكن كان هناك طلب كبير على الرّخام وتعرّفت على شخص إيطالي وبدأت أستورد الرّخام عن طريقه. وكنّا نستورد الرّخام مقطّعا بقياسات مختلفة ومصقولاً جاهزاً للتّركيب لأنّ شركات البناء كانت تريد كلّ شيء جاهزاً لإنجاز المباني أو الفيلّات. بتوفيق من الله أصبحت خلال سنتين أو ثلاث أقوى مؤسّسة في مجال الرّخام في أبوظبي. وهذا ما جعلني أتّجه لإنشاء مصنع الرّخام بالشّراكة مع الصّديق كميل أبوغانم. ثم توسعنا إلى قطاعات البلاط والسّيراميك والمطابخ والحمّامات وغيرها وصرنا الأقوى في الإمارات وأعطي مثالا على ذلك أننا منذ سنتين نفّذنا في أبوظبي في سنة واحدة عقود تركيب لـ 4,000 مطبخ.

>دخلتم بعد ذلك قطاع المقاولات، ما هو الحقل الذي تخصصتم به؟
نحن نعمل في حقل إنشاءات الأبنية ونقوم بتنفيذ مشاريع كبيرة “تسليم مفتاح” أي من مرحلة التّصميم إلى مرحلة تسليم المبنى للجهة المتعاقدة. وقد دخلت القطاع بالشّراكة مع رجل أعمال لبناني وباتت شركتنا من الشّركات الكبيرة وهي مصنّفة كشركة مقاولات من الفئة الأولى. بالطبع نحن نلزّم من الباطن أعمال الألكتروميكانيك مثلا وغيرها من الأمور ذات الطّابع التّقني لكن إدارة عمليّة البناء والتّنفيذ في يدنا.

>ما هي بعض أهم المشاريع التي نفذتموها أوتنفذونها حاليّاً؟
نفّذنا مشاريع كبيرةعديدة لكن أذكر منها مشروع بناء 40 فيلّا للشيخ فلاح بن زايد، وأخذنا بنايات وزارة الدّفاع، كما أنّنا نقوم بتنفيذ بناء ديوان المحاسبة في أبوظبي، وهو مشروع ضخم موقف السيارات الملحق به يتسع لـ 15,000 سيارة وهذا يعطي فكرة عن ضخامة البناء. وأخذنا أيضا عقد البلاط وكل أعمال الرّخام لمتحف اللّوفر في أبوظبي.

>هل لديكم الموارد البشريّة المدرّبة لتنفيذ هذه المشاريع
الأعمال اليوم هي تجميع وإدارة لعناصر التّنفيذ والإتقان في مواصفات البناء المسلّم، ولم يعد هناك شركات تنفّذ كلّ شيء بنفسها. نحن مقاولون فئة أولى ومعروفون بالتّسليم على الوقت وبأفضل نوعيّة.
ونحن جاءتنا فرص كثيرة للعمل بأساليب ملتوية تناقض قناعاتنا. رفضناها رغم ما فيها من وعود بأرباح كثيرة، لأنّ السّمعة الحسنة هي رأسمال يدوم وينمو، أمّا من يدخل تلك الطّرق فإنّه قد ينجح لبعض الوقت لكنّه لا بدّ أن يقع في يوم ما وتنقلب أحواله.

خلال المؤتمر الاغترابي الأول للموحدين الدروز، كميل سري الدين -وقوفا إلى اليمين- مع الأمير طلال أرسلان والزعيم وليد بك جنبل
خلال المؤتمر الاغترابي الأول للموحدين الدروز، كميل سري الدين -وقوفا إلى اليمين- مع الأمير طلال أرسلان والزعيم وليد بك جنبل

>ألم تضطرّ أحياناً لمجاراة أساليب قد تكون مخالفة للأصول لكنّها تصبح لفرط استخدامها بمثابة عُرفٍ معتمد في السّوق؟
في حالات قليلة تنازلنا بعض الشّيء، لكن في أمور غير أساسيّة، لكن إن سألتني اليوم فإنّني سأقول لك بثقة إنني لن أقبل بها. وبصورة عامّة يمكنني أن أقول أن 99% من عملنا كان جادّاً
ووفق الأصول كما أفهمها وأؤمن بها. وأنا على يقين أنّني حقّقت ما حقّقت ليس بالموهبة وحدها بل بتوفيق الله والسّمعة الحسنة والسّعي إلى الرّبح الحلال.

>هل الحظ عامل في النّجاح؟
السّرّ في الفرصة وفي التقاطها في الوقت المناسب. لو انني أردت أن أبدأ عملاً في أبوظبي الآن فإنّ ذلك يحتاج إلى ملايين، ولن يمكنك تحقيق النتائج نفسها لأنّ السوق أصبح فيه لاعبون كُثر ومنافسة. لكنّنا بدأنا مع السّوق في أوائل مراحل الازدهار وهذا عزّز موقعنا مع الوقت. عندما تعمل في سوق لأربعين سنة كما فعلنا تكون اسماً وسمعةً والاسم كلّ شيء أحياناً لأنّ النّاس تعرفك واختبرتك وباتت واثقة من عملك وسلعتك وإتقانك. مثلا فتحنا فرعاً في دُبَيّ ولم يكن لنا وجود هناك. لكنّ العمل انطلق بقوّة لأنّهم يعرفون الاسم من أبوظبي.

>ما هو مستقبل مؤسّسة سَريّ الدين، كيف تحضّر لتأمين الاستمراريّة بعد أنْ تقرّر يوماً التقاعد مثلاً ؟
لا بدّ من تحول الشّركة إلى شركة عائليّة بحيث يصبح أفراد العائلة الواسعة بمثابة مساهمين مالكين، لكنّ الإدارة يجب أن تُعيّن على أساس مِهني وليس بالضّرورة من أفراد العائلة إنْ لم يوجد الشّخص المؤهّل. بالنّسبة للاستمراريّة التي أثرتها ليس بين أبنائي اليوم من هو مهتمّ بالحقل الذي نعمل فيه، فهم تعلّموا وأخذوا المنحى الذي اختاروه. اِبني الأكبر ميسرة تخرّج في الهندسة المعماريّة على نيّة أن ينضمّ إلينا لكنّه بعد أن عمل معنا خمس سنوات عاد واتّجه اتّجاها علميّاً ونال شهادة الدكتوراه في علم النّفس من جامعة باسيفيكا في الولايات المتّحدة وهو يدرِّس في الـ LAU. ربما يفكرون بأخذ دورهم مجدّدا في الشركة في المستقبل، وهذا الأمر يعود إليهم.

>ما هي نشاطات الأعمال التي تقوم بها في لبنان؟
عدت إلى لبنان وفكّرت في العقار باعتباره مجال استثمار مُجْزٍ، وبالفعل اشترينا قطع أراضٍ وبنينا عدداً من البنايات ومازال عندنا قطعتان، ونحن نبني الآن بنايتين في الأونسكو وبناية في الأشرفيّة وأخرى في المزرعة كما نبني “مول” ومركزاً تجاريّاً في قبر اْشمون، وقمنا بتنفيذ مشروع سكني بالقرب من مستديرة الطَّيّونة باتّجاه منطقة الحرج.

تجربة العمل مع المغتربين

>أنت ترأس منذ سنوات طويلة لجنة شؤون الاغتراب في المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز، ما الذي استفدته من عملك مع المغتربين من أبناء الطائفة؟
عندما بدأت العمل في تنظيم شؤون الاغتراب كنت متحمّساً جدّاً لأنني اعتقدت أنّ المغتربين يمثّلون ثقلاً عدَديّاً وإمكانات ماليّة ويمكنهم بالتّالي أن يساهموا في دعم إخوانهم في لبنان. كان لديّ مشاريع مثل إنشاء صندوق عالميّ يُمَوّل من المغتربين. وأذكر أنّني عرضت الأمر على الأستاذ وليد جنبلاط فقال لي: “أنت متحمّس، المغتربون لن يساهموا كما تأمل لأنّهم أصبحوا بعيدين كثيراً”. وبالفعل تبيّن لي في ما بعد أنّ الأستاذ وليد كان يعلم عن وضع المغتربين أكثر مني، فعلى مدى أكثر من ثماني سنوات من العمل مع المغتربين ظهر لي على الأرض صورة مغايرة للطّموحات التي كنت أحملها.

شركة سري الدين تنفذ كافة الأعمال الرخامية لمتحف اللوفر في أبوظبي
شركة سري الدين تنفذ كافة الأعمال الرخامية لمتحف اللوفر في أبوظبي

>هذا يعني أنك أصبحت أكثر واقعيّة؟
أنا الآن واقعيٌّ بالنّسبة لما يمكن توقّعه من المغتربات البعيدة أو “النّهائيّة” وهي المغتربات التي لا يوجد لمغتربيها الدّروز نيّة العودة إلى وطنهم وأنا أتكلّم بصورة خاصّة عن الأمريكيّتين وأستراليا. لكنّني أعتقد أنّ هناك فارقاً بين مغتربيّ المهاجر البعيدة وبين مغتربيّ المهاجر القريبة و”غير النّهائيّة” مثل الخليج وأفريقيا أوحتى أوروبّا. بالنّسبة للمهاجر البعيدة هي مغتربات لها إمكانيّة تذويب الشّخصيّة السّابقة، وقد ذاب كثيرون من الموحّدين الدّروز فعلاً فيها بسبب تفرّقهم جغرافيّاً وعدم وجود مرجعيّة للاهتمام بهم.
في أميركا اللّاتينية مثلا اكتشفنا أنّ القسم الأكبر تبنّى دين البلاد وهو الكاثوليكيّة بينما في الولايات المتّحدة يشرحون الدّين وفق البيئة الأميركيّة وبعضهم أراد أن يمارس التّبشير. والمشكلة هي بالطّبع في الأجيال التّالية من الأولاد الذين لا رابط لهم بالبيئة الأصليّة التي جاء أباؤهم منها، وهؤلاء غالباً انتهَوْا.. اندمجوا!
سأعطيك مثلاً يوضح ما قلته. سافرت ضمن عملي كرئيس للجنة الاغتراب إلى الأرجنتين حيث يوجد مركز ثقافيّ ومكتبة درزيّة أسّسها الأمير مصطفى أرسلان الذي كان مفوّضاً للحكومة العثمانيّة هناك. تبيّن لي أنّ هناك جمعيّة درزيّة “خجولة” إذ لا يتجاوز عدد أفرادها (في كل الأرجنتين) الـ 50 شخصاً. تعرّفت على عائلة القنطار وأصلهم من المتين وهي الآن عائلة كبيرة. شقيقة جدّتي من آل القنطار عندما علمت بوجودي في الأرجنتين قطعت 800 كلم من أجل أن تزورني وتتعرف عليّ مع ابنها الطّبيب. وجدت أن العائلة ثريّة وتملك مستشفى وأعمالاً أخرى. لكنّني اكتشفت أيضاً أنّ هناك ما بين 400 و500 شخص من آل القنطار أصبحوا مع مرور الوقت كاثوليك، بما فيهم شقيقة جدّتي نفسها وابنها الطّبيب. الطّريف أنّني عندما بدأت أخبرهما عن الوطن والدّروز وعن المتين وعن بزبدين وبقية القرى تأثّروا وأجهشوا بالبكاء. ومن شدّة تأثّره وحنينه إلى الوطن فاجأني الطّبيب الشّاب من آل القنطار باقتراح قال: لماذا لا ندمج المذهب الدّرزي مع الكاثوليكية؟! يظنّ أنّه بذلك لا يخسر أسرته في لبنان وفي الوقت ذاته يحافظ عمّا أصبح عقيدته الجديدة في وطنه الأرجنتينيّ. الموضوع طريف بالطّبع لكنّه يدلّ على البَوْن الشاسع الذي نشأ بين نسبة كبيرة من المغتربين وبين موطنهم وعقيدَتَهم الأصلية. لاحظت أنّهم أنشأوا روابط وجمعيّات هدفها اجتماعيّ بالدّرجة الأولى مثل أن يتعرّف الشّباب والشابّات على بعضهم ويشجّع الزّواج بين أبناء العائلات الدّرزية الأصل. لكنّ هذا في نظري ليس كلّ شيء. لذلك أعتقد أنّ على لجنة الاغتراب والمجلس المذهبيّ أن يهتمّا بمغتربي المهاجر القريبة لأنّهم قريبون منّا عاطفيّاً وجغرافيّاً ولأنّهم هم الأكثر مساهمة في قضايا الطّائفة
لاحظت أيضاً أنّ مشكلة الموحّدين الدّروز في المُغتربات البعيدة هي أنّهم متفرقون جغرافيّاً وليست لهم كثافة كبيرة، كما أنّه ليست لهم مرجعيّة ومن دون مرجعيّة من الصّعب الحفاظ على الجماعة وعقيدتها. بالعكس من ذلك الطوائف الأخرى الإسلامية والمسيحية كثيفة العدد ولها مرجعيّات، وهناك اهتمام بها وأموال تردها لبناء الجوامع أو الكنائس، لذلك نجدهم يحافظون على معتقدهم، وهناك على سبيل المثال نحو مليون مسلم في البرازيل وهم في ازدياد. وعندما يسافر المسلم إلى هناك يحصل على دليل يبيّن له أسماء الجمعيّات والمراكز الإسلاميّة التي يمكنه اللّجوء إليها في كلّ مدينة. في الأرجنتين عدد المسلمين يقارب الـ 800,000 أو 2% من السكان.

ذيبين

ذيبيـن

خــطّ تمــاسّ وحصـن دفـاعٍ أمامـيّ
عن إعمــار الموحِّديــن لجبــل العــرب

سعيد الأطرش غرز رمحه على نبع الماء في ظهر الجبل
فتأمنت مياهه إلى ذيبين عبر قناة بطول 35 كلم

السّكن في ذيبين وحواضر الجبل كان محفوفاً بالأخطار
قبل قدوم بني معروف الموحّدين إلى جبل حوران

في ذيبين مضافات عديدة ودور قديمة
قام بإشادتها بنّاؤون شويريون من لبنان

تَتَموضع قرية ذيبين في الرّكن الجنوبيّ الغربيّ من محافظة السّويداء، ولعلّ اسمها أصلاً “ذي بَين” ويعني في لغة اليمن: المكان الواسع الفسيح الممتد بين السهل والجبل، وممّا يدعم صحّة هذه الفرضيّة أنّ السكان القدامى للمنطقة التي تقع فيها ذيبين منذ أكثر من ألفي عام هم من القبائل العربيّة المتحدّرة من أصول يمنيّة كالأنباط والسّليحيين والضّجاعمة والغساسنة.
تبعد ذيبين عن مدينة السّوَيداء مركز المحافظة 30 كيلومتراً إلى جهة الجنوب قرب الحدود الأردنيّة، وترتفع 980 متراً فوق سطح البحر كما تغلب على أراضيها بشكل عام الطّبيعة السّهلية بالنّسبة إلى غالبية قرى الجبل، لكون تلك الأراضي امتداداً لسهل حَوْران الشّرقي المتّصل بجنوب غرب جبل العرب. وينحدر سهلها باتجاه الغرب والجنوب الغربي، حيث تقطعه عدّة أودية ومسيلات شتويّة تنحدر من غرب تلّ صلخد أهمّها وادي ذيبين، وقناة سعيد نسبة إلى مُحْييها سعيد بن اسماعيل الأطرش؛ بعد أن كانت تلك القناة مَنسيّة مُهملة بسبب الخراب المُزمن الذي كان يرين على قرى الجبل، وهي على آثار قناة قديمة كانت دارسة، وكان أهالي القرى المُعاد عمرانها والتي تمر تلك القناة من خراجها يعترضونها، فلا تصل إلى ذيبين التي لم يكن لها من مورد ماء سواها لتستمرّ فيها الحياة. ويروي الحاج مْسَلّم الغوثاني من أهالي ذيبين أنّ سعيداً استطلع حوض تلك القناة إلى أن وصل أعالي الجبل في نبع تلّ القينة، على مسافة نحو 35 كيلومتراً من ذيبين، وهناك كان يغرز رمحه إشهاراً لحقّ ذيبين في ماء الجبل، فلا يجرؤ بعدها أحدٌ على المسّ بتلك القناة التي كانت تصل إلى قريته فتملأ منها مناهلها وتستمرّ لأيّام من الصّيف. وبهذه القناة التي أحياها سعيد دُعِّمَت مسألة التوطّن في ذيبين.
وتحدّ أراضي ذيبين من الشّرق أراضي قرية أمّ الرّمان ومن الشّمال أراضي قرية بَكّا ومن الغرب أراضي قرى صْماد وسِمج وطِيسيا التّابعة لمحافظة درعا، أمّا من جهة الجنوب فقد كانت أراضيها تمتدّ باتّجاه البادية الأردنيّة باتّجاه خِرْبَتي صَبْحَة وصُبْحِيّة إلى أنْ فصلهما الحدّ السّياسيّ مع الأردن على أثر اتّفاقيّة سايكس بيكو عام 1916 التي وضعت حدّاً فاصلاً ضمّ قسماً من أراضيها إلى أراضي إمارة شرق الأردنّ التي أصبحت المملكة الأردنيّة الهاشميّة عام 1946.
وتبلغ المساحة العقارية لمُجْمل أراضي البلدة 99,000 دونم (9,900هكتار) ولكنّها أرض مهدّدة حاليّاً بالتّصحّر بسبب تتابع سنوات الجفاف منذ عقود عديدة. ولئن نظرنا إلى التاريخ المناخي لوجدنا أنّ المنطقة التي تقع فيها ذيبين كانت تمرّ في العصور الغابرة بفترة أكثر رطوبة من الفترة الحاليّة التي تعاني من الجفاف، ففي الأراضي الواسعة من حولها عدة خرائب كانت قرًى معمورة في عصور سالفة تعود لما قبل الفتح العربي الإسلامي، وهي: خربة الصَّوخر إلى الشّمال الشّرقي منها، وإلى الجنوب منها قَصِيل والجَمّة، وأم سْنينة التي تبعد عنها 2 كلم إلى الجنوب الغربي، وخربة خَراب السَّخَل إلى الجنوب الشّرقي من ذيبين بنحو بضعة كيلومترات.

“وثيقة عثمانية عن جبل العرب في القرن التاسع عشر: “الدروز يتميّزون بـأوصـــــاف التفــوّق على من جاورهم”

العمران القديم في ذيبين
في البلدة عمران قديم، وقد تهدّم بعضه، وبالقرب من ذيبين وُجِدت آثار تعود إلى العصور الحجريّة (12000ــ 4000 قبل الميلاد). يذكر الدّكتور علي أبو عسّاف في ص 16 من كتابه” الآثار في جبل حوران” أنّ الإنسان الذي عاش في تلك العصور ترك أدواته الحجريّة مثل الفؤوس والمكاشط والبلطات ورؤوس السهام، ومنها في قرية صْماد المجاورة لذيبين على مسافة 4 كلم، وقد عَرفت ذيبين العمران قبل عصور الأنباط والغساسنة الذين عمّروا البلاد إذ يذكر أبو عساف أنّه “اكتُشف فيها مدفن وكتابات يونانية وما زالت أجزاء من الدور القديمة بيِّنة في البيوت الحالية وفي المزار” وقد أشار توفيق الصّفدي في كتابه “جنوب الشام صدى الإنسان والسّنديان “ ص393، أنّ الباحثة الفرنسية سولانج أوري ذكرت في كتاب لها عن المدافن في حوران نشرته عام 1989 أنّها عثرت في ذيبين على شاهدة قبر نُقش عليها التالي”بسم الله ــ بيت حاتم جاثم بن بشير (أو نسير)… رحمه الله”، وتعود إلى الفترة الإسلامية، أمّا الجدران فهي مُهدّمة وقد استُبدلت بحجارة غير منحوتة.
وفي ذيبين مقبرة أثرية قديمة تقع في الجنوب الغربي منها، يتوسّطها قبرٌ يُزار، يُطلق عليه اسم “الشّيخ شمعون”، ويرجع تاريخه إلى عام 106 للميلاد، ومن التّاريخ نستنتج أنّ هذا الأثر يعود إلى آواخر العصر النّبطي، وهو العام الذي سقطت فيه البتراء عاصمة مملكة الأنباط على يد الرّومان. ولما كانت المنطقة تفتقر إلى الينابيع فقد عمد بناة ذيبين القدامى في تلك العصور الغابرة إلى حفر بُركة كبيرة بطول 60م وعرض 45م وعمق مُتَوَسِّطه نحو 3 أمتار. وتستوعب تلك البركة نحو 8000 متر مكعب وكانت تُملأ بمياه الأمطار التي كانت تُسْتَجَرُّ من أعالي الجبل عبر قناة أنشئت على أساسها القناة الحالية المعروفة بقناة سعيد التي فُرض على أهل القرى التي كانت القناة تعبر خراجها عدم التعرّض لمياهها، بالإضافة إلى عدد من الآبار النّبطية والرّومانية القديمة، هذا بالإضافة إلى عدد من الآبار (الخزّانات) التي استحدثها المُعَمّرون من بني معروف سكّانها الجُدُد.

ومن المعروف أنّ المنطقة تعرّضت للهجران والخراب بعد الفتح العربي الإسلامي، ولكنّها عُمّرت فترة في العهد المملوكي، ومن ثمّ خَربت بعد ذلك لتمرّ بحالات من سكن متقطّع في العهد العثماني. كان فقدان الأمن بسبب عوامل ضَعف سلطة الدّولة وغارات البدو والجراد -الذي كان يضرب البلاد كلّ بضعة أعوام مرّة- من أبرز أسباب تواتر حالات الخراب، وبهذا فقد كان السّكن في ذيبين وسائر حواضر الجبل مُضطرباً وغير مستقرّ قبل قدوم بني معروف الموحّدين إلى جبل حوران.
يذكر المُعمِر المثقّف الأُستاذ ذياب راوَنْد أنّه بعد النّصف الثاني من القرن التاسع عشر توافدت إلى ذيبين بعض العائلات الدّرزية كآل الحسنيّة، وآل راوَند وهؤلاء أصلاً من آل عبد الخالق من جبل لبنان نُسِبوا إلى أمّهم راوَنْد، كان قدومهم بسبب احتياج بني معروف الموحّدين الذين تمّ تهجيرهم من لبنان إلى موطن بديل، وفي تلك القرية وجدوا بعض الأسر المسيحيّة الغسّانية الأصول كآل اللّابد والعوابدة والدّحدل والبُطْرُس وأبو جمرة والعائلات السنّية كآل الكردي وآل الغوثاني. ولكنّ الحاج مْسَلّم الغوثاني أحد كبار تلك الأسرة السنّيّة يذكر أنّ الشيخ سعيد الأطرش عندما قدم من عرى إلى ذيبين استقدم معه جدّ آل الغوثاني إلى ذيبين وفيها حملوا كنيتهم (الغوثاني نسبة إلى القرية التي وفدوا منها)، وأن الأسر التي كانت في ذيبين كانت تعيش حياة قلقة بسبب تعدّيات البدو واللّصوص ونهب المواشي والمُمتلكات، وأن آل النابلسي السّنّة قدِموا إلى ذيبين متأخّرين عن قدوم سعيد إليها.

السيّد حكمت المحيثاوي رئيس بلدية ذيبين
السيّد حكمت المحيثاوي رئيس بلدية ذيبين

ذيبين في زمن الخراب
كانت قرى المقرن القبلي إلى الجنوب من القريّا عبارة عن قرًى مهجورة خالية من السّكّان في مطلع القرن التّاسع عشر بين عامي 1810 و1812، فالقريّا التي سبقت بتوطّن بني معروف فيها سائر قرى المقرن القبلي والتي زارها المستشرق جون لويس بيركهاردت في تلك الفترة كانت قرية شبه خالية من السكان قبل أن يحيي بنو معروف عمرانها ولم يكن فيها سوى “ما يقارب من خمسمئة بيت ولم يكن مسكوناً منها في هذا الوقت إلّا أربعة وإلى الجنوب والشرق من القريّا تقوم خرائب تُدعى العَيّن، بُرْد، نِمْري، بكَّة، حُوْط، سحاب، أمّ الرمّان، الرّافقة”.ورد ذلك في مقتطفات من كتاب رحلات في سوريا، للرَّحالة جون لويس بركهاردت، جبل حوران في القرن التاسع عشر تعريب سلامة عبيد، ص29، بدون تاريخ. ولم يَرِدْ ذكر لذيبين على أنّها معمورة بتاتاً لدى بركهاردت، وهذا يدلّنا على أنّ الخراب كان عامّاً في القرى الواقعة جنوب القريّا بما فيها ذيبين.
في كلّ الأحوال فإنّ القرى الجنوبيّة من المقرن القبلي قد أخذت تدبّ فيها الحياة تدريجيّاً بعد تمركز اسماعيل الأطرش وفريقه من بني معروف في القريّا نحو قُبيل أواسط القرن التّاسع عشر، وخاصّة بعد المصالحة الشّهيرة مع محمّد بن سُمير شيخ قبيلة وُلْد علي، وبروز قوّة الموحّدين في تلك المنطقة حيث أخذت العائلات المعروفيّة بالانتشار جنوباً ترافقها بعض الأسر المسيحيّة والسّنّية التي وجدت في فروسيّة الدروز حامياً لها من غزوات البدو واعتداءات اللّصوص الذين لم يكونوا يجدون رادعاً قبل قدوم بني معروف إلى الجبل.
ويذكر المعمر هايل غبرة من ذيبين بأن الدّولة العثمانية كانت تكتفي بأن تأخذ من شيخ أي قرية مبلغ ليرتين ذهبيّتين عن كل فدّان من الأرض تتم زراعته (الفدّان مساحة من الأرض تتراوح بين مائتين إلى ثلاثمائة دونم وقد تزيد حسب مساحة الأراضي في كل قرية)، وليرتين ونصف الليرة ذهباً عن رقبة الرجل البالغ، وتترك للشّيخ حريّة التَّصرّف بالتّمليك والتّرحيل والتّنزيل وإدارة شؤون الفلّاحين في قريته. ولكنّ بني معروف الموحّدين وبحكم معاناتهم التاريخية مع الأنظمة الحاكمة المتعاقبة كانوا مضطرّين للتّضامن مع بعضهم كعشيرة موحّدة تَسْتَبْسِل ضدّ أي خطر خارجي يستهدف وجودها، وإلى هذا تشير وثيقة عثمانية وردت في كتاب “بين المركز والأطراف، حَوْران في الوثائق العثمانية 1842ــ 1918”1 (ص 436) إلّا أنّ الموحّدين يتميّزون بـ “أوصاف التفوّق على من جاورهم.” ولا بُدَّ أنّ هذا التّمَيّز ساعد على توطيد التوطّن العام للموحّدين الذين تبعهم في التوطّن المسيحيّون والسنّة الذين وجدوا في بني معروف حامياً لهم في تلك القرى التي كان يرين عليها الخوف والخراب قروناً والتي لم يستقرّ فيها العمران قبل قدوم الموحّدين إليها.
كانت الحياة في ذيبين عصيبة على السكّان القلائل من النّصارى والسُّنّة الذين كان اللّصوص والغُزاة يستضعفونهم فيها قبل قدوم سعيد الأطرش وبنو معروف إليها نحو بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وبحلولهم في تلك القرية وبما جمعه سعيد من حوله من فرسان من بني معروف الذين كانوا يُدعَوْن بـ “خيّالة سعيد”، ويروي الحاج مْسَلّم الغوثاني أنّ سعيداَ سلّحهم بـ “قَرَبينات”، وكان يوزّعهم مجموعات حراسة في الليالي بحيث تمكّن وإيّاهم من حماية العُمران في ذيبين، وأنّ النوري بن شعلان شيخ قبيلة الرّْوَّالة وهم فرع من قبيلة عَنَزَة الكبرى نزل ضيفاً على سعيد في ذيبين وفي ذلك شكل من أشكال طلب الصّداقة، وإقامة العلاقة الودّيّة.
كما يروي المُعْمِر هايل غَبْرَة أنّه عندما قدم سعيد إلى ذيبين كان بها دُور قليلة مسكونة، ومعظم دور القرية كانت خالية من السّكان. نزل سعيد بدار قديمة في قمّة التلّة الأثرية للقرية مُشرفة على ما حولها وقريبة من البُرْكة النَّبطيّة القديمة ولم تزل بقايا من تلك الدّور قائمة إلى يومنا هذا، كان هدف سعيد ضَبْط حركة الطّرق من ذيبين وإليها.
ويُجْمع المُعْمرون على أنّ سعيداً كان قد اخْتُصّ بالقدوم إلى ذيبين للتوطّن فيها من بين أبناء اسماعيل، مُرسي مجد آل الأطرش، بهدف حماية الحدود الجنوبية الغربية للجبل لِتَعزيز سكن بني معروف في تلك القرية النّائية المواجهة لبادية يسودها تراث الغزو المُتَحدّر عبر قرون متتالية من تراث آتٍ من الجاهليّة. كان مجيئه إلى ذيبين من ضمن الخطّة التي سبَق أنْ وضعها اسماعيل الأب الذي عمل على نشر وتوطين العائلات المعروفيّة في القسم الجنوبي من الجبل تحت زعامة أبنائه أو أبناء أعمامه كآل النّجم والعبدالله والحَمّود، وقد عمل شبلي الخليفة الثاني الأقوى حنكةً بعد والده اسماعيل على متابعة تنفيذها، وهو الذي وصفته الباحثة الألمانية بريجيت شبلر في كتابها “ انتفاضات جبل الدروز ــ حوران من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال 1850 ــ 1949” بـ “شبلي الأسطوري”.

تربية طيور الرّاماج

منذ سنوات أخذ عدد كبير من سكّان قرى الجبل بتربية هذا النّوع من الطّيور الملوّنة التي هي بحجم طائر السّنونو تقريباً، ولا تجد قرية في محافظة السّويداء تخلو من تربية الرّاماج، فالغرفة الواحدة تستوعب 20 زَوجاً من تلك الطّيور، وهي تحقق للمربين عائدا ماليا جيداً، ويفيد بعضهم أنّ الرّاماج يدخل في صناعة موادّ التّجميل والمواد الطّبِّيّة، وفي ذيبين 350 غرفة لتربية الرّاماج.

مضافة آل غبرة أنشأها بناؤون من ضهور الشوير في لبنان
مضافة آل غبرة أنشأها بناؤون من ضهور الشوير في لبنان

استراتيجية للردع وتنمية السكان
كان سعيد من أقوى أبناء اسماعيل الثّمانية شكيمة، وقد نظّم حماية ذيبين ورفع عنها خطر الغزو بعنف مضاد، فصار الغزاة يهابون الاقتراب من حِمى ذيبين، وخَشي اللّصوص من بطشه فأمِنَ الناس فيها وتوافد إليها المزيد من العائلات المعروفيّة ويذكر المُعمرون من آل الحسنية أنَّ أحد أجدادهم وهو محمود محمّد الحسنيّة الذي سكن في قرية بكّا شماليّ ذيبين بعد قدومه من قرية عين وزين الشوفيّة في جبل لبناناستقدمه سعيد إلى ذيبين وملَّكَهُ سبعة فدادين ونصف أي ما مساحته أكثر من ألفين وستمائة دونم من الأرض، وكان فندي الحسنيّة من فرسان سعيد ورجاله البارزين. ويذكر الشّاعر الشّعبي فوزات غبرة أنّ الشيخ سعيد استقدم أجداده آل غَبْرَة الذين كانوا يسكنون في بكّا وملّكهم ستّة فُدُن من الأرض مساحتها ألفان ومائة دونم شرط إحيائها، وكان يقول لِمَن يوزّع عليهم الأرض “افلحوا وازرعوا بنشاطكم”. كما استقدم سعيد رجالاً من أخواله آل الحنّاوي وملّكهم أربعة وعشرين فدّاناً من الأرض مساحتها نحو اثني عشَرَ ألف دونم. وكذلك فعل مع سائر العائلات التي استقدمها إلى ذيبين.
ويروي المعمرون أنّ أحد اللّصوص الذين كانوا يأتون جماعات وفُرادى من أماكن بعيدة كغَوْر الأردن ونابلس في فلسطين وسواها من براري البوادي المتاخمة للجبل، قَدِمَ ليلاً مع رفاق له إلى ذيبين بقصد سَرِقة الأبقار والمواشي التّابعة لساكنيها، فعَطِش وقصد البركة ليشرب، لكنّه ومن خشيته افتضاح أمره صار يمشي على يديه ورجليه تَشَبُّها بمشية الكلب، وكان سعيد ليلتَها مُرابطاً قرب البُركة فما كان منه إلّا أنْ تَناول اللّص بقبضته القويّة من رقبته وقال له:
لِمَ تمشي هكذا وأنت من بني آدم؟، فأجابه: “دْخَلَك”، أخاف من سعيد.
ــ أنا سعيد، وبما أنّك تخاف من سعيد سامَحْتك، لكنْ إنْ جيت الجبل بقصد السّرقة مرّة ثانية أنت أو غيرك ما قدّامكم إلّا الموت، ارجع لبلادك، وخبّر بِاْللّي جرى لك معي.
ومن اهتمام سعيد بفنّيَّة العمران فقد استقدم بنّائين “شوَيريّة” من ظهور الشّوير في جبل لبنان، قاموا بتركيب الواجهة الحَجَرِيَّة في داره التي لم تزل أجزاء منها على حالها وقد نُقلت حجارتها من قرية صْماد الأثريّة المجاورة شمال غرب ذيبين. وفي ذيبين وحتّى يومنا هذا يشاهد المرء بأمّ العين العديد من المضافات والدّور القديمة قام بإشادتها بنّاؤون شويريون من لبنان.
وبتوطّد الأمن في القرية قَدِم إليها المزيد من العائلات من بني معروف وغيرهم وقد كان سعيد يوزّع عليهم الأرض بحُكْم مركزه كَشيخ فيها. وقد جمع الرّجل بين الشجاعة الفائقة والعفو عند المقدرة والكَرَم.

“رغم أهمية الزراعة فإن أموال الاغتراب من لبنان ودول الخليـــج باتت تشكّل المورد الأهم لأهالي البلدة”

الواجهة الشرقية من دارة الشيخ سعيد الأطرش في بلدة ذيبين
الواجهة الشرقية من دارة الشيخ سعيد الأطرش في بلدة ذيبين

العائلات المعروفيّة في ذيبين
من العائلات المعروفية التي استقرّت في ذيبين بعد آل الحسنيّة ورَاوَند، وآل عقيّل آل غبرة وهؤلاء يتحدّرون أصلاً من آل أبو الحُسن في جبل لبنان، وآل حَسَن الذين قدموا من الشوف في جبل لبنان، وآل حاطوم وقرقوط ورعد ورحروح والمحيثاوي والصّغبيني وماضي وهؤلاء أصلاً من العبيدية في جبل لبنان، والحنّاوي وفرج وأبودقّة، وبْشير والعماد وفندي (أصلاً عبد الباقي)، وأبوحمدان، وأبورجاس والدّبيسي وأبو علي وأبو شاهين والحلبي وعبيد والكريدي وحرب وأبو غاوي ومَنْشا وقطيش وذبيان والرّيشاني وأبو شقرة وغرز الدّين ووهبي.
ولقدوم آل حاطوم إلى ذيبين قِصّة يرويها الشّيخ عادل حاطوم إذ إنّ أجداده غادروا كفر سلوان على أثر قتال مع قوات أرسلها إلى كفر سلوان نحو عام 1800 الأمير بشير الشهابي ويؤكّد صحّة هذه الرّواية ما كتبه ياسر فوّاز حاطوم في ص 23 من كتابه” آل حاطوم في تاريخ بني معروف”، إذ يذكر أنّ “عساكر الشهابي لاحقت آل حاطوم وشتّت شملهم، وعمّم (أي بشير الشهابي) على أهل البلاد أيّاً كان عدم إيواء بيت حاطوم”.
ومن العائلات السّنّية في ذيبين آل الغوثاني الذين قدموا أصلاً من شرق الأردن من بلدة “سما الرّوسان” منذ نحو مئتي عام، وسكنوا قرية حبران، ثمّ انتقلوا إلى قرية الرّحى، ومنها إلى خربة غوثا قرب عرى، ولما استقدمهم سعيد ليسكنوا إلى جانبه في ذيبين أُطلق عليهم اسم الغوثاني نسبة لآخر موقع سكنوه “غوثا”. وفي ذيبين بعض العائلات من البدو وهم أصلاً من عشائر الجبل ويسكنون في حارة خاصّة بهم تقع في جنوب القرية وهم يقومون بأعمال رعي الأغنام والماعز بالمشاركة مع أهالي البلدة ولا يزيد عددهم عن مئتي نسمة.

ذيبين في تاريخ بني معروف
لقد شارك فرسان ذيبين ورجالها في مقاومة الظّلم العثمانيّ، والاحتلال الفَرنسيّ الذي ابتُلِيَت به سوريا بعد طرد العثمانيين من بلاد الشّام وقدّموا قافلة من الشّهداء في معارك الثّورة السّوريّة الكُبرى عددهم ثمانية عَشَر شهيداً حَسْب صالح عْمار أبو الحُسن، وهو المعروف بالشاعر الشعبي للثّورة السورية الكبرى، يذكرهم في ص 19 من ديوانه وفيهم يقول:
ذيبين فيها رجال وعْليها اعتمـــــــــــاد ربّوا الهوايــــــــــــــــل بـــــــــــــالمعارك والجهاد
مــــــــــــــــــــا يهـــــابـــــــــــــــــــوا الموت بيوم الوغــــــــــــــى نار العِدى بالكون يدعوها رَمــــاد
وقد هدم الفرنسيّون دوراً في ذيبين لآل حاطوم وآل قرقوط.

ذيبين اليوم
ذيبين اليوم هي مركز ناحية تتبع لها قريتا أمّ الرّمّان وبَكّا
ويبلغ عدد سكّانها نحو 5022 نسمة.
ويعتمد السكّان في ذيبين على وظائف الدّولة وعلى الزّراعة بشكل محدود ولكنّ أموال الاغتراب من لبنان ودول الخليج وفنزويلّا وغيرها في حقيقة الأمر تشكّل المورد الأهم لأهالي البلدة.
وفي ذيبين شبكة صرف صحّي، وثلاثة آبار إرتوازية لتأمين مياه الشّرب، وهناك مركز صحي تابع لوزارة الصحة وجمعية تعاونية زراعية، وقد أمنت الدولة أباراً حُفرت على نفقتها بهدف تشجيع الزّراعة وتثبيت المواطن في أرضه، وسمحت بِرَيّ ما مساحته 3 دونمات كحدٍّ أعلى للمُزارع، تُزرع باللّوزيات والزّيتون والتّوت الشامي والدرّاق. وتوجد في ذيبين وحدة للإرشاد الزراعي ويتأثر إنتاج البلدة سلبا بعاملين هما انقطاع التيار الكهربائي والصقيع.

بطلات موحدات

1. خسرف باشا:والي بلاد الشام
2. الطواب:جمع طوب وهو المدفع الثقيل المستخدم للتدمير
3. الكبشة: وعاء من نحاس له يد نحاسية طولها نحو (50) سم يستخدمها المضيف لسكب السمن على الزّاد.
4. قفَّرت: أي سكبت السمن فوق الزاد.
5. بتاريخ 31/10/1926.

يا اْمّ اْلْوَحِيْد اِبكي عليه

بطلات معروفيّات

في التّاريخ الكفاحي لجبل العرب

الكولونيل الفرنسيّ أندريا دُهِش لشجاعة بستان شلغين
فاعتمر قُبّعته ثمّ تأهّب وأدّى لها التّحيّة العسكريّة

اختلط جهاد الرّجال والأبطال في جبل العرب عبر الأجيال بجهاد النّساء اللّواتي رفضن في أيّ وقت أن يعتبرن موضوع الدّفاع عن الأرض والعِرض محصورًا بالأزواج والأبناء والأقارب من الشّباب، بل نهضنَ إلى جانب إخوانهنّ وأقاربهنّ ليقمن بدور مؤثّر في قلب الميدان أو خلفه من أجل نصرة المقاتلين وشدّ عزائمهم.
من هؤلاء النّسوة اللّواتي سجّلن مآثر في التّضحية والصّبر على خسارة الأقربين أو اللواتي قُمْنَ بدور مباشر في المعارك؛ حفظ لنا التاريخ أسماء بطلات كثيرات نتوقف هنا عند سيرة بعضهنّ في هذا المقال.

المجاهدة “مُرَّةْ” قَصّوعَة
بدايةً لابدّ لنا من معرفةِ الأسبابِ الحقيقيّة للحملة، ليعرفَ الجميع بأنّهُ منذ أن سكنَ أجدادُنا هذا الجبل كانوا مسالمينَ غيرَ معتدين وهم يردّونَ للمعتدي الصاعَ صاعين، إنّهم مقاومون مدافعون وليسوا مهاجمين إرهابيين كالصّهاينةِ الّذين جاءوا من أنحاءِ العالمِ ليحتلّوا أرضَ فلسطينَ ويشرّدوا شعبَها، فعندما استولى إبراهيم باشا المصري على سوريّة من العثمانيين، أصدر أوامِرَهُ بالتجنيد الإجباري في كافّةِ انحاء سوريّة، وبما أنّ جبل حوران كان قد أصبح ملاذاً للفارّينَ من جيشهِ، ولهذا فقد قرَّرَ إخضاع الجَبَلِ، فأوعزَ إلى والي الشام( شريف باشا ) أن يطلُبَ من أهالي جبل حوران (مُجنّدينَ لجيشه) فاستدعى آنذاك شيخ الجبل الطاعن بالسِّنّ (الشيخ يحيى الحمدان) لدمشق؛ وطلبَ منهُ تأديةَ الضرائب وتقديم المجنّدين، ولم يُقدِّر الوالي وضع الجبل وقلّة عدد سكانه وحاجتهم الماسّة لتأمين المدافعين عنهُم من الشبّان، بسبب غياب سلطة الدّولة على تخوم البادية التي تسودها فوضى الغزو البدويّ..
عندما ألحَّ الشيخ الحمدان على شريف باشا، الوالي المتصلّب برأيه في طلب الإعفاء من تقديم المجنّدين؛ صفعه الوالي على وجهه، فقَرَّرَ الحمدان أن يردَّ الإهانة مضاعفة، قال للوالي: “ابعث قوّة عسكريّة من عندَك وخذ عسكر مجنّدين قَدّْ ما بَدَّك..؟!”.
بعد ذلك بأيّام جَهَّزَ والي دمشق قُوَّةْ عسكريّة مؤلفة من أكثر من 400 عسكري بقيادة علي آغا البصيلي الذي تقدّم بعسكره باتّجاه الجبل ومن ثمّ تمركز في قرية الثّعلة، وتظاهر البصيلي برغبته في التفاوض مع مشايخ بني معروف من جانب وبالتهويل من جانب آخر، غير أنهم أدركوا أنه سيغدر بهم، فبادروه بالضّربة الأولى إذ هاجموه عند حلول الظّلام، وقَتَلوا مُعْظَمَ عساكره، وهَرَبَ الباقون وعددهم ثلاثون عسكريّاً، ولكنّ البصيلي الذي هرب من النّافذة نجا بجلده، ليُبلغ الوالي شريف باشا في دمشق بما حدث لعسكره، وقد أكَّدَ تلك الواقعة قسطنطين بازيلّي الذي كان قنصلًا لدولة روسيا في يافا حينذاك؛ في كتابه “سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني”، ص157.
وكانَ متسلّم حوران عبد القادر آغا أبي حبيب من بين القتلى، فيما استُشْهِدَ من فرسان جبل حوران أحد زعمائه الأبطال وهو إبراهيم الأطرش بن إسماعيل الأول، أثناء مطاردته ما تبقّى من العساكر الهاربين باتّجاه قرية اُزرع.
على أثر ذلك أرسلَ والي دمشقَ شريف باشا حملة ثانية في أوائل عام 1838 مُجَهَّزَةْ بالمدافع عدد أفرادها 8000 جندي وضابط بقيادة محمّد باشا، مُفَتِّشْ الجيش العام يعاوِنُهُ علي آغا البصيلي الهارب من موقعة الثّعلة، وكان عدد المقاتلين من أهالي الجبل لا يتجاوز الـ 1600 مقاتل.
ولكي يتمكّنَ أهالي الجبل من الصمود نقلوا نساءَهُم وأطفالَهُم إلى كهوفِ اللّجاه بعيداً عن أرض المعركة. وعندما بدأ القتال، أبدى فُرسانُ بني معروف من البأسِ والشّجاعة ما أذهل قائدَ الحملة، لاسيما أَنهم أسروا للمهاجمين 50 جنديّاً وقُتل مع القتلى علي آغا البصيلي، لذلك أمر قائد الحملة أحدَ أركانهِ أن يأسُرَ ما يجده في القرى المجاورة من النّساء والأطفال ليُقايض بهم أسراهُ، وعندما عاد إليه القائد المكلّف بأسر النساء والأطفالِ قال له: “لم أجد أحداً في القرى لأنَّها خالية تماماً من السّكان” فأدركَ قائدُ الحملة بحسِّهِ العسكري أنّ أهالي الجبل الذينَ يقاتلونهُ بهذه الشّجاعة والرّوح المعنويّة العالية، قد أمّنوا على نسائِهم وأطفالِهم في الكهوف بعيداً عن ساحات المعارك، لذلكَ أمرَ معاونه أن يُتابع مُهمتَهُ من جديد ويأسُرَ النساء والأطفال من الكهوف التي يختبئون بها.
بدأ القائدُ المكلّفُ بالبحث في غياهب اللّجاه عن الكهوف التي تختبئُ بها نساءُ المجاهدينَ وأطفالُهم؛ وقد وضع بقرب تلك الكهوف بعض المقاتلين ليؤمّنوا لها الحماية اللازمة لدى أيّ طارئ، فجعلوا متاريسهم مخفيّة حول كل كهفِ في أماكن مشرفة تبعد عن مدخله نحو 500م ليتمكنوا من كشف قدوم أيّة قوة معادية قد تقترب من المكان، ومشاغلتها عند اللزوم واستجرارها بعيداً عن مدخله.
فوجئ حُراس أحد الكهوف بقوةٍ من جنودِ إبراهيم باشا تفتشُ المنطقة، وفي تلك اللّحظات الحرجة كانت السيّدة مُرَّهْ قَصّوعَه واحدة من بين لاجئي ذلك الكهف تحتضن طفلها الوحيد الذي كان عمرُه لا يتجاوز الثّلاث سنوات. كان الصغير مريضاً وجائعاً، ولسوء حظّه أخذ الطفل يبكي والأمُّ تحاولُ دون جدوى إرضاءهُ ليكفّ عن البُكاء، عندها تقدّم منها أحد القائمين على الحماية عند مدخل الكهف وقال لها “ لاتفضحوا مخبأنا، سَكّتي ابنك يا بنت الأكارم … لأنّ عساكر إبراهيم باشا عمَ بيدوّروا علينا..” فقالت لهُ مُرَّهْ “ارجع إلى َ متراسك واتّكلْ على الله” لكنّ الصّغير استمرّ في بكائه، فعاد المجاهد من جديد إلى والدة الطّفل ورجاها: “سَكّتي ابنك يا حُرمة… صوتو بدّو يدلّ العسكر علينا، وساعتها بتعرفي شو بدّو يصير فيكي وبالحريم اَللي حولك “ فأجابته بيأس وأسى: “ ارجع لمتراسك، لابد ما لاقي طريقة سكّت فيها ها الطفل”.
كان السكون القهري الرّاعب يخيم على من الكهف من النّسوة والصّغار، وكان الخوف من افتضاح أمر المخبأ يبعث الهلع في نفوس الجميع، حتّى أولئك الرّجال الذين في عراء اللجاة وبين صخورها المسننة كأسنان أسماك القرش يقاتلون بأسلحتهم البدائية جيش ابراهيم باشا المدجّج بأحدث أسلحة عصره… لكنّ الأم المسكينة لم تفلح في إسكات الصّغير، فوضعت اللّحاف فوقه وشدّت عليه قليلاً ليكتم من صوته، غير أنّ الطفل مات خنقاً.
كان عسكر ابراهيم باشا قد وصلوا إلى مسافة نحو 1000م عن مدخل الكهف الذي يمتدّ سرداباً تحت الأرض التي يصولون متغطرسين فوقها، استراحوا قليلاً، كانت الدقائق تتطاول كدهور مديدة بالنسبة لرجال الحراسة، أمّا عسكر ابراهيم باشا الأرناؤوطي فقد تابعوا طريقهم مبتعدين دون أن يهتدوا إلى مكان الكهف لأن مدخله ومتاريس حُماتِه كانت خفيّة بشكل جيد.
بعد زوال الخطر، أخذت الأمّ تبكي ابنها بحرقة، وفوجئ الجميع بأن والدة الطفل الباكي أسكتته إلى الأبد؛ فبكى الجميع لبُكائها، وقالت لها إحداهن: “كيف بتضّحي بابنك الوحيد يا مُرَّهْ؟” تماسكت الأم وهدّأت من روع نفسها، وقالت: “ابني مش أغلى من الشّباب اللّي استشهدوا..يموت ابني ألف موتي ولا ينكشف ستر وحدي منكن..؟!”.
كانت تضحية تلك الأم تضحية جسيمة قلّما عرف التاريخ لها نظيراً وقد وردت حكايتها في كتاب “طفولتي” للكاتب سلامة بن المجاهد علي عبيد كقصّة قصيرة بعنوان :(سَكّتي ابنك يا حرمي) ولم تُشِرْ تلك القصة إلى اسم المعركة أو اسم الوالدة، لكنّني تمكّنت من توثيق تفاصيلها مستعيناً بعدد من مُعَمّري قرى اللجاة، فتبين لي بأنّ والدة الطفل هي بالفعل “مُرَّه قصّوعة” من قرية “وَقْمْ” أمّا والده فهو المجاهد حمّود نَوْفل من قرية “عَمْرَة” شمالي شهبا القريبة من اللجاة

مدينة-شهبا-في-القرن-التاسع-عشر
مدينة-شهبا-في-القرن-التاسع-عشر

“تحت صبيب الرّصاص سقت سعدى ملاعب المقاتليــن ماءً، وألهبت حماسهم للاستبســـــال في المعركة ودحر المعتدين”

المرأة في معركة عُرْمان عام 1896
السّيّدتان المجاهدتان سعدى ملاعب
ودلّة حمزة

أصبحت بلدة “عرمان” في الفترة المتأخّرة من العهد العثماني ملجأ للهاربين من الجنديّة التي كانت تأخذ شبانها للقتال في جبهات الحروب العثمانيّة في البلقان الأوربّيّة، ولهذا فقد لجأ إليها العديد من الرّجال الذين هربوا من التّجنيد ومن ظلم الولاة العثمانيين. وخشية أن يوحي مثال عرمان بالتمرّد على الدّولة من قبل بلدات أُخرى في الجبل قرّرت السّلطات العثمانية احتلال تلك القرية وتحويلها إلى عِبرة لأهل القرى من حولها. وبتأثير المتطلّبات العثمانية تلك أرسل والي الشام خسرف باشا إلى عبده أفندي الجبولي حاكم السويداء في حينه بأن يهيِّئ الأسباب لحملة عثمانية لإخضاعها. وبذلك بدأ عبده أفندي الخطّة بأن أوعز إلى بدو من عشيرة “الصّْفيَّان” باستباحة مزروعات عرمان بأغنامهم، فاضطرّ نواطير عرمان لتنحيتهم عن مزروعاتهم، ووقعت بين الرّعاة ونواطير القرية عدة اشتباكات قُتل خلالها اثنان من الرّعاة، فشكا البدو أهل عرمان إلى حاكم السّويداء عبده أفندي.
هنا أرسل عبده أفندي بطلب وجهاء من عرمان، ومن بينهم ابراهيم الجرمقاني وهلال العطواني وصالح الحلبي ومحمود صيموعة لمقابلته في مكتبه بسرايا السويداء.
حضر وفد الوجهاء إلى السويداء قبل المقابلة بيوم لأنه لايمكنهم في ظروف مواصلات ذلك العصر السّفر من عرمان إلى السويداء ومقابلة المسؤول العثماني في النهار نفسه، ولما كانوا يتشكّكون بنوايا السّلطة تجاههم فقد كان عليهم أن يستشيروا أهل خاصّتهم في السّويداء، ومنهم محمود جربوع مختار المدينة الذي نصحهم بعدم مقابلة عبده أفندي لأنّه سيعتَقلُهم كرهائن لينفّذ أغراضه في عرمان، لذلك عادوا من فورهم إلى قريتهم واجتمعوا مع وجهاء من قرى ملح وامتان، وتعاهدوا جميعاً على مواجهة أيّة حملة قد يجرّدها عبده أفندي ضدّهم.
كان وجهاء عرمان قد تجنّبوا مقابلة الحاكم ، عبده أفندي، الذي رأى في ذلك فرصته للانتقام من أهالي عرمان. لذا فقد ذهب بنفسه إليها على رأس قوّة عسكرية مؤلّفة من خمسين جنديّاً يساعده في قيادتها مشرف آغا بحُجَّةْ البحث عن هاربين من الجنديّة العثمانيّة، ومن بين أولئك شابّان من نبلاء بني معروف هما فارس وقبلان الحمّود الأطرش، وكان يتعمّد القبض على النواطير الذين قتلوا الرّاعيين البدويّين اللّذين اعتديا على مزروعات أهالي عرمان بتحريض منه شخصيّاً.
دخلت القوّة العثمانيّة التي يقودها الجبولي إلى عرمان بدون قتال، كان الأهالي يريدون تسوية وسلامًا مع الدولة، إذ كانوا يأملون أن تنصفهم فتحميهم من تعدّي البدو على مزروعاتهم. نزلوا جميعاً في مضافة الوجيه محمود أبوخير؛ الذي أولم لهم حسب عادات أهل الجبل، ولكن عبده أفندي أرسل مساعدهُ (مُشرف آغا) مع جنديين لإلقاء القبض على النّاطور عبد الله ياغي؛ فأحضراه وهما يشدّانه من ثيابه، ولدى مرورهم أمام مضافة المضيف محمود أبو خير، قال لمشرف آغا: “تفضَّل يا آغا لتناول الغداء ولاحِقْ تاخد زُلُم”. فأجابه مشرف بلهجة تركية هجينة: “أنا بياخد زُلُمْ.. وبياخد راسك كمان”.
غضب محمود أبو خير من وقاحة مشرف، فاستلّ سيفه وهجمَ عليه ليقتله؛ وفي تلك اللحظات تمكّن عبد الله ياغي من الإفلات والهرب من الجنديين فأطلق الرّصاص.
عليه أحدهما، لكنّه أخطأه.
عندما سمع الجنود داخل المضافة صوت إطلاق الرّصاص، خرجوا لاستطلاع الأمر فشاهدوا محمود أبو خير هاجمًا على مشرف آغا لقتله، عندها أطلق أحد الجنود النار على محمود أبو خير فقتله، وفي تلك اللّحظات هجم علي الدّبيسي على مشرف آغا وضربه بالسيف، فأرداه قتيلًا، واشتبك الأهالي مع الجنود.
وهكذا غَيّب الدّم الوليمة!، فانهزمَ عبده أفندي مع من بقيَ حيّاً من جنوده واحتموا داخل مضافة الوجيه ابراهيم الجرمقاني القريبة وأوصدوا بابها من الداخل، وبدأوا بإطلاق الرّصاص من نوافذها باتّجاه الأهالي فقتلوا رجلاً وأردوا أيضًا امرأة كانت مارَّة بالصّدفة.
أثناء انتقال الجنود من مضافة أبو خير لمضافة الجرمقاني، تمكَّن أحد الجنود من الوصول لفرسه، فامتطاها وهرب ليخبر السّلطة في السويداء بما حلَّ بجنودها.
استمر حصار الجنود في مضافة الجرمقاني من قبل أهالي عرمان، بقية نهار ذلك اليوم حتى مغيب الشّمس.
بعدَها صَعَدَ شبّان من البلدة إلى سطحِ المضافةِ، وفتحوا فيهِ ثغرةً تمكنوا خلالها من القفز إلى داخل المضافة والقضاء عليهم مع قائدِهِم عبده أفندي، ولا زالتْ آثارُ تلكَ المعركةِ ماثلة على بابِ مضافةِ إبراهيم الجرمقاني شاهدًا حيًّا على تلكَ الحادثةِ حتى يومنا هذا.
وعلى أثرما جرى في عرمان جَهَّزَ ممدوح باشا القائد العسكري لحاميةِ حورانَ حملةً عسكريّة مؤلفةً من أربعِ كتائبَ من المشاة معززةً بمدفعين جبليين بقيادة غالب بيك و رضا بيك وكتيبة خيّالة بقيادة محمّد بك الجيرودي وأمرهم باحتلال عرمان ليلًا وحرقِها. ولكنَ دليلَ الجيشِ المقدّم سليم الجاري من أهالي السويداء المتطوّعَ معالعثمانيينَ، تمكّنَ من تضليل الجيشَ بينَ كرومِ عرمانَ طوالَ الليلِ حتى بزوغِ الفجرِ، كانتْ حينها عرمانُ تبعُد عنهم مسيرَ ساعة، ولما شاهدهم بعضُ فلّاحيها الذاهبينَ باكراً الى حرث حقولِهم رجعوا وأخبروا الأهالَي بما شاهدوه، فهبّ مقاتلو عرمان لمواجهةِ الحملةِ الزّاحفة إليهم. كان عدد المقاتلينَ في عرمانَ حينها لا يتجاوز المئة مقاتل، لكنّهم قرروا مهاجمة الجيشَ من جهةِ الغربِ ليبعدوهُ عن بيوتِ القريةِ قدرَ الإمكانِ وأرسلوا المفازيعَ (أي الرّسل) لاستنفار أهالي القُرى المجاورةِ للمشاركةِ في المعركةِ وكان لمبادرةِ المجاهدِ المسيحي طحيمر الصّيقيلي شأن في استنفار أهل صلخد ليسارعوا بنجدة عرمان، وقد تمكّنَ أهلُ عرمانَ منَ الصمودِ في مواجهةِ الجيشِ، إذ كانَ عليهم أن يثبتوا بضع ساعات ريثما تصلُ النَجدات من القرى المجاورةِ، وقد دفعوا ثمنَ صمودِهم استشهاد العديد من أبطالِهم، وفي تلك المعركة شاركت نساء عرمانَ رجالهنّ في القتال، إذ هبّت كلٌّ منهنّ وأخذَن يحِثُّثن المقاتلين على الصمودِ، وكان من أبرزهنّ السّيّدة المجاهدةُ سعدى ملاعب التي كانتْ تنتقلُ من متراسٍ إلى متراسٍ غيرَ مكترثةٍ بالرّصاصِ الموجّهِ نحوَها لتؤمِنَ الماءَ للمقاتلينَ في متاريسهم، ثم أخذتْ تحثّهُم على الصّمودِ قائلةً لهم:” يا نشامى . الشّجاعة صبر ساعة، اصمدوا لحتى تصل بيارق امتان مَلَــح فالنّصر قريب بإذن الله … قولوا يا غيرة العرض والدّين، واتكلوا على الله” واقتدتْ بسعدى ملاعب المجاهدة دَلّة حمزة واخذتْ تبثّ الحماس في المقاتلينَ قائلةً لهم “اليومَ ولا كلّ يوم يا نشامى … قولوا يا ناصر السّتِّي على السّتّين، انتوا المنتصرين بإذن الله لأنكم على حقّ”، وقد أخذتْ تزغردُ لهم ولصمودِهم حتى وصول بيارق ملح وامتان.
ولدى وصول بيرق صلخدْ التي استبسلَ فرسانها استبسالًا أسطوريًّا حيث قدّموا في تلك المعركةِ 72 شهيدًا، وعلى أثر ذلك تواصلتْ النّجداتُ من بقية قرى المقرنِ القبلي فارتفعت معنوياتُ المدافعينَ، وتراجعَ الجيشُ قليلاً ممّا زاد في معنوياتِ المجاهدين فهاجموهُ من ثلاثِ جهاتٍ وتركوا لهُ الجهةَ الغربيةَ ليهربَ منها، واشتبكوا معهُ أخيراً بالسلاحِ الأبيضِ إلى أن هزموه وبذلك انتصَر أصحابُ الحقِّ رُغمَ قِلةَ عددِهِم وتواضِعِ سِلاحِهِمْ.
لكنَ ممدوح باشا زجّ بكتيبة الخيّالة التي كانت في مؤخرةِ الحملةِ بقيادةِ محمّد بك الجيرودي، وعندما وصلَ الأخير الى تلول الأشاعر قرب عيون فوجئ بجيشِ الدّولة مدحوراً والمجاهدونَ يطاردونَهم، عندها أدار الجيرودي رأسَ فرسِهِ الصّفراءِ غرباً وهربَ مع الهاربينَ من كتيبتهِ، وتابع المجاهدونَ مطاردتَهم له ولمن معه وهُم يردّدونَ:
صَــــــــــــــفْـــــــــــــــــــــــرة جيـــــــــــــــــــــــرودي غـــــــــــــــــــــــرّبـــــــــــــــــــــــت قـُـــــوطـــــــــــــــــــــــر يحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــثّ ركـــــــــــــــــــــــابـــــــــــــــــــــــها
يـــــــــــــــــــــــا خُسْـــــــــــــــــــــــرُف1 خِبّـــــــــــــــــــــر دولتـــــــــــــــــــــــك حِنّـــــــــــــــــــــــا ولينـــــــــــــــــــــــــا طوابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهــــــا2
وقد غنم المجاهدون من تلك الحملة سلاحًا كثيرًا، كما غنموا المدفعين الجبليين، أكَّدَ ذلك المؤرّخ محمّد كرد علي في كتابه “خطط الشام” ـ الجزء الثالث الصّفحة 109، وقد استُشهِدَ من المجاهدين في تلك المعركة نحو مئتي شهيد، بينما قتل من العثمانيين نحو ألفي قتيل، وجرح أكثر من ألفين حسبما كتبت جريدة (المقتبس) آنذاك.
وأخيراً عاد المجاهدون يردّدون حُداء النصر، ويشيدون بدور النّساء المجاهدات فيقولون:
لعيونـــــــــــــــــــــــك سعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدى ملاعــــــــــــــــــــــــــــــــــب نِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفنـــــــــــــــــــــــي كـــــــــــــــــــــــلّ الكتـــــــــــــــــــــــايـــــــــــــــــــــــــــــب
مـــــــــــــــــــــــا بيرجـــــــــــــــــــــــع لـَ غمدو الســــــــــــــــــــــــــــــيف غيـــــــــــــــــــــــر يْـــــــــــسَـــــــــــــــــــــــوِّي العجـــــــــــــــــايـــــــــــــــــــــــــــــب

صورة-قديمة-لمدينة-السويداء
صورة-قديمة-لمدينة-السويداء

السّيّدة أم عجاج الجرمقاني
بمناسبة الحديث عن معركة عرمانَ لا يمكن أن ننسى مأثرة السّيّدة أمّْ عجاج الجرمقاني التي لا تقلّ روعة عن مأثرتي السّيّدتين سعدى ملاعب ودلّه حمزة.
كان ابنها عجاج شابًّا وسيمًا، بَهيّ الطّلعة، وكان وحيدها لأربع بنات، وليس لَهُنَّ من مُعيل سواه، حيث استُشهد زوجها في معركةٍ سابقة مدافعاً عن أرضه.
كان عجاج على خُلُقٍ كريم وهِمّةٍ عالية، متميزًا بالشّجاعة والفروسيّة، محبوبًا من الجميع، وله خمسة أصدقاء من شباب عرمان يماثلونه في مزاياه.
وعندما انطلق أبناء عرمان للدّفاع عن حِماهم ضدّ حملة ممدوح باشا التي سبق وتحدثنا عنها، فاشتبكوا مع جنودها وقاتلوهم بكلّ شجاعة، كان الشّاب عجاج من الأبطال الذين اشتبكوا مع قوّات مقدَّمة الحملة بالسّلاح الأبيض، فقَتَل أحد الجنود بالسيف وغنم بندقيته، وتابع القتال حتى استُشهد.
اضطُرّ رفاق عجاج الخمسة الذين كانوا إلى جانبه في تلك المعركة، إلى دفنه في المكان الذي تضمَّخَ بدمه الطّاهر، واحتفظوا بسيفه وفرسه والبندقيّة التي غنهما ، إلى أن انتهت المعركة.
عاد رفاق عجاج الخمسة بفرسه وسيفه وبندقيّتة إلى عرمان، ولما التقوا بالنّسوة المنتظرات عودة الأبناء والرّجال غربيّ البلدة، وبينهنّ كانت أمّ عجاج تسأل العائدين عن وحيدها، قائلةً لهم: “ الحمد للّه على سلامتكم يا نشامى.. مبروك عليكم نصركم .. مين منكم شاف لي عجاج الوحيّد؟ خواتو (شقيقاته) الأربعة عبيستنّوه، ليفرحوا بعرسو! يامين عَيّن لي عجاج بأيّا أرض؟”وما أن سمعها أحد رفاقه الخمسة حتى أجهش بالبكاء، وقال لرفاقه:” شو بدنا نقول لأمّ عجاج .. وشو بدنا نقول لـَ خواتو الأربعة ..؟!!” أجابه أحدهم واسمه فندي المتني: “رُدُّوا بعدي يا نشامى”:
يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا امّ الوحيد اِبكــــــــــــــــــــــــــي عليــــــــــــــــــــــــــــه ألمـــــوت مـــــــــــــــــــــــــــــــــا يـــــــــــــــــــــــــــــــــرحم حـَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا
لابُـــــــــــــــــــــــــــــــــد مـــــــــــــــــــــــــــــــــا تنــــــــــــــــــــــعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي عليــــــــــــــــــــــــــــه اِن كان اليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوم ولّا غـَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا
بـــــــــــــــــــــــــــــــــالرّوحِ مـــــــــــــــــــــــــــــــــا بخِلنـــــــــــــــــــــــــــــــــا عليــــــــــــــــــــــــــــه نِفديــــــــــــــــــــــــــــــهْ لَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوْ صـــــــــــــحّ الفـِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــِدا
والثّـــــــــــــــــــــــــــــــــار مـــــــــــــــــــــــــــــــــا نِمـــــــــــــــــــــــــــنـــــــــــــــــــــــــــــــــا عليــــــــــــــــــــــــــــه خَذينــــــــــــــــــــــــــا ثــــــــــــارو مـــــــــــــن العِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا
وعــــــــــــــــــــــــــــــــدوّنــــــــــــــــــــــــــــــــا راحــــــــــــــــــــــــــــــــــت عليــــــــــــــــــــــــــــه حَدينـــــــــــــا مـــــــــــــن خَلفــــــــــــــــــــــــــــــه حـَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا
وما إن سمعت أم عجاج حِداء رفاقه حتى أيقنت أنّ وحيدها قد استُشهد بطلاً في ساحة الجهاد، وعندما دَنَوْا منها، وشاهدت فرس عجاج وسيفه والبندقية التي غنمها، قالت لرفاقه:
“ألف اللّحمد لله على سلامتكم يا حبايبي، انتو عواضي عن عجاج، أني كان عندي ولد وحيّد صار عندي اليوم خمسة.. صرتو كّلكم أولادي الله يفرّحني فيكم، وشوفكم عرسان قبل ما موت”
وأخذت تزغرد لهم، حتى أغميَ عليها من شدة الحُزنِ والانفعال، ولم تَصْحُ إلّا في دارها ومن حولها بناتها الأربع، ونساء الأهل والجيران، يواسونها، ويطيّبون خاطرها إذ قالت لها إحدى جاراتها: “اللّي بيقدم شهيد للوطن مْقدَّر عند ألله وعند البشر يا أُم عجاج”.
أما رفاق عجاج، فقد دخلوا عرمان وهم يردّدون مع فندي المتني الأبيات السابقة، بقلوب يعتصرها الأسى على رفيقهم الغالي.
لقد كَرَّمَ الله أمّ عجاج وأمَدَّ في عمرها لترى رفاقه الخمسة “عرساناً”، كما تَمَنَّتْ، لكنها أصبحت مُقعدة بعد عامٍ واحدٍ من استشهادِ وحيدِها عجاج.
أما رفاق عجاج، فكلّما تزوّج أحدهم، كان أوّل ما يقوم به بعد انتهاء مراسم عرسه، هو زيارة والدة عجاج، فيذهب مع عروسه لزيارتها لتفرح بهما، وتدعو لهما بالتوفيق من قلبها المحبّ المخلص.
ومع وصول العريس وعروسه لزيارتها تقول لهما: “ يا حيّا الله بعجاج وعروستو ..؟!” وتزغرد لهما فرَحًا بهما، وتفتحُ ذراعيها لتضمّ العريس لصدرها وتُقبّله وتقول له: “يا حيّا الله بريحة عجاج، بوستك فيها طعمة بوستو .. ألف اللّحمد لله يا بنيّي إللّي عشت وشفتك عريس. ألله يهنّيك ويسعدك ويرزقك الولد الصّالح ويوسِّع عليك الرزق ويحميك من مكايد الخلق!”.
وبعد أن زارها آخر رفيق من رفاق عجاج الخمسة مع عروسه، ونيله تهانيها ومباركتَها، لم تمضِ على تلك الزّيارة إلّا نحو ثلاثة أشهر حتّى انتقلت بعدها السّيّدَة أم عجاج الى رحمة بارئها، فما كان من رفاق وحيدها الخمسة إلّا أن بادروا بحمل جثمانها إلىالمأتم للصلاة على الجنازة وهم يرددون مع فندي المتني: “يا امّ الوحيد ابكي عليه…” ليذكِّروا الجميع بمأساتها. فترحَّم عليها كلّ من حضر، وأخيراً ضمّها تراب عرمان المعطَّر بدَم ابنها الوحيد ودماء الشّهداء الآخرين، وعانقت روحها الطّاهرة روح وحيدها عجاج في جنان الخُلد. رحمهما الله.

أول-هاجس-لمحاهدي-جبل-العرب-كان-دوما-حماية-النساء-والأطفال
أول-هاجس-لمحاهدي-جبل-العرب-كان-دوما-حماية-النساء-والأطفال
معركة المزرعة والمجاهدة خولة أبو عاصي
بعد معركة الكفر في 21 تموز 1925 والتي كانت فاتحة الانتصارات في معارك الثّورة السّوريّة الكبرى، حاصر الثوّار قلعة السّويداء التي لجأَ إليها الفرنسيّون وعائلاتهم، لذلكَ جَهَّزَ الجنرال (ساراي) حملةً من فرقتين معزّزتين بالمدرّعات والمدفعيّة الثّقيلة والرّشاشات وثلاثة أسراب من الطّائرات الحربيّة، وقد قاد تلك الحملة جنرالٌ اعتبرته قيادته من أكفأ جنرالات فرنسا، هو الجنرال ميشو.
 تحرّكت تلك الحملة من أزرع باتّجاه السّويداء لفكّ الحصارِ عن قلعتها، عند ذلك بدأت المدفعيّة تقصفُ قرية (الدّور) و (نبع قرّاصة) فتصدّى لها الثوّار بهجماتٍ عنيفةٍ حالت دون تقدّمها، ولذا أخذت المدفعيّة الثّقيلة تقصفُ قرية (الدّور) و (نبع قرّاصة) تمهيداً لتقدّم المصفّحات وعناصر الاستطلاع فعمل الثوّار على سدّ الطريقَ أمامها بالحجارة الضّخمة متخذين من جدران الكرومِ متاريسَ لهم، وفي حين كانت الطّائرات تقصفُ القُرى المجاورة، وقع فريق من طليعة الثّوّار في كمين مُحكمٍ دبّره الفرنسيّون في موقعة “تل الخروف” استشهد فيه من الثوار30 مجاهداً بينهم حمد البربور أبرز رفاق سلطان باشا، وقد تسبّب ذلك بحالة يأس دفعت بالعديد من مجاهدي القرى إلى طيّ بيارقِهِم والعودة إلى قُراهُمْ لتنظيمِ صفوفِهم وإعادة الهجوم من جديد…
ومن المعروف عندنا في الجبل أنّهُ في أيّ مكان تحصل فيه المعركة كان أهل القرى المجاورة يبادرون لإعداد الطعامِ في كلِّ دار قادرة لإطعام المقاتلين العائدين من المعركة في حالة النّصر أو الهزيمة، وبذلك يقومونَ مقام وحدات التّموين في الجيوش الحديثة.
في بلدة نجران القريبة من منطقة اقتحام الجيش الفرنسي إلى قرى الجبل الثائرة على الاحتلال أعدّ  المجاهد عبّاس أبو عاصي غداءً ودعا اليه أعداداً من الثوّار بينهم كثيرون من أولئك الذين لم يحالفهم الحظّ بالنّصر في موقعة “تلّ الخروف”.  اعتذروا بادئ الأمر عن قبول دعوته لعزوفهم عن تناولِ الطعامِ بسبب هولِ ما واجههم من آلة الحرب الحديثة التي يملُكها الجيش الفرنسيّ، وللخسارة الفادحة التي لحقت بهم، فألحَّ عليهم الرّجل وأجبرهم على قبول دعوتَه.
كان قد التأم جمّعَ الثوار في المضافة، وقبل تقديم الزاد لهم، وفي مكان إعداده، دار الحديث التالي بين المجاهدة خَولة أبو عاصي وزوجها:
قالت السّيّدة:  يا ابن عمّي بدّي اطلب منّك ها الطلب
– وشو هوّ طلبك؟
– من بعد خاطرك بدّي قَفِّرْ(أي تصبّ السّمن على المناسف حسب المألوف من تقاليد الجبل) على الزّاد بالمضافة بدالك لأنّو عندي كلمتين لَـ هالنّشامى.
– والله بيحقلّك يا خولة، إنتِ بنت رجال وأخُت رجال، تِكرَمي
(وحملَ لها “سَطل” السّمن وامسكت هيَ بـ “الكبشة”3 ودخلت المضافة مع زوجها.  ألقت التّحيّة على المجاهدين، ثم قفَّرت4على الزّاد، ذُهِل الجميع ممّا يرَوْنَه أمامهم خلافًا للمألوف (لأنَّ “القُفرة” على الزّاد من شأن الرّجل فقط).
 بعد أن صَبّت السّمن على الزّاد؛ توجّهت خولة للمجاهدين وقالت:
– يا نَشامى … ياحاميين الأرض والعرض  .. زادنا هذا مَيْسور ما هو واجب( أي هذا الممكن عندنا، وأنتم تستحقّون طعاماً أفضل)، واللّي بدّو ياكل من زادنا اليوم لازم يهجم بكره على متراس العُرضي(5) واللّي ما بيقدر يهجم بكره على متراس العُرضي . زادنا اليوم حرام عليه”  وبدأت تزغرد لهم … فَهَبَّ الجميع يهتفون “لَـ عيونك يا بنت الأجواد … لَـ عيونك يا بنت الأكارم” وأكلَ كُلُّ منهم نصيبه من الزّاد ثم نشروا بيارقهم وعادوا باتّجاه تجمّع العدوّ الزّاحف إلى نبع عين المزرعة التي تمركز عندها الجيش الفرنسيّ، وهم يهزجون:
تُربــــــــــة وطنّــــــــا مــــــــا نبيعهــــــــــــا بــــــــالذهــــــــب         دَمّ الأعـــــــــــــــــــــــــــــــادي نــــــــجبــــــــلــــــــه بــــــــترابــــــــها.
كان اللّيل قد خيّم مع جيش العدوّ على تلك الأماكن ومع انبلاج الفجر أطبق الثوّار على جيش ميشو من كلّ حدبٍ وصوب، حتى تحقّق النّصر المبين في تلك المعركة التي حملت في كتب التّاريخ اسم “معركة المزرعة” وقد قال فيها سلطان باشا الأطرش “إنّها كانت ثأراً لمعركة ميسلون” وقد اعترف الجنرال ديغول في مذكراته بأنّ “أضخمُ كارثةٍ تعرّض لها الجيش الفرنسيّ على يد جيشٍ غيرَ نظاميّ كانت في معركة المزرعة بجنوب سوريّة عام 1925”، وأكّد هذه المعلومة المرحوم الأستاذ عيسى عصفور في معرض تعليقه على قراءاته في مذكرات ديغول بالفرنسيّة.
لقد كان ذلك الموقف الرّائع لتلك المرأة المجاهدة، ولِما لكلماتها من أثرٍ فَعّال في تحفيز الرّوح المعنويّة للمجاهدين، بالإضافة إلى شجاعة الثوّار وتصميمهم على تحرير بلادهم من الاحتلال الأجنبيّ من بين أبرز أسباب النّصر الذي تحقّق في معركة المزرعة التاريخية تلك.
إيراهيم-باشا-قائد-الحملة-المصرية-على-سوريا
إيراهيم-باشا-قائد-الحملة-المصرية-على-سوريا

معركة صْمَيد 5 ومأثرة المجاهدة
بستان شلغين
كانت اللّجاه وما زالت مقبرة للغزاة كما سلف، ولقد لجأ إليها الثّوّار بعد أن ضيّق الفرنسيّون عليهم كافة السُبُل، كانت تضاريسها الخشنة الملجأَ الأمينَ والحصينَ في وجه المعتدين على الجبل، لذلك وجّهَ الفرنسيونَ إليها حملةً مؤلّفةً منْ أربعةِ ألافِ جنديٍ تساندُها الطائراتُ والمدفعيةُ بقيادةِ الكولونيل “اندريا”.
لقد كان عددُ الثوّارِ الذينَ تصدَّوْا لتلك الحملةِ بحدودِ ثلاثمائةِ مجاهدٍ، وقد جرتْ معركةٌ عنيفةٌ استمرّتْ حتّى حلولِ الظلامِ، حيث أسقطَ الثوّارُ ببنادِقِهِم طائرتينَ، وكبّدوا الفرنسيينَ العديدَ منَ القتلى والجرحى بينما استُشهد من المجاهدين عشرة أبطال كان من بينهم جبر شلغين ومزعل شلغين، وهذا شقيق المجاهدة بستان درّة ذاكرتنا في الجبل…
بنتيجة انسحاب الثوّار أمام الجيش الفرنسيّ؛ قرّر أندريا الانتقامَ منْ ثوارِ قريةِ صميد لما أبدَوْه في هذه المعركةِ من بسالةٍ نادرةٍ فأمرَ بتهديمِ بيوتِ المجاهدينَ المعروفينَ. وكان مِنْ بين تلك البيوت التي جرى هدمها بيتُ المجاهد الشهيدِ هايل شلغين الذي سبق أن استشهد في معركة سابقة، لكنّ زوجته السّيّدة بستان ظلّت تواظب بعد استشهاده على تزويد الثّوّارِ بالذّخيرةَ والمؤونةَ بعد أن باعَتْ مصاغَها الذّهبي ( أي حُليّها) وأغنامَها، واشترَتْ بأثمانها سِلاحاً للثّوارِ الذينَ قدموا منْ لبنانَ للمشاركةِ في الثورةِ. كان ذلك قد زادَ منْ حقدِ الفرنسيينِ عليها لخشيتهم أن تُصبِحَ السّيّدة بستان قدوةً لغيرِها. وقد قال أندريا فيها عبارته المشهورة:” يجب أن نقمع ظاهرة بستان شلغين بأيّ شكل؛ وإلّا فسيتحوَّل ذهب الزّينة لنساء الدّروز إلى رصاص يمزّق صدورنا”.
بعد احتلال صْميد طلبَ الكولونيل أندريا التعرّفَ على السّيّدة المجاهدة أم حمد بستان شلغين بعد أن هَدَّمَ دارَها، فرفَضَتْ أن تقابلَهُ في بيتِهَا، وعندما ألحَّ في طَلَبها جاءَتْ إليهِ مع ولديها حمد وعُمره خمس سنوات وهايل، ثلاث سنوات، وبعض أقارِبِها وأهالي قريتها… قالَ لها أندريا بواسطةِ مُتَرجمهِ: “إذا تراجعتِ عن موقِفِكِ بدعمِ هؤلاءِ الخارجينَ عنِ القانونِ (يقصد الثّوّار) فسوفَ نعوِّضُ عليكِ بمبلغٍ يُعيدُ لكِ داركِ أحسنَ ممّا كانَتْ عليهِ، فهل تتراجعينَ عن موقِفِكِ) ومَدَّ يَدَهُ لمصافحتها ظَناً منهُ أنّها لو صافحتهُ لكانت علامةُ إذعانِها وتراجُعِها عن موقِفِها، فما كانَ منها إلا أنْ جعلت يَدَيها خلفَ ظهرِها وقالتْ للمترجم: “قول لسيدكَ ما وقفت هالموقف، حتى اتراجع عنّه ..؟!!”.
بعد ذلك أرادَ أندريا أن يخفّفَ من حِدّةِ عدائِها، فأشار لولديها ثمّ قالَ: “سأكلمُ سيّدي الجنرال ليرأفَ بحالِ هذينِ الطّفلينِ بما يعوضُهما عن معاناتِهما من فقرٍ وحرمانٍ”، فأجابتهُ بأنَفةٍ وشموخٍ: (ما بقبل مساعدة من عدوّي اللي قتل بَيّيْ وولادي وقتل خيّي وقرايبي وأهل بلدي وهَدَّمْ داري).
وعندما تَرْجَمَ المترجمُ ما قالتهُ المجاهدةُ أم حمد بستان، صُعقَ الكولونيل أندريا لصلابَةِ هذهِ المجاهدةِ وعنفوانِها وقال: “لاشَكّْ أنَّكِ (جان دارك العربيّة) أيتُها البطلة” ثم اعتمر قُبَّعته وأدّى لها التّحية العسكرية تكريمًا لأنَفَتها.
هذا وقد حَظيتْ المجاهدةُ أم حمد بستان شلغين باحترامِ القائدِ العامِ للثورةِ السوريّةِ الكبرى سلطان باشا الأطرش، وتقديرهِ، كما كرّمتَها الدولةُ السوريّة وأطلقت اسمها الميمونَ على إحدى المدارِسِ الرّسميّة في مدينة صلخد بجوار قلعتها الشّامخة، فلتفتخر الأجيال القادمة ولتعتزّ بهذه المجاهدة، لتبقى قدوة خالدة لأمّهات بني معروف الموحّدين.

“خولة أبو عاصي:
ياالْلّي بياكل من زادنا لازم يهجم بكرة على متراس العدوّ ويااْلْلّي ما بيهجم بكرة زادنا هذا حَـــرام عليـــــه”

 

سعيد الاطرش

أنجز أعمالاً بطوليّة يعجز عن مثلها عَشَرات الرّجال

سعيد الأطرش: بطل من الجبل

أصــــــــاب في العفــــو عن رجــــــــل أُرسِــــل لقتلــــه
لكنّــــه أخطأ فــــي حــــقّ قاتــــل “سوّد وجه” الدروز

في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان سعيد بن اسماعيل الأطرش ذراع شقيقه شبلي الذي كان سياسيّاً بعيد النّظر، وهو الذي كان يُشّبّه جبل حَوْران بعباءة يُخشى عليها الاهتراءُ من أطرافها؛ ذلك الجبل الذي جعل بنو معروف الموحّدون منه وطناً لهم بعد هجرة معظمهم إليه من لبنان وعمرانهم له بعد أن كان قفرا خربا. ومن هنا كان شبلي مصيباً في إرساله لأخيه سعيد القويّ إلى ذيبين، القرية التي تشكّل الزاوية الجنوبيّة الغربيّة لجبل حوران لحمايتها من التَّعدّيات التي كانت تأتيها من الغزوات البدويّة ومن اللصوص الذين كانوا يسرقون مواشي الفلّاحين وكذلك من تجاوزات قرى الجوار عليها.
ويروي الشّاعر الشّعبي فَوْزات غَبْرَة روايات عديدة في هذا الشأن كان بطلها الشّيخ سعيد الأطرش، وهي روايات متداولة بين الكثيرين من مُعمري ذيبين وأهاليها، منها أنّه كان مُرابِطاً ذات ليلة مع بعض رجاله جنوب القرية، فاشتبكوا مع جماعة من اللّصوص القادمين من مناطق غور الأردن بينهم شقيقان قُتِل أحدهما، وهرب الآخرون، وعَظُمت المُصيبة على الأب الذي فَقَد ابنه في ديار بعيدة، فأعلن أنّه سَيزوِّج ابنته الجميلة هِبَةً لمن يأتيه برأس سعيد، وتطوّع أحد الرّجال الأشدّاء لهذه المهمّة، فأتى إلى ذيبين بعد أن تسرّب بين الرّعاة في ليلة تأخّر بزوغ قمرها، وكان سعيد قد صرف عبده المسمّى بـ”سعيد”، وبقي وحده في المضافة التي يفتح بابها لجهة الشّرق قبالة القمر البازغ. رأى سعيدٌ الحَذِر خَيالاً لِرأسٍ آدمية تلوح على الجدار الداخلي المقابل لجهة الشرق، تتحرّك خلف صخرة قبالة باب المضافة، كان الخيال يظهر لحظة ثمّ يلطو خلف الصّخرة، فأدرك أنّ محذوراً ما يتطلّب منه الحذر والاستعداد.
استغلّ سعيد لحظة لَطْو ما اشتبه به خلف الصّخرة وتسلّل على عجَلٍ من المَضافة إلى أن أتاه من خلفه، فتناوله من جدائل شعره الطويلة (كان الرّجال في ذلك الزّمن يطلقون شعور رؤوسهم ويضفرونها جدائل يتباهَوْن بها)، وجَرَزَه بقوّته التي كان يهابها أشدّ رجال عصره فأفقده القدرة على المقاومة، صرخ الرّجل “ دْخَلَكْ لا تريني لسعيد”.
أُخِذَ المُتَلصّص بالمفاجأة، وتعرقلت قواه. شدّ سعيد يديه إلى خلف ظهره وفتّشه فوجد معه خنجراً انتزعه منه، ثمّ أدخله إلى غرفة في الدّار وقيّده وأقفل عليه بابها، وفي اليوم التّالي أمر بذبيحة ودعا رجال ذيبين إلى الوليمة. حضر المدعوّون، وسألوا ما المناسبة؟، فقال لهم: “أمس جاءنا ضَيفُ لَيْل، وهو مستعجل يريد الانصراف لهذا دعوتكم.
بعد تقديم القهوة أمَرَ سعيد عبده سعيداً بجلب الرّجل مقيّداً، كان المقيّد يرجوه ألّا يجعل سعيداً يراه، لكنّ العبد الممتثل لأمر سيّده دفع به إلى المضافة حيث اجتمع المدعوّون. أمرَ سعيد العبد أن يفكّ قيده ففعل، وبعدها قال له:
أخبرني حكايتك؟
ــ اِن كَنّك سعيد الأطرش أنا جاي أقتلك.
ــ شو جايب معك؟
ــ شِبريّة. (أي خِنْجَر)
ــ أتقتل سعيد بشبريّة!، الآنَ كُلْ مع ها الغانمين وبعدها رُح خَبّر أهلك بما جرى لك، وخُذ هذه شبريّتك التي بمثلها لن تقتل سعيد، وسيكون لي حساب مع من بعث بك إليّ.
وبالفعل فقد أكل الرجل من طعام وليمة سعيد الذي انتدب فارسين رافقاه مسافة بعيدة من ذيبين ثمّ تركاه ليمضي عائداً إلى أهله.
وصل ذلك الرّجل إلى دياره، واتّضح لذويه ما جرى له، وقد أدهشَهم عفوَ سعيد عمّن كان يستعدّ لقتله، وخشَوْا أن تطالهم يده وهو الذي كانت قبيلة الرّوّاله من قبيلة عَنَزَة الكبرى تتهيب حماه والتعدي على ذيبين بعد نزوله فيها وتركِه قرية عِرى. وكانت تلك القبائل القويّة تجتاح بوادي شمال شبه جزيرة العرب وحوران برجالها وجمالها وخيولها تتجنّب التَّعَدّي على ذيبين بعد أن نزل بها واتّخذها له موطناً لهُ، وقد نظّم سعيد الأطرش الدفاع عن البلدة بكوكبة من خيّالة بني مَعروف وكانت إنجازاته الكبيرة موضوعا دائما لمدح الشعراء كما قال أحمد العْلَيّان شيخ قرية مْعَرْبَهْ، شاعر سهل حوران مادحاً لسعيد:
رِيْف لَلعِيّان الاْعْمى والـْ عَرَج واِن لَفَتْ عَنّازْ ما ثِقل الحِجاج
بسبب خوفهم من بأس سعيد الأطرش اجتمع القوم، وقرّروا عَقْد راية الأخ القتيل والسّير بها مرفوعة عبر الطّريق الطّويلة إلى ديار سعيد في ذيبين والتّصالح معه لكونه عَفا عن الرّجُل المُرسل لقتله، وجاؤوا بِقَوْدٍ من البغال والثيران قدّموها هديّة لسعيد دلالة على حُسْن نيّتهم تِجاهه.
وفي حادثة أخرى تَجاوز قوم من قرى مجاورة على حقوقٍ لسعيد عندهم، وقيل أنَّهم صاروا يعتدون بمواشيهم على المراعي من حِمى ذيبين ، فما كان من سعيد إلّا أن اشتبك مع المعتدين واحتجز مواشيهم التي هم بحاجة إليها، واستعصى عليهم حلّ مشكلتهم معه، فذهبوا إلى أخيه شِبلي شّيخ دارة عرى، لكنّ شبلي اعتذر عن التدخّل في الأمر، وحار القوم في أمرهم، فلم يجدوا بُدّاً من توسيط أحمد العْلَيّان شاعر حوران الشّهير وهو الذي كان نصيراً لآل الحمدان ضدّ آل الأطرش عندما سيطر هؤلاء على زعامة بني معروف في السّويداء وسائر الجبل بدلاً من آل الحمدان، وفي أسفِه على ذهاب دولة الحمدان في الجبل يقول العْلَيّان:
يبلاكِ يا دار السّوِيدا بْطوبٍ يْهدّكْ ويصبــــــــــــــــغ اْحْجــــــــارك بنيــــــــل وجــــــــــاز1
عَزَلْتِ إبــــــن حــــــمدان قُـــــدْوِة بلادنــــــــــــا غــــــــاب الملــــــــك وتْنَــــــــــــــــــــــــصَّــــــــب المعّــــــــاز2

جانب من دارة الشيخ سعيد الأطرش وتظهر فيها العلالي، عمران بنّائين من ظهور الشوير في لبنان قبل نحو قرن ونصف القرن
جانب من دارة الشيخ سعيد الأطرش وتظهر فيها العلالي، عمران بنّائين من ظهور الشوير في لبنان قبل نحو قرن ونصف القرن

قصيد عصماء في مدح سعيد
وهكذا تطوّع الشّيخ الشاعر أحمد العليّان مُضطرّاً بالتوَسّط لأصحاب المواشي لدى سعيد، وذهب معهم في وفد إلى ديوانه في ذيبين.
عند وصولهم أمر سعيد بتهيئة وليمة كبيرة لهم، وفي الديوان الذي غُصّ بالوافدين لم ينبس أحدٌ ببنت شفة بادئ الأمر، قال سعيد للعْلَيّان يريد أن يكسر الصّمت الذي ران على الحاضرين:
اُهرج يا أحمد، ما بك تعبان؟!، المقعد اللّي فيه العليّان ما يسكت، اُهرج، واللّي انت تريده يصير.
نَهضَ العْلَيّان واقفاً وتوسّط الدّيوان وصفّق بكفّيه وقال: العيون غرّافات الحكي يابك. (يريد من الحضور تركيز الانتباه)، ومدح سعيداً بقصيدة مُطَوّلة نقتطف منها هذه الأبيات:
عاش أخو بَنْدَرْ سعيد اللي فَحَجْ عَ النّمُــــــــرْ وِسْبــــــــاع خــــــــــــــــلاّهـــُم نعــــاجْ3
بــــــــالبَـــــــــــذِل والجُــــــــــــود كَـــــــنْــــــــــزٍ لَـلْــــــــخَلِــــــــــج شـــــــــاع صِــيتَه من بْــــــــراجٍ لَبِــــــــــــراجْ4
عَمّـــــــــر الــدّيـــــــــــــوان عَ جــال الطُّــــــــــرج لَجَبــــل حوران ســــوّاهــــــن ســــيـــــــــاجْ5
شمعة الدِّيــــــــــوان غـَطّـــــــت عَ السُّـــــرُجْ بالبَنادر علّقـــــــــوا اْسْـمَه بــــــــــــالسَّــواجْ6
بــــــــــالمَـــلازم مثـــــــل عَنـتــــــــر لَــــــــــوْ وَهـــــــــــَجْ بالصَّرف زايد على اْجْوَدْ بالعِراجْ7
لِيــْـهْ شـــَـلْفَــهْ تِـقُــــــــــلْ بـــــــــرقٍ لَــــــــــوْ لَعَــــــــجْ سَيفُهُ شِنْع المَهاوي مــن العِتــــــاجْ8
واِنْ مشى بْوَجْهوْ الفتى كَاْنّه بَرِجْ وَيْــــــــنْ مــــا نشّـــــــــر نـَجــــاجيبــــــــــه وَدَاجْ9
خِلْـــــفَــــة اســـــــمــــاعيـــل ضِــــــــــــــــدٍّ لَـــــــلْعِـــــــــــوَجْ مْنِ الضّيَــاغم نــاخبينـــه بْلا عِـــــلاج10
المُعــادي لــــــــــو ســِمـــــــــــــع حِسّوْ اْنْخَلَــــــــــجْ مِنْ وَحِيف الخيـل كَنْ طَبَّه هَجاج11
اَلِخْريشـــــــــــَه ْواِبـــــــــــن ماضــــــــــي والكَنـِــــــــــجْ للّـــــــــــــذي يظـــــــــــهــــــــــر جَـــــــــــــوادَه للحَــــــــــــراج12
مـــــن حَلــــــــــَب لَصُــــــــــور لَحــــــــــدِّ المَـــــرِجْ لَلْكَـركْ لَلْجـَـوْف خــــلّاها دجاج13
فوق نوطَهْ لَاْعْتَلى ظَهــــــــر السَّــــرِج كَـ ذياب الخيل الْاطْرش حين لاج14
رِيْف لَلْعِيّــــــــــــــــــان الاَعْمَى والعَـــــــــــــــــرَجْ واِن لَفَـتْ عَنَّــــاز ما ثِقْل الحِجاج15
اْخْتُم صلاتي عَ النّبي خير الخّلِج لَلمَدينَـــهْ زارَتَـهْ ســَبـــــــْع الحِجـــــاج16

الحاج مْسَلّم الغوثاني سليل إحدى عائلات ذيبين السّنة الذين استقدها الشيخ سعيد الأطرش إلى ذيبين
الحاج مْسَلّم الغوثاني سليل إحدى عائلات ذيبين السّنة الذين استقدها الشيخ سعيد الأطرش إلى ذيبين

جريمة أغضبت سعيد
في تلك الفترة من القرن التّاسع عَشَر كان يأتي إلى ذيبين زمن سعيد رجال من التّجار يبيعون الأقمشة ينقلونها على ظهور الدّواب أو على ظهورهم يحزمونها ويتجوّلون بها بين قرى الجبل على شكل (كشّة)، ولم يكن على هؤلاء من محظور إذْ كانوا يتجوّلون بحرّية وليس لأحد أنْ يعترضهم فهم يُعتبرون في حِمى بني معروف، وكان هؤلاء في أعمالهم يوفّرون على الأهالي مَشَقّات السّفر الذي كان يستغرق أيّاماً مُرْهِقة على ظهور الدّواب إلى دمشق أو القدس لشراء حاجياتهم، ناهيك عن مشاكل اللّصوص وقُطّاع الطُّرق لانعدام الأمن وغياب هيبة الدّولة في تلك الأماكن البعيدة عن الحواضر الكبرى، هذا بالإضافة إلى الضّرائب الجائرة التي كان يفرضها الولاة العثمانيّون ودوريّات الجندرمة على المسافرين إلى المناطق التي تحت سلطانهم، ومن هنا كان الاعتداء على أولئك الباعة الجوّالين وأمثالهم جريمة بحقّ المجتمع الذي كان في تلك الفترة يمرّ بحالة شبه حصار ولم يزل في طور النشوء.
ويذكر المُعْمر الشاعر نعمة العاقل أنّه بينما كان رجلان غريبان من خارج الجبل يبيعان أقمشة تصدّى لهما أحد أهالي ذيبين من الدّروز، وأقدم ورفيق له على قتل بائعي الكشّة ونهبا ما معهما من مال وقماش بعد خروجهما من ذيبين باتجاه قرية سِمْج الحَوْرانية. وهناك من يقول إنّ الضّحيّة كان بائع زيت من جبل لبنان، ومن قرية بشامون!، وقد تمّ قتله على طريق قرية “سِمْج”.

غطلة الشاطر
على أية حال فإنَّ القاتل وصاحبه خَرَقا العُرْفَ الذي توافق عليه الموحّدون من حيث حمايتهم للداخل بِرِضاهم إلى ديارهم. وبعد أن اكتشف أمرهما الشيخ الشّاب سعيد، عَلِق أحدهما، أمّا رفيقه فقد اختفى هارباً. قَيّدَ الشّيخ سعيد الجاني وأرسله إلى قرية عِرى، حيث فيها يُتّخذ القرار الفصل بناء على وصية الأب المؤسّس اسماعيل في القضايا الهامة التي تواجه بني معروف. وفي عرى اجتمع عدد من أعيان بني معروف من عدّة قرى من الجبل، وبحثوا في أمر إصدار حكم على القاتل، ويذكر الرّواة أنّ المجتمعين اعتبروا أنّ الجاني يستحقّ العقوبة بالموت حرقاً لأنه حسب العُرفَ العشائري “قطعَ وجهَ الدّروز”، أي خان بالعهد الذي اتّفقوا عليه فيما بينهم وأهان من دخل حِماهم. ونشأت مشكلة عند تنفيذ الحكم، إذ لم يجد أحد في نفسه الجرأة على تنفيذ عقوبة بهذه القسوة أي عقوبة حرق الرّجل، وبالطبع كان على سعيد أن يرى في ذلك أن حكم الحرق غير سليم بدليل أنه لم يوجد رجل في عِرى مستعد لتنفيذه بنفسه. لكنه اعتبر الحكم نافذا وقرر أن لا بد للعدل العشائري أن يأخذ مجراه. لذلك تقدّم من الجاني وقال له “ قُلْ: “أنا بوجه سعيد لأحميك من الحَرْق”، لكنّ الرّجل قال لسعيد بكبرياء: “فِيْ اَلله فوق سعيد”، وأبى عَرض الشّيخ بإنقاذ حياته. عندها أمر سعيد عبده المدعو”سعيد” بإعداد النار ثم تقدّم منه وأشعل النّار بنفسه، فما كان من الضَّحيّة إلّا أن قطّع الحبال وانطلق يعدو على حيطان البيادر، تاركاً ما وراءه خَراباً هَديماً إلى أن سقط كَوْمَةً هامدة… ويُروى عن المُعْمرين في الجبل أنّ السلطان العثماني عبد الحميد عندما وصلته الأنباء بحرق ذلك الجاني تمنّى على الله تعالى أن يُكَثّر من عدد زعماء الدّروز!

الشاعر فوزات غبرة والعميد نبيه الحسنية أمام العلالي الأثيرة لدى السيخ سعيد الأطرش
الشاعر فوزات غبرة والعميد نبيه الحسنية أمام العلالي الأثيرة لدى السيخ سعيد الأطرش

القدَر بالمرصاد
ومرّت فترة من الزّمن قليلة، كان موقد الكيروسين، أو “بابور السبيرتو” كما كان يُدعى في ذلك الزّمن من عام 1886، مقياس وجاهة يقتنيه عِلْيَةُ القَوْم، كان الناس حينها يقولون مُتَعجّبين” إنك تستطيع أن تُشْعِل النار وتطبخ على السّجّادة دون أن تُصاب سّجّادتك بأذًى.
كان سعيد يغلي القهوة بقصد تجديدها ذات مساء مع أوّل اللّيل على موقده الأثير، إذْ كان الوجهاء في ذلك الزمن يقصدون دار الشّيخ الذي فرض هيبة الأمن في القرية وجوارها، وعنده يتسامرون ويستمعون القصائد المُغَنّاة على الرّباب، وإلى مرويّات سوالف الماضي وأحداثه، وبينما هو يضغط الهواء في المَوْقد (البابور)، انفَجَر به، ونثرَ ما بجوفه من الكيروسين الذي لوّثه بالسائل المشتعل، كان سعيد في العلالي على ارتفاع نحو ستّين درجة سلم عن مستوى الأرض في دارته الفَسيحة العامرة، فسارع من العلالي إلى الدّرج، يريد أن يصل بنفسه إلى البركة القريبة ليطفئ النّار المشتعلة التي أحاقت به وصارت تنهش بجسده، وهُرِع الجوار يلفّونه باللّباد العجمي والبُسْط. لم يمت الشيخ سعيد ساعة اشتعال النار بجسده، بل ظلّ حيّاً لنحو ساعتين. ومن قرية أم الرّمّان التي تقع شرق ذيبين بنحو ستة كيلومترات وفي دغوش ذلك المساء شوهدت النار التي أحاقت به وهو يعدو على سطوح دارته الفسيحة أمام العلالي التي لم تزل ماثلة بعمرانها الأنيق إلى يومنا هذا ، فهُرِع الرّجال على خيولهم ظنّاً منهم أنّ غزواً أو حرباً ما نشبت في المكان، إذْ على مثل هذا سبق أن اصطلح بنو معروف، ويروي الشاعر المُعْمر نعمة العاقل أنّ جدّه كان من بين الذين وصلوا والشيخ لم يمت بعد، وإنّما كان يئن ويتأوّه من شدّة الألم وهو ملفوف باللّباد العجمي الذي يكاد أن يكون حِكْراً على وجهاء ذلك العصر، وعندما سأله عن حاله “كيفك يا أبو فارس”، سمعه يقول مُتَنَدّماً على ما فعله بـذلك الرّجل وهو يردد آسفاً “ياخَيِّيْ شْربنا الخَمر وعصينا الأمر، يا ليتني ما حرقت هذاك الزّلمة”.
لكنّ تلك الحادثة كانت نهاية ذلك الرّجل البطل، الذي لم يلبث أن فارق الحياة على أثرها سريعاً، ودُفن في مكانه الذي لفظ فيه أنفاسه الأخيرة، ويُروى أنّ جثمانه وُضع آنذاك في تابوت من البلّور. ويذكر معمرو ذيبين أنّ الشيخ سعيد مات شابّاً عن عمر لم يتجاوز خمسة وثلاثين عاماً، وبعضهم قال ستة وثلاثين، لكنّه وبشهاداتهم به، أنجز أعمالاً بطوليّة يعجز عن مثلها عَشَرات الرّجال
ويقول الشّاعر الشعبي فَوزات غبرة: لسعيد الأطرش فَضل على كل طفل في ذيبين، حماها من التعدّي وضَبَط حدودها، بعد أن كانت حدود بكّا تصل إلى البلديّة في وسط ذيبين، فما كان منه إلّا أن وضع الحدّ شمالاً عند وادي بكّا، وثبّت حق ذيبين في قناة الماء التي حملت اسمه إلى يومنا هذا. لكن غلطة الشاطر بالف فقد اختصر الشيخ سعيد حياة حافلة بالمجد بسبب عمل متسرع وافتقاده عند المقدرة لحس العفو أو الحنكة في التعامل مع الناس خيارهم وأشرارهم على حد سواء.

شهادة المجاهد منير الرّيِّس في رباطة جأش الدروز مع الموت

حسن حاطوم يولم لضيوفه وفي بيته جنازتان
لإثنين من أبنائه سقطا في معركة المسيفرة

يروي الصّحافي المجاهد منير الرّيس في الكتاب الذّهبيّ للثَّورات الوطنيّة في المشرق العربي “الثورة السورية” في معرض تأريخه لِما شهده وشارك فيه من وقائع الثّورة السّوريّة عام 1925، يقول “إنّ معركة المسيفرة معركة فذّة، تُعَدُّ من أعظم المعارك فخراً لأبناء معروف، وفي تلك المعركة استُشهد شابان من أبناء حاطوم (نَسِيَ الرّيس اسم الأب وهو حسن حاطوم) ويضيف: “أنّنا في يوم وصولنا من شرق الأردن رأينا المضافة مكتظَّة بالدُّروز وأخيراً عرفنا منهم أنهم جاؤوا لتعزية حاطوم صاحب الدّار الشّيخ بسقوط اثنين من أولاده، شهيدين في المسيفرة فتأثّرنا لذلك واستغربنا ألاّ نسمع صوت نحيب أو عويل في الدّار وشابّان من أهله يسقطان في المعركة وتُحْمَل جثّتاهما على جَمَل إليها ونحن فيها فلا نسمع أيضاً أيَّ صوت لنحيب أو عويل ثمّ يدخل علينا مُضيفنا والد الشّهيدين مرحّباً ولا نرى في عينيه أثراً للدّمع حُزناً على فِلذتين من كَبِدِه افتقدهما أمس في المعركة وجِئ بهما اليوم إلى داره جثتين داميتين. لقد ذُهلنا لرباطة جأش صاحب الدَّار وأهله ولكنّنا بعد أن خالطنا الدّروز وعرفنا مزاياهم أدركنا أنَّهم لا يُجيزون في الحديث الرَّحمة على مَيْتٍ مات حَتْف أنفه فالرّحمة في عُرفهم تجوز على القتيل في مواقف البطولة، وهذا المشهد الذي رأيناه يذكّرنا في صدر الإسلام بقول الفاتح العربي الكبير خالد بن الوليد وهو على فراش الموت :”إنّ في جسمي كذا طعنة رمح وكذا ضربة سيف وها أنا أموت على فراشي كالعَيْر فلا نامت أعين الجبناء” إنَّه الإيمان بأنّ الشَّهيد في معارك البطولة حيّ، وأنّ من العيب أنْ تُذرَف على من نال مرتبة الشهادة الدّموع. إنّهم يكتمون أحزانهم في قلوبهم ويبدون في المصائب غَيرَ هَلعين ولا وَجِلين فجديرٌ بنا أن نقتدي ببطولتهم ومآثرهم فهم عرب أقحاح يحافظون على المُثُل العربيّة ويتميّزون على غيرهم بكثير من الصّفات والمآثر الكريمة. ومن مآثرهم العربيّة الكرم والشجاعة والإباء وحماية الجار وهم لا يخضعون لزعمائهم خضوعاً أعمى فالزّعيم المُحتَرم لابدّ له من أن يكون مُبرِّزاً على أقرانه بالكَرَم أو الشّجاعة أو المروءة وهم شديدو الحرص على السّمعة الطيّبة والثّناء العاطر فقد ثاروا مرّات على الدَّولة العثمانية وتحدّوْا جيوشها لأسباب تمسّ على الأكثر إباءهم حتّى أصبحت حروبهم مع تلك الدّولة مبدأً لتاريخهم فيقولون سنة ممدوح باشا وسنة سامي باشا أو بعد ممدوح بسنة وقبل سامي باشا بعامين جرى كذا ووقع كذا أو وُلِد فلان وهم يحبّون الشِّعر وينظمون الشِّعر الشَّعبي بلهجتهم العاميّة وفيهم شعراء أذكياء سجّلوا أيامهم ووقائعهم ومعاركهم بقصائد لاتزال تُحفَظ وتروى، وتؤلّف المادة في حدائهم وأهازيجهم، وأظنُّ أنَّنا نذكر الشّعر الشّعبي الذي لحّنته المطربة “أسمهان” وغنّته بلحن الموّال وحفظناه إعجاباً بِرَوْعته ووطنيّته، إذْ يقول:
ياديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لومك على من خان

المناضل فؤاد جبور

المناضل فؤاد جبور يتذكَّر

استفزتني سياسة الحرتقات فقررت تحدي مختار البلدة

اعتقلت في السويداء بسبب بيان عنيف ضد الفرنسيين
طالبهم بحماية بلادهم من الألمان بدل استعمار الآخرين

قلت للمعلم بأن مشروع مياه البلدة متعثر بسبب الحرب
فأجابني : بدك تترك الناس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟!

“الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضّعفاء وأنت من الأقوياء، وعربون تقدير ووفاء أقدّم لك ميدالية المعلّم كمال جنبلاط”. بهذه الكلمات القليلة، المعبّرة، اختصر رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط مسيرة المناضل الشّيخ أبو كمال فؤاد ملحم جبور خطّار (92 عاما) في الحفل التّكريمي الذي أُقيم له برعايته في بلدته باتر بحضور أهالي البلدة وفعاليّات شوفيّة، وأصدقاء المُكرّم وحشد من المدعوّين، بوصفه الصّديق الصّدوق لـِ “دار المختارة” منذ عهد السّتّ نظيرة جنبلاط، مرورًا بالمعلّم الشّهيد كمال جنبلاط، وصولًا إلى وليد بك جنبلاط، ونجله تيمور بك جنبلاط.
حفل التّكريم هذا دلَّ بالدّرجة الأولى على وفاء الزّعامة الجنبلاطية للمناضلين وتقديرها للرّجال الرّجال، وقد حرص وليد بك على أن يحضر بنفسه حفل التّكريم ويقدم الميداليّة، على سبيل إعطاء المثال للجميع بضرورة تقدير النّضال والتّضحيات وتكريم المبادئ والشّجاعة والصّدق والأمانة في الخدمة، وكلّ تلك الصّفات اجتمعَت في شخص هذا المناضل الصّادق والمتواضع أبو كمال فؤاد جبور خطّار.
لكنّ حفل التّكريم كان أيضًا عنوانًا لمسيرة عمر كامل من العمل والخدمة الصّادقة أنفق فؤاد جبور فيها حياته وشبابه ووقته وقدّم خلالها مثالاً على الثّبات في الالتزام والقدرة على تحمّل المسؤوليّات والاضطلاع بالمهمّات الدّقيقة فكان بذلك موضع ثقة المعلّم وكذلك ثقة الزّعيم وليد جنبلاط ونجله تيمور بك.
وفي هذا الحوار اللّطيف والحافل بالذّكريات والعِبَر وخصوصًا الحافل بشهادات ثمينة عن حياة المعلّم الشّهيد وحكمته وخصاله الرّفيعة تقوم مجلّة “الضّحى” بواجب الوفاء للمناضل أبو كمال فتعرِّف بالمحطّات الرّئيسة في حياته ونضاله
وهنا الحوار:

> أبو كمال فؤاد جبور، أين بدأت مسيرتك؟
كنت في التّاسعة من عمري، يوم أبلغنا والدي العائد من السّفر، نِيّته الانتقال إلى السّويداء للعيش هناك. أمّي لم تتقبّل الفكرة بادىء الأمر، لكنّها ونزولًا عند إصراره قبلت على مضض. وفي اليوم المحدّد للسّفر، انتقلنا من البلدة بسيّارة خاصّة لمحمود سلمان زين الدِّين إلى بيروت، ومن هناك توجّهنا إلى السّويداء حيث التحقت بإحدى المدارس. في تلك الفترة كان الجبل يعيش مخاض الاستقلال في ظلّ الحكم الفرنسي بعد تقسيم سورية إلى أربع دويلات هي: دويلة جبل الدّروز ودويلة الشام ودويلة حلب ودويلة العلويين. كان معظم سكّان الجبل وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش ورفاقه يرفضون فكرة الدّويلة الطّائفيّة، ويدافعون عن فكرة الوحدة السّورية وهم الذين خاضوا ثورة عارمة تكلّلت بالانتصارات في عدة مواقع ضدّ الفرنسيّين من أجل تحرير سوريا ووحدتها في العام 1925.
في العام 1936 ازداد عديد المطالبين بالوحدة، وعمّت التّظاهرات كلّ السّويداء للمطالبة بسورية موحدة. في ذلك الوقت كنت قد بلغت الثّانية عشرة من عمري، فشاركت لأوّل مرّة مع رفاق لي في تلك التّظاهرات. وأذكر أنّني عندما ذهبت لأقفل أبواب المحالّ التّجارية التي يملكها أبي لبيع موادّ البناء، صرخَ بي أحد الرّفاق بصوت عالٍ، قائلًا: هيّا أسرع، ولشدّة تأثّري ارتطم وجهي بباب المحلّ فجُرحت شَفَتي، وتحطّم زجاج الواجهة. هذه الحادثة استعيدها بفخر لأنّني اعتبرتها بداية مسيرة جهاد طويلة أعتزّ بها.

> كيف تعرّفت إلى الشّيخة أمّ كمال؟
كان ذلك في العام 1942، وكنت قد بلغت الثّامنة عشرة من عمري. في تلك السّنة أصرّ والدي أن يزوّجني، كي أرزق بالأولاد في حياته، وكأنّه كان يدرك أنّ أجله يقترب. كيف لا وأنا ابنه الوحيد، فلا أشقّاء لي ولا شقيقات، ولقد أوكل إلى عمّي مهمّة تدبير الأمر. أمّا أنا فلم أكن أعرف من أمور الزّواج شيئًا. بعد فترة طلب عمّي منّي مرافقته إلى قرية عِرى في الجبل من أجل التعرّف الى إحدى الصّبايا التي تمّ إرشاده إليها، قلت له أذهب معك لكن بشرط عدم الموافقة على أيّة فتاة قبل أن يتسنّى لي رؤيتها، فقال: اتّفقنا، فتوجّهنا إلى عِرى ولمّا رأيتها، قلت لعمّي الآن بإمكانك أن تفاتح أهلها رسميًّا بموضوع الزّواج. وهكذا كان وقد تزوّجت في تلك السّنة، بناءً لرغبة والدي، والحمد لله، رُزِقنا شبابًا وصبايا “بيفتحوا العَين”، وحسب نواياكم تُرزقون. وما زلنا حتى السّاعة نعيش أسعد أيّامنا، نحن وأولادنا وأحفادنا أنا والسّت أم كمال.

فؤاد-جبور
فؤاد-جبور

“أمضيت في سجن المزة أربعة أشهر بأمر الفرنسيين وكان سجنا مخيفا ثمأخلي سبيلنا واستقبلنا في جبل العرب استقبال الأبطال”

العودة الى باتر
> متى عدت إلى باتر؟ ولماذا ترشّحت لمنصب المُختار ضدّ آل حمدان؟
عدت مع أسرتي إلى باتر في أوائل العام 1947، وبسبب تربيتي في جبل العرب حيث لا يوجد أيّ تفريق أو حتى اهتمام بطائفة الشّخص (بل فقط بمبادئه ومواقفه) لم أكن أعرف يومها بوجود تفريق طائفي: هذا درزي وهذا مسيحي وذاك سنّي… وقد أخذ الأمر منّي بالفعل بعض الوقت في لبنان حتى أصبحت أُميِّز طائفة هذا أو ذاك.
في العام 1948، توفّي والدي، وكان وقْع المُصاب صادمًا بالنّسبة لي باعتباري ابنه الوحيد. وقد نشأت في كنَفه فأحسن تربيتي وغمرني بعطفه وحنانه، ولم ننسلخ عن بعضنا أبدًا ولم يفرّق بيننا إلّا الموت الحقّ، رحمه الله. وكانت تلك الفترة وتلك الرّفقة كافية كي أستكشف حياة قريتي بكلّ متطلّباتها ومتاعبها، وأدركت يومها ما يعانيه أهالي بلدتي من العوَز والإهمال، بسبب تسلّط إحدى الأسر الإقطاعية عليهم. وبحلول العام 1949 حدّدت الدّولة موعدًا لإجراء الانتخابات البلديّة والاختياريّة، فانشغل النّاس بهذا الاستحقاق، وراح البعض يروّج للمختار وهو الشيخ عارف حمدان داعيًا منحه ولاية جديدة. حيال ذلك الواقع رحت أسأل نفسي، لماذا تستمرّ الأمور على هذا النّحو؟ وما الذي يمنع تداول المسؤوليات وبالتّالي تغيير الواقع؟ وقرّرت بالفعل أن أقدّم ترشيحي منافسًا للمختار رغم أنّهُ كان قويًّا بعلاقاته وسطوته في القرية. وكان من أسباب قراري الترشّح ضدّه كونه لعب دورًا مباشرًا في إعاقة إيصال الهاتف إلى القرية. كان والدي قد سعى جاهدًا من أجل تأمين وصوله قبل وفاته مستفيدًا من صداقة وثيقة كانت تربطه بالشّيخين بهيج ومنير تقيّ الدّين. وقد استفزّني من المختار ذلك الموقف الذي يرفض الخير للبلدة لكونه سيتم عن غير طريقه، ورأيت في موقفه ذاك قمّة التّصرّف غير المناسب لروح العصر إذ تدخّل الشيخ عادل حمدان قريبه وصديق الرّئيس كميل شمعون من جانب آخر لعرقلة المشروع وتمكّن بالفعل من إيقافه.
أبلغت عمّي بنيّتي منافسة المختار فأجابني بالقول: “شو بدّك بـها الشّغلة” أمّا خالي، فقال مُعلّقاً: من أين أتى ابن شقيقتي بكل هذه الثّقة بالنفس؟ وعلى ماذا يعتمد؟ لكنّني تابعت ترشيحي وخضت الانتخابات ونلت سبعة أصوات زيادة عن المختار السّابق رغم التدخّل الشّخصي من قبل عادل حمدان ضدّي.

“ذهبت بعد فوزي مختارا لأخذ بركة الست نظيرة فتأملتني مليا (وكنت في سن الـ 25) ثم قـــــالت:»مْبَكِّر يا بعدي!”

> كيف نظرت إلى تلك النتيجة؟
كانت مفاجأة إيجابية لأنّها كسرت قيودًا وحرّرت نفوسًا وأظهرت للنّاس أنّ بإمكانهم أن يغيّروا، لكن عليهم أن يتضامنوا، كما أظهرَت أنّك إن كنت مؤمنًا بشيء ما فإنّ من الممكن أن تحقّقه، لكن عليك أوّلًا أن تثق بنفسك. وأودّ الإشارة هنا إلى أنّ أجواء البلد بعد الاستقلال كانت قد بدأت تتغيّر وكانت هناك أفكار تحرّرية بدأت تنتشر.
كان الزّعيم كمال جنبلاط في تلك السّنة يُعدُّ لإطلاق الحزب التقدّمي الاشتراكي وكان قد اشتُهر أصلًا كزعيم يمتلك من صفات التّواضع ومناصرة الفقراء ما جعل النّاس تفكّر فعلًا في التّغيير. وقد حصل ذلك… ولوعلى نطاق قرية من خلال مثال باتر.
> كيف توطدت علاقتك مع الست نظيرة جنبلاط، ومع كمال بك، وماذا كان موقفهم منك بعدانتخابك مختاراٌ؟
في الحقيقة، لم أشعر بأنّ “المختارة” وقفت ضدّي في الانتخابات. ولكن في أوّل زيارة قمنا بها إلى “الدّار” أنا والأعضاء الذين نجحوا معي، وفي لقائنا بالسّتّ (نظيرة) نظرت إليّ نظرة تأمّل، وتساؤل، وقالت: (مبكِّر يا بَعدي)، قلت لها: المعركة فُرضت عليّ، ونحن هنا لأخذ البرَكة. هذه الزّيارة كانت فاتحة لزيارات عديدة فيما بعد. ساعدتني في بناء علاقة وطيدة جدًّا مع كمال بك. وبالمناسبة أعترف أن أفضاله كثيرة عليّ، لا يمكن أن أنساها، وقد ساعدني على تنفيذ العديد من المشاريع التي كانت بلدتي في حاجة لها.
لقد وضعت نصب عينيَّ منذ لحظة انتخابي مختارًا، حاجة البلدة لمشاريع إنمائية مُلحّة كان أوّلها تجميع مياه الشّفَة وتوزيعها على الأهالي، بعد ما كانت مصادرة من قبل بعضهم. وكنت عرضت الأمر على كمال بك، فقال لي: ابدأ بالعمل وأنا معك.
في البداية حدّدنا قيمة المساهمة لكلّ بيت بـ 50 ليرة، ثمّ ضاعفنا المبلغ ليصبح مئة ليرة. لكنّنا لم نتمكّن من إنجاز المشروع بإمكاناتنا المحدودة. وكنت في كلّ مرّة ألتقي فيها المعلّم، يسألني: أين أصبح “مشروع المَيّ”؟ في ذلك الوقت كانت رياح الثّورة الشّعبيّة في العام 1958 قد بدأت تهبّ على لبنان، وبالأخصّ منطقة الجبل، فقلت له: يا بيك، كيف يمكننا العمل والبلاد بحالة حرب، فأجابني: بدّك تترك النّاس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟. بعد مدّة سألني عن المشروع، فأخبرته باستناف العمل، فانفرجت أساريره وقال لي: سأرسل لك جوزف سركيس، فهو صاحب خبرة في هذا المجال. حينذاك كنّا قد انتهينا من بناء الخزّان، ولم يعد ينقصنا إلّا مولِّد يعمل على البنزين أو الدّيزل لضغط المياه صعودًا حتى تصل إلى الخزّان الموجود في أعلى البلدة ، فتبرّع سركيس بتقديمه لنا بناءً على توجيهات الـمعلِّم. وهذا واحد من عدّة مشاريع نفّذناها بمساعدته.
بعد نهاية الثّورة وانتخاب قائد الجيش اللّواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهوريّة. تقرّر إجراء الانتخابات النّيابية، فاتّفقنا على مقاطعتها، وتقدّمنا بعريضة علّلنا فيها سبب المقاطعة، باعتبار أنّنا لم نتلقَّ أيّة مساعدة من الدّولة، لا بموضوع المياه، ولا بخصوص الهاتف. وعلى الأثر تمّ استدعاؤنا بطلب من العقيد غابي لحّود، فذهبت إليه مع اثنين من الأعضاء هما: الياس سبع الحدّاد، والشّيخ أبو حسن سليمان عوده. وقبل الاجتماع به اقترحت على رفيقيّ استشارة الشّيخ منير تقيّ الدّين بالأمر، وكان يومها مديرًا للدّفاع فطمأننا بأنّ ما فعلناه هو عين الصّواب، ولن يحصل ما يكدّر خاطرنا لأنّنا أصحاب حقّ. ولما اجتمعنا به، سألنا عن الدّوافع التي تجعلنا نقاطع الانتخابات. فشرحنا له مانعانيه من حرمان وإهمال، فتفهّم موقفنا ووعدنا بأنّه سينقل ملاحظاتنا إلى الرّئيس شهاب.

المعلم-كمال-جنبلاط-مع-المجاهدين-في-ثورة-العام-1958
المعلم-كمال-جنبلاط-مع-المجاهدين-في-ثورة-العام-1958

“المعلم كمال جنبلاط هب إلى نجدة منكوبي زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثم في ترميم البيوت المهـــدّمة”

> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلديّة؟
كان قرار إنشاء البلدية في باتر قد صدر أثناء تولّي كمال بيك وزارة الدّاخلية، وأنا كنت حينها مختارًا، فانتُخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيسًا للبلدية. لكنّه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق في البلدة تمّ بموجبه انتخابي رئيسًا للبلديّة، والشّيخ أبو حسن سليمان عودة مختارًا. ربّما كان ذلك وفاءً لنا على الإنجازات التي حقّقناها في تلك الفترة بمجهود فرديّ وشخصيّ في غالب الأحيان.
> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلدية؟
قرار إنشاء البلدية قي باتر، صدر أثناء تولي كمال بيك وزارة الداخلية، وأنا كنت لا زلت مختاراً فانتخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيساً للبلدية. لكنه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق قي البلدة تم بموجبه إنتخابي رئيساً للبلدية، والشيخ أبو حسن سليمان عودة مختاراً. ربما كان ذلك وفاء لنا على الإنجازات التي حققناها في تلك الفترة بمجهود فردي وشخصي في غالب الأحيان.

> ماذا عن زلزال 1956 ودوركم في مساعدة المنكوبين؟
الزّلزال الذي ضرب لبنان سنة 1956، لم تسلم منه باتر، وأدّى ذلك إلى تهدّم عدد من المنازل وتشرُّد أصحابها. وأوّل عمل قمت به بصفتي مختارًا كان تشكيل لجنة لإحصاء الأضرار وتنظيم المساعدات، وتأمين السّكن العاجل للعائلات التي تشرّدت، حتى لايتحكّم بنا بعض المتنفّذين. فاضطررنا لإيوائهم عند أقاربهم في بداية الأمر حتى وصلتنا مساعدة ماليّة من الأستاذ أسعد النجار، أمَّنّا بموجبها بعض الخِيَم التي استعملناها لإيواء المنكوبين إلى أن تتم إزالة الأنقاض والبيوت المهدّمة.
المعلم كمال جنبلاط هبّ إلى نجدة منكوبيّ زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثمّ في ترميم البيوت المهـــدّمة، وكان أوّل الذين مدّوا لنا يد المساعدة، ولم يكتفِ بإرسال المساعدات بل حضر شخصيًّا لتفقُّد المنكوبين وتقديم ما يلزم من احتياجات، وعمل معنا في بناء البيوت المهدّمة، وكان ذلك تواضعًا منه، كما كان يتابع ما كنّا نقوم به خطوة خطوة.
ذات مرّة، كنا قد وُعدنا بمساعدة هي عبارة عن موادَّ للبناء، لكنّهم تأخّروا بإرسالها وأرسلوا بدلًا منها سيارة بيك آب محمّلّةً بالطّحين فرفضنا استلام الشّحنة، وأمرنا السّائق أن يعيدها من حيث أتى بها لأنّنا بحاجة إلى موادّ بناء لإعادة إعمار ما تهدّم، ولسنا جائعين حتى يرسلوا لنا طحينًا. هذه الحادثة تركت أثرًا إيجابيًا لدى الـمعلِّم فقال لبعض من طالبوه أن يساعدهم في أمرٍ لم يكن مقتنعًا به: “إذهبوا وتعلّموا عزّة النّفس من أهالي باتر”!.

“أعتز بأن المعلِّم منحني ثقة لم يمنحها إلا لقليل من الناس، حتى أنه عرض عليّ التواجد الدائم في القصر أثناء غيابه لمدة شــــهر في أميركا”

> كيف توجز لنا علاقتك الشخصية مع المعلم
ايمكنني بكلمات قليلة أن أصف علاقتي بزعيم كبير بقامة المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط. كما ذكرت في بداية هذا الحوار، فمنذ لحظة انتخابي مختارًا ذهبت بزيارة تعارُف إلى “المُختارة”، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع لقاءاتي به إلى حين استشهاده. مرّة في الأسبوع أو كلّ أسبوعين على أبعد تقدير، وقد استمرّت تلك العلاقة من بعده مع وليد بك، ولولا التقدّم بالسّن لما تردّدت في زيارة “المختارة” على الدّوام. وهنا لابدّ لي من الاعتراف أن أفضال المعلّم عليّ لا عَدّ لها ولا حَصْر.
وأهمّ ما في هذه العلاقة كانت الثّقة الكبيرة التي منحني إيّاها، وأعتقد أنّه لم يمحضها إلّا لقلّة من النّاس. وأذكر على سبيل المثال أنّه في العام 1955 أوفد سائقه سامي نمور بطلبي، يومها لم يكن عندي سيّارة فاستمهلته بعض الوقت حتى أجهّز نفسي ثم ذهبت برفقته إلى “المختارة”، وعندما أبلغوا المعلم بقدومي أمر بدخولي إليه في الحال، ولمّا رآني قال لي: أرسلت بطلبك لأنّني مضطرّ للسفر إلى أميركا وقد يستغرق غيابي نحو شهر. أريد منك التّواجد في القصر طوال فترة سفري. شكرتُه على هذه الثّقة واعتذرت منه لعدم تمكّني من تلبية رغبته لأسباب خاصّة. فتفهّم عُذري، وقال لي: ما رأيك لو نذهب سويًّا إلى بيت الدّين لنبلغ القائمّقام بموضوع السّفر، وأنت تأتي إلى المختارة مرّةً كلّ أسبوع وإذا احتجت لأيّ شيء يكون لديه عِلم على الأقلّ، ثمّ أردف: “أتعرف يا فؤاد أنّ بلاط هذا القصر فيه سرّ كبير، والمشي كتير عليه بينزع الإنسان”.
أيضًا، مرّة أُخرى، طلب مِنّي مرافقته “لمعايدة” الإخوان المسيحيين في المختارة، وكان كلّما قدّموا له الضّيافة يناولني إياها ويقول لي: لاتنزعج منّي فأنا لا أحبّذ هذه الأمور. أمّا المشوار الأهمّ فكان لحاقنا به، أنا وفؤاد أبو شقرا وشخص آخر من بيت رسلان إلى منتجع (الحِمّة) في منطقة الجولان السّورية، و قد كان سابقًا تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ( ملاحظة من المدقّق: لم يكن حينها احتلال في الجولان يرجى التأكّد من المعلومة أخي أبا هاني) وينخفض ذلك المنتَجع عن سطح البحر نحو 300 متر. كان برفقته يومها الزّعيم شوكت شقير، وكنّا لانعرف مكان الحمّة بالتّحديد، ولما بلغنا القنيطرة أخبرت رفاقي بأنّ لي ضابط صديق يدعى جادو عزّ الدين، وهو سيرشدنا إلى ذلك المكان، لكنّنا للأسف لم نجده، ولمّا بلغنا (الحِمّة) حاولنا الدّخول فمُنعنا من قبل الجنود المكلّفين حراسة المنتجع. قلنا لهم إنّنا من رفاق المعلّم، وفي تلك اللّحظات رأينا المعلّم يهم بالخروج وإلى جانبه مزيد عزّالدّين يقوم بوداعه، فعندما رآني صرخ بي أهلًا فؤاد عندها قال المعلّم: “شو يا عمي واصل نفوذك إلى هَوْن”.
من الميّزات المهمّة عنده أيضًا أنّه كان يرفض أيَّ شكوى ضدّي، ولكن يبدو أنّ أحدهم قد شكاني عنده لأمر يخصّه، وعلى أثر الشكوى تلك قال المعلّم لي: “معليش ها الجماعة ركّبلن لمبة ولو كانوا ضدّنا بالسياسة خليهن يقشعوا مثل غَيْرُن”.

> ما هي أبرز المهام التي كلفت بها من قبل المعلم؟
عندما اندلعت الثّورة في العام 1958، كنّا مجموعة أشخاص قريبين جدًّا من “المختارة”، وكنّا على استعداد لتنفيذ كلّ ما يطلب منّا. كانت المهام كثيرة ومتشعّبة، ولم نكن نتوانى عن أيِّ عمل. وأذكر أنني رافقت المعلّم للقاء العميد جميل لَحُّود في محلّة “ساقية فلقة” الكائنة تحت قلعة نيحا، على طريق باتر- جِزّين. ومن شدّة البرد القارس أصبت منذ ذلك التّاريخ بألم في المعدة، وما زال يلازمني حتى اليوم. وغالباً ما كنت أُكلَّف من قبله بمهامّ سياسيّة ذات طابع عسكري، وبالأخصّ في الحرب الأهليّة عام 1975. كان عليّ المحافظة على علاقة حسن الجوار مع أهالي جِزّين وجوارها. وفي العام 1976 كنت مسؤولاً عن القاطع 20 الممتدّ من مزرعة الشّوف إلى باتر.
في الانتخابات النّيابية التي كانت تُجرى في السّتّينيات والسبعينيّات كان المعلّم يطلب منّي الذّهاب إلى جبل العرب لاستنهاض الهمم والطّلب من الأهالي الذين لايزالون مسجّلين في لبنان ضرورة المشاركة بالانتخابات والتّعبير عن آرائهم، وكانوا مجموعة لا بأس بها. كذلك رافقته في زيارات لكبار الشّخصيّات، من بينهم شيخ العقل محمّد أبو شقرا في دارته في بعذران. يومها اشتكى سماحته للمعلّم من شدة الأرق الذي يصيبه بسبب ظروف البلد، فضحك المعلّم وقال له: “أنا من هذه النّاحية مختلف عنك، إذ لو كنت أحمل هموم الدّنيا كلَّها فإنني أضعها جانباً وأخلد إلى النّوم”

“كلفني وليد بك مع توفيق بركات بحماية متروكات المسيحيين وإحدى المهمات التي أعتز بها كانت تنظيم العلاقة مع أهالي «جزين»”

مع وليد بك جنبلاط
مع وليد بك جنبلاط

“اشتكى الشيخ محمد أبو شقرا من شدة الأرق بسبب الأحداث فضحك المعلم وقال له لو أنني كنت أحمل هموم الدنيــا كلها فإنني أضعها جانبا وأخلد إلى النوم”

> كيف تصف علاقتك مع وليد بك؟
كان وليد بك يعرف عمق العلاقة التي كانت تربطني بوالده، وهو يعرف كلّ أصدقاء الدّار، ولقد كلَّفني بمهامّ عدّة منها التّواصل مع عدد من المرجعيّات في القرى والبلدات، وإجراء المصالحات وحلحلة المشاكل. وكان يرافقني في هذه المهمّة مختار عمّاطور السّابق المرحوم نجيب أبو شقرا، والمرحوم فوزي عابد، والسّيد فوزي زين الدّين، وشخص من آل خضر. ومن المهام التي وكَّلني بها وليد بك: ترتيب العلاقة مع أهالي جِزّين، والمحافظة على متروكات الأخوة المسيحيّين وقمت بذلك أنا والمرحوم توفيق بركات، واستمرّينا في هذه المهمّة حتى تأسيس الإدارة المدنية. ولما احتدم الخلاف مع الشّيخ بهجت غيث أوفدني إلى جبل العرب لشرح موقفه من مشيخة العقل.

> كلمة أخيرة ؟
أثّرت فيّ كثيرًا بادرة الزّعيم وليد بك جنبلاط وهي ليست غريبة أبدًا عن هذه الأسرة النّبيلة التي خدمت الموحّدين والطّوائف اللّبنانية كلّها دون تمييز، وحافظت على الوطن وعلى القِيَم النّضالية في أحلك الظّروف بل ودفع الكثير من رجالاتها حياتهم ثمنًا لمواقفهم ولنضالاتهم، وها نحن سنحتفل بعد أيام بذكرى استشهاد المعلّم كمال جنبلاط وهي ذكرى لها رمزيّتها الكبرى بالنّسبة لجميع المناضلين الشّرفاء. وأهمّ شيءٍ أنّ الله أعانني على أن أمضي حياتي منسجمًا مع مبادئي، وأنا فخور بأنّ لي رفاقًا كثيرين من المناضلين والشّهداء عملت وإيّاهم في سبيل تلك المبادئ. وأنا مرتاح الضّمير لما قمت به والحمد لله.

محمود دلال

مجلّــــــةُ «الضُّحـــى» تفقـــــدُ أحـــدَ أمنائِهــــــا المؤسّسيــــن

رجلُ الأعمال والمُحسن
محمـــود سَلمـــان دَلال
صَرْح نجاحــات وريــــادة في العمل الاجتماعــيّ

كفاءته فـي التّنفيــذ والمواعيـــد قرّبــاه من الحكومــة السّعوديّــة
فصُنِّفت شَرِكتُه في الفئة الأولى ومُنِحت المشاريــــع

“الضُّحى”: راشيّا
فقدت بلدة راشيّا والوطن ومجلّة “الضّحى” ركناً من أركان العمل الاقتصاديّ والخّيْريّ في لبنان هو رجل الأعمال المهندس المرحوم محمود سلمان دلال أحد مؤسسي عمليّة إعادة إطلاق المجلّة في العام 2010 وعضو مجلس الأمناء فيها. كما أنه أحد أبرز المغتربين اللبنانيين في المملكة العربيّة السّعوديّة في حقل المقاولات وصناعة الألومنيوم وله مشاريع عقاريّة وأعمال واسعة في لبنان كما أنّه من أبرزالنّاشطين في العمل الخَيري والاجتماعي.
انتقل الفقيد إلى جوار ربّه بتاريخ 4 شباط من العام 2016 عن عمر ناهز 66 عاما مُخَلّفاً أسرة كريمة تضمّ زوجته السيدة ليلى مكارم وأولاده كريم وريّان ونادين وناتاشا وتانيا الذين يتابعون إدارة أعماله ورسالته الاجتماعيّة على أتمِّ وجه ليكونوا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلف. وقد أقيم للفقيد مأتمٌ مهيب في بلدته راشيّا وتقاطرت الوفود والشّخصيّات للتّعزية بفَقْده في راشيّا وفي دار طائفة الموحّدين الدروز في بيروت.
والد الفقيد هو المرحوم سلمان دَلال، أحد المهاجرين الأوائل إلى فنزويلّا حيث تمكّن بجهاده وصيته الحسن من جمع ثروة عاد بها إلى لبنان ليستثمرها في شراء العقارات والأبنية في منطقة الحمرا بيروت خصوصا في شارع المكحول إضافة إلى منطقة مارمخايل حيث أُطلق على أحد الشّوارع اسم شارع دلال نسبة إلى المغترب سلمان دلال نظراً لما يمتلكه من عقارات وأبنية في تلك المنطقة. وبعد عودته من المهجر عمل سلمان دلال في مجال المقاولات وشراء العقارات وتشييد الأبنية التي كان يقوم بتأجيرها أو بيعها. وقد رُزِق سلمان دلال بعشرة أولاد هم محمود وتوفيق ومنير وزياد وبسام ورجا وسمير وأحلام وأميرة وسميرة التي توفّيت منذ زمن سَهِرَ على تعليمهم وحَرِص على متابعتهم حتى تخرّجوا من الجامعة الأمريكيّة كما توفّيَ أحدُ الأخوة وهو رجا في حادث أليم في بيروت قبل سنوات.
محمود هو الابن البكر لسلمان دلال وُلِد في بلدة راشيّا في 12 تشرين الثّاني من العام 1949 لتنتقل العائلة في ما بعد إلى بيروت. درس في مدرسة المنصف ثمّ في ثانوية الـ “ آي سي “ (IC) حيث تابع دراسته الثّانويّة لينهي هذه المرحلة بتفوّق، ولينتقل بعدها إلى الجامعة الأمريكيّة ليتخرّج منها مهندساً مَدنيّاً
بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية انتقل محمود الى المملكة العربية السعودية فعمل أولا في “شركة الحافظ للمقاولات” وارتقى سُلم النجاح ليحظى بمكانة مرموقة داخل الشّركة بسبب تفانيه في العمل وحسن تعامله مع الجميع. بعد ذلك انتقل محمود إلى العمل الخاصّ فأسّس أولى شركاته وكانت شركة المقاولات التخصّصية المحدودة في مجال البناء والتعهّدات في مدينة جدّة السّعودية إلّا أنّ أعمال الشّركة توسّعت في ما بعد لتشمل كافّة أنحاء المملكة.

طلاب كثيرون استفادوا من برنامج محمود دلال للمنح الجامعية
طلاب كثيرون استفادوا من برنامج محمود دلال للمنح الجامعية

كفاءة عالية وأخلاق
وبسبب كفاءته والتزامه بأعلى مواصفات العمل والتّسليم على الوقت حظي محمود دلال باهتمام الحكومة السّعودية التي بدأت تكلّفه بتنفيذ المشاريع الحكوميّة مثل المستشفيات والمدارس والأبنية الحكوميّة فنالت شركته تصنيف الدّرجة الأولى بين شركات المقاولات وكان المرحوم يعمل على تشييد جامعة “ أبحُر “ عندما هاجمه المرض وأدّى إلى وفاته بعد فترة قصيرة. وأسس محمود أيضاً مصنعاً للألومنيوم في مدينة جدّة أصبح أحد أكبر المصانع في المملكة من حيث الطّاقة الإنتاجيّة.
في لبنان أسّس محمود دلال شركة “مجموعة دلال للاستثمار العقاريّ” التي تستثمر في تشييد الأبنية ومركزها بيروت وهي تمتلك فندق سكاي سويت “ sky suit“ إضافة إلى محفظة عقارات وأبنية في بيروت وضواحيها.
وكان لمحمود دلال دور كبير في الاهتمام بأخوته نظراً لأنّه كان كبيرهم وتسلّم أكثر الأعمال من والده وتدرّج في الأعمال الحرّة وأسّس أعمالا جديدة وتمكّن كلٌّ من أشقّائه بذلك من شقِّ طريقه وتأسيس أعماله. كما أنّه وفّر لشباب المنطقة والخرّيجين اللّبنانيين العديد من فرص العمل في شركاته في المملكة العربيّة السّعوديّة وفي لبنان.

رائد في رعاية الشباب
يُعتَبّرُ محمود دلال رائداً في رعاية الشّباب وتقديم المنح الدّراسيّة لأبناء منطقته راشيّا، وهو الذي تبنّى تعليم عدد كبير من الطّلبَة في الجامعة الأميركيّة وغيرها، كما أنّه من بين المتبرّعين الدّائمين للجامعة الأميركيّة وللعديد من المؤسّسات التّعليميّة في منطقة راشيّا، ومن أبرز أعماله تقديم مساعدات السّكن للطلّاب الذين لا تسمح ظروفهم بالسّكن في بيروت.
على الصّعيد الاجتماعيّ اضطلع محمود دلال بدور بارز في دعم جهود التّنمية في منطقة راشيّا بما في ذلك إنشاء عدد من القاعات العامّة في بعض قرى وبلدات القضاء كما اهتمّ بالمحتاجين خصوصاً في فصل الشّتاء وقدم المعونات الماليّة للكثير من العائلات.

توفيق عساف

تَوْفيق عّساف

قِصّةُ رجلِ أعمــــــالٍ أحــــبَّ النّــــاسَ
فأحبّـــــوه وحفــــــــظ ودَّ الوطــــــــن

غسّان عسّاف:

آمنَ باقتصادٍ حُرٍّ لكنْ ليس للأغنياءِ وحدَهم
وكان رائدًا في الاهتمام بالمؤسّسات الصّغيرة

ربطتهُ صداقةٌ فكريّةٌ بالشّهيد كمال جُنْبُلاط
وذات يوم سأله: لماذا لا تترشّحُ نائبًا عن عاليه؟

يُقدّم المرحوم الشّيخ تَوْفيق عسّاف في الكثير من جوانب مَسيرة حياته الحافلة نموذجًا لحياة الكفاح التي تميّزت بها حياة المهاجرين اللّبنانين في كلّ البلاد التي ذهبوا إليها، فهي حياة البدايات الصّعبة والتّرحال والكفاح والسّهر لكنّها في الوقت نفسه المهارة اللّبنانية في أخذ الفرص واقتناص اللّحظة، وقد نجح توفيق عسّاف بتوفيقٍ من الله في إنشاء مؤسّسة كبرى ماليّة صناعيّة لكنّ نجاحه لم يغيّر فيه على الإطلاق طبيعته الإنسانيّة وشخصيّته الدّمِثة المهتمّة بقضايا النّاس، وهو الذي اعتبر نفسه على الدّوام واحدًا منهم وتعلّم من تجربة كفاحه الصّعب احترام كفاحهم والسّعي بكلّ وسيله لمساعدة ضعفائهم. لكنّ توفيق عسّاف كان أيضًا رجل مواقف وصاحب شخصيّة طيّبة، لكن صريحة فكان بالتّالي صادقًا صدوقًا في مواقفه العامّة، وعلى هذه الصّداقة بُنِيَت في ما بعد صداقاته مع زعامات البلد مثل المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان وغيرهم. ولقد أصبح الرّجل في وقت معيّن نقطة التّلاقي بين القطبين الدّرزيّين ورجل المواقف الذي يعتمد عليه في الدّفاع عن حقوق العشيرة والوطن في آن. كما قَيِّض القدر للشّيخ توفيق عسّاف أنْ يلعبَ دورًا مهمًّا في تمثيل الموحّدين الدّروز في اتّفاق الطّائف بتنسيق مع القيادة السّياسيّة للطّائفة، وقد لعب دوره كاملًا خصوصًا في الدّفع باتّجاه تأسيس مجلس للشّيوخ يكون برئاسة شخصيّة درزيّة. فماذا نعرف عن تَوفيق عسّاف وعن إنجازاته العمليّة والدّور المهمّ الذي لعبه في الاقتصاد الوطنيّ وفي الحقل العامّ؟

بيتُ فَضيلةٍ وكفاح
وُلِدَ تَوفيق عسّاف في العام 1915 في بلدة عَيتات قضاء عاليه لـ “عائلة أجاويد مُتَواضعة” كما يصفها ابنه الأستاذ غسّان الذي يَتولى منصب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية، افتقد منذ وقت مبكّر حنان الأب عندما اضطُرّ والده، وسط ظروف الضّنك والفَقر التي نجمت عن الحرب العالميّة الأولى وكوارث أخرى مثل الجراد للهجرة إلى أميركا الجنوبية، وكان توفيق الثّالث بين خمسة أطفال تحتّمَ على والدتهم أن تهتمّ بأمر تربيتهم ومعيشتهم. ويبدو أن تَوفيق الشّابّ تأثّر كثيرًا بأمّه التي ربّته على حُبّ النّاس والأخلاق الرّفيعة منذ نعومة أظفاره، إذ كان توفيق ما زال صغيرًا عندما توفّي والده فعاش فترةً من حياته يتيم الأب، لكنّه تلقّى رعاية تامّة من والدته القديرة والتي اعتبر دومًا أنّها لعبت أكبر دور في حياته. ومع دخوله مرحلة الشّباب استشعر توفيق القوة والبأس في جسده فمال إلى الرّياضة ولاسيّما لعبة الملاكمة وصعد في صفوف أبطالها ووصل به الأمر إلى منافسة بطل لبنان في الملاكمة في ذلك الوقت إدمون زعنّي.

“شنَّت «كوكا كولا» حربَ أسعارٍ على تَوفيق عسّاف فردّ بـ «حرب جوائزَ» فوريّة زادت شعبيّة الببسي ومكّنتها من أخذ نصــــف السّـــــوق في 15 عامًا”

الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية
الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية

في أرضِ الله الواسعة
مع وفاة والده واجه توفيق الشّاب وضعًا جديدًا ودقيقًا إذ إنّه كان مازال فتًى يافعًا عندما اضطُرّ إلى تحمّل المسؤوليّة رغم صِغَر سنّه، وقد مارست والدته ضغطًا قويًّا عليه لتَرْك لعبة الملاكمة والبحث عن مهنة يستطيع من خلالها أنْ يساهم في تَكلفة معيشة الأسرة وأشقّائه الأصغر سنًّا. تقلّب توفيق الشّاب في عدد من الأعمال لكنّه قرّر في العام 1935 (وكان في العشرين من العمر) الهجرة الى أفريقيا وتوجّه إلى ليبيريا، لكنّه لم يمكث هناك أكثر من سنة إذ شجّعه أخوه الكبير يوسف، الذي كان بمثابة والده،على الانتقال إلى فنزويلّا حيث كان يعمل في تجارة الأقمشة.
كانت فنزويلّا وقتها من أكبر الدّول المنتجة والمصدِّرة للنّفط في العالم وتعوم على ثرَوات كبيرة كما أنّ نظامها الاقتصاديّ كان ليبراليًا ومفتوحًا لمختلف أنواع الهجرة من الخارج

“نجاحُهُ العمليُّ وسمعتُه الطّيِّبةُ جعلاهُ المرشّحَ المفضّلَ للمشاركةِ في تأسيس بنك لبنانَ والبلادِالعربيّة و80% من أسهم البنك أصبحت ملكًا لآلِ عســـــاف”

الثّروةُ الأولى
كان لتوفيق عسّاف بُعْد نظر تجاريٍّ، فلاحظ أنّ السّوق في حاجة لأنواع وكميات محدّدة من الأقمشة، لكنّه لم يكن يملك رأسمالًا كافيًا لتوسيع تجارته، وبسبب موهبته في بناء العلاقات وشخصيّته الموثوقة وجد من يقبل بتسليمه البضائع على الحساب، إذ إنَّه عرف كيف يلبّي طلبيّات السوق، ولمسَ بعض التّجار مهارته تلك فأمدّوه بكلّ ما يحتاج، وعلى أثر ذلك نمت تجارته بسرعة وبات من اللّاعبين الكبار في السّوق، كان ذلك النّجاح المصدر الأوّل لبناء ثروته الاغترابيّة. لكنّه بينما كان يحصد ثمار عمله وثقة النّاس لم ينشغل عن المهنة الأهمِّ التي يحبها وهي: خدمة النّاس، إذ حفَّزه نجاحه للاهتمام بشؤون الجالية اللّبنانية ومساعدة أبنائها، كما أنّه وجد نفسه أيضًا في بؤرة الضّوء عندما انبرى للردِّ على حمَلاتٍ أرادت تشويه صورة العرب واللّبنانيّين، حينها كان قد أصبح شخصيّة عامّة بين المهاجرين من بلاد الشّام بوجه الإجمال.
هل كان نجاح توفيق عساف في فنزويلّا نتيجة عمله فحسب أم حالفه الحظُّ أيضًا؟
هذا هو السّؤال الذي يطرحه البعض عادة في محاولة تفسير بعض النّجاحات ، وهم يشيرون مثلا إلى أن كثير من الناس يبذلون الجُهد ويكافحون لكنّ النّتائج لا تأتي متساوية، كما أنّ النّجاح والشّهرة لا يكونان إلّا نصيب قلّة.
يَعتبر الأستاذ غسان عسّاف أنّ من الصّعب الفصل بين ما يُسمّى عامل الحظّ وبين عامل الموهبة أو الجهد الشّخصيّ. فتوفيق عسّاف كان شخصًا مكافحًا وطموحًا لكنّه أوتيَ زيادة على ذلك شخصيّة محبّبة وأخلاقًا رجوليّة طيِّبة تجتذب النّاس إليه وتجعله يستحقُّ ثقتهم، وربّما يعتبر البعض هذه الصّفات بمثابة عامل “الحظِّ” وهذا قد يكون صحيحًا بشرط امتلاك موهبة المبادرة والفاعليّة الشّخصيّة والتّميُّز بين الآخرين.
جميع المهاجرين كانوا مكافحين فعلًا لكنّ معظمهم حصر اهتمامه بتأمين لُقمة العيش أوبناء ثروة صغيرة ولم تكن لهم موهبة بناء العلاقات الشّخصيّة وكسب ثقة النّاس كما فعل “الوالد الذي توسّعت علاقاته إلى أن عقد صداقة مع أكبر رجال الأعمال في فنزويلّا”. ويَعتبر غسّان عسّاف أنّ “هذا النّجاح في بناء شبكة العلاقات والصّداقات والسّمعة الطيّبة التي بناها الوالد ساعداه كثيرًا في تنمية أعماله، لأنّ الثّقة مع الموهبة هي أهمّ أسباب النّجاح. وكلّ شخص يضع نفسه في المكان المناسب يجذب الحظَّ إلى ذلك المكان”.

مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون
مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون

العَوْدةُ إلى الوطن
على عكس ما يتوقّع المرء فإنّ جَمْعَ تَوفيق عسّاف لثروة مُحترمة في المهجر لم يجعله يتعلّق بالاغتراب أو يستبدل وطنه الذي ترعرع فيه بالمُغْتَرَب البعيد. بالعكس، فقد تحولت ثروة توفيق عسّاف إلى حافز قويٍّ له للعودة به إلى البلاد التي يعرفها جيّدا ويحبّها ويعلم أيضًا أنّها بلد الفرص والأُلفة والعيش الأصيل. ورغم أنّ فنزويلّا كانت يومذاك تعوم على ثروة النّفط فإنّ توفيق عسّاف قرّر يومًا أنّ الوقت قد حان للعودة إلى الوطن
حدث أمرٌ جعلَ المغتربَ النّاجحَ يحزم قراره في عودة عَجْلى إلى الوطن، إذ انفتحت أمامه فجأةً فرصة الحصول على اميتاز شركة الببسي كولا للسّوق اللبنانية. كان ذلك بفضل علاقته الوثيقة بعائلة “سيسنيرو” الذين كانوا من أثرياء فنزويلّا وكانوا وكلاء البيبسي كولا في تلك البلاد.
كانت الببسي آنذاك في طَوْر توسيع انتشارها في العالم، وكانت السّوق اللّبنانية سوقًا واعدة بسبب الازدهار اللّبناني، والحركة السّياحيّة آنذاك ، لكن السّوق كانت حينها حِكرًا على شركة كوكا كولا، الأقدم والأعرق تاريخيًّا والمهيمنة عالميًّا. لكنّ توفيق عسّاف لم يتردّد لحظةً في السّعي لنيل ذلك الامتياز، فسافر إلى نيويورك برفقة بعض أصدقائه من أسرة سيسنيرو الذين دعموه مباشرة لدى الشّركة الأمّ، وكانت النّتيجة أن عاد من سَفرته الموفّقة تلك بعقد امتياز البيبسي كولا في السّوق اللّبنانيّة. كان ذلك في العام 1949 وفي ذلك العام عاد توفيق عسّاف إلى لبنان لتأسيس شركة الببسي، وإطلاق أعمالها.
لكنْ بمجرّد تأسيس الشّركة وإنشاء مصانعها في الحازميّة شنَّت شركة كوكا كولا على الشّركة النّاشئة حربًا قاسية لأنَّها كانت تريد حماية حِصّتها الضّخمة في السّوق، وكان ردّ فعل كوكاكولا جزءاً من سياستها ضمن الصّراع الذي بات عالميًّا مع شركة بيبسي كولا، ولأنّ شركة كوكا كولا كانت قد تأسَّست قبل عَشْرِ سنواتٍ في لبنان فإنّها كانت تستحوذُ على معظم السّوق وجميع نقاط البيع والتّوزيع. وفي سبيل توجيه ضربة قاضية إلى شركة بيبسي كولا النّاشئة قامت كوكاكولا بخفض أسعارها بشكل كبير ممَّا أدّى إلى هبوط مبيعات الشّركة المنافسة التي مُنِيَت بخسائر كبيرة، لكنَّ توفيق عسّاف صاحب العزيمة قرّر الرّدّ على الحرب بحرب مماثلة وأثبت في وقت قصير أنّه نَدٌّ قويٌّ بل خصم متفوّقٌ على منافسيه. لقد قرّر وبدعم من الشّركة الأمّ في نيويورك شنَّ حملة تسويقٍ كبرى في لبنان استخدمت إغراء “الرّبح الفوريّ” وذلك من خلال الهدايا الموجودة تحت الغلاف الدّاخليِّ لسِدَادة زجاجة البيبسي، وكانت الهدايا مهمّة مثل الكاميرات أو السّاعات أو الأدوات المنزليّة أو السّيارة أو حتّى الشّقة السّكنيّة، وغير ذلك، وبدأت عناوين الصّحف اللّبنانية تنشر الأنباء المثيرة عن جوائز الببسي كولا والرّابحين، وتهافت النّاس على زجاجات البيبسي وارتفعت مبيعات الشّرِكة، وفي أقلّ من خمسةَ عشَرَ عامًا كانت الشركة قد حصلت على نِصف السّوق اللّبنانيّة من المرطِّبات. ولفتت تلك النّجاحات الصّحافة اللّبنانيّة فكتبت عن تَوفيق عسّاف،”رجل الأعمال النّاجح ذي الأخلاق الحسَنة والسّمعة الطّيّبة”.
وبفضل تلك السّمعة الطّيّبة، ولا سيّما الموثوقيّة والصّدق في المعاملة التي يتمتّع بها توفيق عسّاف فقد ارتقى به سعيُه إلى مهنة تقوم على قيم من الثقة والمصداقيّة، ألا وهي مهنةُ العمل المصرفيّ. ورغم أنّه لم يكن يمتلك خلفيّة مصرفيّة فإنّ بروزه كرجل أعمال وصناعيٍّ ناجح جعل منه شريكًا مناسبًا لمجموعة من رجال الأعمال كانوا يعملون على تأسيس “بنك بيروتَ والبلاد العربيّة” ومن أفراد تلك المجموعة نَشْأتْ شيخ الأرض وهو سعوديٍّ من أصل سوريٍّ وجمال شحيبر وهو لبنانيّ من أصل فِلَسطينيّ. تردّد توفيق عسّاف بادئ الأمر، انطلاقًا من كَوْنه لا يمتلك خبرة في الصّناعة الماليّة، لكنّه اقتنع في ما بعد، وقَبِلَ في العام 1954 المشاركةَ في تأسيس البنك الذي انتُخِبَ ألفرد نقّاش أوّل رئيس مجلس إدارة له. وفي العام نفسه تزوّج توفيق عسّاف من عايدة ابنة شاكر صعب، التي وفّرت له سندًا قويًّا في حياته العائليّة والاجتماعية. يقول الأستاذ غسّان عسّاف في ذلك: “والدتي لم تكن تشبهه بل كانت تُكَمّله، وفيما فُرِض على رجل بمكانته أن يكون صارمًا وقاسيًا عائليًّا، كانت هي الوجه اللّيّن ومصدر الحنان كما حملت عنه بعض الأعباء الاجتماعيّة التي لم يكن بمقدوره تلبيتها خصوصًا بعدما تطوّرت أعماله وانخرط في السّياسة”.

الصّناعة والمؤسّسات
بعدما أخذت السّياسة ألفرد نقّاش، طلب من تَوفيق عسّاف تَرَؤس البنك نظرًا لمكانته في المجتمع ولثقة النّاس به، فقبل المهمة لكن على أن يكون له في الوقت نفسه الاستعانة برجل يثق به للإدارة الفعليّة. في ذلك يقول الأستاذ غسّان: “كان والدي متواضعًا ولا يدّعي أنّه يعرف كلَّ شيء، وهو رأى أنّ تَرَؤس إدارة مصرِف يجب أن يعهد به إلى شخص متخصّص ولديه الخبرة في الشؤون المالية،لذلك، قبل بتسلّم المنصب، لكنّه استقدم الشّيخ أمين علامة الذي كان موظفا كبيرا في البيبسي كولا نظرًا لثقته به، وأرسله إلى أميركا حيث تدرّب لمدّة سنة، وكان مثابرًا أحبّ عمله، وعند عودته كلّفه بالإدارة العامّة – وكان البنك وقتها صغيرًا – لكن أمين علامة تطور ورافق تطور البنك وكان من المصرفيين الذين يحظون باحترام في أوساط الصناعة المالية. ونتيجة النّجاحات التي حقّقها بنكُ بيروتَ والبلاد العربيّة بقي توفيق عسّاف رئيسَ مجلس الإدارة إلى حين وفاته”.
أمّا على صعيد المساهمة فقد زادت حِصّة توفيق عسّاف مع الوقت أوّلًا إذ قرّر آل شحيبر بيعه حِصَّتهم ممّا جعل منه المساهم الأكبرَ في المؤسّسة، ولا زال نشأتْ شيخُ الأرضِ شريكًا مساهمًا لغاية اليوم رغم أنّ أولادَ توفيق عسّاف اشترَوْا مزيدٍا من الأسهم وهم يملكون حاليًّا 80 في المئة من بنك بيروت والبلاد العربية.
دعمَ الشيخ توفيق على صعيد الصّناعة أيضًا أكثر من شركة كما شارك في تأسيسها، وكانت هذه الشّركات متخصّصة في صناعات عديدة بعضها يعتمد على شركة البيبسي كولا، مثل صناعة الزّجاجات وسِداداتها الحديديّة والبلاستيكيّة وغيرها. كما دخل الشّيخ توفيق مجال التّأمين كمساهم أساسيٍّ في شَركة SNA التي بيعت في ما بعد.
ولم يقتصر عمل ونشاط توفيق عسّاف على قِطاع الصّناعة والأعمال المصرِفيّة إذ امتدَّ ليشمل الإعلام، فكان مساهمًا رئيسًا في تأسيس “تِلِفزيون لبنانَ والمشرق” وقدّم الأرض في الحازميّة لإقامة مبنى التِّلِفِزيونَ. كما كان من مؤسّسيّ نادي الصَّفا الرَّياضيِّ ورئيسه الفخريّ لسنوات عدّة.

رجلُ المواقف
بسبب مساهماته الكثيرة ومشاركته المتزايدة في الحقل العامّ اختير توفيق عسّاف رئيسًا للجنة تأسيس دار الطّائفة الدّرزيّة في فردان، وتسنّى له بعد ذلك التعرُّف على القيادات الدّرزيّة، فبنى صداقة مهمَّة مع المرحوم كمال جُنْبُلاط الذي رأى فيه رجل مواقف إنسانيّة ووطنيّة قبل أنْ يراه رجل أعمال. أمّا بالنِّسبة لتوفيق عسّاف فإنَّ كمال جنبلاط كان الصّديق الذي يتشارك معه في التأمُّل والتّصوُّف بعيدًا عن أجواء الحياة اليوميّة والأعمال.
نتيجةً لتلك الصّداقة اقترح كمال جنبلاط على الشّيخ توفيق في العام 1960 التّرشّحَ للانتخابات فلم يتحمّس بدايةً للفكرة، لكنّه عاد وقبل من منظار رغبته في مساندة الزّعيم كمال جنبلاط في نضاله السّياسيّ، وقال يومها في شرح قبوله بفكرة دخول النّدوة النّيابيّة “لم أفكّر يومًا في الانتقال من المَيْدان الصِّناعيّ والتِّجاريّ إلى العمل السّياسيّ، غير أنّ الصّداقة التي تربطني بكمال حنبلاط والمحبّة المتبادلة بيننا دفعتا بي إلى دخول المعترك السّياسيِّ”. هذه الصّداقة ترافقت في الوقت نفسه مع رابطة وثيقةٍ بالمرحوم الأمير مجيد أرسلان، والمفارقة أنّ توفيق عسّاف لم يكن مجرّد نائب عن دائرة عاليه، بل كان في العام 1972 المرشح التوافقيّ بين الرّاحلين كمال جنبلاط والأمير مجيد. وهكذا أمضى عشرين عامًا في النّيابة، كما أصبح وزيرًا للاقتصاد والنّفط ، فأهّل الوزارة وسنّ تشريعات من أجل تطويرها.
خلال الحرب الأهليّة كانت زوجته والأبناء في الخارج لكنّه لم يترك لبنان سوى لزيارة العائلة ولم يَغِبْ عن وطنه أكثرَ من شهرٍ واحد.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط بقي توفيق عسّاف على تنسيق تامٍّ مع النّائب وليد جنبلاط وفي العام 1989 كان توفيق عساف النّائب الدّرزيّ الوحيد الذي بقي على قيد الحياة والممثّل الوحيد للطّائفة التي دافع بشدّة عن حقوقها في اجتماعات الطّائف وكان لوجوده ومشاركته الفاعلة أثر مهمٌّ في الموافقة على إصلاح دستوريّ أساسيّ هو إنشاء مجلس للشّيوخ في لبنان برئاسة درزيّ.

مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان
مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان

“بسبب شخصيّته الموثوقة اقترحه كمال جنبلاط نائبًا عن عاليه ثم أصبح نائبًا بتوافق جنبلاطيٍّ أرسلانيّ لمدّة 20 عامًا”

بَصمات ذهبيّة
كانت لمدينة عاليه مكانةٌ خاصّة في قلبه، كما كان له بدوره في كيانها بصمات ذهبيّة، وكان البنك في عاليه الواسطة التي من خلالها تمّ توفير التّمويل للعديد من الشّرِكات الصّغيرة والمشاريع الفرديّة سواء للبدء في الأعمال أم لعمليّات التوسّع والاستمرار. يقول الأستاذ غسّان :”آمن والدي بأنَّ النّظام الحرَّ ليس لإغناء الأغنياء بل لخلق الفرص والمجالات أمام الأفراد وخصوصًا الفقراء لتطويرهم ورفع مستوى معيشتهم، وتأمين العمل لأكبر عدد ممكن من النّاس… أقصد أنّه كان يؤمن بالرّبح المعقول ويرفض الطّموح المتوحّش، من هنا قضت خطّته بانتشار فروع البّنك في كلّ المناطق والقرى المهمّة خصوصا في الجبل. وفي وقت كانت فيه المصارف تهتمّ بالشّرِكات الكبرى كان همّ توفيق عسّاف مساعدة وتمويل المؤسّسات الصّغيرة والفرديّة، فكان بذلك رائدًا في مجال دعم المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة وفي مجال المسؤوليّة الاجتماعيّة التي باتت اليوم على جدول أعمال كلّ مصرِف. ويتميّز بنك بيروتَ والبلاد العربيّة لغاية اليوم بأنّ جزءًا كبيرًا من موجوداته موزّعًا في المناطق بينما يتركّز 45 في المائة فقط منها في بيروت”.

الصّديق المُنفتح
كما سبق وذكرنا كان توفيق عسّاف رجلًا مُنفتحًا واجتماعيًّا منذ صِغَرِه، ولم ترتبط صداقاته بأهل طائفته أو منطقته بل تخطّت ذلك فكان إدمون كسبار نقيب المحامين آنذاك رفيق دربه، كما صادق فوزي مارون وطلب منه أن يكون عضو مجلس إدارة في البنك، ومن أبرز أصدقائه وزير الماليّة في ذلك الوقت علي الخليل. صاحب البيت المفتوح والمائدة الدّائمة، حافظ على أصدقائه وعلاقاته الاجتماعيّة طوال عمره، ورغم أنّه تعرّض لبعض الخَيبات إلّا أنّه لم يندم قَطُّ على مبادئه وانفتاحه واتّساع دائرة الأصدقاء. ذلك أنّه على العموم قليلًا ما كان يُخطئ في اختيار النّاس المناسبين في كلّ مراحلَ حياته.

رحيلُه ووصيّتُه
في العام 1992 تراجعت صِحّتُه ممّا فرض عليه أن ينكفئ، ويقلّل من التزاماته الاجتماعيّة وفي فجر التّاسع من أيّارَ من العام 1996 رحل توفيق عسّاف إلى دنيا الحّقِّ عندما كان برفقة زوجته ورفيقة عمره في قبرص. وكانت إحدى وصاياه، تحويل أرض منزل والدَيه إلى مبنى للبلديّة ومكتبة عامّة، “نفذنا وصيّتَه وجرى وضعُ الحجر الأساس للمبنى في احتفال الذكرى السّنويّة الأولى لرحيله في العام 1997. وفي الذّكرى الثّانية تمّ تدشين مبنى البلديّة والمكتبة العامّة”، وقد جُهّزت المكتبةُ وفقًا للمواصفات العالميّة. وهي تقدّم لطالبيّ العلم والثّقافة مجموعةً واسعةً وشاملةً من الكتب والمجلّدات. وتضمُّ آلافَ العناوينَ في اللّغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة لكلّ الأعمار. أمّا البلديّة فقد أطلقت على الشّارع الذي يقع وسط البلدة اسم “شارع الشّيخ تَوفيق عسّاف”

العدد 16