الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

الحياة هبة الموت

في جسد الإنسان تعاقب لا ينقطع بين موت وحياة جديدة. تعاقب يشبه إلى حد كبير شعلة الشمعة التي تنحل في الأثير لكنها تستمر ملتهبة بسبب ما يردها من قاعدة اللهيب من وقود جديد. بنفس المعنى فإن جسدنا الذي يبدو ثابتا ومستقرا على السطح هو في موت وحياة مستمرين، وحسب العلماء فإن كل ذرات أو جزيئات جسدك التي تعد بالمليارات بل الترليونات ستكون قد ماتت كلها وحلت مكانها ذرات جديدة كل 7 إلى 10 سنوات من عمرك.

بهذا المعنى فإن الحياة هي فعلا هبة الموت، لأنها لم تكن لتستمر لولا قانون التجدد عبر موت الخلايا التي تنسحب بهدوء مخلية الطريق لنشوءالخلايا الجديدة ، كما لو أن الحياة تستمر فقط بقوة ودفع غريزة العطاء وامحاء الجزء في سبيل استمرار الكل، مثل مياه نهر يتدفق نحو مصبه في بحر الحياة اللانهائية.

لكن يحدث أحيانا أن ترفض بعض الخلايا الموت وتقرر بدل من ذلك أن تتكاثر على هواها دون أي تنسيق أو ضبط لأهدافها مع أهداف ترليونات الخلايا التي تكوِّن جسدنا الشديد التعقيد. عند ذلك يحصل خلل وجودي في حياتنا نسميه: «السرطان». رغم أنه يصعب أن ننسب إلى خلية أو بضعة خلايا «إرادة» أو «قصد» معين فإن سلوك الخلايا الخبيثة التي تبدأ بالتوسع في جسدنا دون أي حساب للنتائج يمكن اعتباره تصرفا «أنانيا» وبسبب وجود هذه الظاهرة نعيش في حال خوف من أن تحدث في نظام جسدنا وتقلب حياتنا رأسا على عقب، وهذا شبيه بما يحصل لمجتمعنا المريض أيضا نتيجة تفشي الأنانية وانهيار قوى التضامن والتراحم والتعاون بين الناس.

والمقارنة قائمة لذلك بين جسد الإنسان الفرد وما يعتريه من أمراض وسقم نتيجة «الأنانية» التي تظهرها بعض خلاياه وبين جسد البشرية التي تعاني أيضا من سرطانات لا تحصى نتيجة تفشي الأنانية بين الأفراد والجماعات والقوميات والأديان والمذاهب. وقد بلغت الأنانية حدا يبدو معه النسيج البشري اليوم مثل هشيم من أجزاء متناثرة لا يربط بينها رابط كأن سرطاناً تفشى في أنحاء الجسد المجتمعي وانتشر في مختلف الأطراف، ولن يمضي وقت حتى يصيب القلب أو الرأس وعندها فإن البناء كله سيتداعى، كما يتهاوى جسد المريض الذي هاجت فيه أنانية بعض الخلايا المارقة أو الخارجة عن قانون الطبيعة.

كان المعلم كمال جنبلاط يعتبر أن الكون يمرّ في مراحل تحكمها قوانين تشبه القوانين التي نراها اليوم فاعلة في أجسادنا السقيمة أو مجتمعاتنا المبتلاة بشتى أنواع الصراعات وأشكال الدمار والموت. وكان يقول أنه في فترات السعادة والسلام تكون قوى الجذب نحو المركز Centripetal هي الأقوى، وهوما يؤدي إلى تماسك الكتلة أو الجُزَيئات حول النواة، وهوما يشبه في المجتمع البشري غلبة قوى التضامن والتماسك والفضيلة والمحبّة والسلام. أما في مراحلها الأخيرة فإن قوى الطرد إلى الخارج Centrifugal تصبح هي الأقوى في الحياة وهو ما يؤدي إلى تلاشي قوى الجذب إلى المركز لصالح قوى الطرد والتفكيك وتطبيق ذلك على عالمنا هو ما نشهده في كل تلك الظواهر الكونية من صراعات واقتتال شاملين بين البشر وزوال قيم الإخلاص والرحمة والشرف وانهيار البيئة الحاضنة للحياة البشرية في الجو وفي المحيطات وعلى اليابسة وتردي نوعية الغذاء الذي أصبح موبوءا ومختلطا بكل أنواع السموم، وتردّي نوعية المياه التي نتجرعها والهواء الذي نستنشقه، بل أننا نرى تفكك مكونات الحياة في تلك الأسقام التي عمّت وأصابت البشر حتى لم يعد هناك أصِحَّاء إلا في بعض القِفار المجهولة والأدغال البعيدة كل البعد عن حضارة البشر.

مساهمات حرة

فريد الأطرش 21 نيسان 1910- 26 كانون الثّاني 1974

عالميــة فريـــد الأطــرش فــي ذكـراه الثّانية والأربعين

بعيداً عن عَشَرات الكتب وآلاف الصّفحات التي كُتِبَتْ عن الموسيقار فريد الأطرش، يشرّفني أن أسلّط الضّوء على موضوعٍ لم يتطرّق إليه أحد سابقاً وهو عالميّة الفنّان فريد الأطرش. وهناك حقائق تؤكّد يوماً بعد يوم أنّ هذا الفنّان نَهَدَ إلى العالمية في إبداعه الفنّيّ وكان له ما أراد…وسأذكرُ بعض الأحداث التي كان فريد محورَها وتشير بوضوح إلى البُعد العالميّ الذي اتّخذه فنّه وشخصه
1. منظّمة اليونسكو الدّولية أعلنت العام 2015 عام مئوية ثلاثة عمالقة عالميين في مجال الفن وهم فرانك سيناترا، أديت بياف وفريد الأطرش ودعت العالم أجمع لتكريمهم.
2. عام 1975 أي بعد وفاة فريد الأطرش بعامٍ واحد، منحته فرنسا وسام الخلود الفني الفرنسي والسبب هو أنّ فريد كان أوّل من قدّم كونشيرتو منفرد على البيانو.وممّا يجدر ذكره أنّ الوحيدَيْن اللّذَيْن نالا هذا الوسام الفرنسيّ هما بيتهوفن وشوبان
3. شارل أزنافور المغني الفرنسيّ العالميّ الذي زار القاهرة عام 2008 وقدّم فيها حفلَيْن الأوّل في أوبّرا القاهرة والثّاني في الإسكندرية، وأُقيمت له مناسبات تكريميّة عدّة، عَقدَ مؤتمرا صُحُفيّاً غصّ بممثليّ الصّحافة المصريّة والعالميّة ولمّا سأله أحد الصّحفيّين العرب: لمن تسمع من الفنّانين العرب؟ أجاب أزنافور وسط دهشة الحاضرين: “إنّ عبد الوهّاب وأمّ كلثوم من أصدقائي وقد كنتُ شخصياً السّبب في مجيء أمّ كلثوم إلى الأولمبيا في باريس، ولكن اسمحوا لي أن أقولَ إنّ محبوبي بامتياز وبالمطلق هو فريد الأطرش وإنني مؤمنٌ بموسيقاه وعبقريّته! “ صحفي مصري آخر سأله عندئذ: “لماذا فريد الأطرش بالذّات؟؟” وكان جواب أزنافور: “لأنّه بكلّ بساطة نجح في أن يطوّر الموسيقى الشّرقيّة بطريقة إبداعيّة مازجاً بين أصالته كشرقيٍّ وتأثّره بموسيقى الغرب، ممّا خلق مزيجاً نستطيع القول بأنّه عالميّ، والدّليل على ذلك أنّنا نجد تطبيق التّوزيع الأوركسترالي ممكناً لأغلبيّة أغاني فريد الأطرش.
4. عندما قدّم البيتلز أسطوانتهم الأشهر REVOLUTION قالوا في مؤتمر صُحفي:جزءٌ من هذه الأسطوانة مأخوذٌ من أغنية “أوّل همسة” للموسيقار العربي فريد الأطرش.
5. بتاريخ 7 أيلول عام 2009، وفي مجلّة فرنسية MIX MONDO، ريبورتاج على عشر صفحات عن أشهر المطربين-الممثلين في العالم. وقد أورد الكاتب لائحة الأسماء على الشكل التالي: تينوروسي- فريد أستير- ألفيس برسلي- فريد الأطرش- بيتر ألكسندر- كلوديو فيلا- أنطونيو مولينا- وأخيراً كاريل غوت. ومُرفق مع هذه اللّائحة دراسة مستفيضة عن كلّ نجم منهم وتبرير وضع اسم فريد الأطرش بين هذه الأسماء كان باختصار شديد أنّه مثّل 31 فيلماً موسيقيّاً سينمائيّاً، ممّا يعادل مجموع ما مثّله كافّة المطربين الآخرين.
6. في مؤتمر صُحفي عقده المطرب الشّاب خالد بعد حفلته في أولمبيا باريس بإدارة برونو كوكاتريس، وعندما تهافت عليه الصّحافيون الأجانب وبعد نجاحه الكبير، سألوه السّؤال التّقليديّ:بمَن تأثّرت من الفنّانين العرب؟ أجاب بجرأة: في بداية رحلتي الفنّيّة في الجزائر تأثّرت بشكل خاص بالموسيقار فريد الأطرش، وكان بالنسبة لي النّموذج والمثال.
7. في الفيلم الفرنسيّ EMMA VILLE استعمل المخرج في مُقَدَّمته أغنية “قلبي ومفتاحه” لفريد الأطرش كاملةً باللّغة الفرنسيّة بعنوان “ELLe est d`ailleurs” وغنّاها المطرب الفرنسيّ Pierre Bachelet .
8. في مجلّة Magazine GQ الفرنسيّة والتي لها فروع في بلجيكا وإسبانيا وإنكلترا، نشرت بتاريخ 4 شباط عام 2011 ريبورتاجاً بعنوان”الأيقونات الخمسةَ عشْرَة لمصر في العالم أورد بين السيّاسيين ذُكر أسم جمال عبد الناصر وبين المطربين اسم فريد الأطرش.
أختم بما قاله الأديب المصريّ الكبير إحسان عبد القدّوس:”لقد ظُلم فريد الأطرش في المَرئي والمَقروء والمسموع، كما ظُلم المتنبّي في كتاب أبي فرج الأصفهاني (الأغاني)، ولكن بقي المتنبّي أميراً للشّعراء وبقي فريد الأطرش أميراً للفنّ”.
المهندس محمود الأحمدية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شكراً للمهندس محمود الأحمديّة على هذا التّوثيق السّهل الممتنع وشكراً للأستاذ رئيس التحرير على هذ الاهتمام

دكان بقـّال في دمشق في مطلع القرن العشرين
دكان بقـّال في دمشق في مطلع القرن العشرين

الصنوبر

صَنوبرَةُ لبنانَ أميرةُ الجبالِ

ثـــروةٌ للمــزارعِ وللبيئــةِ والسّياحــةِ

تُزرع في كلّ مكــان لكنــها تحبّ المناطــــق المرتفعــة وتعيــش 250 عامــــاً وقــــد يصـل ارتفاعهــا إلى 40 متراً

2800 دولار مردود الدّونم من أشجار الصّنوبر، لكنّ التّقليم العشوائيّ والقطاف المبكّر يُخفض الإنتاج

لا توجد مبالغة في القول بأنّ شجرة الصَّنوبر ربّما هي الشّجرة الثّمريّة الأكثر شعبيّة وربّما أيضاً الأكثر انتشاراً في لبنان من ساحله إلى أعالي قممه. إنّها شجرة جميلة ومفيدة ترتفع فوقَ معظم الأشجار بمظلّتها الزّاهية الدّائمة الاخضرار وهي في بعض الأحراج تمتدّ لمسافات طويلة مشكّلة عند النّظر إليها من مرتفع بساطًا أخضر يزيّن السّفوح والوديان الجبليّة. الدّليل على شعبيّة الصّنوبر أنّك نادرًا ما تجد بيوتًا لبنانيّة جبليّة من دون أشجار صنوبر في محيطها أو في حديقتها. وهذه الشّعبيّة التّقليديّة لشجرة الصّنوبر زادت كثيراً في السّنوات الأخيرة لسبب اقتصادي هو الارتفاع المستمرّ في أسعار الصنوبر الحب حيث قاربت الأنواع الجيّدة منه الـ 90,000 ليرة لبنانيّة للكليوغرام الواحد. وقد ولّدت فورة أسعار الصّنوبر “نهضة صنوبريّة” إذ بدأ أكثر المزارعين يزرعونها ويستصلحون الأراضي والسّفوح الجبليّة بغية تحويلها إلى أحراج صنوبر مثمر. وهذه الموجة المباركة مُرحّب بها بالتأكيد لأنّها تساهم في تشجير أراضٍ جديدة غير مزروعة ومهملة من جبال لبنان.
وبما أنّ الاهتمام يزداد يومًا بعد يوم بهذه الشّجرة وبمردودها الاقتصاديّ تعرض مجلّة “الضّحى” في ما يلي لأهمّ المعلومات عنها ولأهمّيتها الاقتصاديّة وأسلوب زراعتها وتكثيرها وتقليمها وقطافها ومعالجة إنتاجها مع بعض التّوقّف عند الصّنوبر البرّي (اليرز) وما تعانيه غابته من آفة دودة الصّندل والطّريقة المثلى للمكافحة.

تنتمي أشجار الصّنوبر المثمر إلى مجموعة الأشجار الدائمة الخضرة، وتتبع جنس الصّنوبريات والتي تضمّ الأرز والشّوح والشّربين والسّرو واللّيلندي والتّويا واللّزاب وغيرها إضافة للصّنوبر البرّي (اليرز) والجوّيّ المثمر.
تنمو أشجار الصّنوبر بشكل عاموديّ مكوّنة ساقاً عاموديّاً مخروطيّاً نوعاً ما وهذا السّاق يحمل الأغصان والفروع المورقة والثّمرية التي تأخذ شكل المظلّة. وتعدّ أشجار الصّنوبر المثمر من مجموعة الأشجار الاقتصاديّة المهمّة، إذ تقدم للمزارع مردودًا ماليّاً جيِّداً من حيث تعدّد منتجاتها، وأهمّها:
1. ثمرة الصّنوبر التي تحتوي على مواد غذائية هامّة لجسم الإنسان بالإضافة إلى ارتفاع أسعارها حتى أنّ البعض بات يسمّيها “الذّهب الأبيض”.
2. الأكواز (الكنافش) تستخدم في التّدفئة والزّينة وبعض الصّناعات اليدويّة.
3. كِسَرُ ثمار الصّنوبر وهذه تستخدم أيضاً للتّدفئة في فصل الشّتاء إذ تؤمّن الحرارة اللّازمة لسكّان المناطق المرتفعة.
4. خشب أشجار الصّنوبر يعتبر من أهم أنواع الأخشاب لأنّه يتمتع بصلابة وقدرة على التحمّل في صناعة الأثاث والخزائن المطبخيّة بالإضافة إلى مقاومته للحشرات الضارّة بالخشب.
5. الحطب الذي يؤخذ من التّقليم الدّوري للأغصان ويُقطع إلى أجزاء صغيرة بأطوال مختلفة حسب المواقد أي نحو 40 سم ثم تجفف طبيعيّاً وتوضّب في غرف أو أقبية مؤونة لتدفئة الشّتاء. إنّ خشب الصّنوبر سريع الاشتعال لأنّه يحتوي على مادّة زيتية.
6. أوراق الصّنوبر الإبرية (السنبل، السميسمة) تستعمل لإشعال النار تحت مواقد خبز الصّاج في القرى التي يعتمد سكّانها في غذائهم على هذا الخبز ويستعمل أيضًا في إشعال المواقد (الشّعلة الصّباحية) في (وجاقات الحطب).
تتّصف أشجار الصَّنوبر بفوائدها العديدة ومنها:
• منظرها الجميل وارتفاعها الشّاهق الذي قد يصل إلى 40 متراً تقريبا وهي مكوّن أساسي مُفضَّل من مكوّنات الحدائق العامّة والخاصّة.
• تلعب دوراً كبيراً في تثبيت التّربة وعدم انجرافها من جرّاء الأمطار الغزيرة لتكوين أشجار الصّنوبر مجموع جذري كبير يشبه إلى حد ما شبكة العنكبوت إضافة إلى أنها تكافح التّصحّر.
• تلعب أشجار الصّنوبر دوراً مهمّاً في تعديل درجات الحرارة إذ تخفضها قليلا عندما تكون مرتفعة وترفعها إلى حدٍّ ما عندما تنخفض كثيراً.
تنمو أشجار الصّنوبر في غالبيّة الأراضي اللّبنانية بدءاً من السّاحل حتّى المناطق الجبليّة المرتفعة، لكنّ نوعيّة وكميّة إنتاجها تختلف حسب المناطق والارتفاعات عن سطح البحر. ففي المناطق التي يزيد ارتفاعها عن 800 متر عن سطح البحر تعطي أشجار الصّنوبر كميّة أكبر من الإنتاج ليس بعدد الأكواز التي تنتجها لكن بعدد حبوب الصّنوبر لأنّها تنتج تحت كلّ “حرشفة” أو قشرة من الكوز حبّتان وليس حبّة واحدة كما في الأكواز التي تنمو على الأشجار المزروعة على السّواحل. إضافة إلى جَوْدَة الثّمار من حيث الصّلابة والفيتامينات والزّيت التي تحتويه حبّات الصّنوبر.

نبتة الصنوبر كما تخرج من البذرة
نبتة الصنوبر كما تخرج من البذرة

الأهميّة الإقتصاديّة
يُعَدُّ الصّنوبر من أهمّ الأشجار المثمرة الاقتصاديّة، إذ يلعب دوراً كبيراً وأساسياً من حيث المردود المالي الذي يؤمّنه للمزارع اللّبناني. إنّما يرى بعض المستهلكين أنّ الصّنوبر البلدي مرتفع الثّمن فيلجأون إلى الصنوبر المستورد الأقلّ جَوْدة بكثير عن الصّنوبر البلدي. وبسبب تلك الجَودة فإنّ الصّنوبر البلدي يحتلّ المركز الأول من حيث السّعر، وهذا رغم ارتفاع الضّريبة على الصّنوبر الأجنبي المستورد. ويعود ارتفاع أسعار الصّنوبر البلدي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج في لبنان مقارنة ببعض الدّول المنتجة للصّنوبر مما يعني أن المنتجين اللّبنانيين غير قادرين على المنافسه لأسباب عديدةٍ منها:
• زراعة الأشجار قريبة من بعضها بحيث تتزاحم على الغذاء والضّوء والماء… فأشجار الصّنوبر تحتاج الى مساحة لا يستهان بها للحصول على الغذاء.
• طرق التّقليم غير المدروسة والعشوائيّة وبالمعدّات التي تُحْدِث أضراراً للأشجار مثل الفأس والمنجل.
• ارتفاع الأشجار الشّاهق الذي يتطلب معدّات وسلالم خاصّة وأشخاصاً قادرين على التّسلّق لمسافة عالية، وهؤلاء يتقاضَوْن أجوراً مرتفعة بسبب صعوبة مهنتهم وعدم وجود عمّال كثيرين مستعدّين للقيام بهذا العمل.

ثمرة الصّنوبر كنزٌ من المعادن والفيتامينات والزّيوت المستـــــورد منها أرخص لكنّه أقلّ جودةً وطعماً وغذاء

كرز صنوبر مقطوف في أوانه - لاحظ لونه البني وهو الإشارة إلى نضجه
كرز صنوبر مقطوف في أوانه – لاحظ لونه البني وهو الإشارة إلى نضجه

الفوائد البيئية والمناخية
تلعب أشجار الصّنوبر دوراً لا يقلّ أهميّة على المردود المالي من حيث تلطيف الجوّ وتعديل درجات الحرارة والرّطوبة وامتصاص الملوّثات الجوّية مع الرّطوبة التي تحملها، فضلاً عن تثبيت التّربة ومنعها من الانجراف مع مياه الأمطار الغزيرة.

الفوائد الصّحّيّة والاجتماعيّة
إنّ غابات أشجار الصّنوبر من أهم الغابات الذي يقصدها النّاس الّذين يعانون من حالات مَرَضيّة خاصّة الرّبو والحساسيّة بالإضافة إلى الهرب من أجواء المدن الملوّثة من ازدحام السيّارات والمصانع التي تعمل على البترول والكيميائيّات الضّارة. كما تلعب غابات الصّنوبر دوراً اجتماعيّاً مهمّاً لأنّها تصبح الملاذ والمقصد المهمّ للكُتّاب والباحثين عن بيئة أكثر صحّة ونقاء وهدوءاً بعيداً عن الضّجيج، إضافة إلى عامل مهمٍّ جدّاً هو ما يحدث عند التقاء العائلات اللّبنانيّة من جميع أطيافها ومناطقها مع بعضهم البعض تحت أشجار الصّنوبر وفي ظلّها المنعش الذي ينتج الإلفة والصّداقة والمحبّة بين المجتمعات الأهلية.
القيمة السّياحيّة
تلعب أشجار الصّنوبر دوراً في تنمية السّياحة وجذب السّائحين لتمضية أيام العطلة والابتعاد عن هموم العمل والرّوتين الوظيفيّ، إضافة إلى السّياحة في فصليّ الشّتاء والرّبيع بدءاً من قطاف الأكواز وجمعها بحيث يشارك بعض السياح في المساعدة كنوع من السّياحة البيئيّة المستحدثة (eco-tourism) ثم تنقل الأكواز إلى أسطح المنازل ويتم نشرها لتشميسها حتى تتفتح قشرة الكوز وتسمح لحبّات الصّنوبر الصّلبة بالسّقوط منها، ثم تنقل تلك الحبّات بعد ذلك إلى مراكز التّكسير المعروفة بـ “كسارات الصّنوبر” وذلك بهدف تكسير “الحصوص” وفصل الصّنوبر عن القشرة الخشبيّة السوداء ونحصل عندها على حبّات الصّنوبر العاجيّة البيضاء اللّون وهي جاهزة للأكل الطّازج أو في الطّبخ.

خصائص شجرة الصّنوبر
تعيش أشجار الصّنوبر حتى 250 سنة أمّا إنتاجها فيبدأ في التّراجع بشكل ملحوظ وغير محبّذ بعد 150 سنة من عمرها، يكون شكل الأشجار هرميّ في السّنوات الأولى من عمرها ثم تبدأ بالتحوّل إلى الشكل الكرويّ في بداية إنتاجها ثمّ يصبح شكلها يشبه المظلّة خاصة عند وصول الأشجار إلى مرحلة النّضج الأقصى، قشرة أشجار الصّنوبر مشققة حرشفية، وبراعم الصّنوبر تأخذ شكلاً اسطوانياً تعطي بعد نموّها (فقسها) ورقتان منطلقتان من قاعدة واحدة. الأزهار صفراء مرصّعة بالبنّي أحاديّة المسكن أي تحمل أعضاء التّذكير والبراعم الثّمَرية وتحملُ أعضاء التأنيث. تتفتح أزهارها خلال فصل الرّبيع، أمّا الأكواز المخروطيّة الشّكل والكبيرة الحجم فيصل طولها إلى 15 سم، وهي تنضج خلال ثلاث سنوات ويتم جمعها في نهاية فصل الخريف وخلال الشّتاء حسب الارتفاع عن سطح البحر وعندما يصبح لون (الكرز) بنيّاً.
تأخذ أشجار الصّنوبر الشّكل العمودي وقد يصل ارتفاعها الى 40 مترا خاصّة الأشجار المعمرة التي يزيد عمرها عن 70 سنة والقريبة من بعضها البعض. أمّا في وقتنا الحاضر وبعد تقدّم علم زراعة الصّنوبر، يعتمد بعض الزّارعين المهتمّين بزراعة هذه الأشجار على عدم ارتفاعها بل على إنتاج أغصان كبيرة. أوراق الصنوبر إبرية الشّكل ويتراوح طولها بين 8 الى 15 سم وهي صلبة غير ملتوية، أمّا لون الأشجار فهو أخضر قاتم.

الصنوبر ة الجميلة شموخ وقدم 2
الصنوبر ة الجميلة شموخ وقدم 2

المتطلّبات البيئية
تنمو أشجار الصّنوبر في جميع المناطق اللّبنانية من السّاحل حتى إرتفاع 1400 متر عن سطح البحر، لكنّ أكثرية غابات الصّنوبر تتواجد في المناطق الجبليّة من محافظة جبل لبنان حيث تحتلّ مساحة تزيد عن 1500 هكتار خاصة في مناطق المتن وبعبدا وعاليه والشّوف وصولاً إلى جزين كما توجد غابات صنوبر في الشمال والبقاع والجنوب. تنجح زراعة الصنوبر في الأراضي القليلة الأمطار (أكثر من 400 ملم) والمتوسطة العمق، وتتحمل الحرارة المرتفعة في فصل الصّيف والحرارة المنخفضة في فصل الشّتاء، كما تتحمّل الأراضي الجافّة.
الحرارة: تتأقلم أشجار الصّنوبر مع درجات الحرارة المتفاوتة خاصّة بين السّاحل والجبل لذا ينجح وينمو في جميع مناطقه تقريبا.
الرطوبة: ينمو الصّنوبر بعلياً في المناطق التي لا ينخفض معدّل أمطارها عن 400 ملّم لكنّه يستجيب ويتحسّن بشكل سريع إذا رُوِي في فصل الصّيف لكن من الأفضل ألّا يستمر ري الأشجار بعد عمر 10 سنوات وعندما يصبح حجمها جيّدا لأنّه يقلل من نسبة الإنتاج.
ملاحظة: أشجار الصّنوبر من الأشجار القليلة التي تقاوم الجفاف لأنّ أوراقها إبرية الشّكل ورفيعة ومغلفة بمادة شمعية مما يؤدّي إلى عدم تبخّر إلّا نسبة ضئيلة جدّاً من رطوبة الأشجار.
التّسميد: لا يعتمد الصّنوبر على التّسميد في نموّه وإنتاجه بل يستجيب بشكل ملحوظ إلى التّسميد العضوي الذي يؤمّن للأشجار عنصر الآزوت لمساعدته على النّمو الجيّد ويحسّن من خواصّ التّربة التي تصبح غنيّة بالبكتيريا والفطريات المفيدة للأشجار والتي تساعد في الاحتفاظ برطوبة التّربة.

تقليم أشجار الصّنوبر
توجد أخطاء شائعة في طرق تقليم أشجار الصّنوبر من قبل المزارعين أنفسهم أو عمّال القطاف والتّقليم ونحن نرى أنّ هذه الطّرق في التّقليم تؤدّي إلى تخفيض الإنتاج بشكل ملحوظ. إنّ تقليم الصّنوبر يبدأ في السّنة الثّالثة بعد الزّرع في الأرض الدّائمة، وفي هذه الحال تُقطع الفروع اليابسة والمكسورة جرّاء عمليّة الزّرع على أن يترك لكلّ شجرة 4 طبقات من الأغصان المتقابلة والمنطلقة من نفس المستوى على الجذع، وتستمرّ هذه الطريقة في التّقليم حتى عمر 10 سنوات للأشجار، ومن السّنة 11 يبقى الخيار للمزارع لاعتماد الارتفاع الذي يراه مناسبا، لكن في تقليم الأغصان يفضل اعتماد تطويلها ومن الضّروري ألّا تعرى في التّقليم كما نشاهد في الكثير من الأشجار، وتقتصر عملية تقليم الصنوبر على إزالة الفروع والأغصان المتشابكة والمكسورة جرَّاء العواصف والثّلوج بشكل عام، وتقطع أيضا الفروع التي تنشأ على الأغصان باتجاه الدّاخل وتأخذ زاوية مثلّث أو زاوية قائمة، والفروع التي تتّجه نحو الأسفل.

“قِطاف الصّنوبر يجب أن يتمّ في الشّتاء بعد تحوّل لون الكرز إلى بنّي والقطاف المبكّر يضــرّ بالإنتاج ويؤدّي إلى ضمـــور الثّمرة”

إكثار الصّنوبر
يتكاثر نبات الصّنوبر بطريقة واحدة هي البذرة، إنّما يجب الانتباه لعدّة مواصفات أهمّها:
• أن تؤخذ البذور من الأشجار التي تتّصف بمميزات جيّدة بدءاً من كمّية إنتاجها وحجم الثّمار.
• أن يكون النّوع مقاوماً للآفات والجفاف والرّطوبة الزّائدة.
• ألّا تؤخذ الثّمار من أكواز مقطوفة قبل مرحلة النّضج النّهائي.
أمّا الأعمال المتوجّب إنجازها وتحضيرها لزراعة بذور الصّنوبر وبالطّرق السّهلة جدّاً والتي تسمح لأيّ مزارع باستخدامها فهي:
1. تهيئة الخلطة التّرابية المؤلّفة من العناصر الثّلاثة بالتّساوي تراب أحمر، رمل خشن نوعا ما وسماد عضوي مخمّر أي ثلث تراب، ثلث رمل وثلث سماد.
2. تنقع ثمار الصنوبر المختارة في الماء لمدّة نحو 30 ساعة على حرارة 5 درجات مئوية.
3. تزرع البذور المنقوعة مباشرة في أوان خاصّة أو أكياس نايلون بعد تعبئتها من الخلطة التّرابية وخلال شهري كانون الأوّل والثّاني.

4. تروى الأكياس الحاوية للخلطة التّرابيّة بعد الزّرع مباشرة.
5. من الضّروري أن تحمى البذور المزروعة من الحيوانات الصّغيرة وبعض الطّيور التي تأكلها قبل وبعد الإنبات.
6. تبقى شتول الصّنوبر في المشتل لمدّة عام أو عامين حسب نموّها ثم تنقل إلى الأرض الدّائمة.

زراعة شجيرات الصنوبر
تُزرع شُجيرات الصّنوبر في الأرض الدّائمة خلال شهري كانون الثاني وشباط بعد حفر الجُوَر على عمق 40 × 40 سم، ينزع الكيس عن الشّتلة مع الإنتباه التام الى التّراب الحاضن لجذورها لزيادة نجاح عمليّة الزرع ونموّ الشتلة، بعد وضع النّبتة في الحفرة يطمر حول جذورها من تراب الحفرة نفسها ويرص هذا التّراب بواسطة القدمين جيّدا لطرد الهواء من حول الجذور. إذا كانت التّربة جافّة يجب ريّها مباشرة، كما أنّ من المهمّ جدّاً عدم زرع الشّجيرات بشكل عام في الأرض إذا كانت التّربة رطبة جدّاً. أمّا في الزّراعة الحديثة لأشجار الصّنوبر فإنّ من الضّروري أن يُبقِي المزارع على مسافة كافية بين الشّجرة والشّجرة على الأقل 8 أمتار وأن يعتمد طريقة الارتفاع المتوسّط في طول الأشجار 10 أمتار كحدّ أقصى لتسهيل أعمال تسَلُّقِها لقطافها وتقليمها.

صنوبر باكستاني- المستورد أرخص ثمنا لكنه أقل جودة من البلدي
صنوبر باكستاني- المستورد أرخص ثمنا لكنه أقل جودة من البلدي

جني أو قطاف ثمار الصّنوبر
تقطف أكواز الصّنوبر عندما يصبح لونها بنّيّاً وليس أخضر غامق أو زيتيّ، أي في نهاية فصل الخريف وخلال فصل الشّتاء بدءاً من الساحل وصعوداً إلى المرتفعات، عند اكتمال تحوّل كافّة المواد البكتينيّة (العفصية) إلى بروتينات وفيتامينات وسكريّات ودهون مفيدة لجسم الإنسان، تجنّبا لضمور الثّمار بعد تقشيرها عند قطافها قبل النّضج لأنّه في لبنان يتسابق المزارعون على قطاف إنتاجهم قبل الأوان مثلما يفعل العديد من مزارعي الأشجار المثمرة كما في الزّيتون والإجّاص والعنب وغيرها.
في لبنان، إن معدّل الدونم الواحد المغروس بأشجار الصّنوبر المثمر يقدر بـ 35 شجرة، علماً أنّه من المفضّل اقتصاديّاً ألّا يزيد عدد الأشجار عن 20 شجرة في الدّونم الواحد بحيث يزيد الإنتاج مئة بالمئة. ويقدّر إنتاج الدّونم بـ 1750 كلغ من الأكواز سنويّاً أي 50 كلغ للشّجرة الواحدة، ما يعادل تقريبا 70 كلغ من حبّ الصّنوبر المقشّر للدّونم الواحد. يباع الكيلوغرام الواحد من حَبّ الصّنوبر بمعدّل وسطيٍّ بـ 40 دولار، ممّا يعني أنّ الدّخل من إنتاج الدّونم من الحَبّ يقارب الـ 2800 دولار ويضاف إلى هذا المبلغ ثمن الأكواز وقشر الحصّ والتي تستعمل في التّدفئة.

آفات الصّنوبر
حتى تاريخه لم تتعرّض غابات الصّنوبر المثمر في لبنان لآفات أو حشرات مضرّة تحدّ من إنتاجها أو تؤثر عليها اقتصاديّاً، وهذا الوضع قد يستمرّ إذا بقي الإنسان بعيداً عنها فلا يتدخّل في بيئتها الطّبيعيّة عبر استخدام المبيدات الكيميائيّة، كما تفعل بعض البلديّات أو المزارعين في رشّ المبيدات السّامة على الأشجار الحرجيّة القريبة من الطرق العامّة والخاصّة والأشجار القريبة من المنازل، إذ تؤدّي هذه المكافحة إلى قتل جميع الحشرات وخاصة النافعة منها التي تتطفّل وتأكل الحشرات الضارّة كما تقتل الطّيور التي تقتات عليها. إضافة الى إضعاف مناعة الأشجار وتقليص قدرتها على مقاومة الآفات التي تعتريها.

ملاحظة هامّة
شهد لبنان فوضى عارمة خلال الأحداث ولاسيّما انتشار الصّيد العشوائيّ، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض عدد الطّيور المحلّيّة وإبادة نسبة كبيرة من الطّيور العابرة والمهاجرة الأمر الذي يهدّد حياة عدد من أنواع الطّيور المهمّة للتّوازن البيئي ويعرّضها للانقراض مثل الهدهد والسّفراية وغيرها من الطيور التي تحتاج إلى أعداد هائلة من الحشرات لتعيش ولإطعام فراخها في فصل الرّبيع في وقت انتشار الديدان. على سبيل المثال فإنّ الهدهد والسّفراية وطيور أخرى تعتمد في غذائها على دودة الصّندل أو الزياح مما يؤدي إلى الحدّ من انتشارها، لكن بعد تقلّص أعداد الهدهد الذي أصبح وجوده نادراً وغياب السّفراية منذ عدة سنوات انتشرت دودة الصّندل بشكل هائل ممّا دعا خبراء البيئة ووزارة الزّراعة للتدخّل بهدف مكافحتها. ولكن نتيجة التدخّل عبر استخدام المبيدات الحشريّة بشكل عام ازداد ظهور دود الصّندل عاماً بعد عام وباتت تشكّل تحدّياً كبيراً وتهديداً حقيقياً لأحراج الصّنوبر البرّيّ.
لذا، أوَدّ أن أعرض هنا لتجربة قمنا بها في المدرسة الزّراعية في بعقلين. إذ اصطحبنا طلّاب المدرسة برحلة علميّة وعمليّة إلى غابة حرجيّة وأكثر أشجارها كانت الصّنوبر البرّي في منطقة المناصف في نهاية التّسعينيّات، وشهدنا أنّ دودة الصّندل بدأت بالانتشار بشكل كبير. بعد عودتنا إلى المدرسة، تناقشنا حتى وجدنا حلّا للحدّ من انتشار هذه الآفة واتّفقنا أن نعرض هذا المشهد والحلّ على وليد بك جنبلاط الذي يعطي وقتاً واهتماماً كبيرين للبيئة وخصوصاً بيئة الجبل. وفي يوم من أيّام استقباله الشّعبي في قصر المختارة، ذهبت برفقة الأستاذ أديب غنام بعد التّنسيق مع وكيل داخليّة الحزب آنذاك الدّكتور ناصر زيدان الذي حدّد لنا موعداً، وعندما وصلنا إلى القصر استقبلنا الأستاذ وليد وعرضنا له المشاكل والحلّ، فباشر تلقائيّاً دون تردّد إلى صرف مبلغ من المال لشراء المعدّات اللّازمة لقطع الفروع التي تحمل أعشاش ديدان الصّندل وحرقها مباشرة إضافة إلى أجور العمّال، واستمرت هذه العمليّة لخمس سنوات متتاليةْ وبإشراف بعض موظّفي المدرسة الزراعيّة حتى أصبح انتشار دودة الصّندل ضئيلاً. ثم أهمل موعد القطع والمكافحة الطّبيعية من قبل الإدارات المحلّية واعتمدت هذه بدلاً من ذلك على البكتيريا المتطفّلة على هذه الحشرة. وفي السّنوات الأخيرة، تفاقمت وانتشرت دودة الصّندل حتى أصبحنا نرى في أحراج الصّنوبر البرّي أشجاراً عارية من الأوراق.
ملاحظة: نادراً ما نرى أعشاش دودة الصّندل على الصّنوبر المثمر.

جني أو قطاف ثمار الصّنوبر
تقطف أكواز الصّنوبر عندما يصبح لونها بنّيّاً وليس أخضر غامق أو زيتيّ، أي في نهاية فصل الخريف وخلال فصل الشّتاء بدءاً من الساحل وصعوداً إلى المرتفعات، عند اكتمال تحوّل كافّة المواد البكتينيّة (العفصية) إلى بروتينات وفيتامينات وسكريّات ودهون مفيدة لجسم الإنسان، تجنّبا لضمور الثّمار بعد تقشيرها عند قطافها قبل النّضج لأنّه في لبنان يتسابق المزارعون على قطاف إنتاجهم قبل الأوان مثلما يفعل العديد من مزارعي الأشجار المثمرة كما في الزّيتون والإجّاص والعنب وغيرها.
في لبنان، إن معدّل الدونم الواحد المغروس بأشجار الصّنوبر المثمر يقدر بـ 35 شجرة، علماً أنّه من المفضّل اقتصاديّاً ألّا يزيد عدد الأشجار عن 20 شجرة في الدّونم الواحد بحيث يزيد الإنتاج مئة بالمئة. ويقدّر إنتاج الدّونم بـ 1750 كلغ من الأكواز سنويّاً أي 50 كلغ للشّجرة الواحدة، ما يعادل تقريبا 70 كلغ من حبّ الصّنوبر المقشّر للدّونم الواحد. يباع الكيلوغرام الواحد من حَبّ الصّنوبر بمعدّل وسطيٍّ بـ 40 دولار، ممّا يعني أنّ الدّخل من إنتاج الدّونم من الحَبّ يقارب الـ 2800 دولار ويضاف إلى هذا المبلغ ثمن الأكواز وقشر الحصّ والتي تستعمل في التّدفئة.

آفات الصّنوبر
حتى تاريخه لم تتعرّض غابات الصّنوبر المثمر في لبنان لآفات أو حشرات مضرّة تحدّ من إنتاجها أو تؤثر عليها اقتصاديّاً، وهذا الوضع قد يستمرّ إذا بقي الإنسان بعيداً عنها فلا يتدخّل في بيئتها الطّبيعيّة عبر استخدام المبيدات الكيميائيّة، كما تفعل بعض البلديّات أو المزارعين في رشّ المبيدات السّامة على الأشجار الحرجيّة القريبة من الطرق العامّة والخاصّة والأشجار القريبة من المنازل، إذ تؤدّي هذه المكافحة إلى قتل جميع الحشرات وخاصة النافعة منها التي تتطفّل وتأكل الحشرات الضارّة كما تقتل الطّيور التي تقتات عليها. إضافة الى إضعاف مناعة الأشجار وتقليص قدرتها على مقاومة الآفات التي تعتريها.

ملاحظة هامّة
شهد لبنان فوضى عارمة خلال الأحداث ولاسيّما انتشار الصّيد العشوائيّ، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض عدد الطّيور الم

بشارة الموسم
بشارة الموسم

التّفتيح الحراري ومحاذيره

بهدف استغلال ذروة الموسم وطرح إنتاجهم بصورة مبكرة يلجأ بعض منتجي الصّنوبر إلى عدّة طرق “حرارية” لتسريع تفتّح أكواز الصّنوبر وبالتالي استخراج الحبّات الخشبيّة التي يتم كسرها لاستخراج الثّمار وطرحها في السوق. ومن هذه الطّرق المستخدمة البيوت الزّجاجيّة والافران الخاصّة. لكن على منتج الصنوبر تجنّب الحرارة التي تزيد على 45 درجة فوق الصفر، لأنّ الحرارة المرتفعة لها تأثير سلبي على مكونات ثمرة الصنوبر خاصة الزّيت والفيتامينات المفيدة.

لحلول الناجعة لآفة دودة الصندل
1. إيقاف الصّيد بالقرب من أحراج الصّنوبر أو داخلها.
2. عدم إطلاق النار على أعشاش دودة الصّندل لأنه لا يقتل إلّا نسبة ضئيلة من الديدان ويطرد الطّيور.
3. وقف رشّ البكتيريا المتطفّلة على الديدان لأنّه يؤذي الطّيور التي تقتات على هذه الديدان الميتة المليئة بالبكتيريا بحيث تؤدي إلى التخمّرات في معدة الطّيور وتقتل نسبة كبيرة من فراخها.
4. إنّ الحلّ الأمثل لهذه المشكلة هو قطع الفروع التي تحمل الأعشاش وحرقها مباشرة خلال شهر كانون الثاني عندما تكون الديدان لا زالت داخل الأعشاش وهي في مرحلة الرّاحة.

فوائد الصّنوبر الغذائيّة والطّبّيّة
سمّي الصّنوبر بالذّهب الأبيض منذ آلاف السّنين لفوائده العلاجيّة والغذائيّة والاقتصاديّة. فهو يمتاز باحتوائه على الموادّ المضادة للأكسدة والأحماض الدّهنيّة الأحاديّة غير المشبعة والفيتامينات، ونظراً لتواجد حمض البينولينك في الصّنوبر فهو من الأغذية التي تساهم بعمليّة فقدان الوزن، نظراً لما يقوم به هذا الحمض من إفراز للأنزيمات التي تحول دون شعور الشّخص بالجوع ممّا يفقده الشّهيّة. ويحتوي الصّنوبر على الكالسيوم والحديد والزّنك والسيلينيوم والبوتاسيوم والألياف والبروتينات والفوسفور والماغنيزيوم والمنجنيز.
يقي الصّنوبر من أمراض القلب وامراض العين والانيميا،.كما يعمل كمضادّ للشيخوخة ومرطّب للبشرة. يدخل قشر أخشاب الصّنوبر وصمغه في العلاجات الطّبيّة كمرهم أو لصقات، ويستعمل في صناعة الصّابون والعطور والشّمع.

البكتيريا

كيف خَسرنا الحرب

المضادّاتُ الحيويّةُ هدمت نظامَ المناعةِ البشريّ
وفَشلت كبديل في الوقاية من هجمات البكتيريا

10 ملايين أميركيّ سيموتون سنويّاً في العام 2050
بسبب مقاومة البكتيريا لمُعظم المضادّات الحيويّة

مُعظم المضادّات جرى تطويرُها بين عاميّ 1962 و 2000
ورخص أثمانها أفقد الشّركات الرّغبة في تطوير مضادّات جديدة

اعتُبِرَ اكتشاف المضادّات الحيويّة في أربعينيّات القرن الماضي معجزة الطبّ الحديث، إذ اعتقد الأطبّاء أنّه لم يعد هناك مرض بكتيريّ إلّا ويمكن شفاؤه بهذه المضادّات، وبالنّظر لرخص تكلفة إنتاجها فقد انتشر استخدام المضادّات الحيويّة وأنتج العديد منها ثم انتقل استخدامها إلى القطاع الزّراعي لتصبح مكوّناً أساسيّاً من علف المواشي التي تتمّ تربيتها في المزارع الكبرى ثم في مزارع الدّجاج وتقريبا مختلف المزارع المخصّصة لإنتاج اللّحوم.
لكنّ الأمر لم يطُل حتى اتّضح أنّ ما ظنّت الأوساط الطِّبيَّة أنّه معجرة العلاجات الحديثة بدأ يفقد مفعوله بسبب تعوّد البكتيريا على احتواء مفاعيله وتطويرها لآليات بَيولوجية تعطّل تأثيره. بذلك بدأ سباق محموم بين إنتاج المضادّات الجديدة وبين البكتيريات التي تتوصّل في كلّ مرة إلى إنتاج آليّات تعطّل مفعولها، وبات من الطبيعيّ أن تسمع عن وفاة مرضى في المستشفيات بتأثير التهاب بكتيريّ عاديّ لأنّ كلّ المضادّات التي استُخْدمت لم تستطع قتل الجراثيم المقاومة، وفي أكثر الحالات بات الأطبّاء يستخدمون “كوكتيلاً” من عدّة مضادّات حيويّة مع تبديل “الخلطة” أكثر من مرّة في محاولة للتغلّب على البكتيريا المقاومة. لكن كلما ازداد استخدام مضادّات أقوى وأفعل كلّما تمّ إضعاف جهاز المناعة أكثر فأكثر وتراجعت قدرة الجسم على شفاء نفسه، وبات الأمل كلّه معلَّق على آخر نوع من المضادّات يتمّ إنتاجه. ولمّا كانت المضادّات الحيويّة رخيصة الثّمن فإنّ شركات تصنيع الأدوية لم تعد مهتمّة بإجراء الأبحاث المكلفة من أجل تطوير أجيال جديدة منها. هنا بالفعل وصلنا إلى عنق الزّجاجة. فالمضادّات تفقد مفعولها يوميّاً على محاربة الهجمات البكتيريّة حتى من بكتيريات بسيطة في الظّاهر وكان جهاز المناعة يتدبّر أمرها بسهولة (راجع معجزة نظام المناعة في العدد السابق من المجلّة). والبدائل التي يمكن أن تعوّض عن خسارة المضادّات لفعاليّتها غير موجودة ونظام المناعة يتراجع يوماً بعد يوم بتأثير المضاعفات الجانبيّة للأدوية الكثيرة التي نتناولها أو بتأثير تدهور بيئة الحياة ومئات بل ربّما ألوف الملوّثات التي نتعرّض لها، والنّتيجة أنّنا أصبحنا كجنس بشريّ في خطر لأنّنا خسرنا جهاز المناعة ثمّ ها نحن نخسر المضادّات الحيويّة التي اعتمدنا عليها. فما العمل؟ وما الذي ينتظرنا وينتظر أطفالنا في المستقبل غير البعيد؟
“الضّحى”

اليوم الذي كان الأطبّاءُ وأخصّائيّو الرّعاية الصِّحِّية والعلماء يخشَوْن حلولَه ويُحذِّرون من حدوثه طلعت شمسه… من الصّين، فهناك في أحد مراكز الأبحاث الصّينيّة اكتُشِفَت لأوّل مرّة في البشر والمواشي على حدٍّ سواء طفرة جينيّة(Mutation) تجعل البكتيريا “الذّكيّة” تُقاوِم جميع أنواع المضادّات الحيويّة، بما في ذلك عقاقير “هذه الطّفرة أطلق عليها علماء الصّين مصطلح جين MCR-1، وهي تسمح للبكتيريا بمقاومة مجموعة من المضادّات الحيويّة القويّة تُعرَف بتسمية “البوليميكسينات” (Polymyxins)، وعلى الأخصّ المضادّ الحيويّ “كوليستين” (Colistin)، الذي بات بمثابة خطّ الدّفاع الأخير ضدّ البكتيريا عندما تفشل جميع أنواع المضادّات الحيوية. ويخشى العلماء من أنّ جينات MCR-1 هي عصيّة على التدخُّل الطبّي وربّما تؤثّر، من النّاحية النظريّة، في جميع أنواع مسبِّبات الأمراض (Pathogens) المُعدِيَة الأخرى.

زحف جرثومي
ونقلت مجلة “تايم” الأميركيّة عن تقريرٍ للعلماء الصّينيّين نشرته دورية “لانسيت للأمراض المُعدِيَة” (عن اكتشاف مقاومة للمضادّات الحيويّة في 20% من الحيوانات التي أُخضِعَت للاختبار، و في 15 بالمئة من عيِّنات اللّحم النّيّئ، وكذلك لدى 16 مريضاً. وأوضحت أنّ هذه المقاومة انتشرت بين مجموعة من السُّلالات البكتيريّة، وثمّة دلائل على أنّ هذه الطّفرة انتشرت أيضاً إلى لاوس وماليزيا.
وأوضح البروفسور تيموثي والش من “جامعة كارديف” الذي شارك في هذه الدراسة، أنّ جميع العناصر التي يمكن أن تؤدّي إلى نهاية المضادّات الحيويّة كخيار علاجيّ باتت موجودة فعلاً. مضيفاً إنّ جين MCR-1 أصبح عالميّاً ويمكن أن يتآلف مع جينات أخرى مقاوِمة للمضادّات الحيويّة وهذا في حال حدوثه سيسدّد ضربة نهائيّة للمضادّات الحيويّة، وعندها، إذا ما أصيب إنسان ببكتيريا، على غرار E coli، عندها لا شيء يمكن القيام به لإنقاذ حياته.
في الوقت نفسه حذّرت مجلّة “لانسيت” العلميّة الشّهيرة من أنّه ما لم يتحقّق نجاح كبير في تطوير المضادّات الحيويّة، فإنّ الأطبّاءَ قد يصلون إلى حالة يشهدون فيها أعداداً متزايدة من المرضى الذين قد يُضطرّون إلى القول لهم: “نحن آسفون، ما من شيء يمكننا القيام به لشفاء إلتهاباتكم!”.
وكانت “منظّمة الصِّحّة العالميّة” (WHO) قد حذّرت العام 2012 من أنّ المضادّ الحيويّ “كوليستين” هو في غاية الأهميّة لصَحَّة الإنسان. وعلى الرّغم من تصنيف “منظّمة الصحّة العالميّة” فإنّ المزارعين في أنحاء العالم واصلوا تغذية المواشي بالمضادّات الحيويّة بكميّات كبيرة من أجل “تسمينها” وضمان إنتاجها. واستخدام المضادّ الحيويّ “كوليستين”، وكذلك “البوليميكسين”

(Polymyxin) بشكلٍ خاص، واسع الانتشار لا سيّما في الصّين، حيث يقوم المزارعون بحقنه في المواشي والدواجن.
ويقول الخبراء إنّ الجين MCR-1 ينتقل بسهولة بين سلاسل بكتيريا “إيكولاي” (E. coli) وأنواع أخرى من البكتيريا الشّائعة، بما في ذلك بكتيريا “الالتهابات الرّئويّة” Klebsiella pneumoniae، وبكتيريا Pseudomonas aeruginosa، التي تُسبِّب العديد من الالتهابات في الدّم، والمسالك البوليّة والأمعاء.
وقال البروفسور ليو جيان هوا من جامعة Southern Agricultural University الصينيّة إنّ “ النتائج ستكون مرعبة فعلا”. محذّرا من أنّه في حين يبدو من المُجدي الحدّ من استخدام “كوليستين” خصوصاً في تربية الحيوانات فإنّ الخَشْية هي من الوصول إلى مرحلة يتبيّن لنا فيها أنّ الأوان فات فعلاً لأيّ حلول إنقاذيّة.
وفي الولايات المتّحدة ربّما لا يُستخدم المضادّ الحيويّ “كوليستين” في المواشي على نطاقٍ كبير، لكن يُقدَّر أنّ 70 بالمئة من المضادّات الحيويّة التي تُعتبر في غاية الأهمّية لصِحّة البشر تُستخدم في مزارع الحيوانات، وثمّة احتمالٌ بالوصول إلى مرحلة يُضطرّ بها إلى استخدام “كوليستين” في المزارع لمكافحة الجراثيم التي كانت تسهُل معالجتها سابقاً بالمضادّات التقليديّة.

انتظروا العام 2050
جديرٌ بالذّكر أنّ مقاومة المضادّات الحيويّة تُودِي بحياة نحو 700,000 شخص في أنحاء العالم سنويّاً، ومن المتوقّع أن يرتفع هذا الرّقم إلى 10 ملايين بحلول العام 2050، وعندها يبدأ الرّعب فعلاً. وتُظهِر بعض الأبحاث أنّ حالات بكتيريا المقاوِمة للمضادّات الحيويّة ارتفعت بنسبة 12,000%، في غضون 7 أعوام فحسب، وذلك بسبب الاستخدام العشوائيّ للمضادّات الحيويّة على نطاقٍ واسع لدى البشر والحيوانات على حدٍّ سواء، ممّا يُدمِّر مجموع البكتيريا المفيدة في الأمعاء.
وكان “المركز الأميركيّ للتحكُّم بالأمراض والوقاية منها” (U.S. Centers for Disease Control and Prevention) قد أقرَّ بأنّ عصر المضادّات الحيويّة قد وصل إلى نهاية سادت فيها “السّوبر بكتيريا” Superbug أيّ المقاوِمة لكلّ أنواع المضادّات. في غضون ذلك، أعلنت مستشفيات في إنكلترا عن ارتفاع أعداد المَرْضى المصابين بأعراض مقاوِمة للمضادّات الحيويّة، وارتفعت الحالات المؤكّدة مخبريّاً لبكتيريا مقاوِمة للمضادّات الحيويّة في الأمعاء من 5 حالات إلى أكثر من 600 سنويّاً في غضون 7 سنوات فحسب.

كيف نتدارك الكارثة
استجابةً لذلك الخطر الدّاهم، يعكف الباحثون في الدّول المتقدّمة على مدار السّاعة لحلّ إحدى أكبر المشكلات المستقبليّة التي تُواجه الجنس البشريّ، أي تغلُّب البكتيريا الذكية على المضادّات الحيويّة وإبطالها لمفعول الأخيرة. وهذا التطوّر اعتبرته “منظّمة الصحة العالمية” من بين المخاطر الصحية الأكثر جدّية في العالم. فمن دون مضاد حيوي فعّال يُعتَمد عليه في المستقبل، فإن الوضع سيكون كارثياً. إذ أن العمليات الجراحية وحتى عمليات الولادة ستنطوي على مخاطر كبيرة.
يقول الباحث ماتي إرديلي وهو عالِم كيمياء عضوية يسعى فريقه البحثيّ إلى إيجاد وسائل لمنع البكتيريا من إحباط عمل المضادّات الحيويّة الحاليّة، أنّ الدّول النّامية ولاسيّما في آسيا تستخدم المضادّات الحيويّة للحيوانات منذ ولادتها وطوال فترة حياتها. وينتهي المطاف بكميّات كبيرة من تلك المضادّات في البيئة من خلال مخلّفات وفضلات الحيوانات، لذا تعتاد البكتيريا على تلك المضادّات الحيويّة. وعندما نلجأ إلى استخدامها مجدّداً، تكون البكتيريا قد أصبحت مقاوِمة لها بالفعل”.
لذلك، فإنّ أحد الأسباب الرّئيسة وراء مقاومة المضادّات الحيويّة هو معالجة المواشي بشكلٍ وقائي بالمضادّات الحيويّة لمنع تعرُّضها للمرض. وهذا على سبيل المثال محظور في السّويد، لكنّه شائع في دولٍ كبيرة مثل الصّين والولايات المتّحدة الأميركيّة. وبالتّالي، قد يكون لتجنُّب المعالجة الوقائيّة للحيوانات تأثيرٌ إيجابي كبير في منع تطوّر مقاومة البكتيريا للمضادّات الحيويّة.
عالِمة الكيمياء الأحيائيّة روزماري فريمان تلفت إلى أنّ البكتيريا “بارعة جداً في تمويه وجودها داخل الجسم”، لذا يُركِّز فريقها البحثيّ على عمليّة التّمويه هذه. وتقول في هذا الصّدد: “إذا ما تمكّنا من إحباط عمليّة التّمويه هذه فإنّ بُنية سطح البكتيريا ستتغيّر وسيصبح بإمكان الجهاز المناعيّ في الجسم التعرّف عليها والتّعامل معها”.
لكنّ المشكلة هي أنّ الأطبّاء لا يُحسنون تحرّي أيّ نوعٍ من البكتيريا يُسبِّب أيّ صنف من الالتهابات، إذ لو تمّ لهم ذلك فإنّه سيُحَسِّن الوضع نسبيّاً. لكنّ ما يحدث هو أنّ الأطبّاء للتّعويض عن ذلك يستخدمون “كوكتيلاً” من عدّة مضادّات حيويّة لمعالجة صنف معيّن من البكتيريا.

حسابات صناعة الأدوية
المشكلة الإضافية هي أنّ الصّناعة لم توجد فئات جديدة من المضادّات الحيويّة، إذ كلُّ ما يتوافر منها هو أنواع من المضادّات الحيويّة التي جرى تطويرها بين عامي 1962 و 2000. ومنذ ذلك التاريخ لم تُطوِّر شركات صناعة الأدوية سوى قلّة قليلة من الفئات الجديدة، فمعظم الأنواع الجديدة هي مجرّد تعديل للمضادّات المتوافرة. وفي ظل تواصُل مشكلة مقاومة المضادّات الحيويّة ستكون هناك حاجة دائمة لتطوير أنواعٍ جديدة من تلك العقاقير.
لكن المشكلة هنا تكمن في أنّ الاستثمار في تطوير مضادات حيوية جديدة ليس مُربِحاً لتلك الشّركات الصّيدلانيّة. أمّا المشكلة الأكبر فهي المهارة المتزايدة للبكتيريا في مقاومة وتعطيل مفعول المضادات، فما أن يُطلَق مضادٌ حيويّ جديد في الصّين حتى تصبح البكتيريا مقاوِمةً له في غضون أشهر قليلة. وهذا بالطّبع ما يجعل الشّركات الصّيدلانيّة تتردّد في إنفاق مبالغ كبيرة لتطوير مضادّاتٍ حيويّة جديدة طالما أنها ستصبح غير ذات جدوى كلّيّاً في غضون سنوات معدودة.

خطوةٌ في الاتّجاه الصّحيح
إنّ إحدى المشكلات الأساسيّة هي المواقف المُمالئة لـ “اللّوبي الزراعي” التي تتّخذها الحكومة الأميركيّة والتي تتمثّل في تأخّر “إدارة الغذاء والدّواء” (FDA) الأميركية لسنوات عن الإقرار بمخاطر الاستخدام الواسع للمضادّات الحيويّة في العلف الحيوانيّ من قبل كبريات الشّركات العاملة في قطاعات اللّحوم والألبان والدّواجن. إلّا أنّ هذه الإدارة، ونتيجة لضغوط الأوساط العلميّة والرّأي العامّ قامت في العام 2013 بالإعلان عن “برنامج تطوُّعي غير مُلزِم” يرمي إلى خفض كمية المضادّات الحيويّة المستخدمة في المواشي والأبقار والدّواجن اللّاحمة”، ويحثُّ البرنامج الصّناعة والشّركات الصّيدلانيّة الكبيرة على الالتزام بالمعايير الجديدة المُوصى بها، وتُحذِّر الإدارة المذكورة المزارعين من أنّ استخدام المضادّات الحيويّة لتسمين حيواناتهم في أسرع وقت قد يؤدّي بهم إلى المحاكمة الجنائية.
وفيما يعتبر برنامج “إدارة الغذاء والدّواء” هذا خطوة في الاتّجاه الصّحيح، فهو بالطّبع ليس كافياً. أوّلاً لأنّه تطوُّعي وغير ملزم، وهذا يعني أنّ الشّركات الصّيدلانيّة المُصنِّعة للعقاقير ليست ملزَمة به، وفي حال وجدَ المزارعون على علبة المضادّ الحيويّ عبارة: “يمكن استخدامه لتعزيز النّمو” فبإمكانهم استخدامه على هذا النحو.
ثانياً، حتى ولو امتثلت تلك الشّركات الصّيدلانيّة المختصّة، فثمّة وسائل يعتمدها المزارعون للتّحايل على البرنامج. فمع جرعات منخفضة، يمكنهم استخدام تلك العقاقير بحجّة الوقاية من المرض. لكن ثمّة وجهٍ إيجابيّ للبرنامج يتمثّل في أنّ استخدام تلك المضادّات الحيويّة بات اليوم يتطلّب وصفة بيطريّة، بينما كانت المضادّات في الماضي تتوافر على رفوف متاجر المواد الزّراعية. والمهمّ أنّ رفع الصّوت عالياً في مثل هذه البرامج قد يأتي ببعض النّتائج الإيجابيّة، ولو لم يكن كافياً ويتطلّب تدابير أكثر صرامة. وفي “لقاء قمّة” علميّ حول استخدام المضادّات الحيويّة، عُقِدَ مؤخّراً في البيت الأبيض، تعهَّدت نحو 150 شركة مُصنِّعة للطّعام، ومطاعم ومستشفيات وشركات صنع عقاقير، بإنهاء استخدام لحوم من حيوانات عُولِجت بالمضادّات الحيويّة، وهومن شأنه أن يبدأ بإحداث تغيير في هذا التقليد السيّيء.

ألكسندر فلمنع الذي ينسب إليه اكتشاف البنيسيلين في العام 1928
ألكسندر فلمنع الذي ينسب إليه اكتشاف البنيسيلين في العام 1928

مخاطر الاستخدام العشوائيّ
من بين المشكلات الكثيرة التي يُسبّبها فرط استخدام المضادّات الحيويّة حدوث حالات إسهال مميت لدى الأطفال، وهم ذوو أمعاء أكثر حساسية، حيث إنّ الجهاز المناعي للأطفال لا يزال في طور النمو. كما أن المضادات الحيوية تخرّب التّوازن الدّقيق في بكتيريا الأمعاء والذي يُبقي كائنات مجهريّة حيّة مثل فطريات “الكانديدا” (Candida) في حالة توازن، إذ إنّ المضادّات، حتى عند استخدامها بنِسَبٍ ملائمة للتّخلُّص من البكتيريا، لا تُميِّز بين المفيدة منها والسّيِّئة، وتقضي على الأولى بجريرة الثّانية، وهو ما يُحدِث اختلالاً في توازن بكتيريا الأمعاء ويؤدّي إلى مشكلات صحية كثيرة. وتقف المضادّات الحيويّة وراء تزايد حالات مرض “السّيلان” (Gonorrhea) العَصِيِّة على المعالجة، وأمراضٍ جدّية أخرى.

كيفَ نُعزِّز نظام المناعة
(كبديلٍ عن الأدوية ومُضاعفاتها)

هل تلتقط فيروسَ الرّشحِ مرّةً تلو الأخرى خلال فصل الشّتاء فيما صَحْبُكَ ينعمون بالعافية؟ ربّما تحتاج إلى التّفكير جدّياً بتعزيز جهازِكَ المناعيّ.
لقد حَبَانا الخالقُ بجهازٍ مناعي مُذهل وظيفته أنْ يُبقينا في صِحّةٍ جيّدة، ليس فقط خلال فصل الشّتاء بل طوال فترة العام، مُتَصدِّياً لكلِّ أنواع الجراثيم والفيروسات والسّموم والملوّثات. والجهاز المناعيّ ليس مهمّاً فحسب للشّفاء من الأمراض بل أيضاً للحفاظ على صِحّةٍ جيّدة.

ما هو الجهاز المناعيّ؟
الجهازُ المناعيّ هو النّظام الدّفاعيّ الطّبيعيّ للجسم، ويتألّف من تريليونات خلايا الدّم البيضاء، والأجسام المضادّة (Antibodies)، ونخاع العظام، والغُدَّة الصّعتريّة (Thymus)، التي تعمل جميعها على التعرُّف إلى ملايين من الميكروبات (مثل البكتيريا، والفيروسات، والفطريّات، والشّوائب السّموميّة) التي تتسلّل إلى أجسامنا كلّ يوم، وتحرص على تدميرها، فضلاً عن التّخلُّص من الخلايا الشّاذة.
ولا يقلّ الجهازُ المناعيّ تعقيداً عن الجهاز العصبيّ، فهو ليس قادراً على إنتاج مضادّ حيويّ طبيعيّ لكلّ نوعٍ من ملايين الجراثيم والعوامل المُسبِّبة للعدوى فحسب، بل هو أيضاً قادرٌ على تذكُّر كيفية إنتاج تلك “المضادّات” Antigens بعد عقودٍ لاحقة. وتُشكِّل خلايا الدّم البيضاء بأنواعها العمود الفِقْري للجهاز المناعيّ.
ويقوم الجهاز المناعيّ السّليم بحمايتنا عبر استحداثه في البداية حاجزاً يمنع دخول تلك الجراثيم الغازية المُسبِّبة للمرض إلى الجسم. وفي حال تسلُّل بعضها، يُنتِج الجهازُ المناعي خلايا الدّم البيضاء وكيميائيّات وبروتينات أخرى تهاجم هذه الكائنات الغريبة وتُدمِّرها، وذلك قبل أن تبدأ بالتّكاثر.
وخيرُ مؤشّرٍ على مستوى سلامة الجهاز المناعيّ هو مدى الحيويّة التي نشعرُ بها. فإذا ما شعرنا بالضّعف أو بالإرهاق أو بالاكتئاب فلعلّ جهازنا المناعيّ يكون ضعيفاً. وغالباً ما نسعى إلى التّعويض عن هذا الشعور باحتساء مشروباتٍ غنيّة بالكافيين، أو تناول أطعمة مُتخَمَة بالسكر، وهنا تتفاقم المشكلة. لقد تكيَّفَ الجهازُ المناعي بأسلوب حياةٍ غير صِحّي. لذا يبدو في غاية الأهمّيّة لسلامة الجسم والعقل الحفاظ على جهازٍ مناعيّ سليمٍ وصِحّي.

كيف يَضعف الجهاز المناعيّ؟
ثمّة عوامل عديدة تُضعِف قوّة الجهاز المناعيّ، أبرزها:
1. سوء التّغذية
النّظام الغذائيّ المعاصر يفتقد إلى العديد من الفيتامينات، والأملاح المعدنيّة، ومضادّات الأكسدة (Antioxidants) وعناصر غذائية أخرى ضروريّة لكي يحافظ الجسم على جهاز مناعيّ صِحّيّ وسليم. فالفواكه في السوبرماركت، على سبيل المثال، غالباً ما تكون قد قُطِفَت قبل النّضج وقبل أن يتسنَّى للعناصر الغذائية فرصة النّمو، وغالباً ما تُزرع الخضروات في تربة ناضبة مستنفدة الخصوبة، وبالتّالي تنمو وهي تفتقر إلى العديد من المكوّنات الغذائية. أمّا اللّحم فيُنتَج من مواشٍ وأبقار ودواجن تُطعَم أعلافاً مستنفدة القيمة الغذائية، وغالباً ما تُحقن بهرمونات وستيرويدات (Steroids). والأطعمةُ المعلّبة غالباً ما تُعالَج صناعياً لإطالة عمرها على رفوف المتاجر والسوبرماركت بما يحرمها من أن تكون مصدراً للغذاء السّليم. فالجهاز المناعي يحتاج إلى تغذية مُثلى عبر نظامنا الغذائيّ لكي يستطيع العمل بفعالية في حمايتنا، وبمجرّد فقدان عددٍ قليل من الفيتامينات أو الأملاح المعدِنيّة الضّروريّة لعمله بكميّاتٍ كافية، يصبح هذا الجهاز ضعيفاً ويمكن للبكتيريا عندها مهاجمته.
2. البيئة الملوّثة
فيما تصبح بيئتنا أكثر تلوّثاً، يُضطر الجسمُ لمجاراة عبءٍ أكبر من السّموم، التي تنساب إليه من الأطعمة، ومن خلال الرّئتين والجلد، وكذلك بسبب التّعرُّض للأشعّة الكهرومغناطيسية الصّادرة عن المعدّات الكهربائية والإلكترونية. فمع ارتفاع نسبة السّموم يعمل الجهاز المناعيّ بجهدٍ أكبر لتحديد تلك الملوّثات وإزالة سمومها، وهو ما يُرهِقه، وهذا ما يحدث كلّ يوم.
3. التوتُّر والإجهاد
عندما نشكو توتُّراً أو إجهاداً، يردّ الجسم بتحويل جميع موارده إلى العضلات. فوظائف الجسم الأخرى التي تُعتبر غير ضروريّة في الحالات الطّارئة تُعَطَّل موقّتاً، ومن بينها الهضم، وآليات ترميم الخلايا، ووظيفة الجهاز المناعي. والمشكلة هي أنّ الحياة المعاصرة غالباً ما تشهد حالاتٍ من التوتُّر المتواصل والإجهاد المزمن، وهذا يعني أنّ آلية إصلاح الخلايا والأنسجة والاستجابة المناعيّة تشهد اختلالاً متواصلاً
وممّا يُفاقِم ذلك الافتقار إلى النّوم الكافي، وهو الفرصة الرّئيسة للجسم كي يُرمِّم ويُشفي نفسه، وذلك يجعل من الإنسان ميّالاً للإصابة بالأمراض والشّيخوخة المبكّرة.
4. العقاقير
يمكن للعقاقير الطبّيّة أن تُضعِف الجهاز المناعيّ بشكلٍ كبير. فعلى سبيل المثال، تُدمِّر المضادّات الحيويّة (Antibiotics) البكتيريا المفيدة في المعدة والأمعاء، وهي في غاية الأهمّية لسلامة الجهاز الهضميّ. وثمّة علاجات حديثة تخلّ بوظيفة الجهاز المناعيّ، لا سيّما تلك المستخدمة لفترةٍ طويلة وهي تؤذي النّظام الدفاعيّ الطبيعيّ للجسم.

كيف نُقوِّي الجهازَ المناعيّ؟
في ظلّ هذه الحقائق ماذا يَسَعُنا القيامُ به لتعزيز الجهاز المناعيّ؟
• تحسين مستوى التّغذية
من أجل مضاعفة ما نتناوله من مُغذِّيات يتعيّن اختيار الأغذية الصِّحيّة ما استطعنا ويُفضَّل أن تكون فواكه وخضروات عضويّة أو بلديّة. ذلك ناهيك عن الإكثار من شرب المياه النقيّة وتجنُّب ما يُسمَّى بـ “مضادّات المغذَّيات” (Anti-nutrients) وعلى رأسها السكر المكرّر، والخبز الأبيض، والأرز الأبيض، والحلويات الغنية بالسّكر، والمشروبات الغازية، والأطعمة السّريعة وما شابهها.
إنّ نظاماً غذائيّاً غنياً بالفيتامينات المضادّة للأكسدة يُعزِّز مقاومة الالتهابات. فكلّ الخضار والفواكه ذات الألوان الأخضر والأحمر والأصفر والبرتقالي تزخر بمضادّات الأكسدة، كالحمضيّات وأنواع التّوت والعنّبيّات، والكيوي والتّفاح والأعناب، والجزر والبصل وغيرها. ومن بين الأطعمة المقوّية للمناعة، الثّوم الذي يتمتّع بخصائص مضادّة للجراثيم والفيروسات، وكذلك حساء الدّجاج، كما يُنصَح بتناول الفطر بأنواعه.
وهنا يُنصح بإضافة مُكمِّلات غذائيّة ومعدنيّة إلى نظامنا الغذائيّ، لا سيّما مضادّات الأكسدة التي تُسهِم في القضاء على الجذور الحُرَّة (Free Radicals) وإيقاف تلف الخلايا. ومن بين تلك فيتامين “سي” (C)، ومجموع فيتامينات “بي” (B)، وكذلك “أ” (A) و”إي” (E)، فضلاً عن “السيلينيوم” (Selenium) والزّنك (Zinc) والمغنيزيوم (Magnesium). إنّها ضرورية لتساعد الجسم على التّعامل مع بيئةٍ تختلف جدّاً عمّا كانت عليه في أيام الآباء والأجداد.
• الحدّ من الملوّثات
بدايةً يُنصَح بتناول طعامٍ عضويّ لتجنُّب تلك الموادّ الكيميائيّة المستخدمة في التّخصيب الزّراعي والتي كثُرَ الحديث عنها في الآونة الأخيرة. ومن ثمّ وجبَ الإقلاع عن التّدخين. فثمة أطبّاء في الولايات المتّحدة، على سبيل المثال، لا يتابعون مريضاً يرفض التوقُّف عن التّدخين باعتبار ذلك دلالة على أنّه لا ينشد التّمتُّع بالعافية حقاًّ. وبات لزاماً الإكثار من شرب الماء (أقلّه 1,5 ليتر في اليوم) من أجل تنظيف الجسم من السّموم المتراكمة فيه وطردها خارجاً. ويُنصَح هنا بالصّوم بين الحين والآخر لإزالة سموم الجسم وبالتّالي تحسين المناعة. ويتعيّن الابتعاد قدر الإمكان عن مصادر الأشعّة الكهرومغناطيسيّة، مثل شاشات التّلفاز والكومبيوتر.
• تخفيف التوتُّر والإجهاد
كم نجد أنفسنا أكثرَ حيويّة بعد التّمتُّع بعطلة أو نقاهة أو استجمام! فالتوتُّر أو الإجهاد يصبح عادةً مُخيفة تُسبِّب مشكلات صِحيّة جدّيّة على المدى الطّويل. وهناك العديد من القصص عن أناسٍ كان يعانون حالاتٍ صِحيّة خطرة استطاعوا الشّفاء منها بأعجوبة عندما بدأوا ينعمون بالرّاحة والاسترخاء والابتعاد عن مصادر التوتُّر والإجهاد. والخطوة الأولى لتحقيق ذلك هي عبر التنعُّم بقسطٍ وافٍ من النوم (أقلّه 7 ساعات لمعظمنا)، وتجنُّب حالات تُثير غضبنا، أو تقودنا إلى الاكتئاب والإحباط، والأفضل من ذلك هو القيام بتمارين رياضيّة معتدلة تساعدنا على الاسترخاء. ولا ريبَ أنّ الصلاة، والتأمُّل، والاستماع إلى الموسيقى الهادئة والوجدانية تُضاعِف مستويات الاسترخاء والتحرُّر من التوتُّر، وتبثُّ إحساساً بالثقة والتدبُّر.
• الحدّ من العقاقير
في حال وجود مُنتَجٍ طبيعي فعّال يُغنينا عن العقار الصّيدلاني، فعلينا بذلك البديل، ومن الأفضل استشارة الطّبيب بالطّبع. لكنّ معظم الأطبّاء يميلون إلى تطبيق علاجات صيدلانيّة تعطي مفعولاً سريعا لكنّهم قليلاً ما يهتمّون بنصح المريض بتبديل نمط حياته أو غذائه، والسّبب هو أنّ قلّة من بينهم يضيفون إلى تخصّصهم العلميّ معرفة كافية بأنظمة الغذاء أو العلاجات المكمِّلة أو البديلة عن الأدوية الكيميائيّة. هذا مع العلم أنّ العلاج يبدأ بتبديل نمط الحياة، وتحسين نظام الغذاء، واعتماد التّمارين الرّياضية، وعندها فإنّ اللّجوء إلى العقاقير الطبيّة يصبح جزءاً من نهج علاجيّ متكامل مع إمكان دعمه أيضاً بمُكمِّلاتٍ غذائيّة (Supplements ومُغذِّيات ضروريّة لتقوية الجهاز المناعي.

أهم أسباب تزايد مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية هي استخدام المضادات على نطاق واسع في المزارع الكثيفة سواء للوقاية من ال
أهم أسباب تزايد مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية هي استخدام المضادات على نطاق واسع في المزارع الكثيفة سواء للوقاية من ال

• ممارسة المشي والرّياضة
القعودُ لفترةٍ طويلة لا يجعلك تشعر بالكسل فحسب بل يجعل جهازك المناعيّ يتكاسل أيضاً، في حين أنّ التمارين تساعد على تعزيز المناعة، حتى تلك المعتدلة منها كالمشي، أو المشي السّريع الذي يزيد سرعة دقّات القلب ولو لمدة 20 دقيقة ثلاث مرّات في الأسبوع. وترتبط التمارين بإطلاق هرمونات “الإندورفين” (Endorphins)، وهي هرمونات طبيعية تؤثّر في الدّماغ بطرقٍ إيجابيّة. إنّها تُخفِّف الألم وتبثُّ إحساساً بالاسترخاء والعافية بما يُخفِّض التوتُّر ويُحسِّن النّوم، وبالتّالي يُعزِّز المناعة.
• التّمتُّعُ بنومٍ وافٍ
التعرُّض للأرق لا يترك المرء مُتْعَباً طوالَ النّهار فحسب بل يجعله أيضاً عرضةً للأمراض، بما في ذلك الزّكام والأنفلونزا والتهاباتٍ أخرى. كما أنّ النّوم لساعاتٍ قليلة على المدى الطّويل يُضاعِف مخاطر الإصابة بمشكلات صِحّيّة جديّة أخرى من بينها البدانة والسّكري.
ويقول الخبراء إنّ الجسم يستخدم النّوم كوسيلةٍ لشفاء نفسه. وحينما لا ينعم المرء بقسطٍ وافٍ من النّوم، أو بالأحرى المراحل العميقة من النوم، تختلّ عملية الشّفاء هذه. وفيما يصعب قياس التأثير الوقائيّ للنّوم على الجهاز المناعيّ بشكلٍ دقيق، فإنّ النّوم يمكنه، كشأن مضادات الأكسدة، أنْ يُخفِّض التّوتُّر المسبِّب للأكسدة، وهو ما يُوقِف تعرُّض الخلايا للضّعف والتّلف. ويؤكّد الباحثون أنّ النّوم لِمَا لا يقل عن 7 ساعات ليلاً يرتبط بمقاومة متزايدة للأمراض المُعدِيَة.
• إدارة التوتُّر
حينما يكون الجسمُ تحت وطأة إجهادٍ أو توتُّرٍ متواصِل يغدو أكثر عرضةً للأمراض مهما تفاوتت جدّيتها، ذلك أنّ الجسم في ظل توتُّرٍ مستمرّ يفرز مجموعة من هرمونات التوتُّر، مثل “الكورتيزول” (Cortisol) و”الأدرينالين” (Adrenaline)، التي تُضعِف الجهاز المناعي. كما أنّ التوتُّر المُزمِن يرتبط بأمراض القلب وضغط الدّم العالي، وربّما يكون له تأثير أيضاً في وظيفة خلايا الدّم البيضاء. وينصح الأطباءُ بتغييرٍ جذريٍّ في نمط الحياة، والقيام بكلّ ما يساعد المرء على إدارة توتُّره، سواء كان ذلك نوعاً من التأمُّل، أو التّمارين الرّياضيّة، أو الاهتمامات الرُّوحيّة.
• بناء علاقات:
أظهرت الأبحاث أنّ أولئك الذين يرسون علاقات صداقة وثيقة ويحظَوْن بدعمٍ قويّ في حياتهم يميلون إلى التمتُّع بصِحّةٍ أفضل من أولئك الذين يفتقدون إلى دعمٍ اجتماعيّ وعلاقاتٍ مماثلة.

العسل

قاهر البكتيريا

العسل الطبيعي أثبت امتلاكه لخصائص قاتلة للبكتيريا بما في ذلك تلك المقاومة للمضادات الحيوية
العسل الطبيعي أثبت امتلاكه لخصائص قاتلة للبكتيريا بما في ذلك تلك المقاومة للمضادات الحيوية

العَسل، هو الدّواء الطّبيعيّ المستخدم منذ آلاف السّنين لمكافحة الجراثيم وتنظيف الجروح، لكنْ قلَّ مَنْ أدركَ قدرته الكبيرة كمضادٍّ حيويّ حتى الآونة الأخيرة. فالعسلُ قد يُشكِّل العلاج النّاجع لمكافحة التّهديد الطّبّي الأخطر الذي يتمثَّل في الجراثيم المقاوِمة للمضادّات الحيوية.
فالعسل مضافٌ إليه أعشاب أو نباتات طِبيّة مثل الزّنجبيل، كبحَ نموَ جراثيم خطرة مثل بكتيريا Staphylococcus aureus (التي تنتشر في المستشفيات) المقاوِمة لـ “الميثيسيلين”، وبكتيريا الـ E-coli، والبكتيريا المسبّبة للالتهاب الرّئوي وهي من بين الجراثيم الأكثر خطورة وفتكاً.
وقام الباحثون بإجراء اختباراتٍ منفصلة على العسل، ومسحوق الزّنجبيل، وتوليفةٍ من هاتين المادتَين مقابل ثلاثة مضادّات حيويّة مختلفة، هي: “ميثيسيلين” Methicillin، و”أموكسيسيلين” Amoxicillin، و”البنيسيلين” Penicillin، وهي ثلاثة من بين المضادّات الحيويّة الأكثر نجاحاً في التّرسانة الصّيدلانيّة.
وأجرى الباحثون خمسة اختبارات لكلٍّ من هاتين المادّتَين الطّبيعيّتَين العلاجيّتين في مكافحة أنواع البكتيريا الآنفة الذّكر. ووجدوا أنّ كلاًّ من العسل ومستخلص الزّنجبيل اتّسمَ على نحو منفصل بمستويات كَبْحٍ للبكتيريا أعلى من أيٍّ من المضادّات الحيويّة المنوَّه بها.
والنتائج الطّبّيّة لهذه الدّراسة كبيرة، إذ إنّها تكشف أنّ العسل والزّنجبيل يقضيان على الجراثيم الخطرة أكثر من معظم المضادّات الحيويّة القويّة المتوافرة صيدلانيّاً. فتلك الجراثيم قد تهيَّأت لإبطال مفعول تلك المضادّات الحيويّة التي أُفرِطَ في استخدامها على مدى عقود. لكنّ البعض قد يسأل: أليسَ باستطاعة تلك البكتيريا أن تُقاوِم أيضاً مفعول العسل أو الزّنجبيل؟ والإجابة هي أنّ الطبيعة تعمل بآلياتٍ مختلفة كلّيّاً عن تلك العقاقير المُصنَّعة. ذلك أنّ البكتيريا تتكاثر دائماً داخل خلايا النّحل. كما أنّها موجودة دائماً حول جذور نبتة الزّنجبيل، وفي التّربة من حولها. فالتربة تحتفظ بأعلى مستويات من البكتيريا، ولكون الكائنات المجهرية الحيّة تبقى في حركةٍ متواصلة، فإنّها لا ثباتَ في حالها. فنبتة الزّنجيل على سبيل المثال تُنتِج باستمرار آليات حيويّة لطرد البكتيريا، بما في ذلك فرز أحماض تُفكِّك خلايا الجراثيم المؤذية عند التماس، فضلاً عن كائناتٍ حيّة في التّربة تلعب هي أيضاً دوراً في كبح غزو البكتيريا. وهذه التّدابير المضادّة للبكتيريا التي تُوظِّفها النباتات تصل إلى الأزهار وغبار طلعها Pollen. ومن ثمّ يقوم النّحل بجمع غبار الطّلع وإحضاره إلى الخليّة. كما أنّ النّحل بدوره يتّبِع تدابير مضادّة للبكتيريا أيضاً وذلك لمنع حدوث أي التهاب داخل الخليّة أو القفير، بما في ذلك إنتاج المضادّات الحيويّة الخاصّة بالنّحل التي تقوم هذه الحشرة بإفرازها لُعاباً. ومُرَكَّب الـ “بروبوليس” (Propolis) هو العنصر الفعّال في لُعاب النّحل وكذلك في صَمْغ العديد من النّباتات، وقد أثبتَ هذا المُرَكَّب نجاحه كمضادٍّ حيويّ فعّال.
إذاً، لماذا تفلح هذه العلاجات الطّبيعيّة في التّغلُّب على مضادّات حيويّة شهيرة مثل “الميثيسيلين”، و”الأموكسيسيلين”، و”البنيسيلين”؟ السّبب هو أنّ المضادّات الحيويّة الصّيدلانيّة ثابتة الأداء، أي تعمل بالطّريقة ذاتها طوال الوقت.
ويعني ذلك أنّ جراثيم خطرة مثل الستافيلوكوكس والـ E-coli وجرثومة الالتهاب الرِّئوي يمكنها أنْ تَكتشف كيف تعمل تلك المضادّات الحيويّة وتُطوِّر تدابير لمقاومتها والتغلُّب عليها. ومن ثم تُمرِّر تلك المقدرة إلى بكتيريا أخرى عبر بُنى إحيائيّة جينيّة التّركيب نقّالة تُعرَف بـ “البلازميدات” (Plasmids).بينما دفاع النّحل أوالنّبات وكذلك نظام المناعة البشريّ في مواجهة الجراثيم عمليّة طبيعيّة تتمتّع بقدرة كبيرة على التّكيّف وتعديل الأسلحة والحلول ولهذا لا يمكن للجراثيم تطوير دفاعات فعّالة ضدّ أنظمة المناعة الطّبيعيّة.
وممّا يدعم هذه النتائج، ما توصّلت إليه دراسة أجرتها “جامعة سيدني للتّكنولوجيا” على العسل النيوزيلندي الذي يجنيه النّحلُ من أشجار شاي المانوكا. ووجدت الدّراسة أنّ هذا العسل كافحَ الجراثيم على جبهتين. فهو لم يتمكّن فحسب من قتل جرثومة Staphylococcus المقاوِمة لـ “الميثيسيلين” وبكتيريا أخرى، بل إنّه منعَ أيضاً تلك البكتيريا من أن تصبح مقاوِمةً للمضادّات الحيويّة. وأثبتَ هذا العسل مستوى مضادّاً للبكتيريا هو أكبر بأربعة أضعاف من المضادّات الحيويّة التّقليديّة. ولطالما استخدمت شعوب نيوزيلندا هذا العسل لتنظيف الجروح، وشفاء قرحات المعدة، ومعالجة الأكزيما، وحَبّ الشباب، ولدغات الحشرات. كما أنّ الكتيريا فشلت في تطوير أيّ مقاومة للمفعول العلاجيّ للعسل.
والمكوِّن الفعّال في العسل النيوزيلندي هو الـ “ميثيل غليوكسال” Methylglyoxal (MG)، وهو مكوَّنٌ موجود في مُعظم أنواع العسل ولو بكميَّاتٍ متفاوتة.
كما تبيّن أنّ هذا العسل كمضادٍّ حيويّ، ومضادٍّ للفطريات، فعّالٌ في معالجة إلتهاب الحلق والحَنْجرَة، والزّكام، والتهاب الجيوب الأنفيّة، والتهاب الجلد، ومُلتَحِمة جِفن العين، وكذلك في حَرْقة المعدة والحموضة، وارتجاع العُصارات الهضميّة Reflux.

قصص الامثال

قصص الامثال

تُطْلَقُ هذه العبارة للتّأكيد على القناعة، وعدم الإسراف في الملّذات، وبخاصّة الطّعام والشّراب، إذ يعتبرون الطّعام والشّراب وسيلة للعيش لا غاية بحدّ ذاتها، متمثلين بالأثر الذي جاء فيه: « نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لانشبع « .
والحكاية أنّ بَدَوِيّاً وُصف له العِنَب، وأفاض المتحدّث بالكلام عن العنب وأنواعه وألوانه وطعمه اللّذيذ وفوائده، والبَدوي لم يرَ العنب في حياته كلّها، فوقع حُبُّ العنب في نفسه، واشتهى أن يتذوّقَه، وقرّر الارتحال إلى الشّام ليأكلَ عِنَباً.
وهكذا كان؛ فبعد أن قطع المسافات على جَمَلِه، وأصبح على مشارف الشّام إذ شاهد رجلاً يجلس تحت شجرة، فقرّر أن يستريحَ قليلاً بالقرب من الرّجل، وكان الرّجل يحمل شيئاً من العِنَب، أتى على أكثرِه، ولم يبقَ لديه إلّا بضع حبّات، فدفعها إلى البدويّ قائلاً :
ـ تفضل، الفَضْلةُ للفَضيل .
فسأل البدويّ :
ـ وِاِشْ هَذا ؟
فقال له :
ـ عِنَب.
فتناول البدويّ حبّات العِنب، وأكلها، ثمّ قام إلى جَمَله، فَركبَه، وقفل راجعاً إلى دياره وهو يقول:
« شهوَة، وقضيناها».
ولكلام البدويّ فائدة في وصف طبيعة أهل البادية المعتادة على التقشّف وقوّة الاحتمال وفي الوقت نفسه اعتدال المزاج في الطّعام لأنّهم اعتادوا على أصناف قليلة وأخذوا كفايتهم منها. وقد اكتفى البدويّ البسيط بتذوّق حبّات دفعتها الصّدفة في طريقه واعتبر أنّه بذلك تذوّق العِنب ولم يَعُد أمامه شيء آخر يفعله مثل أن يسعى إلى شراء عنقود كامل فيشبع من تلك الفاكهة التي قطع الفيافي والقفار من أجل أن يتذوّقَها. بل إنّه اعتبر اندفاعه في البحث عن العنب بمثابة «شَهْوة» وحالة ضعف في النَّفس وهو شُفِي من إلحاحها وأصبح حرّاً في العَوْدة إلى الحمى.

قَوْمٌ بلا عُقّال راحوا قطايع قَوْمٌ بلا جُهّال ضاعت حقوقها
يُضْرَب هذا المثل للموازنة بين اللّين والحَزم، وبين استخدام القوّة أو التفاوض في الدّفاع عن الحقوق. وإذا كان الناس بحاجة إلى عقّال تَسوس أمورهم وتحميهم، فهم بحاجة إلى جُهّال تحمي حقوقهم من الضّياع . وقد عبّر الأمير شكيب أرسلان عن هذه الحالة بقوله :
إذا كان دفع الشّرّ بالرأيِ حازماً فما زال دفعُ الشّرِّ بالشرِّ أَحْزَما
وحكاية هذا المثل كما يرويها سلام الراسي نقلاً عن عبد الله النّجار أنّه هبط على دمشق شيخ جليل من مشايخ وادي التّيْم، وبات في أحد خانات المدينة، وكان يتمنطق بِكَمَر(حزام من جلد متين فيه جيوب عديدة لحفظ الأوراق والنّقود) فيه خَرجيّة السّفر. وَضعه تحت وِسادته في أثناء اللّيل، وعند الصّباح خرج في حاجة نفسه،، وعاد فلم يجد الكَمر، فراجع صاحب الخان في الموضوع، فقال له هذا: اذهب فتّش عن كَمرِك حيث وضعتَه، إذ كان يجب عليك أن تستودعَني إيّاه، فأكون مسؤولاً عنه.
ورغم أن الاحتمال كان قويّاً في أنّ صاحب الخان له يدٌ في ضياع كَمرالشّيخ فإنّ الأخير كان حَسَن الطّويّة حَسن الظّنَّ بالناس فاكتفى بالقول: «لا حَوْل ولا قوّةَ إلّا بالله». وقرّر أنْ يعود توّاً إلى قريته، فاعترضه صاحب الخان وطالبه بكراء الخان. وإذ لم يبقَ مع الشّيخ ما يبرِّئ به ذمّته، فإنّه فكّر قليلاً، وحك جبينه، ثمّ أخذ شعرة من لحيته، وقال لصاحب الخان: “هذه شعرة من لحيتي، أجعلها رَهْناً عندك، حتى أرسل إليك كِراء الخان”.
ورجعَ الشّيخ إلى قريته،، وبعد يومين حَظِي برجل ذاهب إلى دمشق، فقال له: “يا مْعَوّدْ! خذ هذه البَشالِك الثّلاثة (جمع بشلك وهو عملة عثمانيّة كانت مُتداولة في ذلك الوقت) واذهب إلى الخان الفلاني، وحاسب صاحبه، واطلب منه أنْ يبرِّئَ ذمّتي، وأن يسلّمَك شعرة من لحيتي، تركتُها رَهناً عنده.”
ومضى الرّجل إلى الخان، وقال لصاحبه: هذا كِراء الخان من الشّيخ فلان، أَبْرِئ ذِمّته مَعك، واعطني شعرتَه المرهونة عندك.”
فَضَحك صاحب الخان، وقال: “ما أقلّ من عقلك إلّا عقل الشّيخ الذي أرسلك، سلّم على صاحبك الشّيخ، وقلْ له أن يأتي ويفتّش عن شعرة لحيته في أزقة المدينة. لقد زاد صاحب الخان إلى فعلته في اغتصاب مال الشّيخ قلة الأدب مع شيخ جليل.
وعاد الرجل إلى القرية، وروى ما حدث له مع صاحب الخان. وتسبب ذلك بألم للشيخ الذي انتفض وبات مثل أسد هصور وأقسم بلحيته على الثأر لكرامته ولكرامة الصالحين جميعا.
انتشر خبر الحادثة ونِيّة الشّيخ الثأر للإهانة التي وجهها صاحب الخان، فجاء عقلاء القرية يطيّبون خاطره، لأنّه لم يَرُقْ لهم أن يعود هذا الشيخ المحترم ويوقع نفسه في أمر لا تُحمد عُقباه في بلد بعيد. وبعد الكثير من التّشاور وتبادل الرّأي في التّدبير المناسب لحفظ كرامة الشّيخ قالوا: “نتقدّم بشكوى إلى أحد قضاة الشّام: وقال بعضهم لا بل نرفع عريضة إلى الوالي. ونادى البعض بأنّه “لا بدّ لنا من أن نُطلع زعماءنا على ما حصل” .
ودامت اجتماعات ومشاورات العقلاء عدّة أيام. بدون جدوى.
أخيراً وبعد منتصف إحدى الليالي، قُرِع باب الشّيخ، فنهض وفَتح، بصعوبة شاهد في العتمة ثلاثة شبّان مُلثّمين، ناولوه جِراباً، وتواروا بِسرعة… لا سلام، ولا كلام…
أضاء الشّيخ السّراج، وفتح الجراب، وإذ برأس غريمه صاحب الخان داخل الجراب…
واتّضحَ فيما بعد أنّ بعضَ شبّان القرية عندما شعروا بعجز عقلائهم عن ردّ اعتبارهم تسلّلوا سِرّاً إلى دمشق، وفَتكوا بصاحب الخان، وجاؤوا برأسه .
وقبل هذه الحادثة كان العامّة يردّدون القول المأثور: “ قومٌ بلا عُقّال راحوا قطايع” (قطايع: بمعنى قطعان متفرّقة) لأنّ العُقّال يعملون دائماً على جمع كَلِمة قومهم، فلا يتفرّق رأيهم. وبعد الحادثة صار القول المأثور:
قومٌ بِلا عُقّال راحوا قَطايع قومٌ بِلا جُهّال ضاعت حقوقها1.

شهوة وقضيناها
شهوة وقضيناها

شور سويلم على العَرَب، بَيعوا الخيل واشتروا حمير

يُضرَب المَثل في الرّأي الأخرق الذي يعود بالنّكد على من يعمل به. والمثل معروف في أنحاء الجبل.
وسويلم هذا بدويّ أشار على قومه أن يبيعوا خيلهم، ويشتروا بثمنها حميراً فبثمن فرس واحدة يشترون عدداً كبيراً من الحمير، وبذلك يتوفّر لَديهم عددٌ وافر من الحمير لنقل الماء وحمل الأمتعة، مُتناسياً حاجة البدويّ الملحّة للخيل خصوصاً في الشدائد والبدو أقوام وقبائل قد تقع بينهم غزوات وحروب وهذه النّوائب لا يمكن صدّها إلّا بالفرسان وخيلهم الأصيلة.
وقد أورد الأستاذ سلامة عبيد هذا المثل بصيغة أخرى؛ إذ جاء عنده: “شور حصيرم عَ العرب: بيعوا الحمير واشتروا قِرَب2، وكان يقصد بذلك أن يبيعوا حميرهم وهي وسيلة ّ الأساسيّة لديهم وأن يشتروا بها الكثير من القِرب التي يمكن ملؤها بالماء وتحقيق الاكتفاء منه. وأضاف الأستاذ عبيد في شرح استخدام المثل: “بمعنى بئسَ الرّأي، لأنّهم إذا باعوا حميرَهم فسوف يُضطرّون إلى حمل قِرَبهم الكثيرة على ظهورِهم “

صِهري يا قدّوسَ الله

وهو مثل يُضرب في المَرأة التي تفضّل صِهرَها على ولدها. وحكاية المثل تتداولها النّسوة أحياناً في مجالِسهنّ يتندّرن بمن تتعلّق كثيراً بصِهرها وتفضّله حتى على ابنها. والمثل متداول أيضاً في محافظة درعا.
أصلُ حكاية المثل أنّه كان لامرأة ولد اسمه عازَر، وصِهر اسمه عازَر أيضاً . وكانت المرأة تحبّ صِهرها أكثرَ من ولدها، وكان الابن يشعر بذلك من خلال تعاملها مع الاثنين. لكنّه كان يسمعها في الليل وهي تنهض من عزّ نومها، فترفع يديها إلى ربّها، وتناجيه: “ يارب! تخلّي لي عازَر، واولاد عازَر، ومَرْتْ عازَر … يارب ترزق عازَر، وما تبخل على عازَر”.
كان عازر الابن يحتار عندما يسمع هذا الدّعاء لكنّه لم يكن على ثقة إذا كان المقصود بالدّعاء الحارّ هو أم الصّهر وسند الظّهر. وكاد أن يلوم نفسه كيف أنّه يشكّ في حبّ أمّه له. لكنّ تعاملَها في النّهار كان يختلف عن دعائها في اللّيل، ولذلك قرّر أن يقطعَ الشّكّ باليقين، ويعرف هُوّيّة عازر هذا الذي تدعو له كلّ ليلة ؟ .
صعدَ ليلاً إلى الطّاقة التي فوق الباب. وجلس ينتظر، وعلى الموعد نهضت العجوز وأخذت تدعو كعادتها:
“ يا رب تخلِّي لي عازر، وولاد عازَر ومَرْتْ عازَر … يارب ترزق عازر وما تبخل عليه”.
فتكلّم الولد من الطّاقة مُخَشِّناً صوتَه كي يبدو وكأنّه يأتي من السّماء:
ـ أنو عازَر فيهم ؟!.
ارتعدت العجوز وظنّت أنّ أحد القدّيسين قد سمعها وهو بصدد أن يلبّي دعاءها بعد أن يعرف مقصدها، وأيّ العازَرين تقصد بدعائها، فصاحت هذه ملهوفة:
ـ صهري يا قدوس الله … صهري .
فنزل الولد عندها من فوق الطّاقة وقال لها:
كل هذا الدّعاء لعازر صِهرك ؟!. يالله روحي على بيت صِهرك عازر3.

على عينك يا تاجر

تُطْلَق هذه العبارة للتّعبير عن عدم إخلاص النّيَّة، وذلك حين يفعل أحدهم فعلاً ما لغاية في نفسه، أو يظهر بغير مما هو فيه، فيقولون: يفعل هكذا “على عينك يا تاجر”.
والحكاية أوردها أحمد أبو سعد وقال إنّها من قول أحد شعراء المماليك شعراً .
فقد مرّ أحدهم بدكّان، فَلَفت انتباهه ازدحام النّاس في هذا الدكّان، فظنّ أنّ في الدّكّان بضاعة نادرة. لكنّه حين اقترب لم يجد ما هو غير عادي، بَيْدَ أنّ البائع كان فتاة فاتنة اجتمع الزّبائن لرؤيتها لا للشّراء. فأنشد:
ازدحمَ النّاس على تاجــــــــــــــــــرٍ من غَمزِ لَحْظ طَرْفِه فاتـــــــــــــرُ
قالوا عَلامَ ازدحموا هَكذا قلتُ على عينك يا تاجـرُ4
والواضح هنا أنّ المعنى المقصود بالمثال هنا تمّ تحويره مع الوقت فأصبح المقصود به أن يفعلّ المرءُ أمراً شائناً أو غير محمود دون استحياء من النّاس فهو يقوم به غير مهتمّ بما يمكن أن يناله من نقد أو ملامة. أمّا معنى المثل هنا فهو القيام بأمر ما لغير الغاية الظّاهرة بل لغرض آخر يتّضح عند التّدقيق في واقع الأمر.

عَمِلَ من الحبّة قُبّة

مع أنّ هذا المثل يُساق في معرض التّهكم ممّن لا يرى الأمور على حقيقتها، ويتزيّد في نقل الأخبار ووصف الحوادث، إلا أنّ قِصّته الأصليّة تحمل معاني إيجابيّة كثيرة عن البَرَكة التي تحلّ في الصّدَقَة والبَذل وتعاون أفراد الجماعة. حكاية هذا المثل أوردها سلام الرّاسي على النّحو التالي:
يُحكى أنّ أحدَ رجال الدّين الأفاضل، أراد أن يبني معبداً لله في قريته. فراح يستنهض همم أبناء القرية ليجودوا على الله ببعض ما جاد عليهم من حبوب أرضهم، فقال أحد المشكّكين:
وهل تصير الحَبّة قُبّة ؟.
ولكنّ ذلك لم يَفتَّ في عَضُد رجل الله، وثابر على جمع الحبوب، وبيعها وإنفاق ثمنها حتى أتمّ المعبد فقيل عندها: عمل من الحبّة قبّة والمقصود بالقبّة هنا المعبد الذي يُزوَّد في أحيان كثيرة بقُــبّة.

فقيه الخُنْفُشار

يُخاطَب بهذه العبارة من بان كَذِبُه وادّعاؤه، فيقولون له “فَشَرْت” . وحكاية هذه العبارة أوردها أحمد أبو سعد فقال: و “فَشَرَ” المرء أصلها من “فَشار”، وهي مختصرة من “خنفشار. وعلى ما يروون أنّ “فقيهاً” كان يدّعي المعرفة بكلّ علم، فلا يُسأل عن أمر إلّا أجاب مُستشهداً بكتب العلماء، فذاع صيتُه، وأُعْجِب بعلمه الناس، ودَأبوا يتردّدون عليه، حتى ارتابوا في صحّة ما يدّعيه، وشَكّوا في أمره، واتّفقوا على أن يكتب كلّ واحد حرفاً في قِرطاس، ثم جمعوا هذه الحروف فكانت “ خنفشار”. وهي كلمة لا معنى لها ولا وجود في اللّغة أو الاصطلاح. ذهبوا بها إلى الفقيه يسألونه عن معناها فإن أنكرها، وصرّح بجهله بها كان علمُه صحيحاً، ووثقوا به، وإن تصدّى لها بجواب كان كاذباً. فجاؤوه وسألوه عنها، فقال: من فوره:
“هو نبات ينبت في مشارق اليَمن، وهو سَبِط السّاق، دقيق الأوراق، مستدير الزّهر، يضرِب بياضُه إلى حُمرة. قال ابن البيطار إنّه حارّ في الدّرجة الثّانية، رطب في الأولى. وقال داود البصير إنّه يذهب بالخَفقان، ويجلو آلام النّفس، وقد جرّبته العرب في إدرار اللّبن فقال شاعرهم :
لقد جذبتْ محبّتكم فؤادي كما جذبَ الحليبُ الخنفشارَ
ثم قال : وقد ورد في الحديث الشريف … وكاد يذكره، فقاطعوه وقالوا:
ـ كفى! فقد كذبت على الأطبّاء، والعرب، والشّعراء، فلا تكذب على الرّسول أيضاً . وأخبروه بما فعلوا، فخجِل وانقطعوا عنه5.
وفي كتب الأدب حكاية مشابهة تتحدّث عن رجل يدّعي المعرفة في غرائب اللّغة، فما يُسأل عن كلمة إلّا وياتي بشاهد شعريٍّ أو حديث، أو قول مأثور يدعم فيه ما يذهب إليه.
وحدث أنّ جماعة كانوا يشتغلون بتقطيع بيت من الشّعر عَروضياً، فوقعوا على تفعيلة تتكوّن من أخر حرف من كلمة آخرها قاف، وكلمة “بعض”، فكانت التفعيلة “قبعضُ، فعولُ”. فذهبوا بالكلمة إلى الرّجل، وهم يعلمون أنّها لا معنى لها، فما كان منه إلّا أنْ قال:
القُبعضُ: القطنُ، قال الشّاعر واصفاً ناقته:
كأنّ سنامَها حشو القُبَعضا
فقالوا له:
ـ إنّها مجرّد تفعيلة عروضيّة يا شيخَنا.
فخجل، ولم ينطِق بكلمة .

فول يا نَوَرْ

يروي المثل حكاية من يفتح عيون الآخرين على أمر لم يكن بحسبانهم لولا أن ذكره لهم. والحكاية مُفادُها أنّ رجلاً لديه حقل فول بعيد عن القرية، وحين نزل الغجر (النّوَر) في القرية ذهب ليحذّرهم من الاقتراب من حقل الفول الذي يملكه، فسألوه أين الحقل؟ فدلّهم عليه مشيراً “أنّه في المكان الفُلاني”. فذهبوا إلى الحقل وسَطَوْا عليه، ولم يكونوا قبل ذلك ليعلموا بوجود الحقل!.

قتيلُ العار لا دِية له ولا ثار

قتيل العار هو السّارق، وثالم العِرض، وخائن الوطن، فإذا قُتِل الرّجل بإحدى هذه الأسباب فلا يحقّ لأهلِه المطالبة بديتِه، كما لا يحقّ لهم إدارك ثأره .
وحكاية المثل أنّ أحد اللّصوص حاول السّطو على حَظيرة ماعز، فنبحه الكلب، واستيقظ صاحب الحظيرة، فقفز ليراه وجهاً لوجه. وحاول اللّص أن يدفع صاحب الحظيرة عنه، كي لا يمسك به، فيفتَضَح أمرُه، غير أن الرّجل بادَرَه بضربةٍ من عصا غليظة، كان قد امتشقها، فكانت الضّربه قاضية. وإذْ السارق واحدٌ من أبناء القرية.
وحينما شاع خبرُ قتل السّارق، تداعى أهله للأخذ بثأر ابنهم. وبعد أخذ وردٍّ اتّفق الطّرفان على المثول أمام القاضي العرفي.
وحين استمع القاضي إلى رواية الفريقين قال: “هذا قتيل عار. وقتيل العار لا ديةَ له ولا ثار” فذهب قولُ القاضي مثلاً .

إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب

حبيب أبو شهلا يروي قصة طريفة
عن معَّاز كفرتبنيت وموكب الرئيس

“إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب
وإذا قلّت المراعي بيخف الحليب”
هذا ما قاله راعي بلدة كفر تبنيت للوزير حبيب أبو شهلا في لقاء عابر على قارعة الطريق أصبح موضوع تداول وتندُّر في مجلس رئيس الجمهورية والوزراء.
سبب هذا القول أن قطيعاً من الماعز اعترض موكب رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ بشارة الخوري وصحبه دولة رئيس الوزراء رياض الصلح والأمير مجيد أرسلان وهم في طريقهم لزيارة الزعيم أحمد الأسعد في دارته بالطيبة أواخر الأربعينات. نزل الأستاذ أبو شهلا من السيارة وصاح بالراعي كي يُسرع بسوق قطيعه من أمام الموكب.
استهجن الرّاعي هذا التصرّف وصاح بوجهه قائلاً: مهلك يا أخي فهذه أرواح ويجب الرفق بها.
أجابه أبو شهلا هذا موكب فخامة الرئيس ولا يليق أن يتوقف. أسرع، أسرع بإبعاد هذه الماعز والأغنام عن الطريق..
ضحك الرّاعي وقال : من هو هذا الرئيس وعلى من؟؟
نرفز أبو شهلا وقال: هو رئيس الجمهورية ورئيسنا ورئيسك ورئيس كل الناس وما عليك سوى فتح الطريق وإفساح المجال!
هزّ الراعي برأسه وأجاب: عليه أن يتوقف قبل غيره لأنه رئيس الكل، وقُل له عن لساني أن مثله معنا ومع شعبه كمثلي مع قطيعي ..
اندهش أبو شهلا لفلسفة الرّاعي هذه وصراحة إجابته بعدما وجد فيها شيئاً من الحكمة، قال للراعي : ماذا تقصد بكلامك هذا؟
قال الراعي: كنت أسمع من جدي وأنا صغير كلاماً يعظني به قبل أن أسرح مع قطيعي فيقول : “إذا نام الراعي بيرعاها الذيب، وإذا قلّت المراعي بيشحّ الحليب.”
كذلك على رئيس البلاد أن يرعى جميع الناس سواسية، وإذا لم يكن ذلك فستفشل الرئاسة، ثم أدار بظهره بعدما نهر قطيعه.
هذا ما رواه الأستاذ أبو شهلا في ما بعد عن بلاغة راعي كفر تبنيت.
وبعد أن عاد الموكب الرئاسي إلى بيروت واجتمع مجلس الوزراء للتداول بشؤون المنطقة التي زارها والمشاريع التي وعدوا بها، توجه أبو شهلا إلى رئيس الجمهورية وسأله: “فخامة الرئيس ما الذي أثار إعجابكم من الخطب والأحاديث التي سمعتها سواء كان في زيارتكم لدار الطيبة أم لسرايا مرجعيون أم لسرايا حاصبيا أم سواها من الأماكن التي توقفتم عندها؟” أجاب الرئيس بصراحة: “إن مَثَل معاز كفر تبنيت الذي قاله لكم، هو الأبلغ والأشمل من جميع الخطب والأقوال، وسيبقى دائماً في البال.”
وتابع أبو شهلا بسؤال آخر: أيضاً ما الذي أعجبكم في طبيعة تلك البلاد؟
أجابه الرئيس، وكان بحقٍ أديب الرؤساء وأقواهم منطقاً وفصاحة، فقال: “في لبنان واديان مقدّسان وادي التيم ووادي قنوبين، وكلاهما متعة للعين ومسكن للنساك الصالحين. ولن أنسى مطلقاً وقفتنا قبالة مجرى نهر الحاصباني في ذلك الوادي الأشيب الأبر، يحرسه من الشرق جبل شاهق يعانق السماء كأنه أسد هصور أمام أكمة خضراء وارفة الظلال أغر”.
الوزير أبو شهلا بعدما أثار إعجابه هذا القول وهذا التشبيه، قال: “أرجو يا فخامة الرئيس أيضاً أن لا يغرُب عن بالكم أنها عرين الأهل والآباء والأجداد وأنه لم يمض على قدومنا إلى بيروت سوى ثمانين عاماً لا غير، ولتاريخه لم يزل العديد من الأعمام والأخوال والأقارب في تلك الديار، إذ أن معظم مسيحيي المصيطبة والمزرعة ومار الياس وبعض سكان الأشرفية هم من بلدات حاصبيا والكفير وميمس وما يجاورها”.
وأضاف أبو شهلا القول: “رجاءنا الوحيد هو مدّ يد العون إليهم وخصوصاً بلدتي ميمس عبر إيصال المياه الجارية إليها لأنها ورغم قربها من نبع الحاصباني يصح فيها قول الشاعر البدوي:
كالعيس في البيــداء يقتلها الظمــا
والمـــاء فــوق ظهورهـــا محمــــــول
وكان للوزير أبو شهلا فيما بعد أن جرت المياه إلى بلدته ولكن من نبع عين جفور وليس من نبع الحاصباني وهو الأقرب والأغزر.
المشهور عن المحامي أبو شهلا أنه سيد من أسياد المنابر وظريف من ظرفائها كونه مستحضراً لجميع القوانين ومصادرها وكذلك للطرائف النادرة وقد كان صاحب بداهة في استحضارها حسب كل موقف.
تسلم رئاسة مجلس النواب وكذلك عمل رئيساً لحكومة الإستقلال في بلدة بشامون لفترة وجيزة مع الرئيس صبري حمادة والأمير مجيد أرسلان، وكان لخطابه المثير الذي ألقاه من شرفة أحد بيوت بشامون، المركز المؤقت لحكومة الاستقلال، الأثر الكبير في اشتعال الثورة الوطنية ضد الإنتداب، والتصدّي للفرقة التي أتت لمحاصرتهم واستشهد آنذاك سعيد بو فخر الدين عند مدخل البلدة المذكورة قبل أن يتم الإفراج عن الحكومة الأصليّة من معتقلها في قلعة راشيا، وكانت تضم الرئيس الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح وكميل شمعون وعبد الحميد كرامي وعادل عسيران وسليم تقلا.
وفي يوم، وبصفته نائباً لرئيس مجلس النوّاب، طلب من أحد زملائه الجنوبيين أن يتكلم فإذا هو يغطّ في نوم عميق، فاستدار نحو الحاضرين وقال: زميلي يعبّر عن واقع حالنا والبلاغة في نومه ..
فضحك الجميع وعلا التصفيق مما جعل النائب الغافل يفيق من نومه مصفقاً مع الجميع دون أن يعلم ما سبب ذلك.
كان أبو شهلا يُصنّف رجال السياسة في لبنان إلى ثلاثة، فسألوه كيف ذلك؟!
قال: كان لأحدهم ثلاثة أبناء.
الأول يصدق دائماً في كل أقواله.
والثاني كاذبٌ دائماً في كل أقواله.
أما الثالث فمتقلبٌ حسب مزاجه ومصالحه.
الأول والثاني كان يعرف كيف يتعامل معهما.
أما الثالث، فكان يحار في كيفية التعامل معه. وكان يقصد أن السياسيين هم من الصنف الثالث الذي يحار المرء كيف يتعامل معهم.
عمل حبيب أبي شهلا محاميا لشركة التابلاين، وقد وصفه الأديب يوسف غانم في كتابه “مشاهير الرجال” بالقول: “الأستاذ أبو شهلا في وجهه معانٍ كثيرة كلها مدعاة للإفتتان والإعجاب، فمن إشراقٍ واستدارة وسعة جبين إلى نظرات حادّة، شوارد يتشطّى منها شرر الذكاء إلى إبتسامات كثيراً ما تتحول إلى الضحك والتطرب، فتُصوِّر لك ما في صاحبها من عذوبة ومرح واغتباط”.
مَثلٌ للثقافة العالية بين السياسيين الأوائل، فقد كان يحمل دكتوراة دولة في الحقوق من باريس، ومحامٍ بارع وخطيب مفوّه، وكاتب وأديب ومُحدّث طريف، وكان إلى أدبه المورق الزّاهر حسنُ التصرف بضروب الكلام، له في المجالس نواصي الحديث بطبعه المنصف فتحلو عنده النكتة، وينقاد إليه البيان فتسمعه وأنت معجب فيه مرتاح إلى نبراته، متعلق بعباراته وربما ازددت غبطة إذا جمعك وإياهُ مجلس للغبوق والإنس حين يصير الحديث لهواً وعبثاً.
وحقيقة الناظر إلى تمثاله أمام باحة الأونسكو، في بيروت، يقر ويلمس الكثير من هذا الوصف الجميل البديع الطروب.

حبيب أبي شهلا
حبيب أبي شهلا

الأمير توفيق أرسلان والشيخ سليم خير الدين
في زيارة موفقة للرئيس شارل دبّاس

“يا ليتكم طالبتم بالجمل كلِّه وليس بأُذُنِه”

ثورة 1925 ضدّ الفرنسيين التي اشتعلت في جبل العرب ما لبثت أن امتدت نيرانُها إلى لبنان مع قدوم مجموعة من قادة الثوّار من جبل العرب إلى جنوب لبنان. كان في طليعة هؤلاء زيد الأطرش شقيق قائد الثّورة سلطان باشا الأطرش وحمزة الدرويش وفؤاد سليم وشكيب وهّاب وسواهم. وقد وصل هؤلاء حاصبيّا بتاريخ السابع من تشرين الثاني سنة 1925، وحال وصولهم عقدوا الاجتماعات مع وجهاء حاصبيّا وخلَصوا إلى توزيع منشور سعى لطمأنة سكان المنطقة ولاسيّما المسيحيّين منهم إذ جاء فيه “إن قدوم الثّوار إلى هذه الدّيار ما هو سوى لإنقاذها من السّيطرة الأجنبية وأنهم قاموا بعملهم هذا باسم الوطن لا باسم طائفة دون أخرى، وأنهم يعتبرون أبناء الوطن جميعهم أخوة في النفس والمال والحرّيّة الشخصيّة، وعلى مبدأ رئيسي واحد: الدّين لله والوطن للجميع”.
لإتمام تلك الأهداف تألّفت لجنة كان الناطق باسمها المحامي نسيب أفندي غبريل المسيحي الأرثوذكسي، وهي بشكل حكومة مُصَغّرة، ثم كان بدء مهامها طرد الحامية الفرنسيّة المتواجدة في محلّة زغلة (محل دار الخليل حالياً) سلميّاً والبالغ عددهم نحو خمسين جنديّاً، وقد أوصلوهم إلى منطقة مناجم الحُمّر قرب الحاصباني بعد أن زوّدوهم بالمأكل والمشرب، ومن هنالك انتقل الجُند إلى مرجعيون بأمان.
بعد ذلك كان الثوار يُوَدّون تعزيز الأمن والأمان في منطقة حاصبيّا وراشَيّا. لكنّ عملاء القوّات المحتلة لجأوا إلى الدّسائس، وبذلك قرّروا طرد الحامية الفرنسيّة من راشيّا ومرجعيون وإبقاء وادي التّيْم بأكمله تحت سيطرتهم، غير أنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فبعد محاولتهم طرد الحامية الفرنسيّة من ثُكْنَة مَرجعيون دون التعرّض لأيِّ فريق من اللبنانيين، دخلت المخابرات الفرنسية على الخطّ، وعملت على افتعال حادثة طائفية كان الهدف منها تخويف المسيحيين من الدّروز بحيث يتعزّز شعورهم بأنّ فرنسا هي الحامية الوحيدة لهم. وبالفعل أرسلت القوات الفرنسيّة ثلاثة من عملائها وهم غطّاس كرم ونايف الحصان وخليل الجِزّيني، وقد أشار إلى تلك الحادثة الأديب سلام الرّاسي في أحد كتبه، وهو الخبير المعاصرُ لتلك الأحداث، إذْ ذَكَر بأنّ الثلاثة كَمَنوا للثوّار الذاهبين إلى مرجعيون في منطقة زيتون المغاريق قرب بلدة كوكبا. يومها كان كاهن البلدة قد دعا المجاهد حمزة الدرويش ورفاقه لاحتساء القهوة في منزله، وكان هدفه إظهار أنّ كوكبا وسكّانها بلدة مسالمة، وكانت أملاك القرية يومها بمجملها ملكاً لآل شمس في حاصبيّا. لكنّ أول عمل قام به عملاء القوّات الفرنسيّة هو إطلاقهم النار على الكاهن فأردَوْه قتيلاً.، ثم وَجّهوا رصاص بنادقهم نحو الثوّار السائرين على الطريق العام نحو مرجعيون فقتلوا ثلاثة منهم، اثنين من آل أبو دهن وآخرَ من آل شرف، وكان ما كان.. اعتقد الثوّار أنّ الرصاص أُطلق من داخل كوكبا، لذا هاجموها وأحرقوا عدداً من بيوتها وقتلوا 31 من شبانها.
بعد ذلك، ووفقا لما خطّطَته المخابرات الفرنسيّة، اعتُبِرَت تلك الحادثةُ مُبرِّراً لتدخُّل الجيش الفرنسي للقضاء على الثّورة بذريعة الدّفاع عن المسيحيين المُهَدّدين. وأرسلت القيادة الفرنسيّة بقوّاتها المتمثلة بجيش الشّرق (إحدى الفرق في الجيش الفرنسي) ومساندة الطّيران الحربيّ المرابط في مطار ريّاق العسكري. وبدأ القصف والهجوم، واستغرقت معارك حاصبيّا عدّة أيام، وبفعل القوّة الحاسمة للقوات الفرنسية وتسليحها الحديث اضطُرّ الثوّار إلى مغادرة بلداتهم، ثم كان دخول الجيش الفرنسيّ وأتباعه، فنُهِبت حاصبيّا وأحرقت، وهكذا كان حال شتّى قرى وادي التّيْم، وتشرّد الأهالي إلى الجليل والجولان وبلاد حوران لأكثر من عشرة أشهر. غير أنّه عند عودتهم إلى ديارهم لم تعمل السّلطات الرّسمية اللّبنانية على مساعدة العائدين لترميم منازلهم وممتلكاتهم، بل عَمَدَت فقط إلى دعم فئة مُعَيّنة بنت القصور والبيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر، وهي لم تزل ظاهرة للعيان إلى يومنا هذا في راشيا وحاصبيا ومرجعيون، بالإضافة إلى بناء الكنائس وسواها من دور العبادة، بينما لم يَنَل المواطنون الدّروز الّذين أُصيبوا أكثرَ من غيرهم تعويضات تُذكَر لتساعدَهم على إعادة بناء بيوتهم ودورهم التي احترق الكثير منها على يد الفرنسيين، كانت تلك السّلطات تعمل في حينها بإمرة القوّات الفرنسية.

الرئيس شارل دباس
الرئيس شارل دباس

مع تمادي الدّولة في سياسات التّمييز بين المواطنين طَفح الكيل وقرّر عدد من المُتنوّرين الدروز ووجهائهم التحرّك للطّلب من الدّولة إنصاف الجميع، والكفّ عن التّمييز بين مواطنيها. في تلك الأثناء كانت خلوات البيّاضة قد تعرّضت لعمليات حرق، وهبّ المشايخ وأعلام الطائفة يطالبون بأن تساهم الحكومة في إعادة بنائها وصرف الأموال لهذا الغرض، لأنّ عمليّة التّرميم كانت تتطلّب أموالاً تفوق طاقة النّاس على احتمالها.
الشيخ سليم قاسم خير الدين، الذي كان تاجراً يجلب بضاعته من بيروت كلّ ثلاثة أشهر، قرّر في إحدى رحلاته التجاريّة تلك إلى العاصمة أنْ يزور الأمير توفيق أرسلان، ويعرض عليه وضع المنطقة وخصوصاً خلوات البيّاضة وما آل آليه الأمر، ثم سأله أنْ يسمح له بأن يرافقه لمقابلة الرّئيس اللبناني آنذاك الرّئيس شارل دبّاس قائلاً:” عطوفة الأمير قد دبّت الغَيْرَة والاستغراب في نفوس الجميع، وهالنا أن نرى أنّ الكنائس والجوامع مُدّت يدُ العون إليها من قِبَل الدولة من حيث إعادة بنائها أو ترميمها، وأعتَقِدُ أنّ خزينة الدّولة للجميع!، ولهذا أليس من واجبنا أنْ نطالبها بالمساعدة على ترميم خلوات البيّاضة وسقف بنائها من جديد، إذ إن إمكانياتنا لا تسمح بذلك؟”
أجابه الأمير: “كيف يا شيخ أبو اسماعيل ستطلب من الدّولة ذلك وأنت تعلم أنّ المستشار الفرنسي هو الحاكم الفعلي، وطبعاً ستكون الإجابة سلبية وغير إيجابية، لأنّ المستشار سيرفض متذرِّعا بأنّكم حاربتم الدّولة الفرنسية وألحقتم الأذى بجنودها”
تبسّم الشيخ أبو اسماعيل وأجاب:” عطوفة الأمير، لكلِّ سؤال جواب، وكلّ ما أرجوه منكم أن تقبل عطوفتكم بمرافقتي لكم في زيارة رئيس البلاد، وعلى الله الاتكال”.
قال الأمير: “ ماذا في اعتقادكم أنّكم ستحصلون عليه من أموال؟”
أجاب الشّيخ: “إذا أعطَوْنا من الجمل أُذْنَه فهذا جزء يساعدنا يا عطوفة الأمير”.
وفي الوقت المحدّد من جانب رئاسة الجمهورية لاستقبال الأمير وصحبه، وعند مدخل القاعة في القصر الجمهوري لم يكُنْ من الأمير إلا أن طلب من الشيخ أبو اسماعيل أن يدخل أمامه فرفض الشيخ كُليّاً وأجاب:”عطوفة الأمير هذا لا يجوز والعين لا تعلو فوق الحاجب”.
تبسّم الأمير توفيق وقال:” لاعليك، أنتَ اْدخل كما طلبت منك وسترى القصد من ذلك”، وأخيراً أذعن الشيخ لرغبته ثم دخلا، وحيث أنّ البروتوكول الرّسمي يقضي بأن الداخل أولاً يجلس إلى جانب الرئيس، وبما أنه لا يوجد سوى كرسي واحد فقد أُجلس الشيخ إلى يمين الرئيس وجلس الأمير إلى جانبه.
ابتدأ الأمير بالحديث قائلاً: “ يا فخامة الرّئيس، الشيخ أبو اسماعيل قادم من حاصبيّا وباسمه وباسم مشايخ البيّاضة يطلبون من جانبكم المساعدة على إعادة بنائها لأن ذلك يفوق إمكاناتهم وخصوصاً أنّهم منهكون بتكاليف ترميم منازلهم”.
أجاب الرئيس:” هذا صعب، وربّما مستحيل يا عطوفة الأمير، فكيف ستساعد الدولة من حاربها وقتل جنودها وبعض المواطنين الأبرياء، وفوق هذا تعلمون لمن القرار اليوم، إذ ما من أمر يتمّ إلا بإذن من المستشار الفرنسي، وأعتقد أنّ الموافقة التي ترجونها من المستحيلات”.
آنذاك تَرَحْرَحَ الشيخ أبو اسماعيل في مقعده، ثم استأذن الأمير بالكلام وتوجّه إلى الرئيس شارل دبّاس بالقول:”فخامة الرّئيس، نعترف ونُقِرّ بأنّنا قد حاربنا الدولة المُنتدَبة -وليس دولتنا- وأنتم تعلمون أننا قوم نعشق الحريّة والكرامة، وأنّه لم يمضِ على تحرّرنا من الاستعمار التّركي أكثر من بضع سنوات، أمَا يكفي ذلك لكي نُستعمر من جديد؟ أمّا ما حدث في منطقتنا وخصوصاً حريق بلدة كوكبا وقتل كاهنها فهذا ولا شك من قبل عملاء، وليس للدّروز أيّة علاقة بذلك، كون البلدة المذكورة بحدّ ذاتها هي ملك لآل شمس زعماء المنطقة، والحكومة المنتدبة تعرف من المسبب وكيف تمّ ذلك، وفي النّهاية كنّا نحن الضّحيّة إذ أحرقت جميع بيوتنا وممتلكاتنا وأرزاقنا وعشنا مشرّدين نحو سنة كي يسمح لنا بالعودة. ويا فخامة الرئيس إذا أردتم مساعدتنا فليس ذلك بالمستحيل، وأرجو أنْ تنقل هذه العبارة وبالحرف إلى فخامة المستشار الفرنسي فتبلغه عن لساني ولسان بني معروف: “إن الدّولة هي بمثابة الأمّ لشعبها وإذا أخطأ الولد مع أمّه فهل تبقى حاقدة عليه إلى الأبد أم تصفح وتسامح مع مرور الزمن؟؟”.
ضحك الرئيس دبّاس طويلا ثم أجاب:”خيراً إنْ شاء الله”.
وهكذا، وبعد مدّة اتّصَلت دوائر القصر الجمهوري بالشيخ أبو اسماعيل، وطلبت إليه أن يحضر ويستلم مبلغ ثمانماية ليرة ذهبية وليرتين، وعندما أخبر الأمير توفيق بما حدث ضحك الأخير وقال له: “ياليتكم يا شيخ أبو اسماعيل طالبتم بالجمل كلّه وليس بأُذُنِه!”.
على أثر تلك المساعدة الماليّة الحكوميّة اشترت اللجنة المشرفة على أعمال خلوات البيّاضة بتلك الأموال أرضاً من السّهل، وقرب الطريق العام لصالح الخلوات، ولم تزل تلك الأرض المشتراة حينها تُعرف إلى اليوم بـ “أرض الحرام” لكونها اشتريت بمال الدولة الذي يعتبره المشايخ الملتزمون مالا حراما بسبب ظلم الدولة أو الحاكم، أما القيمة الحالية للأرض فأصبحت ربما توازي ملايين الدولارات، ويبقى الأجر عند الله لمن سعى للخير دون غاية أومِنّة.

ملا نصرالدين

حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن

مقالبُ ومواقفُ طريفة وعِبَرٌ منَ الحياة
لأشهرِ الحكماء السّاخرين عبرَ العُصور

الحلقة الثالثة

في هذه الحلقة الثّالثة من حكايات ملّا نصر الدّين تختارُ «الضّحى» باقةً من حكايا وقصص هذه الشّخصيّة الشّهيرة في الإرث الأخلاقي والشّعبيّ الشّرقيّ وتُترجمها للقارئ العربي عن اللّغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصّوفيّ إدريس شاه، نقلاً عن اللّغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التّعليميّة، أدبيّاً وأخلاقيّاً وفلسفيّاً.

مسألة وقت
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يحرثُ قطعةَ أرضٍ له حينما اعترضه صيّادٌ على صَهوة جواده.
قال الصّيّاد: “يا رجل! هل رأيتَ أرنباً يمرّ من هنا؟”
أجابه الخُجا: “نعم”.
فبادره الصيّاد قائلاً: “في أيّ اتّجاه ذهب؟”.
أشار الخُجا إلى الاتّجاه الذي توارى فيه الأرنب.
انطلقَ الرّجلُ بعيداً من دون أنْ ينطقَ بكلمة شكر، لكنّه سُرعان ما قفلَ عائداً بعد دقائق.
وقال: “لا أثرَ له! هل أنتَ متأكّدٌ أنّه ذهبَ في هذا الاتّجاه؟”.
فأجاب الخُجا: “أنا واثقٌ.  لقد ذهبَ في ذلك الاتّجاه منذ عامين”.
حمارُ الخُجا قلَّ نظيره!
أخذَ نَصْرُ الدِّين خُجا حمارَه إلى السّوق وباعه بثلاثين ديناراً.
وسُرعان ما قام الرّجلُ الذي اشتراه بطرحه في مزاد علنيّ.  وصاحَ بالحاضرين: “انظروا إلى هذا الحيوان الرّائع! هل شاهدتم أفضل منه؟ كم هو نظيفٌ، وكم هو قويٌّ!”.
وطفقَ يعُدّ مزايا الحيوان العديدة.  وما أن فرغَ من كلامه، حتى صاح أحدهم ودفع ثمن الحمار 40 ديناراً.  وعرضَ رجلٌ آخر خمسيناً، وثالثٌ خمسة وخمسين ديناراً. أمّا خُجا الذي كان يراقب ما يحدث، فقد ذُهِلَ للاهتمام الذي أبداه الجميع بالحمار.
وفكّر في نفسه:  “كم كنتُ غبياً عندما خِلتُه حيواناً عادياً.  إنّه حمارٌ فريدٌ قلَّ نظيره بين الحمير…”.
وسُرعان ما أدركَ أنّ صاحب الحمار قد تلقَّى عرضاً جيداً وكان على وشك إنهاء المزايدة.
قال ذلك الرّجل: “75 ديناراً “، وكرّرها ثانيةً: “75 ديناراً”.
فقال الخُجا: “80 ديناراً!”.
حتى النّار تخشى زوجة خُجا!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يحاول إشعالَ النّار بنفخِ جَمْرِ فحمٍ كانت على وشك أن تنطفئ في الموقد.
لكنّه لم ينجح سوى في إثارة سحابة كثيفة من الدخان أدمعت عينيه.
فاستعانَ بغطاءِ رأسٍ لزوجته، ووضعه لمنع الدّخان من استثارة عينيه، وأخذَ ينفخُ مجدَّداً.
فتصاعدَ اللهبُ من الفحم هذه المرّة.
فقال خُجا: “آه! إذاً، أنتِ أيضاً تخشين زوجتي”.
حين لا ينفع لا نحوٌ ولا صرفُ!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا ينقل عالِمَ نَحْوٍ من ضفةِ نهرٍ إلى أُخرى، فَنَطقَ أمامه بما بدا له يُسيء للصّرف والنحو.
فسأله العالِم:  “ألم تدرس قواعد اللّغة قَطُّ؟”
أجابه خُجا: “لا”.
فقال العالِم وهو يرمقه بشفقة: “إذاً، لقد ضيَّعتَ نِصْفَ عمرك”.
وبعد هُنَيْهة، التفتَ خُجا إلى عالِم النّحو. وسأله: هل تعلّمتَ السّباحة يوماً؟”.
فأجابه العالِم: “لا”.
فقال خُجا: “إذاً، لقد ضيّعت عُمْرَكَ كلّه، إنّنا نَغْرق”.
خُجا .. بين القرنين!
كان لدى نَصْرُ الدِّين خُجا ثورٌ ذو قرنَيْن كبيرَين متباعدَين.
وغالباً ما كانت تتملّكه رغبةٌ مُلِحّة للجلوس على رأس الثّور بين قرنَيه، لكنّه لم يجرؤ على ذلك.
وذات يوم حدَثَ أنّ الثّور جثَمَ بالقرب منه.  وهنا اغتنمَ خُجا الفرصة وتمسَّكَ بقرنَي الثور جالساً بينهما.
وقال متباهياً أمام زوجته: “الآن أشعرُ كأنّي ملكٌ على عرشه!”.
أمّا الثور، الذي استفزّه الاختراق المفاجئ لخصوصيّته فقد استوى على قدمَيه بغضبٍ ونطحَ برأسه إلى الأمام عنيفاً.
فقُذِفَ الخُجا عالياً في الهواء، وسقطَ في حفرة.
وقال لزوجته التي هُرِعَت لنجدته: “لا عليكِ يا امرأة! إنّها ليست المرّة الأولى التي يفقد فيها ملكٌ عرشَه”.
خُجا .. بين القرنين
خُجا .. بين القرنين

القميصُ الورديّ أنقذ الخُجا
ذات يوم، هُرِعَ رجلان إلى منزل المُلّا نَصْرِ الدِّين خُجا.
فسألهما الخُجا: “ما خطبكما؟”.
فأجابا: “لقد دَهست عربةٌ يجرّها حصانٌ رجلاً يُشبهك في السوق. فظنّنا أنّه أنتَ، وجئنا لنُبلغ زوجتك”.
فسألهما خُجا: “هل كان بطولي؟”.
فقال الرّجلان: “نعم”.
ومن ثمّ سأل مجدداً: “هل كان ذا لحيةٍ مثلي؟”.
فأجابا: “نعم!”.
وسألهما أيضاً: “ما كان لونُ قميصهِ؟”.
فأجابا: “وردياً”.
فتنفّس الخُجا الصعداء مُبدِياً ارتياحه، وقال: “ورديّاً! إذاً، إنّه ليس أنا” فأنا لا أملكُ قميصاً وردياً!”.

خطُّ الخُجا
ذات يوم، جاءَ نَصْرَ الدِّين خُجا جارُه طالباً منه أن يكتب له رسالة.
فسأله الخُجا: “لمَنْ تريد أن تُرسِلها؟”.
ردّ الرجل: “إلى صديقي في بغداد”.
فقال الخُجا: “أنا آسف، لا وقتَ لديّ للذهاب إلى بغداد”.
فسأله جارُه مُتعجِّباً: “مَنْ يطلب منك الذّهاب إلى بغداد! كلّ ما أُريده منك هو أن تكتب لي رسالة!”.
فقال الخُجا: “أعلمُ ذلك. لكنّ خطَّ يدي سيِّئٌ جداً، لدرجة أنّ أحداً هناك لن يكون قادراً على قراءة خطي، وفي نهاية المطاف سيُرسِلون في طلبي لكي أقرأ الرّسالة بنفسي. وكما أخبرتك، ليس لديّ وقتٌ للذهاب إلى بغداد”.

ملّا نصر الدين يحلم بالثروة
ذات مساءٍ راودَ نَصْرَ الدِّين خُجا حُلُمٌ… أنّ رجلاً قرعَ بابَه وسأله إذا كان بإمكانه أن يمضي اللّيلَ في منزله. وقال له إنّه سيدفع لقاء ذلك 10 دنانير ذهباً.
وافقَ الخُجا على هذا العرض، واصطحبه إلى غرفته.
وفي الصّباح الباكر، شكرَ الرّجلُ الخُجا وأخذ يَعُدّ له النّقود الذّهبيّة.
فوصلَ إلى تسعة وتوقّف.
فصاح الخُجا: “لقد وعدتني بعشرة”، واستفاق.
فالتفتَ من حوله بحثاً عن الرجل فلم يجده.
فأغمض عينيه سريعاً، وقال: “حسناً، حسناً، أعطني التّسعة!”.

خُجا ومَشْوَرَةُ زوجته
ذات مساء، استيقظت زوجةُ نَصْر الدِّين خُجا فوجدته قلِقاً، يروح جيئةً وذهاباً على الشُّرفة وهو في حالةِ اضطرابٍ شديد.
فسألته: “ما خَطبُكَ؟”.
فأوضح لها الخُجا: “اقترضتُ مئةَ دينارٍ من جاري الشّهر الماضي، ووعدتُه أن أُعيد له المالَ في آخر يوم من هذا الشهر”.
“غداً هو آخر يوم من الشّهر، ولستُ أملك تلك النّقود. ولا أدري ماذا أفعل”.

الحل عند الخجا
الحل عند الخجا

قالت له زوجته: “وما عساكَ تفعل! اِذْهَب واخْبِر الرّجلَ أنّك غير قادرٍ على الدّفع!”.
أخذ خُجا بنصيحة زوجته.
وعندما عادَ من منزلِ جاره، بدا مرتاحاً وسعيداً. فسألته زوجتُه: كيف تقبّل الأمر؟”.
فقال الخُجا: “آه، حسناً، الآن هو الذي يروح جيئةً وذهاباً على شُرفته”.

الحلُّ عند الخُجا
في أحد الأيام التقى ملّا َنصْر الدِّين أحد الأصدقاء في الشّارع.
بدا الرجل قلِقاً، فسأله الخُجا: “ما الذي يُضايقك؟”.
فأجاب الرجل: “ينتابني حُلُمٌ سيّئٌ، فأنا كلّ مساءٍ أحلمُ بوحشٍ يختبئ تحت سريري. وعندما أستيقظ وأنظرُ هناك، لا أجدُ شيئاً. وبعد ذلك يجفوني النّوم. إنّني في طريقي الآن إلى منزل الطبيب. فهو يقول إنّه قادرٌ على شفائي، وذلك لقاء مئة دينار”.
فقال الخُجا متعجِّباً: “مئة دينار! بوسعي أنْ أُخلِّصَكَ من مشكلتك لقاء خمسة دنانير!”.
فالتقط الرّجل على الفور خمسة دنانير ونقَدَها إلى الخُجا.
وقال بلهفة: “الآن أخبرني ما الحلّ”.
قال الخُجا، وهو يضع النقودَ في محفظته: “العلاجُ بسيط، اِنْزع أرْجُلَ سريرك” وتأكّد عندها أنه لن يمكن لأي وحش أن يختبئ تحته.

خُجا الملك!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا غارقاً في تفكيره وهو يجتاز طريقاً بالقرب من قصر الملك، حينما اصطدمَ برَجُلٍ.
فاستشاط الرّجلُ غضباً، وبدأ يلعن الخُجا ويصيح بوجهه.
وقال بصوتٍ عالٍ: “هل تعلم مَنْ أنا؟ أنا مستشارُ الملك!”.
فقال الخُجا: “حسناً. أمّا أنا فالملكُ بعينه”.
فسأله الرجل: “ملكٌ؟ وأيُّ بلدٍ تحكُم؟”.
قال الخُجا: “إنّني أحكمُ نفسَي. فأنا أملكُ انفعالاتي. ولن تجدني أفقدُ أعصابي كما فعلتَ أنتَ للتوّ أبداً”.
فاعتذرَ الرّجلُ منه، وذهبَ في طريقه وهو يشعرُ بالخجل لما بدر منه.

جوابٌ كاوٍ كالخَلّ
ذات يوم، قال رجلٌ لنَصْرِ الدِّين خُجا: “سمعتُ أنّ لديكَ خَلّاً عمره أكثر من أربعين عاماً”.
قال الخُجا: “هذا صحيح”.
فسأله الرّجل: “هلَّا أعطيتني شيئاً منه؟”.
قال الخُجا: “لو اَنّني أعطيتُ خلّاً لكلِّ منْ يسألني، لَمَا تجاوزَ عمرُ ها الخَلّ أربعين يوماً”.

شِجارٌ وحَلوى!
تشاجرَ المُلّا نَصْرُ الدِّين ذات يوم مع زوجته. وصاحَ بوجهها حتى لم تعُد تتحمّل، فهربت إلى منزل جارهما.
تبعها المُلّا إلى بيت جاره، لكنّ الجيران تمكّنوا من تهدئة الزّوج الغاضب، وقدّموا له ولزوجته الشّاي وقطع الحلوى، للاحتفاء بالصّلح.
لكن ما أن عاد الخُجا إلى منزله مصطحباً زوجته حتى بادرها إلى الشّجار، ثم بدأ يصيح في وجهها.. عندها فتحَت الزّوجة البابَ مجدّداً وخرجت إلى الطّريق وهي غاضبة. في تلك اللّحظة لحق بها المُلّا ناصحاً إيّاها: “هذه المرّة، اذهَبِي إلى منزل الخبّاز، إنّه يصنعُ كعكاتٍ لذيذة”.

المُلّا أمام السّلطان
تسلَّل فيلُ السلطانِ إلى قرية المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وعاثَ فساداً في الحقول.
قرّر سُكّانُ القرية أخيراً تشكيل وفدٍ، والذّهاب إلى السّلطان بغية مطالبته بإبعاد فيله عن القرية.
وحيث إنّ المُلّا نَصْر الدِّين كان معروفاً من السّلطان، فقد سأله وفد الأهالي أن يتقدّمهم ويكون ناطقاً باسمهم.
وعندما وصلوا إلى القصر، أحسَّ القرويّون برهبةٍ من هيبة المكان وخانتهم شجاعتهم. وأخذوا واحداً تلو الآخر بالانسحاب من الوفد والانسلال بعيداً، فوجدَ الخُجا نفسَه في نهاية الأمر وحيداً جَزِعاً في حضرة السلطان.
فسأله السّلطانُ المُتَكدِّر المِزاج وبصوتٍ جَهْوَريّ: “حسناً، ماذا تريد يا نَصْر الدِّين؟”.
فقال المُلّا مُتلَعثِماً: “إنّ فِيلَكَ يسْرَح في قريتنا أيُّها السّلطان”.
فردَّ السلطانُ بصوتٍ هادر: “إذاً؟”.
قال المُلّا وهو يرتجف: “إذاً…، نحن، أقصدُ أنا، جئنا نُخبركَ أنّه يشعر بالوحدة … فرجاءً أرسِل له صاحبة!”.

الفَقرُ يُنقِذ نصرَ الدّين!
استُدعِيَ مُلّا نَصْر الدِّين يوماً أمام القاضي من قِبَل رجلٍ كان قد استدان منه مالاً.
وقال الدّائن للقاضي: “هذا الرّجلُ مَدين لي بـ 500 دينارٍ استحقّ سدادُها منذ فترة طويلة. وأنا أُناشد فَضيلتكم مطالبته بأنْ يدفع لي على الفَوْر، من دون أيّ تأخيرٍ إضافي”.
أقرَّ الخُجا قائلاً: “إنّي بالفعل مَدِينٌ للرّجل بهذا المال، وأعتزم أن أُعيده له. ولهذا فإنّني قرّرت أنْ أبيعَ بقرتي وحصاني إذا اقتضى الأمر، لكنّ ذلك سيستغرق وقتاً”.
قال الرّجلُ: “إنّه يكذب، فهو لا يملك بقرةً أو حصاناً أو أيَّ شيءٍ ذي قيمة. وقد عَلِمتُ أيضاً أنّه لا يملك حتى طعاماً في منزله!”.
فقال مُلّا نصر الدين: “بما أنّه يا فضيلة القاضي يعلم مدى فَقري المُدقِع، فكيف يتوقّع منّي أن أدفع له على الفَور”.
فصرَفَ القاضي النظرَ عن الدعوى.

الفقر ينقذ نصر الدين
الفقر ينقذ نصر الدين

أقاربُ الحمار
كان نَصْرُ الدِّين خُجا في طريقه إلى السّوق مُحمِّلاً حماره سلّة كبيرة ملأى بالخضار.
وفي منتصف الطّريق، توقّف الحمار فجأة. وحاول الخُجا جاهِداً دفْعَهُ قُدُماً لكنّ الحيوانَ لم يتحرّك قَيدَ أنمُلَة.
فأخذَ الخُجا بتأثيرِ الغضبِ واليأسِ يضربُ حمارَه بعصا.
وشرعَ الناسُ يتحلّقون من حوله.
وسأله أحدُهم: “لماذا تضرب هذا المخلوق الضّعيف؟”.
ونَهَرَه ثانٍ: “توقّف عن ضربه حالاً!”.
وقال ثالث: “إنّك رجلٌ غليظ القلب!”.
فرمقَ الخُجا حمارَه بنظرة إعجاب.
وقال: “لو كنتُ أعلمُ أنَّ لديكَ الكثيرَ من الأقارب يُدافِعُون عنك، لمَا كنتُ ضربتك قَطُّ”.
“أرى أنّك متحدِّرٌ من عائلة كبيرة ومتشدِّقة”.
فانسلَّ أولئك الذين وبّخوه بعيداً وهم مُحْبَطُون، فيما انصرفَ الحشدُ تاركاً الخُجا يتعامل مع حماره كما يحلو له.

عَيِّنَةٌ تكفي
سعى نَصْرُ الدِّين خُجا إلى بيع منزله، لكنْ عبثاً.
وفي أحد الأيّام، اقتلعَ حجرَ طُوبٍ من جدارٍ في منزله.
فسألته زوجته مُرتَعِدَة: “لماذا فعلتَ ذلك؟”.
قال نَصْرُ الدِّين: “يا لَحماقتك يا امرأة، وما أدراكِ ماذا أفعل؟ فَكَي يبيع المرءُ شيئاً، لا بُدّ له من أن يعرِض عَيِّنةً منه. وأقترِح أنْ أعرِضَ هذا الحجر كعيِّنة من منزلنا”.

ثورٌ يُسابِق الجياد!
تهيَّأ المُتنَافِسون على صَهواتِ جِيادهم للانطلاق في سباقٍ للخيول.
فجأةً، وصلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين خُجا على ظهرِ ثورٍ وطالبَ بالمشاركة في السباق.
فقال له المُنظِّمون: “هل جُنِنتَ؟ فما عسى لِثَورٍ أن يفعل أمام الجياد؟”.
فقال الخُجا: “تتحدّثون كذلك لأنّكم لا تعلمون شيئاً عن ثوري. فحينما كان عِجْلاً صغيراً، كان بإمكانه أن يعدو سريعاً كمُهر. والآن وقد كَبُر فلا بُدَّ أنّه يُضاهي الجيادَ خفةً وسرعة”.

هاتِ وأعطني الحليب!
ذات مساءٍ، أوقفَ رجلٌ يحمل وعاءً من الحليب المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وسط الشارع، وكشفَ له أنّه يشكو مشكلةً وطلبَ مشورَته.
فسأله الخُجا: “ما هي مشكلتك؟”.
أوضحَ الرجل: “مشكلتي هي أنّني على الرّغم من عدم احتسائي للخمر، أشعرُ بالثّمَل عندما أستيقظ صباحاً”.
سأله الخُجا وهو يرمقُ وعاءَ الحليبِ في يده: “ما الذي احتسيته ليلة أمس؟”.
أجاب: “حليباً”.
قال الخُجا: “تماماً كما ظننت. إنّه سبب المشكلة”.
فأجابه الرّجل مندهِشاً: “هل الحليبُ يُثمِل (أي هل يتسبب بالسُّكْر؟)”.
فأوضحَ له ملّا نصر الدين المشكلةَ على هذا النّحو: “تحتسي الحليبَ وتخلدُ إلى النّوم. وتتقلّب أثناء نومك. فيَمْخَضُ الحليب، ويتحوّل إلى زُبدة. ومن ثمّ تَمْخَضُ الزبدة، فتتحوّلُ إلى جُبْن. والجُبْن بدوره يتحوّل إلى دهون، ومن ثمّ إلى سُكَّر، والسُّكر يتخمّر ويتحوّل إلى ما يُسكِر. فلذلك تستيقظ في الصّباح ثمِلاً”.
فاحتارَ الرّجلُ وسأله: “ماذا عساي أفعل؟”.
قال الخُجا: “ببساطة، إيّاكَ وشربَ الحليب. هاتِ واعطني إيّاه”.
وانتزعَ نصر الدّين وعاءَ الحليبِ من يد الرّجل وسار بعيداً، تاركاً إيّاهُ وهو يُدمدِم ويهذر.

امتيازٌ من السّلطان!
عادَ نَصْرُ الدِّين خُجا إلى قريته من العاصمة، وتحلّق القرويّون من حوله لمعرفة ماذا حدَثَ معه هناك.
قال الخُجا: “هذه المرّة، أوَدُّ أنْ أقولَ فحسب إنّ السلطانَ تحدّث إليَّ”.
وانطلقَ بعض القرويّين ليُذيعوا هذا الخبر الرّائع.
أمّا منْ بقِيَ فقد سأله: “ماذا قال لك السّلطانُ؟ بالله عليك أخبرنا ماذا قال؟”.
فأجابَ الخُجا بهدوء: “ابتعد عن طريقي!”.
عمّت البُسطاءَ والسُّذجَ فرحةٌ غامرة، لقد سمِعَ الخُجا كلماتٍ نطقَ بها السّلطانُ بنفسه، إنّهم يُشاهِدون الآن الرّجلَ الذي حَظِيَ بهذا الشّرف العظيم..

معجزة dna

معجزة الـ DNA

عمليّةُ نسخِ الخصائص الوراثيّة للإنسان تتكرر دون خطأ
مليــارات المرّات في فتــرة عمــر الكائــن الحــيِّ الواحـــد

أنزيمات متخصصة تبحثُ عن الأخطاء في نقل المعلومات
من شريط وراثيّ إلى آخر جديد ومن ثم تقوم بتصحيحها

في شريط الخصائص الوراثيّة ست مليارات معلومة مخزنة
في حيِّز لا يمكن رؤيته بأقوى الميكروسكوبات الضوئية

في العام 1953 تمكّن عالما الأحياء فرانسيس كريك وجيمس واطسون باستخدامهما الأشعّة السّينية من كشف تركيب الحمض النّووي ووجدا أنّ كامل مواصفات أجسام الكائنات الحيّة والتي تزيد على ست مليارات “شيفرة” وراثية مكتوبة بطريقة رقميّة على شريط طويل ودقيق من الحمض النّووي مخزن في نواة الخليّة وهو من الصّغَر بحيث لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئيّة.
وبهذا الاكتشاف التاريخي الذي استحق العالمان عليه جائزة نوبل تمكّن العلم من فكّ أعظم سرّ من أسرار الحياة وهو الكيفيّة التي يتمّ من خلالها توريث مواصفات أجسام الكائنات الحيّة وكذلك فهم الطّريقة التي يتمّ بها تَكوّن كائنات جديدة كاملة ابتداء من خليّة واحدة تنقسم وتتكاثر إلى مليارات الخلايا التي يتحدّد لكلّ منها وظيفة خاصّة وتذهب بالتالي لصنع عضو معيّن أو قطعة معيّنة في هذه الفسيفساء العظيمة للجسد.
وبعد أن بدأ علماء الأحياء بدراسة تركيب شريط الحمض النووي والطريقة التي يستخدمها في تخزين المعلومات الوراثيّة والآليات التي يستخدمها في تنفيذ البرامج المخزّنة عليه وجدوا أنّ فيه من الأسرار بل من المعجزات ما تعجز أكبر العقول البشريّة عن فكّها. ولقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد هذين العالمين وهو فرانسيس كريك الذي نال مع زميله واطسون في عام 1962 جائزة نوبل في الفسيولوجيا تقديرا لاكتشافهما تركيب هذا الشّريط المعجز حيث قال في كتابه طبيعة الحياة “إنّ أيِّ إنسان نزيه ومسلَّح بكلِّ المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أنّ نشأة الحياة تبدو شيئاً أقرب ما يكون إلى المعجزة”.

ما هو الـ DNA؟
يوجد جزيء DNA داخل نواة كل من الـ 100 تريليون خليَّة الموجـودة في جسمنا، وهذا الجزيء الذي لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئية يحتوي على جميع الصّفات الوراثيّة للكائن الحيِّ التي ورثها عن آبائه وأجداده والتي سيورثها لأبنائه وأحفاده، فلو أخذنا نباتاً معيّناً فإنّنا سنجد أنَّ الشّيفرة الجينيّة المختزنة في الـ DNA الموجود في خلاياه قد كُتِب فيها بقدرة الله كيف سيكون حجم البذور وطريقة إنباتها، ومدّة الإنبات، وموسمه، وشكل البادرات، ونوع الأوراق وتركيبها الخارجيّ وتشريحها الداخليّ، وطريقة ترتيبها على الساق، وملايين العمليّات الحيويّة التي تحدث فيها، والتّفاعلات التي تُنتجها، وكمية الماء التي تحتاجها، والبراعم وأعدادها وتركيبها، والأزهار وألوانها ورائحتها وتركيبها، وثمار عقدها ولونها وطعمها وتركيبها الكيماويّ الحيويّ، والبذور وعددها وشكلها وتركيبها، وملايين الصّفات الوراثيّة الأخرى. وكل تفاصيل تلك العمليّات الحيويّة مكتوبة في هذا الجُزَيء الصّغير الذي لا يمكن أن يُرى حتى بأقوى الميكروسكوبات.
إنّ جُزيء الـ DNA الموجود في كروموزوم واحد من أصل الـ 46 كروموزوم الموجودة في كلّ خليّة من مئات مليارات الخلايا في جسم الإنسان يحتوي على معلومات حيوية عن الكائن الحيّ تعادل المعلومات الموجودة في موسوعة ضخمة مكوّنة من مليون صفحة مليئة. والعجيب أنّ هذا الجزيء أُعطِي الصّلاحية لصُنع نَسَخ مشابهة تماماً له من سيتوبلازم الخليّة، وهو أمر حيويّ لاستكمال تكاثر الخلايا مع نفس الخصائص الوراثيّة حتى تكوُّن المخلوق التّام والذي قد يكون بشراً أو حيواناً أونباتاً.
وتوجد معطيـات الحمض النّووي المتعلّقة بعضو أو بروتين معيّن ضمن مركّبات خـاصة تُدعى المورّثات أو الجينات. فمثلاً، المعلومـات المتعلّقة بالعين توجد ضمن متتالية من المورّثـات الخـاصّة، بينمـا توجد المعلومـات المتعلّقة بالقلب ضمن متتالية من المورّثـات مختلفة تماماً عن الأولى وهكذا دواليك.
لكنْ هنـاك تفصيل دقيق ومهمّ هنا وهو أنّ أيّ خطأ في ترتيب النّكليوتيدات المُكَوّنة لمورّثة جينيّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى إعطـابها وتعطيل وظيفتها، وإذا وضعنا في الاعتبار بأنّه يـوجد 200 ألف مورّثة في الجسم البَشريّ، يتّضح جليًاً استحـالـة أن تتموضع صدفة ملايـيــن النّكليوتيدات المكوّنة لهذه المورّثـات حسب التّرتيـب التّسلسليّ الصّحيـح. عالـم الأحيـاء التّطوريّ فرانك ساليسبوري يشير لهذه الاستحالة بأنّ احتمال أن يحصل مثل هذا الترتيب العجيب بالصّدفة وعبر مليارات السّنين هو بكلّ بساطة احتمال واحد من من 1 متبوعاً بستماية صفر وهو رقم يفوق الخَيال ويساوي بعلم اللوغاريتم صفراً مطلقاً. ويضيف سالزبريالقول:”إنّ احتمـال التكوّن العشوائيّ لبروتين واحد أو حمض نووي ضئيل جدًا، أمّا ظهور سلسلة كاملة مترابطة من البروتينات فهو أمر لا يمكن تصوّره حتى بالخيال”.
بالإضافة إلى كلّ هذه الاستحـالات، يصعب أن يدخل الحمض النّووي في تفـاعل معيّن بسبب شكله الهندسيّ الحلزونيّ ذي السلسلة المزدوجة. كما أنّه لايمكن أن يُسْتَنسَخ الحمض النّووي إلا بمسـاعدة إنزيمات يمكن إنتاجها فقط بواسطة المعلومات المُرَمّزة في الحمض النّووي نفسه ولأنّ كلا الجُزيئين يرتبط وجود أحدهما بالآخر، فإنّهما إمّـا أن يكونا قد وُجدا في الوقت ذاته من أجل التولّد، وإمـّا أنْ يكون أحدهما قد”أُوْجِد” قبل الآخر وعندها فإنّ التّفاعل الضّروريّ لا يمكن أن يتمّ بسبب حتميّة الوجود المتزامن للعنصرين. عالم الأحياء الأميركي جاكوبسون يقدّم ملاحظاته حول الموضوع :
”كلّ التّعليمات الخاصّة بإنتاج التّصاميم والطّاقة المحرّكة واستخلاص بعض الأجزاء من البيئة المحيطة وترتيب مراحل النّمو والآلية المنفِّذة التي تحوِّل التّعليمات المشفّرة إلى نموّ، كلّ ذلك يجب أن يتواجد آنيّاً في ذات لحظة (بدء الحياة).وهو ما يعني أنّ اندماج الأحداث صدفةً هو أمر مستحيل الاحتمال، بل يجب أن يُنسَب إلى القدرة الإلهية.”
كتب جاكوبسون ملاحظته هذه بعد سنتين من اكتشاف بُنية الحمض النّووي بواسطة جيمس واطسون وفرانسيس كريك. وبعد أكثر من 63 عاما على ذلك الاكتشاف التّاريخي لا زالت ملاحظة العالم الأميركي سارية المفعول، لأنّه وعلى الرّغم من كلّ التقدم العلميّ الذي تحقّق منذ ذلك الحين لا زالت معجزة الحمض النّووي والشيفرة الجينيّة وطريق عملها في توليد الكائنات والأنواع واستمرارها في الزّمن لُغزا مُحيِّرا ومعضلة كشفت الأرضيّة الهشّة التي تقوم عليها نظريّة “التّطوّر بالصّدفة” التي حاولت إيجاد تفسير ماديّ لنظرية الوجود لا تقوم على الإيمان بمبدأ الخلق والخالق. وحول هذه النّقطة يقول عالمان ألمانيان هما جانكر وشيرر بأنّ تخليق كلّ الجزيئات التي يحتاجها التّفاعل الكيميائي (لتكاثر الخلايا واستنساخ الشيفرة الجينيّة) يتطلّب شروطًا وظروفاً تختلف كثيراً في ما بينها، وأنّ احتمال اجتماع تلك العناصر في بُنية وظائفيّة بمحض الصّدفة هو صفر”

التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي
التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي

صدمة لنظريّة التّطوّر
إنّ أكثر ما أثار دهشة علماء الأحياء في شريط الحمض النّووي هو أنّ الطّريقة التي تمّت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات هي الطريقة ذاتها التي يستخدمها الحاسوب الرّقميّ لتخزين مختلف أنواع المعلومات في ذاكرته وفي تنفيذ برامجه. ولقد ترتّب على هذا الاكتشاف العظيم تحوّل كبير في المفاهيم المتعلّقة بالطّريقة التي تمّت بها عمليّة خلق الكائنات الحيّة وخاصّة تلك المتعلّقة بنظريّة التّطوّر والتي أصيبت بصدمة كبيرة بعد هذا الاكتشاف.
ويعود سبب الصّدمة إلى اكتشاف العلماء أنّه لا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحيّ مهما بلغت بساطة تركيبه إلّا من خلال تعديل مليارات الشّيفرات الوراثيّة المرتّبة بدقّة في جُزيء الـ DNA وهذا الأمر يتناقض تماماً مع النظريّة التطوريّة، أولاً لأنّ الصّدفة التي لا عقل لها لا يمكنها أن تقوم بإجراء التّغييرات المطلوبة في مليارات الشّيفرات الوراثيّة ضمن عمليّة التّطوّر، وثانياً لأنّ كلّ العناصر والمركّبات والأربطة والتّعليمات التي تدخل في صُنع جُزيء الـ DNA لا بدّ أن تكون موجودة معاً في الوقت ذاته لكي تنشأ الحياة ولا يمكن أن تتجمّع بفعل الصّدفة بصورة تراكميّة.
وهذه الكثافة في تخزين المعلومات غاية في الضّخامة إذا ما تمّت مقارنتها بكثافة المعلومات الرقمية المخزَّنة على الأقراص المغناطيسيّة أو الضّوئيّة الحديثة والتي يمكن لأفضل أنواعها أن تخزن نصف مليون حرف ثنائيّ في كل سنتيمتر وهذا مع العلم بأنّ عرض شريط القرص المغناطيسيّ يزيد بعشرين مرة عن عرض الشّريط الوراثيّ. ولكي يدرك القارئ ضخامة هذه الكثافة نذكر له أنّ الشّريط الوراثيّ للإنسان يتكوّن من ستة مليارات حرف وراثي مخزّنة في حيِّز لا يمكن رؤيته بالميكروسكوبات الضّوئيّة بينما لو تمّت كتابته على الورق باستخدام الأحرف الكتابيّة لاحتاج إلى مليون صفحة ورقيّة. وقد أوضح أحد علماء الأحياء هذه الكثافة بقوله إنّ الحيِّز الذي يمكن أن تحتلّه الأشرطة الوراثيّة لجميع أنواع الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض الآن وتلك التي انقرضت يمكن احتواؤه في ملعقة شاي صغيرة.
ولا بد لنا هنا من أن نؤكّد على أنّ استخدام نظام التّشفير لحفظ المعلومات عمليّة واعية بكلّ معنى الكلمة ولا يمكن أن تتم بأي حال من الأحوال من قبيل الصّدفة، فأقصى ما يمكن للصّدفة أن تعمله هو جمع بعض المكوّنات مع بعضها البعض لتنتج مكوّنا أكثر تعقيداً،ﹰ أمّا أن تقوم باختراع مثل هذا التّمثيل الرّياضي فهذا أمر لا يقبله العقل. كذلك فإنّ عمليّة النّسخ التّلقائية للمعلومات الوراثيّة لا يمكن أن تُختَرع إلّا من قبل عاقل يهمه أن يحتفظ بهذه المعلومات لأهداف لاحقة يريد تحقيقها، لأنّ الصّدفة مجرّد “حادث” أو مجموعة حوادث تخضع لقانون الاحتماليّة ولا يوجد للصّدفة “مخطّط” أو “ذاكرة” أو “تصميم” ثمّ إن سرّ الحياة الأعظم يكمن في قدرة الشّريط الوراثيّ على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه وبهذا السرّ تستطيع الخلايا الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها وتستطيع الكائنات الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها.
ولولا هذه الخاصيّة الفريدة لهذا الشّريط لَما أمكن للحياة أنّ تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين من السّنين وإلى أن يشاء الله، فالمعلومات الوراثيّة التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حيّ يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل عن الشّريط في كلّ خليّة قبل انقسامها إلى خليّتين وعندما يعطي الشّريط أوامره إلى الخليّة لكي تنقسم إلى خليّتين عليه أوّلاً أن يُصْدر الأوامر لتصنيع جميع الجُزيئات اللّازمة لبناء شريط جديد يودعه إحدى الخليّتين. فعلى سبيل المثال فإنّ عملية تصنيع شريط جديد في إحدى خلايا جسم الإنسان يتطلّب من الخليّة أن تقوم بتصنيع ستّة مليارات جزيء سكّر وستّة مليارات جُزيء فوسفات وذلك لبناء السّلسلتين الجانبيّتين ومن ثم تصنيع ستّة مليارات حرف وراثيّ بِنِسَبٍ محدّدة من أنواعه الأربعة إلى جانب تصنيع الأسطوانات البروتينيّة التي سيتمّ لفّ الشّريط الجديد عليها. إنّ هذا العدد الضّخم من الجُزيئات يجب أن يتمّ تصنيعه وحفظه في داخل نواة الخليّة التي لا يتجاوز قطرها الميكرومتر أوجزء من ألف من المليميتر..

العالم البريطاني فرانسيس كريك تمكن في العام 1953 ولأول مرة مع زميله جيمس واطسون من تحليل تركيبة الحمض النووي وتصويره
العالم البريطاني فرانسيس كريك تمكن في العام 1953 ولأول مرة مع زميله جيمس واطسون من تحليل تركيبة الحمض النووي وتصويره

كيف يَسْتَنْسِخ شريط الـ DNA نفسه؟
إنّ مجرّد تصنيع الجُزيئات التي يُبنى منها الشّريط الوراثي بالأنواع والأعداد المطلوبة يُعتَبَر معجزة من معجزات الحياة، ولكن هذه المعجزة لا تقاس أبداً بالمُعجزات الموجودة في الطّريقة التي يتمّ بها بناء الشّريط من هذه الجُزيئات. يبدأ الشّريط الوراثيّ عمليّة تصنيع نسخة جديدة عن نفسه وذلك بعد أن يتأكّد من توفّر الأعداد اللّازمة من الجزيئات المكونة للشّريط الجديد حيث يقوم إنزيم خاص بالعمل على فتح الشّريط الوراثيّ من أحد جانبية ليفصل السّلسلتين الجانبيتين بما تحملان من أحرف وراثيّة عن بعضهما البعض. ومن ثم تتولّى إنزيمات أخرى بناء سلسلتين جديدتين وتثبيت الأحرف الوراثيّة عليهما بحيث تكون الأحرف الجديدة على كل سلسلة مكمّلة للأحرف القديمة المرتبطة بإحدى السّلسلتين القديمتين.
ومن ثمّ تتحد كلّ سلسلة من السّلسلتين الجديدتين مع سلسلة أخرى من السّلسلتين القديمتين مكوّنتين شريطين وراثيّين يحتوي كلّ منهما على سلسلة قديمة وأخرى جديدة. إنّ عملية نسخ المعلومات عن الشّريط القديم وتخزينها على شريط جديد تتمّ بسرعة عالية نسبيّاً حيث تتراوح بين ألف حرف في الدّقيقة في الإنسان ومليون حرف في الدّقيقة في البكتيريا. وهذا على عكس المتوقّع فحجم المعلومات المخزّنة على شريط الإنسان يزيد بملايين المرّات عن حجم المعلومات على شريط البكتيريا فكان من المُفتَرض أن تكون سرعة النّسخ في الإنسان أعلى منها في البكتيريا.
ولكنّ تقليل سرعة النّسخ في الإنسان هدفه تقليل نسبة الخطأ في المعلومات المنقولة لأنّ السّرعة العالية للنّسخ في البكتيريا كفيلة بإتمام عمليّة نسخ شريطه في دقائق معدودة ولكنّ نسخ شريط الإنسان بمعدّل ألف حرف في الدّقيقة يحتاج لما يقرب من ستّ سنوات وهذا يعني أنّ تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة يحتاج لما يقرب من ثلاثمائة عام.
ولكن بقدرة الخلّاق العظيم أصبحت المدّة التي يحتاجها الشّريط الوراثيّ لإنتاج نسخة جديدة عنه لا تتجاوز نصف ساعة وقد تم ذلك من خلال إجراء عمليّة النّسخ بشكل متوازٍ لجميع الكروموسومات المكوّنة للشّريط الوراثيّ وكذلك من خلال إجراء عمليّة نسخ الكروموسوم الواحد في عدد كبير من المواضع. وبهذه الطّريقة الذّكيّة تمّ تقليص مدّة تصنيع إنسان جديد ابتداء من خليّة واحدة من ثلاثمائة عام إلى تسعة أشهر!

في جزيء الـ دي. إن. إي الموجود في هذا الكروموزم معلومات تعادل موسوعة ضخمة مكونة من مليون صفحة
في جزيء الـ دي. إن. إي الموجود في هذا الكروموزم معلومات تعادل موسوعة ضخمة مكونة من مليون صفحة

أنزيمات مُتخصّصة بتصحيح الأخطاء
ولقد وجد العلماء أنّ معدّل الخطأ في نقل المعلومات عند نسخ الأشرطة الوراثيّة في خلايا الإنسان قد يصل إلى خطأ واحد في كل ألف حرف وإذا ما تمّ حساب عدد الأخطاء الكلّيّة المحتملة في كامل الشّريط فإنّ الرّقم يبلغ ثلاثة ملايين حرف. ولكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ فعمليّة تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة تتطلّب تكرار عمليّة النّسخ هذه عند كلّ انقسام لكلّ خليّة من خلاياه والتي يصل عددها في الإنسان الكامل إلى ما يقرب من مائة ألف مليار خلية (مائة ترليون)..
وعلى هذا فإنّ مجموع الأخطاء في الأشرطة الموجودة في خلايا جسم الإنسان سيبلغ عند اكتمال تصنيعه مائة وخمسين مليون خطأ أيّ ما نسبته خمسة بالمائة من مجموع عدد أحرف الشّريط الوراثيّ للإنسان وهذه النّسبة العالية من الأخطاء كفيلة بفشل عملية تصنيع جسم الإنسان بالكامل. ولكنْ إحدى معجزات الإتقان التّام في صنع الإنسان والحياة عموماً أنّ نظام تكاثر الجُزيئات مزوّد بنظام يعمل على تصحيح الأخطاء النّاتجة أثناء عمليّة النّسخ فبعد أن يتمّ إنتاج نسخة جديدة من الشّريط الوراثيّ تقوم مجموعة من الأنزيمات بالبحث عن الأخطاء الموجودة على الشّريط الجديد ومن ثمّ تقوم بتصحيحها.
إنّ وجود نظام لتصحيح الأخطاء في عمليّة نسخ الأشرطة الوراثيّة تدحض دحضاً كاملاً أن تكون الصّدفة تقف وراء عمليّة خلق الحياة على الأرض كما يدّعي أنصار نظريّة التّطوّر.
كما أنّ اكتشاف جُزِيء الدّنا DNA وخصائصه أثبت أنّه لا توجد خليّة بدائيّة وخليّة متطوّرة (وهذا الافتراض هو الرّكن الأساسيّ في نظريّة تطوّر الأنواع) وأنّ الفارق الرّئيسيّ بين الخلايا الحيّة هو فارق في عمليّة البَرمجة يتجسّد في جُزَيْئات الأحماض النّووية بالخليّة ومنها الحمض النّووي الدّناDNA.
إنّ الله تعالى هو }فاطر السّماوات والأرض{ الذي }إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كُنْ فيكون{ وهو الّذي }أحسن كلَّ شيء خلقَه{ هل الذي أبدع كلّ تلك الأنظمة التي لا تشوبها شائبة، ووضع كلّ التّفاصيل تماماً في مكانها الصّحيح، وتكفّل بأنْ تعمل كلّها معاً في توافق تامٍّ كما تعمل كافّة أجزاء الكَوْن الأخرى ابتداءً بالمجرّات والأفلاك والعوالم اللامحدودة وانتهاءً بأصغر الكائنات المجهريّة وملايين المخلوقات والأنواع.

الشريط الوراثي تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءته بسهولة من الأنزيمات المكلفة باستنساخ كافة معلوماته
الشريط الوراثي تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءته بسهولة من الأنزيمات المكلفة باستنساخ كافة معلوماته

مصادر أساسية
الشّيفرة الوراثيّة سرّ الحياة الأعظم- الدّكتور منصور أبوشَريعة العبادي جامعة العلوم والتّكنولوجيا الأردنية جامعة الأميرة سُمَيّة للتّكنولوجيا
هارون يحي – الخليّة أرض العجائب
هارون يحي – هذا الجُزيء المعجزة : الحمض النّووي (دي. إن إي)
لغز الحياة في الـ دي إن إي. الدكتور نظمي خليل أبو العطا موس

جزيء الـ DNA
أكبر بنك معلومات في العالم

يُعْتَبَرُ جُزَيء الحمض النّووي أكبر بنك معلومات في العالم، ويحتوي على بيانات ملفوفة حول ما يقارب الـ 25 مليون ربطة.
الآن، لنفكّر في جميع الخُطوات التي علينا اتّخاذها لإيجاد كتاب معيّن عندما ندخل مكتبة ضخمة تحتوي على عشرات الآلاف من المؤلّفات وعلى قاعدة بيانات تحتوي على كافّة المعلومات المتعلّقة بالكتب، ورفوف منظّمة، وملصقات، والأهمّ من ذلك عدد من العاملين الجاهزين لمساعدتك في البحث.
لننتقل الآن لمقارنة ذلك مع ما يجري في كل وقت في أي خليّة من ترليونات الخلايا التي تكوّن جسدنا، وحيث تقوم أنزيمات الخلايا بالعثور على معلومات محدّدة في بنك المعلومات الوراثيّة، وهذه الأنزيمات المسمّاة أنزيمات RNA تقوم بالبحث وتجد ضالّتها في الظُّلمة الشّديدة، وهي تذهب للمكان الصّحيح من بين 25 مليون ربطة تؤلّف بنية نظام المورّثات الجينيّة، وتعثر على المعلومات المطلوبة وتأخذ نسخة منها لنفسها، وتحدث هذه العملية 2000 مرّة في الثانية الواحدة في الـ 100 تريليون خليّة الموجودة في أجسامنا. إنّه لأمر مدهش جدًا كيف أن إنزيمًا غير عاقل يستطيع إيجاد سطور قليلة من المعلومات في جُزيء الحمض النّووي الذي يحتوي على ثلاثة مليارات رسالة، وكأنه وضعها في أماكنها بنفسه؟

عين عطا

  بلدة عيــــن عطا انتقلــت من موقعــها السّابق إلى تلال حصينة بعد صِدام مع الجند العثماني

عَيْن عَطا

البلـــدة التــي غيّــــرت مَكانَهــــا
ولــــم تُغَيِّــــــــر عُنفُوانَــــــــــــــها

ثروةُ ينابيع واقتصاد زراعيّ أضعفه النّزوح
وثروةُ آثار أضاعها الإهمال وجَشَع اللّصوص
حمايةُ الأحراش وحَملات التّشجير زوّدت عيْن عطا
بأكبر غطاء أخضر وصنّفتها بين القُرى الأنقى بيئيّاً

لقرية عين عطا الوادعة في منطقة راشيّا تاريخ حافل بأحداث وتحدّيات وإسهامات في مواقع وأكثر من جهاد في الدّفاع عن الكرامة والأرض والعِرض، وبسبب الكرامة والذّود عن الشّرف اصطدم أهلها بالجند العثمانيّ، حيث قاتلوهم واضطرّوا بعدها لتبديل موقع القرية إلى تلال حصينة في مرتفعاتها هرباً من انتقام الجند ومظالمهم. وأبرز سمات عين عطا، عدا التّعايش المسيحيّ الدّرزيّ الطّويل، هو احتضانها لمقام أحد أبرز أولياء الموحّدين، المرحوم الشّيخ الفاضل والذي يُعْتَبر من أهمّ المزارات الرّوحية للموحّدين الدّروز في لبنان وفي المنطقة. فماذا نعرف عن هذه القرية وعن تاريخها وعن واقعها الرّاهن؟

الموقع
تقع عين عطا عند سفوح جبل الشّيخ وعلى ارتفاع يتراوح ما بين 1350 و 1500 متر عن سطح البحر في الطرف الجنوبي لقضاء راشيا وهي تتبع ادارياً لقضاء راشيّا، محافظة البقاع.
وبسبب موقعها الجغرافيّ الوسيط تشكل عين عطا صلة الوصل الطّبيعية بين البقاع والجنوب وتحيط بها وتجاورها عدّة قرى منها قرى الكفير والخلوات من الجهة الجنوبيّة الغربيّة وبلدة شبعا من الجنوب ومن الغرب قرية مرج الزّهور ومن الجهة الشّماليّة قرية عين حرشا وقرية تنّورة ومن الشّمال الشّرقي بلدة راشيّا ويُعتبر جبل الشّيخ الحاجز الطّبيعي الذي يفصل بلدة عين عطا عن القرى والبلدات السّورية من الجهة الشّرقيّة وعلى وجه التّحديد قرى عرنة والرّيمة السّوريّتين. وتبعد البلدة عن زحلة مركز محافظة البقاع نحو 50 كلم وعن العاصمة بيروت 103 كلم

عين عطا في التّاريخ
يذكر الأستاذ نعمان السّاحلي مدير ثانوية الكفير ومنسّق مادّة التّاريخ فيها أنّ تاريخ عين عطا يعود الى عهد سولوقس أحد خلفاء الإسكندر حيث الآثار والنّقوش الحجريّة والكتابة الرّومانيّة تدلّ على تلك الحِقبة، فالموقع الجغرافيّ لبلدة عين عطا وامتداد جبالها ووديانها يقيمان ارتباطاً عميقاً بين لبنان وسوريا وفلسطين، وكان للبلدة أهمّيّة خاصّة بسبب وقوعها على خطّ القوافل التّجاريّة التي كانت تنتقل في رحلاتها الصّيفيّة من دمشق عبر بلدة دير العشاير وصولاً إلى منطقة جبل الخان أو ما يعرف ببير الخان، الذي كان يعتبر مكاناً لاستراحة القوافل قبل أن تتابع سيرها نحو فلسطين وصولاً إلى عريش مصر. ومن أبرز المعالم في عين عطا نصب إله الشمس “هيليوس” والذي يعود إلى الحقبة الرّومانية إضافة إلى العديد من الآثار المجاورة له .
ويشير الأستاذ السّاحلي إلى أنّ البلدة كانت قديما ً تقع على طريق يعرف بطريق السّلطانة الذي يربط وادي التّيم من طرفيه راشيّا وحاصبيّا وهي النّقطة الوسطيّة في وادي التّيم أو ما كان يُطلق عليه شجرة الغربي التي اجتمع تحتها أعيان ووجهاء الوادي تأييداً ودعماً لدروز سوريا في حربهم ضد إبراهيم باشا، وتم الاتفاق على جمع الذّخيرة والمؤنة وإرسالها إلى أبناء جبل الدروز حيث قام بنقلها الشيخ إسماعيل شقير من بلدة عيحا .
أمّا سبب انتقال البلدة إلى الموقع الحاليّ فيعود إلى واقعة تاريخيّة إبّان العهد العثمانيّ إذ قام بعض الجنود العثمانيّين أكثر من مرة بالتّحرّش ببعض نسوة البلدة، وفي يوم دخل جنديّان إلى أحد المنازل عنوة فما كان من أصحاب المنزل إلّا مبادرة احد الجنود بضربة من سكة الحراثة قضت عليه. على أثر ذلك تعرّضت البلدة إلى المضايقات والتّنكيل وتهديم المنازل، الأمر الذي أجبر أصحابها على تركها والانتقال إلى التلّة المرتفعة والتَّحَصُّن بها حيث كان يصعب الوصول إليها لكثافة الأشجار وصعوبة المسالك الجبليّة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى وقوف أبناء البلدة إلى جانب شبلي آغا العريان الأوّل في حربه ضد إبراهيم باشا في معركة جنعم الواقعة بين عين عطا وشبعا، ومن بعدها أعلن القائد المصري شبعا منطقة مفتوحة وقام أعيان شبعا بالمحافظة على العائلات الدّرزية التي انتقلت فيما بعد إلى قرى حاصبيّا وتعمّقت العلاقات بين البلدتين وأهليهما.

في ظلّ الانتداب الفرنسي
كان لحكمة وجهاء البلدة وأعيانها من دروز ومسيحيّين الدّور الرّياديّ في تجنيب البلدة الحريق والدّمار والتّهجير الذي تعرضت له العديد من قرى وبلدات راشيّا من قبل جيش الانتداب الفرنسيّ، إلّا أنّ اتفاقاً أُبرم بين الكولونيل climent وأعيان البلدة قضى بإخراج الثّوار من البلدة مقابل تجنيبها القصف وهذا ما حصل إلّا أنّ الثوّار إنتقلوا إلى بلدة راشيّا وكان لهم الكلمة الفصل إذ اقتحموا قلعتها الحصينة وسيطروا على مخزن الأسلحة ثمّ قاموا بتوزيعها على الثّوار المهاجمين حيث سقط للثوّار المهاجمين عدد من الشّهداء نقشت أسماؤهم على اللوحة التذكارية داخل قلعة راشيّا .

السكّان والعائلات
يبلغ عدد سكّان البلدة المسجّلين 3225 نسمة لكنّ المقيمين منهم لا يزيد عددهم على 1650 نسمة بسبب انتقال قسم من سكّان البلدة إلى خارجها سواء بفعل العمل في المهاجر أو في العاصمة وغيرها من المدن وهذه في الواقع حال الكثير من القرى الجنوبية ومعظم قرى لبنان.
سكان البلدة المقيمون والمغتربون هم من الدروز والمسيحيين ويتوزّعون على العائلات التّالية:

دروز: القاضي، الحاج، الساحلي، جابر، حمدان، خضر، خير، ريدان، شديد، فرج، ميرهم، عبد الحق، غازي، غزالي، وهبة، يونس.
مسيحيّون: الحدّاد، الزّين، ثابت، خوري، موّال.

وفرة مياه
تتميّز هذه القرية بوفرة مواردها المائيّة العذبة التي تتمثّل بعدد من الينابيع الدّائمة ولعلّ أبرز هذه الينابيع نبع عين اللّوز الذي تُعتبر مياهُه من المياه الأعذب والأنقى في لبنان حيث ينبع من جبل الشّيخ على ارتفاع يزيد عن 2400 متر عن سطح البحر وتمّ جرّ مياهه في منتصف ستينيّات القرن الماضي حيث كان للمعلّم كمال جنبلاط دور أساسيّ في جرّ مياه النّبع إلى البلدة وتوزيعها على منازلها كافّة وهناك ينابيع أخرى منها عين الضّيعة وعين الغرقة وعين جبّ ملكة وعين الكروم وكل هذه الينابيع العذبة تنبع في محيط القرية.

الاغتراب
لعب الاغتراب دوراً مهمّاً في تحريك العجلة الاقتصاديّة في البلدة لاسيّما من خلال الأموال التي يرسلها المغتربون إلى ذويهم أو من خلال بعض الاستثمارات الصّغيرة في بعض المشاريع التي تساهم في تفعيل اقتصاد البلدة أو في خلق بعض فرص العمل وعلينا ألّا ننسى تقديمات المغتربين إلى أبناء البلدة خلال فترة الحرب الأهليّة وإبّان الاحتلال الإسرائيلي وفي طليعتهم محمّد حسن خضر الذي ساهم في تشييد مدرسة لطلّاب البلدة وملعب لكرة القدم وبناء مستوصف إضافة إلى العديد من التّقديمات الاجتماعيّة ودعم الطلّاب المتفوّقين كذلك المغترب سليمان علي ريدان الذي كان له اليد البيضاء في تشييد قاعة عامّة للبلدة ومدّ شبكة الكهرباء وغيرها من المشاريع وهناك أيضاً مساهمة أبناء الخوري حبيب الحداد في إقامة مكتبة عامّة للبلدة .

النّزوح
تُعتبر ظاهرة النّزوح الموسميّ من عين عطا إلى ضواحي العاصمة بيروت وعلى وجه التّحديد منطقة الشّويفات ودير قوبل ملفتة حيث أنّه في تلك المنطقة أصبح ما يزيد على مئة أسرة تمتلك شققاً بالإضافة إلى شقق ومنازل في عاليه وبيروت وضهر الأحمر. والسّبب الأساسيّ للنّزوح هو البحث عن فرص العمل أمّا الثاني والمهمّ فهو موضوع تعليم أبناء الأسر في جامعات لأن اقرب الجامعات الى القرية تقع في زحلة ولا يستطيع الطلّاب الانتقال إليها بشكل يوميّ نظراً لغياب وسائل النّقل وإن وجدت فهي تكبّد الطلّاب مشقّة الطريق وهدر الوقت نظراً لبعد المسافة .

حراك اجتماعي
ينشط في عين عطا عدد من الجمعيّات الشبابيّة والمنظّمات الكشفيّة ونادٍ رياضيّ لعب دوراً مهمّاً خلال العقود الماضية في جمع المجتمع المحلّي تحت راية الرّياضة إضافة إلى عدد من الجمعيّات التي تُعنى بالشّأن المحلّي مثل جمعيّة الرّعاية الصحيّة والاجتماعيّة وتعاونيّة عين اللّوز لتصنيع المنتجات الزراعيّة المحليّة التي تقوم بمساعدة المزارعين على تصنيع منتجاتهم وحمايتها من الكساد والتّلف وهذه المنتجات يتمّ تسويقها في القرى والبلدات المجاورة ومن خلال المشاركة في المعارض على مساحة الوطن وتمتاز عن سواها من التعاونيّات الزّراعية بكون منتجاتها خالية من الموادّ الحافظة والمنتجات بعليّة لا تدخلها الأسمدة كذلك ساهمت في خلق العديد من فرص العمل لفتيات ونساء القرية.

إقتصاد القرية
لازالت عين عطا تعتمد بشكل جزئي على النّشاطات الزراعيّة وفي طليعتها زراعة الزّيتون والكرمة وزراعة الصّنوبر إضافة إلى زراعة القمح وتربية النّحل. وقد ازدهرت مؤخّرا مهنة إعداد الخبز المرقوق (خبز الصّاج) والتي تحقّق دخلاً إضافيّاً للعديد من ربّات المنازل، وهناك الآن سبعة أفران تؤمّن احتياجات أبناء البلدة وما يزيد يتمّ تسويقه في القرى والبلدات المجاورة
ويشكل انتاج الصّنَوبر بصورة خاصّة مردوداً جيّداً ولاسيّما في الآونة الأخيرة بعد ارتفاع اسعاره وأصبحت بلدة عين عطا الآن محاطة بمساحات من الصّنوبر المعمر إضافة إلى قيام ابناء القرية بتشجير مساحات واسعة من السّفوح المحيطة بالبلدة بشجيرات الصّنوبر. واستقدمت التعاونيّة الزراعيّة كسارة خاصة بفصل حب الصنوبر بسبب وفرة الإنتاج.

مقام الشيخ الفاضل
مقام الشيخ الفاضل

التّعليم
تم افتتاح مدرسة في البلدة في مطلع السّتينيّات من القرن الماضي وتمّ تطويرها وتدعيمها لاسيّما خلال الحرب الأهليّة حتى وصل عدد الطلّاب إلى أكثر من ثلاثمائة طالب قبل أن تنهار في العقد الأخير وتقفل أبوابها ليتمّ توزيع الأساتذة على المدارس المجاورة، أمّا السّبب في ذلك فيعود من جهة إلى تأثير النّزوح على انخفاض عدد الطلّاب دون الحدّ الأدنى اللّازم، وكذلك تفضيل عدد متزايد من الأهالي تعليم أولادهم في المدارس الخاصّة، علماً أنّ هناك ما يزيد على عشرين حافلة مدرسيّة تخرج من البلدة في صباح كلّ يوم.
ويتمّ تعليم المرحلة الثّانوية في ثانويّة الكفير الرّسمية وفي ثانويّة راشيّا الرّسمية القريبتين من البلدة. أمّا مرحلة التّعليم الجامعيّ فلا تخلو من الصّعوبة لغياب الاختصاصات عن الجامعة اللّبنانيّة في راشيّا والّتي تنحصر في اختصاص إدارة الأعمال، ممّا يدفع الطلّاب للانتقال إلى مدينة زحلة أو إلى العاصمة بيروت .

مقام الشّيخ الفاضل
يقع في عين عطا المقام المهيب للشّيخ محمّد أبي هلال المعروف بالشّيخ الفاضل وهو أحد أهم الأولياء الدّروز ومن أبرز العلماء الزّاهدين. وحسب بحث للأستاذ منير سعيد مهنّا من راشيا الوادي فإن الشّيخ عاصر الأمير فخر الدين المعني الثّاني في القرن السّابع عشر، ويُعتقد أنّه ولد في سنة 989 للهجرة (1577م).امّا مكان ولادته فإحدى حارات قرية كوكبا في منطقة راشيا الوادي تدعى الشعيري. وقد نشأ يتيم الأب، وارثاً عن أهله بعض الماشية التي كانت مصدر معيشة له ولوالدته.
ويذكر مهنا أنّه “ولمّا لم يكن في قريته أستاذ يعلّمه أصول الكتابة فقد اصطنع لنفسه لوحاً كان يحمله في تجواله مع قطيعه سائلا من يلتقيهم من أهل العلم والمعرفة أن يدوّنوا له الحروف ويعلّموه شيئاً من الكتابة، فأتقن الخط وتعلم القراءة ببداهة لافتة تدلّ إلى فطنة وشغف بالعلم مذ كان طفلاً”.
بعد مدة أمضاها الشّيخ الفاضل في قريته كوكبا، كان قراره الذّهاب إلى دمشق لتحصيل العلوم الدّينية، كما فعل من قبله الأمير السيّد عبدالله التّنوخي، والذي كان يعتبره الشّيخ مرجعاً في شرح أمور عقيدة التّوحيد ومسلكها
تنقّل الشّيخ الفاضل بين قرى عدّة منها شويّا في منطقة حاصبيّا (وما زال فيها كهف معروف باسمه) حتى وافته المنيّة في بلدة شبعا، ونقل جثمانه بعد ذلك إلى عين عطا، حيث دفن في مقام يزوره الموحّدون الدّروز حتى اليوم. ومن وصاياه عندما دنا أجله قوله: “مطلوبي أن لا تدفنوني إلاّ في حقل يُحرث حتى لا يُعرف لي قبر أبداً، ولا تنعوني إلى أحد، وبلّغوا عن لساني ألا يرثيني أحد ببيت شعر”
يُعتبر مقام الشّيخ الفاضل من أبرز المقامات الرّوحية لطائفة الموحّدين الدّروز وهو يزار يوميّاً ويحظى بإجلال خاص لدى المؤمنين.

ثروة آثار
يقول الأستاذ نعمان السّاحلي إنّ الكثير من آثار عين عطا تعود إلى الحقبة الرّومانية وهي موزّعة في أمكنة مختلفة من البلدة، إلّا أنّ إهمال الاهتمام بها من قبل الدولة أدى الى إندثارها، وما بقي منها فلأنه صعب على العابثين سرقته. كما أنّ حصول الكثير من أعمال الحفر والتنقيب في المنطقة غير معالمها فتعرضت للتشويه منطقة جبل الخان حيث إله الشمس “هيليوس” وفي أعلى البلدة “خلة الجرن” شرق البلدة توجد صخرة منقوش عليها صورة لملكة والحراس من حولها وهذا يعود إلى الحضارة الهلنستية ويشكل دليلاً على أهميّة هذه المنطقة خلال تلك الحقبة ، أمّا الآثار الموجودة في مقام الشيخ الفاضل فتضمّ منحوتة لنِسرٍ مجنّح إضافة إلى بعض الآثار المجاورة وبعض المسلّات والأحجار التي يوجد عليها أيضاً بعض الكتابات اليونانيّة .

منظر عام للبلدة
منظر عام للبلدة

مجموعة الشيخ أسعد خير
تاريخ عين عطا العريق، يوجد الآن نماذج كثيرة منه في مجموعة المقتنيات القديمة للشّيخ أسعد خير الرّجل السبعيني الذي سعى لحفظ معطيات الزّمن السّابق (زمن البركة) بمصنوعاته الخشبيّة التي ترجم من خلالها شغفه بفن الحفر على الحجر والخشب على حدّ ٍ سواء. وممّا أنجزه إعادة تصنيع وحفر جميع مقتنيات الأسرة الرّيفية في القرن الماضي مثل:
• المَوْرَج: وهو عبارة قطعتين من خشب الصّنوبر بعرض المتر تقريبا ً تُجمع مع بعضها البعض لتصبح مسطّحاً خشبيّاً تُحْفَر في أسفله ثقوب تُزرع بالحصى الخشن ومعظمها صوّانيّة سوداء اللّون، وهذه الحجارة تمرّ على سنابل القمح المجمّعة في البيدر فتدرسها أي تفصل حبّات القمح التي تحملها عن السّاق الجافّ والذي بدوره يتكسّر تحت المَوْرج ليصبح “تبناً” يتمّ خزنه لاستخدامه كعلف للماشية. وكان المورج يُجَر عادة بثور أو أكثر وفي حالات أخرى استُخدمت البغال لجرّه على البيدر.
• النَّير: عبارة عن قطعة خشبيّة لها فتحتان وتوضع على رقبتي حيوانَيْ جرّ بهدف جمعهما إلى بعضهما بحيث يعملان سويّاً عند حراثة الأرض أو جرّ المَوْرج أو غير ذلك من مهمّات الجَر.
• العُود: يتألّف من عدّة قطع خشبيّة ويثبّت في طَرَفه “سكّة” من الحديد ويتمّ ربط طَرفه الآخر بالنّير أيضاً وهو مزوّد بـ “كابوسة” وهي القبضة التي يمسك بها الفلّاح لتوجيه السكّة أثناء الفلاحة.
• الزّحف (الرّحْت): قطعة خشبيّة تُستخدم لإزالة الثّلوج من أسطح المنازل التّرابيّة ويتمّ التّنظيف بعد الزّحف بواسطة المقحاط .
• الماعوس: وهو عبارة عن قضيب من حديد قطر 14مم على شكل حرف u مفتوح عند رأسيه يدخل في ثقبي المحدلة الجانبيين ليساعد على جرّ ها.
• المحدلة: وهي عبارة عن قطعة أسطوانيّة من الحجر تستخدم بعد المطر أو جرف الثلج عن سطح المنزل لرصّ ترابه بهدف منع المياه من التسرّب إلى سقف المنزل ومنه إلى أرضه.
إضافة إلى الأواني التي كانت تستخدم في المنازل القديمة وهي جرن القهوة والمهباج ويتبع بالمبرّدة الخشبية التي يتمّ وضع القهوة بها بعد تحميصها لتبرد، الجاروشة وهي عبارة عن قطعتين من الحجر يعمد بواسطتها إلى جَرش البُرغل .
ومن مستلزمات المنازل القديمة مجموعة من وسائل الإنارة تُعرف بالقِنديل و الشّمعدان والفَنار والنّواصة والسّراج .
والهدف من إحياء هذه المقتنيات هو تخليدها في ذاكرة الأجيال الصّاعدة التي لا تعرف عنها شيئاً ولحمايتها من الاندثار
ويتابع الشيخ أسعد خير حديثه: “إنّ الزّمن الجميل الماضي كان زمن مباهج حقيقية وليست مزيفة وقد كان النّاس يومها يفرحون أو يحزنون لفرح أو لحزن بعضهم البعض هو زمن كانت الناس تاكل من معاجن بعضها البعض، فالتّعاون كان السّمة الاساسيّة لعين عطا ولأيّ قرية وكان تقليد “العَوْنَة “ يمثّل المساعدة الجماعيّة التي يُسديها الجيران لبعضهم في الأعمال التي تحتاج إلى أيد ٍ كثيرة والفكرة انطلقت من مفهوم حسن الجوار ومن العصبيّة التي جمعت أبناء العائلة أو الحي أو القرية وفرضتها طبيعة المجتمع بحكم عُزلته الجبليّة القاسية. وهذه العَوْنة كانت تتجسّد في مختلف مظاهر الحياة كسَلق البُرغل ونقله إلى السّطح، وهو المكان الذي يتم تنشيفه عليه، أو في قطاف الكروم أو في قطع العجين وترويجه قبل الخَبْز، أو في حدل الأسطح الترابيّة أو في سقف المنازل المبنيّة حديثاً.. أمّا اليوم قد ذوّبت التّقنيات الحديثة والقيم الفرديّة الدّخيلة التي غزت مجتمعاتنا هذه الألفة، وجعلتها من الذّاكرة حتى أفراد الأسرة الواحدة هم بعيدون عن بعضهم وإن وجدوا في غرفة واحدة!

الأستــاذ نعمــان الساحلي
الأستــاذ نعمــان الساحلي

العمل البلدي
لبلدية عين عطا تجربة نوعيّة في الخروج عن التّقليد في العمل البلدي والاهتمام بالجانب العمراني إلى جانب آخر يعني الإنسان بشكل مباشر حيث اعتبر رئيس البلدية طليع خضر في حديث إلى “الضّحى”إنّ واجب المجلس البلدي متابعة هموم المواطن وحماية البيئة إضافة إلى تأمين الخدمات الأساسية للمواطن.
وأضاف السيّد خضر: إنّ البلدية قامت بدورها على صعيد حماية الثّروة الحرجية الموجودة في محيط البلدة وزيادة المساحات الخضراء حتى باتت عين عطا من البلدات القليلة في راشيّا التي تتمتّع بغطاء أخضر متنوّع النّباتات، وهو ما ساهم في تصنيفها بين البلدات الأنقى بيئيّاً على مستوى الشّرق الأوسط من قبل إحدى البعثات الأجنبيّة التي زارت البلدة.
وشرح رئيس البلديّة أبرز إنجازات وخطط البلديّة على النّحو التّالي:
• أحيت البلديّة العمل بمستوصف البلدة بما في ذلك عيادة طب الأسنان التي تساهم في معالجة أبناء القرية بأسعار مدروسة. وهناك عمل على تجهيز سيارة إسعاف.
• أطلقت البلدية تجربة رائدة هي مدرسة محو الأمية التي تهدف الى مساعدة من يرغب من كبار السن في تحصيل القراءة والكتابة وهذه التجربة الناجحة أدخلت المجتمع داخل البلدة في شباب متجدد .
• تمت الاستفادة من وسائل التّواصل الاجتماعي لإقامة مجموعة لأبناء البلدة في المغترب أو داخل لبنان حيث أصبح بإمكانهم التّواصل الدّائم ومعرفة كل ما يجري داخل البلدة من أتراح وأفراح أو أي حدث في وقت حصوله.
• تسعى البلدية إلى إقامة قاعة عامة للمناسبات في البلدة وضعت الخرائط لها على أن يجري العمل بها في وقت قريب لتكون قاعة مميزة تليق بالبلدة وبضيوفها .
• كما يتمّ التّحضير لإقامة حديقة عامّة في وسط البلدة تكون متنفّساً ومَعْلماً بيئيّاً. وكذلك توسيع مدخل البلدة الجنوبي الشّرقي.
• قامت البلدية بمتابعة وضع اللّاجئين السّوريين داخل البلدة من خلال عمليّة الإحصاء والمتابعة المستمرّة لضبط وجودهم داخل البلدة .
• ومن مشاريع البلديّة توسيع طرقات البلدة الدّاخليّة وتعبيدها لتصل إلى كافة المنازل والعمل على تطوير شبكة الكهرباء وشبكة مياه الشّفة وإنشاء برك لتجميع مياه الأمطار في

منزل قديم 1 (1)
منزل قديم 1

أعلى البلدة يستفيد منها المزارعون وأصحاب المواشي .

حكاية نخوة غير معهودة

من العادات والتّقاليد التي مازالت تتوارثها الأجيال حتى يومنا هذا النّخوة التي تتمثل في مؤازرة الناس بعضهم لبعض في الأفراح والأحزان وتقاليد الكرم وتكريم الضيف.
ويروي أبناء البلدة كمثال على ذلك قصّة الشّيخ أبو توفيق حسين القاضي الذي كان يعتني بكرمه الواقع على طرف القرية، عندما صادف مرور مجموعة من مشايخ الجليل بقربه فبادر إلى التّرحيب بهم ودعاهم إلى تناول العنب من كرمه وسارع إلى قطف مجموعة من عناقيد العنب وناداهم أن “تفضلوا جابرونا”.
إلا أنّ المشايخ بادروه برمي الحرام عليه ألّا يقطف أيّاً من العناقيد ظنّاً منهم أنّه ناطور وأنّه يقدم الضيافة من كروم الآخرين وتابع المشايخ سيرهم. لكنّ الشّيخ القاضي انزعج ممّا حصل وأراد أن يثبت للمشايخ حسن النّيَّة وأن الرّزق حلال فلم يجد طريقة أفضل من اقتلاع الدّالية من أرضه واللّحاق بالمشايخ على الدّرب الذي سلكوه وفور وصوله إليهم طلب منهم أن يقطفوا بيدهم من الدّالية لإبعاد الحرام الذي رموه عليه، وكان لهذا التّصرّف وقعه على المشايخ الذين بادروا إلى المشاركة وقطف العنب من الدّالية وهم مندهشون من نخوته وحرصه على توضيح موقفه حتى لا يبقى هناك التباس في ذهن أحد عن استقامته.

علّم بالقلم

علّم بالقلم

مركز الدّراسات في مشيخة العقل

تطوَّرت معاني المفاهيم التّوحيديَّة في معراجها الأخير عبر مرحلةٍ زمنيَّةٍ ممتدَّةٍ من صدر الإسلام إلى بدايات القرن الخامس للهجرة. كلمةُ الوحي الأولى كانت: اِقرأ. والإشارةُ الأولى كانت إلى العِلمِ والتعلُّم: ﴿إقرأ وربُّكَ الأكرم* الّذي علَّمَ بالقلم* علَّم الإنسانَ ما لم يعلَم﴾. فالقلمُ سببُ عِلمِ الإنسانِ بما لم يعلم. الإرادةُ تسطُرُ بالقلَم المعاني التي يُدركُها الذِّهنُ الَّذي هوَ الفَهمُ والعقلُ. فإذا شاهدنا الشجرةَ وعَلِمنا بوجودِها فنحنُ بحاجةٍ إلى سلامة البصر لتصحّ لنا رؤيتها، لكنَّنا إذا ما أردنا إدراكَ الفضيلةَ في الفاضل فنحنُ بحاجةٍ إلى سلامةِ البصيرة. فمن حيث كانتِ الفضيلةُ معنًى في الذِّهن والقلب، احتاج المرءُ في ذاته لإدراكها إلى ما يُشبهُها. إنَّ ما يُساعدُهُ في تحقيق ذلك هو المعاني المسطورة وأجلّها ما احتواه الكتابُ المسطور، كما سمّاهُ تعالى وأقسمَ به ﴿والطور* وكتابٍ مسطور﴾ الّذي كان بمثابةِ الرسالة التي سُمِّيت أيضًا فُرقانًا ﴿تباركَ الَّذي نزَّلَ الفُرقانَ علَى عبدِه ليكونَ للعالمينَ نذيرا﴾، والفُرقان هو البُرهانُ والحُجَّة، وهو كلُّ ما فُرِقَ به بين الحقّ والباطل. بمعنى آخر، فإنّ استبصار دلالة الحجّة يثمر التمييز بين ما هو حق وما هو ضياع، ولا حاجة إلى مزيد من الشّرح للقول بأنَّ ما هو أولى للإنسان، ولمعنى وجوده وغايته، ومن ثمَّ لخِياره في مسالك الحياة، هو الحقّ. ولا يرضى بمتاهة الضّياع إلا الحائر، والحيرةُ عينُ الظّلام.
لقد كان من أثر تبليغ الرِّسالة الإلهيَّة أن ارتقت البيئةُ العربيَّة آنذاك من محنة الجاهليَّة وعصبيّاتها الغرائزيَّة، إلى طريق الهدى والفلاح، بحيث حلَّ مفهومُ “الأمَّة المؤمنة” محلّ واقع تشتّت القبائل ونزاعاتها وحروبها. ثمَّ كان من شأن استبصار النصّ هذا “ولَّد الحياةَ الإسلاميَّة كلَّها” كما قال أحدُ العلماء شارحًا: “فمن النظر في قوانين القرآن العمليَّة نشأ الفقه. ومن النظر فيه ككتاب يضعُ الميتافيزيقا نشأ الكلام. ومن النظر فيه ككتابٍ أخرويّ نشأ الزّهدُ والتصوّف والأخلاق. ومن النظر فيه ككتابٍ للحُكم نشأ علمُ السياسة. ومن النظر فيه كلغةٍ إلهيَّة نشأت علومُ اللغة… وتطوّرُ العلومِ الإسلاميّةِ جميعها إنّما ينبغي أن يُبحثَ في هذا النطاق: في النطاق القرآنيّ نشأت، وفيه نضجت وترعرعت، وفيه تطوّرت، وواجهت علومَ الأمم تؤيِّدُها أو تنكرُها في ضوئه” (النشّار، ج1، ص 227). ما يهمّ هنا تحديدًا، هو محاولة تلمُّس بواكير المنحى الزّهديّ من حيث هو البدايات المسلكيَّة التي توخَّت النفاذ إلى قلب المعنى في النَّصّ، وامتثاله، واتِّحاد النَّفس بآثاره العقليَّة وصولا إلى الغاية من التَّوحيد.

النَّظـــرة إلى التصـوُّف
تضاربت آراءُ علماءِ المُسلمين قديمًا وحديثًا في النّظرة إلى التصوُّف. منهُم من لم يستسغ عندهُم ما رأوه غلوًّا وشطحًا ونزوعًا وجدانيًّا جارفًا نحو تجاوز الأداء الشكلي لفروض العبادات. ومنهُم من اعتبرهُ السبيلَ الأرقى والأصدق لتحقيق الغاية منَ العبادةِ، ومعرفةِ الله على الحقيقةِ، والاتّحاد بإرادته سبحانه وتعالى. ولكن، لا يمكنُ في هذا السِّياق الاستهانة بشهادةِ أبي حامد الغزالي الملقَّب بحُجَّة الإسلام، والتي صاغها إثر اختبارٍ معرفيٍّ و رُوحيّ ٍمُزلزِل روى تفاصيله في كتابه “المنقذ من الضلال”. قال:”كان التعطّشُ إلى دركِ حقائق الأمور دأبي وديدني من أوّل أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله وُضعتا في جِبِلّتي… حتى انحلَّت عني رابطةُ التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصّبا” يتابعُ الغزالي سردَ رحلته المعرفيَّة في البحث لفهم عقائد الفِرَق، واستكشاف أسرار المذاهب، وسبر أغوار الفلسفة إلى أن أقبلَ بهمَّته على طريق الصوفية، وعلم “أن طريقتهم إنما تتم بعلمٍ وعمل؛ وكان حاصلُ علومهم قطعَ عقبات النفس، والتنـزُّه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بـها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله.” تيقَّن الغزاليُّ أن العُبَّادَ المتصوِّفة هُم أربابُ أحوال، لا أصحاب أقوال، فتخلَّى عن رعاية الوزير الشهير نظام المُلك، واعتزل التدريس بعد أن ذاع صيته إمامًا، وانصرفَ إلى الشام متزهِّدًا مُتَّبعًا ما ذاقهُ القلبُ بالعِلم وصولاً إلى تذوّقه بالحال. استغرقهُ الأمرُ سنواتٍ ليتحقّق يقينًا كما شهد من “أنَّ الصوفية هم السالكون لطريقِ الله تعالى خاصة، وأن سيرتَهم أحْسن السير، وطريقَهم أصْوب الطرق، وأخلاقَهُم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقلُ العُقلاء، وحكمةُ الحُكماء، وعِلمُ الواقفين على أسرارِ الشَّرع من العُلماء، ليغيِّروا شيئاً من سِيَرهِم وأخلاقهم، وَيبدِّلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميعَ حركاتـِهم وسكَناتِـهم، في ظاهرِهِم وباطنِهم، مُقتبَسَةٌ من نور مِشكاة النبوَّة؛ وليس وراء نور النبوَّة على وجه الأرض نور يستضاء به”.

بواكير المنحَى الرُّوحي
“أهْلُ الصُّفَّـة”
والباحثُ في التاريخ الإسلاميِّ عن تباشير هذا المنحى النُّسكيّ لفَهم الدَّعوة لا بُدَّ من وقوفه مليًّا عند الصَّحابيّ الجليل سلمان الفارسيّ (رَ) الّذي قيل فيه ما يكفي للدلالة على فرادةِ شخصيَّته بين الصّحابةِ الأوائل. فالرّسول (ص) قال فيه كما هو ذائع: سلمان منّا أهلَ البيت. والإمامُ عليّ (ع) قال عنه كما روى ابنُ عساكر: “أدركَ علمَ الأوّلينَ والآخِرين”. وقال أحدُ الَّذين كانوا معه من أهلِ الصُّفَّةِ وهو أبو هُريرة: “كانَ صاحبَ الكتابين” بمعنى التبحُّر في دراستهما. ورأتِ الإماميَّةُ فيه أنَّهُ إحدى وسائل روح الأمر المذكورة في القرآن بأنَّها هي نوع من الفيضِ الإلهيّ يحقِّقُ تدريجيًّا مقاصدَ الله الخفيَّة. (النشار، ج2، ص238) واعتبرهُ ماسينيون، أحدُ كبار المستشرقين المتعمّقين في دراسةِ التّصوّف الإسلاميّ وأكثرهم شغفًا، “أوَّل مُبشِّر بالنَّزعةِ الرّوحيَّةِ في الإسلام، كأنَّهُ الباب”.
من مدينة “جَيّ”ناحية أصبهان، كما يروي ابنُ هشام في “السِّيرة النبويَّة”، انطلق سلمانُ قَصَصًا في إثر الحقّ كأنّه في تلكَ الرِّحلةِ عاينَ الأبدال. وفي السّنةِ الأولى للهِجرة كان في رِقِّ قُرَيظِيّ في المدينة، فعرِفَ الرَّسولَ (ص) الّذي قال له: “كاتِب يا سلمان”، فَافْتَكَّ نفسَهُ وشهِدَ الخندقَ حُرًّا.
إنَّ من شأنِ الوقوف على أحوال سلمان في المدينةِ قبل فتح مكَّة أن يوفِّرَ الدلائل الأولى على ما سوف يتمّ اعتبارُه لاحقًا المنحى العِرفانيّ في “سلوك القرآن”. يعودُ بنا ذلك إلى يوم أمرَ النبيُّ فيه أن يُبنى مسجدٌ في المكان الَّذي َبرَكَت فيه ناقتُه، فعملَ فيه المهاجرون والأنصار وهُم يرتجزون: لا عيشَ إلاَّ عيش الآخِرة. ومع تدفُّق المهاجرين، أُعِدَّ في مؤخَّر المسجدِ النّبويّ مكانٌ مُظلَّل لنزول الغرباء فيه ممَّن لا مأوى له ولا أهل. سُمِّي ذلك المكان الصُّفَّة، وهي تعني في اللغة الظُّلّة والسقيفة، وسُمِّي النازلون بها “أهلُ الصّفّة” الَّذين عانوا كما تذكر المصادرُ “من الجوع وفقدِ المَلبس والمأوى، وكانوا أعِفَّة لا يسألون الناس”. ويتفِّقُ الكثيرُ من المفسِّرين أنَّ المقصودَ في الآية الكريمة ﴿لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة 273) هُم أهل الصُّفَّة. يقولُ البيضاوي إنّهم “كانوا يستغرقونَ أوقاتهم بالتّعلُّم والعِبادة، وكانوا يخرجونَ في كلِّ سريَّةٍ بعثها رسول الله (ص)” ويرى القشيريُّ صاحب الرِّسالة المعروفة باسمه بوضوح سِيماهُم الصوفي فيقول: “أخذَ عليهم سلطانُ الحقيقةِ كلَّ طريق، فلا لهم في الشرقِ مَذهَب، ولا لهُم في الغربِ مِضرَب، كيفما نظروا رأوا سُرادِقات التوحيد مُحدِقة” وقال الطّوسيّ صاحبُ “اللُّمَع” عنهُم إنَّـهُم “لا يرجعون إلى نَدْع و لا إلى ضَرْع و لا إلى تجارة، وكان أكلُهُم في المسجد ونومُهم في المسجد، وكان رسولُ الله (ص) يؤانسُهم ويجلسُ معهم ويأكلُ وإيّاهم ويحثّ الناسَ على إكرامهم ومعرفة فضلهم”
أهلُ الصُّفَّةِ أولاء كان منهُم أبو ذرّ الغفاري، وعمّار بنُ ياسر، وسلمان الفارسيّ.

بعد وفاة النّبي، وُلِّيَ سلمان المدائن من قبل عمر بين الخطّاب، ونفى عثمانُ أبا ذرّ إلى الرَّبذَة، واستُشْهدَ عمّار في صفِّين، وفي هذا دلالة أنّ كبارًا من أهل الصُّفَّة كانوا في صُلب الحياة الإسلاميَّة معبِّرين في مواقفهم عن صفاءِ الرؤية التي استمدّوها من مرآة النَّصّ الحكيم والتحقّق في معانيه بتفانٍ وتجرُّدٍ وإخلاص. لذا، عُدّوا فيما بعد باكورة ما سوف يُسمَّى بأهلِ التصوّف الَّذينَ وُصِفوا بأنَّهُم”أهلُ القلوب الَّذين يعرفون أحكامَها ومواردَها وخَطَراتِها ووساوسها ولحظاتِها وإشاراتِها وخفيَّاتِ سرائرها، ويعرفون اختلافَ الوُرود بمشاهدةِ الوُجود. ويعرفونَ أحكامَ الدّنيا باللّحظات، وأحكامَ الآخِرة بالخَطرات، وأحكامَ الحقّ بالإشارات. انفردوا بوَجْدِهم وأقاموا على حقيقة عِلمهم، فهُم أهلُ تجريد التوحيد الَّذين آثروا الله على ما سواه” (أدبُ الملوك، 9). وكان لهُم آداب ومسالك وأحوال ومقامات حُفِظَت آثارُها في الكتُب الينابيع التي دوَّنت أخبارَهُم لما يعود إلى القرون الأربعة الأولى للهِجرة، فأمَّا بعد ذلك، فقد غلبَ القالُ على الحال، والتَّسويدُ على التَّجريد، كأنَّ دائرةَ عرفان الأوائل عادَت إلى نقطةِ التحقُّق في معراج الواجدِ نحو الحقيقة.

أهل البصائر
تَذَّخَرُ مجالسُ الذِّكر لدى الموحِّدين الدّروز بأخبار السّالكين دربَ التّحقّق وجُلُّهُم من عُبّادِ “ما قبل نشوء المذهب”. ومعلومٌ أنَّ كبارَ الموحِّدين في “جزيرة الشام” بعد القرن الخامس للهِجرة، وعلى رأسهم الأميرُ السيِّد والشيخُ الفاضل أرْسَوْا هذا التّقليد عبر درسهِم المعمَّق للتراث الإسلاميّ كما هو ثابتٌ في سِيَرهِم. وفضلاً عن حِفظهما لكتابِ الله العزيز، القرآن الكريم، كان الأميرُ جمالُ الدين عبد الله “يعتني كثيرًا بأخبار الأولياء والصَّالحين والعُلماء والزّهاد، مثل الفضل ومالك بن دينار وحاتم الأصم وأشباههم في الأحكام والمواعظ والزهد والورع” (ابن سباط). واقتفى الفاضلُ أثرَه حيث يتبيَّن أنَّه اقتبسَ عشرات الشواهد من الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة وأقوال المتصوِّفةِ الثِّقات.
يُميِّزُ الأميرُ السيِّدُ بين ناظرَين: واحدٌ بفكره وخاطره، وآخَر بسمعه وناظره. النَّظرُ الأوَّلُ هو مقاربةٌ لإدراك اللطائف العقليَّة، واستشعار الدّلالات الحِكميَّة، واستنباط معنى الغايات الحقيقيَّة سبيلاً إلى التحقّق بما هو صلاح النفس وخيرُها ومعناها الَّذي مُنِحت الوجودُ من أجله. والنَّظرُ الثاني هو مقاربةٌ في المستوى الطبيعيّ يتلقَّى عبرها الإنسانُ بحواسِّه الجسمانيَّة الصُّور المحيطة به فيما سُمِّي قديمًا عالمُ الكون والفساد، من حيث أنَّ الجسدَ الطبيعيَّ مخلوقٌ
﴿مِن صَلصَالٍ مِن حَمَأٍ مَسنُون﴾ (الحِجر 26). وينبّه إلى أنَّ الوقوفَ عند حدِّ النَّظر الطبيعيّ، والذّهولَ إزاء ما يثيرُهُ في الحواس المتحرِّكةِ بالرّغبات، والالتهاء بأغراض الغريزة دون عقلها بحدِّ العدل وهو خضوعها لقواعد الحِكمة من وجودها، لهوُ أمرٌ بالغ الخطورة، وقد أوضحه بهذه الإضاءةِ الثاقبة قائلاً: “حِيدُوا عن طريقِ الموت، فلاَ مِحنةَ أشقُّ في هذا الزَّمان، من موتِ العقلِ والجَنَان.”

إنَّ مَلَكةَ التمييز في هذا الشأنِ بكلِّ متفرِّعاته هي بمثابةِ ضرورة لحياةِ النَّفس تَبَعًا لكمالِها الإنسانيّ. وقد أدرك شيوخُنا الأفاضل الأهميَّةَ القصوى لحقيقةِ الاستبصار هذه، فقالوا بوجوب الالتزام بقاعدةِ التّمييز.

شواشُ الصُّورة الحسِّيَّة
إنَّ الدَّرسَ الكبير الَّذي نتعلّمهُ من تلك البدايات، منذ صدر الإسلام وصولا إلى ما ذكره الأميرُ السيِّدُ ق، هو ضرورة التنبُّه أوَّلا إلى تنقية الدّاخل صونًا لهُ من الشّواش الكبير المتدفِّق عليه من صخَب الخارج. إنَّ الحَيّزَ الذي تحتلُّه الصُّورةُ في حياتنا المعاصِرةُ يكادُ أن يكونَ شاملاً. فالوسائلُ البصريَّةُ حاضرةٌ متسلِّطةٌ بدءًا من قارعة الطريق وصولاً إلى عُقر الدّار. إملاؤها كاسحٌ لا يعبأُ بالفُروقِ بين بيئةٍ محافظة وبين بيئةٍ مُستحدِثة. هدفُها الإغواء والجذب وصناعةُ “المُوضة” وتقرير ما هو الأمثلُ لمقاييس الشّكل ولقواعد الحضور الظاهر ولنماذج الجمال “المُفبرَك”.
الصُّورةُ البصريَّةُ سهلةٌ برّاقةٌ فاتنة، تدغدِغُ مكامنَ الرَّغبة، وتُذهِلُ العقلَ إذ تفتحُ الآفاق باتجاه أهواء النفس وتملُّصها من كلِّ قيدٍ مانعٍ لها من الانغماس فيما تتوهّمُه اللَّذَّة. لقد استطاعت الصُّورةُ في العقود الأخيرةِ من زمننا الراهن، أن تهيمنَ إلى حدٍّ كبير على أخْيلةِ الأجيال الصاعدة، وتاليًا على الأمزجةِ والعقول وما يستتبعُ ذلك من قلب معادلات طبائع العلاقات العامَّة، وتغيير قواعد السلوك، وتوسيع أبعاد الفجوة بين ذِهنيَّة التقليد من جهة، والذِّهنيَّة المعاصِرة من جهةٍ أُخرى. يتبدّى ذلك جليًّا إذا ما استعرضَ المرءُ نزعةَ التحرُّر السائدة لدى الجيل الشاب كما يُعبَّرُ عنها في ظواهر أساليب المَلبَس والاحتفال واللَّهو واعتناق الهوايات.

يُعبِّرُ رمزُ إحدى أكبر الشّركات المتعدِّدة الجِنسيّات العاملة على تصميم وتصنيع الالكترونيات الاستهلاكية ومنتجات برامج الكمبيوتر عن روح ما تقدِّمُهُ لنا من خدمات: تفّاحةٌ مقضُومة. بالطّبع، يحيلنا الرمزُ إلى القصَّةِ التوراتيَّةِ التي استحقَّ آدم عليها مخاطبة الله له قائلاً: “ملعُونةٌ الأرضُ بِسَببِك”. لقد غُويَ آدم فأكلَ من ثمرة شجرة المعرفة الَّتي نبَّهتهُ إلى مكامن الشرّ فيه وكان غافلاً عنها. واليوم، تتدفَّقُ المعلومات والصُّورُ على الأُمم كسيلٍ غامِر لا يتورَّعُ أمام حُرمة، ولا يتردَّدُ في اكتساحِ أيّ حِمىً مهما اتَّخذ له من مَسميَّات مثل: تراث أو تقليد أو هويَّة أو قِيم أثيلة أو أعراف متأصِّلة وما شابه. لكن شتّان ما بين تدفُّق المعلومات، وما بين اكتساب الشّخصيَّة الثقافيَّة التي تأخذ بيدِ الإنسانِ فلا يجرفُه السَّيلُ هَبَاء، و لا تستقُبلهُ الصورةُ على شاكلتِها وإنَّما يطفو فوق خشبةِ خلاص باحثًا عن شاطئ الأمان.
وِفقَ هذا المنظور، تضعُنا الصُّورةُ اليوم في مثلِ الكهفِ الأفلاطوني إذ يتسمَّرُ الخَلقُ إزاءها لتقرِّرَ لهُم اتجاهات أمزجتهم، وطرائق مظاهرهم، ووجوه سلوكيَّاتهم حتَّى إذا نفروا منها أو حادوا عنها اتُّهِموا بالتخلُّفِ والجمود! بالطَّبع، يتخلَّلُ هذا العرضَ المتواصل الكثيرُ من العِلم والنقد وأصواتِ المثَّقفين التي تتعالى “كصوتٍ صارخٍ في البَرِّيـَّة”. فأين هو الحكيمُ الَّذي يقودُنا خارج الكهف حيث شمسُ العقل ونور الحرِّيـَّة؟

النَّصيحةُ التَّوحيديَّة
هنا تمامًا يتوجَّبُ استحضارُ النَّصيحة التوحيديَّة القديمة التي أوصَت في مثلِ تنبّؤٍ نورانيّ قائلة بوجُوب النَّظَر بمرآة البصيرة لا بشحمانيَّة العين. فإذا كانت الحياةُ المعاصرةُ اليوم هي نِتاجُ الصورةِ بامتياز، يعني من البصرِ وإلى البصرِ تعود، فأين هي مرآةُ البصيرةِ في روح الإنسان، وهل هي نقيَّة و جليَّة وقابلة لانعكاسِ وجهِ الله، يعني الحِكمة والفضيلة والخير الأسمى؟
إنَّ التراثَ المسلكيّ التَّوحيديّ يكتنزُ إلى يومِنا هذا سرَّ استبصار هذه الحقيقة. وليست مظاهرُ التقشُّف في الخلَوات، واقتصارُ سُبُل عيش الشّيوخ الثِّقات الكبار على الضَّروريِّ إلاَّ وسيلةً لتحقيقِ المعنى على هَدْي الصِّراطِ الَّذي اختطَّهُ سادةٌ عِظام. فالسِّرُّ في الموحِّد يَحُكُّ البصيرةَ قبل أن يَستَـتبعَ البصر، لأنَّ التَّوحيدَ رسالةٌ إلى مرآة الداخل الإنسانيِّ حيثُ لا تنفعُ أقنعةٌ و لا يُغني تجميل.

وحقٌّ أن يُطرحَ السُّؤال: كيفَ السَّبيلُ إلى امتثال هذا المعنى الجليل، والقصد الأشرف، في مجتمعنا المعاصِر؟ تقولُ الآيةُ الكريمةُ ﴿وَذكِّر فإنَّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنين﴾ (الذاريات، 55). إنَّ استذكارَ هذا النَّهج (حِفْظُهُ في الذِّهن) هو ذخيرةٌ حيَّةٌ (حِجابٌ عاصِم) تَهَبُ قلبَ الإنسان ـ أيـًّا كان موقعُه في الحياة- روحَ المناعةِ من خطرِ اضمحلال كِيانِه من حيثُ هو “أشرف المخلوقات” فلا يتشوَّه سرُّه، و لا تَتَشتَّتُ روحُه، و لا تنحلُّ إرادتُه، و لا يصيرُ غريبًا عن كُنهِ روحه
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ ولكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج، 46).

ديوان شمس تبريز

الرُّوميُّ أميرُ العِشْقِ الإلهِيّ

مختاراتٌ من ديوان شمسِ تبريزَ

حين طَلَعتْ شمْسُك تَبدّدت الأقوالُ

نحنُ كالسّيْلِ، كالنّهْرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُماً

إنْ لم يَحترق عقلي بعِشقِكَ فأنا غافلٌ

يُعتَبر “الدّيوان الكبير” أو ديوان شمسِ تبريزَ كما يُسمّى أحيانًا ليس فقط من أعظم الأعمال الشّعرية لجلال الدّين الرّوميّ بل هو قطعًا أعظم عملٍ شعريٍّ صوفيٍّ في تمجيد الحبّ والعشق الإلهيّ. لقد تدفّقت آيات هذا السِّفر العظيم من قلب جلال الدّين بفعل الحبّ العارم الذي اجتاح كيانه تجاه مرشده شمس الدّين التّبريزيّ وقد كانت الرّابطة الوجوديّة التي نشأت بين جلال الدّين وبين شمس تبريز إحدى القصص الفريدة بل العجيبة للعلاقة الميتافزيقيّة التي تنشأ بين المرشد وبين المُريد النّاضج فتجعل من الاثنين روحًا واحدة وتضرم في قلب كلّ منهما انجذابًا لا يقاوَم نحو الآخر وحيث يمثّل الآخر هنا الوجه الظاهر أو البشريّ لينبوع المعارف الإلهيّة و تعبيراً عن محبّة عارمة للمولى تعالى الذي تظهر تجلّيات صفاته وبحار حكمته في وجود المرشد الكامل.
وصف جلال الدّين الرّوميّ مرشده شمس الدّين التّبريزيّ في ديوان “المثنويّ” بالقول إنّه “شيخ الدّين وبحر معاني ربّ العالمين” مُضيفًا “الأرض والسّماء تبدو أمامه وكأنّها قشّة؛ لو أظهر جماله دون حجاب لما بقي شيء في مكانه، ولا ينبغي أن نُفْلِتَ ذيل ثوبه من أيدينا إن أردنا إدراك الحقيقة “ وهو رأيٌ في هذا الدَّرويش المحاط بالأسرار قُطْبًا تدور حوله رَحى القلوب التي تهيم بمحبّة الله تعالى وجاذبًا لا يقاوَم لأرواح السّالكين يشعل فيها لهيب الشّوق إلى طلب الحقّ تعالى. وقد أورد جلال الدّين في أغلب قصائد الدّيوان الكبير اسم “شمس الدّين” أو “شمس” مشيدًا به معتبرًا إيّاه “الإنسان الكامل” و”سلطان مملكة العشق وأمير قافلة الحبّ الإلهيّ” في زمانه.
وكان شمس الدّين التّبريزي معارضًا للفلسفة وعلم الكلام معتبرًا أنّ الوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى تفانٍ تامّ ومحبّة غير محدودة لله وللمرشد وهو ما وصفه الصّوفية في ما بعد بالقول: “من لم تكن له بداية مُحْرقة لم تكن له نهاية مُشْرقة”. وكان مذهب شمس الدّين في الحبّ الإلهيّ وفناء الذّات المُفرَدةِ في الله القوّة الدّافعة لتعاليم جلال الدّين الرّوميّ في ما بعد وهو بالتأكيد القوّة المحرّكة وراء إبداع الرّوميّ لديوان شمس تبريز الضّخم ولأعماله الشّعريّة الخالدة وفي مقدََّمتها “المَثنوي” وقد جعل الرّوميّ في هذا الديوان القلب مقدَّمًا على العبادة الظّاهرة ومركز الدّائرة في علاقة السّالك بالحق تعالى، والدّيوان بهذا المعنى دعوةٌ إلى العِشق الإلهيّ الذي هو في نظر الرّوميّ ليس فقط القوّة المحرّكة للتقدُّم الرّوحيّ بل القوّة المحرّكة للكَوْنِ بأسْرِه.
في ما يلي مجموعة مختارة من “ديوان شمسِ تبريزَ” قُمنا باختيارها من النّسخة التي نقلها إلى العربيّة عن الفارسيّة الباحث الدكتور محمّد السّعيد جمال الدّين.

قَطْرٌ أنتَ، بحْرٌ أنتَ، لُطْفٌ أنتَ، قَهْرٌ أنتْ
سُكْرٌ أنتَ، سُمٌّ أنتَ، فَحَسْبُك لا توذِني

قُرصُ الشَّمسِ أنتَ، بُرج عُطارِدَ أنتَ،
واحةُ الرّجاء أنت، فعلى الطّريق دُلَّني

أمسكِ الخبزَ عنّي، أمْسِكِ الماءَ عنّي،
أمسكِ الرّاحة والنّومَ عنّي،
يا مَنْ ظمَأُ عِشقكَ يُفتَدى بمائةٍ مثلَنا

أَطَلَّ من القلبِ بَغتةً خيالُ حبيبي،
كالبدرِ من الأفقِ
أو كالزّهرِ من العُشبِ والكَلأْ

أنتَ نَوْحٌ، أنت الرّوح، أنت الفاتحُ والمفتوح
أنتَ الصّدرُ المُنْشَرحُ، أنتّ سِرّي المملوءُ بالدُّرَرِ

بَرئتُ من هذه النّفسِ ومن الهوى…
الحيِّ في بَلاءٍ والمَيْتُ في بلاء
في الحياة وفي الموت ليس لي وطن،
إنَّما وطني فضلُ الله، ليس إلّا

غريقٌ أنا في بحر كرَمِه، عبدٌ أنا لأنفاس صُبحٍ
فيه تلك الوردةُ العَطِرةُ صَوْبَ الرّوضِ تَجذِبُني

أيُّها القلبُ لا تُخاتِلْ، لا تُثِرِ الفتنةَ والغضب
لا تُشهِّر بي، ولا تَفشِ على ناصيةِ السّوقِ أمري

أنّى لنا في العالَميْن بأميرٍ لَطيفٍ مَليحٍ كأميرِنا
لم يتقطّب لهُ جبينٌ مع اَنّه رأى مائةَ ذنبٍ وخطأٍ

أنا من سلامِهِ الحارِّ وتَرْحابِه، ذُبْت منهُ خجَلاً
فمِنْ كلامِهِ النّاعمِ تذوبُ الحجارةُ ذَوْبــاً
اِحملْ إليهِ سُّمًّا، يجعلْه أحلى من السّكَّر
اِحملْ إليه قَهراُ، يُحيلُه كلَّهُ رِضًا

اُنظرْ “ماءَ الحياةِ” عندَهُ، ولا تخشَ الأجَلَ أبدا
لُذْ عندهُ بالرّضا، ولا ترتعدْ من القَضا

لو لم يكنْ حديثُه ولفظهُ، لما كانت روحُكَ تتأوّهْ
تأوّهْ، فآهاتُكَ تَسْلكُ طريقَها إلى الله تعالى

الليلُ يَمضي، فهلمَّ بنا إلى الحَضرةْ،
كي نسمعَ حديثَ المَلك،
قفِ اللّيلَ – طولَ اللّيلِ ــ قائمًا على قدميك حتى السَّحَرْ
كالقمرِِ في السّماء
جاء الرّبيعُ جاء الرّبيعُ، فسلِّمْ على السُّكارى
قد أتى الرّبيعُ من نَبيِّ الحِسانِ، برسالةٍ إلى السُّكارى

ادْخُل روضةَ الباقي، اصْعَد إلى السّطحِ
فالسّاقي أتى من دار الغَيب الخَفيّةِ برسالةٍ إلى السُّكارى

قد أتى للأرواحِ بالرّبيع، ولفتَنا صوبَ الحبيب
فانظرْ أيَّ سعادةٍ أتى بها، مِن بينِ ما أتى للسُّكارى

من قِبَلِ شمسِ الدّينِ التِّبريزيِّ، جاءَ ساقي السَّعدِ فجأةً
فقدَّمَ في القدَحِ السُّلطانيِّ الخاصِّ، خّمرًا خالِصاً للسُّكارى

إنْ لم تكنْ طالبًا، فصِرْ طالبًا معنا
إن لم تكنْ مُطرِبًا، فصِرْ مُطربا مَعنا

ولو كنتَ قارونَ، فصِرْ في العِشقِ مُفلِسا
وإن كنتَ سيِّدًا مُهابًا، فصِرْ عبدًا معنا

شمعةٌ واحدةٌ من هذا المجلس تُضيءُ من الشّموعِ ألفاً
أيّاً ما كنت مُطفأً أو حيًّا، فأنتَ تغدو منيرًا معنا

تُسرعُ أقدامُكَ في المَسيرِ، يشِعُّ منك النّورُ
وقد تغدو بأجمعِك وَردًا، دائم الضّحِكِ معنا

أقبِل بخِرقةٍ باليةٍ حينًا، كي ترى القلوبَ الحيَّة فينا
اِطْرح الحريرَ الأطلسَ جانبًا، وصِرْ في خِرقةٍ باليةٍ معنا

حين أصبحتِ الحبّةُ مُلقاةً، نَمَتْ، ثمّ شجرةً صارت
إنِ اَنتَ أدركتَ هذا الرّمزَ، صِرتَ مُلقًى معنا

يقول شمسُ الحقِّ التِّبريزيِّ لبُرعُمَةِ القلبِ
إنْ تفتّحتْ عينُكِ، صِرتِ بَصيرةً معنا

أيُّها السَّيِّدُ طاهرَ الذَّيلِ، أمجنونٌ أنتَ أمْ أنا؟
تجرّعْ معي قدَحًا، ودعِ العُتْبى والمَلامَة

قد كان قبلَك كثيرٌ ممّنْ يُنشدُ الكراماتِ
فلمّا رأى وجهَ السّاقي، أحرقَ كلَّ كرامة

أيُّها السّاقي الحبيبُ، امْلأْ ذلك القدَحَ المُقدَّم
قاطعْ طريقَ القلب، كاشفْ طريقَ الدِّين

ما يصدرُ عن القلبِ ويمتزجُ بالرُّوح
فوَرَانُهُ يُسكِرُ العينَ التي ترى اللهَ ربَّ العالمينْ

تلك خَمرٌ من كرْمٍ لأُمَّة عيسى
وهذه خمرٌ من منصورٍ1 لأمَّة “ياسينَ”.

هذا الحالُ إنْ حدثَ، يَحدُثُ غالبًا عندَ السّحَر
لِمنْ هجرَ لينَ الفِراشِ وأسهدَ الجفون

الحبيبُ الذي كان يوجِعُ قلبي، وكانَ مُعَلَّقًا فوقَ وجهِنا لا يبرَح
قد اَصبحَ الآنَ شفيقًا بالخُلّان، وليكنْ ما يكون

بتلك الطّلعةِ المُلوكيّةِ بتلك الشُّعلةِ التي أضاءت جِنَبات الدّار
تحوّلَ كلُّ رُكنٍ إلى مَيْدانٍ، وليكنْ ما يكونْ

بغضَبهِ المُراوغ بأسلوبهِ العذبِ الرائعِ
تحوّلَ العالمُ إلى أقاليمَ للسُّكر وجِنانٍ، وليكنْ ما يكونْ

ذهبَ اللّيلُ وجاء الصَّبوح ذهبَ الأسى وأقبلتِ الفُتوح
أضاءت الشّمسُ سائرَ الأركانِ، وليكنْ ما يكونْ

جاء العيدُ وجاء العيدُ، جاء الحبيبُ الذي جرى منّا لِبَعيد2
غدا العيد أعياداً، وليكنْ ما يكونْ

اْنظُرْ الرِّيحّ في الجوِّ من هوى الشَّفةِ العذبة
راحَ معَ النّاي يغنِّي الألحانَ.. وليكنْ ما يكونْ

حينّ أضاءَ ذاك القمرُ، غدا الكَوْنانِ روضةً
صارت أرواحاً تلك الأبدانُ، وليكنْ ما يكونْ

صارَ قهرُهُ رحمةً، صارَ سُمُّه بأجمعهِ عذبٍا فُراتًا
نشرَ سحابةَ السُّكْرِ والرّيْحانِ، وليكنْ ما يكونْ

صَهٍ، فأنا ثَمِلٌ، قد أوثقَ اْمْرُؤٌ يديَّ
صارَ الفكرُ مُشَتّتاً حَيْرانَ، وليكنْ ما يكونْ

جئت سعيدا يا ذا الوجهَ القمريَّ، يا سعادة الرّوحِ أقْبِلْ سعيداً
أمَا وقد كانَ ما كانَ، فليكنْ ما يكونْ

حديثُ العِشق

حبَّذا العِشقُ، حبَّذا العِشقُ لنا يا ربَّنا
ما أبدعَهُ، ما أروعَهُ، وما أحسَنَه يا ربَّنا

بماءِ الحياةِ3 نديرُ نحنُ السّماوات العُلا
لا بالكفِّ ولا بالنّايِ ولا بالدفِّ، يا ربَّنا

إن أنَّ الجسدُ أنينًا، من همِّ الخَسارة والكَسْبِ
فذاك منكَ أنتَ، فقد نفختَ، لا مِنَ النّاي يا ربَّنا

بكفِّكَ صَنعتَ نايَ الجسدِ، مليئًا بالثُّقوب
فهوَ عن هذا الأنينِ والصَّخَبِ، لا يَكُفُّ أبدًا يا ربَّنا

وما أدرى النّايَ المِسْكينَ باللّحن ِ والإيقاع
إنَّما النّافخُ هو البصيرُ وهو الخبيرُ، يا ربَّنا

من انعكاسِ وجهِ الحبيبِ، في هذا الرّوض النّضيد
بكلِّ ناحيةٍ قمَرٌ، وشمسٌ، ونجمٌ يتألّقُ، يا ربَّنا

نحن كالسّيلِ، كالنّهرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُمًا
فالبحرُ مَصَبٌّ لكلِّ سَيلٍ جارفٍ يا ربَّنا

بفضْلِ شمسِ الحقِّ التِّبريزيِّ، تولّهَ القلبُ
وهامَت الرّوحُ، وحارت العينانِ في الحبِّ، يا ربَّنا

يا لها من حرارةٍ فينا، يا لها من حرارةٍ فينا
من عِشقٍ هوَ كالشّمسِ، خَفَي منه ما خفَي وظَهرَ منه ما ظَهرَ، يا ربَّنا

حَبَّذا القَمرُ، حبّــذا القَمرُ، حبّذا خَمْرٌ تصاحِبُهُ
أضْفَتْ على الرُّوح والعالمِ زينةً وَبَهَا، يا ربَّنا

حَبّذا الهِمّةُ، حَبَّذا الهِمَّةُ التي أثارت العالمْ
حبَّذا العملُ، حبّذا المُثولُ بالحَضْرَةِ هناك، يا ربَّنا

قد وقَعنا، قد وقَعنا، فلا تقومُ قائمةٌ لنا
لا ندري، لا ندري، أيَّ حدَثٍ جَلَلٍ جرى، يا ربَّنا

عليكَ بالصّمتِ، عليك بالصّمتِ كي لا تُفْتَضَح
فالأغيارُ4 قد ملأوا ما حولَنا، يا ربّنا

تَجَلَّ يا شمسَ تبريزَ، يا ذا الكمالِ والتَّمِّ
كي لا يكونَ ثمّةُ نقصٍ، للكافِ والنّونِ، أبدًا

بين طَيّات حجابِ الدّمِ، بَدَت للعِشقِ رياضٌ ومُروج
ومعْ جمال العِشقِ غيرِالمحدودِ، بدت للعُشّاق أحوالٌ وشُؤونْ
للعُشّاقِ شارِبِيْ الثّمالةِ في الحَشاشَةِ أذواقٌ

ضريح ومقام جلال الدين الرومي في قونيا في تركيا
ضريح ومقام جلال الدين الرومي في قونيا في تركيا

وفي قَرارةِ العُقَلاءِ سُودِ القُلوبِ صُنوفٌ من الإنكار

رأى الفكرُ سوقًا فشرعَ في التِّجارة
ورأى العِشقُ وراءَ سوقِ الفكرِ أسواقًا

يقولُ الفكرُ: لا تخطُ خُطوةً، فليسَ في الفِناءِ سوى الشّوك
يقول العِشقُ للفكرِ: إنَّما فيكَ أنتَ الأشواكُ

يا شمسَ تبريزَ، أنتَ شمسٌ في سَحابِ الكِلَمْ
حين طلعتْ شمسُك تبدّدتِ الأقوالُ
أطَلْتُ السُّجودَ، وقلتُ: اْحْملْ هذهِ السّجدةَ منّي لِشَمْسٍ
يحيلُ ضياؤها الحجارةَ الصّمّاءَ ذَهبًا صِرْفا

شققتُ عن صَدري، كشفتُ له الجِراحَ
قلتُ لهُ: “خبِّرْ عنّي الحبيبَ سفّاكَ الدِّماء

خَلِّصْ طِفلَ القلبِ، خَلِّصْ رَضيعَنا من التَّجوال
يا منْ تُجيرُ كلَّ حينٍ مائةً مِثلي أنا المِسْكينُ أنا

سائرُ رِفاقِكَ من حَجَرٍ، وأنتَ ياقوتٌ ومُرجانٌ، فلِمَ؟
السّماءُ عندَ البرِّيَّةِ فضاءٌ أصَمُّ، وهي عندكَ روحٌ من الرّحمنِ، فلِمَ؟

إنْ أَقبلْتَ عليَّ شَرَعتْ كلُّ ذَرَّةٍ منِّي في التّصفيقِ
وإنْ مَضَيتَ أجهشتْ كلُّها بالبكاءِ والأنينِ، فلِمَ؟

إن تَراءى خيالُك بَدتْ في كلِّ ذرَّةٍ مِنّي بَسْمةُ الهنا
وهيَ تغدو مع عَدْوِكَ بأجمعِها قواطعَ حادَّةً وأسنانًا، فلِمَ؟

أينما وُجِدتْ خَرابةٌ وُجِد الأملُ في ظهورِ كَنْزٍ
فلِمَ لا تبحثُ عن كنزِ الحقِّ في قلبٍ مُهدَّمِ البُنيانِ، لِمَ؟

لِكُلِّ أغنيةٍ، أيُّها القلبُ، أوّلٌ وآخِرْ
فكفاكَ ما أنشدتَ الآنَ، أمَا لِهذا اللّحنِ من خِتامٍ، لِمَ؟

لا تَسَلْني عن طُرُقٍ ومنازلَ، كفاكَ حديثًا، كفاكَ حديثًا.
يا مَنْ أنتَ طريقي ومنزِلي، هيّا تعالَ، أَظهِرْ سَنا وجهٍ أو جبينْ

طالما أنا واقفٌ على الحُسْنِ والقُبحِ، أنا واقفٌ
فأنا إذَنْ عن جمالك غافلٌ5، فهيّا تعالَ، اَظْهِرْ سنا وَجْهٍ أو جَبينْ.

إنْ لم يَحترقْ عقلي بعِشقِكَ، بعِشقِكَ
فأنا غافلٌ، لستُ بعاقِلٍ، هيّا تعالَ، اَظْهِرْ سَنا وجهٍ أو جَبينْ

أنتَ لي رُوحٌ وعالَمٌ، فما نَفعي بالرُّوح والعالَم؟
أنتَ لي كَنْزٌ، فما نفعي بالكَسْبِ والخُسران؟

1 إشارة إلى الحسين بن منصور الحلّاج الذي أخذ به السُّكر في العِشق كلَّ مأخذ وأدّى به التّصريح إلى حبل المشنقة والحرق.

2 إشارة إلى اختفاء المعلّم شمس الدّين التّبريزيّ لفترةٍ ثمّ عودتُه إلى جلال الدّين والمريدين.

3 – بقوة الخُلود التي تجتمعُ للمتحقّق بالله في بحرِ القُدرة

4 الذين ليسوا أهلًا للاطّلاع على أمرنا

5 – جمالُكَ حين يستقرُّ في الفؤاد، لا يُرى في الوجود بعد ذلك أيَّ قُبحٍ

الهرمسية

الحكمة الهِرمسيّة نور العالم

أَمَــــدَّت حكمــــة الإغريـــق وألهمــــت العـــــرب
وأرْسَت أوّل نظـــرة توحيديّة لفهـــم الوجـــود

ليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده

«خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثّبات. وجوهرُ الكون هو النظـــام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة».
(النصوص الهرمسيّة)

“مقدَّسٌ هو الإلهُ الواحد الذي يريد أن يُعرَف.”، إنّه نصٌّ هِرمسي له ما يُشبهه في الكتب السماوية المقدّسة، وهو جزء من نصوص تعتبر أقدم أنواع الوحي، وأول نظام أفكار قدم شرحا متكاملا – من منظور التوحيد – لحقيقة الوجود والعالم وهو شرحٌ بليغ تحول مع الوقت إلى مصدر إلهام للحكماءُ والفلاسفة والعلماء لدى جميع الشعوب، كما أنّه كان أحد أهمّ أسباب الدّور الكبير الذي لعبته مصر القديمة (الهِرمِسيّة) في تطوّر الفلسفات القديمة، ولاسيّما فلسفة الإغريق وكذلك فسلفة التصوّف الإغريقي ثم المسيحي ثم الإسلامي.
وقد بقيت “النصوص الهِرمسيّة” المعروفة بالتسمية اللاتينية (Corpus Hermeticum) لزمن وديعة الحكمة المصرية القديمة؛ حَرِص المصريون القدماء على حفظها في حِرْز حريز وعدم البَوْح بمضامينها إلاّ لِمن تأكدت أهليته، وكانت معابد المصريين لذلك عوالم مغلقة لأجيال، قبل أن تبدأ تلك الحصون الفلسفية بفتح بعض أبوابها لرواد وطلبة الحكمة من الإغريق الذين بدأوا يتوافدون على مصر لتحصيل الحكمة المكتومة، والمصانة إلاّ على أهلها، ثمّ وعن طريق الإغريق، وحركة النقل الإسلامية انتقلت إلينا هذه الحكمة باللّغة اليونانية في صياغة تعود إلى القرون الأولى للميلاد في مصر، وتحديداً الإسكندرية.
ولا بدّ من القول إنّ النصوص الهرمسية مُوغِلَة في القِدم، وهو ما أثبتته الكتابات الهيروغليفيّة القديمة بعد فكّ شيفرتها واستطلاع أسرارها، حيث وُجِدَت مُدوّنات تعود إلى آلاف السنين استقت منها النصوص الإغريقية الشهيرة التي عُرِفَت أيضاً بـ “المُتون الهِرمسيّة”. فأنَّى تطَّلّع علماءُ الآثار والمِصريّات ظهرت لهم على جدران المعابد والأهرامات نصوصٌ تُنسَب إلى “تحوت”، هِرمس المُثلّث العَظَمَة، أو تشير إليه وتُمجِّده، وهو ما صاغه الإغريق في توليفةٍ “إغريقية – مصرية” (Graeco – Egyptian) لتأمُّلاتٍ عُرفانية هِرمسيّة حول الإله الواحد الأوحد، والعقل المقدَّس والكون والإنسان.
فما هي حقيقة النصوص الهِرمِسيّة وما هو مضمونها الروحي الفلسفي، وأيُّ رسالة تحملها لنا نحن أهل هذا الجيل المعاصر.

في القرنين الأول والثاني الميلاديّيْن، عَمِلَ الإغريقُ على استنباط تعاليم “هِرمس المُثلّث العَظَمَة” من مصادرها المصرية القديمة، وإعادة صياغتها بلسانهم ونهجهم الفكري، وذلك فيما يُسمى “النصوص الهِرمسيّة” (Corpus Hermeticum)، وهي الترجمة اللاتينية التي قام بها مارسيليو فيسينو لمخطوطة أحضرها كوزيمو دي ميديتشي (Cosimo de’ Medici) حاكم فلورنسا الإيطالية العام 1460م، وهي في أربعة عشر فصلاً، وطُبِعَت منها ثماني نسخ قبل العام 1500م، ومن ثم اثنتان وعشرون قبل العام 1641م. وقد حُفِظَت هذه النصوص في مدرسة فيلسوف الأفلاطونية المُحدَثة أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) ووُجِدَت نسخة منها من خلال الفيلسوف البيزنطي مايكل بسيلوس (Michael psellus) محفوظة ضمن مخطوطات من القرن الرابع عشر الميلادي. أمّا الفصول الثلاثة الأخيرة في النسخات الحديثة فقد قام بترجمتها لودوفيكو لازاريلي Lodovico Lazzarelli (بين عامَي 1447 و 1500) المعاصر لفيسينو على نحو مستقل؛ نقلاً عن مخطوطة أخرى. وقد نُقّحَت هذه النصوص مقارنةً بمخطوطات أخرى نُقِلَت عن اللّغة العربيّة.

مكتبة نجع حمادي
في مقابل ذلك، فإنّ قِدَم الفكر الهِرمسي وسبقه طويلا للإرث الفلسفي الإغريقي تأكد بعد العثورُ على نصوص عُرفانية في ما يُسمَّى “مكتبة نجع حمادي” في مصر وتعود إلى القرن الرابع ميلادي، وبدا واضحا مدى تشابهها الكبير مع الحكمة المصرية القديمة من حيث الأناشيد والصيغة التعليميّة الإرشاديّة بين مُعلِّمٍ وتلميذه (هِرمس وأشقليبيوس)، وكُتبت هذه النصوص التي أشارت إلى مدارس الأسرار الهِرمسيّة باللغة القبطيّة.

الهِرمسيّة أساس الحكمة المصرية
اعتُبرت الحكمةُ الهِرمسيّة الحكمةَ الأوّلية الأساسية وراء “حكمة المصريين” التي تحدّث عنها “سفر الخروج” التوراتي، وكذلك نبّهت إليها محاورات أفلاطون لا سيّما محاورتَي “تيماوس” (Timaeus) و”فايدروس” (Phaedrus) (حيث تحدّث سقراط عن أسطورة “تحيوت”، أو “تيوث” Theuth باليونانية، الذي نُسبَ إليه اختراع الكتابة والحرف وانتشار الحكمة).
ويرى الباحث ستريكر (1949) أنّ نصوص Corpus Hermeticum الإغريقية هي إعادة صياغة للحكمة الهِرمسيّة المصرية. وكان بطليموس الأول سوتر (304-282 ق.م) وابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس (282-246 ق.م) وَعَدا بنشر الأدب السرّي للمصريين القدامى في مصر البطلميّة. ويؤكد ستريكر أنّ “الكوربوس” ما هو إلا نسخة إغريقية عن الفكر الحكمي المصري، فالشكل إغريقي لكنّ المضمون مصري.
وكان الباحثان المختصّان غارث فاودين وجان زاندي ذكرا أنّ جزءاً من نصوص “الكوربوس” يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، في حين أوردَ الباحثُ فلندرز بيتريي (1908) أنّ بعض المقاطع تعود إلى كتابات مِصريّة خلال فترة الحُكْم الفارسي، وأنّ معظمها مُستَقى من الفكر الهِرمسيّ السرّي في ما يُسمّى “ماورائيات هرموبوليس (Hermopolis) وممفيس (Memphis) المصريّتَين”، حيث وفَّرت المنبع الأساس للهِرمسيّة البطلميّة (أي في عصر البطالمة في مصر)، وذلك ردّاً على بعض الباحثين الأوروبيين المُغرِضين الذين أرجعوا هذه النصوص إلى مصادر يونانية بل وفارسية ويهودية؛ إنكاراً لاستمداد هذه النصوص من التراث العرفاني المصري الهِرمسيّ القديم.

“الهِرمِسيّة دخلت الفكر الأوروبي في القرون الوسطى عن طريق الترجمات من الّلغة العربيّة”

دين العقل
الحكمةُ المِصريّة التي تتّبع “نهج هِرمس”، على حدّ قول الفيلسوف الإغريقي أيمبليخوس في كتابه “حول أسرار المصريين”، هي لاهوتية وفلسفية في آن وهذا الدِّين الإغريقي-المِصري الذي سادَ في فترة حُكم البطالمة لمِصر قبيل ظهور المسيحية، يضرب جذوره عميقاً في تقليد الأسرار المِصريّة القديمة، وتبدّى ذلك في النسخة الإغريقية للهِرمسيّة العريقة التي اتّسمت بكونها وِفقَ الوصف الإغريقي “دين العقل”.
أمّا الهِرمسيّة الهيلّينيّة العقلانية فصمدت على مر القرون لتُطلِق شرارة عصر النهضة في أوروبا، وتطوُّر العلوم، والفكر الإنساني كَكُلّ. وكان العالِم إسحق نيوتن يؤمن بوجود عقيدة لاهوتية قديمة نقيّة لا تزال تحتفظ بقيمتها، قام بدراستها بعناية لتساعده على فهم العالم المادي. وهو يُورِد في العديد من مخطوطاته مدى عكوفه على دراسة نصوص Corpus Hermeticum الهِرمسيّة المتناقلة منذ الأزمان الغابرة.

محبّة عقلانية وعُرفان
مّهَّدت الهِرمسيّة الفلسفيّة الطريق بروحيّةٍ تأمُّلية وصوفية إلى “محبّة عقلانية للواحد” تماماً كما يصف هذه المحبّة لاحقاً في القرون الوسطى الفيلسوفُ سبينوزا (Spinoza).
و”العرفان” (Gnosis) في الهِرمسيّة الإغريقية، وهو سرٌّ يتناقله الخاصة بالمفاتحة الرُّوحيّة، هو إشراقٌ يأتي نتيجة النشاط المّعْرفِيّ، والتأمُّل الفكري، والتطهُّر المَسلَكِي. لذا فإنّ هذه النسخة الإغريقية من الهِرمسيّة، لا سيّما الإسكندرانيّة منها، “لم يكن لها طقوسٌ ولا كهنة ولا مراسم، بل هي جماعة” تتآلف بهذا الفكر الفلسفي والوَجْد الرُّوحي وتبجيل “كلمة” الإله الواحد الخلّاقة المقدّسة1
وهذا الإثبات الوجودي الفلسفي للنسخة الإغريقية من الهِرمسيّة؛ يؤمِن بثلاثة أوجه للحقيقة: الإله الواحد، وعالم الكائنات العُلوية، والإنسان وما حوله من وجودٍ مادي ومخلوقاتٍ حيّة، وكلُّ ما في الكون “مرآةٌ” تسمح لنا بِلَمْح تبدّياتٍ للجمال الإلهي. والإلهُ الواحد هو خالقُ كلّ الوجود ومُتَعالٍ عنه وليس هو كلّ الوجود، كما جاء في وحدة الوجود الهندوسية على سبيل المثال، وهو مُتَرفِّعٌ، مُنَزَّهٌ عن “الحُلوليّة”وبالتالي تسعى الهِرمسيّة إلى الارتقاء من المعرفة إلى العِرفان (Gnosis)، ومن المعرفة حول الإله الواحد إلى معرفته هو، وهو جوهر فلسفة فيثاغورس، وهنا نجد تلاقيا وتكاملا بين الفكرَين الهِرمسي والفيثاغورسي.
ولا بُدّ من التوضيح في هذا المقام أنّ بعض الباحثين عَمَدَ، نتيجةً لعدم تضلُّعه بأبعاد المصطلحات اليونانية وجذورها، إلى الخلط بين الكائنات الإلهية العُلوية (Deities) باليونانية وبين الآلهة، فتبدو الفكرة كما لو أنها تتحدث عن تعدُّد للآلهة، وهم لم يُفسِّروها بمعناها الحقيقي أي الجواهر العُلوية أو “الجواهر الأُوَل” أو العِلَل”، وفق المفهوم الأرسطوطاليسي.
وفي الهِرمسيّة، الإنسانُ هو أشرف المخلوقات، تُحفِّزه “شرارةٌ مقدّسة” في داخله، لذا فإنّه في أعماق كينونته كائنٌ مقدّس بالفعل، وهدف التقليد الهِرمسيّ هو إيقاظ الإنسان على حقيقة “كينونته الداخلية”. والخيار الحاسم أمام الإنسان إذاً هو بين العالَم المادي والعالَم الرُّوحاني، بين الجسدي والنفسي. ويُطلَق على إحراز معرفة الذات ومعرفة الحقائق العُلوية هذه وصف “الولادة من جديد” (النصوص الهِرمسيّة، الفصل الثالث عشر)، وهي على نقيض الولادة الجسديّة: تُحرِّر النفسَ ولا تسجنها في أحابيل الجسد، إنّها ارتقاءٌ للنفس خلال الحياة بفضل “نور العقل” الحاضر. وتُفضِي هذه الولادة الرُّوحيّة، بفضل “المُعلِّم الرُّوحاني” العظيم، إلى ترقِّي النفس في معرفة الإله الواحد، فيما يُسمَّى بالنصوص الإغريقية “معمودية بالعقل” وهي تَطهُّرٌ بمعرفة الذات، والتضحية بما هو مادي حِسّي للاطّلاع على الأسرار العقلية أو الرُّوحيّة.
والروحانية الهِرمسيّة الإغريقية تلحظ في مفهوم “خلاص الرُّوح” تصوُّرَ موت رمزي للمُتَهيِّئ روحيّاً، بالنأي عن كلّ ما سبق من معتقدات فاسدة وملذّات حِسّية، والولادة من جديد تنعُّماً بأنوار العقل المقدَّس.
و”العقلُ المقدَّس” هو سيّد العوالم، والمُعيِن الذي يساعد النفس البشرية على التحرُّر من أشراك الجسد المادي، ويجعلها تستنير بنور العرفان. و”المعلِّم الرُّوحي” العظيم الذي يُنير النفس بأنوار العقل المقدّسة، هو تجسُّد لهذا العقل العُلوي، الذي يحتوي على “البذور العقليّة” لكلِّ ما هو موجود ومخلوق (تماماً كما في فكر أفلاطون، وما ردّده لاحقاً سبينوزا). فكلّ ما في الكون هو تبدٍّ لهذا العقل.
وجاء في النصوص الهِرمسيّة: “خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثبات. وجوهرُ الكون هو النظام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة”.

اسحق نيوتن تأثر بقوة بالكتابات الهرمسية
اسحق نيوتن تأثر بقوة بالكتابات الهرمسية

«إذا ما كانت لك القدرة على أنْ ترى بعينَيّ العقل، عندها يا بُنيِّ، سيتراءى الإلهُ الواحد لك. فالمولى يتجلَّى في الكون، ويمكنك أن ترى صورتَه بعينيك».
(النصوص الهِرمسيّة -الفصل الخامس)

الهِرمسيّة الصُّوفيّة العرفانيّة
إذاً، الهِرمسيّة هي عُرفانية لأنّها ترى إمكانية معرفة الإله الواحد بالاتحاد مع “العقل العُلوي”، وتلقِّي لطافة نور منه تُحقِّق استنارة داخليّة أو “عُرفاناً”. لكن ما لم يتّضح في الهِرمسيّة الإغريقية وهو مسألة التّضادّ أو وجود “وسيط الشر” (Evil Demiurge)، سيتّضِح فيما بعد في “العرفانيّة الأفلوطينية”، فكلّ الخلق خيرٌ وجمال، وإنّما يعود الأمر إلى خيار الفرد وطبيعته وخضوعه لأهوائه وجهله بالميل إلى هذا التضادّ.
وكان كليمُنت الإسكندري على قناعة بأنّ المِصريّين القدماء كانت لديهم اثنتان وأربعون صحيفة مقدّسة تعود إلى هِرمس. وممّا يُلفت الانتباه أنّ المِصريّين كانوا يُقسِّمون بلاد الكنانة إلى اثنين وأربعين إقليماً!
وفي هذا يقول الباحث البريطاني فريدريك غرين (1992) إنّ ثمةَ رابطاً بين الحكمة المِصريّة “الهِرمسيّة “والتعاليم المسيحية والفكر الإسلامي في القرون الوسطى من ناحية العلاقة بين المعرفة العقلانيّة والإلهام والوحي”.
وهذا يكشف دخول المفاهيم الهِرمسيّة إلى أوروبا بعدما نشرتها الترجمات العربيّة، وقد نُقِلَت نصوص هِرمسيّة من العربيّة إلى العديد من اللغات الأوروبية، بدءاً من اللاتينية وصولاً إلى الإنكليزية وتحديداً على يد العالِم الكبير إسحق نيوتن، الذي اعترف بفضل الهرمسية على انطلاقته العلميّة.

الهرمسيّة اعتبرت الإنسان كائنا مقدسا لأن فيه روح الله
الهرمسيّة اعتبرت الإنسان كائنا مقدسا لأن فيه روح الله

الهِرمسيّات والتّهرمُس في الإسلام
كتبَ المستشرقُ لوي ماسينيون أنّ أهل الكوفة “ اطّلعوا على نصوصٍ هِرمِسيّة” وكذلك أهل البصرة، في إشارة إلى علوم وفلسفة “إخوان الصفاء”، في حين أنّ الفيلسوف هنري كوربن (Henry Corbin) تحدّث عن “التّهرمُس” في الإسلام، وأنّ الإسلام “عرفَ الهِرمسيّة قبل أن يعرف قياس أرسطو وماورائياته”.
ولفتَ الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى تأثير الهِرمسيات على التصوُّف الإسلامي وذلك من طريق ذي النون المصري (المتوفى عام 859 ميلادي) والذي شُهِرَ عنه انشغاله بالكيمياء أو الخيمياء الهِرمسية.
ويتحدّث معظم المؤرّخين العرب القدامى عن هِرمِس بأنّه نبي الله إدريس، وأنّه المذكور في التوراة باسم أخنوخ، وأنّه هو الذي بنى الأهرامات. ونجد تأثير الهِرمسيّة على التصوُّف الإسلامي في ما يُسمَّى “رسالة هِرمس في زجر النفس”، المعروفة ضمن إرث الأفلاطونية المُحْدَثة، وهي عبارة عن مناجاة للنفس وتأنيبها ودعوتها للتطهُّر والتقديس، أشبه بمناجاة الصّوفيّة وأشعارها، ونلمس مدى هذا التأثير أيضاً في كتاب “في مسالك العرفان على خطى هِرمس الهرامسة” للمعلّم كمال جنبلاط.
ويشير الباحث البروفيسور تشارلز بورنيت في هذا الصّدد إلى أنّ النصوص اللاتينيّة الأولى حول الخيمياء تمّت ترجمتها من العربيّة إلى اللاتينيّة في القرن الثاني عشر، في كتابَين كما وُجِدَت نصوص خيميائية باللغتين العربيّة واللاتينية تحمل كتابات ورموزاً سرّية. وبذلك تكون النصوص الهِرمسيّة بانتقالها عبر الفكر الفلسفي الصُّوفي العربي وانتشار أصداء هذه التعاليم في أوروبا وراء انطلاق “عصر النهضة”، أكثر من التأثير الذي أحدثه سقوط القسطنطينيّة وانتقال علمائها إلى أوروبا.
وعظمة هِرمِس أقرَّ بها أساطينُ النهضة الأوروبية أمثال: إسحق نيوتن، وكوبرنيكوس، وروجر بايكون، وليوناردو دافنشي، وكذلك توماس مور، ووليم بلايك، وحتى شكسبير، وجميع قادة الإصلاح الديني، وعالِم النفس الشهير كارل يونغ. وأينما حَلّت الهِرمسيّة ومهما كانت حِلَّتُها، تطوّرت العلوم وازدهرت الثقافة والحضارة، من مكتبة الإسكندرية إلى حرّان، وثابت بن قُرّة وقومه الصابئة الذين اعتبروا هذه النصوص كتاباً مقدّساً مُنزَلاً؛ هي صحف هِرمس، وصولاً إلى بيت الحكمة في بغداد، ودار الحكمة في القاهرة، ومن ثم إلى قلب أوروبا إلى أحضان العُرفانييّن في فلورنسا حيث انطلقت شرارة النّهضة الأوروبيّة بفضل العقلانيّة الهِرمِسيّة.

مثل هرمس اهتم فيثاغورس كثيرا بقوانين الفيزياء والطبيعة
مثل هرمس اهتم فيثاغورس كثيرا بقوانين الفيزياء والطبيعة

تسبيح من هِرمِس المثلّث العظَمة
“وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ .لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل.”

الوجه الإنساني للتجلّي الإلهي
وجاء الفكرُ الإغريقي في الإسكندرية ومصر ليُعيد “الوجه الإنساني الهِرمسيّ الأصيل” للتجلّي الإلهي، وهنا يشير الباحث “ميد” الذي قام بترجمة النصوص الهِرمسيّة من اللاتينية إلى الإنكليزية، إلى أنّ الفكر الهِرمِسيّ المُتَنَاقل عبر الأجيال إنّما يُبجِّل جمالَ وكمالَ الهيئة البشرية أو الصورة البشريّة.
وتحثّ النصوص الهرمسية على لسان هِرمس متحدِّثاً إلى تلميذه تات Tat)، على التفكُّر في الخلق الإلهي؛ في الشمس والقمر والنجوم، والنظام الذي يعمّ الكون، والسّماوات والبحار والأفلاك الدوّارة، وفي خلق الإنسان في الرحم، كلّ هذا يدلّ على وجود صانعٍ خالقٍ مُدبِّرٍ، “هو الإلهُ الواحد فوق كلّ الأسماء، غير المتجلِّي، ومع ذلك يتجلّى ويتراءى للعقل” المتيقّن (المقاطع 3، 5، 6، 10 من الفصل الخامس).
وتؤكّد النصوص بنَفَسٍ توحيديٍّ، ولو غشّاه وشاحٌ من الغموض التأمُّلي، أنّ الإلهَ الواحد “ثابتٌ صَمَدٌ، ومع ذلك هو أصل الحركة ذاتها. لا يشوبُه نقص. هو الباقي دوماً، هو الخالد أبداً. هو الحقّ كما أنّه المُطلق الأكمل الأسمى. لا تُدرِكه الحواس. ولا تُدرِكُه المعرفةُ مهما عَظُمَت”.
ويبتهلُ هِرمس إلى الإله الواحد قائلاً في تسبيحٍ صوفي عُرفاني: “وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ … لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل..!”
بيدَ أنّ هذا العرفان الذي نعِمَت به مِصْر في أدوارٍ من التاريخ، كان له في كلّ دورٍ نهاية مؤسِفَة. ففي النصوص الهِرمسيّة “نبوءةٌ” مُحزِنَة، فمصر “الحبيبة التي كانت مقرّاً للرُّوحانيات، سيأتي زمنٌ لا يسعى أحدٌ فيها إلى الحكمة، وسيسود الجهل، وستصبح مُوحِشَة، وسيغيب عنها الإله.

حــــوار حــــول حقيقــــة الكــــــون
بين هِرْمِس وتلميذه أشقلبيوس

الله ليس العقل بل مُعِلّ العقل وهو الخير٫ والخير يعطي الأشياء كلَّها ولا يأخذ منها

في ما يلي نبذة من النصوص الهِرمسيّة تمثّل حواراً بين هِرمس مُثلّث العَظَمَة وتلميذه أشقلبيوس:
هِرمس: كلّ ما هو متحرّك يا أشقلبيوس، أَلا يتحرّك بواسطة شيء آخر؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وألا يجب أن يكون ذاك الذي يُحرِّك، أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: لا بدّ أن يكون كذلك.
هِرمس: والمُحرِّك هذا، أليسَ له قوة أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: بالطّبع.
هِرمس: أضِفْ إلى ذلك، إنّ طبيعة الوسط الذي يتحرّك فيه المُتحرِّك، أليست مختلفة تماماً عن طبيعته؟
أشقلبيوس: حتماً، مختلفة بالكامل.
هِرمس: أليسَ هذا الكون شاسعاً حيث لا يُضاهيه في الاتساع جسمٌ أعظم؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وهائل أيضاً إذ إنّه يكتظ ويزخر بأنظمة عظمى أخرى في داخله.
أشقلبيوس: إنّه كذلك.
هِرمس: ومع ذلك، فإنّ الكون جسم.
أشقلبيوس: نعم، إنّه جسم.
هِرمس: وهو جسمٌ متحرّك.
أشقلبيوس: بكلّ تأكيد.
هرمس: فبأي حجم ينبغي أن يكون الفضاء الذي يتحرّك فيه وبأي طبيعة، ألا ينبغي أن يكون أكثر اتّساعاً (من الكون) كيما يفسح مجالاً للحركة المستدامة،
ولا يقيّد المُتحرِّك فيفقده حركته؟
أشقلبيوس: أجل أيُّها المُعظَّم، وأضخم اتّساعاً.
هرمس: وأي طبيعة له، ألا ينبغي يا أشقلبيوس أن تكون نقيضة تماماً، أليسَ نقيض الجسد ما هو غير مجسَّد؟
أشقلبيوس: موافق على هذا.
هرمس: الفضاء إذاً غير مجسَّد… وأكثر من ذلك، كلّ ما هو مُتحرِّك فإنّما يتحرّك بالثابت، وذاك الذي يُحرِّك هو بالطبع ثابت مستقر من المحال أن يتحرّك.
أشقلبيوس: فكيف إذاً، يا مُثلّث العَظَمَة، تتحرّك الأشياء هنا في الأسفل من قِبَل متحرّكات أخرى؟ إذْ إنّك قد قلت إنّ الأفلاك المتحرّكة تُحرِّكها الأفلاك الثابتة.
هرمس: هذا ليس تحريكاً من قِبَلها يا أشقلبيوس، بل تحرّك تجاه بعضها البعض، إنّه هذا التضاد، هو الذي يُحوِّل مقاومة حركتها إلى استقرار، حيث إنّ تلك المقاومة هي استقرار للحركة. وهنا أيضاً فإنّ الأفلاك المتحرّكة لكونها تتحرّك معاكسة للأفلاك الثابتة، فإنّها تتحرّك معاكسة لبعضها البعض، بشكلٍ متبادَل غير التضادّ عينه. ومجموعات الدّبَبَة في السماء (الدب الأكبر والدب الأصغر) والتي لا تطلع ولا تغيب، ما تظنُّ بها، هل تستقرّ أم تتحرّك؟
أشقلبيوس: إنّها تتحرّك يا مُثلّث العَظَمَة.
هرمس: وما هي حركتها يا أشقلبيوس؟
أشقلبيوس: تلك الحركة التي تلتف دائرة إلى الأبد.
هرمس: لكنّ الدوران، الحركة الدائرية حول محور واحد، هو ثابت بالاستقرار،
إذ إنّ الدوران حول محور واحد يُوقِف الحركة التي تتجاوز هذا المحور، فتصبح ثابتة، والعكس يبقى راسخاً أيضاً بفعل التضاد أيضاً. وسأضرب لكَ مثلاً هنا على الأرض ممّا تشاهده العين، رجلٌ يسبح، الماء يتدفّق ومع ذلك فإنّ مقاومة يديه وقدميه تُعطيه ثباتاً، فلا هو ينجرف معها ولا هو يغرق أيضاً.
أشقلبيوس: لقد قدّمت مِثالاً جَلِيّاًّ، لكن أيُّها المُعظَّم؛ ماذا نُسمِّي إذاً الحيّز الذي يتحرّك فيه الكلّ؟
هِرمس: “غير المجسَّد” يا أشقلبيوس.
أشقلبيوس: وما هو الإله إذاً؟
هِرمس: ليس هو كذلك، إنّما هو مُعِلٌّ لكلّ تلك الأشياء، ومُسبِّب وجودها، وليس ثمّةَ وجود من دونه.
أشقلبيوس: فماذا تقول عن الإله؟
هِرمس: الله إذاً ليس العقل؛ بل مُعِلّ العقل، وليس هو الرُّوح بل مُعِلّها، وليس هو النُّور إنّما هو مُعِلّ النور، لذا يجب أن نُمجِّد الله بهذَين الاسمين: الخير والأب، اسمين يختصّان به وحده وحسب. فليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده. وتبرز عَظَمة الخير الكبرى كمُوجِد للموجودات، المُجسَّدة وغير المُجسَّدة منها، المحسوسة والمُدرَكة، فلا تدعُ خيراً بعد الآن سوى الله؛ وإلا ستكون جحوداً، ليس ثمّةَ شيء يُدعَى خيراً في أي وقت كان سوى الله وحده، ادْعُهُ خيراً، ولن تكون جاحداً به أبداً بعد اليوم.
ورغمَ أنّ الجميع ينطِقون بالخير فإنّهم لا يفهمونه، وبذلك فَهُم لا يفهمون الله لجهلهم الخير وعجزهم عنه، إنّهم يختلفون تماماً عن الله، فيما الخير لا يتميّز عنه أبداً. لذلك فإنّ طبيعة الإله والخير واحدة. الخير هو الذي يُعطي الأشياء كلّها ولا يأخذ منها. والله إذاً هو الذي يعطيها ولا يأخذ أيضاً، فالله هو الخير والخير هو الله.

العدد 16