الأحد, تشرين الثاني 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, تشرين الثاني 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قرية الكفر

قرية الكَفْـــر

كــانت منتجعــاًلمتقاعــــدي الجيــــش الرومانــي
وأعاد المعروفيون إعمارها في القرن التاسع عشر

الزراعــــة والاغتـــــــــراب أكبــــــــر مصــــدرين للعيــــش
وإنتــــاج الكرمــــة %30 من كــــــامل إنتــــــــاج الجبــــل

خلفية تاريخية
يعود إسم القرية الأولى لعدّة احتمالات، وكلمة “الكفر” من معانيها: كَفرَ الشيء : ستره، والكفر: الأرض البعيدة عن الناس، وتعني أيضاً: القرية، وهي من كفرا بالسّريانية ومعناها قرية أو مزرعة أو حقل، وتعتبر السّريانية من أمّهات اللغة العربيّة، والكَفر من الجبال: العظيم، وجمع الكَفر: كُفور.
ويمكن القول إنّ الكفر النّبطيّة واكبت من حيث زمن عمرانها إعمار صلخد وقنوات وسيع بدليل أنّه “عُثر في صلخد على كتابة نَبطيّة دينيّة موجّهة إلى (اللات) آلهة الخصب، وعثر في سفح تل القليب على هيكل نبطي للإله ذي الشّراة، وكذلك في سيع قرب قنوات حيث معبد الرب بعل شامين، وهذه آثار يعود قسم منها إلى السنوات الأخيرة قبل الميلاد وبعضها إلى القرن الأول الميلادي”1. وبهذا نستنتج أنّ العمران الأوّل في بلدة الكفر الحالية يعود لأكثر من ألفي عام، كما وجدت في تل القليب كهوف طبيعية ومغارة نَبطيّة لكن لم يبق من آثارها الكثير. وتحتوي القرية الأولى وما حولها على آثار مساكن وحصون في موقع تل الظّْهِيْر تعود إلى العصر الحجري استناداً إلى ما ورد في كتاب “السّويداء بين الزمان والمكان”.
كانت الكفر محاطة بسور وأربعة أبواب من الحلس كلّ منها بدرفتين من الحجر البازلتيّ لم تزل بعض آثارها ماثلة للعيان. هذا، إلى جانب منحوتات كثيرة محفوظة في متحف السّويداء، بالإضافة إلى عدّة كنائس أهمّها كنيسة القدّيس جورج، وآثار البلدة تشير إلى أنّها عرفت تتابع العمران في العصر اليونانيّ والرومانيّ والإسلاميّ، ولكنها تعرّضت للخراب على أثر الغزو المغولي في القرن الثّالث عشر الميلادي كسائر حواضر جبل حوران. وعندما زارها الرّحالة بيركهاردت في عام 1810 منذ مطلع القرن التاسع عشر كانت قرية يرين عليها الخراب. يقول الأستاذ سلامة عبيد في ترجمته لرحلة بيركهاردت إلى المنطقة:”ويتابع (أي بيركهاردت) طريقه إلى الكفر، حيث يتغدّى في كنيستها بعض طيور القطا التي اصطادها رفاقه ولا يذكر أنّها كانت مسكونة”. وفي ص28 ما يشير إلى أنّ الكفر على الرّغم من خرابها كانت تتضمن أبراجاً أثريّة ما يدلّ على أنها شهدت عمراناً ذا شأن في عصور سالفة، إلاّ أن إعادة إعمارها الأخير على أيدي بني معروف يعود لما بعد أواسط القرن التّاسع عشر.
ويذكر مثقّفون وكتّاب معاصرون من أبناء الكفر، وهم مهتمون بتاريخ بلدتهم، أنّ تلك البلدة كانت في العصر الروماني قرية يقطنها المتقاعدون من الجيش والموظفين الذين يؤثرون الحياة الوادعة فيها.
ولا بدّ أنّ هواء الكفر النّقي وهي البلدة المجاورة لحرج تاريخي2 وصيفها اللطيف جعلا منها مقصداً لآلاف الزّوّار والسّيّاح الذين يقصدون الحرج خاصة منطقة المطار الزّراعي على أقدام سفح تل القليب.
وعلى أرض الكَفر جرت باكورة معارك الثّورة السّورية الكبرى وأولى انتصاراتها على الفرنسيين، وقد شُيّدت حديقة الشّهداء الحاليّة في المكان الذي دارت فيه تلك المعركة حيث اختلطت دماء الشهداء بتراب تلك الأرض ممّا جعلها معلماً سياحياً وتاريخياً بارزاً. (راجع : معركة الكفر)

بيت قديم في الكفر
بيت قديم في الكفر

الموقع والمساحة
تقع الكفر على مسافة اثني عشَرَ كيلومتراً جنوب شرقي السّويداء على الطريق الواصلة إلى مدينة صلخد، ويتدرّج ارتفاع مجمل أراضي البلدة من 1300م حتى ارتفاع 1,650 م فوق سطح البحر، ويبلغ المعدل السنوي لتساقطات الأمطار فيها نحو 450 مم .
هذا، ويبلغ ارتفاع القرية القديمة 1,360م فوق سطح البحر، أما عدد السكّان الحاليّين فيزيد على 12,000 نسمة، كما ويساهم مال

الاغتراب بأكبر نسبة من عمرانها إذ يصل عدد مغتربي البلدة إلى ما ينوف على 1,700 مغترب، يتوزّعون بين دول الخليج وأوروبا وأمريكا وغيرها من بلدان الاغتراب.
يتوزع عمران البلدة على أربع تلال أشهرها تل القليب الذي يعتبره كثيرون أعظم من أن يوصف بـ “تل”، فهو يرمز إلى شموخ القرية بل وسائر جبل حوران، وفي ذلك يقول الشاعر عيسى عصفور وهو المسيحي الأرثوذكسي ابن قرية أم الرّمّان، متوجّساً من ابتعاد أهل هذا الزمان عن القيم الأصيلة للآباء والأجداد:
خايفْ على القْليبْ يِغْدي تَلّهْ
من بعدْ ما هُوْ عَ النَّوابيْ نايف
هذا، وتبلغ مساحة السكن في البلدة 512 هكتاراً وفقاً للمخطط التّنظيمي المعتمد من البلدية، وتبلغ أطوال شوارعها المعبّدة 35 كلم، ومساكنها كافة مزوّدة بمياه الشّرب بنسبة 100% أمّا من حيث الصرف الصحّي فتبلغ نسبة المساكن المغطاة 85%.وفي البلدة أكثر من عشرين عيادة لأطباء متنوعي الاختصاصات و6 صيدليّات و 250 محلّاً تجاريّاً وعدد من مؤسسات الحرف المختلفة.

الوضع الزراعي في الكفر
تبلغ المساحة العقارية للبلدة والأراضي الزّراعية التابعة لها 2514 هكتاراً، منها 271 هكتاراً عبارة عن حرش معظم أشجاره من السنديان والبلّوط المعمرة التي تربو على المئات من السنين، وفيما عدا ذلك تنتشر في البلدة زراعة الكرمة على مساحة 1,200هكتار، والتفاح على مساحة 600 هكتار، والتّين والإجّاص والجنارك والكرز والدرّاق والسفرجل والخوخ واللوز والرمّان والتوت الشامي كزراعات إضافية، وقد دخلت إلى البلدة منذ عقود زراعة الزيتون وهي زراعة دخيلة، إذ إنّ الارتفاع لأكثر من 900م فوق سطح البحر لا يخدم شجرة الزيتون، وكذلك فإنّ موسم الثلوج يضر بأغصانها لكن قيمة ثمار الزّيتون وزيتها يشجعان المزارعين على المجازفة بزرعها.
ويبلغ إنتاج البلدة وسطيّاً نحو 6,000 طن من العنب على اختلاف أنواعه، يذهب منه نحو 5,000 طن للعصير، وتصل مساهمة الكفر من حيث إنتاجها للعنب إلى نحو 30% من إجمالي إنتاج الجبل بشكل عام وهم يصنعون الزّبيب الجيد والدبس المعروف بنوعيته العالية.
كما يبلغ إنتاج البلدة من التّفاح نحو 8,000 طن، والزّيتون 4,000 طن.
ويفيد الأستاذ أنور الجوهري رئيس وحدة الإرشاد الزراعي في البلدة أنّه بعد أن كانت الأرض تُحرث بواسطة البغال والثّيران فقد حلّت الآلة محلّها ممثّلة بالجرّارات والعزّاقات ولم يبق من حيوانات الحراثة سوى 10 خيول و30 بغلاً.
وعلى هامش الزّراعة، يعمل العديد من الأسر على تربية الأبقار الحلوبة وعددها 80 رأساً، ودجاج بلدي 3,500 طائر، بالإضافة إلى60 خلية نحل، و100 غرفة لتربية طيور الرّاماج بهدف بيعها لتجّار يذهبون بها إلى التّصدير للخارج. وكانت تلك عملية مجزية غير إنّ الأحداث السّورية وتوقّف التصدير الذي كان بمعظمه يتمّ عن طريق حلب ينذر بخسائر فادحة للمربّين.

تربية طيور الراماج مصدر دخل أثرت عليه الأحداث الأمنية
تربية طيور الراماج مصدر دخل أثرت عليه الأحداث الأمنية

تاريخ إعمار القرية
ظلّت الكفر على غناها بالمياه والينابيع خَربة لفترة طويلة في الوقت الذي أحييت فيه وأعيدت إلى العمران القرى المجاورة لها، وذلك يعود لطبيعة أراضيها الوعرة، لكن ساكني الكفر تمكنوا من استصلاح معظم تلك الأراضي يدويّاً.
ومن ينابيع البلدة المهمة نبع عين موسى، ويروي المعمرون أنّه كان عليها بناء أثري يسمّونه “القصر” وهو في حقيقته كان معبداً لإلهة المياه في العصور الوثنيّة، وعين العلّيقة وعين الرّصفة ونبع المنسلطة وعين خْريم وعين السخنة وهاتان تغوران في فصل الرّبيع، يضاف إلى ذلك ينابيع لا تظهر إلاّ في السنوات الغزيرة الأمطار.
وإلى وقت قريب، كان سكّان الكفر يستمدّون مياههم من نبعي عين موسى وعين العلّيقة ولكنّ نمو سكان البلدة وتوافد قاطنين جدد إليها تسبّبا بأزمة مياه قادت إلى مساعدة من قبل إحدى منظمات الأمم المتحدة التي أمدّت البلدة بخزّانات تمّ توزيعها في أحياء الكفر للحَدّ من أزمة الاحتياج للمياه.
وفي البلدة مدرّج كبير للمناسبات العامّة من أفراح وأتراح أنشئ بمساهمة كريمة من مغتربي وأهالي البلدة.
ويطمح مواطنو الكفر لإنشاء سوق هال محلّيّة تستفيد منها بلدتهم والقرى المجاورة لتسويق الإنتاج الزّراعي من عنب وتفاح وغيرهما من المنتجات المحلّية هذا بالترافق مع إنشاء منطقة صناعيّة لمجموعة قرى السفح الجنوبي الأعلى من الجبل وهي قرى الكفر ومياماس والسهوة وحبران.

سكنى الموحدّين في الكفر
معظم العائلات التي اتّخذت الكفر سكناً لها تعود في أصولها إلى عائلات لبنانيّة، ويروي المعمرون بأنّ أوّل من سكن الكفر هو عبد الله مرشد الذي قدم إليها من قرية سهوة البلاطة، ومن عائلات الكفر، بالإضافة لآل مرشد، جمهرة آل حديفة ونكد وأبو عمر وآل سلّوم والشعّار وبدران وأبو حسن وخزعل وسابق والبراضعي وبركات ونصر الدين والبني وعبيد وحمدان وخضير وخير وسْعيد وعكوان والندّاف والنونو وقنديل والجوهري والصبّاغ وعدنان والحضوي والصفدي والسكّر والعسل وعدوان وكَحل وناصر وذبيان والحلبي والجرماني ومطرد والخطيب ويونس والعياش ومنذر وزين الدين وعبد السلام والنبواني وأمان الدين، وأبو سيف وملّاك والدّعبلّ.
ويقطن البلدة إلى جانب العائلات المعروفية نحو 400 نسمة غالبيتهم من عشيرة الشنابلة ويضاف إلى هؤلاء المواطنين الأصليين 170 أسرة من الوافدين إلى الكفر بسبب المحنة السورية قدموا من ريف دمشق وحلب وحمص ودرعا وإدلب وغيرها.

بيت جاد الله حديفة
بيت جاد الله حديفة

المؤسسات الخدميّة والدوائر الحكوميّة
في البلدة
في الكفر مجلس للعبادة خاص بالموحّدين المسلمين ومسجد للبدو السنّة، ومبنى خاص بدار البلديّة و 6 مدارس ابتدائية ومدرسة إعدادية واحدة بالإضافة إلى مدرسة ثانوية عامة ومدرسة مهنيّة ومدرسة ثانوية صناعيّة، وروضة أطفال تابعة للاتّحاد النّسائيّ و6 روضات أطفال خاصّة، ومركز صحّي يقوم بتقديم الخدمات الطبّية المجانية والمخبريّة للمواطنين من البلدة وخارجها، وشعبة لمنظمة الهلال الأحمر تقدّم الخدمات الطبيّة والمساعدات الخيريّة الإغاثيّة المنتظمة، ووحدة إرشاد زراعي، ومركز هاتف آلي ومركز ثقافي وجمعية خيرية وجمعية تعاونية فلّاحية.

حمد عامر

حَمَد عامر مجاهد الثّورتين

1875 ــ 1925

قاتل حملة الفاروقي وشارك في الثورة العربية
وخاض معارك الثورة السورية وسقط فيها شهيداً

رفض «هدية» الليرات الذهبية من الشريف حسين
والتقاه سلطان باشا لأول مرة في اجتماع مع الملك فيصل

نجا بأعجوبة من كمين تل الخروف وقاتل في المسيفرة
لكنه سقط وهو في الخمسين من العمر في معركة السويداء الثانية

الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر
أبّنه بالقول: فقدنا رجلاً لا تعادله الرجال

آلُ عامر في جبل حوران
لم يهنأ آل عامر طويلاً بعد قدومهم من إقليم جبل الشّيخ على أثر موقعة دامية جرت لهم في دير حِينَة في إقليم جبل الشّيخ، إذ اعتُدِي عليهم من قبل بعض الجيران، ومن ثمّ تمّت ملاحقتهم من قبل العثمانييّن الذين انحازوا للمعتدين تحت غطاء الانتماء المذهبيّ فأعدموا بعضهم ونجا آخرون منهم اضطرّوا للّجوء إلى جبل حوران نحو عام 1805، أما آل عامر فقد استقرّوا في شهبا وتمدّدوا إلى العديد من قُرى وادي اللّوى ونجحوا في تحقيق نوع من التّوازن بينهم وبين العشائر البدويّة التي كانت لا تقيم وزناً للزّراعة بسبب اعتمادها في رزقها على الرّعي والغزو.
المولدُ والنّشأة
في تلك البيئة القلقة والمُضطربة وُلد حمد عامر عام 1875م في عائلة تنتمي لكبار ملاّك الأراضي في المقرن الشّمالي من الجبل في قرية “البثينه” التي تقع إلى شمال شرقي مدينة شهبا بنحو عشرين كيلو متراً، ولنا أن نتصوّر العوامل التي أثّرت في تشكيل وعيه الوطني منذ بدايات شبابه الأولى، منها مثلاً توجّس السّلطات العثمانيّة من الموحّدين الذين شكّلوا مجتمعاً حَضَريّاً متماسكاً في جبل حوران الذي كان شبه مهجور لبعده النّسبيّ عن مركز الولاية في دمشق. كان ذلك المجتمع المترابط يمثّل عقبة يعسر على الولاة العثمانيين تطويعه بسهولة. وإلى الهاجس العثماني الدائم لاحتواء ذلك المجتمع النّامي في جبل حوران يشير سلطان باشا في كتاب “أحداث الثورة السّوريّة الكبرى” بالقول: لست أشكّ بأنّ لجوء الأمير سلطان بن الرّشيد إلى الجبل عام 1906 والاحتفاء به في مختلف قرى الشّمال والوسط والجنوب وخروج البيارق لحمايته والسّير في موكبه تحت سمع ممثّليّ السلطات التّركيّة وبصرهم قد أثار غضب ولاة الأمور في دمشق والآستانة ثم جاءت حادثة غزو المعجل في ضْمِير كل هذا زاد من حقد الأتراك وأعوانهم وتربّصهم بنا وجعلهم يحسبون لتلك المظاهر المسلّحة ألف حساب لما قد تثير من حماسة أحرار العرب في الأقطار المجاورة وتساعد على تقوية حركتهم القوميّة الناشئة وقتذاك، لذلك لجأوا إلى أسلوبهم التقليديّ المعروف في إثارة الأحقاد الدّينيّة في منطقتنا واستغلال الحوادث العاديّة التي كانت تقع بيننا وبين جيراننا الحوارنة لتبرير الحملات العسكريّة الكبيرة التي كانوا يجرّدونها علينا بقصد إخضاعنا لأنظمتهم الفاسدة وقوانينهم الجائرة في غفلة من ضمائر أخواننا العرب في كل مكان”.

المجاهد-حمد-عامر
المجاهد-حمد-عامر

عضو في “العربيّة الفتاة”
يشير سعيد الصّغير في كتابه”بنو معروف في التّاريخ” ص477 إلى أنّه في عام 1909 ألّف مجموعة من الأحرار العرب من بلاد الشّام في باريس جمعيّة “العربيّة الفتاة” ومن ثمّ انتقل مركزها عام 1912 إلى بيروت فدمشق وكان شعارها بادئ أمرها “العمل بالنّهوض بالأمّة العربيّة إلى مصافّ الأمم الحيّة”. ولم يكن لـ “العربيّة الفتاة” حينها هدف في الانفصال عن العثمانييّن غير إنّ ذلك الهدف تبدّل عقب إعلان الحرب العالمية الأولى إلى الدّعوة للإستقلال عن العثمانيين. ومن الذين اشتركوا بعضوية تلك الجمعية أنجال الشريف حسين وانضمّ إليها من الدّروز نسيب الأطرش وحمد ومزيد عامر وسليم ومعذَّى المغوّش وحمد البربور وأسعد مرشد وحسين مرشد رضوان ومزيد أبو عسلي وعبد الله العبد الله ومحمد الجرمقاني وعلي الملحم وغيرهم من المتحمّسين لاستقلال العرب عن العثمانيين.
وفي الحملة العثمانيّة على الجبل التي قادها الجنرال سامي باشا الفاروقي عام 1910 قاتل حمد عامر إلى جانب قومه بني معروف إذ اشترك إلى جانب ابن عمّه يحيى عامر في معركة تلّ المفعلاني قرب قريتي مفعلة وقنوات، وفي معارك المواجهات التي جرت بين الموحّدين والجيش العثماني المؤلّف من نحو ثلاثين ألف جندي. وتشير وثيقة عثمانيّة أوردها عبد الرحيم أبو حسين في كتابه “حوران في الوثائق العثمانيّة” (ص439 ) إلى أن يحيى عامر كان قد قاد “العصاة بنفسه مدة ثلاثة أيّام خلال اشتباكات قنوات”.
عام 1911 أعدم العثمانيّون إثنين من أقرباء حمد عامر هما يحيى عامر من شهبا ومزيد عامر من المتونة وذوقان الأطرش والد سلطان باشا وهزّاع عزّ الدين وحمد المغوّش وحمد القلعاني ومن التّهم التي وُجّهت إليهم دون أن يُدانوا بها تهمة الخروج على الخلافة والكفر كما سيق من أبناء الجبل حينها نحو ألف وثلاثمائة شاب للخدمة العسكريّة في بلاد الأناضول والبلقان
وهذا كله كان مبرّراً ليحسم حمد عامر موقفه من سلطة التّرك بصورة نهائيّة.
وفي عام 1914 أخذ الأحرار من قادة الجبل ومنهم سلطان الأطرش، حمد عامر، فضل الله هنيدي، حمد البربور وغيرهم ينظّمون الخطط لعرقلة حركات الجيوش العثمانية بين دمشق وفِلِسطين، كما رفضوا انخراط الدّروز بالجيش التّركي”.

يرفض مال الشّريف حسين
كان حمد عامر يعمل ضدّ العثمانيين لهدف وطني بحت هو التّحرر وتحقيق الاستقلال السوري والعربي عن الدولة العثمانية التي كانت قد وقعت تحت هيمنة الطورانيين من أصحاب سياسات التتريك وإخضاع العالم العربي. ولم يكن هذا المجاهد ليكترث للمال الذي كان يوزّعه الشّريف حسين وابنه فيصل لكسب الأنصار. ويروي مزيد عامر من قرية البثينة إثر مقابلة أجريت معه
عام 2010 بأنّه “عام 1918 بعث الأمير فيصل رسولاً إليه، (أي إلى حمد عامر) وإلى ابن عمّه زيد عامر يحمل رسائل، ومبلغاً من اللّيرات الذّهبية فاستلما الرّسائل وأعادا المبلغ مع الرّسول وهو من آل العسل”. كان للرّجل (أي حمد عامر) أنفته التي جعلته يرفض تقاضي المال كما لو أنه مكافأة لنضاله في الثورة العربية كما إنه لم يكن بحاجة إلى المال فهو يمتلك أراضي واسعة وثلاثة آلاف رأس من الغنم وبئراً في أرض فِناء دارته في قرية البثينة يملؤها بالسّمن ليطعم منها الصّادي والغادي…
ويشير سعيد الصّغير إلى أن حمد عامر ونجم عزّ الدّين وفضل الله هنيدي كانوا من بين قادة الرّأي وزعماء الجبل الذين أيّدوا فيصل بن الحسين قبل دخوله دمشق في 2 تشرين اوّل سنة1918 1 .
وإبّان دخول قوّات الثّورة العربيّة لتّحرير دمشق بقيادة الشّريف فيصل بن الحسين كان هناك الكثير من الثّارات بين القبائل والعشائر العربيّة التي اجتمعت على تأييد الثّورة العربية، ولذلك فقد أرسل فيصل المجاهد الشّيخ حديثة الخريشا وهو من زعماء قبيلة بني صخر المنتشرة في الأردنّ إلى دمشق بهدف إبلاغ قادة القوّات العربيّة وزعماء العشائر برغبته بدفن الخلافات والثّارات القديمة بينها من أجل جمع كلمة الأمّة، وقد التقى بهم الأمير فيصل في ديوانه في حيّ المهاجرين وكان حمد عامر أحد أولئك الزّعماء في ذلك الاجتماع. وفيه توطّدت علاقة سلطان بحمد كما يشير سلطان في مذكراته المخطوطة، (ج1، ص52) بقوله: “منذ ذلك الحين توثّقت علاقتي بحمد عامر فغدا صديقاً حميماً لي تمثّلت به روح التّضحية في سبيل الحرّيّة والاستقلال”، وعلى أثر الاحتلال الفرنسي لسوريا عام 1920 وانتقال الملك فيصل إلى فلسطين أرسل سلطان رسلاً من قبله دعا فيها الملك فيصل للعودة إلى الجبل من أجل متابعة الكفاح ضدّ الفرنسييّن2 لكن تجاهل فيصل للنداء خلق شعوراً بالخيبة وفراغاً كبيراً في الثورة العربية فتبلبل الرّأي العام في الجبل وبرز فريق يدعو إلى القبول بالأمر الواقع، بإستثناء سلطان وفريقه الذي لم يكن ليثق بالفرنسييّن.
دويلة في الجبل
إصطنع الفرنسيون في السّويداء دويلة أسمَوْها “دولة جبل الدروز”، واصطنعوا لها مجلساً نيابيّاً، في الأوّل من أيّار سنة 1921، وقد انتَخَب ذلك المجلس الأمير سليم الأطرش حاكماً للجبل، وفي ذلك المجلس النّيابي المُصْطَنَع كان هناك نوّاب وطنيّون يتعاونون مع سلطان وفريقه أبرزهم فضل الله هنيدي وحمد عامر ومحمّد عز الدين الحلبي وأخوه فواّز وعلي عبيد وحسني صخر، والمَسيحيّ يوسف الشّدياق، ، وقد كان حمد عامر حينها من بين الشخصيّات الحكومية وقادة الرّأي الذين حسموا موقفهم برفض قبول عودة كاربييه حاكماً على الجبل قائلين “إذا رجع الكابتن كاربييه إلى حاكميّة الجبل فنحن لايمكن لنا أن نقوم بالأعمال لذلك نطلب الاستقالة3 ”.

دوره في الثورة السورية
في فترة التّحضير للثّورة على الاحتلال الفرنسي كان سلطان يدرك بفطرته السّليمة أنّه لابدّ من إنهاء الخلافات القديمة بين العائلات وتوحيد الجهود من أجل الانتقال إلى موقف موحّد في المواجهة مع الفرنسييّن وعلى هذا فقد تألّفت في الجبل لجنة مركزيّة ولجنة صلحيّة وخمس لجان فرعيّة لتغطية سائر حواضر الجبل، وكان حمد بك عامر رئيساً للّجنة الثّانية ومركزها شهبا، ومهمّتها إيجاد التّفاهم والتّعارف ورفع كلّ حقد بين العشائر والعائلات التي سبق وأن وقعت بينها خلافات في فترات سابقة في المقرن الشّمالي من الجبل، ومن أعضاء تلك اللّجنة كان الوجهاء جميل بك عامر وسعيد بك عز الدّين وسليم بك سلاّم وجبر بك شلغين.

في ميادين الثّورة
ممّا جاء في مذكّرات متعب الأطرش على لسان ولده هايل أنّ الذين أغاروا على مواقع الفرنسيين في تلّ الخروف كان عددهم سبعين فارساً ولم يعد منهم أحياء سوى 15 بسبب مكيدة مُحكَمة رتّبها الفرنسيّون للإيقاع بفرسان الدّروز وكان حمد عامر واحداً من أولئك الخمسة عشر فارساً الذين نَجَوْا من تلك المكيدة المُحْكَمة، ولكنّه عاد منها جريحاً، ويشير سلطان باشا في مذكّراته (ص131) إلى أنّ حمد عامر كان واحداً من أولئك الأبطال الذين كُتبت لهم النّجاة في معارك اليومين السّابقين لمعركة المزرعة كما يشير مهنّا كرباج إلى أنّه أصيب في موقعة تلّ الخروف بعد أن أبدى بطولة مشهودة.
ولكن جرح حمد عامر لم يمنعه من الاشتراك في اليوم التالي في موقعة المزرعة في 3 آب حيث تمكّن الثّوار في صبيحة ذلك اليوم من سحق الجيش الفرنسيّ الذي يقوده الجنرال ميشو. وإلى دوره البطوليّ المشهود في تلك المعركة يشير مهنّا كرباج في ص 27 من كتابه “تاريخ رجالات جبل العرب”.
بعد معركة المزرعة اضطُرّ الفرنسيّون لأن يساوموا على أسراهم لدى الثّوار وبعد مداولات جرى الاتفاق مع قيادة الثّورة على إعلان هدنة على أثر اجتماع عقد في قرية المجيمر وعلى شروط منها:
– دفن قتلى الجيش الفرنسي في المزرعة.
– مبادلة الأسرى الفرنسييّن بالزّعماء الذين سبق نفيهم إلى الحسكة والإفراج عن الشبّان المسجونين.
ولتنفيذ الشّرط الثاني تمّ تشكيل لجنة من حسن الأطرش وحمد عامر وهلال عزّ الدين مهمتهم تسليم الثلاثمائة أسير فرنسي إلى لجنة الهدنة واستقبال الزّعماء العائدين من المنفى، والشّبّان المُفرَج عنهم من السجون ليًصار إلى استقبالهم في بلدة عرى بحفاوة.

قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش اكتشف مواهب حمد عامر وصادقه وكلفه بمهام حساسة
قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش اكتشف مواهب حمد عامر وصادقه وكلفه بمهام حساسة

معارك دمشق
كان حمد عامر أحد فرسان حملة الرابع والعشرين من آب التي كان هدفها تحرير دمشق وذلك على أثر المفاوضات مع الزّعماء الوطنيين الشّوام في العاصمة، وكانت الخطّة أن ينطلق من الجبل ألف من الثوّار يلاقيهم ألف ثائر من دمشق في منطقة العادليّة جنوب المدينة بهدف الدخول إلى العاصمة معاً ولكنّ الفرنسييّن واجهوا حملة الجبل بالطّيران والمدفعية في الوقت الذي لم يفِ فيه زعماء دمشق بما وعدوا به من إرسالهم ثواراً من جانبهم لدعم حملة ثوّار الجبل لتحرير العاصمة، وقد كانت تلك من المعارك الخاسرة في الثورة.

حمد في مؤتمر ريمة الفخور
ونظراً إلى أهميّة دوره السياسي والجهادي فقد جرى في مؤتمر ريمة الفخور الذي عقد في أيلول عام 1925 تعيين حمد عامر واحداً من عشرة أشخاص اعتُبروا أركاناً للثورة، منهم سلطان باشا الأطرش، الذي بويِع كقائد عام للثورة السوريّة الكبرى. وقد تمثّلت في ذلك المؤتمر قوى وطنيّة سوريّة وشخصيّات أبرزها عبد الرّحمن الشّهبندر ونسيب البكريّ ونزيه وسعد الدّين المؤيّد العظم وجميل مردم بك وعبد القادر سكّر وقاسم الدّربخاني.
وعلى أثر ذلك المؤتمر، اتّسع نطاق الثّورة وأخذت النّجدات تصل إلى جبل الدّروز من جبل لبنان وغيره من المناطق ووصل الأمير عادل أرسلان قادماً من مصر ورشيد طليع وفؤاد سليم من الأردن لينضمّوا إلى أركان الثّورة.
في 17 أيلول اشترك حمد عامر في معركة المسيفرة، كما في شارك في معارك السويداء الأولى بعد 23 أيلول عام 1925 على أثر زحف غاملان بنحو ثلاثين ألف جندي وهذا العدد يشكّل أضعاف عدد جنود سلفه الجنرال ميشو المهزوم في المزرعة، كان هدفه فك الحصار عن 500 جندي فرنسي مُحاصَرين في القلعة منذ الهزيمة الفرنسيّة المدوّية في معركة الكفر، وفي ليلة دخول قوات غاملان إلى القلعة يقول علي عبيد ص 14 من مذكراته “إنّ تلك القوات “صار عليهم (دور) من قبل المرحومين أبطال الثّورة ورجال الشّرف حمد بك عامر وفضل الله باشا هنيدي والمجاهدين وخسر العسكر بتلك اللّيلة ما ينيف عن الخمسماية جنديّ وحاصروه من الأربع جهات.”

الجنرال موريس غاملان في العام 1936
الجنرال موريس غاملان في العام 1936

مطاردة حملة غاملان
في ص250 من كتابه يذكر الرّيس أنّ غاملان انسحب بجيشه باتّجاه سهل حوران على غير توقّع من الثّوار. ويضيف: “منذ الصّباح أخذ العسكر الذي كان محصوراً داخل القلعة وذهب، فتبعه (بالقتال) المذكورين ــ أي حمد عامر وفضل الله هنيدي ومن معهم من المجاهدين إلى قرب قلعة “السّودا”، لينسحب بعدها إلى درعا”..

الشّهبندر يوثّق موقعة السويداء
يذكر الشّهبندر في ص 177 من مذكّراته أنّ الثّوار قضَوْا عى نحو أربعين جنديّاً من الجيش الفرنسيّ خرجوا من القلعة لورود الماء في مصاد، وقد “ألقى ذلك الرّعب في قلب الجنرال غاملان وحَمَلَه على الانسحاب والتّقهقر بجنوده وبالقائد تومي مارتان ومن كان معه من المحصورين في القلعة منذ معركة الكفر الماضية، فغادرها خلسة تاركاً ما كان فيها من عتاد ثقيل وسلاح كثير وجَدّ في التّراجع (أي الانسحاب) بحيث ترك قدور الطّعام تغلي على النّار. وبعد خروجه من السّويداء يصف الشّهبندر تمركز الآلاف من قوّات غاملان لمدّة ثلاثة أيّام في قرية رساس “ضُرِبت أثناءها البيوت وقُطِعَت الأشجار بصورة همجيّة وفي اليوم التّاسع من تشرين الأول سنة 1925 انسحبت عند طلوع الشّمس فلاحقها المجاهدون وعلى رأسهم الأمير حسن الاطرش ويوسف بك الأطرش وسعيد بك العاص والمرحوم فؤاد بك سليم وصياح بك الحمّود وغيرهم مما اضطرّ الجنرال غاملان إلى نشر جنوده المشاة لكنّ حمد بك عامر البطل المشهور لاقاهم في جهات تل الحديد وقد دام الحرب حتى العصر إذ أصيب العدو بإنكسار شنيع فقرّر حمد عامر الانسحاب إلى المزرعة حيث قضى ليلته واشترك في هذه المعارك أيضاً زيد بك الأطرش وحمزة بك درويش وفضل الله باشا هنيدي الوطنيّ الصّميم والشّجاع الباسل وكانت خسائر العدوّ عظيمة بينها طيارتان وقتلاه تملأ السّهل أمام رساس لكنّنا فقدنا رجلاً لا تعادله الرّجال هو المرحوم حمد بك عامر وجرح أيضاً فضل الله باشا هنيدي” وعقّب الشّهبندر بقوله” ولما ظهرت بوادر الثّورة في سورية رأى الجنرال غاملان شدّة الخطر المُحدِق بالفرنسيين فاضطُرّ إلى الانسحاب من الجبل بصورة نهائيّة”.

الثوار-الدروز-يلبّون-نداء-سلطان-باشا-الأطرش-للانتفاضة-على-الفرنسيين-سنة-1925
الثوار-الدروز-يلبّون-نداء-سلطان-باشا-الأطرش-للانتفاضة-على-الفرنسيين-سنة-1925

 

وذكر السّفرجلاني أنّه في “الخامس من تشرين الأوّل بلغ الظمأ منتهاه بالجيش الفرنسيّ رأى أن يتوجّه إلى كناكر لورود الماء، غير إنّ الثّوار كانوا للعدوّ بالمرصاد إذ وقفوا وحالوا دونه والماء … فاضطُرّ غاملان إلى بثّ جنوده المشاة هناك لكنّ البطل حمد عامر لاقاهم من جهات تلّ الحديد ودامت الحرب بين الطّرفين حتى العصر وقد مُنِيَ العدوّ بخسائر فادحة في هذه المعركة وقد انسحب حمد العامر إلى المزرعة حيث قضى ليلته وفي اليوم الثاني تابع (الجيش الفرنسيّ)الانسحاب إلى المسيفرة وقد كان للأشاوس الرئابيل زيد الأطرش وفضل الله الهنيدي وحمزة الدّرويش أكبر الفضل في الانتصار بهذه الوقائع غير إنّ الذي كدّر هذا الظّفَر وعكّره استشهاد الباسل حمد العامر وجرح البطل الكبير فضل الله الهنيدي.
كان مبيت الجيش الفرنسيّ في المزرعة أمراً لا مفرّ منه للجنرال غاملان المنسحب أمام ضغط هجمات الثّوّار وملاحقتهم لقوّاته المتراجعة، وهنا يتساءل المجاهد الصّحافيّ منير الرّيّس وأحد شهود تلك المعارك فيقول:”لا أعلم ما هو شعور الجنرال غاملان ورجال جيشه في تلك اللّيلة وهم يبيتون على مياه المزرعة وفي أراضيها التي شاهَدَتْ قبل شهرين تقريباً أقسى صراع دمويّ بين الدّروز الذين يلاحقون حملته اليوم وبين جيش أفرنسيّ كجيشه أسفر عن سحق الجيش وإبادته تشهد على ذلك أرض المعركة المليئة بحطام المدرّعات وأنقاض المركبات والألوف من بني الإنسان والحيوان”.
ويضيف الريس القول:”إنّني أقدّر أنّ جفون الكثيرين من الضباط والجنود الفرنسييّن لم تغمض في تلك الليلة، لاسيّما وهم يسمعون طلقات الرّصاص تئزُّ حولهم من البنادق والرّشّاشات التي تحميهم من مناوشات الدّروز المحيطين بهم في اللّيل بقيادة حمد عامر وهم مقاتلة المقرن الشّمالي الذي اعتقد الجنرال غاملان أنّه خضع لفرانسة (فرنسا) ولم يبقَ أمامه غير المقرن الجنوبيّ”
وإلى انسحاب العسكر الفرنسيّ يشير المجاهد علي عبيد في
ص 15 من مذكّراته أنّ:” العسكر شال (أي انسحب) وأبقى المدرعات جانب رساس لحماية العسكر وحيث إنّ الدروز كانوا قبل بيوم وضعوا مدفع في هيش (أي حرش) السّهوة الذي هو عالٍ على منازل (أي مواقع) العسكر بأكثر من ألف متر فضربوا المدرّعات المذكورة ثلاث طلقات أجبروهم على الانسحاب والهريبة وأظنّ أنّ سبب رحيل العسكر هو مسبّب عن أخذ هذا الاستحكام لكون العسكر في أراضٍ سهليّة والمدفع مستولي (أي مسيطر) عليها فعند هرب المدرّعات المذكورة هجمت على العسكر شبّان الدّروز وكسروه شرّ كسرة إلى أن أوصلوه قرية الثّعَلَة مساء فخيّم بها وصباح اليوم التّالي شال قاصداً ماء المزرعة”، ويرى المجاهد الشّيخ علي عبيد أنّ تلك التحرّكات للقوّات الفرنسيّة كانت بناء على طلب بعض المتواطئين مع الفرنسييّن ضدّ الثورة الذين سبق لهم أن وعدوا غاملان بقدوم وفد للتسليم من المقرن الشّمالي، ولكن ما أفشل تلك الخطّة أنْ قابله (أي قابل الجيش الفرنسيّ) المرحوم حمد عامر وفضل الله باشا هنيدي ودروز المقرن الشّمالي والشّرقيّ ولم يمكّنوه من تنزيل الأحمال عن ظهور الجمال بل بقيت كلّ تلك الليلة الأحمال على ظهور الجمال وصباح اليوم التالي شال ورجع مدحوراً إلى درعا وأزرع تاركاً نيّف عن ثلاثة آلاف قتيل من حين دخوله إلى عرى (2 تشرين الأوّل عام 1925 حسب الرّيّس ص 241) لخروجه من المزرعة (9 تشرين الأوّل1925)، لكن استشهد المرحوم حمد بك وجرح فضل الله باشا”.
وإلى خسائر الجيش الفرنسيّ الذي كان يقوده غاملان يقول الرّيّس ص 254: “إنّ خسائر جيش غاملان أثناء انسحابه من الجبل كانت أضعاف أضعاف العدد الذي اعترفت به القيادة الفرنسية وربّما كانت الخسائر المُعتَرف بها هي بالفرنسييّن وحدهم دون خسائر الحملة من جنود الرّماة الأفريقيين والفيلق الأجنبي فجنود هذين اللواءين ليسوا فرنسييّن وخسارتهم لا تُعتَبَر خسارة للجيش الفرنسيّ”.

aجانب-من-مدينة-شهبا--السويداء-في-عشرينيات-القرن-الماضي
aجانب-من-مدينة-شهبا–السويداء-في-عشرينيات-القرن-الماضي

تأبين الشهيد
يقول الرّيّس في ص 253 من كتابه الذّهبي: “ما كاد فجر التّاسع من تشرين الأوّل يبزغ حتى هبّت الحملة تسرع بالرّحيل من هذا المكان الموحش بذكرياته والدّروز يناوشونها حتى دخلت أراضي حَوْران وخلّفت وراءها الجبل الثّائر الذي عادت إليه حماسته والذي لم تتجاوز خسائره في معارك الأيّام الثلاثة أكثر من بضعة عشر شهيداً وعشرات الجرحى وبين الشّهداء حمد عامر الذي يُعتبر أكبر زعيم في المقرن الشّمالي ومن أنبل زعماء الجبل وأكرمهم وأشجعهم. أمّا خسائر الحملة الفرنسيّة في أيام انسحابها فتقدّر بمئات القتلى والجرحى بينهم عدد من الضبّاط وكبار القادة فقد أقام الفرنسيّون يوم وصولهم إلى مواقعهم ومراكزهم في حوران حفلاً عظيماً لدفنهم.
وممّا ورد في مذكّرات حكيم آل الأطرش وعارفتهم أو عرّاف جبلهم الأمير متعب الأطرش4 على حد تعبير منير الرّيّس، في ص 106 من مذكّراته المخطوطة والتي تمّت مراجعتها وضبطها من قبل الباحث الأستاذ الأديب والمترجم عارف حديفة ، بأنّ “الجيش الفرنسيّ الذي هاجم الجبل لفكّ الحصار عن قلعة السّويداء المضروب عليها منذ أكثر من شهرين هاجمته دوريّة درزيّة بقيادة المأسوف عليه حمد عامر بقصد ألاّ يتركوه يهدأ ويرتاح وكان قصد الجيش أن يمتدّ من المزرعة إلى قضاء شهبا لأجل بثّ الدّعاية وضعضعة الثّورة ولكن هذه المهاجمة جعلته يقطع الأمل وعاد الجيش منسحباً إلى أزرع وثم صار الجيش الإفرنسيّ يتجمّع في درعا”.
وقد ذكر سلطان باشا في مذكراته ج 1 ص 186 فقال “ومن جملة شهدائنا في تلك المعركة الضّارية عمّي نسيب وعبد الله العبد الله ورفيق جهادنا البطل حمد عامر الذي كان من أركان الثّورة البارزين”.
ويذكر محمد جابر ص 29 من كتابه “أركان الثورة” أنّ حمد عامر استُشهِد في معركة السّويداء الثّانية في 8 تشرين الأوّل وكان يرافقه عبد له اسمه عُبَيد فما كان من عُبَيد إلّا أنِ انتقم لسيّده إذ انتخى (أي دبت فيه الحميّة)عنده وهو يتضرّج بدمه وهجم على الفرنسييّن فقتل أربعة منهم ومن ثمّ قام المقاتلون الذين يرافقونه بنقل جثمانه إلى قريته البثينة حيث دفن فيها.
وقد أبّنه محي الدّين السّفرجلانيّ في كتابه “الثورة السّوريّة الكبرى” ص 563 بقوله: “هذ الفقيد الفحل والشّيخ المُهاب يُعَدّ رُكناً كبيراً من أركان الّثّورة السوريّة الكبرى وقد انتخبته قريته البثينة ليكون علمها الخفّاق فيها فكان بذلك عند حسن الظّنِّ فساهم في أكثر الوقائع حتى كانت واقعة المزرعة الأخيرة عام 1925 وفيها كافح وقاتل حتى ختم الخمسين من عمره بأن أحرز لقب شهيد في سبيل العروبة”.
وفي معرض حديثه في شأن زعامة آل عامر اعتبره حنّا أبو راشد في ص 61 ــ 62 من كتابه المجموع “جبل الدّروز، حَوران الدّامية” أنَّه من زعمائهم الفُضَلاء، وأنّه كان محبوباً من الجميع، رحمة الله على الشّهيد”.
أمّا الزّعيم السّوريّ المجاهد الدّكتور عبد الرحمن الشّهبندر فقد قال فيه في ص 84 من مذكّراته “لقد فقدنا رجلاً لا تعادله الرجال هو المرحوم حمد بك عامر”.

سخاؤه الشهير
على مجاهدي الثورة

كان الشهيد حمد عامر ثريّاً ويملك أراضي واسعة في ثلاث قرى ولم ينجب ذرّيّة من الذكور وإنّما أربع بنات وقد بقي طيلة أيّام الحرب منذ يوم اشتراكه فيها إلى يوم استشهاده يأمر رجاله أن ينقلوا على جماله الماء والطّعام للمجاهدين يوميّاً سواء إلى معسكراتهم أو إلى ميادين القتال معرّضين أنفسهم للخطر وكان قد أعدّ خزاناً نظيفاً في فناء داره خصّصه للسّمن الذي تنتجه أغنامه إذ كان يملك ما يزيد على ثلاثة آلاف رأس من الغنم وغيرها من المواشي
وكانت النساء يصنعن الخبز يوميّاً في داره ويقمن بدهن رغيفين بالسّمن والسكّر يوميّاً، أو بالسّمن واللّبنة ولفّهما على شكل سندويشة ليكونا وجبة دسمة لواحد من الثّوار.

ازمة النفايات

[su_accordion]

[su_spoiler title=”الضحى ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

صبحي الدبيسي

رُبَّ ضارّة نافِعة

كيفَ تؤدّي أزْمَةُ النّفايات
إلى نهضةٍ في العملِ المُدُنيّ

ما زلنا عند رأينا أنّ الحل البديهيّ والأقل تكلفة لمشكلة النّفايات في جبل لبنان من شماله إلى جَنوبه هو فرز النّفايات العضويّة في المصدر، وإن كان ذلك يتطلّب إرساء وتطوير ثقافة يصبح فيها المواطن جزءاً من الحلّ وليس فقط مصدر المشكلة. ونحن نُحيّي بحرارة بلديتي بريح وعبَيهْ على مبادرتيهما الرائدتين لفرز النّفايات المنزليّة في المصدر وندعو بقية البلديّات لأن تنظر إلى تجربتي البلدتين المختلفتين في الأسلوب؛ لكن الموحّدتان في الهدف (وأيّة تجارب أخرى ناجحة) كسابقات مفيدة وكدليل على أنّ من الممكن عندما تتوافر الإرادة أن نحلّ مشكلة النّفايات بأسلوب عمليّ غير مكلف، بل وحضاريّ.
الشّعب اللبنانيّ مشهور بروح الابتكار والمبادرة وهذا يعني أنّ حلّ الفرز في المصدر يمكن أن يتّخذ أشكالاً عديدة، والعامل المقرّر هنا سيكون ولاشكّ تنوّع التّجارب ومدى توافر المال الذي يُمَكِّن من شراء التّقنيات الأكثر تطوّراً، والفارق بين تجربتي بريح وعبَيه أن الأولى أوجدت حلّاً بسيطاً وخياراً رخيصاً للقرى التي قد لا تكون لها الموارد الكافية لتصنيع النّفايات العضويّة.
إنّ وجود وحدات معالجة محلّيّة وقليلة التكلفة للنّفايات العضويّة المنزليّة حلٌّ جيّدٌ لأنّه يوكل أمر نفايات كلّ بلدة بالبلديّة ويجعلها بالتالي مسؤولة عن بيئتها وعن صحّة مواطنيها، لكن هناك مؤكداً إمكانية لإنشاء مصانع حديثة لتحويل النّفايات العضويّة إلى سماد عضويّ (ربّما بمساعدات أوروبيّة أو أميركية أو عربيّة أو من الأمم المتّحدة) لكنّ ذلك يتطلّب أوّلاً أن تتدرّب البلديّات على تقليد فرز النّفايات العضويّة في المصدر وأن يصبح هذا الأمر تقليداً يقوم به المواطنون من تلقاء أنفسهم بروح من التّعاون مع بقيّة السّكان ومع البلديّة في معالجة المشكل الذي يمسّ الجميع، وهذا يوازي خلق ثقافة مدنيّة مختلفة عن ثقافة إلقاء المشكلة على الآخرين.
لقد كان تلزيم “سوكلين” أمر النّفايات خطأ كبيراً أوّلاً لأنّه كان مكلفاً جدّاً وثانياً لأنّه كان حلّاً يعتمد على جمع النّفايات من مكان ثم طرحها في مطامر كبيرة في بلد لا توجد فيه أماكن نائية صالحة لهذا الأمر. وأسلوب الجمع والطّمر أسلوب متخلّف لمعالجة النّفايات لا يوجد مثيل له في أي دولة متقدمة. لكن الأسوأ من ذلك هو أنّ حلّ “سوكلين” جعل المواطن يعتبر أنّ في إمكانه إنتاج أيّ كم من النّفايات ثم رميها في الشّارع لأنّ هناك من سيتولى جمعها ونقلها. لذلك، عندما وقعت الواقعة وتوقّف العمل مع الشّركة وجدنا المواطن يستمرّ في عادة رمي النّفايات في الشّارع، كذلك البلديّات التي كانت معتمدة على عمل “سوكلين” فاجأتها الأزمة وهي غير مهيّأة فحصل هرج ومرج وتخبّط قبل أن يبدأ الجميع في التّفكير واستنباط الحلول تحت ضغط الوضع الطارئ. بهذا المعنى، فإنّ الأزمة التي ولّدها توقّف “سوكلين” كانت “ضارّة نافعة” لأنّها أجبرت الجميع على أن يتحمّلوا مسؤوليّاتهم ويبدأوا في ابتكار الحلول، وهناك مؤشرات مشجّعة من أكثر من مكان في لبنان ونحن نذكر بريح وعبَيه في الجبل لكننا على يقين بأن هناك بلدات أخرى بدأت تقوم بالأمر نفسه، وما يهمّنا هو أن تدرك البلديات كافة أن هناك طريقة لتطوير ثقافة فرز النفايات العضوية في المصدر فلا تبقى متأخرة عن الرّكب، وإذا كانت بلديّات معيّنة قد نجحت في حلّ الفرز من المصدر فهذا يعني أنّ البلديّات الأخرى يمكنها أن تنجح، لكنّ المهمَّ هو أن نقرّر، وأن نقبل ببذل الجهد الصّبور مع المواطنين في كلّ قرية وأن نوجد الحوافز المعنويّة وأن نستمرّ في شرح أهمّية هذا الحلّ للجميع.
إنّنا بتوسيع نطاق حلّ الفرز في المصدر سنكون قد نجحنا في أمرين معاً: حلّ مشكلة النّفايات العضويّة (وهي أصل المشكلة) بطريقة حضاريّة، ونكون قد نجحنا أيضاً في تطوير العمل الاجتماعيّ والمُدُنيّ، وهذا التحوّل في ثقافة المجتمع مهمٌّ جدّاً لأنّه سيُنتج لاحقاً ثماراً طيّبة طويلة الأمد قد نرى مع الوقت مفاعيلها في مختلف مجالات العمل الاجتماعيّ والتّنمية البلديّة.

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”صبحي الدبيسي” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تجربتــــــان لفــــرز النفايــــات العضويـــــــــة في المصــــدر

عبيه بنت مصنعاً لتحويل النفايات العضوية إلى سماد
وبريح تفرزها وتحوّلها في حفر ترابية إلى سماد

شكّل إقفال مطمر الناعمة منذ السابع عشر من تموز 2015 حافزاً لدى جميع اللبنانيين من مسؤولين، وسياسيين، وبلديات، وجمعيات أهلية، بحثاً عن وسائل بديلة لاستيعاب جبال النفايات التي تكدّست في الشوارع والأحياء والساحات العامة. وكانت أولى الخطوات قيام 9 بلديات يضمها اتحاد بلديات الشوف السويجاني بتشغيل مصنع فرز النفايات الصلبة في منطقة الصليِّب وإنشاء معمل آخر في بعذران لاستيعاب نفايات الشوف الأعلى، وبما أنّ الحاجة أمّ الاختراع كما يقول المثل، فلقد توصلت بعض البلديات الى مخارج علمية وصحية لمعالجة نفاياتها عن طريق الفرز المنزلي، ونورد هنا مثالين ناجحين هما بلدتي بريح وعبيه.
في بريح أبلغنا رئيس البلدية صبحي لحود، أنّ البلدة نجحت بعملية الفرز المنزلي للنفايات بنسبة مئة في المئة. ولا يوجد مستوعب واحد للنفايات في كل بريح، كما لا يمكن أن تشاهد محرمة كلينكس واحدة في كل الطرقات، وذلك بفضل وعي الأهالي وقبولهم تعلم طريقة الفرز المنزلي للنفايات. وهذه النقطة هي الأساس في نجاح خطة التخلص من النفايات بشكل جذري.
لحود شرح لـ “الضحى” الطريقة التي اعتمدت لإنهاء هذه المشكلة التي استحقت التنويه بها من أرفع المراجع المسؤولة. وقال بأنّ كيفية الفرز من المصدر، هي عبارة عن مستوعب لتجميع أوراق النايلون ومشتقاته، وآخر للورق والكرتون، وثالث لفضلات الأكل، ورابع للمواد الصلبة. أما عملية الجمع فهي موزّعة على أيام الأسبوع. يوم الاثنين تأتي سيارة مخصصة لجمع النايلون، والثلاثاء للكرتون، والأربعاء للنفايات العضوية، والخميس للزجاج والمواد الصلبة، وبهذه الطريقة تمكّنا من حلّ المشكلة من دون أي ضجيج. وكشف لحود بأن مجموعة من شباب البلدة قاموا بهذه الفكرة، والبلدية تبنتها بعد اقتناعها بها وقمنا بإستئجار قطعة أرض أنشأنا فيها 30 حفرة توضع فيها النفايات، ثم تنقل من حفرة الى أخرى حتى تتحلل وتصبح سماداً عضوياً، يباع الكيس بـ 2500 ليرة. وقال: لدينا مكبس للكرتون وآخر للبلاستيك، بالإضافة إلى حفرة مساحتها 16متراً مربعاً بعمق 3 أمتار لطمر العوادم. أما الكلفة فهي لا تتجاوز 5,000 ليرة عن كل بيت، ولا تكلف البلدية أكثر من 2,000 دولار في الشهر بينما كانت ”سوكلين” تتقاضى 12,000 دولار في الشهر من البلدية عن طريق القائمقامية.

تحويل النفايات إلى سماد عضوي
في عبيه أفادنا نائب رئيس البلدية يوسف غريِّب، أن بلدية عبيه أنشأت مصنعاً لفرز النفايات في شهر تموز 2015 أي بعد أزمة مطمر الناعمة بعدة أشهر. وتعتبر بلدية عبيه من أوائل البلديات التي بدأت بفرز نفاياتها. وأشار بأن عملية الفرز تبدأ من المصدر، أي من قبل الأهالي، وفي المقابل قمنا بتأمين حاويات متوسطة الحجم بمعدل 3 حاويات لكل بيت. والبلدية تتولى رفع الكرتون والبلاستيك بمعدل مرتين في الأسبوع. أما النفايات العضوية فترفع بشكل يومي ويتم نقلها إلى المصنع لإعادة فرزها ومعالجتها بطريقة فنيّة تحوّلها إلى سماد عضوي يقدّم مجاناً للأهالي لاستخدامه في تنمية مزروعاتهم. ولفت إلى أنّ المصنع هو عبارة عن مجموعة اسطوانات تعمل بطريقة حديثة جداً ولم يسجل فيه أي عطل من تاريخ إنشائه حتى اليوم.
غريّب أشار من جهة ثانية، إلى قيام البلدية ببناء مبنى المدرسة الرسمية للبلدة بمواصفات وزارة التربية. وأنّ البلدية قامت بشراء 12,000 متر مربع خصصت لهذه الغاية وأنّ عملية البناء تتم على نفقة البلدية على أن تقوم الوزارة بالتجهيزات اللازمة، وذلك “للتخلص من الإيجار الذي أرهقنا”.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

من ذاكرة الجبل

من ذاكرة الجبل

بسبب الإفتراء على الدّروز في مجلس الأمير فيصل

مواجهة بين جاد الله شلهوب وأمير قبيلة الرْوَلَه

عندَ الإمتحان فرَّ الشّعلان وخَسِرَ الرِّهان

عندما تقدّم الجيش العربيّ الذي كان يقوده الأمير فيصل بن الحسين وخيّم في واحة الأزرق التي كانت حينها من أملاك جبل الدروز قَبْل ضمّها للأردن من جانب الإنكليز والفرنسيين. وقد كانت وجهة جيش فيصل تحرير الشّام من سلطة الأتراك والدّخول إليها عبر الطّريق الصّحراوي المارّ من أراضي الأردنّ فدرعا إلى دمشق، وبناء على المراسلات التي كانت تجري بين سلطان باشا الأطرش والأمير فيصل بن الحسين فقد كان يترتّب على سلطان باشا أن يردّ برسالة جوابيّة منه إلى الشّريف فيصل بواسطة رجال من خاصّته، وهكذا فقد انتدب سلطان جاد الله شلهوب الذي هيّأ فرسه فحمّلها بخرج وضع فيه مؤنته لثلاثة أيّام تكفيه لذهابه وإيابه.
ويعود أصل آل شلهوب في بلدة القريّا إلى آل الأحمدية في جبل لبنان، وقد أنجبت هذه العائلة المعروفية شخصيّات كان لها دورٌ نضاليّ واجتماعيّ مميّز في تاريخ البلدة.
ويذكر عطا الله الزاقوت وهو من جيل التابعين لجيل سلطان باشا وجاد الله، أنّ أبا نسيب “كان موثوقاً من سلطان، رجلٌ له من الحكمة والدّراية والشّجاعة ما يؤهّله لمثل تلك المهمّة” ومع تباشير الفجر الأولى إنطلق جاد الله مع رفيق له موثوق منه ومن سلطان هو أبو حسن سلامة زيتونة. كان الفارسان وهما رسل سلطان إلى فيصل يلبسان ملابس متشابهة، فكلٌّ منهما يلبس العقال العربيّ الأسود على كوفيّة بيضاء فوق شعر مجدول مردود إلى الخلف، وقد كحّل عينيه بالكحل الأسود كعادة رجال بني معروف في ذلك الزّمن، وتجلبب بعباءة شقراء مطرّزة بخيوط القصب فوق حوافيها، وتجنّد ببارودة عُصْملّية1 حتى فرسيهما الأصيلين كانتا متشابهتين..
بُعَيْد الغروب وصل الرّسولان معسكر الجيش العربيّ فاستُقبلا في فسطاط رحب الأرجاء؛ هو عبارة عن خيمة إنكليزيّة زرقاء اللّون، دائريّة الشّكل لم يسبق لهما أن رأيا مثلها في مضارب البدو من قبل، نصبها الإنكليز خِصِّيصاً للأمير فيصل الذي كان قد خرج بزيارة لإحدى القبائل العربية في بادية الأردنّ بهدف ضمّ تلك القبيلة للرّكب المناهض للأتراك، وقد أُبلغ رسولا سلطان أنّ الأمير سيعود ظُهر الغد، وعندها يلتقيان به.

الأمير نوري الشعلان أمير قبيلة الروله
الأمير نوري الشعلان أمير قبيلة الروله
الأمير فيصل بن الحسين قبل دخول دمشق
الأمير فيصل بن الحسين قبل دخول دمشق

في خَيمة الأمير
يروي سلامة زيتونة لعطا الله الزّاقوت قِصّة لقائهما مع الأمير فيصل فيقول: “وجدنا بضعة رجال من البدو في خيمة الأمير، وبعد أن قُدّمت لنا القهوة المُرّة وأكرمونا كضيوف سألنا عن الأمير فقيل لنا: “ يَلْفي” أي هو سيأتي، وبالفعل عند ضحى اليوم التالي رأينا مشهداً غريباً لم نَرَه من قبل. رأينا قُبّة زرقاء تَشُقّ عنان السّماء وراحت تقترب نحونا الهوينا، فقيل لنا ها قد جاء الأمير … ونزلت الكُرَة الزّرقاء التي كانت معلّقة بين السّماء والأرض على مسافة خُطوات من الخيمة .. كانت مثل مِظلّة وقد تدلّى منها ما يشبه سلّة كبيرة تحمل أربعة رجال، كان منهم الإنكليزيّ الذي يسوق البالون كما أسموه ( لم يكونوا قد رأوا المنطاد من قبل) والأمير فيصل ويصحبه نوري الشّعلان أمير قبيلة الرْوَلَه المرهوبة الجانب وهي فرع من قبيلة عَنَزة الكبرى. وتابع مُحدّثي يقول:
“ سلّمنا على الأمير ورفاقه وقدم رفيقي له رسالة سلطان التي كلّفه بحملها وقرأ الأمير الرّسالة وأغدق الثّناء على سلطان وعشيرته، أمّا فحوى الرّسالة فهو: إنّ سكان الجبل من بني معروف يقفون تحت قيادة الثّورة العربيّة الكبرى وهم رهن إشارة القيادة للمسير وقتال الجيوش العثمانيّة وتحرير دمشق.
لكنّ ذلك لم يُعجب الأمير النّوري بن شعلان، فخاطب الأمير فيصل بقوله: “يا أمير ذول الدّروز يميلون مع الرّيح كيف ما تميل، ولا أمان في جانبهم. فما كان من رفيقي ( جاد الله شلهوب) إلاّ أن انتهره وكأنه من خدمه وقال له” هَبِيْت ــ أي كذبت ــ هذه عوايدك، ما هي عوايد الدّروز، وعن قريب يكون موعدنا الشّام فإمّا نَفرّ نحن من الحرب أو انت اللّي تنهزم مع عشيرتك ــ ومشى نحوه يهزّ قبضته في وجهه.
نعمْ إنّه رِهان قد نهض للتوّ… من سيسبق الآخر إلى المعركة ومن الذي سيصمد فيها؟
هنا تدخّل الأمير فيصل ولامَ النّوري على مقالته وأثنى على بني معروف ثناءً صادقاً وصريحاً ونَعتهم بنعوت لا تكون إلاّ لأخيار الناس.
ومرّت أيّام، ووصلت إشارة فيصل إلى سلطان بكتاب يقول فيه: “الملتقى باكر ــ أي غداً ــ في درعا”. وكان سلطان باشا قد استنفر أنصاره فلبّوا الدّعوة مُشاة وفرساناً وأقبلوا تحت بيارقهم الخفّاقة كالسّيل الجارف ولكنّه احتفظ بنحو خمسمائة فارس وطلب من المشاة العودة إلى قراهم وأعمالهم ولينتظروا منه نبأ آخر في ما لو دعت الضّرورة إلى وجودهم في القتال.

سلطان باشا يتحرّك نحو دمشق
وانطلق سلطان برجاله ومن بينهم جاد الله شلهوب وسلامة زيتونة، إلى بصرى التي كانت معقل القوّات العثمانيّة على مقربة من القريّا وقرى المقرن القبلي، فاستسلمت حاميتها دون مقاومة تُذكر، واستولى الثواّر على الأسلحة والذّخائر ومستودعات الحبوب التي كان العثمانيّون قد صادروها من الأهالي لتموين جيوشهم، وراحوا بأمر من سلطان يوزّعونها على أهالي بصرى الذين انضمّوا للثوّار من البلدة نفسها، ولم يتوجّه سلطان باشا ومجاهدوه إلى درعا بعد أن أدرك أنّها توشك على السّقوط بيد القوات العربيّة الزّاحفة إليها وكان يساعدها على ذلك بعض سرايا الجيش البريطاني، كان سلطان باشا يريد أن يسبق البريطانيين بالدّخول إلى دمشق حسب اتّفاق بينه وبين فيصل لكي لا يظهر البريطانيون وكأنهم المحرّرون للعرب في تلك الحرب.
إتّجهت الحملة التي يقودها سلطان شمالاً فالتقت في بلدة الشّيخ مسكين بحملة ثانية من ثوّار بني معروف انحدرت إليهم من السّويداء وجوارها ومن قضاء شهبا، كما التقَوْا بحملة الجيش العربيّ التي يقودها الشّريف ناصر بن جميل ــ وهو ابن عمّ فيصل من الأسرة الهاشميّة ــ المؤلّفة من جيش البدو ومنهم عشائر عَنَزَة بقيادة النّوري بن شعلان وطراد الملحم، وقبيلة الحويطات بقيادة عَوْدة أبوتايه، وبني صخر بقيادة مثقال الفايز وحديثة الخْرَيْشة، بالإضافة إلى مجاهديّ لواء حوران يقودهم اسماعيل التّرك الحريريّ.

بعض فرق الجيش العربي تستعد للتوجه إلى دمشق
بعض فرق الجيش العربي تستعد للتوجه إلى دمشق

ساعةُ الامتحان.. وفرارُ الشعلان
سارت تلك الجموع الهادرة بقيادة الشّريف ناصر تطارد القوّات العثمانيّة والألمانية المتراجعة باتّجاه دمشق، وكانت القيادة العثمانيّة تعمل باستشارة قادة ألمان تنبّهوا إلى أهمية مجموعة من التّلال الوعرة التي تقع على مسافة ثمانية عشر كيلومتراً جنوب دمشق وتطلّ على الطرق والمسالك المؤدّية إليها من تلك الجهة، فأقاموا خطّاً دفاعيّاً حَصيناً زوّدوه بمرابض للمدفعيّة من طراز “كروب” وكانت تلك من أفضل مدافع عصرها.
وهكذا تساقطت على الثّوار قنابل تلك المدافع بلا انقطاع وأحدثت في جبهتهم المتقدمة ثغرات واسعة إذْ أخذت قنابلها تنفجر بين تجمّعات المجاهدين، فذُعرت الخيل والإبل من أصوات انفجار القنابل التي لم تعهدها من قبل فانسحب كثير من رفاق حملة الجيش العربي أمام المدافع العثمانيّة ومن بين المتراجعين من المعركة كان الأمير النّوري بن شعلان منسحباً أسوة بغيره، وبإنسحابه هذا، فقد خسر أمير إحدى أهم وأكبر القبائل البدوية في شبه جزيرة العرب رهان التحدّي الذي كان قد أشهره في وجه جاد الله شلهوب؛ رسول سلطان باشا إلى فيصل بن الحسين. لقد انكفأت حملة القبائل على أعقابها هاربة من حقل نيران المدفعيّة وصمد بنو معروف وحدهم بقيادة سلطان باشا في المواجهة أمام مدافع وتحصينات تلال المانع، ولمّا داهمهم الليل اضطُرّوا للمبيت في قرية “دير علي” الدّرزية القريبة من الكسوة، تلك القرية التي تقع على الطّريق التاريخيّة لهجرات الموحّدين من جبل لبنان إلى جبل حوران.
في تلك الليلة وضع سلطان ورجاله خطّة قتال اليوم التّالي، وفي الوقت نفسه اتّصل بهم الأمير فيصل طالباً مواصلة الزّحف بأقصى سرعة لدخول دمشق قبل وصول الجيش البريطاني إليها2.
في اليوم التّالي قام سلطان ورجاله بحركة التفاف حول مواقع الأتراك وباغتوهم بهجوم صاعق تعطّلت به أكثر بطّاريّات مدافعهم وقاتلوهم بخنادقهم بالسّلاح الأبيض حتى استسلم أمام هجومهم من بقي حيّاً منهم، وكان في مقدّمة المستسلمين الذين بلغ عددهم نحو ثمانمائة، ضابط كبير هو رضا باشا الرّكابي وقد أسره فرسان قرية الغارية، ولما أحضروه إلى سلطان الذي عرف أصوله العربيّة قال له: “ دعك من أعداء بلادك فقد تركوا الأرض لأصحابها وانهزموا”(2) وأمر بإعادة سلاحه إليه وأركبه فرساً توجّه بها بصحبة الثّوار إلى دمشق مروراً بموقع الحرجلّة، ولما كانت قرية الحرجلّة تقع على نهر الأعوج الذي لابدّ لكل عابر إلى دمشق من عبور جسرها، وكان رضا باشا الرّكابي قد أمر بلغم الجسر عندما كان يقود عمليات الدّفاع عن مدينة دمشق قبل استسلامه للثوّار، وهو لا يدري إن كانوا قد لغموا الجسر أم لا، فنبّههم إلى ذلك، وتردّد كثيرون أمام ذلك المعبر المُريب، فما كان من فارس ملثّم لم يتبيّن أحدٌ ملامح وجهه إلاّ أنه اندفع كالعاصفة باتّجاه ذلك الجسر والغبار ينتثر على وقع سنابك فرسه فعبره ذهاباً وإياباً هازئاً بالموت الذي قد يكون كامناً في ثناياه، ومن ثمّ ليعود ثالثة يتقدّمهم منطلقاً باتجاه دمشق، وهكذا اطمأنّ المجاهدون المعروفيّون إلى أمن عبور الجسر، فتدافعوا يعبرونه كعاصفة فارسهم الملثّم، ودخلوا دمشق فاتحين بقيادة سلطان هذه المرة، ونَثَرَ عليهم الدمشقيّون من شرفاتهم المطلّة على الشّوارع الرّئيسة المؤدية إلى قلب المدينة الورود والأرّز و”الملبّس” إبتهاجاً بقدومهم محرّرين ورفعوا علم الثّورة الذي كان يخفق فوق رؤوسهم من بلدة القريا على سرايا دمشق، كانت أصداء جبل قاسيون المطلّ على دمشق تردد حداءهم:
وسِّعوا المرجة تـرى المرجة لنا وسِّعوا المرجة لتلعب خيلنـا

الحكومة العربية في دمشق 1918
الحكومة العربية في دمشق 1918

وأمّا الأمير النوري بن شعلان فإنّه لم يستطع دخول دمشق إلاّ بعد ستٍّ وثلاثين ساعة من دخول فرسان الدّروز إليها، وفي طليعتهم صاحب رهانه؛ جادالله شلهوب، دخل الأمير البدويّ دمشق تابعاً متأخّراً مع حملة الجيش العربيّ بقيادة الشّريف ناصر بن جميل ومن معه من جيش القبائل.
وظلّ إسم ذلك الفارس الملثّم الذي تعمّد الاّ يتعرّف عليه أحدٌ مجهولاً، ويروي المرحوم عطا الله الزّاقوت3 أنّه سأل سلطان باشا: “لقد سمعت حكاية الفارس الملثّم من الشّيخ جاد الله شلهوب من القريّا وسألته يومها عن الفارس الملثّم من يكون؟ ومن الذي قطع الجسر عدواً على فرسه، افتداءً لرفاقه، فأجابنا: لم أعرف اسمه!
هنا ابتسم سلطان وقال: ألم يخبركم جاد الله عن إسم الفارس؟
قلت: نعم لم يخبرنا. عندها قال سلطان: إنّه نفسه أبو نسيب جاد الله شلهوب والذي يعيش الآن بينكم، وهو رسولي مع سلامة زيتونة إلى فيصل في واحة الأزرق.
وعدت أسأل الفارس الملثّم : لمَ لمْ يفصح لنا عن إسمه، منكراً الحقيقة فأجاب: لقد استحْيَيْت، لأن القاعدة في زمننا تقول: اطعمْ واسكتْ، واطعنْ واسكتْ”.

العدد 19