الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

أفلاطونُ الفيثاغوريّ

 

«الضرورة تُطيعُ حُبّاً أو قَسْراً العَلِيَّ، الذي يُبدِع كُلَّ شيءٍ في الكون تَناغُماً وفقاً لتَناسُبٍ دقيق»، قالها أفلاطون في مُحَاورَتِه الشهيرة «تيماوس» (Timaeus) مُردِّداً أصداءً عريقة للمفاهيم الفيثاغورية التي تُصوِّر العالَمَ بتناغُمٍ رياضيّاتي، وانسِجامٍ مُوسيقي، وصوفيّةٍ عَدَدِيّة. وانتشرت هذه الرمزيّةُ الفيثاغورية في شتى مُحَاورات أفلاطون الذي كتبَ بغزارةٍ وثراءٍ للعامّة لكنّه أخفَى الحقائقَ و«رَسائِلَه للمستقبل» طَيّ تلك الكلمات. بل إنّ أفلاطون لم يَستلْهِم التناسُبَ المُوسيقي الرياضيّاتي في فَلسفتِه فحسب، بل اعتمده أيضاً في صَوغِ مُحاورَاتِه التي أخْفَت إيقاعاً رياضيّاتيّاً مُوسيقيّاً يتردّد في ما بين عَدَدِ الكلمات والأسطر، والتَناسُقِ الصوتي للكلماتِ والعبارات في كُلّ مُحَاورة، وكأنّما ثمة لَحنٌ خَفِيّ ما وراء ظاهِر الكلمات لا يسمعه إلَّا المُهَيَّأون.

وانطلقَت تأثيراتُ الفِكرِ الفيثاغوري على مبادئ أفلاطون الفلسفية، لا سيّما المُثُل العُليا وخلود النفس، منذ أنْ زار أفلاطون جزيرةَ صقليّة بحثاً عن فيلولاوس (Philolaus)، تلميذ فيثاغورس المُسِن، والسَّعِي جاهداً للحصول على كُتُبِه، التي أشاعت بعض المصادر التاريخية بأنّه اعتمدَ عليها في كتابة أهم مُحَاورَاتِه وعلى الأخص «تيماوس»، وكذلك في تعاليمه أو «عقائده السرّية» التي خَصَّ بها نُخبةً من تلامذته كي ينقلوها من بعده (انظرْ العدد السابق).

والمُعلِّمُ الفيثاغوري فيلولاوس هو مُفكِّرٌ عَاصَرَ سقراط والتقى في آخر سنوات حياته بأفلاطون، الذي أشار إلى تعاليمه في مُحَاوَرة «فيدون» (Phaedo)، إذ إنّه دَعَمَ في أعمالِه المَقولةَ الفيثاغورية عن الأُسس العَدَديّة لكُلِّ الأشياء. وتردّدت أصداءُ هذه العقائد الفيثاغورية لدى أفلاطون عند تَحدُّثه عن أهمية المُثُل وعَجْز الكلمات عن التعبير عن الحقائق الكونيّة المجرّدة مقارنةً بها وبالأعداد، خصوصاً عند تَطرُّقه في مُحَاوَرتِه «فايدروس» (Phaedrus) إلى قصة «تحوت-هِرمِس» (Thoth) في مصر، وكذلك في تَحدُّثه عن خلود النفس في مُحَاوَرة «مينون» (Meno). ونستَشِف تلك الفيثاغوريات أيضاً في «الجمهورية» (Politeia) عندما يؤكِّد أفلاطون أنّ الرياضيات هي مفتاحٌ للفَهْم الحقيقي، وفي مؤالَفَتِه بين «الواحد» ومفهوم «الخير»، في تناغُمٍ ما بين المُثُل العليا والأعداد، تلك المعادلات الدينامية بين المُثُل وهندسة الكون الحَيَّة. بل إنّ المقولة السُقراطية الأفلاطونية الشهيرة «إِعرَفْ نفسَك» إنّما هي تتماثل مع قولٍ يُنسَب إلى فيثاغورس: «أيُّها الإنسانُ إِعرَفْ نفسَك، ومن ثمّ ستَعرِف الكونَ وربَّك».

فيثاغورس ومُحَاوَرة “فيليبوس”

تظهر العناصرُ الفيثاغورية في مُحَاوَرة «فيليبوس» (Philebus) في تناولها لمفهوم «الواحد» و«العديد»، و«المحدوديات» و«اللامحدوديات»، تلك التي تُشبِه ما وَرَدَ لدى فيلولاوس تلميذ فيثاغورس، ونجدها أيضاً في مُحَاوَرات «فيدون» و«فايدروس» و«تيماوس».

وتُدلِّل مُحَاوَرةُ «فيليبوس» على آراءٍ وعقائد فيثاغورية أساسية، بل إنّ هذه الرمزية الفيثاغورية متأصِّلة في نسيج صياغة المُحَاوَرة، وقد نُسِجَت مُحَاوَرات أفلاطونية عديدة أيضاً كشأنها وفق نِسَبٍ جَمَالِية وتآلُفٍ فيثاغوري في موسيقى التردُّدِ الصوتي للكلمات، كما سبق القول، انسجاماً مع الموضوع.

ويقول أفلاطون على لسان سقراط في مُحَاوَرة «فيليبوس» مُشيراً إلى فضل الفيثاغوريين ونقلهم لمعرفة سيِّدهم إلى مَنْ بعدهم:
«لقد أخبرنا هؤلاء القُدامى (الفيثاغوريون) المُتَفوِّقون علينا المُقرَّبون من العالم العِلوي، هذه القصة، بأنّ كُلَّ ما هو موجود يتألّف من «واحد» «وعديد»، ويملك في طبيعته «محدوداً» (peiras) و«لامحدود» (apeirõn)».

وذلك ما يُذكِّرُ أيضاً بـ «جدول الأضداد» لدى فيثاغورس، وكذلك أيضاً التناسُب أو التناغُم الفيثاغوري، فمزيج العناصر من «المحدود» و«اللامحدود» في توليفةٍ تناسُبية إنّما يُنتِج توافقاً رياضيّاتياً مُتَناغِماً وبالتالي يختصر الموسيقى بكُلّ كمالها الرياضياتيّ، والصِّلة دائماً مع تناسُب الموسيقى هي سِمَة طاغية في هذه المُحَاوَرة.

وإنّما هذه النِّسَبُ الموسيقيّة بحدّ ذاتها تنطوي أيضاً على بُعدٍ أخلاقي وماورائي، فمختلفُ الأنغام الموسيقية تُؤثر في الطِّبَاع والسُّلوك والمشاعر، بل إنّها تؤثِّر في مستوى التفكير، وهي كما لدى الإنسان كذلك في الكون تُمثِّلُ «تناغُمَ الأفلاك». ويؤكّد سقراط في مُحَاوَرة «فيليبوس» أنّ الجمالَ المُطلَق للموسيقى إنّما يكمن في كَمَالها الرياضيّاتي.

في مُحَاوَرة «فيليبوس» أيضاً يؤكّد أفلاطون أنّ «التناسُبَ ضروريٌّ لأجل الخير»، فيما يُعلِن في «تيماوس» أنّ «التناظُرَ» (symmetry) «والتناسُبَ» (proportions) ضروريان لأجل الخير، وأنّ غيابهما يُسبِّب الشر. ويطلب في مُحَاوَرة «فيدون» توضيحاً لعالَمٍ يتماسك بفضل قوةِ الخير المُتَجَلِّي من ناحية تناسُبٍ هندسي..

البُعد الفيثاغوري للتحليل الهندسي الأفلاطوني

 

الفيلسوف الألماني لايبنتز

ومن ناحية هذا التناسُب الهندسي الرَّاقِي نحو الخير، اختار أفلاطون في مُحَاوَرة «مينون» مسألةً هندسيّة من وَحِي تعاليم فيثاغورس لإقامة حُجّتِه، حينما رسَمَ سقراط خَطَّيْن قُطريَيْن (Diagonals) بين الزوايا المُتَقابِلة لمُربّع كبير فتبدّى لعَبْدٍ أُمِّي في حاشية الحاكم مينون مربّعٌ هو ضُعْف مساحة المُربّع الأصلي، تماماً كما كان مطلوباً، وأَقرَّ العَبْدُ أنّه قد استعادَ تلقائياً معرفةً «بدهية».

هذه «التجربة الرائعة» كما وصفها الفيلسوف الألماني لايبنتز (Leibniz) جاءت بعد اعتماد أفلاطون على لسان سقراط الفَرَضِيّةَ الفلسفية والإثبات الجَدَلِي المنطقي، ومن ثم اغتنامها في «التحليل الهندسي» (Geometrical Analysis) الأفلاطوني الفيثاغوري. فالفَرَضِيّة الفلسفية هي كشأن الفَرَضِيّة الهندسية تبدأ بافتراض ما يتعيّن بُرهانه ومن ثم الإثبات أنّ الافتراض يؤدّي إلى حقيقةٍ راسخة لا خاطئة.
وقد صِيغَت الفَرَضِيّات الفلسفية لتتَّبع النهجَ الرياضياتي للتحليل وحل المسائل تدريجياً. ولماذا اعتمدَ أفلاطون التحليل الهندسي الرياضياتي على خُطَى فيثاغورس فلأنّ الرياضيات تستمدّ موضوعاتها من التصوُّرات الذهنيّة لقضايا مجرّدة مجالها فحسب التصوُّر العقلي المُبدِع المَحْض، في حين أنّ العلوم التجريبية ترتكز على وصف الأشياء الحِسّية. والعقلانية الأفلاطونية ترى في استنادها إلى الحقائق الهندسية الرياضياتية والمجرّدة أنّ مبادئ المعرفة فطريّة. فها هي مبادئ الرياضيات قائمة في العقل أي مُتَأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً (a priori) من غير تعليم ولا استدلال تجريبي (a posteriori). فالخط المستقيم والمثلث والمستطيل والدائرة والمُربّع هي تصوُّرات رياضياتيّة هندسية بَدْهيّة، وقد سعى سقراط إلى استخراجها من نفس العَبْد بطرح الأسئلة فحسب. فالنفسُ في تصوُّراتها الهندسية تُحلِّق في عالم التجريد إلى مَراقٍ فيثاغورية عُليا حيث تلوحُ لها هناك ظِلالُ المُثُل الأفلاطونية.

وهنا بَدَت الرياضيات الفيثاغورية لدى أفلاطون «أشرف العلوم» لأنّها علم عقلي مَحْض مستقلّ عن الأمور الحِسّية، وبناءٍ فكري تجريدي يرتكز إلى فرضيات لا تحتاج في إثبات صدقيّتها سوى إلى الخلو من أي تناقض داخلي.

فكما تشتمل الدائرة وتحيط بالأشكال الأخرى كذا تندرج أفكار محدودة نهائية ضمن أفكار لا محدودة ولانهائية. وهو ما يمثّل العلاقة بين فكرة تجريدية عِلوية مثل المعرفة، وفكرة متغيّرة مثل الرأي أو إمكانية التعليم.

واستلهاماً لذلك، سعى الفيلسوف هنري مور (Henry More)، زميل العالم التجريبي الشهير إسحق نيوتن (Isaac Newton) في «جامعة كامبريدج» (القرن السابع عشر)، إلى أن يُضفِي بُعْداً هندسياً على العالَم الأفلاطوني، بل أن يُضفِي على العالَم الهندسي بُعْداً روحانياً. فهو اعتبرَ أنّ «العالم الرُّوحاني» (Spiritual Realm) يتمدّد هندسياً في «بُعْد رابع» (4th dimension) أطلق عليه تسمية Spissitude.

نومينيوس الأفامي

 

بعد انتقال تعاليم أفلاطون عبر تلامذتِه المُخلِصين إلى الأجيال التالية، سعى الفيلسوفُ نومينيوس الأفامي (Numenius)، مُلهِمُ «المدرسة الأفلاطونية المُحدثة» (Neo-Platonism)، في القرن الثاني الميلادي إلى المُؤَالفة والمُوَاءمة بين تعاليم فيثاغورس وأفلاطون، مؤكِّداً المصادرَ الفيثاغورية للفكر الأفلاطوني، وأنّ حكمةَ هذَيْن الفيلسوفَيْن مُستَمدّة في الأساس من حكمة الشرق القديمة ومن الحكمة الهرمسية المصرية العريقة و«الحكمة القديمة النقيّة» (prisca theologia)، مُقارِناً ما بين مفهوم «الواحد» الفيثاغوري و»الديميورج» (Demiurge) الأفلاطوني.

أيامبليخوس

وتُشير المصادر المعاصرة إلى نومينيوس على أنّه فيثاغوري، لكنّ أيامبليخوس (Iamblichus) الفيلسوف العربي الأفلاطوني المُحدَث يصفه بـ «الأفلاطوني»، وهي صفةٌ تُماثِل «الفيثاغوري» في ذلك العصر إذ إنّ أفلاطون كان يُعتَبر تلميذاً لفيثاغورس.
نعم، لقد سعى الفيلسوفُ الأفامي إلى أن يُعيد أفلاطون إلى جذوره الفيثاغورية، وأنْ يُعيد فيثاغورس بنفسه إلى حكماءِ الشرق (وثمة إشاراتٍ كثيرة في المصادر الكلاسيكية القديمة إلى حكيم الشرق الغامض الآتي من أقصى شمال الشرق خلف الجبال المُكلَّلة بالثلوج، أباريس هايبربوريوس (Abaris the Hyperborean)، «طبيب الأجساد والأرواح»، القَادِم من ذلك العالم الأُسطوري الكامل المُبارَك المَخْفِي وراء الجبال الذي أشار إليه أفلاطون في مُحَاوَرة «كارميديس» (Charmides)، وكان هَدَفُه أن تستعيد الفلسفةُ الأفلاطونية-الفيثاغورية نقاءها الأصلي وتتحرّر من «الأفكار الدَّخِيلَة». وقد أدّى دوراً كبيراً في تطوُّر «المدرسة الأفلاطونية المحدثة»، لا سيّما من خلال عمله الفلسفي «حول الخير».

ويقول أوريجانوس (Origen): «إنّ نومينيوس الفيثاغوري، الذي شَرَح أفلاطون، والذي كان مُتَعمِّقَاً بفلسفة فيثاغورس، يستَشهِد في مواقع عديدة من أعماله بمقاطع من أديان الشرق، مُستَجلِياً المعاني الخَفِيّة».

يَتَّسِم فكر نومينيوس بأهمية خاصة نظراً إلى الأثر الكبير الذي تَرَكَه على فلاسفة «المدرسة الأفلاطونية المحدثة»، ولا سيّما أفلوطين (Plotinus)، وكذلك فورفوريوس الصُّوري (Porphyry of Tyre) والفيلسوف بروكلوس (Proclus).

بالنسبة إلى نومينيوس، ثمة خطٌّ حِكمَوي متَّصِل ينبثق من المَرجَع الفلسفي الأول فيثاغورس وصولاً إلى أفلاطون مروراً بسقراط، وقد استمر بشكلٍ ما من بعده.

خاتمة

 

نعم، لقد واصل تلاميذُ أفلاطون المُقَرَّبون، وعلى الأخص سبيوسيبوس (Speusippus) وإكزينوكراتيس (Xenocrates) وبوليمون (Polemon)، نَهْجَه الفيثاغوري بعد وفاته، وفي تطبيق الأعداد على الكلمات، والرياضيّات على المفاهيم المجرّدة. وبغض النظر ما إذا كان نومينيوس قد استقَى أفلاطونياتَه من نُخبةِ التلاميذ الذين حملوا مشعلَ مفاهيم أفلاطون الفلسفية المِثالية، فإنّه قد التقطَ هذا المشعل بالفعل ونقله إلى الأفلاطونيين المُحدثين، لكن هل استحقّ هؤلاء ذلك المشعل، وهل نقلوه فيما بعد إلى المُهَيَّأين له؟ للبحث صلة وتتمة.


المراجع

– Philebus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Meno by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Timaeus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedrus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedo by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Kennedy, J. B. The Musical Structure of Plato’s Dialogues. London: Acumen, 2011.
– Kennedy, J. B. “Plato’s Forms, Pythagorean Mathematics, and Stichometry”. Apeiron: a Journal for Ancient Philosophy and Science 43, no 1 (2010): 1-32.
– Lynch, Greg. “Limit and Unlimitedness in the Philebus: an argument for the Gadamerian reading.” Apeiron 46, no. 1 (2013): 48-62.
– R. S. Bluck: ‘Plato’s Life and Thought”.

الرحمة” فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ،

يحلُّ عَلَيْنَا شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَك، وَلُبْنَان والأمُّة العربيَّة تتراحم بِالْبَرَكَة والتآزر وَالتَّعَاوُن، رَغِم الْأَوْضَاع الاقتصادية غَيْر الْمَسْبُوقَة الَّتي يختبرها وطننا الْحَبِيب لبنان، والَّتي تُرخي بثقلها عَلَى جَمِيعِ فئات المُجتمع، وَتُطَال القطاعات الإنْتَاجِيَّة اقتصاديًّا ومعرفيّاً وثقافيّاً وتربويّاً وأكاديميَّاً، وطبيّاً، وغذائيّاً، وفنيّاً وثقافيّاً وحِرفيَّاً، وتكنولوجيّاً. كلُّ هَذَا مَعَ تَعَاظَم الْمآسِي عَلَى الْمُسْتَوَى العالميّ مِن حروبٍ وَتَهْجِيرٌ وعُنف وتطرُّف، نَاهِيك عَن تَغْيِيب عُنْصُرٌ “التراحم” بَيْن النَّاس.

مِنْ هُنَا تجدر الْإِضَاءَة فِي هَذَا الشَّهْرِ الفضيل، عَلَى دِينِ التراحم وَالتّعَاطُف والإنسانيَّة، كَوْنِ الإِسْلاَمِ ديناً يُراعي أَحْوَالِ النَّاسِ وحوائجهم فِي الدَّنيا وَالْآخِرَة، وَيَدْعُو إلَى التَّعَاوُنِ وَالتّعَاطُف والتلاحم بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعات كافَّة، لِمَا يُحقِّق خَيْرَهَا وَيَظْهَر وُجُودِهَا الْفَاعِل. ويُطالع المتمعِّن فِي النصِّ الْقُرْآنِيّ وبألفاظهِ وكلماتهِ وَمَعَانِيه، تركيزه عَلَى إظْهَارِ الخُلق مِن مَنْظُورٌ مُتجدِّد دوماً ، مُضيئاً عَلَى قِيَمِ الْأَخْلَاق وَالتَّسَامُح بِوَجْه عَام، وَقِيَم الرَّحْمَة وَالرَّأْفَة وَالتَّوَاصُل بَيْنَ الأفْرَادِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ ، وَمَا تُشكِّلهُ بِاجْتِمَاعِهَا مِن قيمٍ إنسانيَّةٍ ودينيَّةٍ جَامِعَةٍ، سَيَكُون لَهَا بَالِغ الْأَثَرِ فِي بِنَاءِ أَجْيَالِ الْأُمَّة العربيَّةِ والإسلاميَّة ، فِي عَصْرٍ تجتاحه مَوَاقِع التَّوَاصُل الاجْتِمَاعِيّ ، وَتِلْك الْمَوَاقِع بمُنظماتها الًتي تَقُوم بتشتيت ذِهْن الْإِنْسَان وتغريبه عَنْ ذَاتِهِ وكينونته وَعَن مُحِيطَةِ، هَذَا مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قِيَامِهَا بتعريةِ المُجتمعاتِ المعولمة وَتِلْك الريفيَّة أيضاً، مِنْ إيجَادِ أَي فاعليَّة مُجدية فِي صَيْرُورَةِ حَيَاتِهَا المستقبليَّة ، وافساحاً فِي الْمَجَالِ أَمَامَهَا للتفكّر بفاعليَّتها الوجوديَّة والحضاريَّة والثقافيَّة والدينيَّة والتاريخيَّة والإنسانيَّة ، إلَى فاعليَّتها فِي الِاقْتِصَادِ أَوْ التَّنْمِيَة أَو التحفيز أَو الِابْتِكَار والتطوُّرٍ والانتاجيَّة ، أَو حتَّى فِي مَجَالِ مَحْو الأُميَّة . . .لَا بَلْ هِيَ تَسْعَى جاهدةً _ وَمَن خِلَال تشييء الْمُجْتَمَعات كَي تُصبح جَمَاعَةٌ “هجينة” دُون ذَاكِرَة جماعيَّة ،وَدُون قَوَانِين تسترشد بِهَا أَثَرَ الصَّالِحِين هَهُنَا ، يستدلُّ البَاحِث أنَّ لَفْظُة “الرحمة” قَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَكْثَرَ مِنْ 268  مَرَّةً وَفِي غَيْرِ مَوْقِع ، وَهِي تتبوَّأ ، فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ، محوريَّةً مُتقدِّمة نابعةً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسنى وَصِفَاتِه عزَّ وَجَلّ شَأْنُه .وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ ، الْمَطَر والغيث ، النِّعْمَة والرِّزق ، الِابْتِهَال وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ ، النَّصْر وَالْعَافِيَة وَالْخَيْر ، الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ ، الْمَوَدَّة وَالْعَطْف ، وتنحو لِتَشْمَل الْعِصْمَةَ مِنْ اقْتِرَافِ السَّيِّئَات ، فِي صِفَاتِهِ الذَّاتيَّةِ والمعنويَّةِ وَفِي سُلُوكِه مَفَاعِيل الْوُدّ وَالْعَطْف ، فَيَكُون رحيمًا عطوفًا مَعَ مَنْ حَوْلَهُ .بِيَد أنَّ الرَّحْمَة الَّتي هِيَ أَسَاسُ كُلّ تَعَامُلٍ إِنْسانِيٍّ ، تحمِلُ فِي طيَّاتِهَا مَبدأي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ ،وَسِوَاهَا الْكَثِيرِ مِنْ الصِّفَاتِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّةِ والمُجتمعيَّةِ الَّتي تَرْتَقِي بسُلَّمِ أخلاقيَّاتِ المُجتمعِ.

مِنْ هُنَا ، يُعدُّ جَمَالُ الْإِنْسَان بِسموِّ ورِفعة أَخْلَاقِهِ .وانطلاقاً مِمَّا تقدَّم ، يَسْتَرْشِدُ المُتمعِّنُ فِي النّصِّ الْقُرْآنِيّ مِن صِفات اللَّه الرَّحْمَة ،”الرَّحمن الرحيم” ؛ ويُستدلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، الْآيَة 105 ، قَوْله تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾؛ ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ بِمَعْنَى أنَّه مَا يُحبُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا المُشركين أَنْ يَنْزِلَ عليكُم مِن خيرٍ مِن ربِّكم. وَعَلَيْه، يَكُونُ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَمْنِ بالمواثيق وَالْعُهُود، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَيْرِ يُنْتَفَعُ بِهِ الْكَافِرُ والمُسلم. وبناءً عَلَيْه، أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَوَصَف (عَزَّ شأنه) النبيّ ﷺ بأنَّه رَسُولٌ إلَى الجنِّ وَالْإِنْس وَإِلَى الدُّنْيَا؛ وخصَّه كَذَلِك بِصِفَة “الرحمة”. إذْ يرَدُّ فِي سُورَةِ سَبَأ، الْآيَة 28، قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾؛ كما في سورة الأعراف، الآية 158: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾. ويُرشد اللَّهُ تَعَالَى رَسُول (ﷺ) إلَى التمتُّعِ بالحِكمةِ وَطِيب الْقَلْب وَاللِّسَانِ وَالرَّأْفَة والمحبَّة، وَالْخَلْق الطَّيِّبِ فِي تَعَامُلِهِ مَع النَّاس، حتَّى لَا تَنْزِلُ الْكَلِمَات الْقَاسِيَة عَلَيْهِم وكأنَّها سِيَاطٌ، فينفضُّون عَنْه. بِقَوْلِه في سورة آل عُمران، الآية 159: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.

وجاء في الحديث الصحيح أنَّ الرسول (صلعم) قال: “إن الله حرم على النار كل هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من النَّاس”. وَعَلَيْه ، تتعدَّد مضامين “الرحمة” الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي بَابِ الْعَطْفِ وَالْحُنُوّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْيَتَامَى وَالْعَجَائِز وَالْمَرْضَى وَالضُّعَفَاء، وَالرَّحْمَة بِالصَّغِير وَالْأَرْمَلَة ، وَالْجَاهِل ، وَالْأَسِير ، وَالْأَقَارِب ، ورَحِمَة الْأَبْنَاء بِالْوَالِدَيْن ؛ وَالرَّحْمَة بِالْحَيَوَان وَالطَّبِيعَة .فِي قَوْلِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الضّحَى ، الْآيَات 6-11: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ في سورة الإنسان، الآية 8.فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) : “الساعي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَحْسَبُهُ قَالَ: كَالْقَائِم لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يفطر”. (صحيح الْبُخَارِيّ ، الْجُزْء الرَّابِع ، ص93) وقَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، الْآيَة 159: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾وفي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، الَّذي أخرجه مُسلم في باب “فضل الرفق” _ حديث (2594 ) أن: رَكِبَتْ عائِشَةُ بَعِيرًا، فَكانَتْ فيه صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فقالَ لها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَلَيْكِ بالرِّفْقِ .وهذا يردُ عن عَائِشَة (زوج الرسول ﷺ _ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها: أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ.

ويُبيِّن الرَّسُولَ الْكَرِيمَ (ﷺ)  أنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلاّ زَانَه ، بِمَعْنَى زيّنه وَجَعَلَه جميلاً . والمُراد بِالْمَعْنَى هُنَا، يكمُن فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ والرِفق بِالْإِنْسَان، وبالحيوان. لِذَا تُعتبرُ الأخلاق جزءاً وثيقاً مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْإِيمَانُ، الْأَمْر الَّذي يُعدُّ فِي صُلْبِ الْأَخْلَاق الإسلاميَّة وَفِي صَمِيم جَوَاهِرَهَا النَّفِيسَة. كلُّ عَام وَلُبْنَان والأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة تتراحم فِي مَا بَيْنَهَا، فِي رَمَضَانَ الْخَيْر وَالْبَرَكَات.

العدد 38