الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

خلف الزيد

من ذاكرة الجبل

خلف الزّيد بطل الصّحراء وفارسها
تحدّى بني معروف الدّروز فأنقذوا حياتَه

حكايةٌ عن حروب القبائل وشِعرِها وتقاليدِها
وكيف اعترف أكبرُ فرسانها بفضل بني معروف

ينتمي خلف الزّيد إلى عائلة الزّيد من آل الشعلان أمراء قبيلة الرّوَلَة من قبيلة عَنَزَة الكبرى وكانت مواطنهم شتاءً في بَوادي الحماد وكانوا في تَرحالهم يعبرون الحدود العراقيّة والأردنيّة فيوغلون داخل الحدود السّعودية ليصلوا حدود الجَوف وصحراء النّفود ونجد وجنوب العراق، ولكنّهم كانوا يَفدون إلى بلاد الشّام في شهر أيّار من كلّ عام لترعى مواشيهم في السّهول التي يتمّ حصاد زروعها ولكي يحصلوا على مَؤونة الشّتاء من حبوب وغيرها، وفي ذلك الزّمن من العهد العثمانيّ لم يكن من حدود سياسيّة بين البدان العربيّة، إذ يكفي أنّ يرضى الباشا العثمانيّ في الشّام وتُدفع له الإتاوة لتدخل القبيلة إلى أيّة جهة شاءت.
يقول الرّحالة بركهاردت، المكلّف من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب والذي زار بلاد الشّام في مطلع القرن التّاسع عشر أنّ أرض حوران كانت تتغطّى “بأرجال من بدو الصّحراء ويظلّون هناك حتّى أيلول وهم على الإطلاق من قبيلة عَنَزة ( الرّوَلة)… وعندما تصل عَنَزة فإنّ البدو المقيمين (أي بدو البلاد) وقد يحدث أنّ يكونوا على خلاف مع عنزة فيلوذون بالنّواحي الغربيّة من الجبل (جبل حوران)، أو الصّفاه ( بادية حجريّة شمال شرق الجبل) أو يتراجعون إلى الصّنمين والمزيريب في غرب سهل حوران حيث كانت هناك قوّة عثمانية يحتمون بها.
كانت قبيلة خلف الزّيد مرهوبة الجانب وواحدة من أقوى القبائل البدويّة وأشدّها بأساً وكانت تفرض هيبتها في المناطق التي تحل بها فيضطرّ الفلّاحون وبدو الدّيرة لدفع الخوّات لشيوخها وفي حال المخالفة فهم عرضة للنّهب وقد يصل الأمر إلى سَبي النّساء، “يذكر ذلك أحمد وصفي زكريّا في كتابه “عشائر الشّام ص 247”…
كانت عائلة آل نايف من عشيرة الشّعلان هي عائلة الرّئاسة في الرّوَلة، أمّا عائلة أبناء عمّهم آل زيد التي منها خلف فتأتي بعدها مرتبة، لكنّ خلف كان يشعر بتميّزه في الفروسيّة وصواب الرّاي في حروب القبيلة في تلك السنين البعيدة من عشيّة القرن التّاسع عشر، حيث كانت الأرياف والبوادي البعيدة عن العواصم تعيش أسوأ أيامها لشيوع الغزو وتقاليد النّهب والسّلب يمارسها الأقوياء على الضّعفاء.
ذلك الشّعور بالتّميّز والإحساس بالقوّة دفع بخلف أكثر من مرّة إلى تحدّي أبناء عمّه أهل الإمارة الوراثيّة المُتعارف عليها في القبيلة، فقد غضب مرّة من شيخ القبيله ابن عمّه هزّاع الشعلان ــ وكنيته أبو فهد ــ لخلاف نشب بينهما فجاء إليه مُتَقلّداً سيفه مُمْتَطياً فرسه وعَيّره بعيب خلقي في شخصيّته وخاطبه (شعراً) بصلف دون أن يترجّل، فلم يجرؤ ابن عمّه الشّيخ هزّاع على تحدّيه وسكت على الإهانة.
وعلى هذا فإنّ الآخرين من مشايخ آل شعلان الذين عاصرهم خلف توارثوا الحقد عليه على الرّغم من حاجتهم الماسّة إلى فروسيّته في معارك الرّوَلة، فأوامرهم التي تسري على عموم القبيلة لا يقدرون على تنفيذها عليه، إذ لا يجرؤ أحد منهم ولا من سواهم على تحدّيه، وهو على شجاعته يلتفّ حوله فريق من بني عمّه الأقربين آل زيد وهم فرسان أبطال يحبّونه ويذخرونه للملمّات، وكان من طبعه في معارك القبيلة وغزواتها أنّه لا يقتل إلاّ الفارس الذي له شهرة وموقع في قومه حتى قيل أنّه قتل تسعة شيوخ فرسان من أبرز شيوخ القبائل البدويّة التي اشتبكت مع قبيلته، ولهذا فإنّه إذا لُفظ اسمه في الدّواوين والمضافات أضافوا إليه “أبو الشيوخ”.

صورة-نادرة-لخلف-الزيد-مع-حصانه
صورة-نادرة-لخلف-الزيد-مع-حصانه

قَتْلُهُ تركي بن مْهيد شَيخ قبيلة الفِدْعان
كان تركي بن مهيد شيخ قبيلة الفدعان فارساً من أشجع الرّجال، شاعراً كريماً بلا حساب حتى لقّبه أهل عصره بـ “مْصَوِّت بالعَشا”، لأنّ له في كلّ مساء على موعد العشاء وليمة مفتوحة حيث يأمر أحد رجاله فيرقى مرتفعاً من الأرض ثمّ يرفع صوته مُنادياً :”من كان يريد العشاء فليتفضّل” وكان تركي قد أغار على إبل لآل الزّيد من الشّعلان ونهبها وهم غائبون عنها. كانت تلك الإبل الوُضْح التي تتّصف ببياض لونها في بلاد نجد تسمّى بـ “العُلِي” تمييزاً لها عما سواها.
تأثّرت قبيلة الرّوَلة لهذا الأمر، لكنّ زعيمها الشيخ سطّام الشّعلان لم يَرِد حسم الأمر بالقتال وكان يفضّل مفاوضة تركي بن مهيد وحلّ المسألة معه سلماً بلا قتال لكون تركي، أخاً لزوجته تركيّة بنت مهيد، غير أنّ تركي رفض عروض التّسوية التي قدّمها سطّام، وتصعّد التأزّم بين القبيلتين وأصرّ خلف وآل الزّيد على الثّأر من عدوان تركي على إبلهم وأيّدتهم أخيراً قبيلة الرّوَلَة وقبل سطّام على مضض أن يشارك في غزوة الثأر من تركي مخافة أن يقود القبيلة بدلاً منه ابن عمه النّوري بن شعلان المتربّص للوصول إلى رئاسة الرّوَلَة، وفي ذلك إنقاص من قدره كشيخ للقبيلة.
ويذكر محمّد بن أحمد السّديري كاتب سيرة خلف أنّه عندما حصل هجوم الشّعلان وقبائل الرّوَلة على قبيلة الفدعان وظهرت كراديس الخيل وفي مقدمتهم آل شعلان وأوّلهم النّوري بن هزّاع وخلف الزّيد أبو الشيوخ وحصلت المعركة وحمي الوطيس كانتركي يلبس درعاً وخوذة وقد وقف في الميدان موقف الأبطال وعجز الفرسان أن يتغلّبوا عليه. كان خلف قد تنحّى جانباً بجواده المسمّاة “خلفة” على تلّة مشرفة على المَيْدان يرقب، وما أن لاحظ عجز الفرسان عن قهر تركي حتى أغار عليه واختطفه من على ظهر جواده وترجّل به على الأرض وضربه بسيفه المسمّى (شامان) على أنفه فأطاره، وقيل أنه احتزّ رأسه بسكّينه، وروى آخرون أنه تركه مرميّاً وراح يطارد بقيّة الفرسان وقال لمن حوله من فرسان الرّوَلَة إنّ هذا تركي بن مهيد وقصْدُه أنْ يحرّض من كان حاقداً عليه على قتله، وتداعى فرسان الرّوَلَة على تركي وقتلوه وكان ذلك اليوم خسارة كبرى لقبيلة الفدعان إذ فقدوا جميع أرزاقهم واستردّ الرّوَلَة الإبل العُلِي.

الأخت تحاول الثّأر لأخيها
كان قتل تركي بن مهيد بتلك الصّورة المُهينة شديد الوقع على قلب شقيقته تركيّة زوجة سطّام الشعلان شيخ القبيلة الكبرى؛ الرّوَلة، قبيلة خلف، فأخذت تتحيّن الفرص لقتله، وجاءها من نصحها بقتله خِفْية بالسّم، لكنّها أبت واعتبرت أنّ الكرام ينأون بأنفسهم عن مثل ذلك الفعل، غير أنّها صمّمت على أمر لا يقدم عليه إلّا أشدّ الرّجال عزيمة. كانت تعرف كراهية آل شعلان المُضْمَرة لابن عمهم خلف، فهو صلف، وكثيراً ما يعصى أوامرهم مع أنّهم رؤساء القبيلة، وقد سوّلت لها نفسها معتمدة على هذا الإحساس أن تقرّر قتله مواجهة.
في ضحوة أحد الأيّام قَدِم خلف لتناول القهوة في ديوان الشّيخ سطام حيث مُلتقى نخبة القوم، فما كان من تركيّة التي حشت بَكَرة مسدّسها بالرّصاص إلّا أن برزت من المَحرم وتوجهّت إلى حيث يجتمع الرّجال في ديوان الشّيخ ونهرت العبد قبل أن يسكب القهوة لخلف فتنحّى جانباً، ووجّهت فوّهة مسدّسها إلى وجه خلف قائلة له:”أخَلَف، ما تذكر دم تركي اللّي ببطنك؟ خُذْ” وأطلقت الرّصاصة الأولى نحوه، فلم تُصبه أمّا هو فلم يرفَّ له جَفن بل قال لها بعدم اكتراث:
تْخَسِينْ.
فكالت له رصاصة ثانية أخطأته.
فقال لها :تْخَسِين. وهكذا إلى أن أفرغت رصاصات مسدّسها.
بعدها رمت المسدّس بوجهه وارتدّت باكية.
أما خلف فنهض من مجلس شيخه وركب فرسه عائداً إلى فريقه يغتلي غيظاً من تواطؤ ابن عمه الشيخ سطّام الذي لم يحرّك ساكنا بوجه زوجته…

حلف دروز الجبل مع قبائل جنوب سورية
ولمّا كانت قبيلة الرّْوَلَة الصّحراوية واحدة من أقوى القبائل البدويّة في شمال شبه الجزيرة العربية، فقد كانت وهي في سبيلها للمَقيظ في سهل حوران وجنوب دمشق تخلق حالة من الاضطراب والتشوّش في الدّيار التي تحل فيها ويصفون زحفها على أنّه “كالجراد المنتشر انتشاراً رائعاً يستحق النظر والتصوير…”.
وكان البدو من أبناء الصّحراء لا يعبأون بممتلكات الفلّاح أو بمزروعاته، وغالباً ما كانت تحدث مواجهات بينهم وبين الفلاحين وبدو الدّيرة الأقل قوة منهم فيعتدون عليهم وعلى الممتلكات والحرمات. في ذلك الوقت كان شبلي الأطرش شيخ مشايخ بني معروف في عصره قد أسكن أخاه سعيد القوي الشّكيمة والمهاب في قرية ذيبين قرب بصرى ، تلك القرية التي تقع في أقصى جنوب غرب جبل الدروز كما كان يدعى آنذاك ممّا يلي منطقة دخول الرّوَلة إلى سهل حوران وجنوب دمشق لمنع أذاهم عن الموحّدين، ومن جانب آخر عقد شبلي حلفاً مع قبائل منطقة بادية الأردن تلك المنطقة التي تمتد من جنوب سهل حوران إلى شمال الحجاز، ومن قبائلها بني صخر والسّردية والعيسى وغيرهم.
وقد تسبب هذا الحلف بمضايقة للرّوَلة الذين لم يسبق لهم أن واجهوا مقاومة تحدّ من حركتهم في رحلة الصّيف التي تعوّدوها إلى الشام من قبل. كان الولاة العثمانيّون يتّخذون من الخلاف بين أبناء جبل حوران وسهله ذريعة لشنّ سلسلة من الحملات العسكريّة على الجبل فكانوا بذلك يشغلون بني معروف الموحّدين بتلك الحملات ويستنزفونهم فتطمع بهم وبديارهم القبائل البدويّة الآتية من الصحراء كالرّوَلة وغيرهم من الغُزاة …
وقد وجد شيخ قبيلة الرّوَلة سَطّام بن شعلان في انشغال بني معروف بحرب العثمانيّين فرصة مناسبة للزّحف بقبيلته على بني صخر ومن والاهم في منطقة البلقاء في شمال الأردن جنوبي سهل حوران بحجة نهبهم جِمالاً تعود لأحد عبيد الشّيخ الشّعلاني يُدعى (النّيص)، ورغم الجفوة الموروثة ما بين خلف وأبناء عمّه المشايخ من آل شعلان فإنّه أظهر تعطّشاً للحرب باعتبارها فرصة له للتّعبير عن فروسيته في تلك الغزوة الانتقامية على بني صخر وحلفهم والذين كان يكنّ لهم العداوة. ويذكر محمّد أحمد السّديري في ص 210 من كتابه “أبطال من الصّحراء”، أنّه حصلت معركة هُزم فيها بنو صخر وشُرّدوا عن بلادهم وبعضهم هرب إلى جهات غَوْر الأردنّ وفي تلك المعركة قَتَل خلف الزّيد (الملقّب بالأذن) عدداً من مشايخ بني صخر ومنهم الشّيخ طَه والشّيخ مناور والشّيخ سَطعان وقد امتدح في تلك القصيدة ابن عمّه اللّدود الشّيخ سطّام “رغم ما كان بينهما من الجفوة، ولكنّه كان راضياً عنه، لأنّه شفى غليله من أعدائه آل فايز وآل زبن رؤساء بني صخر” وفي تلك القصيدة يصف المعركة ويعرّض بالحلف بين شبلي الأطرش وبين طراد بن زبن شيخ بني صخر فيقول:
عيّـــا الفَـهد ما كلّ الأشـــوارْ طاعَهْ
قَصّــــار مـــــــــــــن شــارب خَصيمه ليا زاد
مــــــــن صـــافي البالود فيه القَطاعــــــه
مِفـــــــــــــــراص بــولاد الدّول هــم والاكــــــــــراد
ســَمْحــــــان زاع وْســَمّحَ اللهْ مَزاعــه
قـــوطر يِـــــــــــــهِزِّ الرّيـــــــــــش مــن غير قَوَّاد
بين الفْدِيْنْ وبينْ بُصــــرى مِزاعَــــهْ
غَصْبٍ على شِــْبلي وعَنْفٍ عن طْراد
وقطعانهم صارت لِربعــــــي طماعـهْ
وقـــمْنـا نْـــــــــــعزّل بـــــــــــيننا شُــقْح الاذْواد
كم سابــــقٍ جــــتنا بــــــــالأيدي قْلاعـــه
وكمْ راسْ شيخٍ طــــــــــاح بسيوف الاولاد

وقد أسكره ذلك النّصر المؤزّر على بني صخر مع أنّه لم يُنكر عليهم شجاعتهم ولكنّه عيَّرَهم بالبَوق والغدر وسَخِر من جَدَّيْهم الوَلِيَّيْن : فرج وأسعد، اللّذين كانوا يتباركون بهما ويعقرون الذّبائح والنّذور على قبريهما ومع ذلك فلم يحمياهم من بطش خلف وقبيلته على الرّغم من استنصارهم بهما. يقول خلف:
يــا رْميــحْ لولا البـوق ما انتــمْ رَديّـين بـــْذبـــحِ الـعديـــــــم وصـــبّـــــــــــكم للإدامِ
بِـنْيِت بيـــوت الحــــــــــــــرب حدِّ اللّبـــابين وشُـــقْحٍ تنـازى بالمشـاتي مَظـــــامي
يـا ذيب صوّت للنّســـور المْجيــعيــن اِرْعَ الشّـــــــيوخ مْجَدّعَـــة بالكــــــــــــــــَزامِ
وْفَــرج مع اَسعد لايَعُوْهم شـــياطين ويــارْميح حـــظّ اجدودكم بانْـخدامِ
جــــــــــــوْكــم هَــلِ العليا عْيــال الشَّــعالين فوق المَهارى مْثَـــوْرات العَسامي

الشيخ-نوري-تسلم-زعامة--الشعلان-بعد-مقتل-زعيمها-المحبوب-تركي-ويظهر-هنا--حملا-وسام-الدولة-الفرنسية
الشيخ-نوري-تسلم-زعامة–الشعلان-بعد-مقتل-زعيمها-المحبوب-تركي-ويظهر-هنا–حملا-وسام-الدولة-الفرنسية

الحَرب تَلِدُ الحَرب
كانت هذه الواقعة فاتحة عراك متواصل بين الرّوَلة وقبائل بادية الأردن وفي طليعتهم بنو صخر، وأخذ الشّيخ طراد بن زبن وشيوخ حِلْفِه يترصّدون خَلف وقبيلته ليأخذوا بثأرهم منهم وكان من عادة الشّعلان إذا ارتحلوا رحلتهم الصّيفية إلى الدّيار السّورية لا يسيرون مجتمعين لكثرتهم الكاثرة إذ كان أهل عصرهم يلقّبونهم بـ “دود الكَرْش” لكثافة جموعهم، بل كلّ عائلة منهم يكون معهم فريق من قبيلة الرّوَلَة وكان من عاداتهم أنّ أوّل من يتقدّم بالمسيرة فيهم آل مِجْوَل ومعهم فريق، ثمّ عائلة المشهور ومعهم فريق، ثمّ عائلة آل نايف الرّؤساء ومعهم فريق ثمّ عائلة آل زيد عائلة خلف ومعهم فريق، وكان شيوخ بني صخر وكبيرهم الشّيخ طراد بن زبن لايكفّون في كلّ عام عن ترقّب عبور الرْوَلَة لديارهم باتّجاه الشّام لأخذ الثّأر من خلف وقومه.
موقعة ميقوع
في موقع يقال له آبار ميقوع في منطقة وادي السّرحان على طريق الرّوَلَة إلى سوريّة كَمَنَ الشّيخ طراد بن زبن ومعه عدد من شيوخ بني صخر وفرسانهم ومنهم شلاش بن فايز الشّيخ الشّجاع المقدام الملقّب بالضّمّان لأنّه كان يضمن إبل ومواشي قبيلته من أنْ ينالها عدوّ لهم وقد استنجد طراد حينها بفرسان قبيلة السّرديّة يقودهم شيخهم الجنق.
عندما اقتربت الرّوَلة من الماء المذكور وكانت الإبل قد سبقتهم لتشرب وكان الشّيخ خلف على أثرها بالظّعينة حماية للنّساء يرافقه أبناء عمّه آل زيد ومن يتبعهم من القبيلة وكان كلّ واحد منهم راكباً على هجينه مُسْتجْنِباً جواده وهذا تقليد عربي قديم لكي لا يتعب الجواد في مسير الصّحراء الطّويل وكي يظلّ جاهزاً لساعة القتال الذي قد يكون كامناً وراء الكثبان.
كان الرجال آمنين وهم يتقدّمون الظّعائن فشاهدوا نَسراً قَشعماً (هرماً) وقد حطّ على الأرض، وعندما قربوا منه راح يدرج مُتعَباً وكان في حاله تلك لا يقوى على الطّيران لشدّة جوعه، فالتفت إليه خلف وقال كم أتمنّى لو تكون معركة قرب هذا النَّسر المُنهك ليعتاش من القتلى وليطير. ضحك رفاقه لأمنيته تلك … لم تمضِ دقائق على أمنية خلف المشؤومة وقد أشرفوا على آبار ميقوع وإذ بِخَيْل طراد وحِلْفِه تلتفّ على إبلهم وتسوقها غنيمة، فما كان منهم إلّا أن تَرَجَّلوا عن هِجْنِهِم ولبسوا دروعهم وركبوا سراعاً على خيولهم ولحقوا بالفرسان الذين نهبوا الإبل واتّضح لهم أنّ غرماءهم هم أعداؤهم بالأمس؛ حِلْفُ بني صخر والسّرديّة والعيسى المشهورين بعداوتهم لهم…
كانت موقعة قاسية حَميَ وطيسُها، وبعد عَناء طويل خلّص الشّعلان إبلهم من خصومهم، ومَضَوا يطاردونهم، فقتل خلف الشّيخ شلاش ثمّ قتل الشَّيخ الجنق أما الشّيخ طراد فقد نجا لأنّ جواده كان سريعاً جدّاً فلاذ بالفرار، وعجز الشّعلان عن اللّحاق به وقد غنموا خيولاً كثيرة وانتصروا على بني صخر وأعوانهم.

هزيمة الرّْوَلة في موقعة المناخ
ظلّ الشيخ طراد بن زبن مُصِرّاً على موقفه العدائي من الرّْوَلة إذ هم لم يتمكّنوا من سحق مقاومته التي لم تَهُنْ ضدّهم؛ وفي هذه الموقعة نجح طراد في ضمّ قبيلة الشرارات إلى حلفه الواسع، ويذكر أحمد وصفي زكريّا في كتابه عشائر الشّام ص 371 أنّ الزّبن من بني صخر كالوا الصّاع لسطّام الشّعلان “ وغنموا منه غنائم جمّة “. ففي تلك المعركة الحامية أناخ المتقاتلون جمالهم وتفرّغوا لقتال مستميت مميت، ومن هنا لاتزال تلك البقعة من الأرض التي تقع جنوب قرية ذيبين بعدّة كيلومترات تحمل اسم “المناخ” إلى يومنا هذا، ووفي ذلك اليوم المشؤوم على الرّوَلة كَثُر القتلى من الفريقين على أديم الأرض، وسقط خلف الزّيد، فارس الشّعلان بل الرّْوَلة بأسرهم من على جواده وقد أصيب بكسر في فخذه. وفيها تمكن ذلك الحلف الواسع من القبائل البدوية المتضرّرة بصولات الرّوَلَة من إلحاق الهزيمة بتلك القبيلة الباطشة التي طالما أرهبت الحواضر والبوادي في بلاد الشام.
هرب الرجال من حول خلف وتركوه كسيراً على أرض المعركة، ولو لم يتيسّر رجال من بني معروف الدروز نقلوه إلى قرية عنز إحدى قرى الموحّدين الذين سبق له أن تحدّى شيخهم شبلي الأطرش لأكلته الضّبعة العرجاء التي سبق له أن جعل من غريمه الجَنق شيخ السّرديّة عشاء لها…
كانت قرية عنز وشيخها آنذاك الأمير حسين الأطرش المعروف بكرمه وسعة اطّلاعه على أحوال مجتمع المنطقة المحيطة بالجبل وأنساب القبائل والعشائر وله علاقات واسعة بأهل البداوة بحكم شخصيته الاجتماعية المرموقة وموقع قريته على تخوم البادية التي تفضي إلى الصحراء العربية. هناك في حمى الأمير حسين عولج كسر خلف الزّيد وبدأ يتماثل للشّفاء تدريجاً وكانت مضافة الأمير في ذلك العصر مقصداً يؤمه الوجهاء وأهل الرّأي في القرية وسائر حواضر الجبل، والضّيوف والتّجّار من كلّ حدب وصوب لقضاء حوائجهم أو حلّ مشاكلهم؛ إذ ما من فنادق في تلك الدّيار آنذاك وإلى يومنا هذا. وفي المساء يحلو السّمَر وأحاديث سوالف الزّمن الماضي وحكاياته وكان في ذلك تسلية ومتعة للفارس الذي بدأ يملّ الثّواء على فراش الكسير.
خلف الزّيد ضَيفُ أمّ الرّمّان
ذات يوم من أيام إقامة خلف في كنف الأمير أبو نايف حسين الأطرش سمع حديثاً يُطري بكرم وأفعال أهالي وفرسان قرية أمّ الرّمان التي تقع غرب قرية عنز، وهم الذين كلّفوا ستين فارساً منهم يتناوبون على حماية الجهة الجنوبيّة للجبل ممّا يلي قريتهم باتجاه بادية الأردنّ حيث جعلوا من قمّة تلّ الشيح موقع رصد لمنع أيّ غزو أو اعتداء ينال من حمى الجبل من جانب قريتهم الأكثر قرباً للبادية، وعلى أثر ذلك الحديث قال خلف “يا هَنُو من كان مع ها السّرْبة” ــ أي تمنّى لو كان واحداً من بين أولئك الجماعة ــ وجاء من نَقَل كلام خلف ذاك من مضافة الأمير حسين لأهل أمّ الرمّان، فقام وفد من وجهائهم وبضعة شبّان استصحبوهم معهم لغرض العَوْنة، بزيارة للأمير الأطرش في عنز وطلبوا منه إذناً باستضافة ضيفه خلف أيّاماً في قريتهم أمّ الرّمان، فقبل، وهكذا كيّفوا سُلّما خشبياً ومدّوا عليه فراشاً ثم مددوا خلفاً عليه، ونقله الشبّان على أكتافهم مسافة سبعة كيلو مترات إلى دار الشيخ حمد الأطرش في أمّ الرّمان، وهناك على بيدر قريب من دارة شيخ القرية نصبوا للشّيخ خلف بيتاً من الشَّعر وعملوا ما أمكنهم على العناية به والاهتمام بكسره ليجبر سريعاً وكانوا يقدمون له أحسن المذخور المتوفّر لديهم من الطّعام، وإلى هذا يشير بقصائده التي مدحهم بها بعد مغادرته الجبل، حيث هم أطعموه البطّيخ المذخور من أيام الصيف في فصل الشتاء وفي هذا يقول:
من دار أبو دنيـــــــــــــــــــــــا لَـ مقعـــــــــــــــــــد هلال مَنْ لَهْ ذخيرة جابها وما جحدهــــــــــــــــــا
وقد تناقلت الرّكبان في صحارى العرب قصائده في تخليد استقباله كسيراً في جبل بني معروف وضراعته لله أن يشفيه مما ألمّ به على الرّغم من أنّه كان واحداً من أعتى جبابرة الصّحراء…
وفيما بعد أذيع بعضُ ذلك القصيد مُغَنًّى على الرّباب في إذاعة المملكة العربيّة السّعوديّة وإذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة، ولكن مما يؤسف له أنّ محمّد بن أحمد السّديري مؤلّف كتاب “أبطال من الصّحراء” في معرض سرده سيرة حياة خلف الزّيد لم يأتِ على ذكر سقوط خلف كسيراً في موقعة المَناخ، ولم يُشر إلى محاولة قتله الفاشلة مواجهة بالمسدّس من قبل تركيّة زوجة ابن عمّه الشّيخ سطّام بن شعلان طلباً لثأر أخيها تركي بن مهيد الذي سبق لخلف أن قتله (في رواية ذبحاً)، ولا إلى إنقاذ حياته من قبل بني معروف الدّروز وعلاج كسره وشفائه منه واستضافته في حمى الموحّدين في قريتي عنز وأمّ الرمّان!.
وفي قصيدته في أم الرمان يقول خلف:
يا الله يـــــا اللّــي للمـــــــــــوازيـــن عـَــدّال
تِفْـــرجْ لَــرِجلٍ غاب عنــها ســَعَدهــــــــا
يامِفْرِّج الشِّــــــدَّات يا شـــايف الحــال
يا عـــالم النّــفْس الخَفيّـــه بوجـــدهـــــــــــا
هم اتـرَكوني واودعــــوني على جـــــال
وانا كســـير وهان كســري عَضدهــــــا
واللي احسنوا بي ترثة الجود وافضال
شـــدوا لي حُصْرة وانهضوا بِعَمَدها
من عَنـــز عَ كْتـــوف ماضين الافعال
لامّ الــرمّان اللــي ســـريعٍ نَجَــــدْهـــــــــــــا
لو تنشـــدون الطّيــــب ما بين الرّجــــال
الطّيـــب واجــــد ميــر هذي وحَدهـــــــــا
عاداتهم وليـــــــــــــــــــــــا اعتــلوا فـــوق مِشْــــــوال
كم مـــــــــــــــــــن عـــجوزٍ احــرموها ولـدهـــــــــــا
يــــاعلّها مـــــع طـــول الايّـــــــــــام بِغْلال
القـــــرية اللي تعزّ كل من قصدهــــا
هَلِّــــــنْ هلاليـــنْ وَاَنـــا اليـوم بِهْــــــلال
والنّفــــس مـــا ســمعت كلامٍ لَهَدْهــــــــا
يْقلْطـــون الـــزّاد من كلّ الاشــــــكال
مــن الــدَّرّ والإِدام واللّي يجـــدهـــــــا
مـــن دار أخــــو دنيـا لَمقعد هلال
مَـــنْ لـو ذَخيرهْ جابها وما جَحَدهــــــا
يـــا الله يــا اْللّي عَ المخاليق مِتْعال
سُـــــرْبِة اْمّ الرُّمّان تِظْـهِر سَـــعدهـــــــا
تبني لهم بِيْضٍ على روس الاجْبال
وقَبْلي بفــعل الطّيـــب كلٍّ حَمـــــَدْهـــا

وعندما تعافى خلف أقيمت له ولائم التَّكريم في مضافات أمّ الرمّان، حيث لكلّ عائلة مضافة أو أكثر، ومن ثمّ قَدِم ذووه من الصّحراء وَمَضَوا وإياه معاً إلى عنز لوداع الأمير حسين الأطرش مُضيفه الأوّل ومن بعدها لحق خلف بقبيلته في نجد.

أحد-رجال-قبيلة-الرولة-مع-قصة-شعر-مميزة-وضفائر
أحد-رجال-قبيلة-الرولة-مع-قصة-شعر-مميزة-وضفائر

نهاية بطل
رجع خلف إلى قبيلته، ولكنّ العداوة القديمة الموروثة بينه وبين أولاد عمّه من مشايخ آل الشّعلان رؤساء القبيلة ظلّت مُسْتَعرة تنتظر عودته، واستمرّت الكراهية لخلف في قبيلته تتعاظم إلى أن اضطرّ إلى الرّحيل مع أبناء عمّه آل زيد على مَضض بعيداً عن القبيلة إلى نجد عند آل الرشيد أمراء حائل، ولكن رحلته تلك لم ينلها التّوفيق.
ويروي محمّد أحمد السّديري أنّه بعد مدّة غير طويلة من عودة خلف من لَدُن آل الرّشيد وكان نازلاً في أطراف الحَرَّة بين الحماد ووادي السّرحان هاجمهم غُزاة من عشيرة التّومان من قبيلة شمّر في منتصف اللّيل وقبل أن يُعْلموا أطلقوا عدداً من العيارات النّارية على خلف في فراشه داخل بيته فقُتل هو وزوجته وهما نائمان وكان مريضاً وقد طعن بالسّن…
وعلى أثر مقتل خلف شنّت قبيلة الرّْوَلة غارة على التّومان قَتَلَتِة وأخذت بثأرها منهم
وبهذا طويت صفحة حياة أحد أبرز أبطال الصّحراء العربيّة في العصر الحديث، حياة ذهبت ضحيّة حروب القبائل العبثيّة فيما كان العالم المعاصر يتقدّم بلا هوادة في عصر الصناعة وبناء الحضارة الحديثة.

المجاهد يوسف صفا

مجاهد زاهدٌ فُروسيُّ الخِصال

يوسف صفا قَنِع من الدّنيا بِشَظَف العَيش ومشقّات النّضال
عرف السّت نظيرة وشارك المعلّم مسيرات العزّة والثّورات

ضَرَبتُ الشّاويش بجرْزة الدّبق فعلقت بشاربيه فاضطُرّ لحلقهما
وأرسلتني السّت نظيرة بعدها للخِدمة في الجيش الفَرنسيّ

أوصل شمعون البلاد إلى الثّورة فذهبتُ إلى الشّام
ولبستُ الكوفيّة والعِقال وبدأتُ توزيعَ السّلاح

ينتمي المجاهد يوسف صفا إلى صنفٍ من الرّجال الذين ولدهم جبل لبنان في مرحلة ما بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن الماضي وهي كانت مرحلة زاخرة بالتّحدّيات والأحداث التي غيرت مسار البلد. وقد كان هذا المجاهد البسيط والمندفع من أصحاب العزيمة الذين يستشعرون أمواج السّياسة وعواصفها بالفِطرة فيهبّون إلى العمل ويفتتحون المعارك وحدهم دونما حساب للمخاطر ولما قد ينالهم من تَبِعات.
يوسف صفا المناضل البسيط المخلص أنفق حياته في الجهاد وأهمل أسباب معيشته حتى أنّه لم يهتمّ بأمر الزّواج إلا متأخّراً. وهو عاش حياته فقيراً فعلاً ولم يَفُزْ من هذه الدنيا إلّا بوظيفة سائق في بلديّة بيروت مع سكن شعبٍّي في بلدة “المعروفيّة” أمّن له سقفاً يحتمي به، قبل أن يعود إلى بلدته عين قَني ليمضي في بيته البسيط القسط الأخير من حياته الحافلة.

فماذا يحمل هذا الرّجل التّسعيني من ذكريات عمره الحافل بالتّحدّيات والوقفات الشّجاعة، وما الذي بقي في ذاكرته البعيدة عن ملامح تلك الفترة الغنيّة وأبرز محطّاتها؟
“الضّحى” زارت المناضل صفا في منزله المتواضع فكانت الحصيلة هذا اللقاء:

> يوسف صفا ، من أنت؟
أنا ابن بلدة عين قني الشوفية ولدتُ في العام 1923 لأبوين فقيرين اشتُهِرا بالوَرَع والاستقامة، وأنا أترَحّم عليهما كلّ وقت لأنّهما زوّداني بالتّربية الصّالحة وبقِيَم الإخلاص والوفاء

> كيف كانت بداية علاقتك بدارة المختارة؟
كنت طفلاً حين عرفت أنّ السّت نظيرة جنبلاط والدة المعلّم كمال جنبلاط هي إبنة بلدتي “عين قني” وغالباً ما كانت والدتي تصطحبني لزيارتها باستمرار إلى قصرها في المختارة سيراً على الأقدام، وقد كنت معجباً بها، وبحسن أدائها، وبتعاطيها الذّكي واللّبِق مع النّاس كزعيمة للجبل. وهي كانت تقدر عاطفتي وحماستي وغالباً ما كنت أسمعها تقول لوالدتي “ولدك يوسف سيكون له شأن في المستقبل”. في تلك الأثناء لم أكن قد تعرّفت إلى نجلها كمال بك، بسبب متابعته لدروسه في عينطورة ثمّ في فرنسا، وكانت الزّعامة السّياسيّة آنذاك منوطة بصهره حكمت بك زوج شقيقته “ليندا”.

مواجهة مع الدّرك
عُرفت بسرعة التّصرّف وبدأت مشاكلك مع السّلطة في وقت مبكّر من شبابك، أخبرنا عن أوّل مواجهاتك مع رجال الأمن
في أحد الأيّام استوقفني مشهد أحد عناصر الدّرك ويدعى ملحم بوماضي وهو ينهال بالضّرب على أحد أولاد البلدة بعد ما كسّر له درّاجته الهوائيّة، فلم أتمالك أعصابي ورحتُ أرشق الدّورية بالحجارة حتى عادوا أدراجهم، وهم يتوعّدون بالاقتصاص منّي بعدما تعرّفوا إلى اسمي. وفي اليوم التّالي كمنوا لي قرب نبع الشّالوف بينما كنت مع رفاق لي نصطاد طيور السُّمّن بواسطة “الدّبق” ولما أقبلنا على الدّورية حاول بوماضي اعتقالي فضربتُه بجرْزة الدّبق فعلقت بشاربيه ما اضطرّه لحَلْقِهما، فكانت صدمة كبيرة له. ولمّا رأته السّتّ نظيرة سألته عن شاربيه أجابها: “يا ستّنا اسألي زلمتك”. بعد أيام على تلك الحادثة دعتنا السّتّ لنستقبل معها أحد الجنرالات الفرنسييّن ويُدعى ألكسندر، وعندما شاهدتني قالت لي :”هيّا أخبرني عمّا فعلتَه بـ ملحم بوماضي”، ولما أخبرتها بما حصل، ضحكت وقالت لي :”ما بقى بدّي مشاكل”. ولم تمضِ سوى أيّام قليلة حتى أرسلت بطلبي كي أنقل رسالة من قِبَلِها إلى الجنرال ألكسندر في مكان إقامته في بعبدا، ونقدتني يومها مبلغ 5 ليرات أجرة الطّريق، وشدّدَت عليّ بضرورة تسليمه الرّسالة باليد. وهكذا حصل. ولمّا سلّمته الرّسالة قرأها وأمر أحد الضّبّاط بإلحاقي بالمعسكر الفَرنسي بعد تسليمي بدلة عسكريّة. وقد استمرّيت مع الجيش الفَرنسي مدّة ثلاث سنوات براتب قدره 17 ليرة كلّ شهر.

المجاهد يوسف صفا في شبابه a
المجاهد يوسف صفا في شبابه a

“وضعت لوح الصبّار على مقــعد سيّارة ضـــابط الدرك فجلس وعلا صراخه من الشوك الذي علق بقفـــــــــاه”

متى تعرفت على المعلِّم كمال جنبلاط؟
تعرفت عليه بعد انتخابه نائباً عن الشّوف خلفاً لـ حكمت بك، ومن ثمّ تعيينُه وزيراً للزّراعة في حكومة رياض الصّلح. إلّا أنّ علاقته مع الرّئيس بشارة الخوري ساءت بسبب الفساد ومحاولته التجديد لولاية ثانية. في تلك الفترة كانت المعارضة تتصاعد ضد الرئيس بشارة الخوري، وقد شاركت في كلّ المهرجانات التي أفضت في النّهاية إلى استقالته من الحكم في العام 1952.

كانت تلك الفترة حافلة بالمواجهات ولا شكّ أنّك كنت شاهداً عليها؟
نعم شاركت في كافة التّحرّكات والتّظاهرات التي قامت آنذاك وكان أوّلها مهرجان شعبي أقيم في بلدة “بتخنيه” في المتن الأعلى وانتهى بسلام. أما الثاني فأقيم في الباروك لكنّ السّلطة التي هالها النّجاح الكبير لمهرجان “بتخنيه” خشيت أن تتّسع دائرة الاحتجاج الشّعبي فقرّرت أن تحاول كسر المدّ الشّعبي، واتّخذت قراراً بقمع المجتمعين في الباروك بقوّة السّلاح. وبالفعل قامت القوى الأمنيّة بإطلاق الرّصاص باتّجاه المشاركين في الاحتفال، وأوقعت عدداً من القتلى والجرحى أذكر منهم المرحوم فايز فليحان. وفي منزل لآل أبو علوان رأيت محمّد أبو خزام ونجله داوود وقد أصيبا وكانا بحالة حرجة، فسارعت أنا ومنير جنبلاط والرّفاق لإسعافهما، فيما كان كمال بك لا يزال يخطب في الجماهير المحتشدة متحدّيا القمع ومصرّاً على أن يستمرّ المهرجان ولا ينفضّ قبل إلقاء الكلمات.
المهرجان الثّالث جرى في صَوفر، وكانت مهمّتي تأمين الطّريق عند نفق المديرج، حيث ترجّلت من الحافلة أنا وحمد عبد الخالق لاستكشاف النّفق، لكنّنا لم نعثر على شيء. وفي صوفر عمل الدّرك على تطويق مكان المهرجان من دون الاحتكاك بالنّاس، فيما كان المعلّم يخطب بالحشود كعادته غير آبه بشيء. بعد ذلك أقيم مهرجان كبير للغاية في محلّة الحمّام العسكري كان نجما الخطابة فيه المعلّم والشّيخ عبد الله العلايلي. وتلا ذلك مهرجان ضخم أقيم في دير القمر ضمّ كلّ الأحزاب والشّخصيّات المعارضة لحكم الرّئيس بشارة الخوري. وفي هذا المهرجان تشكّلت الجبهة الاشتراكية، ولقد رأيت بنفسي الرّئيس كميل شمعون مُمْسِكاً بشمسيّة كان يضعها فوق رأس كمال بك.

يوسف-صفا-اليوم---صفحات-جهاد-وحياة-كفاح-وصبر
يوسف-صفا-اليوم—صفحات-جهاد-وحياة-كفاح-وصبر

قَطيعة مع الرّئيس المُنْتَخَب

> لكنّ كميل شمعون انقلب على كمال بك بعد قليل من انتخابه!؟

بقيت العلاقة طبيعيّة لكن حذرة لبعض الوقت، ثم بدأ كميل شمعون يتنكّر للبرنامج الذي انتُخب على أساسه وتعاهدت المعارضة عليه في دير القمر. فبعد الانتخابات النّيابية وفوز الجبهة الاشتراكية، ذهبنا لتهنئة النواب الفائزين فاستقبلنا بالتّرحاب في منزل النائب نسيم مجدلاني في بيروت وفي منزل المرحوم العميد ريمون إدّه، هناك قالوا لنا التّهنئة يجب أن تكون لكمال بك وليس لنا. أما شمعون فكان استقباله لنا فاتراً. وكانت أسباب القطيعة تتزايد كل يوم.

انتخابات العام 1957 كانت من أسباب الثّورة في العام التالي أليس كذلك؟
في العام 1957 وبسبب تصاعد الخلاف بين المعارضة وشمعون قام الأخير بحلّ مجلس النّواب والدّعوة إلى انتخابات نيابيّة جديدة مَهّد لها بتعديل قانون الانتخاب وحدود الدَّوائر الانتخابية بما يضمن فوزه بأكثرية تؤيد التجديد له لولاية ثانية عبر تعديل الدستور الذي لا يسمح للرئيس بذلك. وقد وظّف شمعون كل ثقل السلطة وأجهزتها من أجل التأثير على الناخبين، وحصلت أعمال تزوير واسع، فكانت النّتيجة توجيه ضربة قاسية للمعارضة وإسقاط مُعظم رموزها، وفي مقدّمهم كمال بك. وأذكر كيف كان كمال بك يهزّ برأسه استهجاناً كلّما وصلته النّتائج من القرى والبلدات الشّوفية، ما دفعه للانتقال إلى بيت الدّين ليكون على مقربة من عملية فرز الأصوات، وبقيت في انتظاره طوال الليل لكنّه لم يعد. بعد ذلك وصل سماحة شيخ العقل الشيخ محمّد أبو شقرا الذي أبلغ الشّباب الذين التقاهم بأنّ الـبيك أصبح في بيروت، وقد يسافر إلى الهند، ولدى سماعي هذا الخبر صُعِقْت وتوجّهت من فوري من المختارة إلى الجديدة وأقمت حاجزا على تقاطع الطّريق المؤدّي إلى المختارة وإلى المزرعة وقطعت الطريق بالحجارة.

ماذا كان قصدك من ذلك، ومَن كلّفك بتلك المهمّة؟
هذه كانت قناعتي ولم يكلِّفني أحد، لأنّ خسارة المعلّم للانتخابات، وسفره إلى الهند كان سيبدو بمثابة نكسة كبيرة لأنصاره ولكل أهل الجبل.
أصداء هذا التحرّك وصلت إلى شباب المزرعة، فتوجّهت مجموعة منهم إلى المختارة وهم :عزّ الذين أبو كرّوم وناصيف البعيني ويوسف حسن البعيني. وفيما كنّا نتداول ببعض الخطوات التّصعيديّة، حضرت دوريّة من الدّرك على رأسها الضّابط السّيّىء الذّكر سامي الحشيمي، فأوقف الجيب قرب دكّانة بطرس سركيس وتوجّه إلى المخفر فاستغلّيت فترة مكوثه في المخفر وأحضرت لوحاً من الصّبّيْر مليئاً بالأشواك ووضعته حيث يجلس من حيث لايدري، ولما عاد وصعد عل عجل وجلس في مقعده سُمع صُراخُه إلى آخر السّوق من شدّة الألم ونحن نقهقه من الضّحك، فاستنجد بـالصّيدلي صَرّوف لإزالة الأشواك التي علقت بقفاه. ولمّا عرف بأنّي وراء هذا العمل، صرخ بأعلى صوته قائلاً :”سيكون حسابك عسيراً جداً يا يوسف صفا”.

> لماذا هذا العداء بينك وبين الضّابط الحَشيمي؟
كلّ ضابط في الدّرك مهمّته حفظ الأمن، لكنّ الحشيمي كان متحمّسا جدّاً لخدمة عهد شمعون بحيث جعل من نفسه خصماً لكلّ الوطنيين، وكان هذا الضّابط رمزاً للأسلوب الذي أصبحت فيه الدّولة مطيّة للرّئيس شمعون وجماعته، كثيرون مثله من المنتفعين بدأوا يعملون لشمعون طمعاً في المنافع والنّفوذ وهو تمادى كثيراً عندما بدأ يتطاول على المعلّم وعلى قصر المختارة. وكان الحشيمي يلاحقني لأنّني كنت متحمّسا للمعلّم وللمختارة وكان يريد أن يجعل منّي عبرة بحيث إذا كسرني فإنّ كثيرين سيخافون أن يصيبهم ما أصابني.
وبسبب مقلب لَوْح الصّبّير حقد عليَّ وحضر في اليوم التّالي فجأة إلى عين قَني محاولاً اعتقالي لكنّه لم يجدني لأنّني كنت أتّخذ احتياطاتي
وفي اليوم التالي ذهبت إلى البلدة لوداع ابن عمّي قبل سفره إلى الخارج وإذا بزوجته تصيح بي :”يا يوسف انتبه الدّرك طوقوا البيت”، لم أجد بُدّاً عندها من إطلاق بعض الأعيرة النّارية باتّجاههم لكي أؤمّن طريق فراري، وقفزت من النّافذة برفقة صديق لي يدعى حسن الحدّاد، باتّجاه أحد بيوت آل جنبلاط القريبة، ومن هناك تحصَّنت بإحدى الأشجار وأخذت أطلق النّار باتّجاههم. ولمّا علم المختار عبّاس فارس بالأمر أرسل قريبي فوزي صفا كي يقنعني بوقف إطلاق النّار ثمّ لحق بي عارف جنبلاط وطلب منّي مغادرة البلدة منعاً للمشاكل، فأجبته طالما هذا الـرّجل (الحشيمي) موجود هنا لا أحدَ يستطيع أن يرغمني على شيء.

> ماذا عن خطة الحشيمي لاقتحام قصر المختارة ؟
بدأت الأمور عندما لمحت نوراً ينبعث من فانوس في بيت أحد مواطنيّ البلدة فتسلّلت باتّجاه المكبس لأستوضح الأمر، وتمكّنت من رؤية ومعرفة شخصين من المختارة وستّة دركيِّين بالإضافة إلى الضّابط الحشيمي، ولما رآني الضّابط فوجئ وسألني ماذا تفعل هنا :”أجبته أنا سهران في أملاك كمال جنبلاط”، قال لي :”عليك إذن البقاء داخل القصر. لقد ارتبت بأهداف هذا الاجتماع الليلي وشعرت بقوّة أنّ ثمّة شيء ما يُدَبّر من قبل السّلطات لاقتحام القصر؟ بعد قليل التقيت بَغتةً في السّوق بأحد الذين اجتمعوا بالحَشيمي فوبّخته لمشاركته في الاجتماع وهدّدْته فأنكر

أنّ له علاقة بالأمر لكنّه أقرّ بأنّ هناك خطّة وزاد على ذلك بأن كشف لي أيضاً بأنّ الدّرك سلّموا رجلاً بارودتين لاستخدامهما في عمليّة الهجوم على القصر وأنّ رجلاً من أنصار الرّئيس شمعون النّافذين هو خليل سركيس سيكون طليعة المُهاجمين بالإضافة إلى الضّابط الحشيمي يرافقهم القائمّقام ربما لإعطاء “شرعيّة قانونيّة” للعملية.
في اليوم التّالي ذهبت برفقة سليمان نمّور للقاء ملحم معروف للتّشاور بالأمر وما يمكننا فعله، وهناك أبلغنا عارف جميل بأنّ غريمنا سركيس المكلّف بتصدّر الهجوم موجود في السّوق فصمّم سليمان نمّور على تأديبه فلحقت به وفي الطّريق التقيت بأبو عفيف الفطايري فحذّرني من الرّجل، في تلك الأثناء وصل شقيق الرّجل وكان يدعى بطرس مستنكراً أفعال أخيه وقال لي :”يا يوسف أخي مش آدمي، وجاحد وناكر للجميل لكن لا تؤذوه أرجوكم. لكنّ الجو كان متوتّراً وكنّا خائفين فعلاً ممّا يُدَبّر في الظّلام ضد قصر المختارة والمعلّم. وصلنا أنا وسليمان إلى أمام دكّان خليل سركيس فراح يهدّد ويتوعّد ويكيل لنا بالشّتائم وقال لنا ما معناه :”سنخلص منكم قريباً” وكان في كلامه تهديد وإهانة لكمال بك ولأهلنا بني معروف، فثار غضبي وحصل عراك انتهى بمقتل الرّجل.

> ماذا نتج عن تلك الحادثة؟
في الظّاهر كانت الحادثة شخصيّة تأسّفنا لها علماً أنها كلفتني سنوات من عمري لكن في الحقيقة كانت المواجهة عنواناً لبلوغ التّحدّي مع جماعة شمعون ذروته، وقد أشعرنا ذلك بالخطر لأنّ شمعون لم يقف عند حدّ، وكان الفساد أصبح عامّاً في الحكومة وعلى عينك يا تاجر. لهذه الأسباب تحوّلت حادثة المختارة إلى شرارة ما عُرِف بعدها بثورة 1958.

> كيف بدأت أحداث الثّورة
كانت مقدمات الثورة قد تجمّعت في أكثر من مكان لأنّ شمعون استعدى الزّعماء الأقوياء كلّهم مثل المرحوم صائب سلام والزّعيم أحمد الأسعد عبر إسقاطهم في الانتخابات، وكانت المظاهرات والمواجهات مع السّلطة تعمّ البلد. لكنّ شرارة الأعمال المسلّحة ضدّ حكم الرّئيس شمعون انطلقت من الشّوف وكنت طرفاً فيها.
فبعد مقتل خليل سركيس انتقلت من القصر إلى عين قَني لأخبر والدي بما حصل، فقال لي (كون قد حالك). تلك اللّيلة أمضيتها برفقة سليمان نمّور في بيت نسيب الشّمعة، وفي الصّباح انتقلنا إلى مرج بسري ومنه إلى المزرعة حيث نزلنا بضيافة يوسف البعيني، وهناك التقينا الشّباب: ناصيف البعيني وشاهين أبو كرّوم. وقد أبلغني ناصيف بأنّ الشّيخ عارف أبو حمزة يريد التّحدّث إليّ، فالتقيته في اليوم التّالي في أوّل عين قَني، فقال لي :”عليك بالذّهاب إلى دير العشاير مع عارف جميل”. من هناك انتقلنا إلى الورهانيّة بضيافة صديق لي يُدعى فريد غانم، ثم انتقلنا إلى عين دارة وكان المعلّم سبقنا إليها، أمضينا تلك اللَّيلة بضيافة الشَّيخ أبو حافظ عطا لله، ومن عين دارة ذهبنا إلى قرية بْتَخْنَيْهْ بضيافة سليمان أبو الحسن، حيث أمضينا ثلاثة أيام، انتقلنا بعدها إلى عنجر، ومنها إلى الزّبداني، وهناك اتّصلنا بسلمان أبو حمزة فحضر من فوره، وانتقلنا برفقته إلى الشّام.
في الشّام أمدّونا بالأسلحة وكانت آنذاك دولة الوحدة برئاسة الرّئيس جمال عبد النّاصر المعادية لسياسات شمعون الذي كان يقود الجهود للدخول في “حلف بغداد” ومشروع أيزنهاور وبالتّالي سلخ لبنان عن محيطه السّوري والعربي. وأذكر أنّ دمشق كانت تغصّ بالمجاهدين المعارضين لحكم الرّئيس شمعون هناك وكان الجو حماسيّاً وأيّامها اعتمرت الكوفيّة والعقال وبدأت بتوزيع السلاح.

عهد-شمعون-تميز-بالفساد-وبالسعي-لإلغاء-المعارضين-فقامت-الثورة
عهد-شمعون-تميز-بالفساد-وبالسعي-لإلغاء-المعارضين-فقامت-الثورة

> كيف بدأت الأحداث المسلّحة؟
بدأنا العمل فوراً وكان أوّل عمل قمنا به ونحن في طريق العودة من دمشق وبناء على تعليمات الشّيخ سليمان أبو حمزة أن توجّهت إلى نقطة الحدود السّورية اللّبنانية في المصنع برفقة سليم غريزي، وكانت المهمّة استعادة السّلاح الذي تمّت مصادرته ويخصّ خزاعي العريان، وهناك قمنا بتطويق المكان واعتقلنا ستّة عشَرَ عنصراً من الجمارك من بينهم شخص من جماعة معروف سعد نقلتُه معي إلى المصنع السّوري وتركته بحال سبيله، بعدما سلّمته إلى فوزي القنطار. وبعدها تسارعت الأحداث واتّسع نطاق المواجهات وتدفَّقَ المجاهدون بالمئات من المحافظات اللّبنانيّة من بني معروف ومن غيرهم، وقدم مجاهدون من جبل العرب من سوريا إذ كانت المعركة في مواجهة شمعون ذات طبيعة وطنيّة عروبيّة لا طائفيّة واستمرّت الثّورة حتى نهاية عهد الرئيس شمعون الذي أفشلت المعارضة مساعيه لتجديد رئاسته ست سنوات أخرى.

> تم بعد ذلك اعتقالك وصدر حكم بحقك فما الذي حدث بالتّحديد؟
في طريق العَودة إلى الشّوف من سوريا نصحني بديع الأعور أن أحاذر المرور ببلدة عين زبدة وسلوك طريق دير عين الجوزة وفيما كنّا نسير عبر طريق متعرّج مليء بالصّخور فاجأنا كمين للدّرك كان مرابطا في ذلك المكان وأمرنا برمي سلاحنا أرضاً وقاموا بإطلاق النّار باتّجاهنا فقُتِل الشّابّ عارف مكارم وأُصبت في بطّة ساقي فربطت الجرح خوفاً من النّزيف، وكان على رأس الدّوريّة ضابط من آل العماد أمرني بتسليم نفسي فأعطيته المسدّس وعرفته باسمي “حسيب” صفا أيْ إنني اخترت اسما مستعارا لأن اسم يوسف صفا كان ذائعا ورمزاً للتمرّد ومشاكسة الحكم، فما كان منه إلّا أن حملني على ظهره إلى ساحة البلدة، ولما كَشف الطبيب على مكان الإصابة قال لي حظك حلو الرّصاصة لم تخترق العظم، فانتزَعَها وقطّب الجرح. وبعد قليل رآني شخص من آل عزّام وقال: سلامتك يا يوسف صفا. قلت بنفسي انكشفت اللّعبة!! في تلك اللّيلة لم أشعر بالخوف ولكنّني كنت قلقاً، وفي صباح اليوم التّالي قبضوا عليّ وتمّ نقلي إلى المحكمة العسكريّة في بيروت، وأدخلوني النّظارة وباشروا التّحقيق معي وحُكِم علي بالإعدام. وتولى القاضي رياض طليع تلاوة الحكم. بعد ذلك نُقِلتُ في إحدى المصفّحات إلى سجن الرّمل، حيث تعرّفت إلى عجاج بومغلبيه ورقيب في الدّرك يدعى خدّاج خدّاج الذي نقلني إلى الانفراد. وبعدها التقيت بـ ماجد حماده فأخبرني بأنّ جماعتي بدأوا بالتّظاهر في المبنى الثّالث ويريدون انضمامي إليهم. في تلك الأثناء حضر إلى السّجن المحامي ونقدني مبلغ 50 ليرة وأخبرني بأنّهم استبدلوا وصف الجريمة من القتل إلى الاتجار بالمخدّرات فخُفّضَ الحُكم من الإعدام الى المؤبّد بناء على توصية بي من قبل الأمير مجيد أرسلان مع كميل شمعون، ونُقلت من سجن الرّمل الى سجن القلعة. وبعد الاستئناف صدر حكم برّأَني من القتل العمد وخرجت من السّجن وعدت إلى عين قني.

يوسف-صفا--إلى-يمين-الصورة-بالعدة-الكاملة
يوسف-صفا–إلى-يمين-الصورة-بالعدة-الكاملة

“كان شمعون مصمّماً على كسر شـــــوكة كمال جنبلاط فخرج بالفكرة الجنونيّة لاقتحام واحتلال قصر المختارة”

> كيف تصف علاقتك بوليد بك ؟
ممتازة، وبعد وفاة المرحوم سليمان رشيد أرسل بطلبي ليوظّفني مكانه في القصر فاعتذرت منه وتمنّيت أن تكون الوظيفة من نصيب قريبي أبو سليم حسيب صفا لأنّه أفضل منّي. ولمّا ذهبت إليه برفقة أبو سليم نادى على نجليه تيمور وأصلان وقال لهما إنّ يوسف صفا حمى قصر المختارة سنة 1958. ومنذ نصف سنة تقريباً قلّدني ميدالية المعلّم كمال جنبلاط.

> بعد خروجك من السجن كيف كنت تتدبّر أحوالك المعيشيّة؟
في البداية تعاطيت بعض الأعمال التّجاريّة، ومن ثمّ انتقلت للسّكنى في المعروفيّة، ولمّا علم المعلّم بذلك أوفد إلّي فؤاد صعب ليطمئنّ عن أحوالي، فقلت له مستورة والحمد لله. وقد أمّنَ لي قريبي زين صفا وظيفة سائق في بلديّة بيروت.

> في أية سنة إقترنت بشريكة العمر ورفيقة الدرب؟
في العام 1969 ولم نرزق بالأولاد لكنّ وجودها إلى جانبي يساوي كنوز الدّنيا وما فيها. أدعو لها بطول العمر ولولاها لا نفع للحياة.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

أعمالُكُم عُمّالُكم

خطر في بالي شيء وأنا أمر كل يوم بركام النفايات والأنقاض ومخلفات البشر التي تنتشر على الطرقات. جاءني أن هذه الأوساخ ليست بنت الصدفة ولا هي نازلة هوت علينا من السماء. لا.. ليس الأمرُ أزمة مع هذه الشركة أو تلك، ولا هم السياسيون ولا هو نقص الأماكن المناسبة للتخلص منها..ولا أي سبب آخر. إنما هي شيء يتعلق بنا نحن، فهي إلى حد كبير أوزارنا كلها التي نكسبها كل يوم ويجمعها ملائكة كرام في حسابنا لا يتركون صغيرة منها ولا كبيرة، هي أوساخنا المعنوية وقد اتخذت شكلا يجعلنا نراها فينتبه كل ذي لبّ وتفكّر إلى ما وصلت إليه حالنا كبشر.

في مجالسِ السمر أو في كل مرة يجتمع شخصان أو أكثر، فإن أول ما يكون الحديث هو عن تردّي الطبيعة الإنسانية، عن انفلات الأنانية وقسوة القلوب، عن الطمع وظلم الإنسان للإنسان، عن ترك الأوامر والنواهي، عن النفاق، وهو أعظم كبائر الأزمان، عن تجارة الحقد وحرفة القتل الرائجة واللائحة طويلة.. مجالس السمر نفسها والأحاديث هي أيضا مجالس للشكوى من الزمان ومن الدولة ومن ضيق سبل العيش ومن المرض ومن سيول النفايات التي نزلت على البيوت والأحياء وأصبحت تقطع طريقنا وتكدِّر أيامنا وتحرمنا هناء الغفلة التي نغُطّ فيها.

الملفت هو أن الناس قليلا ما تنتبه إلى العلاقة بين الأمرين، أي بين تردي النفوس وزوال النعم وتردّي بيئة الحياة، فتشكو من كل أمرٍ دون أن تشكّ في أن يكون له علاقة بالأمر الآخر. بذلك أصبحنا جميعنا أهل شكوى لكن لا نجد إلا القليل من أهل الفطنة والاعتبار، وقد حذَّر المولى تعالى في كتابه الكريم مما نراه من إعراض ومن تجرّؤ على حدوده فقال، جلّ من قائل: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا{ (طه: 124). وجاء في الحديث الشريف: }إنما هي أعمالُكم تُردُّ أليكم{

وهناك قاعدة يعرفها أهل السلوك، وهي أنه لا يوجد فصل بين ما هو في داخل الإنسان وبين ما هو خارجه، فهما يتبادلان التأثير بصورة مدهشة. إن أمكن للمرء أن يصلح داخله وأن يجد حلاوة الطمأنينة والإنس بالحق تعالى، فإن كل ما حوله سينتظم من تلقاء ذاته، وسيلمس كيف يمكن أن يغيِّر محيطه دون أي جهد سوى الجهد الذي يبذله في إصلاح النفس ونصحها بل وزجرها. على العكس من ذلك، إن اضطرب حال النفس وابتعدت بها الوساوس والمعاصي ورزايا الأعمال عن الحق فإن العالم حولها سيبدو مخيفا متهاويا، لا تقترب من شيء إلا فرّ منها كما يختفي الهباء في الريح العاصف.

فيا أخي إذا مررت غدا بنفاياتنا السائبة فكرهت عيناك منظرها وعافت نفسك نَتَنَها فلا تبدأ باللعن ولا تتعب نفسك بهذا العبث ولا تهدر طاقتك في كيل اللوم. فكِّر قليلا كما يفكر العاقل الرصين، وانظر، لعلك ترى الخيط الموصل بين شقاء الحياة وبين شقاء النفوس وأنت رجل مؤمن بأن الجزاء من جنس العمل دنيا وآخرة. اترك مهنة الشكوى، ولا تَسَل عمن أوصل الحال إلى ما هي عليه، لأن الناس كلهم صالحُهم وفاسدُهم ليسوا إلا من خلق الله، والظالم المسلط على رقاب العباد هو من خلق الله، ونتوقف عندالعنت والفقر والمرض هي من خلق الله، والطبيعة التي لم تَعُد تجود بخيرها هي أيضا، وفساد البرّ والبحر وما يصيب بيئة الأرض من كوارث حيث قال تعالى: }سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{ (النمل: 93)

خلاصة هذا القول، الذي قد يراه البعض صادما، هو أن من الأفضل والأجدر اتخاذ نوائب الحياة وتغيُّر الأحوال وزوال النعم سببا للتفكر، والإقلاع عن الانشغال بما هو خارجنا والانتباه إلى ما في نفوسنا، وقد جاء في الحديث أيضا: }طوبى لمن شغله عيبه عن النظر في عيوب الناس{. ولهذه النصيحة سبب وجيه هو أنه مهما حاولنا أن نبدل واقعنا دون أن تكون البداية تبديل ما في النفوس فإنه لن يأتي إصلاح ولن يستقيم شيء، بل على العكس، فإن ما نراه من تفاقم العلة يجعلنا نخشى المزيد من العنت وسوء الحال.
}إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ{ (الرعد:11)
صدق الله العليُّ العظيم

عنجر

عنجر

بناهـــــــا الأُمويـــون ثــــــم دمّروهـــــــــــا
وخلّدها فخرُ الدّين وأحيـــاها الأَرمــــــن

عَنجَرٌ اليوم جنائنُ ورياضٌ وبساتينُ غنّاءَ وسياحةٌ
ومياهٌ رقراقةٌ قامت على ضفافها أفخمُ المُنْتزَهات

تكتسبُ بلدةُ عنجرَ في البقاع أهمّية خاصة بسبب طابعها التّاريخيّ وتنوّع ثروتها الآثارية وكذلك ما تختزنه ذاكرتها من أحداث ومحطّات تاريخيّة، وهي التي كانت شاهداً على توالي عدد من الحضارات الكبيرة على أرضها وعلى معارك وحروب أضافت فصولاً إلى تاريخها الغنيّ لكنّها تسبّبت في خرابها، ومن أشهر أحداث التّاريخ التي ارتبطت بها موقعة عنجر التي تمكَّن فيها الأمير فخر الدّين المعني من إلحاق هزيمة قاسية بجيوش العثمانيين في تشرين الثّاني من العام 1623 فأصبح هذا النّصر عنواناً لتعلّق اللّبنانيين بالاستقلال وأصبحت عنجر في ثقافتهم مصدر اعتزاز على مرّ الزّمن.
أمّا عنجر اليوم بقلعتها وقصرها الأمويّ الشهير فهي بلدة بقاعيّة جميلة تتوسّط سهولاً خصبة وطبيعة ومياه وهي من أبرز المقاصد السّياحيّة بمنتزهاتها الوارفة الظّلال ومطاعمها التي تتمتّع بشهرة وشعبيّة بين اللّبنانيين. كما أنّ عنجر تشتهر في المساهمة الكبيرة التي أضافها الوجود الأرمنيّ اللّبنانيّ إلى تاريخها إذ إنّها استضافت طلائع اللّجوء الأرمنيّ إلى لبنان في أربعينيّات القرن الماضي وأصبحت بفضل الشعب الأرمني ونشاطه وثقافته مدينةً زاهرةً من أجمل حواضر البقاع.

تفترش بلدة عنجر البقاع الأوسط على مساحة 20 كلم مربع بتعداد سكّاني يناهز الـ 2500 نسمة معظمهم من الطّائفة الأرمنية، كما يُطلق على البلدة حوش موسى، والتّعداد السكّاني قابل للارتفاع خلال فصل الصيف من خلال زيارة أرمن الشّتات إلى هذه البلدة التي تُعتبر مرجعاً مهمّاً لهم.

عنجر-الأموية-كما-تبدو-اليوم
عنجر-الأموية-كما-تبدو-اليوم

التّسْمِيَة
كانت تُطلق على البلدة تسمية “ عين جرّه “ وهذه التّسمية تعود إلى القرن الثّامن حيث كانت تطلق على المناطق المجاورة لقلعة “جرّة “ وهي المدينة الأثرية التي أسّسها العرب الأيطوريون خلال حقبة حكم الأسكندر المقدونيّ وهي القلعة المعروفة اليوم باسم قلعة عنجر ليُصار في ما بعد إلى ربط الكلمتين بكلمة واحدة تسهيلاً للفظها فأصبحت عنجر، لتنتقل بالتّواتر على ألسنة النّاس .
كما ذهب المؤرّخون إلى اعتبار عنجر، هي نفسها “خلقيس” أو “كلسيس” القديمة التي يُنسب الفيلسوف “بمبليخُس” شارح أفلاطون إليها والتي ورد ذكرها في كتابات ورسائل “تلّ العمارنة” في مصر عام 1500 قبل الميلاد كما جاء في كتاب “تاريخ زحلة” للمؤرّخ اللّبناني عيسى المعلوف. كما أنّ ذكر المدينة ورد في معجم “ياقوت الحمويّ” تحت اسم “أمجرا” وقد ميّزها ببركة ماء وينبوع “تجزُر مياهه تارة وتمدُّ تارةً أخرى”، وقدم وصفاً مُسهباً لقنوات قديمة وطواحين وأحواض كانت تُستعمل في تجميع وجرّ مياه الينبوع إلى المدينة.
أقيمت مدينة عنجر الأثرية على أحد أهمّ منابع أو عيون نهر اللّيطاني في موقع مميّز على خارطة الطّرقات التي كانت تشقّ البقاع في الأزمنة القديمة والوسطيّة لتشكّل عقدة رئيسية تلتقي عندها الطّرق التي كانت تصل مناطق سوريا الشّماليّة بشمال فلسطين وتلك التي كانت تصل السّاحل بغوطة دمشق. وقد أسهم في ازدهاره العَين التي تنبع من السّلسلة الشّرقيّة والتي أعطت البلدة اسمها الحاليّ.
أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بين عاميّ 705 و 715 بإنشاء مدينة محصّنة على بعد كيلو متر واحد من نبع المياه المعروف في حينه بـ “عين جرّة” ولتنفيذ هذا المشروع استعان الخليفة بعدد من المهندسين والحرفيين والصنّاع البيزنطيّين والسّوريين البارعين بفنّ العمارة والزّخرفة المتوارثة من العصر الرّوماني حيث عمد هؤلاء إلى استخراج الحجارة من عدد من المقالع المجاورة .

عنجر الأموية
اكتمل بناء المدينة العربيّة في عنجر بحلول القرن السّابع للميلاد فجاءت تحفة في المنعة والجمال وشكّلت أسوارها وحصونها أرفع نموذج للفنّ المعماريّ العسكري الدّفاعيّ لدى العرب، وقد بُنيت وفقاً لتخطيط المدن الرّومانيّة البيزنطيّة، ثمة شارعان رئيسان يتقاطعان وسط المدينة ويقسمانها إلى أربعة أجزاء. يبلغ عرض الشّارع الأوّل عشرة أمتار ويمتدّ من الشّمال إلى الجنوب والثّاني يمتدّ من الشّرق إلى الغرب بعرض عشرة أمتار، هذا وتحفّ بالشّارعين سلاسل طويلة من الغرف المقنطرة والحوانيت والمخازن يبلغ عددها الإجماليّ ستمائة غرفة. في نقطة تقاطع الشّارعين وسط المدينة وعلى مقربة من القصر الكبير، تنتصب أربعة أعمدة ترتفع فوق مستوى القصر وفي أعلاها ما يشبه برج المراقبة، وقيل إنّه برج لاستقبال الحمام الزّاجل وإطلاقه أمّا الأحياء السكنيّة فقد كان كلّ حيٍّ يتألّف من بيتين أو ستّة بيوت كحدًّ أقصى كلّها ذات تصميم متشابه يضمّ حَوْشاً يتوسّط عدداً من الغرف، بينما تحفّ الحوانيت بالطّريق الرّئيسيّ، وهناك البوّابة الرّباعيّة الأسوار منذ أيّام الرّومان والإغريق، كما تخترق وسط المدينة شبكة من قنوات تصريف المياه المُبتَذلة مجهّزة بالفتحات اللّازمة لتنظيفها.
وبسبب وجودها في سهل البقاع الذي اعتُبِر في فترة بمثابة “إهراءات روما” فقد قام اقتصاد عنجر على تجارة الحبوب مثل القمح والشّعير والعدس والأعلاف إلّا أنَّ البلدة أنتجت أيضا الفواكه والخضار المجفّفة من خيرات سهل البقاع، وكانت تقوم بتصديرها إلى الأسواق المجاورة أو البعيدة. وكانت عنجر تستورد بضائع وموادّ أخرى للاستهلاك المحلّي أو لإعادة طرحها في الأسواق، كالأقمشة الصّوفيّة والقطنيّة والكتّان والعطور القادمة من الجزيرة العربيّة والزّيوت من سوريا التي كانت تشتهر بزراعة الزّيتون، والأسماك المجفّفة من بحيرة طبريّا في فلسطين وكذلك الدّهون والمراهم والبلاسم. أمّا تجارة الحرير فقد لعبت فيها عنجر دوراً مهمّاً كمركز التقاء وتقاطع بين الشّرق الأقصى والشّرق الأدنى وبلدان حوض المتوسّط حيث كانت معامل بيروت وصور تتسلّم الحرير الخام المُستَورد من الصّين فتصبغه باللّوْن الأرجواني الذي كان يشهد إقبالا منقطع النّظير ثمّ ترسله إلى سوق عنجر لبيعه من التّجار والمسافرين بأسعار مرتفعة.

من-آثار-عنجر
من-آثار-عنجر
منظر-عام-لآثار-القصر-الأموي-في-عنجر
منظر-عام-لآثار-القصر-الأموي-في-عنجر

 

 

 

 

 

 

 

“فرنسـا اشترت أرض عنجر من ملاك تركي بـ 8 ملايين فرنك فرنسي بهدف إيواء اللّاجئين الأرمن وقامت بتصميم وبناء القرية التي أصبحت من أجمل قرى البقاع”

مهرجانات-قلعة-عنجر
مهرجانات-قلعة-عنجر

نقطة تقاطع لخطوط التجارة
تدلّ بقايا الآثار التي مازالت موجودة داخل أسوار القلعة والأماكن المحيطة بها على أهمية الدّور الذي كانت تلعبه القلعة في التّاريخ حيث تبرز كمركز للتّبادل التّجاريّ لوقوعها في منطقة تشكّل عقدة مواصلات.
ورغم أنّ الحفريّات الأثريّة تناولت عنجر منذ الخمسينيّات، فإنّ الموقع ما زال يحتفظ ببعض أسراره ولا سيّما من حيث علاقته بمدينة جرّا خاصة وأنّ العديد من الباحثين يؤكدون أنّ 30 بالمئة فقط من آثار عنجر تمّ التنقيب عنها.
ومن الملاحظ، أنّ مدينة الوليد لم تكن بعد قد اكتملت عندما دمّرها مروان الثاني، وهذا ما يظهر من خلال وجود أجزاء واسعة في داخلها لم يعثر فيها على أيّة بُنىً إلّا إذا كانت هذه المساحات مخصّصة للتّنزّه داخل أسوارها.
وكان المهندسون في مراحل التّنقيب الأولى بدأوا بتجفيف مياه المستنقعات، ثم زرعوا أشجار اليوكاليبتوس والسّرو التي ما تزال مزدهرة إلى يومنا هذا، وتضفي على هذه الآثار العظيمة طابع المنتزه. وقد شملت أعمال التّنقيب حتى الآن كلّ الموقع ورمّمت بعض المعالم وأهمّها: القصر الكبير والجامع في الجناح الجنوبي الشّرقي، والمنطقة السّكنيّة في الجناح الجنوبيّ الغربيّ، والقصر الصّغير في الجناح الشّماليّ الغربيّ وقصر ثالث وحمّام عامّ في الجناح الشّماليّ الشّرقيّ .

دمار وأطلال
من المُفارقات الكبيرة عبر التّاريخ أنّ مدينة عنجر لم تدُم طويلاً بعد وفاة مؤسّسها حيث عمد الخليفة مروان الثّاني إلى تدميرها سنة 744 م. على أثر انتصاره على منافسه إبراهيم بن الوليد في معركة دارت على مقربة منها وما لبثت البلدة أن بدأت تتداعى حتى تحوّلت في القرن الرّابع عشرَ إلى تلال من الأطلال والتّراب وسط مستنقعات. وظلّت على هذه الحال إلى أن نال لبنان استقلاله في العام 1943 إذ بدأ الاهتمام بالآثار وبكلّ معالم التّاريخ اللّبناني فبدأت المديريّة العامّة للآثار الاهتمام بهذه المنطقة التّراثيّة والتّنقيب عن الآثار التي دُفنت تحت التّراب. وقد كان الموقع أوّل الأمر متواضعاً بالمقارنة مع باقي المواقع الأثريّة في لبنان لكنّ المعلومات التي كانت في حَوزة علماء الآثار زادتهم شغفاً بالمجيء إلى هذه البقعة الغنيّة بالدّفائن الثّمينة. وكان الخبراء يتوقّعون أن تكون آثار السّلالة الأمويّة مدفونة تحت هذه المدينة التي أخضعت المنطقة لسلطتها وهذه الخطوة كانت مهمّة في حينه لأنّ لبنان يُعتَبر مُتحَفاً لكافّة الحضارات التي تعاقبت على الشّرق لكنّه كان يفتقد إلى آثار الحضارة الأمويّة .

الأرمنُ في عَنجر
بعد الأحداث الأرمنيّة الأليمة وترحيل مئات الألوف من السّكّان الأبرياء من ديارهم على يد جموع الغوغاء وبعض فلول القوّات التّركيّة المهزومة في الحرب العالميّة الأولى، بدأ اللّاجئون الأرمن رحلة عذاب طويلة توزّعوا خلالها أوّلاً على تجمّعات ومخيّمات لجوء مؤقّتة في الدّول المجاورة، ثم توجّهت موجات منهم جنوبا باتّجاه بلاد الشّام، المعروفة بثقافة التّسامح وتعايش الطّوائف الإسلاميّة والمسيحيّة، فاستقرّ بعضهم في شمال سوريا. وفي رسالة وجهّها في 6 أيّار 1939 إلى المفوّض السّامي لفرنسا، اقترح وكيل أعمال السّجلّ والإصلاح العقاريّين الفرنسيّ وكان يدعي دورافور أن يتمّ إسكان الأرمن في جهات لبنان الأربع ومن هذه الجهات البقاع ومدينة عنجر.
بعد أن أنهت سلطات الانتداب دراسة الموضوع، باشرت مفاوضاتها مع رشدي بك توما وهو ملاّك تركي ورث عن درويش باشا عقاراً مساحته 1540 هكتاراً في عنجر. فطلب لبيع الأرض 53 مليون فرنك، سأل المفوّض السّامي الدّبلوماسيّة التّركيّة أن تمارس الضّغط عليه خاصّة وأنّ الأرمن كانوا يعيشون في ظروف صعبة ويسكنون في العراء. فوافق بعد مساعٍ على بيع الأرض بمبلغ 8 ملايين فرنك فرنسيّ مقابل تعويضه عن بيعه الأرض بأراضٍ هجرها الأرمن في السّنجق.
نُقل الأرمن في بادئ الأمر من جبل موسى إلى سوريا (مخيّم البسيط) ثمّ إلى عنجر، حيث حلّوا أولاً في مخيّم، ثمّ رسمت دائرة الأشغال العامة التابعة للمفوضيّة العليا الفرنسيّة تصميماً للقرية التي جرى بناؤها وتزايد عدد سكانها مع الزّمن واتّسعت حتى أصبحت اليوم من أجمل مدن البقاع .

طعام-وسمر-في-أحد-مطاعم-عنجر
طعام-وسمر-في-أحد-مطاعم-عنجر
مطعم-على-نبع-عنجر
مطعم-على-نبع-عنجر

 

 

 

 

 

 

عنجر البلدة
عنجر التي صَنّفت منظّمة اليونيسكو قلعتها في التّراث العربي، هي اليوم نتاج جهد وتعب وإتقان تظهر كلها في جنائن ورياض قلّ نظيرُها وبساتينُ غنّاءَ ومياه رقراقةٌ قامت على جنباتها أفخم المطاعم والمنتزهات والفنادق، وكما كانت عنجر في السابق مصيفاً للأمويّين يقصدونها للرّاحة والاستجمام وقد بَنَوْا قلعتهم فيها وقد باتت عنجر اليوم ملاذاً طيِّباً لطالبيّ الرّاحة وروّاد المنتزهات الهاربين من صخب المدينة وحرِّها.
مهرجانات قلعة عَنجر
أُقيمت مهرجانات قلعة عنجر على ثلاثة مراحل عام 1971 في عهد الرّئيس الرّاحل سليمان فرنجية الذي ترأست عقيلته لجنتها وتألف اعضاؤها من النواب الأرمن، فنظم المهرجان في كل فصل صيف على مدى خمسةَ عشَرَ يوماَ، وكان الفنّان وديع الصّافي من أبرز الفنّانين الذين أحْيَوْا المناسبة، لكنّها توقّفت مع اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان عام 1975 لتعود من جديد عام 1992 في عهد الرّئيس الرّاحل اِلياس الهراوي الذي تَرَأّسَتْ عقيلته اللّجنة.
واستضافت قلعة عنجر في تلك الفترة فرقَ باليه عالميّة وفنّانين بارزين محلّيين وأجانب. وفي عام 2004 انطلقت المرحلة الثّالثة للمهرجانات وتَرَأَّسَتْ لجنتها السيدة نسيمة الخطيب عقيلة الوزير السّابق سامي الخطيب، ولم تكن البلديّة معنيّة بشكل مباشر بهذه المهرجانات بينما كان رئيس بلديّة عنجر السّابق عضواً فخريّاً لا يتدخّل بميزانيّة المهرجانات ومصاريفها.
وبصورة عامة فقد أدّى تفاقم الأوضاع الإقليميّة وانعكاسات الحرب في سوريّة فضلاً عن الأوضاع الأمنيّة في البقاع إلى تأثير سلبيٍّ على مهرجانات عنجر التي خَفَتَ بريقها وتراجعت قدرتها على اجتذاب الفنّانين وجمهور الحضور، وقد حلّ محلّ المهرجانات بعض الحفَلات التي تُنَظّم من حين لآخرّ في القلعة من منتجين مستقلين.

الباروك

البـــــــاروك.

دار الزمن على الباروك الزّاهرة، وعصفت أحداث وتقلّبت دول وتوالت أزمات أخذت معها الكثير من فرح الأيّام الخوالي. يوم كانت البلدة خليّة نحل لا تهدأ يتهافت النّاس على تفّاحها الطّيب المذاق وفاكهتها والمتنزهون على نبعها ومقاهيها والمصطافون على بيوتها. يوم كان الوئام سائدا بين الناس والتّسامح سيّد الآداب وقانون الجيرة والشّراكة في العيش.
تبدّلت أشياء لكن بقيت أشياء وما ذهبت ببعضِه الحرب أعاد الباروكيّون بناءه أو ترميمه بجدّ وإخلاص لكنّ الباروك التّاريخيّة غاب الكثير منها كما حدث لكثير من قرى الجبل أمام زحف الدّكاكين وأبنية الإسمنت و”عجقة سير” السّيّارات التي استحوذت على المساحات والساحات والطرقات. لا يهمّ فالباروك وشقيقتها التوأم الفريديس تعيش اليوم ازدهاراً من نوع جديد، لكن أيّاً كانت خيارات البلدة في حاضرها فإنّ أمسها الزّاخر بأفعال الرّجال وأمثولاتهم لا يزال ماثلاً في الأذهان وهو الذي يعطي لهذه القرية العريقة مكانتها في تاريخ الشّوف وجبل لبنان. فماذا نعرف عن الباروك حاضراً وتاريخاً ماضياً؟

جارةُ الأرزِ والنّبعِ وبلدةُ التّفّاح والضّيافة
عَصْرٌ ذهبيٌّ غيَّبَتْه الأزَمات فمتى يَعود؟

من أعلامها مؤلّف النّشيد الوطنيّ رشيد نخلة
والمرحوم قاسم العماد وعارف بك أبو علوان

الشّيخ أبو حسن عارف حلاوة قُطب علمٍ وتقوى
ومُلْهِم البطولة وأخلاقِ الرّحمة في الحربِ والسّلام

التّسمية
تعتقد مراجع عدة أنّ أصل كلمة الباروك يعود الى واقعة مرور قوافل التّجارة عبر البلدة في اتّجاه البقاع عبر الممرّات الطبيعيّة في جبل الباروك، والذي تطلّ سفوحه الشرقية على سهل البقاع، فكانت البقعة الخضراء وتوافر المياه سبباً لاختيارها كمحطّة لجمال القوافل المحمّلة بالبضائع والتي كانت بهدف الراحة “تبرك” أي تحطّ رحالها ردحاً من الوقت قبل استئنافها رحلتها. لذلك سمّي المكان بـ “الباروك” أي مكان البَرك أو حيث تبرك جمال القوافل. وهناك تفسير آخر وهو أن يكون الاسم فينيقيّاً بمعنى المبارك وهو اسم مناسب لنبع ماء غزير. لكن في الحالين فإنّ اسم البلدة يبدو مرتبطاً بقوّة بميزة البلدة ولاسيّما أرض النّبع ودور القرية الخضراء في تجارة القوافل لفترة طويلة من التاريخ.

الموقع
تقع الباروك في سفح جبل شاهق عُرِف بجبل الباروك نسبة لاسم البلدة، ويقدّر عدد سكانها بستة آلاف نسمة يتوزّعون على 1150 وحدة سكنيّة، وتعلو الباروك عن سطح البحر بين 1,000 و1,200 متر وهي تبعد عن العاصمة بيروت 47 كلم وعن مركز المحافظة 41 كلم. ويدير شؤونها المحليّة مجلس بلدي من 15 عضواً أنشئ سنة 1920 خمسة عشر عضواً بالإضافة إلى مخاتير ثلاثة.

ميزة الباروك
تمثّل الباروك نموذجاً مُصَغّراً عن الوطن اللّبناني ففيها غابة الأرز وما تمثله شجرة الأرز التاريخيّة من الشعار الوطني للبنان، وهي تتوسّط علمه، كما أنّ الباروك تفخر بأنّ أحد أبنائها وهو الشاعر رشيد نخلة هو مؤلّف النشيد الوطني اللبناني، كما أنّها تقدّم مثالاً على العيش اللّبناني الدّرزي المسيحيّ المشترك إذ إنّ نسبة كبيرة من سكانها هم من الأسر المسيحيّة وفيها كنيستان عريقتان هما كنيسة مار جرجس للموارنة، وكنيسة مار انطونيوس للروم الكاثوليك. في القرية أيضا مجلسان للموحّدين الدّروز كما يقع فيها ضريح الشّيخ العالم أبو حسن عارف حلاوي الذي كان أبرز مشايخ الهيئة الرّوحية لطائفة الموحدين ولعب دوراً أساسيّاًّ في حماية العيش المُشترك في الجبل ومواجهة نَزَعات التعدّي والتعصّب.

باروك
باروك

اقتصاد البلدة
أبرز معالم اقتصاد الباروك وفرة المياه في البلدة إذ ينبع من سفوح جبل الباروك عدد من الينابيع، أبرزها نبع الباروك الذي يشكّل عند مصبّه على البحر المتوسّط نهر الأوّلي، أحد أطول أنهار لبنان. وبسبب غزارة مياهه ونقائها شكّل نهر الباروك تاريخيّاً الأساس لقيام اقتصاد زراعيّ في وادي النّهر بدءا ببلدة الباروك نفسها وامتداداً حتى مصبّ النّهر. وكانت الباروك البلدة الأولى في المنطقة التي اعتمدت زراعة التّفاح كما يشير رئيس تعاونيّة مزارعيّ التّفّاح الشّيخ توفيق أبو علوان، لافتاً إلى أنّ زراعة الفاكهة والتّفاح خاصّة بلغت أوجها في الخمسينيّات والستينيّات (عندما كان لبنان مصدّراً رئيساً إلى الأسواق العربيّة وكان موسم الاصطياف يستهلك قسماً مهمّاً من الإنتاج المحلّيّ، واستمرّت الزّراعة على ازدهارها وإنتاجيّتها العالية حتى العام 1973 عندما بلغ إنتاج الباروك من التّفّاح وأنواع الفاكهة نحو 190 ألف صندوق. وكان تفّاح الباروك من أفضل النّوعيات. ينقل الشيخ توفيق عن والده المرحوم الشيخ عارف أبو علوان الذي كان مهاجراً في تشيلي المشهورة بتفاحها، أنّ تفّاح الباروك كان يضاهي تفاح تشيلي. وعلى صعيد الزّراعات الأخرى فقد كان في الباروك بالإضافة إلى زراعة الحبوب والتفّاح زراعة العنب وكان في البلدة أربع معاصر للعنب تخدم الإنتاج الوفير الذي كانت تتمتّع به البلدة.
لكنّ اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان وظهور خطوط التّماس بين المناطق وتعرقُل حركة الترانزيت إلى الدّول العربيّة، وكذلك تعطّل الشّحن البحري والجوّي لفترات طويلة من السّنة، عرقل عمليات التّصدير وأدّى إلى تدهور الأسعار، فتراجعت كلّ الزّراعات من حبوب وعنب وفاكهة بالإجمال وفاقم الوضع عدد من العوامل التي نشأت أيضاً عن ظروف الحرب وأهمّها عدم توافر الإرشاد الزراعيّ بدرجة كافية وضآلة المساعدات مثل النّصوب المؤصلة المقاومة للآفات وغير ذلك من التقديمات فأصبح إنتاج الباروك من التفّاح اليوم لا يتجاوز 30,000 صندوق والباقي لم يعد موجوداً.
ويضيف الشّيخ توفيق القول: “لا توجد حقيقة خطّة حكوميّة جادّة لتنمية الزّراعة، وهذا يُشعر المزارع أنّه لوحده في معظم الأحيان، ويجعله يخشى الاستثمار في الزراعة. على العكس من ذلك، فإنّ الدّول التي تهتمّ بالزّراعة والمزارعين لديها دراسات مفصّلة عن سبل تنمية الزّراعة ودعم المزارعين، وهذه الدّول تدرس طبيعة كلّ أرض أو تربة وارتفاع الموقع عن سطح البحر وطبيعة المُناخ وتوافر المياه بهدف توجيه المزارعين للزّراعات الأنسب والأكثر جدوى كما أنّهم ينشئون مصانع للمنتجات التي يتعذّر تصديرها أو تصريفها محليّاً”

السفير نهاد محمود عندما كان ممثلا للبنان في الأمم المتحدة يعرض الموقف اللبناني أثناء العدوان الإسرائيلي عام 2006
السفير نهاد محمود عندما كان ممثلا للبنان في الأمم المتحدة يعرض الموقف اللبناني أثناء العدوان الإسرائيلي عام 2006

تربية الماعز
نظراً لمساحات جبل الباروك الشاسعة والمراعي الطبيعية في سفوح الجبل فقد نمت في الماضي تربية المواشي وخاصّة الماعز منها، لكن كبير مربي قطعان الماعز في الباروك السيد أبو فريد ملحم محمود يشكو تبدّل الحال مشيراً إلى تراجع ثروة الماعز في السّنوات الأخيرة والتي باتت لا تتجاوز الـ 3,500 رأس ماعز لدى ثلاثة أو أربعة مربّين، وبما أنّنا لم نعد نجد أشخاصاً مستعدّين للمساعدة في الرّعي فقد أصبحنا نأتي بالرّعيان بالحصّة أي بنصف الإنتاج لأربع سنوات وبعد ذلك يصبح كلّ القطيع مناصفة. وتشمل الشّراكة مُنتجات الحليب علماً أنّ تصنيع الأجبان والألبان يتمّ يدويّاً لعدم وجود مصانع تتسلّم الحليب.
إنّ كلفة تربية القطيع أصبحت مرتفعة، لأنّه لم يعد في إمكاننا نقل الماعز إلى السّاحل في فصل الشتاء، كما كانت الحال في الماضي، نظراً للظّروف الأمنيّة وأصبحنا مُجبرين على أن نقدّم الأعلاف للماشية في الشّتاء مما يرفع تكلفة القطيع فيأكل من الأرباح.

تربية الأبقار
لا يوجد في الباروك مزارع أبقار على مستوى كبير وواسع بل يوجد عدد قليل من مربّي الأبقار الصّغار وحيث لا يتجاوز عدد بقرات كلّ حظيرة العشر بقرات ويصرّف إنتاجها محلّياً، وهناك القليل الذي يُوَرّد إلى تعاونيّات المنطقة.

تربية النّحل
توفّر تربية النّحل دخلاً إضافيّاً لعدد من النّحّالين في الباروك الذين يملكون في ما بينهم نحو 800 خليّة نحل أو “قفير” وتستقطب تربية النّحل مزارعين أو متقاعدين يتّخذونها حرفة ثانويّة، لكن ما من نحّالين يعتمدون بالكامل على إنتاج العسل كما أنّ ضعف الرّعاية الحكوميّة للنّشاط والإرشاد والتّكلفة المتزايدة للاستثمار والجهد المطلوب للعناية بالنّحل على مدار العام قلّص من عدد المهتمّين بهذا القطاع. مع العلم أن موقع الباروك على سفح سلسلة من الجبال المشهورة بأزهارها البرّية يمكّنها من إنتاج عسل جرديّ فاخر وذي خصائص علاجيّة.

بلد النزهات والاصطياف
كانت الباروك وحتى اضطراب الأوضاع الأمنيّة في لبنان بلد اصطياف ومنتزهات ومطاعم يقصدها السّيّاح العرب أو المتنزهون اللبنانيّون ويتوزّعون بصورة خاصّة بين مطاعم النّهر والفنادق ومدينة الملاهي التي مضى عليها سنوات طويلة وباتت تُعتَبر مَعلماً مهمّاً لتسلية العائلات. وقد جذبت الباروك عدداً من أثرياء السّعوديّة والخليج الذين بنَوْا فيها فيلات وبيوتاً للاصطياف، كما قامت عدة فنادق في مواقع قريبة من النّهر أو على طريق الأرز بهدف استقطاب النّزلاء وحفلات الزّفاف وروّاد المطاعم.

 صعوبة نقل الماعز إلى الساحل شتاءً يرفع تكلفةُ تربيةِ القُطعان لأنه يُجبِر المربّين على تقديم الأعلاف والتّضـــــحية بأكثر الأرباح
صعوبة نقل الماعز إلى الساحل شتاءً يرفع تكلفةُ تربيةِ القُطعان لأنه يُجبِر المربّين على تقديم الأعلاف والتّضـــــحية بأكثر الأرباح

فنادق ..للصّيفيّة
يشير صاحب فندق باروك بالاس السيّد حافظ محمود إلى أنّ أكثريّة مطاعم ومنتزهات الباروك تقفل في فصل الشّتاء، أمّا نحن فنقفل الفندق والمنتجع في البلدة ونبقي على مطعم وفندق السّائح مفتوحا طيلة أيام السّنة، حيث نستقبل روّاد جبل الأرز في موسم الثّلج.
وذكر محمود إنّه تمّ قبل سنوات طُرِحت فكرة إنشاء تلفريك ينقل السياح فوق غابة أرز الباروك، وكان المشروع في مرحلة متقدّمة ويقترب من التنفيذ بالشراكة مع شركة ألمانية عندما وقعت حرب تموز 2006 فتخلّت الشّركة عن المشروع بسبب ما اعتبرته تراجع الجدوى في ظل الوضع الأمني المستجدّ.
يعزز ميزات الباروك كبلد نزهات واصطياف عدد من المواقع الطبيعيّة والأثريّة منها غابة أرز الباروك (والمعاصر) وهي أكبر غابة في لبنان وشرق آسيا تحتوى على ثلاثة ملايين شجرة تقريباً، ويزورها أكثر من 50 ألف سائح سنوياً، ونبع الباروك والذي يروي نحو مائة قرية.
حرج دلبون الطّبيعيّ ويحتوي على مئات الألوف من أشجار السّنديان المعمِّرة
ومن المواقع الأثريّة: مغارة وادي الكشك في سفح جبل الباروك.و “جرن النّاووس”

بلديّة الباروك – الفريديس
عاهد المجلس البلديّ الأهالي على تنفيذ عدّة مشاريع تنمويّة تسهم في تحسين صورة الباروك كبلد اصطياف وسياحة وقدّم رئيس البلديّة هبة لصيانة شبكة الكهرباء وإضاءة المصابيح كما اتّخدت البلديّة قراراً ببناء قصر بلديّ وتمّ شراء الأرض والبدء بالبناء. ومن المشاريع التي أوردها المجلس البلديّ في برنامج عمله: تنفيذ مشروع الصّرف الصّحيّ مع إنشاء محطّة تكرير وتجميل مداخل البلدة وتوسيع الطّرقات وشقّ طرق زراعيّه وإنشاء ملعب بلديّ نموذجيّ.

“مشروع تلفريك الأرز كان على وشك التّنفيذ من شركة ألمانية لكنّ حرب تموز 2006 ذهبت بالشّركة.وبالمشروع! “

مميّزون من الباروك
الباروك بلدة تضمّ عائلات عريقة لعبت دوراً في تاريخ لبنان وأحداثه ولا يكتمل موضوعنا عنها من دون التوقّف للتّعريف بعدد من رجالاتها الأفذاذ السابقين، ونحن نعلم هنا دقّة المهمّة كما نعلم أنّ البلدة قدّمت في العقود المعاصرة عدداً كبيراً من الشّخصيّات المؤثّرة والبارزة لكنّنا سنتوقّف في ما يلي عند عدد من الرّجالات والسيّدات من السّلف أو من الذين عاشوا في مطلع القرن الماضي أو أواسطه وذلك بناء على بعض المراجع المتوافرة مع علمنا أنّنا لم نُحَط بالموضوع لذلك فإنّنا نستميح القارئ عذراً إذا وجد في هذا الباب نقصاً لأنّه نقص تسبب من عدم كفاية المراجع أو هو من قبيل السّهو غير المقصود.

رشيد بك نخلة
شاعر كبير اشتُهر بكونه مؤلّف النّشيد الوطنيّ اللبنانيّ، كان أيضاً سياسيّاً بارعاً وكان أحد أركان الإدارة والقضاء في عهد الرّئيس حبيب باشا السّعد. باشر الوظائف كاتب تحريرات قائمقاميّات بلاد الشوف في عهد الأمير مصطفى أرسلان، ثمّ مديراً للعرقوب ثم مديراً للمعارف في لبنان، ومديراً “للأوقاف والأديان والمصالح العامّة في الجبل. ومع إنشاء دولة لبنان الكبير عُيّن مفتّشاً للأمن العام ثمّ محافظاً لصور 1925. نُفي إلى فلسطين في مدّة الحرب العالميّة الأولى بسبب نضاله الاستقلاليّ ثم نُفي بعد عودته إلى بلاد الأناضول. كان زعيماً شعبيّاً ووطنيّاً مجاهداً ونادى في عهد الانتداب الفرنسي بالاستقلال التّامّ وترأس المؤتمر الوطنيّ عام 1933 الذي كان من أهمّ مقرًراته وضع دستور للبلاد على أساس غير طائفي.

أمين نخلة
كان أمين نخلة شاعراً وكاتباً ومحامياً وسياسياً وصحافياً تميّز بحسن الخلق والرّصانة واللين ولقّب “بشاعر العرب”. تعلّم في مدرسة الأخوة الرّيمانيين في دير القمر وحين وقعت الحرب الكونية الأولى عاد إلى بيته، فسعى الأمير شكيب أرسلان إلى تعيينه مديراً لناحية العرقوب ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشْرةَ من عمره فكان أصغر حاكم إداري في الدولة العثمانية. زاول المحاماة وأصدر جريدة “الشّعب” التي كان قد أسسها والده وترك الكثير من المؤلّفات في الأدب واللّغة والتّاريخ والقانون. وكان له صداقات كبيرة منها مع الملك فيصل بن عبد العزيز، الأمير شكيب أرسلان، كمال جنبلاط، بولس سلامة وخليل مطران وأمين الريحاني وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ورياض الصّلح وأحمد رامي.
فؤاد الحداد: كاتب وأديب وناقد سياسي
حبّوبة الحدّاد: أديبة ومؤلّفة قصصية.
مُنتهى الحداد: ولدت في الباروك وأمضت حياتها في مهنة التّعليم منذ مطلع القرن العشرين وتحملت مسؤوليات مدرسة الباروك معلّمة ومربّية لأجيال كبيرة من أبناء البلدة. كانت موضع تقدير واحترام من كافة أبناء الباروك.
فريد أسعد الحداد: كان مناضلا تقدّميا في قوّة حفظ الأمن أثناء الأحداث الأهليّة، استشهد عام 1976 في بلدة معاصر الشوف أثناء عمليّة أمنيّة وملاحقته أحد المطلوبين للعدالة.

عائلة أبو علوان
يعود أصل هذه العائلة إلى عبد الله بن غطفان من بني أسد الملقّب بالعلوي نسبة إلى عائلة مجيدة وسمّي ايضاً شيخ أبي علوان قرّب الأمير فخر الدين المعني شيوخ هذه العائلة منه ولاسيّما أصحاب العمائم لوفائهم وصدقهم وبرز من العائلة رجال كان لهم ادوار وبصمات في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة منهم:

بو علوان بن ناصر الدّين بن نعمان المعروف بالباروكي
ولد في الباروك سنة 1603 م. في الباروك واشتهر بهيبته وسكوته وبقوته الهائلة، كان من المقرّيبين إلى الأمير فخر الدّين الثّاني فخاض معه كثيراً من المعارك وكان إلى جانبه في أوقات ضعفه وبقي معه حتى آخر أيّامه قبل أن يستسلم على يديّ أمير البحر جعفر باشا وحارب ضدّ المعنيين في عهد الأمير علي علم الدّين.

سعيد بن مصطفى بن نبهان بن غيث بن عثمان بن شبلي أبو علوان
وُلد في الباروك وقبل ودرس في المدرسة الداوودية إلى جانب العربية التركية والفرنسية والانكليزية وفي سنة 1875 انتخب عضواً في مجلس إدارة جبل لبنان، لكن المتصرف رستم باشا كان يحقد عليه بسبب انتصاره للمطران بطرس البستاني وارساله عرائض بهذا الموضوع الى السلطان على يد رافع عبد الصمد فحل رستم باشا مجلس الإدارة لكن سعيد بك أبو علوان عاد بنسبة عالية من الأصوات: اشتُهر سعيد بك بنزعته التحرّرية وبكونه رجل الملمّات وفي عهد المتصرف نعوم باشا كانت أعقد المشاكل تُحلُّ بسبب صداقته القوية مع المتصرف. شغل عضوية مجلس إدارة جبل لبنان لمدة طويلة ثم عُيِّن مديراً لناحية العرقوب ثم قائمقاماً للشوف.

نهر-الباروك-أحد-أهم-االمواقع-السياحية-في-لبنان-يوزع-مياهه-على-أكثر-من-مئة-قرية
نهر-الباروك-أحد-أهم-االمواقع-السياحية-في-لبنان-يوزع-مياهه-على-أكثر-من-مئة-قرية

شكيب بن فارس بن نعمان بن نبهان أبو علوان
ولد في الباروك سنة 1898 وتوفي سنة 1975 وأنهى دروسه الثانويّة في المدرسة الشّرقيّة في زحلة وتابع علومه في الاستانة ، تولّى منصب مدير ناحية المناصف، سافر بعدها الى أميركا الجنوبية اشتهر بنبله وانسانيته وشخصيته القوية.

ضاهر بن خطّار بن فاعور أبو علوان
كان من وجهاء قومه لكنّهم ثاروا عليه وقتلوه لأنّه كان يخالفهم في ميله إلى الشيخ عبد السلام عماد ومخالفته غرضيتهم الجنبلاطية فحضر الأمير يوسف الى الباروك لمعاقبة المجرم ففر آل أبي علوان خارج البلاد فاستنجدوا بالجزّار في عكا الذي مدّهم بالعسكر فخاضوا معركة خاسرة في نَهر الحمّام ضدّ الشيخ كليب أبي نكد ومعركة أخرى في عَلمان ضدّ ابنه الشّيخ بشير فتغلّبوا فيها لكنّهم آثروا الرّجوع عمّا ابتغَوْا فعادوا بالعسكر إلى صيدا.

عارف بن فرحان بن سعيد بن مصطفى أبو علون
وُلِد في الباروك وتلقّى علومه في المدرسة الشّرقيّة في زحلة وكان لامعاً وخصوصاً في اللّغة العربية حيث كتب النّثر والشّعر وعُدّ بين الأدباء.
عمل عارف بك مستشاراً لدى الملك فيصل عندما دخلَ الشام ثم رجع إلى لبنان ليُعنَى بالزّراعة في أملاكه من غير أن يغفل عن السّياسة، فكان مقرّباً من دار المختارة في عهد فؤاد بك ثم السّت نظيرة ثم كمال بك ثم أسهم في تأسيس الحزب التّقدميّ الاشتراكيّ، وكان عضواً في الجبهة الوطنيّة. ناصر الثّورة الشّعبيّة سنة 1958 برجاله وماله. توفّي في تلك السّنة وأبّنه كمال بك جنبلاط وعدد من الخطباء حضر مأتمه سفير مصر عبد الحميد غالب الذي كان يحمل رسالة تعزية من الرّئيس جمال عبد النّاصر.

عبد القادر بن يوسف بن عبد الحميد أبو علوان
وُلد سنة 1920 م. ونبغ باكراً ومال إلى الزّهد والتّقشّف والتّقوى وأولع بالعلوم الدّينية وسير الأنبياء والأولياء والصّالحين وفي الثّالثة عشرَةَ من عمره نظم قصيدة كانت من الأشعار الرّوحية المميّزة، وهي القصيدة المخمّسة المعروفة بالقادريّة.

عثمان بن نبهان بن عفيف بن شبلي أبو علوان
وُلِد في الباروك ونشأ نشأة صالحة في بيت وجاهة فكان ذكيّاً شجاعاً محبّاً للعلم واسع الاطلاع. وعندما وقعت احداث 1825 كان مع بيت أبو علوان إلى جانب الزّعيم الجنبلاطي وأصابهم ما أصابهم من نقمة الأمير بشير واضطهاده. فنزحوا معه ولم يرجعوا إلا عند رجوع المنفيّين سنة 1840 فوجدوا ديارهم خراباً. ثار بالاتّفاق مع الشّيخ يوسف بك عبد الملك على عمر باشا النّمساوي سنة 1842 وفي سنة 1860 اعتقله فؤاد باشا مع عدد من زعماء الدّروز ونفيَ إلى بلغراد قرابة أربع سنوات ولمّا عاد من المنفى اعتزل السّياسة وارتدى الزِّيَّ الدّيني وانصرف الى العبادة، وتوفّي سنة 1876.

فرحان سعيد مصطفى غيث أبو علوان
وُلِد في الباروك وتلقّى علومه في المدرسة الشّرقيّة في زحلة فاتقن إلى جانب العربيّة الفرنسيّة والتّركيّة والايطاليّة والانكليزيّة فعُيّن قائمّقاماً للشّوف سنة 1911 وفي العهد الفرنسيّ كان فرحان بك عدوّاً لدوداً للفرنسيين. كانت له أيادٍ بيضاء على الفقراء والمعوزين. شارك في مأتمه الشّيخ محمد الجسر ممثلاً رئيس الجمهورية شارل دباس.
محمد نجم شبلي أبو علوان المعروف بالباروكي
رجلٌ تقيّ ورع صاحب فضيلة وكرامات أُولِع بالأسفار في شبابه فطاف في بلدان آسيا حتى وصل إلى الصّين واكتسب كثيراً من العلم والمعرفة الرّوحيّة حتى صار من أغزر مشايخ الطّائفة علماً وأوفرهم طيبة ورقة وتقوى.

يوسف نجيب سلمان أبو علوان
كان مسكنه الفريديس وكان من وجهاء البلاد فلمع نجمه – وبعد أن قضى الأمير بشير على آل نكد وانصرف للقضاء على آل عماد استدعى آل أبو علوان واخذ يُزيِّن لهم السيادة ويثير طامعهم ويشجّعهم على عداوة آل عماد. وبعد نزع يد آل عماد أطلق يد آل أبو علوان وكان على رأسهم الشّيخ يوسف الذي انقلب على الأمير وحرّم على رجاله المرور في المنطقة فحرّض الأمير أبناء أخيه عليه ومنّاهم بالوعود فقتلوه غدراً لكنّ الأمير حين طالبوه بما وعد أمر بإعدامهم.

آل العماد
جدود آل عماد في الباروك ثلاثة هم عماد وسرحال وبوعذرا. قدموا من الجبل الأعلى وسكنوا الزّنبقية وعين وزين ثم استقرّوا في الباروك. وكانت الرّئاسة لأحد الإخوة وهو الشّيخ عماد وكان له أربعة أولاد تقول الرّوايات بأنهم قُتلوا جميعا في ساحة القتال: الأوّل سنة 1633 في معركة خان حاصبيّا التي قتل فيها الأمير علي بن فخر الدّين وقُتل الثاني مع التّنوخيين الذين قتلهم الأمير علي علم الدين في عبيه، وفي السّنة التي تلتها قُتل الثالث في المغيرية ثم مات الرّابع وجميعهم ماتوا بلا عقب.

الشيخ توفيق أبو علوان
الشيخ توفيق أبو علوان

فايز حسين حمد جهجاه عماد
وُلدَ في الباروك وتلقّى علومه في مدرسة القرية ثم في الدّاودية عبيه ثمّ في الجامعة الوطنيّة وتخرّج مُزَوّداً بعلم وافر. عيّن سنة 1921 مديراً لعرقة الجنوبي خلفاً للشّيخ مصطفى العيد ثمّ قائمّقاماً للشّوف سنة 1923 وفي سنة 1929 ترشّح للنّيابة عن الشّوف فابعدته السّياسة الانتدابيّة عن النّجاح فعُيّن سنة 1937 قائمّقاماً للبترون ثمّ سنة 1938 لزغرتا ثم سنة 1941 لِجِزّين ثمّ انتقل إلى جديدة المتن ثم كُلّف محافظاً للشّمال مدّة 14 شهراً سنة 1952 ثم أُعيد إلى مركزه ثمّ أُسندت إليه محافظة البقاع بالوكالة وكان طيلة حياته معروفاً بالنّزاهة والإخلاص.

قاسم تامر قاسم عبد السّلام فارس عماد
وُلِدَ في الباروك وتلقّى علومه في الجامعة الوطنيّة/ عاليه ثمّ تخرّج محامياً من جامعة القدّيس يوسف واشتغل في المحاماة وفي سنة 1962عُيّن رئيساً لمصلحة الصّحافة والقضايا القانونيّة في وزارة الأنباء ومثّل وزارة الإعلام في مؤتمر الإعلام العربيّ في الجزائر ثمّ عُيّن مديراً عامّاً لوزارة الدّفاع ثمّ بالوكالة. اغتيل في طرابلس سنة 1975 عندما كان محافظاً للشّمال ودُفن في الباروك.

مصطفى كنج ناصر الدين عماد
وُلِدَ في الباروك ودرس مبادىء القانون وتعلّم التّركيّة وعيّنته الدّولة مديراً للمال في قضاء الشّوف ثم عيّنه مظفّر باشا برتبة بكباشي في الجندية سنة 1899 عُرف خلالها بالنّزاهة والجرأة والاستقامة. وأثناء الحرب العالميّة الأولى نُفي إلى الأناضول واشترك هناك بتأسيس حزب الثالوث مع الأمير توفيق أرسلان وفؤاد بك عبد الملك والشّيخ محمود جنبلاط والشّيخ محمود تقيّ الدّين، وبعد عودته من المنفى عيّنته الدّولة الفيصليّة عضواً في المجلس الثّوري في دمشق ثمّ عُيّن عضواً في اللّجنة البرلمانيّة وأحرز الرّتب والأوسمة العثمانيّة والفرنسيّة.

ناصر الدّين بو النّصر بشير عماد سيد أحمد عماد
وُلدَ في الباروك كان بطلاً مغواراً شجاعاً مقداماً قال عنه الشّدياق أشجع أهل زمانه اشترك في كثير من الأحداث التي جرت في البلاد.
ففي سنة 1807 طلب جرجس باز من الأمير بشير الشهابي أن يعاقب آل عماد فبعث إليهم بسبعين مُحَصّلاً يرهقونهم ويثقلون عليهم فطلب المشايخ إلى الأمير حسن أن يتوسّط لدى أخيه الأمير بشير فوعدهم شرط أن يقتلوا جرجس باز وأخاه عبد الأحد وبما أنّ جرجس باز كان يحرّض الأمير على المشايخ فقد وافقوا على قتله وذهب الشّيخ ناصر الدّين الى جبيل مع رجاله وتبادلوا إطلاق النّار مع عبد الأحد وأصيب الشّيخ ناصر الدّين في يديه، وقُتِل الشّيخ خطّار المُصفي أمّا الأمير بشير فقد قَتَل جرجس باز في اليوم نفسه في دير القمر.
كما قاتل مع مصطفى باشا والي حلب وكان من موالي الشّيخ بشير جنبلاط ضدّ الأمير بشير وفي سنة 1831 بعد موافقة الأمير بشير على رجوع النازحين من آل عماد رجع الشيخ ناصر الدين واستقرّ في الباروك.

الشّيخ أبو حسن عارف حلاوي
ولي من أولياء لبنان، وعلم من اعلام التقى والورع والزهد، ولد في الباروك عام 1899 ميلادية، وقضى قسماً كبيراً من حياته في بلدة معصريتي، كان مزاراً ومقصداً لكبار القوم كما لعامتهم وقد قدم للتبّرك به رؤساء ووزراء ونواب وشخصيات عديدة من البلاد أيضاً وبعد وفاته أصبح مقامه مزاراً لكل الناس. وقف الى جانب القيادة السياسية أثناء عواصف واحداث الجبل للحفاظ على وحدة الكلمة والموقف. كما كان داعياً من دعاة المحبة والخير والسلام. كما كان داعماً للوحدة الوطنية على أساس الاحترام المتبادل والعيش المشترك. وكثيراً ما كان يردد: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).

رفيق سعيد حسين حلاوي
وُلِدَ في الباروك وتلقّى علومه الاوّليّة في المدارس المحلية ثم في مدارس جبل الدّروز والتحق بالكلّيّة الجوّيّة الحربيّة في الجيش السّوري في حلب سنة 1954 وانتقل إلى الكليّة الحربيّة في حمص وتخرّج سنة 1957 برتبة ملازم ترقّى في المناصب العسكريّة وكان قائدا لأحد قطاعات جبهة الجولان سنة 1967.
عُيّن نائباً لرئيس محكمة أمن الدّولة برئاسة العماد مصطفى طلاس ثمّ تخرّج من معهد الأركان ثمّ عُيّن قائداً للواء 78 برتبة عقيد ونال وسام الجيش ووسام الثّورة وعدداً آخر من الأوسمة. عُرِف بالرّصانة والجديّة واستشهد في معارك القنيطرة عام 1973.

آل محمود
يُعتبَر آل محمود من أكبر العائلات في بلدة الباروك وقد برز منهم عدد من الشّخصيّات في السّلك الأمنيّ والعسكريّ والإداريّ كما برز منهم مشايخ تقوى وورع، ومن أبرز الشّخصيّات التي تنتمي إلى العائلة السّفير نهاد محمود الذي كان سفيراً للبنان في المكسيك وفي عدد من العواصم العالميّة وبرز اسمه بصورة خاصّة أثناء العدوان الإسرائيليّ على لبنان في تمّوز 2006 إذ كان يومها ممثّلاً للبنان في الأمم المتّحدة ولعبَ دوراً مهمّاً في إبراز الموقف اللّبناني في مواجهة المزاعم الإسرائيليّة وقام بعمله بكفاءة مشهودة.

الكنيسة
الكنيسة

نجيب قاسم نعمان حلاوي
وُلِدَ في الباروك وتلقّى علومه الأوّليّة في المدارس المحلّيّة ثمّ سافر إلى الآستانة وتخرّج من كلّيّة الطّب طبيب أسنان سنة 1912 مارس المهنة أوّلاً في راشيّا بناءً لدعوة من صديقه وزميله الدّكتور قبَلان الحدّاد طبيب القضاء هناك ثمّ انتقل إلى بيروت حيث مارس مهنته بكثير من الإنسانيّة حتى تقدّمت به السّنّ فاعتزل المهنة واعتكف في بيته في الباروك ليعتني بادارة أملاكه توفّي سنة 1976.

حَمّود الينطاني
عاصر الحكم العثمانيّ والفرنسيّ وكان مُكلّفاً من قبل الشّيخ خطّار العماد بجباية إيرادات أملاكه وقد كان شجاعاً ومشهوداً له بالرّجولة والبطولة ومقاومته للاحتلال العثمانيّ والفرنسي.

ملحم فارس أبو علي كرباج
وُلِدَ في الباروك وهاجر في مطلع شبابه إلى الأرجنتين وفي العام 1905 أسّس وأصدر جريدة الحقائق باللّغة العربيّة التي استمر إصدارها حتى وفاته.

بشر الحافي

لا يجد من يحبّ الدنيا حلاوة العبادة

الإمام بشر الحافي

الصوفي الذي أمات نفسه

قل لمن طلب الدنيا: تهيأ للذل
الجُوعُ يُصَفِّي الفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الهَوَى وَيُورِثُ العِلْمَ الدَّقِيقَ

لا تعمل الحسنة لكي تُذكَر، اكتم الحسنة، كما تكتم السيئة
ولا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح

الإِمَامُ الزَّاهِدُ أبو نصر بِشْر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وعبد الله كان اسمه بعبور، أسلم على يد علي بن أبي طالب (ع). كان واحدًا من كبار أعيان السلف الصالح الذين ولدوا في القرن الثاني الهجري. ومن الألقاب التي أطلقت عليه في زمنه “الإمام العالم” “المحدِّث” “الزاهد” “الرباني” “القدوة” و”شيخ الإسلام”.
ولد سنة 152هـ، وارتحل في العلم وأخذ عن مالك وشريك وحماد بن زيد، وكان عالمًا ورأسًا في الورع والإخلاص، صَحِب الفضيل بن عياض، قال السّلمي: كان بشر من أولاد الرؤساء، فصحب الفضيل، سألت الدارقطني عنه، فقال: زاهد، جبل، ثقة، ليس يروي إلا حديثًا صحيحًا. وقال عنه أبو حاتم: ثقة رضي، ووثقه مسلمة، أصله من مرو سكن بغداد ومات بها، سنة 227 هـ وهو ابن 76 سنة. وقد أفرد ابن الجوزي مناقبه في كتاب.

سبب توبته
قيل أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله تعالى وقد وطئتها الأقدام، فالتقطها واشترى طيبًا فطيّب به الورقة ووضعها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلا يقول: يا بشر، طيّبتَ اسم الله، ليُطَيّبَنّ اسمك في الدنيا والآخرة، فلما تنبّه من نومه تاب.

شيوخه
سمع الحديث من إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَابْنِ المُبَارَكِ وغيرهم.
حَدَّثَ عَنْهُ: أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الجَوْهَرِيُّ، وَسَرِيٌّ السَّقَطِيُّ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ هَانِئ النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.

مناقبه
بلغ من التقوى والورع والزهد في الدنيا ما جعل ذكره على ألسنة الخَلْق.
كان له ثلاث أخوات زاهدات ورعات استفاد منهن، وقد أورد ابن خلكان في “وفيات الأعيان” قصة مُفادها أن امرأة دخلت على الإمام المجتهد أحمد إبن حنبل (ر) وسألته قائلة: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفئ السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل عليَّ أن أبَيّنَ للمشتري غزل السراج من غزل القمر، فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك. وسألته غير ذلك من الأسئلة وخرجت.
فقال الإمام أحمد عنه لابنه عبد الله: ما سمعتُ إنسانًا قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة اتبعها، فتبعها ابنه إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرف أنها أخته، ولما أخبر الإمام أحمد قال له: هذا والله هو الصحيح، لا تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي.
ويروي ابن خلكان عن سبب تسميته بالحافي أنه جاء إلى إسكافي يطلب منه شسعًا لإحدى نعليه، وهو الزمام يوضع في النعل ويكون بين إصبعين، فقال له الإسكافي: ما أكثر كلفتكم على الناس أيها الفقراء، فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف ألا يلبس نعلاً بعدها.
ومن الروايات التي تظهر تقواه وورعه ما رواه الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” وهو أن أخته قالت له: يا أخي قد بلي إزارك، فلو جئت بقطن حتى أغزل لك، فصار يأتي بالقطن ويحسب وزنه حتى انتهت أخته من الغزل، فأخذه وأخرج ألواحه ووَزَنَه فإذا بأخته قد زادت فيه فأعاده إليها وقال: كما أفسدتِيهِ خذِيه.

ومن أخبار مخالفته لنفسه
ذكر الخطيب البغدادي أن أم بشر الحافي قالت له: أطلب لي سفرجلة، فجاء بها وصار يشمها ووضعها بين يديه، فقالت له أمّه: يا أبا نصر كُلْها فما زال يشمها وأبى أن يأكل السفرجل في كل حياته.
وعن “تاريخ بغداد” أيضًا أن جارًا له بقالا كان قد عمل طعامًا لذيذًا مطبوخًا بالباذنجان، فمر بشر فنظر إليه فعلم البقال أنه اشتهاه، فتبعه وقال له: بأبي أنت، هذا الباذنجان تعمله بُنيَّة لي من غزل تغزله وأبيعه لها فخذ منه ما شئت، فقال له بشر: ارجع حفظك الله، فرجع البقال وسمعه يخاطب نفسه قائلاً: هيه، افتضحتِ، تشتهين الباذنجان بأصباغه؟ والله لا تذوقينه حتى تفارقي الدنيا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرْوَزِيُّ: سَمِعْتُ بِشْراً يَقُوْلُ:الجُوعُ يُصَفِّي الفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الهَوَى وَيُورِثُ العِلْمَ الدَّقِيْقَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بنَ الحَارِثِ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأَشتَهِي شِوَاءً مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً مَا صَفَا لي درهمه.

قال محمد بن عبد الوهاب الفراء: حدثنا علي بن عثام، قال : أقام بشر بن الحارث بعبادان يشرب ماء البحر، ولا يشرب من حياض السلطان، حتى أضر بجوفه، ورجع إلى أخته وَجِعا، وكان يعمل المغازل ويبيعها ، فذاك كسبه. وكان يأكل الخبز فقط فقيل له: أما لك أدم؟ فقال: بلى أذكر العافية فأجعلها أدماً.

حكمه ومواعظه
كان بشر الحافي لا يتكلم إلا في الخير، وإذا تكلم كان جُلّ كلامه حكمًا ومواعظ تذكر بالآخرة وتحث على الازدياد من الطاعات والخيرات، كما كان لسانه لا يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أقواله في الحكمة والحث على التقوى أنه سئل عن القناعة فقال:“ لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزئ”، ثم أنشد يقول:
أفادتنـــــــي القنـــاعةُ كُــــــــــــــلُّ عـــــــــــــزٍ وهل عزٌ أعـــزُّ مـــــــن القنـــاعــــة؟
فصِّيْــــــــــرها لنفســكَ رأس مـــــــــالٍ وصيرِّ بعدها التقــــــــــــــوى بضــاعـــةْ
تَحـــُزْ ربحـاً وتغنى عــــــــــن بـــــــخل وتنعمُ في الجنــــــــــانِ بصبرِ ساعةْ

ومن أشعاره الحِكَمية قوله:
قَطْعُ الليـــالي مـــــــــــــــــع الأيام في خَلَـــــقِ والنوم تحت رُواق الهـــــم والقلـــــق
أحرى وأعـــذرُ لي من أن يقال غدا إني التمست الغنى من كف مختَلَق
قالوا رضيتَ بذا قلتُ القُنوع غِنىً ليس الغنى كثرة الأمـوال والورِق
رضيتُ بالله في عسري وفي يُسري فلســـت أسلك إلا أوضح الطُـــرُق
ومن دعائه: “اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني”.

ثناء العلماء عليه
بدأ الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” ترجمة بشر الحافي بقوله: “وكان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفرة العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول”. وقال مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما تقول في هذا الرجل فقال: أي رجل قيل: بشر، فقال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال.
وقال إبراهيم الحربي: رأيت رجالات الدنيا، لم أرَ مثل ثلاثة: رأيت أحمد بن حنبل وتعجز النساء أن تلد مثله، ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءًا عقلا، ورأيت أبا عبيد القاسم بن سلام كأنه جبل نُفخ فيه علم.
وقَالَ إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ: مَا أَخْرَجَتْ بَغْدَادُ أَتَمَّ عَقْلاً مِنْ بِشْرٍ، وَلاَ أَحْفَظَ لِلِسَانِه، كَانَ فِي كُلِّ شَعرَةٍ مِنْهُ عَقْلٌ، وَطِئَ النَّاسُ عَقِبَه خَمْسِيْنَ سَنَةً، مَا عُرِفَ لَهُ غِيبَةٌ لِمُسْلِمٍ، مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ!

وفاته
ذكر ابن خلكان عدة أقوال في وفاته فقال: “توفي في شهر ربيع الآخر سنة مائتين وست وعشرين للهجرة، وقيل مائتين وسبع وعشرين، وقيل يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، وقيل بمرو” وقد بلغ من السن خمساً وسبعين سنة.

ثناء العلماء عليه
قال إلإمام أحمد بن حنبل يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس ولو تزوج لتم أمره. وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله، وقال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة مسلم، وكان في كل شعرة منه عقل ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.
وقال يعقوب بن بختان : سمعت بشر بن الحارث يقول : لا أعلم أفضل من طلب الحديث لمن اتقى الله ، وحسنت نيته فيه، وأما أنا، فأستغفر الله من طلبه، ومن كل خطوة خطوت فيه
قِيْلَ: كَانَ بِشْرٌ يَلحَنُ وَلاَ يتقن العَرَبِيَّةَ وكَانَ رَأْساً فِي الوَرَعِ وَالإِخْلاَصِ ثُمَّ إِنَّهُ دَفَنَ كُتُبَهُ.
رُوِيَ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قِيْلَ لَهُ: ألَّا تُحَدِّثُ؟ قَالَ: أَنَا أَشْتَهِي أَنْ أُحَدِّثَ وَإِذَا اشتَهَيتُ شَيْئاً تَرَكْتُه.

جماهير بغداد تؤبنه
لما مات كانت جنازته حافلة جدًا حتى أنه أخرج من بيته بعد صلاة الفجر، فلم يوضع في قبره إلا بعد صلاة العشاء. وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة
وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة، وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلى صوته في الجنازة هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

من أقواله

رؤية:إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم.
من صور الرياء:قال قد يكون الرجل مرائيًا بعد موته! فسئل: كيف يكون ذلك؟ فال: يحب أن يِكثُر الخلق في جنازته.
خطر الشهوات: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدًا
الإخلاص في طلب العلم:لا أعلم شيئًا أفضل منه إذا أريد به الله. – يعني: طلب العلم.
من معاني التوكل:الرضى بالمقدور: يقول أحدهم: توكلت على الله! يكذب على الله! لو توكّل على الله رضي بما يفعل الله.
وصية: قال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أَخْمِل ذكرك، وطيِّب مطعمك.
العبد الخفي:لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس
علامة حب الدنيا:حب لقاء الناس حب الدنيا وترك لقاء الناس ترك الدنيا
من عقوبات حب الظهور والشهرة:لا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح
ذم المدح والانبساط إليه:سكون النفس إلى المدح وقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي
ذم الشهرة:ما أتقى الله من أحب الشهرة.
الزهد:لو سقطت قلنسوة من السماء ما سقطت إلا على رأس من لا يريدها.
كتمان الحسنات:لا تعمل لتُذكَر، اكتم الحسنة، كما تكتم السيئة.
نصيحة لأهل الحديث:يا أصحاب الحديث، أدوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟ قال: تعملون من كل مائة حديث بخمسة أحاديث.
الهوى:من جعل شهوات الدنيا تحت قدميه فرق1 الشيطان من ظله، ومن غلب علمه هواه فهو الصابر الغالب. واعلم أن البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه.
الصحبة السيئة:صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
نصيحة لمن يريد الدنيا: أما تستحي أن تطلب الدنيا ممن يطلب الدنيا، اطلبها ممن بيديه الدنيا.
من يستحق أن يسأل:من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأَل.
علامات:علامة طاعة الله تسليم أمره لطاعته، وعلامة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليم آثاره والعمل على سنته، ولا يلتفت إلى غيره.
نصيحة سديدة:لا تكاد تضع يدك إلا على مراءٍ؛ إما مراءٍ بدين وإما مراءٍ بدنيا وهما جميعا شر شيء فانظر أشد الناس توقيا وأعفهم وأطيبهم مكسبا فجالسه ولا تجالس من لا يعينك على آخرتك.
وقفة تأمل:وقف بشر على أصحاب الفاكهة فجعل ينظر إليها فقيل له: يا أبا نصر لعلك تشتهي من هذا شيئًا؟ قال: لا ولكن نظرت في هذا إذا كان يطعم هذا من يَعصيه، فكيف من يطيعه؟!
ذم الإسراف:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: الحلال لا يحتمل السرف.
الأخذ من الناس مذلة:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: الأخذ من الناس مذلة.
رؤية:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: ليس هذا زمان اتخاذ إخوان إنما هو زمان خمول ولزوم البيوت.
في الوقت أَمْسُ قَدْ مَاتَ وَاليَوْمُ فِي السِّيَاقِ وَغَداً لَمْ يُولَدْ.
حلاوة العبادة:لا يجد من يحب الدنيا حلاوة العبادة.
وقال، يوم ماتت أخته إن العبد إذا قصَّر في الطاعة سُلِب من يؤنسه “
سَمِعَهُ رَجُلٌ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ العِزِّ، وَأَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَأَنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ البَقَاءِ.

 

معهد الامير السيد للعلوم التوحيدية

الشيخ هادي العريضي:

نعمـــل علــى إعــداد الكــوادر العلميـة والشخصيـــات الدينيــــة القــــادرة على التصدِّي للتحديّات الفكرية المعاصــرة

الشيخ هادي العريضي مدير المعهد يتطلع إلى دعم الخيرين لمسيرة هذه المؤسسة الرائدة -2
الشيخ هادي العريضي مدير المعهد يتطلع إلى دعم الخيرين لمسيرة هذه المؤسسة الرائدة -2

بعد سنتين من انطلاقته، خطا معهد الأمير السيد الجامعي للعلوم التوحيدية خطوات كبيرة في طريق التحول إلى المؤسسة الأولى المولجة بتكوين الكادرات المؤهلة للتعليم الديني والإرشاد وفق منهج واضح ومقررات يتم التشاور عليها مع القيادات الروحية للطائفة، وهو ما سد ثغرة مزمنة وفتح الباب واسعا لتنمية نخبة متضلعة بعلوم الدين وفقه العبادات وعلوم القران. فأين بلغ المعهد في جهوده وما هي الخدمات التي يقدمها في مجال التعليم والتنشئة الروحية؟
“الضحى” التقت رئيس اللجنة الدينية في المجلس المذهبي ومدير المعهد الشيخ هادي العريضي الذي تكرم بأعطائنا فكرة شاملة ومشجعة عن هذا الإنجاز الفريد. وفي ما يلي حصيلة اللقاء:

كيف انطلقت فكرة المعهد؟
فكرة إنشاء معهد للعلوم التوحيدية قديمة وطرحت مرارا بسبب ما نعرفه عن غياب مؤسسة يتم فيها توحيد المفاهيم والمقررات بدلا من الجهود الفردية المشكورة التي يقوم بها بعض الإخوان من حيث الاهتمام بالنشء الطالع والمهتمين بعلوم الدين والتي يمكن أن تفسح في المجال للاجتهاد. إن لدينا والحمد لله مرجعيات روحية يمكن الاستنارة بها لكن التعليم في عصرنا بات يحتاج إلى مؤسسات وإلى استمرارية.

مبنى المعهد ينتظر الإنجاز
مبنى المعهد ينتظر الإنجاز

ما هو النموذج الذي بني عليه المعهد؟
تأسس المعهد وفق أحدث مفاهيم التعليم المعتمدة من مؤسسات التعليم الديني والتي تختلف بالطبع في برامجها ومعاييرها وأساليب التعليم والتأهيل فيها عن معاهد التعليم الجامعية التقليدية، واستفادت دراسة المشروع من الخبرات المتجمعة لعدد كبير من مؤسسات التعليم الدينية ……، كما أخذت في الاعتبار طبيعة الحاجات الخاصة للطلاب وللمجتمع التوحيدي، والأمر الأهم أننا لا نستهدف التعليم النظري بقدر ما نهتم بالتربية والتأهيل وبتخريج كفاءات يمكنها أن تنقل مفاهيم التوحيد وأن تغرس أسس السلوك التوحيدي الشريف في عقول ونفوس الأجيال الجديدة.

ما هو مغزى اختيار بلدة عبية كمقر للمعهد وما هي دلالة الشعار الذي تبنيتموه ؟
السيد الأمير عبد الله التنوخي (ق) يمثل للموحدين في كل مكان قامة عظيمة في التقوى والعلوم والإرشاد، فهو في نظرهم مجدِّد الإيمان ومحيي الالتزام بالشريعة وبفرائض العبادة وهو على مرّ الأزمان المرجع الذي يتدرج السالكون وأهل الدين في تعاليمه ومخزون حكمته الواسع، فليس من قبيل الصدفة أن يحمل المعهد اسمه تبركا بمكانته وكذلك شعورا بالمسؤولية في السير على سننه والتزام تعاليمه من قبل الأجيال الحاضرة، وكم نحن بأمس الحاجة اليوم لإحياء سيرة الأمير السيد (ق) والانكباب على ما خلفه لنا من كنوز المسلك التوحيدي وعلوم الدين. أما اختيار عبيه كمقر للمعهد فلِما لهذه البلدة من تاريخ طويل وعريق في رفع شأن الدين وكذلك بسبب توفر أرض الوقف الخاص بالأمير السيد وعملاً بوصيته السامية التي اكد فيها على ضرورة صرف المال على نشر آداب السلوك التوحيدي والتفقّه في الدين.

كيف بدأ العمل في المعهد كيف تطور؟
كان اطلاق المشروع عام 2012 بعد استلام رئاسة اللجنة فتم عدة لقائات مع اصحاب الاختصاص وتحديد الموقع وتجهيزه وتنظيم برنامجه والتواصل مع الاساتذة من اجل تحضير منهج ومواد التعليم . وبتقدمة مباركة من الشيخ فريد صعب بقيمة 50 مليون ليرة قامت لجنة الأوقاف بإنجاز الطابق الأرضي من مال الأوقاف ونحن نعبر عن شكرنا للجنة الأوقاف برئاسة الأستاذ عباس الحلبي والمهندس بشير أبوعكر والمهندسة في مديرية الأوقاف كوثر عمار الذين واكبوا إعداد التصاميم واشرفوا على تنفيذ المبنى.
وفي شهر أيلول 2014 باشرنا التدريس بمباركة ودعم واشراف سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن .
انهينا العام الثاني قبل عيد الفطر وتم الاعلان عن التسجيل للعام الجديد خلال شهر ايلول وسيتم استقبال طلاب جدد . في حين ان اساتذته هم نخبة من اصحاب الاختصاص والباحثين المميزين يصل عددهم الى اثنا عشر مدرسا.
يتم استكمال الطابق الثاني بعد مبادرة كريمة من الأستاذ وليد جنبلاط الذي قدَّم مشكوراً مئة ألف دولار لهذه الغاية، ونحن نامل انهاء البناء قريبا بهمة الخيرين من أهلنا الكرام.

ما هي مصادر تمويل المعهد، وهل تأتي من وقف الأمير السيد ؟
يمكنني القول إن المصدر الأول لموارد المعهد المالية هو صندوق الأوقاف الدرزية أما المصدر الثاني فهو تبرعات الخيرين من رجالات الطائفة الذين تحمّسوا لدعم مسيرة هذا المعهد الأول من نوعه. وأودّ الإشارة إلى أننا نتبع سياسة انفاق محافظة فنخصص معظم الموارد لغايات التعليم ونقتصد كثيرا في الإنفاق مع الانصراف في الوقت نفسه إلى الاهتمام بتوفير الموارد للمعهد من مصادر متعددة بهدف ضمان قيامه بدوره واستمراريته.

حصة دراسية في المعهد
حصة دراسية في المعهد

ما هي أهداف المعهد وبرنامجه التعليمي؟
إنّ مهمّتنا هي توفير الدّروس وفق برنامج مقرّرات محدّدة وتأهيل الطلّاب بما يمكّنهم من فهم التّوحيد عقيدة وشريعة، ومنهاجاً، وإعداد الكوادر العلميّة والشّخصيّات الدينيّة القادرة على التصدِّي للتحدّيات الفكريّة المعاصرة وتنمية حسّ المسؤوليّة لدى الموحّد المسلم تجاه أسرته ومجتمعه بحيث يقترن العلم بالعمل والسّلوك. أخيراً فإنّ من أهداف المعهد إعداد مدرّسين في مجال تعليم المعارف والتّربية التوحيديّة في المعاهد الدينيّة والمدارس العصرية. وأهم الموادّ التي تدرّس في المعهد: أركان الإيمان ، السّيرة النّبوِيّة ، الفلسفة، علم الأديان، علوم القرآن، القران (تجويد,حفظ وتلاوة ) حوار الأديان، علم الحديث ,علم التفسير ، فِقْه العبادات، علم النّفس التّربويّ، آداب المستجيب ,اللّغة العربية واجنبية.

من هم الطلبة المؤهلون لدخول المعهد؟ وما هي المؤهلات المطلوبة للتسجيل؟
المعهد يركز تعليمه الآن على الملتزمين دينيا من الرجال لأننا نعتبر ذلك أولوية، لكننا سنسعى في المستقبل لفتح المجال أمام المريدات العابدات كما سنسعى لتوسيع فوائد المعهد إلى الجمهور من خلال تطوير المكتبة الموجودة اليوم الى مكتبة عامة.

من هي الجهة المولجة بإدارة المعهد؟
إن اللجنة الدينية في المجلس المذهبي بحكم القانون هي المشرفة على المناهج الدينية في مؤسسات الطائفة ومن ضمنها هذا المعهد وهي التي تصدر التوصيات والقرارات حاليا . ونحن نعمل بتنسيق وبتوجيه من سماحة شيخ العقل، ونسعى للاستحصال على ترخيص من الدولة اللبنانية، كما نستنير بالنصوص المعتمدة من المرجعيات الروحية ويعاوننا في الإدارة مجموعة متميزة من المشايخ الأكارم أعضاء الهيئة التعليمية .

ما الذي تحتاجونه في المستقبل لتطوير تجربة المعهد وتعزيز دوره؟
المعهد انطلق والحمد لله بفضل الخيرين وبدعم من المجلس المذهبي لكن المهم أن نستمر وأن نرتقي بالمعهد ليصبح فعلا منارة للعلوم ولتنشئة الكفاءات التي نحتاجها لتعزيز ثقافتنا التوحيدية الإسلامية، وهذا يحتاج إلى مزيد من الدعم وإلى اجتماع النخبة من الطائفة حول هذا الجهد، وهذا يحتاج إلى زيادة الدعم عن المستوى المتواضع الذي نحصل عليه الآن. ونحن نناشد أهل الخير مضاعفة الجهود من أجل استكمال أعمال المبنى المؤلّف من 3 قاعات للتدريس ومصلّى وقاعة محاضرات ومكتبة عامة فإن خير الأعمال بالإكمال.

شعار المعهد
شعار المعهد

كلمة اخيرة؟
نشكر مجلة “الضحى” على اهتمامها بهذا الإنجاز، ونتمنى ان تكون منبرا عريقا للثقافة والتاريخ وأن تفسح في المجال لتغطية نشاطات وأعمال لجان المجلس المذهبي، كما نحث إخواننا وأبناءنا على دعم هذه المجلة الفريدة ذات التنوّع الثّقافيّ والاجتماعيّ، ومبدؤنا في ذلك هو التعاون على البرّ والتقوى، وأن تكون مؤسسات الطائفة كلها مساندة بعضها للبعض كالبنيان المرصوص. ونتمنى على الاخوة الملتزمين ان يقصدوا المعهد للتعلم ونتعاون على نقل المعرفة الى ابنائنا الكرام. ويفتح المعهد الباب لكل مريد من اجل انتشار العلم والمعرفة بين ابناء التوحيد . وندعوا الى تشكيل مجلس امناء يساعد على تحقيق ما نصبو اليه . ونحن على ثقة بان الغطاء الروحي والمعنوي من سماحة شيخ العقل والمراجع الروحية هو ضمان استمرار ونجاح المعهد وتطويره ضمن منهجية السلف الصالح.
وختاما لا بد من شكر كل شخص ساهم وشارك في انجاح هذه المسيرة. كما نتوجه بالشكر الخاصّ لسماحة شيخ العقل الراعي الأول لهذا المعهد كما أنه لا يبخل أبدا بالنصح والإرشاد وهو المتابع بدقة لمؤسسات الطائفة والساهر على دعمها وتطويرها.

إدوار سعيد

البروفسور-إدوارد-سعيد
البروفسور-إدوارد-سعيد

إدوارد سعيد
في كتابه «الاستشراق»

ثَبْتٌ علميٌّ بقاموس الاستشراق الاستعماريّ
لكنّ تعميم الإدانة أثار جدلاً بين الأكاديميين

نابليون-أمام-أبو-الهول----لوحة-لجون-ليون-جيروم-تلخص-حلم-الاستشراق-في-إخضاع-مجتمعات-اعتبرت-غير-قادرة-على-حكم-نفسها
نابليون-أمام-أبو-الهول—-لوحة-لجون-ليون-جيروم-تلخص-حلم-الاستشراق-في-إخضاع-مجتمعات-اعتبرت-غير-قادرة-على-حكم-نفسها

“هل هو خيرٌ لهذه الأمم العظيمة-وأنا أعترفُ بعظمتها- أنْ نقومَ نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المُطلق عليها؟ في ظَنّي أنَّ ذلك خير”
(لورد بلفور)

نَشّرَ المفكّر الفلسطينيّ الرّاحل كتابه عن “الاستشراق” لأوّل مرّة باللّغة الإنكليزيّة في العام 1978 تحت عنوان (Orientalism) وأحدث الكتاب، الذي تضمّن إدانة غير مسبوقة لإرث الاستشراق وعلاقته بخطط الهيمنة الغربيّة على الشّرق، أصداءً واسعة في الأوساط الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتّحدة كما أحدث جدالاً نشطا وحماسيا، إذ انبرى عدد من المفكّرين من بينهم ألبرت حوراني وماكسيم رودنسون وجاك برك وبرنارد لويس (الذي اعتبره سعيد نموذجاً للاستشراق المعاصر المنحاز للغرب وإسرائيل) وغيرهم لنقد ما اعتبروه تعميماً غير عادل في الحكم على حركة الاستشراق وعمل المستشرقين. وقد دفع النّقاش البروفسور إدوار سعيد للردّ على منتقديه في كتب أو مقالات لاحقة. لكن بِغَضِّ النّظر عن الجدل الذي أثاره الكتاب فإنّ أصدقاء سعيد وكذلك ناقديه يعترفون بأنّ كتابه عن الاستشراق أصبح أكثر المؤلّفات الفكريّة المعاصرة شهرةً وتأثيراً في عالم الدّراسات المشرقيّة في العالم، وأنّه ساعد في تسليط الضّوء على مسألة التحيّز الحضاريّ والثّقافيّ في كتابة التّاريخ من قبل المستشرقين الغربيّين، وخلق بالتّالي مناخاً جديداً أكثر توازناً في أروقة الجامعات ومعاهد الأبحاث الغربيّة الأوروبيّة والأميركيّة ونظرتها إلى “الآخر” وخصوصاً الشّعوب العربيّة-الإسلامية والأسيويّة والأفريقيّة.
أما إدوار سعيد نفسه فقد أصبح شخصيّة عالميّة يدعى باستمرار من قبل الجامعات والمؤسّسات الثّقافيّة والفكريّة لإلقاء المحاضرات حول مختلف المواضيع الفكريّة والسّياسيّة، وقد حاضر سعيد في أكثر من 200 جامعة في الشّرق الأوسط وكندا والولايات المتّحدة وأوروبا ونشر أكثر من 20 كتاباً أربعة منها حول الموسيقيّ (وقد كان عازفَ بيانو بارعاً) كما حاضر سعيد في أشهر الجامعات الأميركيّة (مثل هارفررد وجون هوبكنز ويايل وغيرها) إضافة إلى منصبه كرئيس لمركز دراسات الشّرق الأوسط في جامعة كولومبيا والتي رقَّتهُ في العام 1992 إلى رتبة بروفِسور، وهي من أعلى الرّتب الجامعيّة ونادراً ما يحصل عليها إلّا القلّة من المفكّرين المبدعين.
اعتَبر إدوارد سعيد أنّ جذور الاستشراق كما وصفه (أي كسلاح فكريٍّ لتبرير الهيمنة وسياسات إخضاع شّعوب العربية والإسلامية خصوصا مع بداية القرن التّاسِع عشر) تكمن في عدد من العوامل أهمّها:
التّاريخ الطّويل من تقليد كُره العرب والمسلمين في الغرب الذي بدأ مع الحملات الصّليبيّة وحروب الأندلس ثم الحروب مع الدّولة العثمانيّة والتي اعتُبرت في وقت من الأوقات تهديداً خطيراً لأوروبّا. لقد تمّ لأغراض سياسيّة تصوير العرب والمسلمين بأكثر الصّور سلبيّة وإثارة للخوف ولمشاعر الكراهية باعتبارهم شعوباً همجيّة تستهدف الحضارة المتقدّمة والأرفع للمجتمعات الغربيّة المسيحيّة.
قيام دولة إسرائيل وما تبعه من صراع وجوديّ بين الدّولة الغريبة وذات الأصول الثقافيّة الأوروبيّة وبين محيطها العربيّ والإسلاميّ. وقد أدّى تأسيس وجود صهيونيّ غاصب في “أرض الميعاد” إلى استنفار العالم اليهوديّ عموماً وخصوصاً المفكّرين اليهود أو المتعاطفين مع إسرائيل لإنتاج كمٍّ كبير من الأدبيّات التي استهدفت جميعها تطبيق النّهج الاستشراقيّ عبر تقديم إسرائيل كممثّلة للديمقراطيّة وللحضارة الغربيّة الرّائدة في جميع الميادين والمهدّدة من البيئة المتخلّفة والاستبداديّة للمجتمع المشرقيّ العربيّ والإسلاميّ.
الغياب شبه التّام لأيّ تجربة مضادّة أو موقع ثقافي أو مؤسّسة كبرى لها نفوذها في الغرب يمكنها أن توفّر عنصر توازن ولو جزئي مع الجوّ الشّامل من التّحيّز والتّصوير غير الموضوعي والمبرمج سياسيّاً للشّعوب المشرقيّة.
انتقال الكثير من المقولات التي تتردّد في كتابات المستشرقين إلى صعيد الثّقافة الشّعبيّة ولاحقاً وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع والمقروء، الأمر الذي سمح بتوسيع نفوذ نظرة الاستشراق المنحازة إلى المصالح الغربيّة لتصبح أيضاً ثقافة شعبيّة من صور نمطيّة مشوّهة عن العرب والمسلمين يمكن البناء عليها في العمل السياسيّ أو الغزوات العسكريّة وتحريك الرّأي العام. (مثلاً اجتياح العراق سنة 2003 والتّدخل الغربيّ في ليبيا ثم التّدخّل الغربيّ الحاليّ في سوريا والعراق.)..
ومن دون الدّخول في المناظرة التي قامت حول كتاب “الاستشراق” للبروفِسور إدوارد سعيد سنقوم هنا باختيار نماذج من التّفكير الاستشراقيّ الذي تمحورت شكوى سعيد عليه في الكتاب، وهي نماذج كثيرة وتكاد لا تحصى، علماً أنّ المقولات المنحازة والعدوانيّة أحياناً ضدّ المشرق وضدّ العرب والإسلام لم يكن مصدرها أشخاص هامشيّون أو كُتّاب مغمورون بل مفكرون أو سياسيّون لعبوا أدوراً كبيرة في بلورة السّياسات الاستعماريّة لبلادهم تجاه البلدان المشرقيّة والأسيويّة.
يؤرّخ سعيد لبدء ظهور الاستشراق الرّسميّ بصدور قرار مجمع فينّا الكَنَسيّ عام 1312م بتأسيس عدد من الكراسي الأستاذيّة في العربيّة واليونانيّة والعبريّة والسّريانيّة في جامعات باريس وأوكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامانكا كانت الفترة يومها فترة ازدهار وقوة للدّولة العثمانيّة التي ستقوم بعد 141 عاما (1453) من ذلك التاريخ بإسقاط القسطنطينيّة وتهديد روما نفسها على يد السّلطان محمّد الفاتح. لقد أدّت حيويّة المجتمع العثمانيّ والخلافة الإسلاميّة في عصر بني عثمان إلى فترة من المهادنة كانت الكلمة العليا فيها للمسلمين، وقد حقّقت الخلافة العثمانيّة في أوجها وقبل بدء انحدارها في القرن الثّامن عشَرَ إنجازات مُبهرة في جميع الميادين وقدّمت نموذجاً عن دولة منفتحة ونظام تسامح ديني وعرقي جعل جميع الشّعوب التي تعيش في ظلّها تنعم بمراحل سلام طويلة، كما جعل اليهود الذين فرّوا من أسبانيا الكاثوليكيّة أو تم طردهم منها بالجملة في العام 1492 يتوجّهون إلى الدّولة العثمانيّة طلباً للأمان ولبناء حياة جديدة مزدهرة في المجتمعات الإسلاميّة إلى جانب الأقليّات الكثيرة التي استظلّت النّظام المنفتح والمتسامح للخلافة العثمانيّة لمئات السّنين.
يلاحظ إدوارد سعيد أنّ حركة الاستشراق شهدت نهضة كبيرة في بدايات القرن التاسع عشر، وذلك عندما بلغ عدد الحجّاج الأوروبيين إلى القدس مثلاً أعداداً هائلة لا تكاد تقارن أبداً بعدد الشّرقيّين الذين كانوا يتوافدون على أوروبا لأسباب مختلفة. وأصبح الشّرق الشّغل الشّاغل للكتّاب والمؤلّفين في أوروبا حيث بلغ عدد الكتب المؤلّفة منذ عام 1800 وحتى عام 1950 نحو 60,000 كتاب.! أي بمعدّل 400 كتاب في السّنة الواحدة أيّ أكثر من كتاب واحد في اليوم، وطبعاً لا مقارنة مطلقاً بعدد الكتب التي كُتبت في الشّرق عن الغرب.
كانت الدّولة العثمانيّة بدأت تكشف عن مظاهر شيخوخة وضَعف في تلك الفترة بالتّحديد، وقد شعرت الدّول الأوروبيّة بذلك من خلال تواجدها الكثيف الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثّقافيّ في أنحاء الدّولة، وبدأت بالتّالي ما يمكن اعتباره أكبر عمليّة استكشاف للدّولة الهَرِمة واستطلاع للسّبل التي يمكن اعتمادها لاحقاً وعندما تحين الفرصة للاستيلاء على ممتلكاتها الواسعة، وستبدأ الحركات اليهوديّة لاحقاً ومن جهتها بعمليّات استطلاع تتعلّق بمشروعها الصّهيوني لإقامة وطن لليهود في فلسطين العثمانيّة عندما تحين الفرصة لذلك.
يعتبر إدوار سعيد حملة نابليون على مصر في العام 1798-1801 أحد أهمّ الأحداث التي أثّرت على بلدان المنطقة وعلى حركة الاستشراق، وهو يعتبر أنّ لغة الاستشراق ذاتها شهدت تغيّراً جذريّاً بسبب الحملة وارتقت في واقعيّتها الوصفيّة وأهدافها لتصبح وسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات (على النحو الذي تم في معاهدة سايكس-بيكو) وإعادة بنائها وتجميعها بالاستناد إلى جهود عدد من المستشرقين، وصار كِتاب “وصف مصر” نقطة تحوّل وحجر زاوية في الرّؤية الأوروبيّة للشّرق وطريقة تعاملهم مع المنطقة.

القوات-البريطانية-تدخل-بغداد-في-أواخر-1917
القوات-البريطانية-تدخل-بغداد-في-أواخر-1917

يتوقّف إدوار سعيد بصورة خاصّة أمام بعض المقالات والأقوال لـ آرثر جيمس بلفور، السّياسيّ البريطانيّ البارز (رئيس وزراء بريطانيا بين 1902 و1905) وصاحب وعد بلفور الشّهير والذي كان من أبرز سياسيّيّ الإمبراطوريّة البريطانيّة وأكثرهم تمرّساً في الحرب والدبلوماسيّة، ممّا جعل منه مرجعيّة كبيرة في صياغة علاقات الغرب مع الشّرق. يقول بلفور “ قبل كلّ شيء أنظُر إلى حقيقة المسألة وهي: إنّ الأمم الغربيّة فور انبثاقها في التّاريخ تُظهر تباشير القدرة على حكم الذّات، لأنها تمتلك مزايا خاصّة بها، ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشّرقيّين بأكمله فيما يسمّى بشكل عام “المشرق”، دون أن تجد أثراً لحكم الذّات على الإطلاق. كلّ القرون العظيمة التي مرّت على الشّرقيّين -ولقد كانت عظيمة جداً- انقضت في ظلّ الطّغيان والحكم المطلق. وكلّ إسهاماتهم العظيمة في الحضارة الإنسانيّة -ولقد كانت عظيمة- أُنجِزت في ظلّ هذا النّمط من الحكم، فقد خلَّفَ كلُّ فاتحٌ فاتحاً آخر. غير أنك في دورات القدر والمصير كلّها لا ترى أمّة واحدة من هذه الأمم تؤسّس بدافع من حركتها الذّاتية ما نسمّيه نحن من وجهة نظر غربيّة “حكم الذّات” Sefl-rule ثم يطرح بلفور السُّؤال: هل هو خير لهذه الأمم العظيمة -وأنا أعترف بعظمتها- أن نقوم نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المطلق (عليها)؟ في ظَنّي أنّ ذلك خير. وفي ظَنّي أيضاً أنّ التّجربة تُظهر أنّهم في ظلّ هذا النّمط عرفوا حكماً أفضل بمراحل مما عرفوه خلال تاريخ عالمهم الطّويل كلّه. ونحن في مِصْرَ لسنا من أجل المصريّين وحسب، نحن هناك أيضاً من أجل أوروبا كلّها.
ويؤكّد بلفور في قول آخر ما قام به اللّورد كرومر من خدمات لمِصْرَ في قولة “وقد ارتقت خدمات لورد كرومر بمِصرَ، خلال ربع القرن الماضي، من أدنى درجات المهانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى حيث تقف الآن بين الأمم الشّرقيّة فريدة في اعتقادي دون منازع في ثرائها ماليّاً وأخلاقيّا”.
يقول إدوارد سعيد إنّ الآراء المعاصرة للمستشرقين حول الشّرقيّين تطغى على الصّحافة والعقل الشّعبي، فالعرب مثلا يُصوَّرون على أنّهم راكبو جمال إرهابيّون معقوفو الأنوف شهوانيّون شَرِهون تمثّل ثروتهم غير المُستحقَّة إهانة للحضارة الحقيقيّة، وثمّة دائماً افتراض بأنّ المستهلك الغربيّ رغم كونه ينتمي إلى أقليّة عدديّة، هو ذو حق شرعيّ إمّا في امتلاك معظم الموارد الطّبيعيّة في العالم أو في استهلاكها أو في كلاهما معاً لماذا؟ لأنّه بخلاف الشّرقيّ “إنسانٌ حقيقيّ”
وهو يضيف القول: “إنّ غربيّاً من الطّبقة الوسطى يؤمن بأنّه لَحَقٌّ طبيعيٌّ له لا أنْ يدير شؤون العالم غير الأبيض فحسب، بل أنْ يمتلكه كذلك لمجرّد أنّ العالَمَ الأخير تحديداً ليس بالضّبط إنسانيّاً تماما بقدر ما “نحن” كذلك” .
في منظومة شاتوبريان (صفحة 186) يقول:” لم تـَـدُر الحرب الصّليبيّة حول إنقاذ كنيسة القيامة وحسب بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض: مذهبٌ تعبُّدي هو عدوٌّ للحضارة، محبِّذ باطراد للجهل (يقصد الإسلام طبعاً) وللطّغيان وللعبوديّة، أو مذهب تعبُّدي تمكّن من أن يوقظ في البشر المعاصرين عبقرية الزّمن الغابر الحكيم وألغى العبوديّة الدّنيئة “
يكمل شاتوبريان طارحاً فكرة ملفّقة طالما ترددت في الكتابة الأوروبيّة وهي كيف علَّمَت أوروبّا الشّرق ولقّنته معنى الحرّيّة حين يقول: “عن الحرّيّة لا يعرفون شيئاً من آدابها، ليس لديهم شيء، القوّة هي ربُّهم؛ وحين تمرّ بهم فترات طويلة لا يرون فيها فاتحين يطبقون عدالة السّماء فإنّهم يبدون مثل جنود دون قائد، مثل مواطنين دون مُشَرِّعين، مثل عائلة دون أب.”
هنا يربط سعيد بين الفترة الزّمنيّة (1810) التي قيلت فيها تلك الكلمات وعاشها شاتوبريان وبين (1910) وما قاله كرومر محتجّاً بأنّ الشرقيين هم الذين يطلبون الفتح مظهراً بذلك عجزه عن أن يرى الغزو الغربيّ للشّرق ليس كغزو بل كـ “عمل خير” يعطي للشّعب المحتلّ “حرِّيته” التي طالما تمنّاها. أي أنّها ذات العقليّة بنفس الأدوات وطريقة التّفكير وحتى طريقة استعمال الألفاظ حتى بعد مرور مائة عام. ولو تمعَّنّا قليلاً فإنّنا في 2006 نجد أي بعد مرور مئة سنة أخرى تقريباً (رامسفيلد وديك تشينى وبوش وآخرين في الحزب الجمهوريّ الحاكم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وطونى بلير وبراون ) يتكلّمون بذات الطّريقة والأسلوب بل وبذات الكلمات تقريباً عن اجتياح العراق واحتلاله وضرورة “تحريره” وتحرير أبنائه وزرع مفهوم الديمقراطيّة والحريّة في أرجائه بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين.
يؤكّد سعيد على أنّ القوى العظمى درَسَت بعناية جميع الأقليّات من يهود وروم أرثوذوكس وأرثوذوكس روس ودروز وشركس وأرمن وأكراد فضلا عن المذاهب والملل المسيحيّة الصّغيرة المختلفة، وتمّ في ضوء ما جُمع من معلومات وكُتب من تقارير التّخطيط لمصير كلّ مجموعة وكيف يمكن استخدامها، وكانت تلك القوى ترتجل وتصوغ وتبني سياستها في الشّرق على تلك الأسس، كما حدث في العام 1860 أثناء الصّدام بين الموارنة والدّروز في لبنان حيث ساندت فرنسا الموارنة في سياق الخطط التي تسارعت يومها لتمزيق أوصال الدّولة العثمانية.

أرنست-رينان-لخص-التفكير-المتعالي-والاستعماري-لبعض-المستشرقين
أرنست-رينان-لخص-التفكير-المتعالي-والاستعماري-لبعض-المستشرقينال

حوارات طاغور وأينشتاين

حِوارات طاغور وأينشتاين

بين حسابات العالِم وتجليّات العِرفان الصّوفيّ

أينشتاين: الفيزياءُ الكوانطيةُ لم تَقُلْ «مع السّلامة» لقانون السّببيّة
طاغور: ربّما، لكنْ هناك قوّة أخرى فاعلة تفسّر هذا الوجود المنظّم

أينشتاين                                                                                    طاغور

العالم موجود باستقلالٍ عن الإنسان وعن فكرِه                                          لو لم يكن الإنسان مُشترِكا
وقوانين الوجود لا يمكنُ للفكر أن يبدِّل مفاعيلها                                         في حقيقة الوجود فكيف يمكنُه أنْ يدركَه أو أن يفهمَ أبعادَه؟

في ثلاثينيّات القرن الماضي حصلت لقاءات عدّة بين عالم الفيزياء النوويّة والرّياضي الشهير أينشتاين وبين شاعر وفيلسوف هندي (كان شهيراً بدوره) هو رابندرانات طاغور. واعتبرت تلك الحوارات نصوصاً نموذجيّة لإظهار الاختلاف الكبير بين النظريّة الماديّة للكون وبين النّظريّة الدينيّة أو الروحيّة للوجود. ولا زالت نصوص تلك الحوارات تُعتّبر مادّة للبحث والتّعليق من قبل مواقع علميّة أو فلسفيّة وهذا رغم أنّها نصوص موجَزة وجرت على شكل محادثات تمّ تسجيلها يومذاك.
لم يُفلح طاغور بالضّرورة في إقناع أينشتاين أو تقديم شرح مفحم لوجهة النّظر الصّوفيّة الهنديّة لأنّه لم يكن من الحكماء أصحاب الاختبار المباشر بقدر ما كان شاعرا مبدِعاً ومتأثرا جدّاً باختبارات الحكمة والتّقليد الهندوسي الفيدانتي لكنّه تمكّن في الحوار من عرض وجهة النّظر المخالفة للنّظريات الماديّة الطّبيعيّة التي يمثّلها أينشتاين. وقد تلخّصت وجهة نظر طاغور في أنّ العالم ليس موجوداً خارج وعي الإنسان أي أنّه لا يوجد عالم مادّي من دون إنسان مدرك لهذا الوجود، من هنا قوله إنّه لو لم يكن الإنسان مشتركا في حقيقة الوجود فكيف يمكنه أن يدركه أو يفهم أبعاده؟
على العكس من ذلك فإنّ أينشتاين كان مقتنعاً بأنّ العالم موجود بقوانينه ولاسيّما قوانين السّببيّة مستقلّا عن الإنسان أو عن فكره. لذلك لم يقبل أينشتاين بفكرة أنّ هناك وعياً كونيّاً يتحكّم بالطّبيعة. في الطّرف المقابل برز عالم الفيزياء بوهر الذي طوّر نظريّة الفيزياء الكوانتيّة والذي توصّل إلى القول مع فلاسفة الفيدانتا الهنود بأنّ العالم الماديّ غير موجود إلا بمعيار حواسّنا النّسبية (وهي أدوات قاصرة عن إدراك حقيقة الوجود)..وقد فوجئ أينشتاين بنظريّة نيلز بوهر في الفيزياء الكمّيّة أو الكوانتيّة التي أثبتت أنّ العالم لا يسير وفق قوانين سببيّة صارمة وأنّ الوجود فيه قدر كبير من الحرّيّة لكنّه رغم الأدلّة القويّة على صحّة الفيزياء الكوانتيّة فإنّه أصرّ على عدم القبول بها مُطلِقا تصريحه الشّهير: “الله لا يلعب النّرد”.! وعلى هذا التّصريح ردّ بوهر على أينشتاين بالقول: “كُفّ عن إخبار الرّب ماذا عليه أن يفعل بالنّرد” مُلمحا إلى أنّ الله تعالى غير مقيّد بالسّببيّة وهو فعّال لما يريد وهو عكس النّظريّة الماديّة في تفسير الوجود التي تبنّاها أينشتناين.
أمّا طاغور فقد تضمّن موقفه تسوية تقول بوجود العالم. لكنّ وجوده يخضع إلى إرادة قوية واعية أو وعي كوني هو الذي يعطي لهذا الوجود تناغمه وتوازنه ومعناه.
في ما يلي تعرض “الضّحى” لنصوص من حوارين جَرَيا بين طاغور وبين أينشتاين، وذلك على سبيل توضيح مرتكزات التّفكير الطّبيعي أو الماديّ وفي المقابل التّفكير الرّوحيّ الذي يَعتبر أنّ من المُستحيل وجود الكون الماديّ إلّا بالتّكامل مع الوعي الإنسانيّ الذي هو انعكاس للوعي الكونيّ الشّامل الذي يحرّك الكون ويعطي لحركته صفات التّناغم والتّوازن والكمال المناقضة تماماً لفكرة الصّدفة أو العشوائيّة.
أينشتاين: هل تؤمن بوجود إلهيّ معزول عن العالَم؟
طاغور: إنّه ليس معزولاً، فالشّخصية اللّامتناهية للإنسان تستوعب الكون وما من شيء لا يمكن للشّخصية الإنسانيّة أن تشمله، وهو ما يُبرهِن أنّ حقيقة الكون هي حقيقة الإنسان.

لقاء-طاغور-وأينشتاين-في-برلين-في-العام-1930
لقاء-طاغور-وأينشتاين-في-برلين-في-العام-1930

أينشتاين: ثمة مفهومان مختلفان حول طبيعة الكون: العالَمُ كوحدة تعتمد على الإنسان، والعالَمُ كواقعٍ مستقلٍّ عن الإنسان.
طاغور: عندما يكون الكونُ متناغماً مع الإنسان، فإنّ ذلك الوجود الأزليّ، نُدرِكه كحقيقة، ونشعرُ به كجمال.
أينشتاين: إنّه مفهومٌ إنسانيٌّ محضٌ للكون.
طاغور: إنّ هذا العالَمَ هو عالَم للإنسان، ووجهة النّظر العلميّة تجاهه هي أيضاً وجهة نظر الإنسان العلميّ. العالم المنفصل عنّا لا وجود له، إنه عالمٌ نسبيٌّ، وهو يعتمد في حقيقته على وعينا.
أينشتاين: إنّه بمثابة الإدراك للكينونة الإنسانيّة.
طاغور: نعم، كينونة أزليّة واحدة، وهذه الكينونة علينا أن نحقّقها من خلال أحاسيسنا ومن خلال اختبارنا اليومي. أي أننا نحقّق في أنفسنا الإنسان الأسمى الذي لا تحدّه قيود بواسطة شخصيّتنا الخاضعة لقيود كثيرة. العلم يجعل همَّه كل ما لا علاقة مباشرة له مع حالات فرديّة، إنّه علم الحقائق الشّاملة أمّا الدّين فيُدرك تلك الحقائق ويصل في ما بينها وبين احتياجاتنا الأعمق؛ وبهذا يكتسب وعينا الفرديّ للحقيقة معنىً كلّيّاً. ونحن نُدرِكُ أنّ تلك الحقيقة حقٌّ من خلال تناغمنا معها.
أينشتاين: إذاً، الحقيقة، أو الجمال، ليسا مستقلّين عن الإنسان؟
طاغور: لا.
أينشتاين: وإذا لم يعد ثمّة بشر، فلن يكون تمثال “أبولو” جميلاً.
طاغور: لا.
أينشتاين: أُوافقكَ في ما يختصّ بهذا المفهوم للجمال، لكن ليس في ما يتعلّق بالحقيقة.
طاغور: لِمَ لا؟ فالحقيقة إنّما تتحقّق من خلال الإنسان.
أينشتاين:لا يمكنني أن أبرهن على هذا الرّأي، لكنّه بمثابة عقيدتي.
طاغور: إنّ الجمالَ هو مثال التّناغم الأكمل الكامن في الكائن الكونيّ، والحقيقة هي الاستيعاب الكامل للعقل الأرفع. ونحن الأفراد نقترب من تلك الحقيقة عبر أخطائنا وهفواتنا، وعبر تجاربنا المتراكمة، ووعينا الممدود بالنور – وإلّا كيف يتسنّى لنا أن نُدرِك الحقيقة؟
أينشتاين: لا يمكنني تقديم إثبات عليه، لكنّني أؤمن بقول فيثاغوراس بأن الحقيقة مستقلة عن الوجود الإنسانيّ وهذا يشير إلى إشكاليّة المنطق والاستمراريّة.
طاغور: الحقيقة الأرفع، التي هي واحدة مع الكائن المُطلق، لا بّدّ أن تكون في جوهرها قائمة في الإنسان، وإلّا فإنّ كلّ ما نُدرِكه نحن الأفراد من الحقيقة لن يمكننا أن نُسمِّيه حقيقة أبداً، على الأقلّ الحقيقة التي نسمّيها علميّة، والتي يمكن بلوغها فقط عبر التّحليل المنطقي، أو بعبارةٍ أخرى من خلال أداة الفكر التي نمتلكها كبشر. فبحسب الفلسفة الهنديّة هناك البرهمان، الحقيقة المطلقة، والتي لا يمكن إدراكها بالفكر المُنعزل أو بالكلمات ولكن يمكن إدراكها فقط بانحلال الفرد في بعده اللانهائي. لكن مثل هذه الحقيقة لا يمكن امتلاكها من قبل العلوم فالذي نصفه أحيانا بأنّه الحقيقة ليس سوى مظهر لها أي ما يتراءى بأنّه حقيقة للفكر الإنسانيّ، ولهذا فإنّها حقيقة حسب التّصوّر الإنسانيّ أو ما نسمّيه السّراب الكونيّ Maya أو الوجود الموهوم.
أينشتاين: ما تشير إليه ليس وهماً بالنّسبة للفرد بل هو وهمُنا كجنس (بشريّ)
طاغور: الجنس البشريّ يعود أيضا إلى وجود واحد هو الإنسانية، وهذا ما يجعل العقل البشري بمجملة قادر على إدراك الحقيقة نفسها. العقل الهنديّ والعقل الأوروبيّ يلتقيان في إدراك كشفيّ مشترك.
أينشتاين: حتى في حياتنا اليوميّة، هناك أشياء نعملها بمساعدة فكرنا دون أن تكون لنا أي مسؤوليّة عنها. فالفكر يتعرّف على حقائق موجودة خارجه لكن وجودها مستقل عنه. مثلاً: قد لا يكون هناك إنسان في هذه الغرفة لكن هذه الطّاولة ستبقى حيث هي.
طاغور: نعم ستبقى حيث هي بالنّسبة للفكر الفرديّ لكن ليس بالنّسبة للوعي المُطلق، فالطّاولة موجودة كشيء ومُدْرَكة بسبب وجود وعي فردي نمتلكه كأفراد.
أينشتاين: لو لم يكن هناك أحد في المنزل فإنّ الطّاولة ستكون موجودة في كل الحالات. لكن هذا الواقع مشكوك في صحّته من وجهة نظرك لأنّه ليس في إمكاننا أن نشرح معناه. إنّ وجهة نظرنا الطّبيعيّة في ما خصّ وجود الحقيقة باستقلال عن البشريّة لا يمكن شرحها ولا إثباتها. لكنّه اعتقاد لا يمكن لأحد أن يعوزه، حتّى الإنسان البدائيّ. فنحن ننسب إلى الحقيقة (المُطلقة) وجوداً إنسانيّاً موضوعيّاً لأنّ ذلك حاجة أساسيّة لنا. لكنْ هذه الحقيقة مستقلة عن وجودنا وعن اختبار فكرنا رغم أنّه ليس في إمكاننا أن نقول ماذا تعني أو أن نشرحها.
طاغور: في جميع الحالات، لو كان هناك أي حقيقة (مُطلقة) لكنّها غير متصلة إطلاقا بالإنسانية فإنّها إذن غير موجودة.
أينشتاين: إذن فإنّني أكثر تديّنا منك!
طاغور: إنّ عقيدتي تقوم على التواؤم التّام بين الإنسان الأسمى وبين الرّوح المُطْلَق في داخل وجودي المنفرد.

الحكمة-الشرقية-وجدت-أن-أقصر-الطرق-إلى-المعرفة-الكاملة-ليس-الاختبار-الحسي-بل-التجلي-العرفاني
الحكمة-الشرقية-وجدت-أن-أقصر-الطرق-إلى-المعرفة-الكاملة-ليس-الاختبار-الحسي-بل-التجلي-العرفاني

في حوار آخر عاد أينشتاين إلى مثال الطّاولة الموجودة بذاتها بغضّ النّظر عمّا إذا كان في البيت سكّان أم لا فخاطب أينشتاين بالقول:
طاغور: صحيح أن الطاولة ستكون هنا حتى ولو لم يكن هناك سكان في المنزل، لكن وجودها لا يكتسب أي معنى بالنّسبة لنا ما لم يتم إدراك هذا الوجود من قبل فكر واع. فضلاً عن ذلك فإنّ من طبيعة الوعي أنّه ليس وعياً مجزّأً بل وعيٌ كونيٌّ واحد. وأضاف: العلم نفسه أثبت أنّ الطّاولة كشيء جامد هي مجرّد تجلٍّ أو ظاهر، ولذا فإنّه لولا وجود الفكر الإنسانيّ التي تنطبع عليه صورة تلك الطاولة فمن أين لنا أن نعرف بوجود مستقلٍّ لها؟ واستخدم طاغور بعد ذلك بعض معطيات الفيزياء الكمّيّة ليدعم وجهة نظره فقال: يجب الإقرار الآن بأنّ الوجود الماديّ للطّاولة ما هو إلّا مجموعة من مراكز الطّاقة الكهربائيّة التي تدور وهذه تعود أيضاً إلى الفكر الإنسانيّ.
ونقل طاغور هنا إلى أينشتاين بعض ما كان قد نُشر عن نظريّة الفيزياء الكوانطيّة التي تُثبت أنّ قانون السّببية في الطّبيعة له استثناءات كثيرة وأنّ الطّبيعة لها قدر من الحرّيّة لدرجة أنّه لا يمكن التنبّؤ بدقّة بسلوك الجزيئات أحياناً وفقاً لنمط يقينيّ جامد فقال: كنت أناقش مع السّيد مندل (وهو عالم صديق لأينشتاين) الاكتشافات الرّياضيّة الجديدة والتي تقول بأنّه في عالم الذرّات أو الجُزَيئات فإن الصّدفة تلعب دوراً، وبالتّالي فإن دراما الوجود لا تدلّ على أنّ كلّ شيء في حركة الكائنات مقرّرٌ سلفاً بصورة مُطلقة.
أينشتاين: الوقائع التي تجعل العلوم تسير في هذه الوجهة لا تقول “مع السّلامة” لقانون السّببيّة.
طاغور: ربّما لا، لكن يبدو أنّ فكرة السّببيّة غير موجودة لوحدها في عناصر الوجود، وإنّ هناك قوة أخرى تُضاف إلى تلك العناصر لتنشئ عالماً له نظامه المعيّن (أي أنه: لا عشوائيّة في الكون بل نظام بديع يتحكّم به وعيٌ كامل).

نيلز-بوهر-عالم-الفيزياء-الكوانطية-الدانمركي-وحائز-جائزة-نوبل-خالف-أينشتاين
نيلز-بوهر-عالم-الفيزياء-الكوانطية-الدانمركي-وحائز-جائزة-نوبل-خالف-أينشتاين

أينشتاين: يحاول المرء أن يفهم كيف يشكل هذا النّظام الصّعيد الأرفع للوجود. فالنظام موجود بالتّأكيد، وكيف تتّحد العناصر لتقوم بتوجيه الوجود، لكن في الكيانات الصّغيرة لا يبدو هذا النّظام بيِّنا لإدراكنا الإنساني.
طاغور: هذه الثنائية (بين الوجود والوعي الإنسانيّ) هي في جوهر الوجود كذلك ما يبدو أنّه تضادّ بين الطّبيعة الحرّة والإرادة المُسَيِّرة التي تتحكّم بها لتسمح بتطوّر نظام بديع للأشياء.
أينشتاين: علوم الفيزياء المعاصرة لا تقول أنّهما (الاختيار والجبر) متناقضان. فالغيوم قد تبدو كتلة واحدة من بعيد لكن إذا رأيتها عن قرب ستجد أنّها مجموعة غير منظّمة من نقاط الماء.
طاغور: هل عناصر الوجود متمرِّدة؟ ولها ديناميّة فرديّة وإرادة؟ وهل هناك قانون في العالم الماديّ يهيمن على هذه العناصر ويوظّفها جميعاً ضمن ترتيب بديع وشامل؟
أينشتاين: حتى هذه العناصر ليست من دون ترتيب حسابيّ، فعنصر الرّاديوم مثلا سيحتفظ دوماً بخصائصه الطّبيعيّة الآن وفي مستقبل الأيام، كما فعل على الدوام. وهذا يعني أنّ هناك ترتيباً حسابيّاً في العناصر المكوّنة للوجود.
طاغور: بالتّأكيد لأنّه لو لم يكن هناك عامل التّسيير فإنّ الوجود سيكون عشوائيّاً أو اعتباطيّاً. فالتّناغم الدّائم بين الحرّيّة والجبر هو الذي يجعل الوجود جديداً وحيّاً على الدّوام.
أينشتاين: أعتقد أنّ أيّ شيء نعمله أو نعيشه يخضع لقانون سببيّة يخصُّه، لكن من حسن الحظ ّأنّه لا يمكننا النّظر من خلال ذلك القانون أو أنْ نفهم الأسلوب الذي يعمل به.

طاغور والتصوّف

طاغورُ والوَجْدُ الصوفيّ

لو لم يكن ثمّة «تأنُّس» للحقّ يُسهِّل المعرفة
لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً

المعرفةُ الأرضيةُ تراكمٌ مَعْرِفيٌّ
أمّا الحكمةُ المقدّسة فإشراقٌ داخليٌّ

رابندرانات-طاغور-في-شبابه
رابندرانات-طاغور-في-شبابه

التقَى رابندرانات طاغور ذات يوم ناسكَيْن من النُسّاك الهنود، وسألهما لِمَ لا تخرجان إلى العالم وتُعلِّمان الناس، فأجابه أحدهما: “كلُّ مَنْ يشعر بالعطش سيأتي من تلقاء نفسه إلى النهر. لا بُدَّ أن يأتي العطاشى جماعات وفُرادَى”، وما هي إلّا سنوات قليلة حتى أخذت ألوف الأنفس المتعطِّشة للمعرفة بالتدفُّق إلى نهر طاغور الفكريّ والرُّوحيّ الغزير، لتستقي منه تلك المعرفة المُفعَمة بعَبَق الحُبّ الإلهي ومَواجِد التصوُّف العاشق للوحدانيّة في ما يتعدّى التخبُّط الهندوسيّ بعقائدَ أشبه بالشِّرك وعبادة الأوثان.
كان جدُّه الأمير دواركاناث (Dwarkanath) الثّريّ ووالدُه ماهارشي ديفندرانات (Maharshi Devendranath)، الثّائر ضدّ التّقليد والتعصُّب، ينتميان إلى حركة دينية ناشئة تُدعَى “براهمو ساماج” (Brahmo Samaj)، تلك التي تتنكّر لمظاهر عبادة الأصنام والطّقوس في الهندوسيّة والتعدُّديّة الشِركيّة، وتدعو إلى عبادة الواحد الأسمى، وتُحثُّ على الخير والإحسان والتّقوى والأخلاق والفضيلة والعمل الصّالح.
حاربه الهندوسُ بشدّة لجهوده في تحويل الهندوسيّة من خلال حركة “براهمو ساماج”، التي سعى إلى تقديمها للغرب بما تنطوي عليه من تبجيل للوحدانيّة (Monotheism)، بمواجهة المعتقدات والتّقاليد الهندوسيّة المتشعِّبة.
وفي تحليلٍ دينيّ لكتاباته وأعماله الشّعريّة، قلّما ذكَرَ طاغور كتبَ “البورانا” (Puranas) التّقليديّة أو “نشيد المولى” (البهاغافاد جيتا Bhagavad Gita)، وتعاليم “الفيدانتا” (Vedanta)، وهي النّصوص الهندوسيّة الأكثر شهرة، لكنّه بدلاً من ذلك ركّز على وحدانيّة الحقيقة الإلهيّة واستشعار هذه الوحدانيّة بالحُبّ والشّوق والوَجْد. ويرى بعض الباحثين المختصّين بالفكر الهنديّ أنّ ذلك جاء بتأثيرٍ من مفهوم الأحاديّة (أو الواحديّة) في النّصوص الدينيّة الفلسفيّة العتيقة “الأوبانيشاد” (Upanishads).
العودة إلى الخالق
ولطالما شدّد رابندرانات طاغور في كتاباته وأشعاره على أنّ هدف الإنسانية هو العودة إلى الخالق. ويقول في كتابه “سادهانا” (Sadhana): “إنّها الغاية القصوى للإنسان أن يجد الواحد الذي هو فيه، الذي هو حقيقته.. المفتاح الذي يفتح به بوابة الحياة الرُّوحية”.
وفحوى رسالة طاغور، الذي لقّبه المهاتما غاندي بـ “الحارس الكبير”، أنّ الحياة هي رحلة الإنسان نحو تحقيق إمكانيّته المُثلى، وهي الاتّحاد بالحقيقة، وأفضل ما تتحقّق تلك الرّحلة عبر تجنُّب العلائق الدّنيويّة. وهو يُميِّز بذلك بين المعرفة الأرضيّة والحكمة المقدّسة، فالأولى تراكمٌ مَعْرِفيٌّ أمّا الثّانية فاستنارةٌ وإشراق داخليّ.
ويَعتبر طاغور الإنسانَ أرقى مخلوقات الله، ويصف طبيعة الإنسان بأنّها ذات وجهين: الأنا المتغيِّرة والذّات الخالدة الدّائمة، الكامنة في أعماقنا، الرُّوح السّرمديّة، لذا يرى أنّ الإنسانَ يجب أن يجهد لتحقيق هذا الكمال الجوهريّ وهذه القداسة الكامنة فيه.
وبلغةٍ شاعريّة مُرْهَفة ينأى طاغور عن التّحليل الفلسفيّ ليبثّ مَواجِدَ تحكي عن التّسليم الكلّي للخالق وخدمة الإنسانيّة بكلّ حُبّ وحنو. هذا الحُبّ الصّوفيُّ الشّاعريّ يسري كسلكٍ يربط دُررَ أفكاره الوضّاءة في آلاف القصائد الغنائيّة، التي غنّاها بصوته الشّجيّ، رؤى في حالة صفاءٍ، صفاءٌ يجعله يتقبّل الموتَ كشأن الحياة، على خُطى الفيلسوف سقراط.
ويبدو مفهومُه الدّينيّ والرُّوحاني بقوّة في كتابه المُبكر “دين الإنسان” (The Religion of Man) إذ يشدّد على وعي الوحدة الرُّوحانيّة مع الحقيقة الأسمى، حيث يتبدّى اللّامتناهي حقّاً وخيراً وجمالاً على مرآة النّفس.
وكذلك يظهر هذا المفهومُ جليّاً في ديوانه الشّعريّ الصّوفيّ “جيتنجالي” (Gitanjali)، “حيث بلغ الوَجْدُ الصّوفيّ أسمى مراحله، وهو يستطلع العلاقة بين الإنسان وخالقه في تجربة دينيّة عالميّة لا تحصرها حدود، تختصرها قصائد تعبُّدية مُفعمة بالمَواجِد الصّوفيّة التي تقوده على إيقاع الحُبّ الإلهيّ خطوةً خطوةً نحو الخالق.
وكان طاغور كلّما قرأ في صفحات الوجود على إيقاع وَجْدِه هذا، كلّما اقتربَ من الوحدانيّة بإيمانٍ عميق، صعوداً على أجنحة روحه المتسامية بصفاء السّرّ وروحانيّة الخشوع، ويهتفُ مخاطباً ربّه من شدّة الوَجْد قائلاً:
لقد أفعمتَ قلبي بحُبّك
وتجليتَ لي بقُربك
ربّاه، لو لم أكن موجوداً
فأين يتجلَّى حُبّك؟

وهذا التّلهُّفُ الشّديد في مَواجِدِه الذي يتّبع نداءَ الرُّوح وتأمُّلات العقل وشغف النَّفْس إنّما هو اهتداء إلى المُبدِع بما يتبدّى من إبداعه في أكمام الزّهور، وقَطَرات النَّدَى، وظِلال الجبال، وترامي الأكوان، ليرَى الأنوار الإلهيّة تتلألأ في مرايا الوجود.

طاغور-مع-جمع-من-محبيه
طاغور-مع-جمع-من-محبيه

“الهدفُ الأسمى للنّفس البشريّة هو إدراك الله على مرآة الحقائق، ولا يتسنّى ذلك الإدراك إلا بالتخلُّص من الجهل. أي من الأنا التي تعزل الذّات عن خالقها”

تقليد “البهاكتي” الصّوفيّ
وفي هذه التّأمّلات الصّوفيّة ثمّة تشابه بين مذهب طاغور وتقليد “البهاكتي” (Bhakti) الفريد في الهند، على الرّغم من الفترة الزّمنية الطّويلة الفاصلة بينهما، إذ إنّ الرُّوحيّة الفلسفيّة هي ذاتها، فلا وجود للطّقوس والمراسم والكُهّان. وقد شارك معلِّمو هذا التّقليد فكرة الوحدانيّة، والمساواة بين البشر ومختلف الطّبقات، ورفض عبادة التّماثيل والأصنام، وهو ثمّة ما يُوازيه في التّصوُّف الإسلاميّ.
وأشهر هؤلاء المعلّمين، الشّاعرُ الصّوفيّ الهنديّ “كبير” Kabir (1440-1518)، الذي قام طاغور بترجمة مئة قصيدة له في كتابه “مئة قصيدة لكبير” (One Hundred Poems of Kabir)، وهو كان قد تصدّى للتّقليد العقائديّ الأعمى في الدّيانتَين الهندوسيّة والإسلاميّة، وعلّم مذهباً وحدانيّاً صارماً.

بين طاغور و”كبير”
يبدو واضحاً من خلال ترجمة طاغور لقصائد الشّاعر الشّهير “كبير” أنّه كان يؤمن بتعاليم هذا الصّوفيّ لا سيّما مفهوم الوحدانيّة. فقد وجد طاغور تآلفاً كبيراً مع صوفيّة “كبير” فوق التقاليد والطقوس والمراسم لأي دينٍ انتمت. والتّشابه بين هذَين الصّوفيَين مذهل، كتحدُّثهما عن الحُبّ الإلهي، والغفلة واليقظة، والموسيقى الكونيّة، وجديرٌ بالذّكر أنّ طاغورَ كان قد وضع ديوانه “جيتنجالي” قبل قيامه بترجمة “مئة قصيدة لكبير”، فالمسألة مسألة تماثُل وتآلف لا تأثير واقتباس.
وكان “كبير” يرى أنّ التعلُّمَ الحقيقيّ لا يتأتّى من دراسة النّصوص الدّينيّة أو المعرفة النّظريّة بل من محبّة المولى الأسمى. وهما يتحدّثان عن هذا المولى كحقيقة متأنّسة للإنسان. فبالنّسبة لطاغور لو لم يكن ثمّة “تأنُّس” للحقّ يُسهِّل المعرفة، لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً. وما مُبادلة نعمة هذا التأنُّس إلّا بالحُبّ المُكرّس، والتّفاني في هذا الحُبّ والاستغراق فيه.
ويقول طاغور في إحدى رسائله إنّ الشاعرَ “كبير” والشّعراءَ الزُّهادَ الأقدمين مَلَكُوا موهبة اللّغة، لكن من أجل أن نفهم لغتهم (الصّوفيّة) تماماً، لا بُدّ إلى حدٍّ ما من مشاركة تجربتهم ومشاعرهم. فالمشاعرُ المقترنة باللّغة تُنتِج عبقريةً “وأعني باللّغة أكثر من مجرّد كلمات: لغة الرّموز، والمنطق…”، ولا ريبَ أنّ طاغور شاركَ هذه المشاعر واللّغة مع “كبير” وفكره الصّوفيّ.
فالخالقُ بحسب هؤلاء المتصوّفين أوجدَ الكونَ كمرآة، والهدف الأسمى للنّفس البشريّة هي إدراك الله على مرآة الحقائق، ولا يتسنّى ذلك الإدراك إلا بالتخلُّص من الجهل. ويكمن الجهلُ في الأنا التي تعزل الذات عن خالقها، وتحثّنا على تلبية رغباتها الأنانيّة والضّيّقة. وهذا الانفصال أو العُزلة هو العبودية، والجهل هو السّبب الأوّل لعبوديّة النّفس، وهو ما ينبغي التّحرُّر منه.
ولأجل تحقيق هذا التّحرّر، علينا أن نملأ قلوبَنا بالمحبّة الشّاملة ومحبّة الآخرين. إنّما عبر حُبّ الله والغِبطة فيه تتمتّع الأنفسُ بالحرّيّة التي هي هبة من الله، فالله خلقَ تلك الأنفس بدافع الحُبّ. ولا بدّ لأجل ذلك من الاستسلام الكلّي للعليّ بالحُبّ والتّعبُّد.

اتّحاد الشّاعر والعارف
ويتجاوز فكرُ طاغور بسُمُوِّه كلَّ الأفكار الفلسفيّة والرُّوحيّة، ويتخطّى كلَّ حدود اللّغة والثّقافة والأجناس والأديان. وفي قصائده المُحلِّقة بأجنحة الصّوفيّ المُنجَذِب إلى الملأ الأعلى، يتّحِد الشّاعرُ والعارِف في وَجْدٍ ينذهل باللّامتناهي وسط المتناهي، وبالوحدة ما بين الكَثرة، وبغِبطة الوجود. فقد كان طاغور يعتقد أنّ الشّاعرَ المُلهَم بالرؤى قد يجد مكانه عن حقٍّ بين الحكماء والقِدّيسين.
وفي مقدّمة ديوانه “جيتنجالي” الذي يشتمل على ترجماته النّثريّة باللّغة الإنكليزيّة لقصائده باللّغة البنغاليّة، والذي نُشِرَ في العام 1913 مع تمهيدٍ للشّاعر الإيرلندي دبليو بي ييتس (W. B. Yeats)، وفاز بفضله بجائزة نوبل للآداب في العام ذاته، يقول طاغور: “لولا إدراكنا لمحبّة الله، لَمَا تسنَّت لنا نعمةُ الإيمان به …”.
هذه المحبّةُ أو الوَجْد الذي يؤكّد على تلك القداسة في الدّاخل … “الله في داخلنا لكنّنا لضياعنا نبحث عنه في الخارج”. إنّه التأمُّل في سرّ الوحدانية المُقدّس في داخل القلب (Jivan Devata):
هوذا الواحدُ في أعماقِ أعماقي
يوقظ كَيانَي بلمَسَاتٍ خفيّة
ويُدغدِغُ أوتارَ قلبي اغتباطاً
على إيقاعِ ترنّمِ الشوق والفرح
إنّه شغفٌ في أعماق القلب يتبدّى شعراً موسيقيّاً يخاطب الرّوح، لا كالأشعار الرّائجة التي هي مجرد تنضيد عبارات وتقطيع وأوزان خالية من الصدق. فقصائده أشبه بواحات روحيّة في صحراء من الجفاف الشّعريّ، واحاتٌ تستدعي السّموَّ إلى أسرار الكون ومشاركة “روعة رؤى” الحقيقة.
وإذا أصغينا ملّياً لسمعنا في قصائده صدى المزامير: “الأرضُ والسموات ملأى بحُبِّكَ..”. فبالنسبة إلى طاغور، وحده الحُبّ يُمكِّننا من اختبار سرّ الوحدة.
استيقِظْ أيُّها الحُبّ، استيقِظْ
فأنا في الخارج ولا أعلمُ كيف أَفتح الباب
السّاعاتُ تمرُّ، والنّجومُ تُراقِب، والرّيحُ منذهل
والصّمتُ ثقيلٌ في قلبي
استيقِظْ أيُّها الحُبّ، استيقِظْ
املأ كأسِيَ الفارغ، ودَعِ اللّيلَ يتهادَى على موسيقاك

ويُشدِّد طاغور في أشعاره على أنّ الحُبَّ، الحُبُّ فحسب، يجعلنا نختبر سرَّ الاتّحاد مع حقيقة الوجود. فالحُبُّ بالنّسبة إليه “نشوة استيقاظ” على حقيقة سرّ الوحدة في أعماق القلب:
مَنْ يتمكَنْ من فَتْحِ بُرعم
ويُلقي نظرةً في داخله
ينسابُ إلى عروقه نُسَغُ الحياة
ويبسطُ ضَوْعُ الزَّهر جناحيه محلّقاً في الهواء
والألوانُ تتدفّقُ أشواقاً
والعِطرُ يفشي سرّاً عَذْباً
وتتراءى الطّبيعةُ في شعر طاغور جمالاً أثيريّاً مُلهِماً له ومُرشِداً إلى الصّفاء، وهو يتحدّث عمّا جاء به أصحابُ الرّؤى الأقدمون بإلهامٍ من الطّبيعة لاتّحادهم بها أحراراً من جدران المدن وعوائقها، تلك الجدران التي تُحدِث عُزلةً، وتجعل الإنسان يرى الازدواجات والتّضاد في كلّ مكان. ويتساءل طاغور، إذا كان الله بوحدانيّته فوق كلّ الازدواجات، أنّى للفكر أن يُدرِكه. وحدَهُ القلب بإخلاصه، وحُبّه، ووَجْدِه الصّوفيّ يتيح معرفةَ الله ومشاهدة جماله على مرآة القلب الجليّة.

الشاعر-الصوفي-كبير-أهم-مصادر-إلهام-طاغور
الشاعر-الصوفي-كبير-أهم-مصادر-إلهام-طاغور
الشاعر-طاغور-مع-المهاتما-غاندي
الشاعر-طاغور-مع-المهاتما-غاندي

المعلّم في ذكرى طاغور
“الأدب الحقيقيّ هو الذي يرتقي بالنّفس ، يرفع ولا ينزل، يصون ولا يهدم، يبعث السّعادة لأنّه يبعث الجمال الأصيل في النّفوس حيّاً وإذا لم يكن الجميل فينا وجهاً لطبيعتنا الحقيقيّة، فكيف نستطيع أن نتذوّق الجمال؟ الأدب والفن هو تعبير عن هذا الانسجام الرّفيع بين العقل والقلب، على ضوء وعي الحقيقة الأخيرة المطلقة. الأدب والفنّ مسلك للارتقاء ولترقية الآخرين، وليس هو بضاعة ينتجها أصحابها بقصد الوصف والإثارة لأجل بيعها والاتّجار بها في الأسواق.”

(من كلمة للمعلّم كمال جنبلاط في سفارة الهند في لبنان، في ذكرى شــــاعر الهنـــد الكبير طاغور سنة 1966)

مختارات من شِعر طاغور

-1-
أشعرُ بأنّ كلّ النّجوم تسطع في داخلي
والعالم يقتحم حياتي مثل سيل جارف
والأزاهير تتفتّح في جسدي
وكلّ شباب الأرض
ينتشر مثل أريج البخور في قلبي

-2-
لقد جعَلتَ وجودي بلا نهاية
ذلك هو الفرح منك
وهذا الوعاء الضّعيف أفرغته أنت
مرّةً بعد مرّة
ثم ملأتُه بحياة جديدة

-3-
الحبّ يتزيّن لنفسه
فهو يسعى لإثبات الفرح الدّاخليّ
بمظهر الجمال الخارجيّ
الحبّ سرٌّ لا قرار له
لأنّه لا يوجد شيءٌ يمكن أن يفسّره

-4-
لِمَ انطفأ المصباح ؟
لقد أحطته بمعطفي ، ليكونَ بمنجىً من الرّيح ،
ولهذا فقد انطفأ المصباح
لِمَ ذوت الزّهرة ؟
لقد شددتها إلى قلبي ، في شَغفٍ قَلِق،
ولهذا فقد ذوت الزّهرة .
لِمَ نضبَ النّهر ؟
لقد وضعت سَدّاً في مجراه لأفيدَ منه وحدي،
ولهذا فقد نضبّ النّهر .
لمَ انقطع وتَرُ المِعْزَف ؟
لقد حاولت أنْ أضربَ عليه نغماً أعلى مما تطيقه قدرته،
ولهذا فقد انقطعَ وترُ المِعْزَف.

-5-
إيهِ أيّتها الدّنيا لقد قطفتُ وردتَك
وضممتُها إلى قلبي فوخزَتني شوكتُها
ولمّا جنحّ النّهارُ إلى الزّوال ، وامتدّت العتمةُ
ألفيتُ الوردةَ ذاويةً، بَيْدَ أنّ ألمَ وخزتِها ظلّ باقياً
إيهِ أيّتُها الدّنيا ، سوف يوافيك الوردُ بشذاه وعنفوانِه
ولكنْ أوانَ قطفِ الوردِ الذي كنت أتحيّنُه قد فاتني
وفي اللّيل الحالك
لم أعُدْ أظفر بوردة
فيما عدا ألمِ وخزِها الباقي

الشعر العامي في جبل العرب الحلقة الثانية

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

الحلقة الثانية                                                                                                       حازم ناصر النجم
الغارية – جبل العرب

اللهجة البدوية في الشعر الشعبي مستخدمة على نطاق واسع
في الخليج والعراق وسوريا والأردن وفلسطين واليمن وبدو مصر

أهل الجبل دون سواهم من العرب تكيفوا مع لهجة البدو

بدوي مع ربابته – أهل جبل العرب أخذوا الربابة من البدو كمرافق لشعرهم الشعبي وبرعوا فيها

أصبح الشعر العامي (البدوي) في جبل العرب سِمَةً أساسية لـ “فولكلور” الجبل، وهو ليس اللون الوحيد المتداول، فهناك اللهجة المحلّية وما يندرج تحتها من أنماط فنّية مثل العتابا وبعض قصائد الفن وبعض الأغاني الخاصة بالأعراس والمواسم . وأقول الشعر البدوي لكي أميّزه عن اللهجات الأخرى مع الإشارة إلى أن البعض يسمّيه الشعر النبطي أو العامي أو الشعبي …
وللّهجة البدوية الصّرفة حضور متميز في شعر جبل العرب رغم أن أهل الجبل لا يتكلمون بلسان البدو إلاّ في مَثَلٍ عابر أو جملة معترضة، وأنا أشبّه هذه الحالة (أي حالة نظم الشعر باللهجة البدوية) بحالة الشعر الفصيح عند عامة شعراء الفصحى، فتجد المصري والليبي والشامي وغيرهم يتكلمون بلهجاتهم المحليّة الخاصة ويستخدمون اللغة العربية الفصحى في أشعارهم وآدابهم، وهذه حال أي شاعر بالفصحى مثل الجواهري أو قبّاني أو درويش وغيرهم، فهم يَخرُجون عن عاميّتهم إلى لغةٍ أُخرى هي لا ريب اللغة الأم الشاملة، ولكنها ليست هي المتداولة في حياتهم اليوميّة، وكذلك يخرج الشاعر العامي في جبل العرب عن لهجته الخاصة ليتكلّم اللهجة البدوية في شعرِه .
لذلك يمكن القول أن للشعر “لغة” وللتعامل اليومي “لغة” أخرى في جبل العرب (على اعتبار اللهجة لغة من باب التّجوّز) وهذا فيما يخص السِّمة العامة لفولكلور الجبل، ولهذا الموضوع سابقة تاريخية ذكرها الدكتور يوسف زيدان في كتابه “متاهات الوهم” عندما تكلم عن لغة البُرديات إذ يوضح أنه كان لدى المصريين القدماء لغة مقدسة كُتبت على المَسلاَّت والجدران وهي لغة صعبة وعميقة -يسمّيها اليونانيون “الهيروغليفية”- ولغةٌ أخرى متداولة بين العامة وهي أسهل وأبسط يسمونها “الهيراطيقية” وهي التي كُتبت على البُردي .
ولهذا الخروج عن اللغة المحكية أسباب تاريخية تربط الشاعر أو ذَوّاق الشعر البدوي بالبادية التي هي المنبت الأصيل للغة وشعر العرب وقد مهّدنا لهذا الموضوع في الجزء الأول من هذا البحث.
ولا أقول أن لهذه اللهجة البدوية الأثر الأكبر حالياً في جبل العرب، فقد أصبحت وقفاً على ذوّاقة الشعر البدوي وأصحابه، وهم يشكلون اليوم نسبة قليلة في المجتمع خصوصاً وقد نضح الإعلام المرئي والمسموع باللهجة الشاميّة والمصرية بشكل خاص، فأصبح من المألوف سماع هاتين اللهجتين دون سواهما إن كان في المسلسلات التلفزيونية أو الأغاني المنتشرة بكثرة في هذا الزمن، وتبقى اللهجة البدوية رغم ذلك صاحبة مساحة ليست بالقليلة على مستوى الوطن العربي فهي تشمل الخليج العربي والعراق والأردن وفلسطين واليمن وقبائل مصر، وبالنسبة لسورية فهي متداولة في حوران والرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب وريف حمص وهي المساحة الأكبر في سورية .
وبشكل خاص هناك تميّز في عدد الشعراء الذين نظموا قصائدهم بلهجة البدو والذين يقطنون المنطقة الجنوبية والشرقية من جبل العرب، فهم بطبيعة الحال يحاذون بادية الأردن ولهم علاقات قديمة مع بدو الأردن فتجدهم متأثرين أكثر من غيرهم بهذه اللهجة البدوية ومتمكنين منها بحيث يستخدمونها كما هي في شكلها ومضمونها عندما ينظمون قصائدهم أو عندما يهزجون في أفراحهم، ولهم الكثير من المفردات الخاصة الغريبة بشكلها ولفظها عن المتداول في اللفظ القرويّ المحلّي في الجبل، لذلك تجد قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس شعراء المنطقة الجنوبية، الذين تعامَلَ أسلافهم مع البدو أيام الغزو والرعي والتحالفات العشائرية والتجارة الحرّة، وورثوا عن هذا السلف اللهجة البدوية الصحيحة والقصيدة البدوية المتعارف عليها، ومن قبائل البدو المعروفة ضمن هذه العلاقات: السَّرديّة وبني صخر والرّوَله والعيسى وقبائل منطقة حائل في الجزيرة العربية؛ وقد أخذ سكان جبل العرب عن هذه القبائل الكثير من العادات والتقاليد الواضحة في ضيافتهم ومفرداتهم إن كان في الترحيب أو المباركة أو العزاء، إلا أنهم قرويون متحضّرون في حياتهم العامة مثَلُهم مثَلُ البدو الذين يقطنون القرى أو المدن.
وهناك من يسأل: لماذا ننظم شعرنا بلهجة البدو في جبل العرب، والبدو لا ينظمون شعراً بلهجتنا نحن ؟! والجواب هو أن أهل الجبل قادرون على التكيّف مع اللهجات العامية الأخرى وبالذات لهجة البدو دون سواهم من أصحاب اللهجات، فتجد من الصعوبة في مكان أن يتكلم الشامي لهجة البدو، وهو إن تكلم بها يبدو لك “بدوي شامي” كما قال الفنّان سليم كلاس في مقابلة تلفزيونية عندما سُئل عن دوره في مسلسل (جواهر)، وكذلك المصري عندما يتكلم البدوية والبدوي عندما يحاول التكلم باللهجة الشامية أو اللبنانية، ورغم إتقان بعض الفنانين لهذه اللهجات إلا أن الناحية الفنية تبقى قاصرة عن مخارج الحروف الصريحة ضمن هذه اللهجة .
أما من يأخذ موضوع التقليد من ناحية فلسفية تُفضي إلى تقليد الأدنى للأعلى، فهذا تجنٍّ واضح لا يحترم خصوصية التراث

“قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس الشعراء الذين تعامَلَ أسلافهم مع البــدو”

في جبل العرب، ولا ينظر إلى محدودية اللهجة المحلية المتداولة ضمن مساحة معيّنة لا تتعدّى الجبل، على الرغم من أن شعراء الجبل نظموا بلهجتهم القروية قصائد لا تقل روعة عن قصائدهم المكتوبة باللهجة البدوية، فالموضوع إذاً موضوع مساحة وانتشار أكبر ومحاكاة للواقع المفروض وليس موضوع أدنى وأعلى، ثم هو لا ينظر إلى الإبداعات والبارقات الفنّية التي نتجت عن الشعر البدوي في جبل العرب، فهناك صور جديدة ولمسات فنّية رشيقة تطاول الشعر الفصيح في عَليائه ومَثَلها قول المرحوم اسماعيل العبد الله
ضَمّ القَحَاوي وَاردَفَ لـــــ عَ النّابي سُلاّف شَفَّة واصطـــبى عَ النّــابي
يــــــــــــــــا حلـــــــــــــــو لمَّـــــة جيبهـــــــــا ع النّـــــــــابـــــــــــــــــــي روض الرّبيع اكسى الهَنيـع كْماها
والقحاوي هو زهر الأقحوان. اصطبى أي ارتقى، جيبها أي صدرها، الهنيع قيل هو الزغب الخفيف الذي يكسو الكمأة وأكسى الهنيع كْماها: إسقاط وتشبيه للثوب الذي يكسو صدرها. أما مفردة العنّابي التي تكررت ثلاث مرات فهي تحمل ثلاث معان الأول هو اللون العنّابي كناية عن الشفتين والثاني يلمح إلى الناب أي على أسنانها والثالث يقصد النابي أي المكان المرتفع .
فما أشبه هذا بذلك الوصف الوارد في شعر الخليفة العبّاسي عبدالله بن المعتزّ:
فاستمطرَت لؤلؤاً من نرجسٍ وسَقت ورداً وعَضّت على العُنّاب بالبَرَدِ
ومن الصوَر والموضوعات البديعة التي وردت في وقت مبكّر من نشأة الشعر البدوي في جبل العرب قصيدة المرحوم الشاعر شبلي الأطرش ( زعيم الجبل سابقاً) والتي يساجل من خلالها القلم مستخدماً الوزن الموافق لبحر الرّمَل ومنها :
سار مذبوح القلم أوحى الصّرير فــــوق طُلـحيّــــــــــة بدا ينثـــر لبــــــــــــــــــاه
واشــــتغــــــــل دولابــــهــــــا فنّـــــــاً يــديــــــــــــــر واليـراع انهَــــــــــل يرعَف مـــــــــــن لمـاه
قلت ها يـــــا راعــيَ السِّنّْ الصّغير هات جاوِب مغـــــــرمَـاً دهره بـــــــلاه
وانثر القـــافـــــات عالكاغــــــــــد وسير هاج بحر الفن وازبَد مـــــــــــن علاه
مذبوح القلم: إشارة للحبر الذي فيه، أوحى الصرير: صوّتت ريشتهُ المعدنية عندما لامست الورق وفي هذا دلالة على الوضع النفسي المؤلم الذي يعيشه الشاعر من خلال شدّة ضغطه على القلم والورقة، طلحية: ورقة كبيرة، ينثر لباه : ينثر مداده، السنّ الصغير: رأس القلم صغير الحجم، الكاغد: الورق
ومن هذا المطلع الشجي يدخل تحَدّياً جميلاً مع القلم، ومن ثم يصرّح بقدرة القلم العظيمة على الرغم من صِغر حجمه، كيف لا وهو حاضرٌ في يد السلطان العثماني الذي أمضى كتاباً يُفضي إلى نفي الشاعر ورفاقه يقول:
قُلـــــــــــــــــــــتْ لَهْ نعـــــمين لــــــــــو عُودَك كلّنا من رَعْفِتَك رحنا هبــــــــاه
وأراد بــ “الرَّعفة” الإشارة إلى إمضاء السلطان، وفي هذا إسقاط بديع وإيحاء وتتبيع وهي من محسّنات الشعر ومن رُقي أسلوبه .
والأمثلة كثيرة وغنيّة وفيها من التجديد والإبداع ما يضعها في مصافي الشعر الفصيح .
ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى تأثر الكثير من شعراء الجبل بشعراء ( نجد و حايل ) من أعمال شبه الجزيرة العربية، ونلمس هذا التأثر عندما نقرأ قصائد آل الرشيد ومن عاصرهم من البدو، وأيضاً قصائد محمد العبد الله القاضي وعبد الله بن سبيّل ومحسن الهزاني وهم من شعراء نجد المميزين .

إشكاليات في الشعر البدوي
أُورد هنا بعض الإشكاليات التي يمكن اعتبارها من الجوازات أو الأسلوب المتعارف عليه في جواز الخطأ بالنسبة للمفردة الواحدة و القافية والوزن في الشعر النبطي …

“أخذ أهل الجبل بلغة البدو في شعرهم الشعبي عنوان تكيف طوعي خلّاق مع الواقع المحيط وليس فيه تغلب لثقافة البدو على الثقافة المحلية”

المفردة
بعض المفردات المستخدمة في الشعر البدوي في جبل العرب تحمل إشكالية في معناها وطريقة كتابتها ولفظها وهذه الإشكالية تصل إلى حدّ قلب المعنى في كثير من المواضع إذا ما حاكمنا المفردة في محكمة الفصحى، فمثلاً مفردة “الهيلعي” تستخدم عند العامة بمعنى: الشجاع وهي في معناها الأصيل تعني (الجبان) الذي يصيبه الهلع لأقل الأمور، إنما اتخذت العامة معناها من صيغة (الذي ينشر الهلعَ في قلوب الأعداء) وهي بذلك من الأضداد. يقول اسماعيل العبد الله واصفاً ( راعي الذلول ) في إحدى قصائده :
هيلعي الوِلدات بــــــالظلمة كَسَـــــلّْ عضب هِندي فيصلاً بِدْهُونَهـــــــــا
وفي هذا السياق تحضرني بعض المفردات أو المُسمّيات التي أورَدتَها العرب على عكس فحواها وذلك تيمّناً بفأل الخير والسلامة ومنها: “الناجي” من أسماء الجمل حيث أطلقت عليه هذه التسمية تيمّناً بنجاة راكبِه من المهالك ومنها:”المفازة” أي الصحراء وذلك تيمّناً بفوز قاطعها ونجاته. ومن هذه المُسمّيات أيضاً “السَّليم” كناية عن الملدوغ بلدغة الأفعى تيمّناً بالسلامة.
وايضاً التركيب اللغوي: (اليا) وهو بمعنى (إذا ما) فيقولون: (اليا صار) أي (إذا ما صار) وهي مستخدمة عند البدو بشكل

العصبية-للجماعة-أساس-عيش-البدو-في-بيئات-قاسية-وغير-آمنة،-لكن-بني-معروف-الموحدين-أثبتوا-أنهم-أكثر-من-ند-للبدو-في-هذا-المجال
العصبية-للجماعة-أساس-عيش-البدو-في-بيئات-قاسية-وغير-آمنة،-لكن-بني-معروف-الموحدين-أثبتوا-أنهم-أكثر-من-ند-للبدو-في-هذا-المجال

آخر في كثير من المواضع فيقولون: (إلى ما صار) ومن الشعراء من يستخدم من هذا التركيب حرف اللام فقط فيقول: (لَ صار) كما هي عند الشاعر صالح عمار:
لَ صار حنّا نجوم وسلطان القمر بــــــــأربع طعش نيسان يومٍ يطلعي
وتفيد(اليا) في غالبية مواضعها معنى (إن) ومثالها عند شعراء البدو لمحمد القاضي شاعر نجد :
الرّجل بــــــــــــالواجب لسانه عقالـه اليا قال قولٍ تم لو حال بَهْ حال
وتأتي بمعنى (إلى أن) ومثالها عند شعراء الجبل للشاعر جاد الله سلام:
اليا مـــــا دَعوني نـــاحلٍ تقل عــَ نار سَلْيَ الدّهان اللي مجـــــــــــــــــــرَّد سَلينا
وايضاً إشكالية بعض المطالع الشجيّة التي تبدأ بجملة “يا مال قلبٍ” فهي تُستخدم بأكثر من منحى وهذا تركيب لغوي عامي مستخدم في الكثير من مطالع الشعر البدوي ويفيد معنى التأوّه ويستخدمه الشعراء بأكثر من صيغة فمنهم من يقول: “يا مَلّ..” من مَلّ الشيء بالشيء أي غمسه والمليل: العجينة التي تُدفن في الجمر أو في الرمل الساخن، ومنهم من يقول: “ياما لقلب” أي كم لهذا القلب من الهموم، ومنهم من يقول: “يامن لقلب” وهذه الجملة مستخدمة في الشعر الفصيح ومثالها لعمر بن ربيعة:
يــــــــــــــا مَن لـقلـــــــــــبٍ دَنِـفٍ مغــــــــــــرمِ هــامَ إلــــــــى هـنـــــــــدٍ ولـــــــــم يظلــــــــــــمِ
وأيضاً من الإشكاليات المُجازة في هذا الباب استخدام صيغة الماضي بصيغة الفعل المضارع وذلك بإضافة النون في نهاية الفعل الماضي الخاص بصيغة الجمع في بعض مواضع الكلام مثل ( قالون) في مكان (قالوا) ومثالها للشاعر يونس أبو خير:
من سهلة العيّن على الكَفر غارون غـــــــــــــــــــارة ذيـــــــــــــــاب الجايعــــــــــة إن وَصَفْنـــــــــا
ونلاحظ أيضاً في البيت السابق إشكالية الصفة والموصوف ففي بعض مواضع لهجة العامة ومنها البدوية تُعَرّف الصفة دون الموصوف فالأصح لغوياً أن نقول “الذئاب الجائعة” أو “ذئابٌ جائعة” وليس “ذئاب الجايعة”
ومن المفردات المستخدمة كثيراً مفردة “مير” أو “مار” والتي هي اختصار لجملة (ما غير) وأيضاً تُستخدم بمعنى “لكن” ومثالها للشاعر زيد الأطرش:
مـــــــارِ البلا كَن طبّه الذل واهــــــــوالْ يـــــــــــــا وِلد عمّي غَللّوه النشــايــــــــــــــب
ومفردة “كُود” التي تعني التأكيد أو تأتي بمعنى “غير” يقول الشاعر صياح الأطرش:
مـــــــا رَدّ مِنّا كــــــــــــــود قَرم العيــــــالـــي سلطان ذيب وعاديــــــــاً بالقِراقير
ومن لغة البدو أيضاً وما يستخدمه شعراء الجبل نقلاً عنهم إبدال الواو بالألف في بعض المفردات، مثل “ماقف، ماقد،” التي هي بالأصل “موقف، موقد” وأيضاً إشباع حركة الفتح في بعض المواقع مثل: “يقدار” بمعنى يقدر وما يوافق منحاها يقول جاد الله سلام:

أبكي على اللي بدَّل الدار بديار هيهـات من بـــــــــــــعد المفَـــــارَق يجينا
يــــــــــاقلب كنّك عالعسيرات تقدار اصبر وقيـــــــــل الله مــــــع الصَّابــــــــــــرينا

فتيات-من-مدينة-السويداء-يحملون-الماء-إلى-منازلهن-في-العام-1945
فتيات-من-مدينة-السويداء-يحملون-الماء-إلى-منازلهن-في-العام-1945

القافية
في كثير من القصائد العامية نجد خلطاً في القافية الواحدة التي يجب أن تنتهي بحرف الروي ذاته وإنما لا تقاس القصائد العامية بمقياس الفصحى عندما تكون القافية منتهية بحرفٍ من حروف المد أو منتهية بالتاء المربوطة التي تلفظ ( هاءً ) للوقف، فالعامة تخلط بين القافيتين وبرأيي ذلك مُجاز وغير مستحب في الشعر العامي لأن نهايتي الحرفين أو القافيتين تُلفظ واحدةً، فتجد مثلاً في قصيدة لزيد الأطرش :
في ربوع العــــــــــــــــــز للدنيا لفينـــــــــــا وارتقينا بــِ سما العَليا فطامه
فالقافية هنا ( الميم مع التاء المربوطة التي تُلفظ هاءً ) وبعد عدّة أبيات في القصيدة ذاتها نجد :
شَيّـــــــــــــدوا فوق الهضاب المعتلينا لِ مكارمهم صروحاً لا تُسَامى
والقافية هنا هي ( الميم مع الألف المقصورة ) واللفظ يعطيك القافيتين بصيغة الميم المحرّكة بالفتح وهذا إشكال غير مقبول في الفصحى بينما هو وارد في الشعر العامي بشكل عام وفي الشعر البدوي بشكل خاص، إذاً شعراء العامّية يتبعون اللفظ المتوافق دون الخط ودون مراعاة توافق القوافي الأصيلة، وطبعاً يحدث ذلك في مواضع قليلة وليس بصورة دائمة فتجد الكثير من الشعراء العاميين يلتزمون بالقافية كما هي في الفصيح.

الوزن
يتميز الشعر البدوي بقافيتين مختلفتين في الصدر والعجز ضمن القصيدة الواحدة وذلك في غالبية الأوزان المستخدمة في هذا الشعر وهو أسلوب يشابه أسلوب الموشحات الأندلسية، ولكن تجد بعض الشعراء يُخلّون في وزن الصدر عندما لا يُلزمونه بالقافية . وأكثر ما نجد ذلك في نموذج (الهلالي القصير) فهو في معظمه يقارب البحر الطويل وما يشذ عن الطويل في الصدر ولا يوافقه في العجز،ومثاله لإسماعيل العبد الله :
عارَكْت دهري واستمرّت ملامتي مضّــيت عمـري للزمان عــْتـاب وْلاَ
الـيا فَلَجْتَه مــــــــــــــــا ترى الحَــــــــــــقّ يفـقُمَــــهْ تـِخجـــل الخــايــــــــــــــــــــــــــــــن بــقـــولـــــــــة عـــــــاب
فلَجْتَهْ: أي أفحمته بالحجّة الحق. ولكنّ الخائن لا يخجل إذا عيّره الآخرون بخيانته!
وفي الواقع هو لا يطابق البحر الطويل في المحصّلة فهو نموذج خاص يتبع له أكثر من وزن .
يكثر في الشعر الشعبي “الخَزْم” وهو زيادة حرف أو كلمة في مقدمة صدر البيت أو عجزه تخدم المعنى وتزيد عن الوزن، وفي الشعر البدوي يزيدون حرف العطف (الواو) في غالبية الخَزْم ومنهم من يزيد ثلاث حروف مثل اسماعيل العبد الله عندما يقول:
خطا الناس لو رافقتهم يســـترونك وخطا الناس رِفْـقَتهُم رفيق ذيــاب
نلاحظ في عجز البيت زيادة الواو ومفردة (خطا) فهي تعني “بعض” والتي يتغير المعنى بإسقاطها ويطول الوزن بإثباتها، وبدونها يمكننا تقدير الكلام أن مِن الناس كذا ومِن الناس كذا، فالشاعر يقابل بين الأخيار والأشرار في شطري البيت، ولكن الشعراء يضيفون هذا “الخز” أو هذه الزيادة في سبيل إيضاح وتأكيد الفكرة أو لضرورتها مع الإشارة إلى أن الصدر والعجز لهما وزنان مختلفان في الطول والقصر فالعجز يجب أن يقصر عن الصدر في كل هذه القصيدة.
وهنا أُبدي رأيي الخاص في موضوع وزن القصيدة العاميّة أو (البدويّة ) التي نحن في صدد دراستها :
هناك تباين واضح بين عملية تقطيع الشعر الفصيح والشعر العامي على مبدأ الفراهيدي المتعارف عليه وذلك أنك عندما تقطّع البيت الفصيح فأنت لا تغيّر من حركاته شيء بطبيعة الحال أي يبقى كل شيء على ما هو ويوضَع في إطار التفعيلة الموافقة .. بينما في الشعر العامي أنت تضطرّ لتغيير الحركات التي خرجت بها اللفظة الواحدة لكي يتم لك التقطيع والوزن الصحيح وبغير ذلك أنت أمام التقاء ساكنين بشكل كثيف وأمام أحرف ساكنة على حسب مخرج الكلام العامي ومنها ما يأتي ساكن في بداية المفردة لذلك نحن نغيّر منحى البيت واللفظة الواحدة لنخرج بصيغة توافق البحر المطلوب ومثال ذلك هذا البيت من وزن المسحوب ( الشروقي)
أَفْكَرْتْ بـــــــالــدنــيا وْفَيَّضْتْ مَكَـــتُوْمْ ماحــَانْ في ليحـَـانْ صَدري وْحَامِي
نلاحظ التشكيل الذي يوافق طريقة اللفظ ومخرج الكلام كما يريده الشاعر، ولكن إذا أردنا تقطيع هذا البيت ووزنه فنحن نغيّر الحركات ليصبح البيت على الشكل التالي:
أفْكَرْتِ بـــــــــــــالدّنيا وَفَيَّضتِ مكتوْمِ ماحانِ في ليحانِ صدري وَحَامي
وبذلك نحن نتحايل على صيغة البيت التي يُلفظ بها .إذاً لا بد من القول أن بحور الشعر العامي توافق بحور الشعر الفصيح مجازاً أو تقريبياً ولا تُطابقها بشكل تام، وطبعاً هذا لا ينفي وجود أبيات تطابق البحور المتعارف عليها بشكل تام وبدون تغيير في صيغتها وأكثر ما نجد ذلك في بحر الرّمَل المعروف بــ (الهجيني) عند شعراء العاميّة فمثلاً :
“يا شهيداً ما على دَمَّكْ مَزِيدي” تطابق بحر الرمل دون أي تغيير في حركات المفردات .
ونَخلُص إلى أننا ندُل على الوزن في الشعر العامي من خلال ما يقاربه في الفصيح ولا يطابقه بشكل تام، وفي معظم الشعر العامي، المعوَّل عليه في عملية الوزن هو أسلوب أداء الشاعر.

شيخ-عشيرة-مع-سيفه-وهو-رمز-المكانة-الاجتماعية
شيخ-عشيرة-مع-سيفه-وهو-رمز-المكانة-الاجتماعية
مجلس-سلطان-بااشا--في-منفاه-في-الأزرق
مجلس-سلطان-بااشا–في-منفاه-في-الأزرق

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة
هذه الصفحات عبارة عن ملامح أساسية في الشعر البدوي الخاص بجبل العرب ولا نقول هي دراسة شاملة ولكنها وافية إلى حدٍّ ما بالنسبة للمادة المطروحة وسنخصص باباً للأوزان والمواضيع وما آل إليه الشعر العامي (البدوي) في الجبل من خلال الشعراء المعاصرين الذين واكبوا حركة تطوّر الشعر النبطي إلى حدٍّ ما كما سنوضّح الدور الذي لعبه الشعر العامي في السلم والحرب وأيضاً دوره في توثيق الأحداث التاريخية المهمة في جبل العرب.

هارون الرشيد والعصر الذهبي للخلافة العباسية

الخليفة هارون الرشيد

والعصر الذهبي للدولة العبّاسية

أنشأ إمبراطورية إسلامية كانت الأغنى في العالم
وأطلق أكبر نهضة عمرانية وحضارية في التاريخ

كان يصب الماء بنفسه على أيدي العلماء بعد الطعام.
توقيراً منه للدين وتقديراَ لأهل العلم والفقهاء

خطط الرشيد جديا لشق قناة السويس ثم أحجم
خشية أن يسهِّل ذلك دخول الروم الأماكن المقدسة

ينظر العديد من المؤرخين إلى عهد الخليفة هارون الرشيد باعتباره يمثل العصر الذهبي للدولة العباسية وللدولة الإسلامية التي قامت في أعقاب الفتوحات الإسلامية الأولى. بل أحد الكتاب المسلمين رفعه إلى مكانة لا يشاركه بها أحد عندما قال أنه “لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد”
ففي عهد هذا الخليفة الفاتح والمستنير أصبحت الدولة العباسية أكبر الممالك وأغناها على وجه البسيطة كما أصبحت مركز تقاطع الحضارات كلها من أسيوية وفارسية وبيزنطية ويونانية ومصرية، وأصبحت بغداد أكبر وأشهر مدن العالم كما أصبحت في الوقت نفسه أهم مركز للثقافة والعلوم والفنون في العالم.
وشهد عهد هارون الرشيد نهضة شاملة لكل نواحي الحياة بسبب تدفق الأموال إلى خزانة الدولة من أطرافها فعمّ الرخاء والازدهار وتقدمت العلوم والفنون وأنشئت “دار الحكمة” ونشطت حركة النقل والترجمة من الحضارات المختلفة وحصلت نهضة معمارية وحضارية غير مسبوقة فبنيت المساجد والدور والقصور وحفرت الترع والممرات المائية واتسعت رقعة بغداد وبلغ فيها الرخاء وطيب العيش مستويات كانت تدهش الزائرين للمدينة وخصوصا الوفود الأجنبية التي كانت تفد لزيارة الخليفة وعقد الصلات والمعاهدات مع الدولة الإسلامية وقيل أن نحوا من ألف حمام عام كانت تعمل في بغداد في أوج العصر الأول للدولة العباسية.
لكن رغم تلك الانجازات الهائلة فقد كان على الخليفة الرشيد أن يتصدى لقلاقل وفتن كثيرة قامت في وجهه نتيجة لملابسات نشأة الدولة العباسية والتمازج العرقي الواسع الذي قامت عليه وازدهار التشيّع وصحوة العنصر الفارسي والمرارة التي عبر عنها نتيجة للهيمنة السياسية للعنصر العربي، وهذا فضلا عن تعدد المذاهب والتيارات كالمعتزلة الذين أيد الخليفة المأمون (وهو ابن هارون الرشيد) مذهبهم، كل ذلك في دولة أصبحت شاسعة الأطراف ويبعد مركزها كثيرا عن الإمارات والولايات التابعة لها.
لكن رغم كل هذه الظروف فإن الخليفة هارون الرشيد تمكن من قمع الفتن وتوطيد سلطة الدولة الإسلامية وبناء جهاز إداري فعال وجيش كان الأقوى في زمنه والملفت أن انشغال الرشيد بالحروب ضد المتمردين وضد الدولة البيزنطية لم يشغله عن المهمة الأكبر وهي الإشراف على إحدى أكبر حركات العمران والثقافة والنهضة في التاريخ الإسلامي.
فمن هو الخليفة هارون الرشيد وما هي السمات الأهم لعهده والإرث الحضاري الذي تركه للأجيال التالية؟.

لوحة-زيتية-تمثل-استقبال-الرّشيد-لسفارة-الإمبراطور-شارلمان
لوحة-زيتية-تمثل-استقبال-الرّشيد-لسفارة-الإمبراطور-شارلمان

نسبه ونشأته
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان في سنة 148 هـ تولى الخلافة سنة 170 هـ (786 م) وكان عمره آنذاك 22 سنة. وحكم حتى وفاته في العام 194 هـ (809م) ولم يكن عمره قد تجاوز الـ 45 عاما.
كان في سن يافعة عندما ألقى به والده في ميادين الجهاد يرسله في الغزوات على الروم محاطا بقادة أكفاء يتعلم من تجاربهم وخبرتهم، ومن ذلك أنه خرج في عام 165 هـ (781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد مجللاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعِدّ لتولي المناصب القيادية في دولة الخلافة، وعهد به أبوه المهدي بن أبي جعفر المنصور إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وكان من بين أساتذته الكسائي إمام الكوفيين في اللغة والنحو والمُفضل الضَبِّي وكان لُغَوِيّـًا، وعلّامة وراوية للأخبار وأيام العرب.
أحاط الرّشيد نفسه منذ سن مبكرة بأهل الرأي والمشورة السديدة في أمور الحكم والحرب من أمثال يحيى بن خالد البرمكي والربيع بن يونس و يزيد بن أسيد السلمي، وغيرهم وكانت هذه الكوكبة من الأعلام أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، فنهضوا معه بالدولة حتى بلغت ما بلغته من التألق والازدهار.

الخليفة العابد
على العكس من صورة الخليفة الماجن التي راجت عنه فإن الخليفة الرشيد كان قائدا شجاعا وعابدا ذا عقل راجح ملتزما بأحكام الشريعة موقرا للعلماء معظما لحرمات الدين مبغضا للجدال والكلام، يكفي القول أنه كان منشغلا معظم وقته في الدفاع عن الدولة وإخماد الفتن وفي الحج إلى بيت الله الحرام وكان يقول عن نفسه أنه يحج عاما ويغزو عاما واعتمر في وقت قلنسوة نقش عليها “ غازِ وحاجّ”.
وتعود الصورة الملفقة عن الخليفة الرشيد إلى كتاب ألف ليلة وليلة الذي جمعت حكاياته من التراث الفارسي ومن غيره بعد مئات السنين من العهد العباسي وجُعِلت شخصيّة هارون الرشيد وما يدور في بلاطه محورا من محاور الحكايات الخيالية ربما بتأثير العداء للعرب (الذي انتشر في العهود المتأخرة للخلافة العباسية) وبقصد إظهار الخليفة العربي بمظهر الجاهل المستهتر الذي لا يستحق أن يُولّى أمور الحكم.
الرشيد كما يراه المؤرخون
قال السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: “وكان أمير الخلفاء وأجل ملوك الدنيا وكان كثير الغزو والحج”
وقال الذهبي في ترجمته للرشيد ضمن كتابه “سير أعلام النبلاء” : وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة، وكان أبيض طويلاً جميلاً وسيما إلى السمن ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ويتصدق بألف وكان يبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لاسيما إذا وُعِظ وكان يحب المديح ويجزل للشعراء وكان يقول الشعر.
قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي ورويت له حديثه “وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيَى ثم أقتل” فبكى حتى انتحب.

تولّيه الخلافة
بويع الرشيد بالخلافة في سبتمبر 786م بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وكانت الدولة العباسية حينها مترامية الأطراف تمتد من وسط آسيا حتى المحيط الأطلنطي وكانت تضم شعوبا كثيرة مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، وكانت لذلك معرضة لظهور الفتن والثورات وتحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة تفرض بسلطانها وحنكتها الأمن والسلام، وتنهض بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لتلك المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور فوق الرقعة الشاسعة للإمبراطورية الإسلامية أمرا مجهداً، لكن ساعَدَه على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، وما يلفت في هارون الرشيد أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وحولها إلى مثال باهر في العالم بمجدها وقوتها وإنجازها الحضاري.

“خاض الرشيد حروبا متواصلة ضد الروم حتى أخضعهم وفرض عليهم الجزية ونقل عاصمته من بغداد إلى الرقة القريبة من حدود الدولة البيزنطية”

إمبراطور-الفنرنجة-شارلمان-تقرب-من-الخليفة-الرشيد-وتبادل-معه-الهدايا
إمبراطور-الفنرنجة-شارلمان-تقرب-من-الخليفة-الرشيد-وتبادل-معه-الهدايا

الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان

كان شارلمان قد سيطر على معظم بلاد الفرنجة مما دفع بالبابا في روما إلى استرضائه عبر تتويجه إمبراطورا وقد بات يملك أغلب أجزاء أوروبا الغربية. وكان شارلمان منافسا قويا للدولة البيزنطية ومهتما بإضعافها وإبعاد خطرها عن مملكته ومستعمراته، فقرر لذلك مصادقة هارون الرشيد الذي كان أيضا عدوٌّ للبيزنطيين. وقد رحّب الخليفة الرشيد التفاهم مع شارلمان وأعاد السفارة التي أرسلها إليه في بغداد محملة بهدايا لم يشهد الأوروبيين مثيلا لها من بينها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، كما بعث إليه بمفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس تأكيداً لترحيبه بالحجاج المسيحيين . لكن أبرز الهدايا كانت ساعة تعمل بالماء ورد في سجلات ديوان شارلمان أنها كانت ضخمة وتعمل بطريق مذهلة، إذ عند تمام كل ساعة كان يسقط منها كرات معدنيه على عدد توقيت الساعة وكانت تلك الكرات تسقط بعضها في أثر بعض فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فتعطي رنيناً موسيقياً كالأجراس يسمع دويه في أنحاء القصر..وفي نفس الوقت يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منها فارس نحاسي يدور حول الساعة ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسا مرة واحدة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، وقد دهش شارلمان وحاشيته لهذه الساعة واعتبروها من أعمال السحر. وتؤكد مراجع تاريخية إن العرب وصلوا في تطوير هذا النوع من آلات قياس الزمن (الساعة) لدرجة أن الخليفة المأمون أهدى إلى ملك فرنسا ساعة أكثر تطورا تدار بالقوة الميكانيكية بواسطة أثقال حديدية معلقة في سلاسل وذلك بدلا من القوة المائية. وهذا دليل واضح على مدى التقدم والتقني للعرب في تلك الحقبة الذهبية والتأخر الشديد لأوروبا في المقابل.

البدء-في-بناء-بغداد-
البدء-في-بناء-بغداد-

استقرار وثراء وعدل
بلغت الدولة الإسلامية في عهد الرشيد ذروة اتساعها وثرائها حتى قيل إن هارون الرشيد نظر يوما إلى سحابة مارة فقال: “اذهبي وأمطري أنى شئت فإن خراجك عائد لي” وكانت أموال الدولة تُحصّل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي أبو يوسف وهو تلميذ القاضي والمجتهد الأكبر أبي حنيفة النعمان نظامًا شاملاً للخراج يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه “الخراج” وقد تم وضع نظام الخراج استجابة لطلب الخليفة الرشيد الذي كان حريصا على تنظيمه بصورة قانونية تخفف عن الرعية وتدرأ المظالم في جباية المكوس.
وكان للفائض المالي الذي تحققه الدولة العباسية أثر كبير في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية. وأُنفقت الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع وتحويل الأنهر، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مجموعة مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق تأتيها البضائع والقوافل من كل مكان.
وروى السيوطي والذهبي أن هارون الرشيد فكّر في شق قناة السويس قبل أكثر من 12 قرنا من زماننا، لكنه أحجم عن تنفيذ مشروعه خشية أن يسهل شق القناة وصول جيوش الروم إلى البحر الأحمر والحجاز وتهديد تلك الجيوش الأماكن المقدسة وقيل أن وزيره المقرّب يحيى البرمكي لفته إلى ذلك المحذور بالقول “إن الروم سيختطفون الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز”، فصرف النظر عن الفكرة.
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رُسُلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة “شارلمان” ملك الفرنجة في سنة 183هـ (779م) من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين. (راجع : الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان)..

اتخاذه الرقة عاصمة لملكه
بالرغم من اهتمام الرشيد بالنهضة والعلم، إلا أنه كان لخلافته بعد آخر عامر بالغزوات والتنظيم الحربي، إذ قام بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية (وأطلق عليها “العواصم”) لتكون خط الدفاع الثاني عن الثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه المعتصم.

العدد 17