الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الانقلاب القطبي

حَصلَ آخرَ مرّة قبل 780,000 سنة

قُطبا الأرض سيتبادلان موقِعَيْهما والنتيجةُ مُخيفة للحضارة البشريّة

القطـــبان يبتعدان بسرعة عن مكانهما المُعتاد
والخوف الأكبر هو زوال الغلاف المغناطيسيّ للأرض

زوال «الدّرع المغناطيسيّ» جَرَّاء الإنقلاب القطبي
قد يبيد الحضارة ويعود بالبشر إلى العصر الحجريّ

{يوم تُبدّلُ الأرضُ غير الأرضِ}
(إبراهيم: 48)

كتب المحرّر العلمي
كأنّ المخاطر المتزايدة للتغيّر المناخي وذوبان الغطاء الجليدي للمناطق القطبيّة وارتفاع منسوب المحيطات والبحور وغير ذلك من الكوارث المناخية ليس كافيا،ً فقد برز للعالم في الفترة الأخيرة موضوع جديد…
إذ تركّز إهتمام العالم وعلماء الفضاء والمناخ فجأة على موضوع لم يخطر في بال أحد وهو اتّجاه القطبين الشمالي والجنوبي لتبادل موقعيهما بحيث ينتقل القطب الشمالي إلى طرف الكرة الجنوبي وينتقل القطب الجنوبي إلى ما يسمى الآن القطب الشّمالي. علميّاً هذا التبادل بين القطبين لموقع كلّ منهما ليس جديّاً على الكرة الأرضية، إذ هو حصل مئات المرات منذ تكوّن الأرض قبل ما يزيد على ثلاثة مليارات سنة ويقدّر العلماء، بناء على دراسات الخصائص المغناطيسية للتّرسبات الجيولوجية ولفلزات البراكين أنّ ما يمكن تسميته الانقلاب القطبي Pole shift يحصل كل 200,000 إلى 300,000 عام، علماً أنّ آخر انقلاب لموقعي القطبين حدث قبل نحو 780,000 عام وهي مدّة أطول من المعتاد. فما الذي يعنيه تبادل القطبين لموقعيهما على الكرة؟ كيف ومتى سيتمّ ذلك؟ وما هي النّتائج المتوقعة على الحضارة البشرية والحياة على وجه الأرض نتيجة لهذا الحدث العظيم بكل مقياس؟

لماذا انشغل العالم فجأةً بموضوع الإنقلاب القطبيّ؟
لأنّ الدلائل تتزايد على أنّ انقلاباً قطبيّاً يمكن أن يحدث للأرض في وقت قريب وربّما في حياتنا كأفراد، وأهمّ الدلائل على اتّجاه الأرض نحو حدث من هذا النّوع هو أن القطبين الشّماليّ والجنوبيّ بدآ يبدّلان موقعيهما: الشّماليّ يتجه تدريجيّاً نحو الجنوب والجنوبيّ باتّجاه الشمال والأهمّ من ذلك هو تزايد سرعة إنزلاق القطبين عن مكانهما بصورة مُلفتة، فقد سجّل العلماء في أواخر القرن التّاسع عشر انزلاق القطب الشّماليّ نحو الشّرق والجنوب بمسافة لم تكن تزيد على سنتمترات معدودة في السّنة، ثم ازدادت سرعة إنزلاق القطب الشّمالي بحيث بات العلماء يقدّرون أنّه يبتعدُ عن مكانه الأصليّ بمعدّل 40 كلم في السّنة (في مقابل 15 كلم في السّنة في مطلع القرن العشرين).
ونتيجة لتلك الظّاهرة، فإن القطب المغناطيسيّ الشّماليّ إبتعد عن محوره الجغرافيّ التّاريخيّ أكثر من 920 كلم حتى الآن وهو يتّجه شرقاُ وجنوباً نحو سيبيريا في روسيا.
بالطّبع هذه المعلومة ستفاجئ الكثيرين لكنّها صحيحة، فالقطب الشماليّ الفعليّ لم يعد في مكانه وقد بلغ حجم التّغيير في الحقل المغناطيسيّ وموقع القطبين أن اضطُرّت أكثرُ مطارات العالم لتغيير الإحداثيّات والتّعليمات المتعلّقة بعمليّات الهبوط والإقلاع لأنّها لم تعد صحيحة بالنّسبة إلى حركة الطّائرات.

متى سيحصل التّبادل القطبيّ؟
العلماء متّفقون ووكالة الفضاء الأميركيّة (ناسا) يؤكّدون جميعاً أنّ الأرض دخلت في مسار الإنقلاب القطبيّ منذ عقود لأن المؤشّرات على ذلك تتزايد كلّ يوم، لكن متى سيحصل هذا الإنقلاب فهذا ما لم يستطع العلماء الجواب عليه بالتّحديد، لأنّ التّبادل القطبيّ يحصل في البدء بصورة تدريجيّة لكن عند نقطة معيّنة يبدّل كلٌّ من القطبين الشّماليّ والجنوبيّ موقعيهما فجأة، وعندها يكون التّبادل القطبيّ قد أصبح ناجزاً فينقلب القطب الشّماليّ إلى القطب الجنوبيّ والعكس بالعكس.
بعض التوقّعات تشير إلى أنّ هذا الأمر قد يتمّ في غضون المئة سنة المقبلة، بينما يعتقد علماء آخرون أنّ التّبادل القطبيّ قد يفاجئنا وأنّه أصبح أقرب إلينا من أيِّ وقت سبق ممّا يعني أنّه قد يحدث في حياة هذا الجيل ويشهد عليه أهل الزّمان أنفسهم.

” لا توجد معلوماتٌ أو آثارٌ مؤكّدةٌ يمكن أن تنبئنا بالذي حدث للأرض وللحياة قبل 780,000 عام وما الذي يمكن أن يحدث قريباً، لكن الجميع خائفون  “

تآكلُ الغلافِ المغناطيسيِّ
بناءً على الأبحاث والبيانات العلميّة المُجَمّعة بواسطة نظام أقمار وكالة الفضاء الأوروبية المسمّى Swarm، فإنّ الغلاف المغناطيسيّ للأرض دخل مرحلة من الضّعف المتسارع، ومن بين الأدلّة على ذلك، الطيور التي تفقد حسّ الإتجاه في هِجرتها وتغيّر اتجاهها فجأة في السماء أو تموت بالألوف نتيجة فقدها لخطّها الملاحيّ، أو تزايد عدد النّيازك التي تتساقط على الأرض، أو موت بعض الدلافين بسبب ما يبدو أنّه نتيجة لإضاعة الاتّجاه.. وأبرز ما في نتائج أبحاث الوكالة الأوروبية أنّها وجدت نقاط ضَعف كبيرة في الحقل المغناطيسيّ للأرض خصوصاً فوق الجانب الغربيّ للكرة في الوقت الذي زادت قوة الحقل المغناطيسيّ فوق مناطق مثل جنوب المحيط الهندي. وأحد التّفسيرات التي أعطيت لهذه الظّاهرة هي أنّ القطبين الشماليّ والجنوبيّ يقتربان من لحظة تبادل المواقع أو ما يمكن تسميته “الإنقلاب القطبيّ” ونتيجة لذلك، فإنّ البوصلة التي كانت إبرتها تشير إلى الشّمال ستشير بعد ذلك إلى الجنوب، كما أظهرت أبحاث وكالة الفضاء الأوروبيّة أنّ تراجعَ كثافة وفعاليّة الغلاف المغناطيسيّ للأرض (نتيجة للإنزلاق القطبيّ الحاليّ) أصبح الآن أسرع بعشَرَة أضعاف ممّا كان الحال عليه في مطلع القرن.
من جهة ثانية، أعلن عالمان من جامعة كاليفورنيا هما غاري غلاتسمايراند وبول روبرتس أنّهما توصّلا إلى الاستنتاج بأنّ التّبادل القطبيّ سيحصل في حياتنا أي قبل مضيّ وقت طويل بينما حذّر عالم سابق في وكالة الفضاء الأميركيّة في مقابلة خاصّة نُشرت على اليوتيوب من أنّ الانقلاب القطبيّ أصبح وشيكاً وأنّه سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة على الكرة الأرضيّة.

القطبان الشمالي والجنوبي يتهيّئان لتبادل مواقعهما
القطبان الشمالي والجنوبي يتهيّئان لتبادل مواقعهما

سيناريوهاتُ الكارثةِ!
إنّ حادثاً طبيعيّاً هائلاً بحجم انقلاب القطبين لا بدّ وأن يترك المجال واسعاً للتكهّنات بنتائجه، وهناك تباين واسع في الآراء بين من يقلّل من خطورته وبين من يعتبره مقدّمة لنهاية الحضارة الإنسانيّة. لكن نظراً إلى أنّ آخر انقلاب في القطبين المغناطيسيّين للكرة الأرضيّة حصل قبل 780,000 عام فإنّه لا توجد حقيقة أيّة معلومات أو آثار مؤكّدة يمكن أن تقول لنا ما الذي حدث وما الذي يمكن أن يحدث عند حصول الانقلاب القطبيّ القادم. ومن الواضح أنّ آخر انقلاب قطبيّ حدث ربما قبل ظهور البشر كما نعرف وحتماً قبل وجود المجتمع البشريّ، كما بدأنا نعرفه منذ ستة أو سبعة آلاف عام وهذا زمن “قصير” جدّاً بالنّسبة إلى حياة الأرض (أكثر من ثلاثة مليارات عام) وبالنّسبة إلى آخر انقلاب قطبيٍّ حصل عليها. وأيّة آثار قد تكون رافقت آخر انقلاب قطبيٍّ لم تصادف مجتمعات بشريّة وحضارات متطّورة كما هي حالنا اليوم، لذلك فإنّ تلك النتائج لا بدّ كانت محدودة بسبب حياة الإنسان الأوّل البدائيّة جدّاً على الأرض، أمّا الآن وبسبب التطوّر الهائل في الحضارة البشريّة والتّزايد السكّاني وقيام المدن الهائلة والاعتماد الشبه التّام للحياة الأرضية على الأقمار الصّناعية وشبكات الكهرباء والاتّصالات فإنّ الانقلاب القطبيّ المقبل يعتبر حادثاً خطيراً وغير مسبوق وهو بالتالي سيفسح في المجال لكافة التّكهّنات والنّظريات.
وكالة الفضاء الأميركيّة (ناسا) حرصت في بيان مفصّل على موقعها الشّبكيّ على تهدئة المخاوف من الآثار المحتملة للتّبادل القطبيّ، وقد استندت إلى ما أسمته تحليل الطّبقات الرّسوبيّة وفلزات البراكين القديمة الهامدة تحتَ البحر للقول بأنّ تلك الأبحاث لم تقدّم أدلّة على أنّ الانقلاب القطبيّ ترافق مع أحداث كارثيّة للحياة على وجه الأرض. لكن في المقابل حذّر علماء آخرون ومواقع علميّة من أنّ الانقلاب القطبيّ سينعكس بنتائج بعيدة على الحياة الأرضيّة نتيجة لجملة من الأحداث التي سترافقه على شكل زلازل غير مسبوقة في قوّتها وموجات تسونامي هائلة تغرق إلى الأبد قسماً كبيراً من اليابسة في أنحاء كثيرة من العالم تقع أراضيها على مستوى محاذ أو غير مرتفع عن سطح البحر. وهناك من يذهب إلى أبعد فيعتبرُ أنّ الانقلاب القطبيّ المقبل سيؤدي إلى نهاية معظم أشكال الحياة على سطح البسيطة.

الدّرع المغناطيسي
لكن بينما تتضارب التّنبّؤات حول الظواهر الكارثيّة التي سترافق الانقلاب القطبيّ فإنّ هناك على الأقلّ أمراً أساسيّاً يتّفق العلماء عليه وإنْ بنسب متفاوتة، وهو أنّ الانقلاب القطبيّ سيتسبب في ضعف شديد للغلاف المغناطيسيّ الذي يحيط بالأرض وهذا الغلاف الذي يسمّى أحياناً “الدّرع المغناطيسيّ” للأرض (أو “حزام فان بلت” ) هو الذي يحمي الحياة على وجهها من الأشعّة القاتلة التي تندفع باتجاه الأرض نتيجة للإنفجارات الشّمسية التي تحدث على سطحها الملتهب بإستمرار.
حتى وكالة (ناسا) مثلاً التي طمأنت إلى أنّ الانقلاب القطبيّ لن ينعكس بكارثة على الإنسانيّة اعترفت في البيان نفسه الذي نشرته على موقعها عبر الإنترنت بأنّ انزلاق القطبين عن موقعيهما الجغرافيّين المعتادَين سيترافق بضعفٍ “ملموس” في الغلاف المغناطيسيّ للأرض، لكنّ الملفت هو أنّ الوكالة التزمت الغموضَ حول النتائج المتوقّعة على الحياة جرّاء ضعف الغلاف الجويّ الحامي للأرض وما يعيش عليها من كائنات حيّة أو نباتات، علماً أنّ هذه النتائج تدخل ضمن الأمور المتّفق عليها بين العلماء وهي في حدّ ذاتها تحمل مخاطر وجوديّة على الحياة البشريّة بل على الحياة الأرضيّة في الإجمال.

كيف يحمي الغلاف المغناطيسي الأرض من الأشعة القاتلة للانفجارات الشمسية
كيف يحمي الغلاف المغناطيسي الأرض من الأشعة القاتلة للانفجارات الشمسية

7 حقائق حول الانقلاب القطبي

1. القطب الجنوبيّ إبتعد عن موقعه الأصليّ في المحيط المتجمّد الجنوبيّ بينما ينزلق القطب الشماليّ بدوره بعيداً عن موقعه عبر المحيط المتجمّد الشماليّ
2. القطبان المغناطيسيّان للأرض (الشّمالي والجنوبيّ) في طريقهما لتبادل موقعيهما على الكرة، بحيث ينتقل القطب الشماليّ إلى مكان القطب الجنوبيّ وينتقل القطب الجنوبيّ إلى القطب الشماليّ، وذلك حسب البيانات المجمّعة من نظام الأقمار الصّناعية الثّلاث لوكالة الفضاء الأوروبيّة المسمّى SWARM
3. الغلاف المغناطيسيّ للأرض بدأ يضعف في القرن السابع عشر وهو ضعف بنسبة 10% عن كثافته الأصليّة ما بين العامين 1800 و2000.
4. تآكُل الغلاف المغناطيسيّ أصبح يتسارع بقوّة، إذ بينما كان هذا الغلاف يضعف بنسبة 5% كل 100 سنة فإنه أصبح الآن يضعف بنسبة 5% كل عشر سنوات أي إنّ سرعة تآكُل الغلاف المغناطيسيّ للأرض زادت عشر مرات منذ العام 2000 وإذا استمرّت هذه الوتيرة (وربّما تتسارع أكثر مع اقتراب لحظة تبادل المواقع بين القطبين) فإنّه لن يبقى الكثير من الغلاف المغناطيسي للأرض في غضون عقود من الآن.
5. بالفعل ابتداءً من العام 2014 بدأ الغلاف المغناطيسيّ للأرض يضعف بسرعة.
6. يقدّر العلماء أنّ الانقلاب القطبيّ سيحصل في حياتنا أو في غضون عقود لاحقة لكن هذا الوقت عند قياسه بعمر الأرض فإنّه يعني أنّ الحدث أصبح وشيكاً.
7. الانقلابُ القطبيّ قد يؤدي في حال ترافق مع عواصف شمسيّة إلى فناء نسبة كبيرة من الكائنات الحيّة والنباتات وإلى زوال الحضارة كما نعرفها اليوم.

هذه الأرض ليست ملاذا !

الموضوع حول احتمالات تبديل القطبين الشمالي والجنوبي لموقعيهما يجب اعتباره دليلاً آخر من الأدلة المتزايدة على هشاشة موقع الإنسان على هذه الكرة وخطأ النظر للأرض كثابت كوني وإلى الحياة عليها كأمر مغرق في القدم ومهيّأ للإستمرار لآلاف السنين القادمة. وقد أصبحت هذه النظرة “العلمية” أساس الثقة الواهمة التي تغذي المعتقدات المادية والإلحادية التي تعتبر الإنسان مركز الكون وتحلم بمستقبل تعتقد أن البشر يمتلكونه بأيديهم بفضل العلوم والتقنية والإبداع البشري.
المفارقة هي أننا بفضل المعارف المعاصرة بتنا نعلم أن هذه النظرة هي مجرد غرور واهم كما إننا وبفضل ما أصبح بين يدينا من معلومات عن الأزمة الخطيرة التي يعيشها كوكب الأرض بتنا مدركين أن وجودنا عليه محفوف بمخاطر كثيرة،كما إننا عندما نقيس عمر البشر على الأرض بمقياس الزمن الفلكي نجد أن عمر الإنسانية هو فعلاً مجرد “برهة” بالنسبة لعمر الأرض. ولقد تعرض كوكبنا إلى عشرات الأحداث الكبرى التي بدّلت وجه الكرة أكثر من مرة، وآخر هذه الأحداث الكونية مثلا العصر الجليدي الذي استمر ملايين السنين وانحسر عملياً قبل 10 آلاف سنة فقط مما يعني أن المجتمع البشري يبدو طفلاً بمقياس حياة الأرض التي تقدّر بمليارات السنين. وها هو خطر الانقلاب القطبي الذي يحدث لأول مرة منذ 780,000 عام مع ما قد ينجم عنه يقدّم الدليل على أن وجود البشرية على هذه الأرض تمّ لحكمة ربانية وأنه قد يتغير أيضاً لحكمة ربانية
}وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا { (الأحزاب: 63)

الخطرُ الحقيقيُّ
هذه الآثار المتوقّعة على صحّة البشر جرّاء ضعف الغلاف المغناطيسيّ للأرض تحدّث عنها جانيس ل. هاف العالم في برنامج الإشعاع الفضائيّ في وكالة ناسا بالقول إنّ عمليّة تبادل القطبين الشّماليّ والجنوبيّ لموقعيهما ستترافق مؤكّداً مع انكماش كبير في الغلاف المغناطيسيّ المحيط بالأرض، وبالنّظر لأنّ العمليّة قد تأخذ وقتاً فإنّ الانكماشَ أو حدوث فجوات كبيرة في الغلاف المغناطيسيّ سيجعل الأرض عمليّاً بلا حماية من الإشعاعات الشّمسيّة أو مقذوفات لهب الهالة الشّمسيّة Coronal Mass Ejections التي تنجم عن الانفجارات المستمرّة على سطح الشمس، وهذه الانفجارات تُنْتِج أيضاً ما يسمّى بالرّياح الشّمسيّة وموجات الطّاقة التي تصيب جوّ الأرض وسيكون لها (من دون حماية الدّرع المغناطيسيّ) تأثير كبير على الكائنات الحيّة التي ستكون مكشوفة للآثار القاتلة للإشعاعات الشّمسيّة وهذه الطاقة الهائلة تتفاعل مع جوّ الأرض وكذلك مع قشرتها. لهذا السّبب، وحسب العالم الأميركيّ فإنّنا سنشهد مع اقتراب الانقلاب القطبيّ مزيداً من العواصف والتقلّبات المناخيّة والزلازل والتسونامي وانفجار البراكين التي قد تكون خامدة منذ زمن.

” وكالةُ الفضاء الأميركيّة تهدّئ الخواطر :
لا أدلّةَ على أنّ الانقلابَ القطبيَّ سينعكس بنتائج كارثيّة لكنّه سيضعف الغلافَ المغناطيســــيَّ الحامـــــي للأرض  “

جيمس فان ألن يشرح نظريته حول الغلاف المغناطيسي للأرض والذي سمي باسمه
جيمس فان ألن يشرح نظريته حول الغلاف المغناطيسي للأرض والذي سمي باسمه

لكنْ ما هي الآثار التي يُخشى منها أكثر من غيرها على الإنسان؟
يجيب العالم “جانيس هاف” إنّ تعرّض الكائنات الحيّة ولاسيّما الإنسان لهذا المزيج من الإشعاعات الشّمسية دون حماية من الغلاف المغناطيسيّ أمر غير مسبوق في الذّاكرة البشريّة، لكن بالإستناد إلى الأبحاث العديدة المتوافرة، فإنّ أحد الأخطار الكبرى هو ما سيصيب جسم الإنسان ودماغه من ضرر فادح نتيجة اختراقه من تلك الإشعاعات. ومن هذه المخاطر مثلاً احتمال فقد الذاكرة لأنّ دماغنا يعمل على الطّاقة الكهربائيّة وكذلك دم الإنسان يعمل على الأيونات الكهربائيّة الموجودة في الدّم. والضّرر المتوقّع هنا لا يقتصر على التّأثير الخطير للأشعّة ما فوق البنفسجية UVA لأنّ اندفاعات اللّهب الشّمسيّ CMEs تُنتِج أيضا أشعّة إكس X rays وأشعة المايكروويف Microwave وموجات الراديو التي تنبعث عند الانفجارات الشّمسيّة من سطح الشّمس.
كلّ هذه الأشعّة المدمّرة ستجد فضاءنا مفتوحاً بالكامل لدخولها جوّ الأرض عندما يتلاشى الغلاف المغناطيسيّ الحامي للكرة التي نعيش عليها. وحتى قبل حدوث الانقلاب القطبيّ (المتوقع) فإنّ صحّة الإنسان تتأثّر بصورة ملحوظة بالتحوّلات الجارية في جوّ الأرض بسبب ما يجري على سطح كوكب الشمس. فقبل أعوام ضربت الأرض موجة رياح شمسيّة صغيرة نتيجة انفجارات على سطح الشمس؛ وعلى الأثر قامت الحكومة الأميركيّة بالتعاون مع وكالة الفضاء الأميركيّة وعدد من المؤسسات العلميّة بتقييم الأثر المحتمل لتلك العاصفة الشمسيّة على المسافرين بالطّائرة الذين تعرضوا بسببها إلى أشعة اللّهب الشمسيّ الخفيفة في الطبقات العليا للجوّ، وتوصّل الباحثون إلى أنّ ما بين 4 و6 من ركاب الطائرات الذين كانوا في الجوّ في تلك اللّحظة زاد احتمال إصابتهم بسرطانات قاتلة خلال السّنوات الأربع التّالية لوجودهم في الطائرة على ارتفاع شاهق.
وحسب العالم “هاف” فإنّه لو كانت العاصفة الشّمسيّة أقوى من ذلك فإن ركّاب الطائرات الذين سيتعرضون لخطر الإصابة بالسّرطانات في تلك اللّحظة سيكون بالمئات وربما بالألوف، وبصورة عامة، فإنّ جميع المسافرين بالطّائرات على ارتفاعات شاهقة سيكونون في خطر وكذلك ركّاب المحطّات الفضائيّة، وفي حال التعرّض لعواصف شمسيّة قويّة فإن انعدام الحماية الكافية من الغلاف المغناطيسيّ للأرض سيضع جميع سكّان الأرض في

دائرة الخطر وخصوصاً سكّان المرتفعات العالية.
ويشير العالم هاف إلى أنّ الاحتمال المخيف هو أن ينزلق القطب الشماليّ جنوباً في اتجاه البرازيل بينما ينزلق القطب الجنوبي شمالاً باتجاه أندونيسيا على الجهة المقابلة لكن دون أن يعود القطبان إلى حيث كانا فإنّ الأرض ستكون عمليّاً ولسنوات طويلة من دون درع مغناطيسيّ على الإطلاق، مما سيجعلها هدفاً يوميّاً للإشعاعات الشمسيّة القاتلة التي تنبعث بإستمرار من الشّمس لكن يتم حرفها والتصدّي لها من قبل الغلاف المغناطيسيّ الذي يحيط بالأرض مثل “فقاعة هائلة” وهو يمثل بالتالي حاضنة الحماية التي يوفّرها الله تعالى للأرض وللحياة البشرية منذ فجر التّاريخ المعروف.
لكنّ الخطر الأكثر فداحة، والذي لم يحصل أبداً للبشر أن تعرضوا له في السابق، حسب جانيس هاف، هو الموجات القاتلة المسمّاة النبض الإلكترومغناطيسي Electromagnetic Pulse وأي موجه منها تفوق في قوّتها ما يمكن أن تنتجه القنابل النّووية، وعلى سبيل المثال، فإنّ أيَّ انفجار على سطح الشّمس يفوق في حجمه عادة حجم الأرض ويمكن أن ينتج بسبب حجمه الهائل “شموسا” مصغَّرة داخله. رغم ذلك فإنه وبوجود الدّرع المغناطيسيّ فإنّ هذه الموجات تقوم الأرض بحرفها عن مسارها ومنعها من دخول أجوائها، لكن في حال أدّى الانقلاب القطبيّ إلى ضَعف شديد في هذا الغلاف الحيويّ فإنّ عاصفة شمسيّة من هذا النّوع يمكنها وحدها أن تقضي على الحضارة الإنسانيّة وتعود بالبشر -أو ما يتبقّى منهم فعلاً- إلى العصر الحجريّ.

الأرض بحجمها الحقيقي بالنسبة للشمس هدف جاهز للعواصف الشمسية التي سيطلقها الانقلاب القطبي
الأرض بحجمها الحقيقي بالنسبة للشمس هدف جاهز للعواصف الشمسية التي سيطلقها الانقلاب القطبي

العاصفةُ الشمسيّةُ هي المسألة
لا أحدَ يعرف الكثير عمّا سيحصل في حال الانقلاب القطبيّ، والكثير مما يقال عن النتائج الكارثيّة لسيناريو نهاية العالم لا يستند إلى سوابق موثّقة، فالموضوع وهو بمجمله “تكهّنات علميّة” وليس علماً، لكن مع ذلك، فإن الانكشاف المحتمل للأرض للعواصف الشّمسيّة نتيجة تآكل الغلاف المغناطيسيّ الذي يحمينا هو المسألة الحقيقيّة التي قد تجعل من الانقلاب القطبيّ كارثة على البشريّة وهذه العواصف الشّمسيّة ليست في حاجة إلى تبدّل موقع القطبين الشّماليّ لأنّ مجرّد حدوث عاصفة شمسيّة قويّة (من عيار X20 مثلاً) أو أكثر كفيل بتدمير البنية التّحتيّة للكهرباء وأنظمة الأقمار الصّناعيّة والاتّصالات ومعها عمل الأسواق الماليّة والحكومات والجيوش والطّيران والملاحة وعمليّاً كافّة وجوه الحياة المعاصرة. ويتّفق العلماء على أنّه لو أُصيبت الأرض بعاصفة شمسيّة بقوة “عاصفة كارنغتون” التي حصلت في العام 1859 فإنّها ستدمّر أسس الاقتصاد العالميّ والحياة المعاصرة وقد تُكبِّد العالم أضراراً لا تقلّ قيمتها عن 10 تريليونات دولار ويحتاج إصلاحها إلى ما لا يقل عن 10 سنوات أو 20 سنة ولاسيّما شبكات الكهرباء والأقمار الصناعيّة وشبكات الاتّصالات، لأنّ الكثير من الأعمال التي تتطلّب إصلاح شبكات الكهرباء أو شبكات الاتّصالات في حدّ ذاتها تتطلّب وجود الطاقة الكهربائيّة.
يقول العلماء: إنّ الأرض تمكّنت بوجود الغلاف المغناطيسيّ الحامي من أن تتحمّل عواصف شمسيّة بقوة X5 أو حتى بقوة X10 لكنّ الأرض يصعب أن تتحمّل عاصفة شمسية بقوة X20 مثلاً، وفي حال حصلت تلك العاصفة في وقت يكون الغلاف المغناطيسيّ فيه قد تلاشى أو أصيب بضعف (كنتيجة للانقلاب القطبي) فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى نتائج مخيفة لا يمكن تصوّرها. وقد أبدى أحد علماء ناسا ملاحظة قال فيها: إنّ الخطر هو أن تُصاب الأرض بعاصفة شمسيّة مُميتة ثم تصاب بعد ذلك بسلسلة من الكوارث الطبيعيّة التي يتوقع أن ترافق الانقلاب القطبي مثل الزلازل والبراكين والعواصف المدمَّرة.

مصادر

2008 – NASA Magnetic Breach: http://science.nasa.gov/science-news/science-at-nasa/2008/16dec_giantbreach/
2011 European Space Agency Magnetism Article: http://www.esa.int/Our_Activities/Observing_the_Earth/The_Living_Planet_Programme/Earth_Explorers/Swarm/Overview/
Magnetic Field Animation: http://wdc.kugi.kyoto-u.ac.jp/igrf/anime/index.html
2003 NASA Pole Shift Article: http://science.nasa.gov/headlines/ y2003/ 29 dec_magneticfield.htm/
2008 Kyoto Pole Shift Animation: http://geomag.org/info/Declination/magnetic_lines.avi
2010 Kyoto Pole Shift Visual: http://wdc.kugi.kyoto-u.ac.jp/poles/figs/pole_ns.gif
2011 Discovery Pole Shift Article: http://news.discovery.com/earth/weather-extreme-events/earth-magnetic-field-north-110304.htm

موسم التين

التغيُّر المناخي حقيقة وآثاره بدأت بالظهور

مـاذا تعلمنــا من كارثــة تلــــف

موســم التيــــن العـــــام 2016

أصيب موسم التين العام الماضي بكارثة حقيقية لم يُر مثلها في سالف الأيام، وذلك عندما بدأت أفواج ثمار التين، فوجاً بعد آخر، تتشقق قبل نضجها فيتكاثر عليها البرغش والحشرات فتفسد نتيجة لذلك، وتتهرأ ثم تتساقط تحت الأشجار. وثمار التين المتشققة تفقد خواصها المميزة ونسبة كبيرة من السكريات، وتصبح بالتالي غير صالحة للتسويق والأكل والتصنيع.
يجب القول بادئ ذي بدء بأن الكثير من الأمراض والآفات الزراعية التي نراها تتكاثر وتصيب زراعاتنا لها أسباب عدة أهمها، تدهور البيئة الطبيعية، وتكاثر الطفيليات والحشرات الضارة في مقابل زوال الكثير من الأعداء الطبيعيين لتلك الآفات، كما أن لما يحصل علاقة محتملة بظاهرة التغيُّر المناخي، وما يتسبب به من تسخن للجو الأرضي، وتغيرات مناخية من أهمها حصول تقلبات مفاجئة بين مواسم برد شديد وبين موجات حرّ قياسية، وهذا النوع من المناخ “المتطرف” بدَّل كثيراً البيئة الحيوية للنباتات والعناصر التي تؤثر في إنتاجية الأشجار المثمرة. وفي لبنان نجمت الكارثة بصورة خاصة عن موجات رطوبة شديدة في الليل كانت تتبعها موجات حرارة مرتفعة خلال النهار، وهو ما خلق مناخاً إستوائياً غير ملائم إطلاقاً لثمرة التين التي تحب الطقس المعتدل للبنان واعتادت عليه طويلاً.
لا شيء بالطبع يمنع أن نشهد تكرار هذا النوع من الطقس غير المألوف بالنسبة إلى التين، لكننا نأمل أن يكون ما حدث الصيف الماضي حالة شاذّة، لأن مناخ لبنان هو في الأصل مناخ مثالي لزراعة التين، ولا يبدِّل في هذا الواقع بعض التقلبات الطارئة عليه، فطبيعتنا تختلف عن طبيعة الكثير من دول العالم التي تهتم بزراعة التين مثل دول شمال أفريقيا وغيرها التي تحدث فيها عواصف رملية صحراوية تؤدي إلى تخرّش حبات التين ومن ثمّ مهاجمتها من الأمراض وتعفنها.

مكانة التين في لبنان
تعتبر شجرة التين من أقدم الأشجار التي زرعها اللبنانيون، وهي من الأشجار القويّة والمعمِّرة التي قد يصل ارتفاعها إلى عشرة أمتار وقد تعيش لأجيال مديدة، وهي تزرع في جميع المرتفعات والمناطق اللبنانية من الساحل إلى الجبل، لأنها تتحمل التقلبات بين ارتفاع الحرارة صيفاً وانخفاضها شتاءً، لكنها تنمو بشكل جيد وتعطي إنتاجاً وفيراً في المناطق الوسطى، وهي مصنّفة ضمن الاشجار الشبه إستوائية. وشجرة التين يمكنها أن تنمو في كافة أنواع التربة لأنها تتميز بمجموع جذري قوي له قدرة على التغلغل بين حبيبات التربة وخاصة الصغيرة منها مثل التربة الطينية (الدلغانية) لكنها تنمو بشكل جيد وتعطي انتاجاً أفضل من حيث الكمية والحجم والجودة في الأراضي العميقة والجيدة الصرف والغنية بالمواد الغذائية.

ظاهرة تشقق التين
ينجم عن تشقق ثمار التين عند نضجها (أو قبله)عوامل عدة أهمّها:
• الإفراط في الريّ، وعلى عكس ما يظن، فإن التين برغم كونه شجرة بعليّة، يمكن ريّه في حالات الجفاف وانقطاع الأمطار في الربيع لأن الري يحسّن نضارة الشجرة ويزيد الفروع المثمرة، لكن الإفراط في الريّ، في موسم نضج الثمار، يمكن أن يتسبّب بتشقق التين ويضعف مناعته، ويجب لذلك اجتناب زرع الخضار الصيفية المرويّة في أماكن وجود التين وتخصيص حقول منفصلة أو مزروعة بأشجار مثمرة لأن هذه عموماً تحب الماء في الصيف.
• ارتفاع الرطوبة الجوية التي تقلل كثيراً من عملية التبخر في الأشجار فتذهب العصارة النباتية بكميات كبيرة إلى الثمار وتؤدي إلى تفجير خلايا التين وتشققها. وبعد تشقق الثمار تدخل إليها الرطوبة (الندى) فتلتقط الفطريات التي يحملها الهواء ما يؤدي إلى تعفنها.

مكافحة تشقق التين
تقتصر أعمال مكافحة تشقّق ثمار التين على بعض الأعمال أهمها:
1. تنظيم الريّ (عندما لا يكون بستان التين بعلياً) بشكل مدروس حسب حاجة الأشجار والتربة إلى الماء مع وقف عمليات الريّ قبل شهر من بدء نضج الثمار.
2. تحسين قدرة الأرض على صرف الماء الزائد، ويتم ذلك بعد إجراء فحص للتربة في المراكز التابعة لمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية في المحافظات والمناطق اللبنانية التابعة لوزارة الزراعة، وتحديد مدى حاجة التربة للعناصر الغذائية الضرورية لأشجار التين.
3. زراعة أنواع مقاومة للرطوبة والجفاف (تعطي ثماراً متماسكة ولا تتشقق).
4. الاهتمام بأشجار التين والعناية بها حتى يصبح نموها الخضري جيداً ويساعد على تظليل الثمار وحمايتها من الحرارة المرتفعة نهاراً والحرارة المنخفضة ليلاً مما يساعد على حمايتها من التشقق.

ظاهرة تعفن التين
يعتري ثمار التين الكثير من الأمراض الفطرية وخاصة الفطريات الناقصة التطور مثل البينيسيليوم الذي ينمو في جميع الظروف المناخية. أما أعراض إصابة ثمار التين بالتعفن فتحدث بعد تشققها أو بعد إصابتها بالحشرات التي تثقبها مما يؤدي إلى إحداث مدخل للفطر، وتختلف ألوان الثمار المصابة بالتعفن بحسب نوع الفطر ولون الثمار.
أما الأسباب المباشرة لتعفن التين فهي:
ذبابة ثمار التين: Lonchae Aristella Bec
الأعراض: ثقوب صغيرة في الثمار من جراء غرز آلة وضع البيض للذبابة داخل الكوز. بعد فقس البيض، تبدأ اليرقات بالتغذية على لب الثمار وتؤدي الى تلف الثمار وتعفنها وعند فتح الثمرة المصابة نلاحظ وجود اليرقات ثم يتساقط عدد كبير من الثمار على الأرض والمتبقي على الشجرة غير صالح للأكل.
المكافحة: جمع الثمار المصابة وحرقها، كما من المفضل اللجوء إلى المكافحة الفيرومونية بهدف اجتذاب الحشرات إلى المصائد والتي تعطي نتائج جيدة.
حشرة التين الشمعية Fig Wax Scale: تعتبر من الآفات الرئيسية التي تضرّ بأشجار التين وتصيب الفروع والأوراق والثمار، وتنتشر في المناطق التي تكثر فيها المكافحة الكيميائية والتي تقضي على الأعداء الطبيعيين للحشرة. تتغذى الحشرة على العصارة النباتية ثم تفرز ندوة عسلية بكثرة تؤدي الى نمو الفطر الأسود فتضعِف الشجرة وتشوِّه الثمار وتؤدي الى تساقطها.
المكافحة: التخلص من الفروع والأوراق والثمار المصابة بقدر المستطاع وحرقها، واتباع سياسات مكافحة بيولوجية وغير كيميائية تحافظ على الأعداء الطبيعيين لهذه الآفة وبالتالي تحدّ من انتشارها.

تلف موسم التين نموذج عن ما ينتظرنا بسبب التغيّر المناخي
تلف موسم التين نموذج عن ما ينتظرنا بسبب التغيّر المناخي

تعاونيات النحل والغياب الكبير

لتعاونيات النحل في لبنان دور أساسيّ في دعم النحّال أبرزها التدريب، لأن مهنة النحل معقدة وتحتاج إلى احتراف وإلى معرفة وانضباط، وأهم شيء تحتاج إلى إستقامة في العمل فلا ينساق النحال إلى أساليب الغش أو التلاعب بهدف زيادة ربحه، والتعاونية يمكنها هنا أن تقدم المثل الأعلى وأن تدرب مربّي النحل على هذا الفن القائم بذاته، والذي يحتاج إلى شغف ومثابرة ومراكمة خبرة، وإذا لم تتوافر الخبرة والكفاءة للتعاونية فيمكنها دائماً الاستعانة بخبراء مستقلين من خارجها.
في نطاق التدريب نذكر مثالاً هو أهمية مراقبة ظهور الآفات، وتأمين الدواء وتعليم النحال كيفية وتوقيت وضعه في الخلايا، توزيع الخلايا في الأماكن المدروسة، تحديد عدد الخلايا في المكان الواحد تجنباً للمزاحمة بين العاملات، تأمين الشمع الخام الخالي من الأمراض وخاصة مرض تعفن الحضنة الأمريكي، وطرق التطريد الاصطناعيّ وأوقاته، وطرق تصريف الإنتاج وتحديد أسعاره وتحسين وضع النحال الاقتصادي والتنسيق مع البلديات والجمعيات البيئية لتشجيعها على زراعة الأشجار والنباتات العطرية الرحيقية بدلاً من الأشجار والنباتات التزينيّة غير المفيدة للنحل.
لكننا إذا نظرنا إلى واقع تعاونيات النحل نجد بعضها لا يهتم بالنحالين على الإطلاق ولا يعقد اجتماعات ويرتب الانتخابات في الكواليس و”بمن حضر” وهذه التعاونيات تصبح وسيلة لترويج مصالح البعض لكن لا فائدة تنتج عنها للمهنة أو للنحالين. وهناك تعاونيات تفتقد إلى المبادرة وتنتظر من يقدّم لها المساعدة، بينما قلّة قليلة من التعاونيات هي التي تعمل بنشاط لخدمة المهنة والأعضاء. أكبر دليل على غياب التعاونيات في قطاع النحل نسبة الغش المتزايدة في العسل والممارسات العشوائية لاستخدام المبيدات وغير ذلك، فمن أين سنبدأ إذاً في تطوير قطاع العسل اللبناني وحماية سمعته لدى المستهلك أو لدى أسواق التصدير؟

“الضحى”

الصفحة الاخيرة

عالمـــان

سيرة المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي بقلم الشاعر الأديب الشيخ سامي أبي المنى لا تؤرخ لماضٍ بعيد ولا تتحدث عن أحد رجال السلف الأقدمين، بل هي تعرض لحياة شيخ زاهد مجاهد كان قبل أسابيع يعيش بين ظهرانينا، ويعايش عصرنا نحن، عصر الأزمات والاستهلاك والضياع القيمي والإنترنت وغيرها من علامات الفترة؛ لكن سيرة هذا الرجل الرقيق العارف تُبيِّن أن كل هذا الضجيج الذي يبلبلنا ويحرمنا من السلام الذي ننشده لم يكن لِيمَسَّ منه شعرة؛ فهو اختار مساره منذ شبابه المبكر وسلك على كبار الشيوخ وتأسّى بهم وأخلص وثابر واستقام على صراط التقوى حتى النفس الأخير. لقد أثرت في نفسي سيرته الطاهرة لأنني وجدت فيها (كما وجدت دوماً في سير أوليائنا) مثالاً قوياً على القاعدة التي تحكم مجتمع العقال الموحدين وهي أن “أدب الدين قبل الدين” ويا لها من قاعدة ذهبية فعلاً لأنها توجِّه جهد السالك مهما ظنّ نفسه متقدماً في المعارف إلى زجر النفس والتخلق بأرفع الآداب والخصال، ومن السهل الحديث في أمر الدين أو المحاضرة في عمومياته لكن من الصعب حقاً نهي النفس عن الهوى ومراقبة السلوك واكتساب الخصال التوحيدية وفي رأسها اللين والحلم والعفو عن المسيء واحتقار الدنيا وقصر الأمل واستحقار النفس والإستغفار الدائم، فهذه الخصال لا تكتسب بكثرة القراءة بل بدوام المراقبة ومجاهدة الهوى والتأسّي بالصالحين والسير في أثرهم، وهي بالتالي خصال لا تتحصّل إلا لأولي العزم وأصحاب الهمم العالية.
ومن نعم الله على الموحدين أن جعل من جهاد النفس (وليس علوم الكتب وفصاحة التعبير) الركن الأساس للمسلك، ومعياراً يقاس به الإخلاص والفلاح في الطريق، وما أكثر العلماء اليوم لكن ما أقل الصالحين. لذلك فإن سير الموحدين لا يرد فيها أسماء مشاهير أهل العلوم أو المؤلفين الجهابذة لكنها زاخرة بسير الزُهّاد الفقراء الصالحين الذين يتناقل مجتمعنا مآثرهم من جيل إلى جيل. والموحدون الدروز هم بين مسلمي هذا العصر من الأكثر تعلّقاً بالمبادئ التي قام عليها الإسلام، وهم يتناقلون في مجالسهم سير الصوفية العظام من سلمان الفارسي إلى أبي ذر الغفاري إلى الجنيد وينهجون على أثرهم، كما هو جليّ في اللباس الإسلامي البسيط لعقالهم وللسالكين في أثر السلف من شبانهم، وفي حجاب الموحدات الأبيض المهيب المنسدل على لباسهن المحتشم وفي أدبهن وحيائهن. وهذا المجتمع المتمسك بالزهد الطبيعي وأعلى معايير السلوك والمحافظة لا نجدّ ظاهرة تماثله اليوم وسط أمواج التديُّن الضيّق والتعصّب والكراهية، والإنجراف في الوقت نفسه في مباهج الدنيا وكلّ يتعارض مع تعاليم الدين القويم.
وقد يكون مجتمعنا الأصيل يتعرض اليوم مثل غيره لما يعتمل في عالم المعاصرة والإتصالات من تأثيرات هائلة أصبحت عاملاً أساسياً في تخريب سلوك الأفراد والمجتمعات، لكن مثال الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي ومثال الأولياء الصالحين السابقين ومشايخنا الأجلاء يستمرّ في تقديم أنموذج جليّ وجذاب للرفعة الإنسانية والروحية في وجه هذه الجاهلية الجامحة للقرن الواحد والعشرين.
وربما يكون تبجيل المجتمع التوحيدي لأوليائه الصالحين ظاهرة تدلّ في حد ذاتها على بناء قِيمي خاص بهذا المجتمع، لكنه يسلط الضوء في الوقت نفسه على هذا التعايش الملفت بين عالمين مختلفين: عالم الشيخ أبو سليمان حسيب وأقرانه الأطهار وما يتصل بهم من مجتمع العقال والسالكين وبين عالم أهل الزمان، وهو عالم آخر تماماً من “مرجئة” الدين الذين تشغلهم الدنيا بمباهجها ومشكلاتها وهمومها عن التفكّر وإصلاح النفوس بالجهد وصحبة الأخيار. وبينما يشترك هؤلاء -لا شكّ في ذلك- في فطرة التوحيد، فإنهم يعوِّضون عن التقصير ربما بإظهار المحبة الصادقة لأهل الصلاح وتقديرهم، لكن دون أن يجدوا دوماً العزيمة الكافية للأخذ من معينهم والتزيّن ببعض ما يمثلونه من خصال التقوى وآداب المسلك القويم، لكنّها سنّة الله تعالى في خلقه وهو القائل:
}وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ{ (الأنعام: 35)

اوقاف الموحدين

أوقاف الموحدين
الــــــــــــــــــــــــدروز

النشــوء . الإدارة . الواقــع والمرتجــى

الموحِّدون الدروز أقل الناس وقفا لأملاكهم
والكلام عن ثروة هائلة للوقف يخالف الواقع

يَعتبر الموحِّدون الدروز الوقف من الواجبات الدينية والاجتماعية، ومن الضرورات لخدمة المجتمع وتقديم العون للفقراء والمحتاجين، وأحد الأدلّة على التعاطف الإنساني، وعلى التضامن الأخوي الذي يحرصون عليه؛ وخصوصاً رجال الدين منهم. ومجال الصدقات عندهم واسع لأنهم أحرار بالإيصاء لغير وارث كما لوارث، وبكل التركة أو ببعضها في جميع سبل الخير والمنفعة العامة. وتخضع شؤون الوقف عند الموحِّدين (الدروز) لأحكام الشرع الإسلامي، وهم متمشُّون على الحديث النبوي الشريف بشأن أهمية الصدقة الجارية في دوام ذكر الإنسان بعد وفاته، وهذا الحديث مدرج في وصايا الواقفين إِمَّا بنصِّه الحرفي أو بمضمونه.
لكنّ الموحِّدين (الدروز) هم أقلُّ الجماعات الدينية الرئيسية وقفاً، وأن أكثرية أوقافهم هي من أشخاص لا ورثة لهم، وأنها تتنوَّع تبعًا لمقاصدهم، فمنها ما هو وقفٌ على ذرِّيّتهم، ويخصّ أعقابهم وأعقاب أعقابهم، وأعقاب أعقاب أعقابهم. ومنها ما هو وقفٌ للخير العامّ، ومنها ما يخصَّص للمجلس والخلوة.

قدسية الوقف
يعتبر الموحِّدون (الدّروز) الموقوف من المحرَّمات التي لا يجوز المسُّ بها، والتطاول عليها، لأن في ذلك إثماً كبيراً ومدعاةً لإنزال غضب الله على الفاعل. والوقف، في نظرهم، هو بحماية الله أكثر مما هو بحماية الناس، وهو تعالى يدافع عنه، ويعرِّض المعتدي عليه لعقابه السماوي إضافة إلى العقاب الأرضي. والدّروز يستشهدون في ذلك ببيوت وأُسَر انقرضت، أو افتقرت، أو تدنَّى شأنها، لأن الأجداد من أبنائها تعدَّوا على الوقف. لذا يحاذر الكثيرون الانتفاع مما يتلف من الوقف كأغصان أشجار حطّمتها العواصف أو الثلوج، ولو بمقابل ثمن، ولذا يحرص أكثر الأمناء والوكلاء والنظَّار على الأوقاف، على التقيُّد بشروط الواقف بحذافيرها وتفاصيلها، والمحافظة على عين الوقف، والعمل على زيادة ريعه وحسن توزيعه، وذلك تبرئةً للذمَّة وإراحةً للضمير وطلباً لرضا الله تعالى.

الوقف في الشَّرع والقانون
قوام الوقف في الشرع ركنان هما الحبس والتأبيد. فمتى حبس الواقف العين عن التملُّك، وأبَّد الحبس بالتقييد إلى جهة لا تنقطع أصبح الوقف مبرماً، وأضحت العين محبوسة شرعاً، ولا يمكن تحريرها من قيد الوقف ورجوعها ملكاً صرفاً كما كانت، لأن الشرع صانها للجهة الموقوفة عليها من تصرُّف الانتقال والتمليك. وبمجرد أن توقف العين للمنفعة العامة تخرج من ملكية الواقف ولا تدخل في ملكية ورثته، ولا في ملكية أحد من الناس، وتصبح في حكم ملك الله، إلاَّ أن هذا لا ينطبق على الوقف الذرّي واقعاً وقانونا.
وحكم الوقف في القانون “أنه عمل قانوني صادر عن فريق واحد، ويُدعى في اللغة إسقاطاً. وهو تامّ بمجرد صدوره عن إرادة الواقف مستوفياً الشروط، فلا حاجة لقبوله من أحد لكي يصبح صحيحاً”1. وقد اختلف الفقهاء في مختلف العصور على الشروط العشرة العامة للوقف، وهي الزيادة، والنقصان، والإدخال، والإخراج، والإعطاء، والحرمان، والتغيير، والتبديل، والبدل، والإستبدال، ويلحق بها التخصيص والتفصيل.
إن مسائل الوقف الإسلامي متشعِّبة جداً نظراً لاختلاف المذاهب والفتاوى فيها، وللاختلاف حتى في المذهب الواحد، لأنه ليس هناك نصٌّ على الوقف في القرآن الكريم. وقد ازدادت مسائل الوقف تشعُّبًا مع اختلاف الأيام والأحوال، وظلَّ الاعتماد الأوّل فيها على مصادر الشرع الإسلامي، وعلى اجتهادات الفقهاء وأعمال الخلفاء والأمراء وسابقاتهم التي بقيت بعض آثارها إلى يومنا الحاضر. ثم تجاوُباً مع مقتضيات التطبيقات العملية للأوقاف صدرت في العصور اللاحقة المختلفة قوانين وأنظمة، وقرارات ومنشورات، وتعديلات عديدة “ففي لبنان، مثلاُ، نرى إلى جانب الفقه الحنفي أنظمة عثمانية، ثم قرارات انتدابيّة فرنسية، ثم لبنانية رسمية، ثم استقلالية صادرة عن المجلس الشرعي الإسلامي”2.
كانت شؤون الوقف عند الموحِّدين (الدروز) خاضعة للشرع الإسلامي قبل أن توضع القوانين المنظِّمة له، وظلَّت تخضع له في كل ما لم تنصَّ عليه هذه القوانين. والوقفيات التي وصلت إلينا منذ القرن الخامس عشر الميلادي مصدَّقة عند قضاة الشرع الإسلامي في دمشق وبيروت، الذين كان يحقُّ لهم النظر في المسائل والنزاعات المتعلِّقة بها. وحين غدا القضاء الشرعي في جبل لبنان في عهدَي الإمارتَين: المَعنيَّة والشهابية، بأيدِي قضاة من الدروز، كان هؤلاء يحكمون في النزاعات اعتماداً على المذهب الشافعي والمذهب الحنفي في ما يتعلَّق بأهليَّة المتولِّين على الأوقاف والشروط التي يجب أن تتوافر فيهم.
تمتَّع جبل لبنان بإستقلال إداري في عهد المتصرفيَّة فانعكس هذا على وضع الموحِّدين (الدروز) القضائي، فبات عندهم قضاء مذهبي مختص بهم. وبعد أن استقلَّ لبنان صدر قانون الأحوال الشخصية المتعلِّق بهم، في 24 شباط 1948 فبات قضاتهم يحكمون بموجبه وبموجب الشرع الإسلامي في كل ما لم ينصَّ عليه ، أو تنصّ عليه قوانين القضاء المدني.
نصَّت المادة (170) من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، على ما يلي:
“يرجع في حكم الوقف ولزومه واستبداله واستغلاله والولاية عليه وتعيين مستحقيه وتوزيع ربحه إلى صكوك الوقف أو التعامل الجاري منذ القدم، وإلى الأحكام الشرعية والقوانين النافذة”.
ونصَّت المادة (171) من القانون المذكور على ما يلي:
“في جميع المسائل الداخلة في اختصاص قاضي المذهب، والتي لم يرد عليها نصٌّ خاص في هذا القانون، يطبِّق القاضي المشار إليه أحكام الشرع الإسلامي، المذهب الحنفي، وجميع النصوص القانونية التي لا تتعارض مع الشرع الإسلامي”. وتجري تصفية الوقف الذُّرِّي بحسب المادة (27) من قانون الوقف الذُّرِّي الصادر في 10 آذار 1947، وهذه المادة تنصُّ على ما يلي:
“يفرز عند تقسيم الوقف الذُّرِّي المحض ما يقابل خمسة عشر في المائة لقاء جهة البرِّ المشروطة في الوقف والتي لولاها لما صح الوقف وتُسلَّم إلى الدائرة الوقفية المحلية لتُصرف في وجوه البرِّ العامَّة”، وتوجد أمثلة عديدة عن هذا النوع من الأوقاف.

مقام-النبي-ايوب
مقام-النبي-ايوب

الولاية على الوقف
إن الوقف شخص معنوي يحتاج إلى شخص طبيعي يمثِّله، ويرعى عينه، ويحسن استثماره للمنفعة التي وُقف من أجلها، فيشرف على أملاكه، ويتناول غلاله ويوزِّعها على المستحقين وفق شروط الواقف، وهذا الشخص الطبيعي يُسمَّى المتولِّي، كما يُسمَّى أيضاً الناظر والقيِّم والوكيل.
إن المتولِّي على الوقف هو أوَّلاً واقفه نفسه، ثم الشخص الذي يعيِّنه أو الأشخاص الذين يعيِّنهم، في حجَّة وقفِه. وقد يعيّن الواقف متولِّياً ومشرفاً، وفي هذه الحال لا يحقُّ للمتولِّي أن يتصرَّف في مال الوقف دون أخذ موافقة المشرف. وإذا مات الواقف وله وصيٌّ اختاره، قام هذا الوصي بعد موته بشؤون الوقف. ويحقُّ لكلٍّ من الوصيّ والمتولِّي أن يعيِّن خلَفًا له يدير الوقف بعد موته.
لا يجوز بقاء الوقف دون من يتدبَّر أمره في حال عدم وجود الوصي والوكيل، وفي هذه الحال تعود إدارة الوقف إلى القاضي بما له من الولاية العامَّة. وصلاحيّة القاضي في التولية أضيق من صلاحيَّة الواقف، لأنه لا يحقُّ له تولِيَة أجنبي إذا وُجد بين أقارب الواقف من يصلح للولاية، فيما يجوز ذلك للواقف.
أمَّا أهليّة الولاية على الوقف، أي الشروط التي يجب أن تتوفَّر في الوليِّ، فهي، حسبما تضمَّنَته كتب الفقهاء: أن يكون عاقلاً، أميناً، قادراً، بالغاً (راشداً) إذ لا تجوز تولية المجنون، وإنما تَولِية سليم العقل. ولا تجوز تَولِيَة الخائن، وإنما تولية المشهود له بالأمانة. ولا تجوز تولية العاجز عن القيام بشؤون الوقف، وإنما القادر المُؤهَّل للإشراف عليه، والمحافظة على عينه. ولا تجوز تولية الصغير القاصر لعدم قدرته على التمييز، وإنما تجوز تسميته على أن يتولَّى الوقف حين يبلغ سن الرشد3.
إن الأمور التي ورد ذكرها عن الولاية على الوقف، وشروطها، هي ذاتها عند الموحِّدين (الدروز). وفي وقفيّة الأمير السيد عبد الله التنوخي(ق) –وهي أقدم وقفيَّة وصلَتْنا- دليل على معظم ما ورد عن الوقف والولاية عليه، وشروطها، فقد جاء في وَقْفيّته ما يلي:
“أنشأ الواقف- أي الأمير السيد عبد الله (ق)- وقْفَه هذا على نفسه أيام حياته أبداً ما عاش، ودائماً ما بقي، لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه فيه منازع، ولا يتأوَّل عليه متأوِّل، ثم من بعده لمن سيذكرهم، وهم حضرة الجناب العالي المولوي الشريفي الزعيمي الأمير سيف الدين أبي بكر، والشيخ الجليل فخر الأفاضل العالم العلاَّمة الشيخ زين الدين جبرائيل من قرية المعاصر، والشيخ الفاضل مولانا العلاَّمة عماد الدين إسماعيل من عين داره، والشيخ الرئيس الجليل الفضيل أَوْحَد المعتبرين وقدوة العارفين شرف الدين عليّ من قرية الفساقين. فجملة السادة المذكورين جعل لهم النظر في أمر وَقْفِه هذا والتكلُّم عليه والإدخال والإخراج فيه ما جعل لنفسه، ثمَّ من بعدهم جعل النظر للأرشد فالأرشد من مشايخ بلاد الغرب لا ينازعهم فيه منازع، ولا يتأوَّل عليهم متأوِّل”4.
إنَّ لِلَفظَتَي “الراشد والأرشد” –وهما من مشتقات لفظة الرشد الذي هو أحد شروط الولاية على الوقف- مدلولاً مختلفاً عند الموحِّدين (الدروز) عن سائر المسلمين، إذ إنَّ الراشد عندهم هو الرجل العاقل البالغ الدَّيِّن، أي هو المُنضمُّ إلى سلك رجال الدين، والمواظب على القيام بالواجبات الدينية مع أخوانه. والمقصود بلفظَتَي “الراشد فالأرشد” من مشايخ بلاد الغرب: البارزون من رجال الدِّين في هذه البلاد.

نهج الأمير السيد
تمشَّى الموحِّدون (الدروز) على نهج الأمير السيد(ق) في تولية البارزين من رجال الدين على الأوقاف، ذلك أنهم في نظرهم هم، على العموم، أجدر من يتحمَّل الأمانة وينفِّذ شروط الواقف. وظلَّ هذا مرعِيّاً حتى أوائل القرن العشرين حيث أخذ رجال الزمن يحلُّون مكان رجال الدِّين في الولاية على الأوقاف. وفي حال عدم وجود المتولِّي، فإن الولاية تعود إلى قاضي المذهب إلى أن صدر قانون المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز عام 1962.
إنَّ بعض متوَلِّي الأوقاف تَجاوزوا شروط الواقف، فباعُوا ورهنوا ما هو محرَّم بيعه ورهنه، وبعضهم وظَّفوا مال الأوقاف في مشاريع أثارت اعتراض رجال الدين كإنشاء عارف النكدي مثلاً، سينما في عاليه، فكان ذلك أحد اعتراضات شيخ العقل محمد أبو شقرا على إدارته للأوقاف. وإن التطور بشكل عامّ وتطوُّر حاجات الدروز بشكل خاص، فرض وضع الأوقاف في وجوه من الخير العامّ لم تكن في زمان الواقف.
كان بعض الناس يتهيَّبون التعاطي في شؤون الوقف بما في ذلك الولاية عليه، ولا يقبلون بها إلاَّ عند الضرورة، أو نزولاً عند طلب الآخرين منهم، وإلحاحهم عليهم، فيما يرى غيرهم ذلك سبيلاً إلى الشهرة والنفوذ ورفعة الشأن، ومنهم من يراه فرصة للاستفادة المادية، وهؤلاء هم الذين أساؤوا الأمانة، وسطَوا على عين الأوقاف وريعها.
إنَّ النظارة العموميّة العليا على الأوقاف هي لشيخ العقل والقاضي، ويتم إشرافهما عليها عبر الوكلاء أو المتولِّين الذين عليهم أن يعودوا إليهما ويقدِّموا كشف حساب، وأن يأخذوا الموافقة على كل إجراء يريدون القيام به كالبيع والشراء والرهن والاستبدال وقد منع القانون الأخير بيع الأوقاف. وظلَّت النظارة العامة على الأوقاف لمشيخة العقل بعد إنشاء المجلس المذهبي، ذلك أنَّ رئيس هذا المجلس هو شيخ العقل الذي من مهامّه الإشراف على عمل لجان المجلس بما في ذلك لجنة الأوقاف ومديرية الأوقاف. وقد بدأ تنظيم الإشراف على الأوقاف منذ سنة 1862، وتَتَالَى لجاناً وهيئات ومجالس ومديرين.

أنواع الوقف
الوقف، بشكل عامّ، أنواع عديدة يختلف بعضها عن بعض بحسب القصد منها، والجهة الموقوفة عليها، ووضعها القانوني، وطبيعتها المادية، ووجوه الانتفاع بها، وأصول التولية عليها، وإدارتها. والأنواع الأساسية للوقف هي، بحسب ما نصَّت عليه المواد: الأولى والثانية والثالثة من قانون الوقف الذُّرِّي الصادر في 10 آذار 1947، ما يلي:
1. الوقف الخيري: وهو ما وقَفَه أصحابه من أملاكهم وأموالهم الخاصة ليُصرف ريعه في وجوه البر والخير والإحسان، كالمساجد والمعابد، والمستشفيات والمعاهد والمدارس ودُور الأيتام والعجزة، والملاجئ والجمعيات. وهذا الوقف بمثابة مُلك لله تعالى من حين إنشائه، لا يُباع ولا يُورث ولا يُوهب ولا يُرهن ولا يُحجز وهذه الامتيازات التي يختصُّ بها تحصّنه ضد مجالات العبث فيه.
2. الوقف الذُّرِّي: وهو ما وقَفَه أصحابه من أملاكهم وأموالهم على ذرِّيّتهم. وهو وقفٌ على الذرِّيَّة، وعلى الغالب على الذكور منهم. وهو لا يصير وقفاً عاماً إلاَّ إذا انقرض المستحقون، وهذا قليلاً ما يحصل. كما أنه، بعكس الوقف الخيري، كان على الصعيد الواقعي معرَّضًا للتصفيات من ذرّيّة الواقف. وقد جاء قانون الوقف الذّرّيّ المشار إليه أعلاه يمنع تأبيده على أكثر من طبقتَين، وأجاز إعادته إلى الواقف وتمليكه وتقسيمه.
3. الوقف المشترك: هو الذي يكون بعضه خيريّاً وبعضه ذرّيّاً، أي إنه وقفٌ مشترك بين الخيري والذرّيّ، تُصرف غلّته على جهة برٍّ محدَّدة كمسجد أو معهد أو ملجأ، وما تبقَّى منها يُصرف للذرّيّة. إنه وقفٌ لم يرد ذكره في كتب الشرع، وتنطبق عليه أحكام قانون الوقف الذرّي.
أمَّا الأوقاف الدرزية، فيمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيَّين، هما الأوقاف الخاصة، والأوقاف العامَّة.
1. الأوقاف الخاصة: ويُقال لها أيضاً الأوقاف الأهليّة، وهي قسمان: الأوقاف الذُّرِّيَّة، والأوقاف العائليَّة.
أ. الأوقاف الذّرّيّة: هي التي يوقفها المرء على ذُرِّيَّته الخاصة من ذكور وإناث، وأقدمُ ما وصل إلينا منها وقفيَّة الشيخ ناصر الدين حمدان المدوَّنة في سنة 1575 5.
ب. الأوقاف العائلية: هي التي يوقفها المرء لصالح عائلة ما بمفهومها الواسع. وهناك نوع جديد من الأوقاف العائليَّة، نشأ مؤخًَّراً،هو بيوت العائلات المخصَّصة للمناسبات العامَّة، وحكمها حكم الأوقاف العامّة، إذ تبقى مخصَّصة لمنفعة أبناء العائلة الذين أُوقِف البيت لمصلحتهم، ولمنفعة ذرياتهم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وتعود إدارة البيت إلى أشخاص أو لجنة تنفق العائلة عليهم أو عليها، أو إلى جمعية أو رابطة عائلية.
2. الأوقاف العامة: ويُقال لها أيضاً الأوقاف الخيرية، مع العلم أن جميع الأوقاف خيرية. إنها موقوفة للمنفعة العامّة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وأنواعها البارزة أربعة، هي:
أ. الأوقاف العامَّة للطائفة الدرزية: إنها جميع الأملاك من العقارات والأبنية الموقوفة لصالح الطائفة الدرزية.
ب. الأوقاف التابعة للمقامات الدينية: وهي متعددة، والأموال التي تدخل في صناديقها هي تبرُّعات ونذورات.

• وقْف مقام النبي أيوب:النبي أيوب(ع) من الأنبياء المكرّمين عند الدروز. أُقيم له مقام على هضبة فوق بلدة نيحا (الشُّوف) متفرِّعة من جبل نيحا. حوله مساحة قليلة من الأرض. وهو ومقام النبي شعيب(ع) في فلسطين، ومقام النبي هابيل(ع) في سورية، أهم مقامات الأنبياء عند الدروز. كان دروز نيحا يتفقون على وكيل عليه، ثم بات هذا الأمر من اختصاص مشيخة العقل.
• وقْف المقام الشريف: ويقع في منطقة “شمليخ” عند بداية الطريق الذاهبة من بلدة العزُّونيَّة إلى بلدة شارون وتُشرف عليه عائلات شارون: الصايغ، والأحمدية، والبنَّا، وقد مُسح باسمها. وهي تنفق ما يتجمَّع في صندوقه من التبرُّعات والنُّذورات على تحسينه وصيانته والإشراف عليه، وعلى المساعدات الاجتماعية لأبناء شارون.
• وقْف الأمير السيد عبد الله: سنتكلم عنه لاحقًا خلال الحديث عن أقدم الأوقاف.
• وقْف الست شعوانة: إنها فتاة مؤمنة، هَرَبَت من والدها الظالم، وعاشت متستِّرة بثياب الرجال مع عُبَّاد منقطعين لعبادة الله. عُرفت حقيقتها بعد موتها، وصار الناس يضعون النُّذورات على حجارة قبرها البسيط في محلَّة “الصّعلوك” في السفح الشرقي لجبل الباروك، إلى الجنوب من بلدة قب الياس. أقام لها الشيخ ملحم قبلان كرامي مقاماً دشَّنه شيخ العقل محمد أبو شقرا في 29 أيلول 1967، واهتمَّ به في البداية الشيخ ملحم مع الشيخ خطار زهر الدين. ثم زِيد البناء، وقدَّم النائب جوزف سكاف قطعة أرض محيطة به، وجرى مؤخَّراً شراء قطعة أرض واسعة بجانبه، وهو اليوم بإشراف لجنة الأوقاف ومديريَّة الأوقاف في المجلس المذهبي.
ج. الأوقاف العامَّة لصالح القرى: وهي ما أُوقف لصالح دروز قرية من القرى المأهولة بالموحِّدين (الدروز)، ومنها مؤخَّراً بيوت القرى المشادة للمناسبات العامّة، وحكمها حكم بيوت العائلات التي جرى الحديث عنها. وأشهر الأوقاف العامة لصالح القرى:
• وقْف الست زهر أبو اللمع (1737- 1813م): هي ابنة الأمير منصور ابن الأمير مراد أبو اللمع. ظلَّت على مذهب التوحيد بعد تنصُّر أقربائها. وقفت كل ما تملكه في صليما والبقاع لعائلتَي المصري وسعيد في صليما. وقد تقاسمت هاتان العائلتان مناصفةً الأملاك الموجودة في صليما بعد زوال الأملاك في البقاع، وشُكّلت لجنة من كلٍّ منهما تضمُّ وجوه العائلة للإشراف على الوقف.
• وقف دروز بلدة المتين ويوجد وثائق تشير انه وقف مسجد المتين: هو من الأملاك التي وقفتها لصالحهم إحدى الأميرات من آل أبو اللمع، فيما وقفت شقيقتها أملاكها، الموازية في مساحتها لما وقفَتْه هي، إلى دير مار مخايل في بنابيل. ووقْف دروز بلدة المتين كان كوقْف صليما من أوسع أوقاف القرى. أُقيم عليه مؤخَّراً بناء “الخلية” المخصَّصة للمآتم، والصالة المخصَّصة للأفراح، ويتبعه عقارات موجودة في الزعرور (محلَّة الحبش).
د. الأوقاف المحدَّدة لغاية معيَّنة، مثل وقْف نبيهة وعبد الله النَّجّار للتعليم العالي.
ه. كما يوجد العديد من الوقوفات على معابد القرى.

مبنى معهد العلوم والتكنولوجيا في عبيه
مبنى معهد العلوم والتكنولوجيا في عبيه

أقدم الأوقاف العامة (وقْف الأمير السيد عبد الله)
الأمير جمال الدين عبد الله، الملقَّب بالأمير السيد (ق) ،هو من الأمراء البحتريين التنوخيين، المتسلسل في نسبه “إلى الأمير جمال الدين حجى ابن أمير الغرب التنوخي الجميهري اللخمي” حسبما جاء في وصيته. وهو أهمّ علماء وأولياء ورؤساء الموحِّدين (الدروز) الروحيِّين. وقد وقف ما يملكه بوصية أو وقْفيَّة، مؤرَّخة في 21 جمادى الآخرة من سنة 820 هـ (5 آب 1417م) مصدَّقة بحضوره من قاضي الشّرع في دمشق في 6 صفر 822 هـ (4 آذار 1419م) ومن قاضي الشرع في بيروت في شهر شوال 822 هـ (تشرين الأول 1419م)6.
وقَفَ الأمير السيد (ق) ما عنده من أبنية في بلدته عبيه، وهي الحارة تحت العين والمساكن، والحارة الكبيرة الفوقا، وأملاكه البعلية، والمروية، والمشجَّرة، وهي في مدينة “بيروت المحروسة”، ومزرعة خلدة، وعرمون، ومنطقة اليهودية التابعة حاليّاً لبشامون، وعبيه، وعين درافيل، والبون (المشرف حاليّاً)، وجسر القاضي، وبعورته، ورمطون، وكفر زبيد.
وخصّص الأمير السيد ما ورد ذكره من أوقاف إلى “الفقراء والمساكين والأرامل المنقطعين من المسلمين أهل الصلاح والعفَّة والدين، من أهالي قرايا بلاد الغرب”. أمَّا وجوه الإنفاق، فهي إطعام طعام، وتفريق خبز، وفكّ أسير، وخلاص مسجون، وعمارة سبيل، والقيام بمصالح الجوامع في بلاد الغرب، والإنفاق على الفقهاء وعلى الكتَّاب الذين “يعلِّمون الكتاب والسُّنَّة وتلاوة القرآن”. ثم خصَّ الأمير السيد في وصيَّة خاصَّة أشخاصاً محدَّدين بصدقات من ماله ومقتنياته وغلال أملاكه.
سمَّى الأمير السيد أربعة نظَّار على وقْفه، وقد تَوالى النظَّار على وقْف الأمير السيد وفْق شروطه فكانوا من الأرشد من بلاد الغرب، وحافظ الأوائل منهم على الوقف لكن من خلفوهم تهاونوا في ذلك أو عجزوا عنه، وربما امتدَّت أيادي بعضهم إليه، كما امتدَّت إليه أيادي الأمراء الشهابيِّين. وهذا موجز عنه أورده متسلِّمه عارف النكدي في مجلة الضحى:
“الوقف الذي وقفه سيدنا الأمير استولى عليه الشهابيون في جملة ما استولوا عليه من أملاك التنوخيين، أمَّا ما تسلَّمناه نحن فليس فيه شيء من الوقف الأصلي، وإنما هو يتألف:
أ. من مجموعة قطع متفرِّقة أوصى بها بعض المحسنين.
ب. مما اشتراه جدُّنا سليم بك في ولايته الطويلة على الوقف ، ومن قطعتين اشتراهما بعده جدّنا سعيد بك.
ج. مما بيَّنَّاه نحن واشتريناه بإسم هذا الوقف”7.
وفي مكان آخر يقول عارف النكدي ما يلي: “الوقف التنوخي، بالتسمية التي أطلقناها عليه مؤخَّراً، أو “وقف السيد” كما كان معروفاً من قبل، وقفٌ أنشأه الأمير السيد ونُسب إليه”. ثم يعيد النكدي ما ذكره عن استيلاء الشهابيين على هذا الوقف وعلى أملاك التنوخيين، ويضيف قائلاً: “ثم عاد بعض المحسنين، من الفقراء الأتقياء، فأوصَوا لمقام الأمير السيد، بقطع من الأرض، كانت غلَّتها، مع ما يجتمع إليه من النُّذور، تقوم على ضآلتها بنفقات المقام”8.
وفي رأينا أن عارف النكدي قلَّل من أملاك الوقف التنوخي عند إنشائه، وقلَّل منها بعد ذلك ، كما يبدو من وقوعات المجلس المذهبي المنشأ في سنة 1962.

أكبر الأوقاف العامَّة (وقْف الشيخ أحمد أمين الدين)
كان الشيخ أحمد أمين الدين (…- 1809) شيخ عقل الموحِّدين (الدروز)، وهو يعود في النسب إلى الشيخ بدر الدين حسن العنداري، شيخ مشايخ الدروز زمن الأمير فخر الدين المعني الثاني. وقد تميَّز بالتقوى وإشاعة الخير والوفاق بين الناس، ولقَّبه الأمير بشير الشهابي الثاني بـ”الشيخ الرضي”. كانت أملاكه منتشرة في تسع قرى، وقد وقَفَها كلها مع سائر ما يملك للخير العام في وصيته (وقْفيّته) المؤرَّخة في العشر الأخير من رجب سنة 1218 هـ (تشرين الأول 1803م). وجاء في هذه الوقفية أنّ ما وقَفَه هو “وقْف مؤبَّد كلما مرَّ عليه زمان أكَّده، وكلما أتى عليه عصر ثبَّته، لا يغيِّره مرور الأيام والشهور، ولا الأعوام والدهور”.
وقفَ الشيخ أحمد أمين الدين حارته (بيته) “وقفاً مثبَّتاً لأهل الخير، مستمرًّا جريانه كما هو في وجوده إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، منهلاً إلى كل من يلفي إليها من أجاويد [رجال الدين] عبيه وغيرها، غريباً أم قريباً”، على أن يكون ما فيها وقف يتبع المجلس. ووقَفَ لحارته وللمجلس وللخلوة غلالَ عقارات كثيرة، ووزَّع ماله وأملاكه وغلالها بشكل لم يسبقه أو يعقبه مثيل، إذ شكَّلت خيراً عاماً مستداماً، ولا تزال، لجميع الموحِّدين (الدروز)، وشملت حسناته ما يلي:
• القرى: عبيه- البنّيه- عين عنوب- عاليه- بعذران- الرملية- بشامون- كفرمتى- بعورته. وهي القرى التي كانت توجد أملاك الشيخ أحمد فيها.
• الخلوات: 27 خلوة.
• المجالس: 42 مجلساً.
• المقامات: (مقامان).
• مجموعات الإخوان، أي أخوان الشيخ أحمد أمين الدين من رجال الدين: 42 مجموعة.
• الأشخاص: 144 شخصاً.
سمّى الشيخ أحمد أمين الدين الوكلاء على الحارة والمجلس والخلوة والأملاك وجعل الوكلاء من نخبة رجال الدين، وأوصى أن يكون نظر الشيخ بشير جنبلاط على الوكلاء للذبِّ عنهم. فالولاية على الوقف لا ينهض بها إلاَّ القوي الأمين، وهذا بدوره يحتاج إلى نظر مقاطعجي المنطقة أو أهم مقاطعجيّي الدروز، الذي كان في زمن الشيخ أحمد قريبه الشيخ بشير جنبلاط، وهو الزمن الذي كثرت فيه مصادرة الأمراء الشهابيين لأملاك الدروز لأسباب مختلفة.
ومن المعروف أن بناء مدرسة الداودية الأساسي التي عرفت في ما بعد بـمدرسة الحكمة تمّ بناؤه من أموال وقف الشيخ أحمد أمين الدين، وضُمّت إليها أراض سجلت بإسم وقف المدرسة الداودية. كما يوجد في بلدة عبيه مقام وخلوة الشيخ أحمد أمين الدين، أما أراضي بلدة البنية فقد مُسحت في عهدة لجنة الأوقاف الحالية مشيرة إلى وصية الشيخ أحمد أمين الدين.

أوقاف خلوات البيَّاضة
تقع خلوات البيَّاضة في خراج بلدة حاصبيا، وإلى الجنوب منها، وإسمها مشتق من بياض عمائم الشيوخ الكثيرين الذين يقيمون فيها. تعود نشأتها إلى أواسط القرن الثامن عشر حين أسَّس الشيخ سيف الدين شعيب أوّل خلوة لتدريس المريدين الذين يرغبون بالإنضمام إلى سلْك رجال الدين. وقد اختار مكان الخلوة على سفح إحدى التلال البعيدة نسبيّاً عن حاصبيَّا، ليتاح له التعبُّد وتعليم المريدين بعيداً عن ضوضاء الناس، وفي أجواء السكون والهدوء. ومع الزمن صارت الخلوة خلوات، وغدت منذ أواسط القرن التاسع عشر “أشهر أماكن الدروز المقدَّسة” حسبما قال عنها الرحَّالة الأوروبي إدوار روبنصون9. وغدا عددها مؤخَّراً 52 خلوة، ذات بناء متواضع جدّاً، موزَّعة على الشكل التالي: 31 خلوة بأسماء الأشخاص المتبرِّعين بالبناء، 11 خلوة بأسماء العائلات، 3 خلوات بأسماء القرى، 7 خلوات بأسماء مناطق لبنانية وسورية وفلسطينية.
أُوقِفَت لخلوات البيَّاضة العقارات التي كثر عددها مع الزمن حتى بلغت 278 عقاراً، أكثرها ريعاً تلك التي أوقفها الشيخ أمين شمس وزوجته الست نايفة جنبلاط، ابنة الشيخ بشير جنبلاط، التي لها خلوة بإسمها. وهذه العقارات تغطِّي قسماً قليلاً من النفقات فيما تغطِّي القسمَ الأكبرَ منها نذوراتُ المؤمنين، وتبرُّعاتهم المدرجة في وصاياهم.
تَوالَى على إدارة الشؤون الدينية للخلوات سُوَّاس عديدون، وتَولَّى شيخ مسؤول الإدارة العملية الممثَّلة باستقبال الضيوف والمريدين والاهتمام بشؤونهم وإدارة الأملاك والتصرُّف بالموجودات. وتمثَّلَت الإدارة الدينية خلال عقود عدَّة بشيخ واحد، لكنها حاليّاً ممثَّلة بهيئة دينية 10 وقد استطاعت هذه الإدارة، بوحدانيتها أو بتعدديتها، تجديد نفسها بناءً على الأعراف والتقاليد، والكفاءة، وبطريقة تحفظ التوازن المطلوب.
مما ورد ذكره يظهر أنّ لخلوات البيَّاضة خصوصيَّة معيَّنة جعلَتْها تتميَّز عن سائر أماكن العبادة عند الموحِّدين (الدروز)، لذا استُثْنِيَت أوقافها من إشراف المجلس المذهبي المنشأ بموجب القانون الصادر في 13 تموز 1962، وأُبقيت بيد شيوخها، ثم استُثنِيَت في جميع مشاريع القوانين المطروحة لإنشاء المجلس المذهبي ولانتخاب شيخ العقل.
ثم استُثنِيَت أوقاف خلوات البيَّاضة في جميع مشاريع القوانين المطروحة لإنشاء المجلس المذهبي ولانتخاب شيخ العقل. واستُثنِيَت من إشراف اللجنة المعيَّنة من مقام مشيخة العقل بتاريخ 17 آب 1999، ومن إشراف مجلس أمناء الأوقاف المنشأ بموجب القانون الصادر في 18/12/1999. كما استُثنِيَت أخيراً من إشراف المجلس المذهبي ومشيخة العقل في قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز، الصادر بتاريخ 9/6/2006 ثم استُثنِيَت أوقاف خلوات البيَّاضة في جميع مشاريع القوانين المطروحة لإنشاء المجلس المذهبي ولانتخاب شيخ العقل، واستُثنِيَت من إشراف اللجنة المعيَّنة من مقام مشيخة العقل بتاريخ 17 آب 1999، ومن إشراف مجلس أمناء الأوقاف المنشأ بموجب القانون الصادر في 18/12/1999. كما استُثنِيَت أخيراً من إشراف المجلس المذهبي ومشيخة العقل في قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز، الصادر بتاريخ 9/6/2006.
الأوقاف الدرزية في بيروت
الأوقاف الدرزية في بيروت هي 11 عقاراً، مجموع مساحاتها 41.657 متر مربّع، منها عقار جعل مجلساً لدروز جبل لبنان بعد الحوادث الطائفيّة التي جرَت في سنة 1860، وهو معروف بإسم “مجلس القنطاري”. أصغر هذه العقارات عقاران، مساحة الأول 29 متراً مربّعاً، والثاني 32 متراً مربّعاً. وأكبرها عقار بقي من مساحته، التي كانت كبيرة، 36426 متراً مربَّعاً، الواقع في محلَّة “المصيطبة” رقمه 2046، وهو معروف بعدَّة أسماء هي: مقبرة الدروز، وتربة الدروز، وتلّة الدروز، ودار الطائفة الدرزية. والإسم الأخير هو المتداول حين اكتمل بناء دار الطائفة، ودُشِّن في سنة 1965، وصار مقرّاً لمشيخة العقل والمجلس المذهبي وبعض الهيئات، ومكاناً للإستقبالات والاجتماعات.
وبالرغم من صغر مساحة “تربة الدروز”، فإنها تستأهل بحثاً خاصاً يتناول كيفيّة نشوئها، والنزاعات حولها، ورمزيتها، وأهمية عقارها الذي هو اليوم أفضل العقارات في مجال الاستثمار، إضافة إلى أهمية دار الطائفة التي قامت على هذا العقار.
يلي هذا العقار عدة عقارات تعرف بإسم المدرسة المعنية مساحتها حوالي 5000 متر مربع.

إدارة الأوقاف العامَّة
الأوقاف العامّة شأن مهمّ من شؤون الموحِّدين (الدروز)، جرى الإشراف عليها بحسب الأعراف والتقاليد، كما بدأ تنظيمها منذ سنة 1862 بشكل مستقل أحياناً عن سائر الشؤون، وأحياناً أخرى في إطار تنظيم مشيخة العقل والمجلس المذهبي حيث وُضعت بإشرافهما. لقد كانت الأوقاف أحد عناوين الصراع في الأوساط الدرزية، كما كانت في الوقت نفسه أحد أسلحة هذا الصراع. ويمكن تلخيص أبرز الخطوات التنظيمية لها بما يلي:
• نظام داود باشا الموضوع في سنة 1862، وهو يتضمَّن اثني عشر بنداً تنصُّ على تغطية نفقات المدرسة الداودية، المنشأة في السنة نفسها، من إيرادات الأوقاف العمومية، وخاصة وقف الشيخ أحمد أمين الدين كما ذكرنا، باستثناء أوقاف المعابد.
• نظام رستم باشا الموضوع في سنة 1880، والمتضمِّن 37 مادة. وقد حلَّ مكان نظام داود باشا، الذي لم يفضِ إلى تسيير المدرسة الداودية والإشراف على أوقافها كما يجب.
• محاولة إنشاء مجلس ملّيّ في سنة 1921 للاهتمام بشؤون المدرسة الداودية وأوقافها، وذلك بعد تعثُّر المدرسة وإقفالها لسنوات كثيرة جرَّاء عجز ريع الأوقاف المخصَّصة لها عن تغطية نفقاتها، ومردّ ذلك إلى سوء إدارتها والإشراف عليها.
• تولّي عارف النكدي الوقف التنوخي في سنة 1921، وتوليته في سنة 1931 على الأوقّاف العامة من قبل شيخي العقل حسين حماده وحسين طليع، وقاضي المذهب الدرزي ملحم حمدان.
• إنشاء المجلس المذهبي في سنة 1962، برئاسة شيخ العقل، بموجب القانون الصادر في 13 تموز 1962، ومن صلاحياته الإشراف على الأوقاف باستثناء أوقاف خلوات البيَّاضة، وهو يتضمَّن لجنة للأوقاف ومديراً عاماً لهذه الأوقاف، لكن هذا المجلس الذي كان مطلباً لعارف النكدي من أجل إراحته من مهمّة الولاية على الأوقاف، دخل مع النكدي نفسه في نزاع حول إدارة الأوقاف وحول ملكيّة بعضها.
• إدارة خالد جنبلاط للأوقاف لسنتين زمن عمل المجلس المذهبي، بعد المُديرَين محمود أبو خزام ومحمود خليل صعب، واستمراره في إدارتها، بعد انحلال المجلس المذهبي في سنة 1970، حتى وفاته في سنة 1992. ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو إنشاؤه قبل وفاته بخمسة أيام لجنة لتدير الأوقاف من بعده، لكن هذه اللجنة لم تمارس عملها بسبب المعارضة لإنشائها.
• اللجنة المؤقَّتة المشكَّلة في سنة 1994 بقرار من محكمة بيروت المذهبية، للحلول مكان دائرة الأوقاف التي كان يرأسها سلمان عبد الخالق، بعد حصول النزاع بينه وبين القائم مقام شيخ العقل الشيخ بهجت غيث.
• إدارة سلمان عبد الخالق للأوقاف بعد وفاة خالد جنبلاط، بصفته أكبر موظَّف في دائرة الأوقاف، واستمراره في ذلك حتى سنة 1994، ثم إدارته لها من سنة 1995 إلى سنة 1999 بصفته مكلَّفاً من رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري بتسيير شؤون مشيخة العقل والأوقاف، وذلك بعد عزل الحريري القائم مقام شيخ العقل الشيخ بهجت غيث عن تسلُّم هذَين الشأنين بموجب القرار الرقم 69/95 بتاريخ 25/10/1995. واستمر بإدارة العديد من أوقاف قضاء عاليه حتى انتخاب المجلس المذهبي عام 2006.
• اللجنة المؤقَّتة المشكَّلة في سنة 1999 بقرار من الشيخ بهجت غيث.
• مجلس أمناء الأوقاف المنشأ في سنة 1999 بموجب المرسوم الرقم 1767 بتاريخ 25/10/1999 بناءً على القانون الرقم 127.
• لجنة الأوقاف ومديريّة الأوقاف المشكَّلتان بموجب قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين (الدروز) الصادر في 9/6/2006. وقد تسلَّمَت الأكثرية الساحقة من الأوقاف التي يجب أن تكون بإشرافها.
ومما يجدر ذكره هنا هو أنَّ بعض هيئات الإشراف على الأوقاف هي من نتائج انقسام الدروز حول تنظيم شؤونهم وإدارتها، وأفضل مثال يُعطَى عن ذلك هو إنشاء الإدارة المزدوجة للأوقاف في سنة 1999، والممثَّلة باللجنة المؤقَّتة وبمجلس أمناء الأوقاف. وقد أضاع انقسام الدروز حول تنظيم شؤونهم ومنها الأوقاف الكثير من الفوائد، وكانت خسائرهم تلك كخسائرهم من عدم تنظيم شؤونهم، وخسائرهم من غياب الإشراف الفعَّال على أوقافهم الذي أضاع عليهم بعض مساحاتها وبعض إيراداتها.

أحراج-جسر-القاضي-جزء-من-الإرث-الغني-للأوقاف-الدرزية1
أحراج-جسر-القاضي-جزء-من-الإرث-الغني-للأوقاف-الدرزية1

إحصاء الأوقاف العامَّة
إحصاء الأوقاف حتى سنة 2006: إنَّ أولى المقاربات لعدد عقارات الأوقاف العامّة حصلَت من خلال مقاربة عدد القرى التي توجد فيها، وجاءت في دفاتر ناظر أوقاف المدرسة الداودية: ملحم تقي الدين، ثم في بيانات متولِّي الأوقاف العامة: عارف النكدي.
وعندما تسلَّم الشيخ محمد أبو شقرا مشيخة العقل في صيف 1949 كلَّف المسؤول عن مكتب مشيخة العقل، الشيخ أبو علي سليمان تاج الدين، بتفقُّد المعابد والأوقاف في القرى لجمع المعلومات عنها، وعمَّم بياناً بتسهيل مهمته التي تنحصر بالإطِّلاع والدرس والإحصاء فقط. وأرسل ونظيره الشيخ محمد عبد الصمد رسالة بتاريخ 19/11/1951 إلى قاضي المذهب، الشيخ علي زاكي، يطلبان فيها إحصاء الأوقاف في قضاء راشيَّا وضبطها، وتسليمها لمن يرى أنهم من أهل الأمانة والاستحقاق، بعد أن كثرت الشكاوى الواردة إليهما من قضاء راشيَّا عن الأوقاف11.
وبدأت مجلة “الضحى” بدءاً بعدد تموز 1970، وبتوجيه من الشيخ محمد أبو شقرا، نشر بعض أرقام عقارات الأوقاف الدرزية، في ضوء المعلومات المتوافرة عنها، إضافة إلى ما جرى نشره قبل ذلك وبعده من أرقام عقارات متنازع عليها بين المجلس المذهبي وعارف النكدي.
بعد تكليفها في آب 1999، قامت اللجنة المؤقَّتة للإشراف على الأوقاف بإحصاء سريع لها، أوردتْه في كتيِّب صدر عنها في سنة 2000، وأعادت طبعه في سنة 2005 بعد إضافة عقارات ومعلومات جديدة، وهو يتضمَّن أرقام العقارات وأماكنها، موزَّعة بحسب القرى والمحافظات المأهولة بالموحِّدين (الدروز) كما يتضمَّن جدولاً عاماً بها، وقد بلغ عددها 940 عقاراً، وهو دون العدد الحقيقي.
إحصاء الأوقاف في سنة 2015: أجرت لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي، المنتخب بموجب قانون سنة 2006، إحصاءً لعقارات الأوقاف نشرتْه في كتاب بعنوان “أوقاف الموحِّدين الدروز. واقع وحقيقة 2015”. وقد بلغ عدد العقارات في المحفظة الوقفيّة، باستثناء عقارات أوقاف خلوات البيَّاضة وعقارات قليلة لأوقاف غيرها، 1173 عقاراً، موزَّعة على الأقضية والقرى، مع ذكر أرقام العقارات، ومساحة معظمها، الحقيقية أو التقريبية، ومشتملاتها، وإيجاراتها، ونوع استثمارها، والإشكاليَّات حولها، كالنزاعات والدعاوى مثلاً، وذلك بناءً على الواقع وعلى القيود الرسمية والأوراق الثبوتيّة.
إنَّ الإحصاء المذكور هو أيضاً إحصاء غير نهائي، بدليل القول في نهاية كتاب “أوقاف الموحِّدين الدروز”: إنه إحصاء أوَّلي. وهو يشتمل على نوعين من الأوقاف، أولهما أوقاف القرى والعائلات والمعابد والمزارات والمجالس، وعددها 796 عقاراً موجوداً في 73 بلدة وقرية من البلدات والقرى المأهولة بالموحِّدين (الدروز)، وللجنة الأوقاف ومديريّة الأوقاف الإشراف عليها فقط، وثانيهما أوقاف بإدارة لجنة الأوقاف ومديرية الأوقاف ، وعددها 377 عقاراً موجوداً في مدينة بيروت وعشر بلدات فقط، بحسب ما يظهر في الجدول التالي12:

يتبيَّن من الجدول المذكور، الذي يضيء على ثروة الأوقاف وأماكنها، أنّ بلدة البنّيه هي الأولى بعدد عقارات الأوقاف وبمساحاتها، تليها بالعدد والمساحة بلدة عبيه، وتليهما بالمساحة بلدة كفرمتى فبلدة بعورته، والسبب عائد إلى أنَّ الأملاك التي أوقفها الأمير السيد (ق)، المعروفة بالوقف التنوخي، والأملاك التي أوقفها الشيخ أحمد أمين الدين، والمعروفة بوقف المدرسة الداودية، موجودة بأكثريّتها الساحقة في البلدات المذكورة، كما سيتبيَّن لنا من خلال الحديث عن ثروة الأوقاف أنّ ثروة عقارات بيروت هي الأكبر.

ثروة الأوقاف
إن ثروة الأوقاف تختلف من زمن إلى آخر باختلاف الأسعار، واختلاف طرق الاستثمار، وهي لا تتعلَّق بأعداد العقارات وبمساحاتها بقدر ما تتعلَّق بمواقعها، وبمشتملاتها وخصوصاً الأبنية، وبإيرادات إيجارها واستثمارها التي تختلف بين عقود قديمة وعقود جديدة، وبين عقود قصيرة الأمد وعقود طويلة الأمد، كما تتعلَّق بنوع الاستثمار فيها وبوجوهه التي تختلف من سكنية إلى تجارية إلى صناعية إلى زراعية، فريع الأوقاف التي كانت تُستثمر في الزراعة سابقاً هو أفضل بكثير من استثمارها في هذا القطاع حاليّاً، وهي –أي ثروة الأوقاف- تتعلَّق أخيراً بضبط الموارد وعدم التطاول عليها.
جاء في دراسة عن أوقاف المدرسة الداودية، بناءً على دفاتر المحاسبة بين سنتَي 1873 و1889 “أنه يتبيَّن أنّ الأموال الأميرية المدفوعة عن أملاك هذه الأوقاف، كانت قيمتها من حيث المساحة الإنتاجية التقديرية تقارب دراهم أراضي وأملاك البطريركية المارونية خلال فترة عهد المتصرفية والبالغة حوالي 209 دراهم و17 قيراطاً وحبتين، وقد فاقتها في سنة 1880 بحوالي 10 دراهم و16 قيراطاً و8 حبَّات، فوصلت –أي دراهم إنتاج الأراضي الزراعية والمغالق التابعة لأوقاف المدرسة الداودية- إلى 220 درهماً و9 قراريط و10 حبَّات”13.
كان هذا التقدير في زمن انتعاش المدرسة الداودية، وفي زمن استغلال الأوقاف المخصَّصة لها في وجوه الزراعة، وفي زمن كانت فيه المغالق تدرُّ الأرباح، وقد تغيَّر هذا الوضع مع ضعف مردود القطاع الزراعي منذ عهد الانتداب، وانتعاش القطاعين: الصناعي والتجاري، ومع نزوح السكان من الأرياف إلى المدن واشتداد الهجرة إلى الخارج.
ظهر الدروز منذ أواخر القرن التاسع عشر أقل وقفاً من مُساكنيهم المسيحيين في جبل لبنان. فقد كانت أوقاف المسيحيين 25% من مساحة الجبل في أوائل الربع الأوَّل من القرن العشرين14، وبلغت نسبة أوقافهم 26% من مساحة لبنان. فأين هي مساحة أوقاف الدروز من المساحة المذكورة، وممَّ كانوا يملكون؟ إنها لا تبلغ مساحة أوقاف بضعة أديرة من أديرة الرهبانيات المارونية التي بلغت في أواسط القرن التاسع عشر 80 ديراً تمتلك في الفترة نفسها ربع مساحة جبل لبنان بحسب تقدير مبالغ فيه بعض الشيء فيما كانت لا تمتلك شيئاً عند تأسيسها في سنة 1700 15، مع العلم أن نشأة الأوقاف الدرزية تعود إلى ما قبل ذلك بكثير.
وإذا انتقلنا من الزمن الذي غابت فيه الإحصاءات الدقيقة والشاملة لعقارات الأوقاف والبيانات الصحيحة عن المداخيل والمصاريف، وصعُب فيه تقدير الثروة الواقعية والريع الحقيقي، إلى زمننا اليوم حيث أظهر الإحصاء الدقيق الذي أجرته لجنة الأوقاف مؤخَّراً عدد العقارات، وأظهرت البيانات المالية ريع الأوقاف، تتبيَّن لنا ثروة الأوقاف الحقيقية والواقعية، كما يتبيَّن لنا أن الدروز حاليًّا هم أيًًا أقلُّ الطوائف الدينية الرئيسة في ملكيّة الأوقاف وأقلُّها استفادةً منها.
إن عدد أوقاف القرى والعائلات والمقامات والمزارات والخلوات والمجالس هو 796 عقاراً، إيراداتها_ باستثناء القليل منها كالمقامات الشهيرة ومنها مقام النبي أيوب مثلاً_ هي إمَّا معدومة، وإمَّا قليلة بالنسبة إلى مساحتها، إذ من العقارات ما هو مدفن عام، أو خلوة، أو مجلس، أو بناء صغير جدّاً، أو بيت خرب، أو بركة ماء جمع، أو شجرة جوز، أو شجرة زيتون، أو شجرة تين، أو بضعة أغراس من الكرمة، إضافة إلى أن هذه العقارات موجودة في المناطق الجبلية، ومستثمرة في الزراعة، أو هي أراضٍ بُور وسليخ كالعقارات الثلاثة الموجودة في بلدة المتين، والتي هي أكبر عقارات أوقاف القرى، وأكبرها مساحته 55080 متراً مربَّعاً وهو مستَغلٌّ في الزراعة، وثانيها مساحته 53280 متراً مربَّعاً وهو أرض سليخ وبُور، وثالثها مساحته 44680 متراً مربَّعاً، وهو مستغَلٌّ في الزراعة.

عقارات بيروت
إن ثروة الأوقاف، المعوَّل عليها، هي الثروة الكامنة حاليّاً في الأوقاف المستثمرة أو التي معظمها قابل للاستثمار في الوجوه السكنيّة والتجاريّة. وتأتي عقارات مدينة بيروت القليلة العدد والصغيرة المساحة، في المرتبة الأولى ثمناً واستثماراً، وأوّلها العقار الرقم 2046 المعروف حالياً بدار الطائفة الدرزية، إذ تبلغ مساحته 36426 متراً مربَّعاً، وهو يقوم في وسط المدينة، وعلى تخوم منطقة فردان المصنَّفة حاليًّا أفضل المناطق التجارية في لبنان. إنَّ جزءاً صغيراً من هذا العقار أفضل في الوقت الحاضر وأجدى –من حيث الريع_من عقارٍ في كفرمتَّى مساحته 170000 متر مربَّع، هو قطعة أرض سليخ مشجَّرة صنوبراً وأشجاراً برِّيَّة، ضمنها أتونان، ومردودها السنوي الذي هو خمسة ملايين ليرة أقلُّ بكثير من إيجار شهر لمحلٍّ من محالّ العقار الرقم 2046، الواقعة على الشارع العامّ في الاستثمار الجديد.
وإن مجمل الإيرادات المتوقَّعة في ميزانيّة أملاك أوقاف بلدة البنَّيه، التي هي أكبر العقارات المستثمرة (729396 متراً مربَّعاً تقريباً) “تقارب خمسة وستين مليون ليرة سنويّاً”16 وهذا المبلغ يوازي فقط جزءاً قليلاً لا يُذكر من إيراد العقار الرقم 2046 المارّ ذكره بعد تطويره.
لم يبقَ من إيرادات الأوقاف المتواضعة، الواردة في جداول لجنة الأوقاف حتى سنة 2015، سوى نصف مليار ليرة هي مال احتياط غير تشغيلي، مودع في المصارف كأمانة. وبناءً على ذلك، وعلى ما ورد ذكره سابقاً، تظهر ثروة الأوقاف مختلفةً عن صورتها المزعومة عن جهلٍ أو عن تغرّض ضد متسلّميها، أو صورتها البرَّاقة المرسومة في أذهان الموحِّدين (الدروز) التي تظهرها غنيَّة.

المدينة أو البلدة عدد العقارات مساحة العقارات
(بالمتر المربع)

مساحة العقارات
(بالمتر المربع)
عدد العقارات المدينة أو البلدة
41657  11 بيروت
 53787 42 عاليه
 26936 14 الشويفات
 223535  14 بعورته
 363695  62 عبيه
348880 26 كفرمتى
 729396  164 البنّيه
230  1 عيناب
 78351 23 العبادية
222219 19 حاصبيّا
34896  1 راشيا الوادي
 2123582 مترا مربَّعًا 377 عقارًا المجموع

الواقع
مرَّت أوقاف الموحِّدين (الدروز) في مراحل جرَى التقيُّد خلالها بشروط الواقف من حيث التَّوليَة ووجوه الانتفاع، وبالأعراف والتقاليد، وقُيِّض لها مَن أَحسَن الإشراف عليها، وضبَط وارداتها وثمَّرَها، وحافظ على عينها، ومنع التعدِّي عليها، وحصَّل حقوقها. ومقابل ذلك مرَّت منذ القرن التاسع عشر في مراحل عدّة من الفوضى والتسيُّب والإهمال، مما أدَّى إلى هدْر ريعها والتطاول عليها وضياع فرص استثمارها وتحقيق الفوائد المرجوَّة منها، وكانت غالبًا في عهدة مسؤولين ضعفاء لم يستطيعوا الحفاظ عليها وضبْط وارداتها، أو مسؤولين أدخلوها في إطار المحسوبيّات والمحاصصات، أو مسؤولين غير محصَّنين في غياب الرقابة والمحاسبة فغلبت عندهم الأطماع والمصالح الشخصية على المصالح العامَّة، وتعدَّوا على عين الوقف وريعه، وضربوا بعُرض الحائط ما له من قداسة.
ودخلت الأوقاف منذ سنة 1962 مرحلة التنظيم القانوني، وآخرها قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز، الصادر في سنة 2006، وجرى إحصاؤها، وتسلَّم أكثرها، ووُضعت بإدارة لجنة الأوقاف وتحت إشراف المجلس المذهبي الذي يرأسه شيخ العقل، والذي يضمُّ قادة الدروز. لذا يمكن القول إنها دخلت مرحلة التنظيم المؤسَّساتي، ومرحلة الضمانة الأكيدة والموثوقة، التي يؤمّل فيها حُسن الإشراف وحسن الاستغلال، ومرحلة إيجاد الثقة الكاملة، وتوطيدها بين المسؤولين عن الأوقاف وجمهور الموحِّدين الدروز، بحيث تنتهي الإشكاليات والشكوك والشكاوى التي لطالما كثرت حول الأوقاف، وخصوصاً أنّ قانون 2006، وبعكس القوانين السابقة التي تناولت شؤون الموحِّدين (الدروز)، منَع بيع أو شراء أو رهن جميع أو بعض الأوقاف، وأخضَع الاستبدال والإيجار والاستثمار لموافقة المجلس المذهبي، وبشروط معيَّنة. وقد شاء واضِعُو قانون 2006 ذلك ليدحضوا اتهامات معارضيهم، وليزيلوا الشكوك، وليطمئنوا جميع الدروز إلى وضع أوقافهم من سنة 2006 وصاعداً.
جاء في رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز الشيخ نعيم حسن، الواردة في أوَّل كتاب “أوقاف الموحِّدين الدروز. واقع وحقيقة 2015” الصادر عن لجنة الأوقاف برئاسة القاضي عباس الحلبي ما يلي: “نحن بدورنا نستطلع المؤشِّرات التي يمكن استخلاصها بعد مراجعة مضامين الكتاب لنقف بموضوعيّة وواقعيَّة على مآلات هذا المسار، أعني تقييم القدر الصحيح لقدرتنا على التأسيس القانوني السليم لكل نشاط وقفي بهدف العبور من مرحلة “المشاع” المجهول إلى مرحلة البناء في ضوء النهار التي من شأنها إدخال كل ما هو موقوف لدى الطائفة للخير العامّ إلى حيِّز الإنتاجيّة الكبرى التي تعود ثمارها بالنفع على كل مستحقٍّ وفق الأصول”.

المرتجى
لقد أظهرَت الإحصاءات بأرقامها الدقيقة أنَّ الأمر لا يتعلَّق فقط بريع الأوقاف، ولا بتحسينه من خلال حسن إدارتها وتثميرها، بل يتعلَّق أيضاً بحجم عينها ونوعها، وبعدد عقاراتها ومواقعها، وهذا ما يضع الدروز أمام التحدِّيَين التاليَيْن: زيادة العين وزيادة الريع. لقد استغلَّ الدروز مجموعةً من الأوقاف الخيريّة العامّة هي جزء قليل مما كانوا يملكون، فما هو المرتجى منهم في ظلِّ واقعهم وواقع الأوقاف اليوم؟ وهل يستطيعون زيادة عينها من القليل الذي بقي لهم بعد أن فرَّطُوا بالممتلكات الكثيرة ساحلاً وجبلاً، وغَدَوا أقلَّ الطوائف الدينية الرئيسة وقْفاً، وبعد أن تجزَّأ ما تبقى من ملكيات مقاطعجيهم الكبيرة عبر الأجيال المتعاقبة؟! ومما لا شك فيه أنه يبقى هناك مجال لزيادة ملكيات الأوقاف، ومجال أوسع في تقديم الخدمات التي تقوم بها ، وفي التخفيف عن كاهلها بعض الأعباء.
من الأمثلة البارزة على المساهمة في زيادة عين الأوقاف تبرُّع الزعيم وليد جنبلاط بمبلغ ثمانمائة ألف دولار أميركي، وجمعية التضامن الخيري الدرزي في بيروت بمبلغ مائتي ألف دولار، للمساهمة مع المجلس المذهبي في شراء العقار الرقم (18) في منطقة “المصيطبة” لإنشاء المركز المخصَّص لإقامة الطالبات الجامعيَّات الدرزيّات، كذلك تبرع وليد بك جنبلاط بأرض في مدينة الشويفات أنشأت عليها “جمعية الغد للتنمية والإسكان” المنبثقة عن المجلس المذهبي أربعة أبنية سكنية تحتوي على أربع وستين شقة سكنية وبدأت عملية تسويق وحداتها بطريقة التقسيط. ومن الأمثلة البارزة على المساهمة في تحسين وصيانة أبنية الأوقاف ما قام به السيد عدنان سليم الحلبي من إنجاز أعمال إعادة تأهيل وتجهيز مقام الأمير السيد عبد الله (ق)، وما قام به بعض أصحاب الأريحية بمبادرة من رئيس اللجنة الاغترابية في المجلس المذهبي الشيخ كميل سري الدين من إعادة تأهيل قاعات وغرف مبنى دار الطائفة الدرزية، وما يقوم به مجلس أمناء مجلة “الضحى” التي تصدر عن المجلس المذهبي، حيث يقوم منذ ست سنوات بتمويل إصدارها.

1.دار-الطائفة-في-فردان-أحد-أهم-إنجازات-الشيخ-محمد-أبو-شقرا
1.دار-الطائفة-في-فردان-أحد-أهم-إنجازات-الشيخ-محمد-أبو-شقرا

إنَّ ما يمكن أن يقوم به أغنياء الدروز في ما يتعلَّق بالأوقاف هو وقف عقار أو أكثر من العقارات الكثيرة التي يمتلكونها لتُوضع في سبيل الخير العامّ، أسوةً بالواقفين الأقدمين الذين درَّت ممتلكاتهم الموقوفة المنافع العامّة خلال عقود عديدة، ولا تزال تدرُّ هذه المنافع حتى اليوم.
كما إنَّ ما يمكن أن يقوم به أغنياء الدروز أيضًا هو المساهمة في الوقف المالي كبديلٍ عن الوقف العيْني، وذلك بالتبرُّع لمصلحة الأوقاف، أو بتزكية أموالهم من خلال دفع نسبة معيَّنة منها إلى أيّ صندوق مالي يقدِّم الخدمات من ريع أمواله لا من أصولها، كالصندوق الذي تأسَّس منذ بضع سنوات من قبل مجموعة من رجال الأعمال والمتبرعين الدروز تحت اسم “شبكة الأمان” والذي يُرجى دعمه وتفعيله لتزيد أمواله وتزيد خدماته.

الهوامش

1. سليم حريز: الوقف، دراسات وأبحاث، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1994، ص7.
2. صبحي المحمصاني: مقدمة كتاب عبد الرحمن الحوت: الأوقاف الإسلامية في لبنان، ص9.
3. للمزيد من المعلومات عن الولاية على الوقف وشروطها، انظر: سليم حريز: الوقف .. ص131- 148.
4. نصُّ وقفيّة الأمير السيد (ق).
5. انظر عن هذه الوقفيّة: مقالتنا في مجلة “الضحى” بعنوان: آل حمدان في تاريخ جبل لبنان، العدد 17، ص13- 14.
6. انظر نصّ الوقفيَّة والتصديق عليها: فرحان العريضي: مناقب الأعيان، الجزء الثاني، ص354- 377.
7. مقالة عارف النكدي بعنوان “من أين للأوقاف هذا؟” منشورة في مجلة “الضحى” عدد تشرين الثاني 1959، ص275 (هامش رقم 2).
8. البيان الثلاثون (سنة 1961) نشره عارف النكدي في مجلة “الضحى” عدد كانون الأول 1961، ص371- 372.
9. إدوار روبنصون: يوميات في لبنان، ترجمة أسد شيخاني، منشورات وزارة التربية في لبنان 1949، الجزء الأول، ص242.
10. للمزيد من المعلومات عن خلوات البيَّاضة انظر غالب سليقة: تاريخ حاصبيَّا وما إليها، طبعة 1996، ص252- 262.
11. رسالة الشيخ محمد أبو شقرا والشيخ محمد عبد الصمد.
12. استنتجنا الجدول من كتاب “أوقاف الموحِّدين الدروز 2015”، ص58- 79. وهو كتاب أصدره المجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين الدروز. لجنة الأوقاف.
13. سليمان تقي الدين وآخرون: دراسات في تاريخ الشوف … ص427.
14. محمد كرد علي: خطط الشام، دار العلم للملايين، بيروت 1969، المجلد الخامس، ص100.
15. إيليا حريق: التحوُّل السياسي في تاريخ لبنان الحديث، الأهليّة للنشر والتوزيع، بيروت 1982، ص87- 88.
16. أوقاف الموحِّدين الدروز 2015، مرجع مذكور سابقًا، ص16.

فارس الخوري

فارس بك الخوري

فارس الاستقلال والعروبة والوحدة الوطنية

ابن الكفير المسيحي رأس الحكومة السورية
وأحبه المسلمون لدرجة تعيينه وزيراً للأوقاف

إحتجت فرنسا بحماية المسيحيين لإدامة احتلالها لسوريا
فهرع مع رفاق إلى الجامع الأموي معلناً نحن مسلمون فاذهبوا عنا

فارس بك الخوري أشهر شخصية مسيحية في التاريخ العربي المعاصر وأكثر زعيم سوري شعبية، وطنيٌّ صلب جعل من وقفاته التاريخية حديثاً للصغير والكبير ومادة دسمة لكاتبي التاريخ السوري والعربي. اشتهر بشخصيته المحببة وحس الطرفة وسرعة الخاطر بحيث تسابقت أرقى البرلمانات والصالونات السياسية والأدبية على استضافته والتمتع بحضوره وطيب مجالسته. قليل من أبناء جيلنا المعاصر تعرفوا على هذا العملاق العربي وعلى حياته الحافلة بالنضالات والمواقف المجيدة. لذلك، ومن أجل التعريف بهذه الشخصية الكبيرة وأحد مؤسسي تاريخنا المضيء نعرض في ما يلي لسيرة حياة فارس بك الخوري على أن ننتقل في الأعداد التالية من “الضحى” للإضاءة على شخصيات تاريخية لبنانية وعربية تركت بصماتها على تاريخ المنطقة وعلى مسارها في الماضي والحاضر.

فارس الخوري: حياة حافلة

• في عام 1908 انتسب لجمعية الاتحاد والترقي، أول التزام له بالسياسة.
• في 1914 عيّن نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني.
• في سنة 1916 سجنه جمال باشا بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، ثم برّئ ونفي إلى اسطنبول.
• في 1919، عاد إلى دمشق بعد انفصال سوريا عن الحكم العثماني.
• عيّن عضواً في مجلس الشورى الذي أسسه الشريف فيصل وتولى وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت خلال عهد الملك.
• أسس معهد الحقوق العربي، وكان أحد أساتذته وشارك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق.
• مع بداية الانتداب الفرنسي على سوريا في 1920، انتقل الخوري للعمل كمحام ومدرس في معهد الحقوق.
• أسس مع عبد الرحمن الشهبندر حزب الشعب رداً على تعسف السلطة الفرنسية.
• اعتقل في 1925 مع قيام الثورة الكبرى، ونفي إلى معتقل جزيرة أرواد، ثم نفي إلى خارج سوريا.
• شارك في تأسيس الكتلة الوطنية التي قادت حركة المطالبة بإنهاء الانتداب واستقلال سوريا
• في عام 1936، بعد الإضراب الستيني الذي عمّ البلاد، شارك كنائب لرئيس الوفد الذي فاوض باريس لإنهاء الانتداب.
• انتخب رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936، ومرة ثانية في 1943.
• تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري، وهو المسيحي البروتستانتي، فكان لذلك صدى عميق داخل سوريا وخارجها.
• عين وزيراً للمعارف والداخلية في 1944.
• تولى وزارة الأوقاف الإسلامية، وحين اعترض البعض، دافعت عنه الكتلة الإسلامية في المجلس، إذ قالت على لسان نائبها عبد الحميد الطباع: “إننا نؤمِّنك فارس الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا”.
• ترأس الخوري الوفد السوري بإسم سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة، لبحث جلاء الفرنسيين.
• مثّل سوريا في مجلس الأمن الدولي (1947 – 1948)، ثم انتخب رئيساً له في آب 1947، وكان أول ممثل دائم لسورية في الأمم المتحدة.
• عام 1962 توفاه الله ودفن في دمشق.

فارس بك الخوري من الرجال الذين لا يجود التاريخ بمثلهم إلا نادراً شغل الناس وملأ الدنيا بمواقفه ونضالاته ومبادراته فهو شخص لم يسكت على ظلم ولم يهدأ له بال منذ شبابه وهو يعمل من أجل استقلال سوريا والعرب ومن أجل الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة، شرّع كقانوني لامع الكثير من القوانين والقرارات لكلّ من دولتي لبنان وسوريا ، واقتبست تلك في العديد من البلدان العربية والأفريقية.
ولد في الكفير، إحدى قرى وادي التيم في لبنان عام 1873، وتعلّم في المدرسة الإنجيلية في صيدا. سأله يوماً مديرها القسيس يواكيم الرّاسي والد الأديب سلام الراسي: يا فارس إذا جمعنا 5+3+2 كم يكون المجموع؟ وكان في الثانية عشرة من عمره فأجاب على الفور: ليس عشرة بل حسب ما تقتضي الأمور. ضحك المدير وقال: استبشروا به سياسياً كبيراً.

مفاوض الاستقلال السوري
بدأ حياته السياسية في العام 1914 عندما عيّنته السلطات العثمانية مندوباً عن دمشق في مجلس المبعوثان وتقلّب في مناصب عديدة (راجع الإطار) لكن أبرز المهام التي تسلمها كانت رئاسة مجلس النواب السوري ثم رئاسة الحكومة السورية ثم تمثيله لسوريا في مجلس الأمن وتولّيه المفاوضات التي انتهت بنيلها الاستقلال، وفي تلك الفترة انتخب عام 1947 رئيساً لمجلس الأمن ثم عين في العام 1954 رئيساً للوزارة السورية للمرة الثانية.
بعد أن أصبح نائباً في مجلس المبعوثان التركي عام 1914 عن مسيحيي سوريا كانت له صولات وجولات، ومن مواقفه المشهودة أن أحد المسؤولين الأتراك (من الذين كانوا تحت تأثير الأفكار العلمانية التي راجت في تركيا بتشجيع من الحركة الماسونية عمل بعد عودته من أوروبا، على إصدار قانون مخالف لجوهر الأحكام الشرعية الإسلامية، فقامـــت المظاهــــرات والاحتجاجات أمام البرلمان، لهذا تشــكلت لجنة من النواب يرأســها نائب دمشق محمد فوزي العظم ومقرّرها فارس بك الخوري لتصحيح الخطأ، وأثناء إحدى الجلسات بهذا الشأن وقف الأخير وتكلّم لأكثر من ساعة وباللّغة التركية ذاتها، إذ تمكّن خلال شهر واحد من إتقانها، وبعد الانتهاء من تجريح القانون وتبيان مخالفته مع الشرع الإسلامي هرع نحوه النائب الشيخ أحمد أفندي التركي فخلع عن رأسه العمامة ووضعها فوق رأسه قائلاً بالتركية: “هذه العمامة تليق بكم أكثر ما تليق بممثلي هذه الأمة من الطوائف الإسلامية”.
بعد ذلك، لمع إسم فارس بك الخوري في القانون العام، كعلم من أعلامه ووزيراً للعدل، واستاذاً للقانون في الجامعة السورية، وعندما برزت قضية لواء الإسكندرون في الثلاثينيات من القرن الماضي، وما اتخذ من إجراءات من قبل السلطة الفرنسية والتركية ثم كان ضمّها إلى الأخيرة ، كما حصل في ما بعد، أثناء ذلك قدم بحثاً تاريخياً في البرلمان السوري ونُشر عبر الصحف آنذاك مفنداً لما لهذا اللواء من أهمية إذ إنه من قلب الأراضي السورية كون أبناءه وقاطنيه عرباً يرتبطون بجيرانهم في حلب وسواها بصلة القربى والنسب، وكذلك ما للكرسي الرسولي الأنطاكي من مكانةٍ ورمزٍ عند جميع الطوائف المسيحية العربية، ومع هذا صمّت فرنسا آذانها عن الحقيقة ومضت في سلخ المقاطعة الساحلية المهمة لتجارة سوريا وموقعها الاستراتيجي وضمّتها إلى تركيا الأتاتوركية.

الجنرال--هنري-غورو
الجنرال–هنري-غورو

ردّ قاس على الجنرال غورو
بعد انتصار الجنرال غورو الفرنسي عام 1920 بجيشه الجرار على البطل السوري يوسف العظمة وزير دفاع الحكومة العربية في حينه واستشهاده في تلك المعركة، كان الوزير الأول والأخير الذي يستشهد في ساحات المعارك، مع العلم أنه لم يكن عربياً بل كردياً، وقد مثّل بعمله هذا دور جدّه الأول السلطان صلاح الدين. وبعد تقدم الجنرال المذكور غورو، وحيال وصوله إلى دمشق، وقف أمام قبر البطل صلاح الدين وخاطبه بصلف وغرور (مذكراً بالحملات الصليبية) قائلاً: “ها قد عدنا من جديد يا صلاح الدين”، ثم دعا وجهاء دمشق ومن بقي من حكومة الملك فيصل إلى وليمة عشاء في قصر المهاجرين ليقف بعد العشاء قائلاً ومتهكماً: “هذا هو قصر مليككم”.
سكت الجميع ولم يتجرأ أحد على الإجابة، غير إن الوزير آنذاك في حكومة الملك فيصل فارس الخوري وقف وأجاب قائلاً: “نعم، هذا هو قصر مليكنا فيصل وقد بناه سابقاً أحد الولاة الأتراك ويُدعى أسعد العظم ثم تركه وعاد إلى بلاده، ثم أتى بعده السّفاح جمال باشا وأيضاً سكنه ثم تركه وعاد إلى بلاده، وكذلك الجنرال اللّنبي الإنكليزي سكنه أيضاً ثم تركه وعاد إلى بلاده، وأيضاً أنتم تسكنونه حالياً وسيأتي وقت وستتركونه وتعودون إلى بلادكم، فالقصر باقٍ وأهله باقون” .
إعتقد الجميع بأن الوزير فارس الخوري سيكون مصيره السجن، غير إن المستعمر الذي صدم بهذه الجرأة من مواطن سوري مسيحي لم يجد أيّ مبرر قانوني لسجنه وهكذا بقي طليقاً …
عام 1945 كان من جملة الوفد السوري لتأسيس الجامعة العربية، ويوماً رغب أن يستبدل طربوشه القديم بطربوش جديد، وبعد أن جال نحو ساعتين في شوارع القاهرة بحثاً عن طربوش يناسب قياس رأسه الكبير، حتى عثر في أحد المحال، غير إن صاحب المحل بعد أن علم أنه جال على جميع المحال لهذا طلب ثمنه أضعاف سعره الحقيقي قائلاً: لم تجد ما يناسب قياس رأسكم سوى في دكّاني. ضحك الرئيس الخوري على الفور وقال: صحيح ذلك لكن ثق أنكم لو فتشتم العالم العربي بأكمله وليس في مصر فقط فلن تجدوا رأساً أكبر من هذا الرأس..
إبان التفاوض مع الدولة المستعمرة فرنسا كي تمنح الإستقلال للدول العربية أخذت الأخيرة تتذرع بحجج واهية ومنها أنها لا تغادر سوريا خوفاً على المسيحيين من أخوتهم المسلمين، مما حمل الرئيس الخوري إلى أن يجمع نحو عشرين رجل دين مسيحي مع جمهرة من أتباعهم ويذهب بهم إلى بهو الجامع الأموي، وكان نهار جمعة يغصّ بالمصلين، وأمام أعين وسائل الإعلام والسفراء الأجانب وقف وقال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فإذا كانت فرنسا خائفة على المسيحيين من أخوتهم المسلمين فنحن منذ الآن وصاعداً أصبحنا مسلمين، وما عليها سوى أن تتركنا وشأننا”.

رئيساً لمجلس الأمن
عام 1946 أرسل مندوباً للحكومة السورية إلى الأمم المتحدة في نيويورك للتفاوض بشأن جلاء الجيوش الفرنسية عن الأراضي السورية..أثناء تلك المفاوضات وصل فارس الخوري إلى قاعة المجلس فوجد كرسي الرئاسة خالية فجلس قصداً، وكان رئيس المجلس آنذاك المندوب الفرنسي، وبعد أن وصل الأخير استشاط غضباً وقال: حقاً إنها وقاحة، كيف تجلسون على مقعدي وأنتم تعلمون ذلك؟؟
ضحك المندوب السوري فارس الخوري وقال: لم تسلني كم أصبح لي جالسٌ على هذه الكرسي، إذ ليس أكثر من عشر دقائق، استكثرتم ذلك ولم يتبادر إلى ذهنكم أنكم تجلسون على صدورنا لأكثر من عشرين عاماً..
عام 1947 انتخب رئيساً لمجلس الأمن في نيويورك إبان الحرب العربية الإسرائيلية، ويوماً أتاه أحد الزعماء العرب آنذاك قائلا:ً “يا حضرة الرئيس ما رأيكم بالهدنة التي تطلبها إسرائيل مع الجيوش العربية التي تقاتلها“؟؟
انتفض فارس بك الخوري قائلاً: لا، لا، لا، ثلاث مرات… أيها العرب لا توقفوا القتال مطلقاً فهذه خدعة حربية كي تجمع قواها العصابات الإسرائيلية وتستقدم سلاحاً جديداً.. وهكذا حصل في ما بعد.

فارس بك الحور مترئسا لمجلس الأمن في كانون الأول 1947
فارس بك الحور مترئسا لمجلس الأمن في كانون الأول 1947

 

صورة عن رسالة مرسلة من فارس بك الخوري إلى الشيخ علي حسين شجاع والشيخ عباس نعمان قيس
صورة عن رسالة مرسلة من فارس بك الخوري إلى الشيخ علي حسين شجاع والشيخ عباس نعمان قيس

 

 

 

 

 

 

حذر من خطط إسرائيل لتمزيق المنطقة
ويوماً يلتقي الأديب السوري الكبير محمود الجابري بالرئيس الإسرائيلي دافيد بن غوريون في أوروبا فخاطبه قائلاً: لنفترض أنكم حققتم حلمكم بقيام دولة إسرائيل، فهل باستطاعتكم إبقاءها حية بين محيط عربي هائل يكرهكم ويعتبركم جسماً دخيلاً؟
أجابه: في أيدينا سلاح سنستعمله وهو كفيل ببقائنا.
وقد أعاد الجابري الحديث أمام فارس الخوري مستفسراً عن ما يعنيه بن غوريون بـ “السلاح” الذي سيضمن بقاء إسرائيل وربما ظن أن أول رئيس حكومة للكيان الصهيوني كان يلمح إلى سلاح حربي متفوق، لكن فارس الخوري أجابه على الفور: “إنه سلاح التفرقة يا أخي وعلى مبدأ فرّق تسُد كما هو الحال اليوم بعد أن تشرذم العرب فرقاً وآحاداً ولم يبق أحد يفكر بالقضية عملياً وليس ادعاء ونفاقاً”.
كان فارس بك الخوري على صداقة متينة مع المناضل العربي الكبير الأمير شكيب أرسلان حيث كان للأخير دور كبير في الإفراج عنه وعن رفاقه الأبطال بعد اعتقالهم من قبل السلطات الفرنسية وسجنهم في جزيرة أرواد عام 1932، وبقي إلى آخر لحظة في حياته يقول إن الأمير شكيب أرسلان أقرب الناس إلى قلبه، وتؤكد ذلك حفيدته الأديبة الكبيرة كوليت خوري قائلة إنه كان يسافر إلى جنيف لرؤية الأمير شكيب وقضاء بعض الوقت معه.
وأيضاً صداقته مع الوجيه الكبير سليم بك نوفل ممثل الدروز عن وادي التيم في دمشق إبان الحكم العثماني، وكان لهذا التعاون أن أبعد شبح الدمار والحريق لبلدة الكفير عام 1925. وأيضاً وأيضاً صداقته مع مشايخ البياضة، وهذه رسالة وجدتها عند الشيخ غالب قيس تؤكد صحة ذلك وهي مرفقة مع هذا المقال.
في النهاية لا يسعنا في هذا البحث الجليل إلا أن نشير إلى قول للأديب الكبير ظافر القاسم إذ يقول: “ إن فارس الخوري وليد القرون ولم يكن يشبهه أحد وقد تخطى قروناً، ولا يرزق العالم العربي بمن يماثله حقاً .. إنه كان رجلاً بدولة ودولة برجل”.

دور الدروز في نشوء الكيان اللبناني

عبدُ الرّحيم أبو حسين ينسف الرّواية التقليدية لتاريخ لبنان

التّمرّدُ الدّرْزيُّ على العثمانيّين ودورُه في ظهور الفكرة اللّبنانيّة

يُعتَبر البروفسور عبد الرحيم أبو حسين من المؤرّخين اللّامعين الذين تابعوا مدرسة المرحوم كمال الصّليبي في نقد التّاريخ اللّبنانيّ وأعمال المؤرّخين اللّبنانيين ولاسيّما الموارنة الذين أخذوا ومنذ عهد البطريرك أسطفان الدّويهي ترتيب وقائع التّاريخ اللّبنانيّ بالصّورة الأنسب لخدمة مصالح المشروع السياسيّ المسيحيّ، وقد درس أبو حسين على يد الصّليبي وعمل معه لسنوات وهو مثل الصّليبيّ لجأ بصورة وافية إلى الأرشيف العثمانيّ والوثائق العثمانيّة بهدف تحقيق الوقائع المزعومة والرّوايات المساعدة بالتّالي على التّمييز في التأريخ للبنان بين الحقائق التّاريخيّة وبين الخيال أو الأساطير.
وكان كمال الصّليبيّ أحد أبرز المؤرّخين الذين تفرّغوا للتّدقيق في الرّواية المارونيّة لتاريخ لبنان وقد أوصله عمله المستمرّ وتنقيبه في الوثائق العثمانيّة والأوروبيّة إلى كشف النّقاب عن حجم الهوى والإنتقائيّة المُغرِضة في أسلوب تناول معظم المؤرّخين الموارنة لتاريخ لبنان، وعرض الصّليبيّ نقده للكتابة المتحيّزة للتّاريخ اللّبنانيّ في كتابه الشهير “بيت بمنازل كثيرة” وأحدث الكتاب صدمة حقيقيّة لدى أولئك الذين اعتادوا على الرّواية المركّبة لتاريخ لبنان دون سؤال أو فحص نقديّ، لكنه كما يبدو ساعد كثيراً في إعادة النّظر في الكثير من المَقولات والمسلّمات التاريخيّة وزعزعة صدقيّة الرّواية العامّة التي هيمنت على كتابة التاريخ في لبنان أو تدريسه في المدارس والمعاهد أو تعميمه في الكتب والرّوايات والإعلام.
في هذه الورقة التي أعدّها البروفسور عبد الرحيم أبو حسين حول الموضوع نفسه (أي تمحيص الرّواية المارونية لتاريخ لبنان) ما يمكن أن يصدم أيضاً بسبب المراجعة الجذريّة التي يقوم بها لفترة أساسيّة من تاريخ لبنان وكذلك بسبب الاستنتاجات التي يقدمّها نتيجة أبحاثه الطّويلة (المستندة بجزء مهم منها إلى الأرشيف العثمانيّ) حول مواضيع حسّاسة مثل العوامل التي أدّت إلى بروز فكرة “الكيان اللّبناني” والتقيّيم الواقعيّ لمسيرة الأمير فخر الدّين الثّاني بعيداً عن الفولكلور اللبنانيّ والرّوايات المُتخيَّلة، لكن أحد أبرز المواضيع التي تهمّنا في هذا البحث هو التوثيق غير المسبوق لتاريخ العلاقة الصّعبة بين الدروز وبين الدولة العثمانية ودور ما يسميه المؤلّف “التمرّد الدرزيّ الطّويل” في المخاض العسير والطّويل الذي قاد أخيراً وفي الظّروف التي تلت إنهيار الدولة العثمانية في العام 1918 إلى بروز فكرة الكيان السياسيّ اللبنانيّ.

المسألة الأساسية التي يتناولها البروفسور عبد الرحيم أبو حسين في ورقته 1 المهمّة هي أنّ الفكرة اللبنانية كانت النتيجة غير المباشرة لما يسمّيه “التمرُّد الدّرزيّ الطّويل” الذي استمرّ ما يقارب القرنين وبدأ بعد قليل من فتح العثمانيّين لبلاد الشام واستمرّ حتى نهاية الحكم المعنيّ ومجيء الشّهابيين السنّة إلى سدّة حكم الجبل. ويقدّم أبو حسين البراهين القويّة، بالاستناد إلى الوثائق العثمانية، على أنّه وعلى عكس الفكرة التي رُسمت عن علاقة وثيقة بين الدّروز والسّلطنة العثمانيّة فإن الدّروز دخلوا ومنذ العهود المبكّرة للحكم العثماني لبلاد الشام في نزاعات متواصلة مع السّلطنة، وأنّهم كانوا لفترة طويلة في نظر العثمانييّن قوّة التمرّد الأكثر خطورة على وجودهم في ما كان يعرف إداريّاً بإسم سنجق صيدا-بيروت والذي كان يضم الشّريط السّاحلي الممتدّ بطول ستين كيلو متراً تقريباً، من خليج المعاملتين شمال مدينة جونية إلى وادي الزّهراني جنوب صيدا، ويشتمل على النّواحي الجبليّة المتاخمة للسّاحل وهي نواحي إقليم الخرّوب والشّوف والغرب والجرد والمتن وكسروان.
يوضح البروفسور أبوحسين في مقدمة بحثه أنه عمل خلال تاريخ عمله الأكاديميّ لأكثر من ثلاثين سنة على جوانب مختلفة من التّاريخ اللبنانيّ، واستعمل مصادر لم يسبق استعمالها من قبل، حتى الآن، وبشكلّ خاص مواد الأرشيف العثمانيّ، ولذا فهو يحاول، بناء على ما يتوافر له من معلومات وفيرة غير معروفة من قبل، تقديم قراءته الخاصّة لكيفيّة تشكُّل لبنان، وهي كما سنرى قراءة تختلف في نهجها التّحليلي وفي استنتاجاتها الجوهريّة عمّا يمكن اعتباره قراءات التّاريخ اللبنانيّ المتداولة بين أكثر المؤرّخين والمستقرّة في ذهن الرأي العام.
يبدأ المؤرّخ بتصويب أساسي للفكرة التي ربطت نشوء لبنان الكبير في الأوّل من أيلول 1920 بجهود الموارنة ولاسيما كنيستهم القويّة فيقول: ” من المؤكّد أنّ الدّور الفرنسيّ والدّور المارونيّ كانا حاسمين في ولادة لبنان المعاصر بحدوده الحالية المعترف بها دولياً في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، ولكنّ لبنان هذا كان آخذاً في التّشكل وفقاً لعوامل محلّية وإقليميّة ودولية، على الأقل، منذ العقود الأخيرة للقرن السّابع عشر، وما أنوي القيام به في هذا البحث هو أن أسلّط الضّوء على التّطورات المحليّة لعملية التّشكُّل هذه. وأعني بذلك تطوّرات الأوضاع السّياسيّة والمواقف العمليّة لبعض الجماعات التي أدّت إلى نشوء الكيان السّياسيّ الذي قام حوله لبنان المعاصر”.
فلبنان الحديث حسب أبو حسين لم ينشأ بقرار من الجنرال غورو ولا هو كان نتيجة لـ “نضال لبناني” استقلاليّ ضد العثمانيين، والكتّاب اللبنانيّون أو واضعو الكتب المدرسيّة والمقالات والمسرحيات الذين يمجّدون تلك المقاومة المفترضة (مثل القول بأن “اللبنانيين” قاوموا العثمانيّين – أو التّرك- مدّة أربعمائة سنة) فإنّهم لم يقدّموا أيّ دليل على تلك المقاومة وأي أمثلة أو حالات ملموسة عليها.1 ويضيف أبوحسين: إنّ اللبنانيين قد يكونون أحقّ من جيرانّهم العرب بهذا الإدّعاء، إلّا أنّ الطّائفة اللبنانيّة (الموارنة) الأكثر إدّعاءً لهذه المقاومة لم تكن قائدها الرّئيسي، ولا المشارك الأساسي فيها، فهذه المقاومة التي اتّخذت شكلّ ما يسمّيه الباحث “التّمرّد الطّويل”، (وهو تمرد درزي في الغالب وقاده الدّروز) هو الذي أنتج عن غير قصد، ما يمكن أن نصفه ببداية تشكّل نوع من الكيان “اللبنانيّ” ظهرت بواكيره مع قيام متصرّفيّة جبل لبنان (1861) المتمتّعة بالحكم الذّاتي والإعتراف والضّمان الدّوليين، وهذه “المقاومة” (الدّرزية) هي حسب أبو حسين التي أنتجت للبنانيّين أبطالهم الوطنييّن التّاريخيين ونضالهم القوميّ “البطوليّ” وهي التي أدّت إلى خلق الشّروط المادّيّة لقيام الكيان السّياسيّ الذي ظهر في وقت لاحق.

متصرفية جبل لبنان 1860-1918
متصرفية جبل لبنان 1860-1918

التّمرّد الطّويل
يطلق البروفسور أبو حسين إسم “التمرّد الدّرزي الطّويل” على سلسلة الإنتفاضات وأعمال العِصيان والثّورة التي خاضها الدّروز في فترات متقطّعة في بلاد الشام ولبنان ضد الحكم العثمانيّ، وهو يعتبر أن التمرّد الدّرزيّ حصلت فصوله على امتداد القرنين السّادس عشر والسابع عشر وبالتّحديد ما بين العامين 1516 و1697. وهذه الحقائق تخالف في نظره تماماً الإنطباع الذي روّج له التّاريخ اللبنانيّ التّقليديّ عن علاقات إيجابيّة مديدة بين الدولة العثمانية وبين الأمراء والقادة الدروز. وفي هذا السّياق يقدم أبو حسين إحدى الرّوايات المستقرّة حول علاقة الولاء الدّرزيّ للسّلطنة، وهي رواية استقبال السلطان سليم الأول للأمير فخر الدّين المعنيّ (الأول) ومنحه لقب “سلطان البرّ” فيثبت أن الأمير فخر الدين الأول لم يرَ السّلطان سليم لأنه مات قبل فتح دمشق بنحو عشر سنوات. ويعتبر أبو حسين الرّواية الملفّقة عن بداية علاقة المعنيين بالعثمانيين في ذلك اللقاء المزعوم والكلمة المؤثرة التي ألقاها فخر الدين الأول بين يدي السلطان سليم الأول جزءاً من التأريخ المارونيّ الذي تبنّى فخر الدّين وكان يهمّه تعزيز مكانة الأمير والمعنييّن وإعطاء حكمهم شرعيّة تاريخيّة تبدأ قبل وقت طويل من صعود فخر الدين الثاني الكبير.
يضع المؤرخ أبو حسين التمرّد الدّرزي في سياق مجموعة التّحديات التي واجهت الدّولة العثمانيّة وهو يعتبر أنّ التمرّد الذي قاده علي باشا جانبولاد كان تحدّياً جدِّياً أضيفت إليه تحديات أقلّ شأناً تمثّلت بهجمات محدودة للقبائل البدوية الواقعة على طول طريق الحجّ إلى الحجاز، أو في مناطق أخرى من صحراء بلاد الشّام. إلّا أنّ مثل هذه القلاقل لم تمثّل تهديداً طويل الأمد لدولة السّلطنة بدليل أنّها نجحت في قمعها دون صعوبة، واستعادت في وقت قصير سيطرتها على المناطق المتمرّدة أو مناطق العصاة.
لكن الوضع لم يكن على هذا النّحو في المناطق الدّرزيّة في لبنان، فقد انفجر التمرّد مراراً و تكراراً ما بين العامين 1518 (أي بعد سنتين من فتح العثمانيين لبلاد الشام) و1697م (تاريخ وفاة الأمير أحمد المعني آخر الأمراء المعنيين من دون عقب) وكانت تلك الانتفاضات مبعث انشغال وقلق دائمين للسّلطات العثمانيّة الإقليميّة والمركزية لسببين أساسييّن: الأوّل هو القوّة القتالية للدّروز وتسليحهم والجماعات اللبنانيّة التي كانت تعاضدهم كالموارنة في جبل لبنان والشيعة في جنوب لبنان وصفد. أمّا السبب الثّاني فهو وجود الثّقل الدرزيّ السياسيّ والعسكريّ بالقرب من السواحل وهي البوابات البحرية الإستراتيجية لبلاد الشام والعمق الجغرافيّ للدّولة، وقد أشارت كثير من الرسائل العثمانيّة إلى أهميّة القرب الدّرزيّ من السّواحل للتّأكيد على خطورة تمرّدهم وامتلاكهم لكمٍّ كبير من الأسلحة، ولهذه الأسباب فإنّ الدّولة العثمانية وجدت نفسها مضطرّة مراراً وتكراراً لتوجيه الحملات ضدّ “المتمرّدين الدّروز” أو اللّجوء إلى اتّخاذ ترتيبات إداريّة جديدة لمعالجة الوضع.
رغم أهمّية الإنتفاضات الدّرزية المتكرّرة على الحكم العثماني يلاحظ أبو حسين كيف إنّ الدّراسات الحديثة حول تاريخ المنطقة لا تشير إليها، وباستثناء النّزاعات المتأخِّرة المتكرّرة بين الأمير فخر الدّين المعنيّ (الثّاني) والسّلطات العثمانيّة في النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر تصوّر هذه الدّراسات العلاقات الدّرزيّة- العثمانيّة عامّة على أنّها علاقات يسودها الوئام. ويعثر أبو حسين على ما يعتبره السبب الأهمّ وراء هذا التجاهل وهو أنّ الكتابات عن هذا الموضوع كانت تعتمد على مصدر واحد يعكس هوى صاحبه، وهذا المصدر الوحيد هو تاريخ البطريرك المارونيّ إسطفان الدّويهي الذي تربّع على السدّة البطريركية من 1668 إلى 1704م.
يقول المؤرخ أبو حسين: “لأسباب عديدة فإنّ الدّويهي يصمت صمتاً مُريباً عن معظم مجريات هذا التّمرّد، ولا يشير إلى الهجمات العثمانيّة المبكّرة على المناطق الدّرزيّة ، كما إنّ الأكثر أهميّة بالنّسبة إليه كانت التّغطية على أيّ دور أوروبي كاثوليكيّ في التّمرّد. فالدّويهي حسب أبو حسين، وبسبب موقعه الكهنوتيّ، لا بدّ أنه كان على علم بالعلاقات بين البابا وآخرين من القوى الأوروبية الكاثوليكية مع القيادات الدرزيّة، ولكن لم يكن من مصلحة طائفته، ولا من مصلحة أصدقائه من القادة الدّروز أن يشير إلى مثل هذه العلاقات.2 ويحدّد أبو حسين هدف دراسته بمحاولة الإجابة على الأسئلة التّالية:
1. متى وكيف ولماذا بدأ العداء بين الدّروز والعثمانيّين؟
2. كيف ظهر هذا العداء في المرحلة التي نحن في صدد دراستها؟
3. وما الأثر الذي تركه على الأحداث التي تلته في لبنان؟
يتّضح من الدراسة المفصّلة مجموعة من العوامل التي لعبت دوراً في النّزاع الدّرزيّ العثمانيّ الذي امتدّ على مدى قرنين من الزّمن.

استنبول-في-مطلع-القرن-السابع-عشر---تحالف-صراعي-مع-أمراء-الدروز
استنبول-في-مطلع-القرن-السابع-عشر—تحالف-صراعي-مع-أمراء-الدروز

1. الهيمنة السّياسيّة للدّروز: من أهمّ هذه العوامل أنّ الدروز كانوا هم القوّة السّياسيّة المهيمنة على الجبل نزولاً حتى المدن الساحليّة وخصوصاً بيروت، وكان من الطّبيعيّ رغم علاقة التّعايش (النّفعيّ) التي كانت تربطهم بالدّولة العليّة أن يحرِص الدّروز على حماية وضعهم والردّ على محاولة الدّولة تأكيد وجودها في مناطقهم (لأغراض جباية الضّرائب الأميريّة أو ضبط السّلاح أو حفظ الأمن ومصالح الدّولة)، وقد نشأ عن هذا الوضع ما يمكن اعتباره علاقة “تحالف صراعيّ” حيث تحرص الدّولة مقابل منح الإلتزام للأمير الدرزي أن تَحوُل دون نمو قوّته وقوّة جماعته إلى حدّ يجعل منه خطراً مُحتَملاً على مصالحها، بينما يسعى الأمير الدّرزيّ والمجتمع الدّرزيّ عموماً للقيام بدور الحليف المخلص للدولة لكنْ مع الانتباه دوماً للاحتفاظ بعوامل القوّة الكافية للدّفاع عن الوجود في حال تبدّلت الأحوال أو نشأ تهديد مفاجئ لمصالح الجماعة المعروفيّة. من أجل ذلك ومن أجل حماية مصالحهم من مطامع الآخرين فقد كان على أمراء الدّروز أن يخوضوا على الدوام مواجهات ومعارك ضدّ المنافسين الكثر من العائلات السياسية والمقاطعجيين الآخرين، كما كان عليهم عند الحاجة أن يتصدَّوْا للولاة العثمانيّين الذين يسعَوْن لإخضاعهم أو لإبتزازهم، وقد كان النّظام الإداريّ للدّولة العثمانيّة يعطي للوُلاة صلاحيّات كبيرة وهامشاً واسعاً من الحركةِ فكان الكثير من أعمالهم لا ينطبق بالضرورة مع مصالح الدّولة المنشغلة بحروبها الخاصّة وبالدّفاع عن جبهاتها المختلفة. في هذا الإطار برز موضوعان شكّلا على الدّوام جبهتيّ النّزاع الأهمّ بين الدّروز والعثمانيّين وهما موضوعا السّلاح والضرائب.
2. موضوع السلاح: كان هذا الموضوع سبب الصدامات الدائمة بين الدّروز والعثمانيّين، لأن الأمراء الدّروز كانوا يعتبرون امتلاكهم للأسلحة بكميّات كافية بل زائدة عن الحاجة المباشرة أهمّ عنصر لبناء جيش قادر على تأكيد سطوتهم تجاه المنافسين وفي الوقت نفسه قادر على حماية المجتمع الدرزيّ الجبليّ من غوائل الزّمان والحكام. في المقابل فإن الدّولة العثمانية كانت تقرّ بأهمية وجود السلاح في تصرّف حكّام الجبل الذين يعملون بإسمها لكنّها كانت تتوجّس دوماً من زيادة قوة الأمير والأسلحة المتوافرة لجماعته وتخشى أن يساعده ذلك على شقّ عصا الطاعة أو عقد تحالفات مع أعداء الدّولة العليّة قد تهدد ملكها في جبهات معينة، وكان هاجس عصيان الأمراء وحكام المناطق حقيقيّاً في اسطنبول لأنّ الدّولة كانت رغم قوّتها محاصرة وعرضة دائماً للهجمات من الدول والممالك المحيطة ولاسيّما الممالك الأوروبيّة المسيحيّة وروسيا والدّولة الصّفويّة. وكانت محاولة علي باشا جانبولاد الإنشقاق عن الدّولة وتأسيس إمارة في حلب وسوريا تهديداً خطيراً كان يمكن أن يحدث أضراراً كبرى بالدولة الناشئة وقد تمت محاولة جانبولاد بدعم من الدّول الأوروبيّة المسيحيّة المتربّصة بالدّولة العثمانيّة، وربما عززت تلك المحاولة التي قمعت بشدة مخاوف الدّولة العثمانيّة من أطماع الملتزمين والمتولّين ومخادعتهم وعزّزت النّزعة المركزية في التّعامل مع الأطراف.
يورد المؤرّخ أبو حسين تفاصيل طريفة في موضوع السّلاح يستقيها من مواد الأرشيف العثماني (دفتر الأمور المهمّة) وقد وَرَد فيها “أن الدّروز امتلكوا كميات كبيرة من الأسلحة النّارية ورفضوا الإنصياع للأمرالسّلطانيّ بتجريدهم منها، ليعلنوا التّمرّد بدلاً من الانصياع” لذلك وحسب الوثيقة العثمانية فقد “صدر أمر جديد لوالي دمشق بأن يُهاجِم الدّروز، ويجرّدهم من السّلاح، مع تزويده بقوات عسكرية إضافيّة من الولايات المجاورة لتساعده في الحملة.3 وتضيف الوثيقة تفصيلاً أكثر أهميّة من ذلك إذ توضّح أنّ الدّروز في منطقة الجُرد فقط كانوا يمتلكون ثلاثة إلى أربعة آلاف بندقيّة وصفت بأنّها طويلة وتستطيع إطلاق سبع أو ثماني طلقات متتابعة وتتفوّق على البنادق التي يستعملها الجنود العثمانيّون.4 وتضيف الوثيقة في مكان آخر وعند الحديث عن تمرد درزي في منطقة المتن “أنّ معظم أهالي هذه النّاحية -المتن- كانوا مدرّبين جيداً على استعمال البنادق، وأنّه كان بحوزتهم أكثر من ألف بندقيّة. وتتابع فتحذّر من الوضع الخطر بسبب وجود هذا العدد الكبير من الأسلحة النّارية بأيدي أناس متمرّدين يعيشون “قريباً من السّاحل”.5
وحسب الوثائق العثمانيّة فإنّ عدد البنادق التي كانت الحكومة تطالب بتسليمها كان كبيراً جداً، وقد فُرض مثلاً على كلّ ربّ منزل أن يسلّم بندقيّتين (وهو ما يدل في حد ذاته على كثافة التّسليح الدّرزي) بينما كان على ابن معن، وابن شهاب، وقايتبايّ أن يسلّم كلّ منهم ألف بندقيّة، وإضافةً إلى هؤلاء فقد طُلِب من منصور عسّاف تسليم ألفي بندقيّة إذ كان من المعروف أنّه حصل في وقت سابق على عدد كبير من الأسلحة النّاريّة من قبرص، كما طلب الأمر السّلطانيّ من حاكم دمشق أن يؤدّب “الجماعة العاصية” وأعلمه أنّ المساندة العسكريّة لهذا الغرض سوف تقدّم له من قبل حكّام ولايات ديار بكر وحلب وذوالقدرية.6
3. مصادرُ السّلاح: يلقي بحث المؤرّخ البروفسور أبو حسين ضوءاً على موضوع مهمّ آخر يساعد على فَهم العلاقة الملتبَسة والصّعبة بين العثمانيّين والدّروز، إذ يكشف ليس فقط عن التسليح الكثيف للدروز وتفوّق أسلحتهم أحياناً على أسلحة الجيش العثماني، بل إن المصدر الأساس لتسليحهم كان الدّول الأوروبيّة ممثلة لفترة بدوقيّة البندقية (Venice) ثم بدوقيّة توسكانا. وكان قسم كبير من التّسليح يتم عبر جزيرة قبرص المواجهة للسّواحل اللبنانيّة التي كانت ما زالت خارج سيطرة الدولة العليّة. وفي مكان آخر يورد أبو حسين نقلاً عن الأرشيف العثمانيّ أن الدروز كانوا أيضاً يحصلون على السّلاح من السّوق السوداء في بلاد الشام نفسها ويدلّ على ذلك نصّ رسالة في الأرشيف العثمانيّ موجّهة من قاضي دمشق السّابق إلى الدّيوان الهمايوني (ديوان السّلطان) تفيد بأنّ “المدعو أبو بكر بن رزق الله المقيم في منطقة الصّالحية في دمشق له العديد من الاتّصالات والمعاملات مع الدّروز حيث يقوم بتزويدهم بالبنادق والبارود والرّصاص”، وتتّهم رسالة القاضي المشار إليها أبو بكر هذا بأنّه يتاجر أيضاً مع سفن الفرنجة، إذ يزوّدهم بالقمح، بالإضافة إلى تورّطه في أعمال أخرى ذات صلة بما سبق”، وقد صدر الأمر من الدّيوان الهمايوني بنفيه إلى جزيرة رودس.7
وقد كان من الطبيعيّ أن يبحث الدّروز عن السّلاح في أي مصادر تتوافر لهم لأنّ السلاح كان بالنسبة إليهم ضمانة حماية وضعهم وكرامتهم تجاه الدّولة المركزيّة أوّلاً وكذلك تجاه الطامعين الآخرين. لكنّ وفرة السّلاح الذي كان الدّروز يحصلون عليه من الدّول الأوروبيّة يوحي بأن تلك الدّول اعتقدت بإمكان الاعتماد عليهم لإضعاف الدّولة العثمانيّة أو لتحقيق مكاسب معيّنة على حسابها. ورغم أنّ الدروز لم يكونوا في الواقع معنيّين بهذه الخطط بل بحماية أنفسهم بالدرجة الأولى فإنّ العلاقات التي نسجوها مع الممالك الأوروبية في ذلك الوقت (خصوصاً في عهد فخر الدّين الثاني) وتدفّق السلاح عليهم من تلك الممالك كانت من العوامل التي زعزعت الثّقة بهم من قبل الدولة وسرّعت بالتالي في حصول المواجهة الحاسمة ونهاية الإمارة الدّرزية ومجيء السُّنّة الشهابيّين.

القوات العثمانية فوجئت بامتلاك الدروز بنادق أكثرتطورا من أسلحتها
القوات العثمانية فوجئت بامتلاك الدروز بنادق أكثرتطورا من أسلحتها

4. موضوع الضّرائب: من أهمّ نقاط التّصادم بين الأمراء والمقاطعجيّين الدّروز وبين السّلطنة العثمانيّة (بعد موضوع السّلاح) كان ولا شكّ موضوع الضّرائب التي لم يكن تعيّينها وجبايتها يخضعان لنظام واضح، وكان الدّروز ينظرون إليها غالباً كتكليفات تفوق قدرة مجتمعهم الزّراعي البسيط على الاحتمال وكأداة إفقار وإضعاف لشوكتهم لأن المداخيل المحقّقة من الأملاك كانت تمثّل عنصر قوة المجتمع وتمكن الأمير من تعبئة الجيش وتوفير الأسلحة واستخدام الأنصار والاحتفاظ بجهوزيّته لمواجهة التّحديّات الطارئة. لم يكن صدفة لذلك أن تكون الإنتفاضات الدّرزية ترافقت دوماً بإمتناع عموم الدّروز، مقاطعجيّين وفلاحين، عن دفع الضّرائب المتوجّبة عليهم للدّولة، والتي كانت تعتبر المناطق الدّرزيّة في حالة تمرّد متواصلة تقريباً نتيجة لذلك ولإصرار الدروز على الإحتفاظ بالسّلاح.
وهكذا وفي عام 1565م، حسب “دفتر الأمور المهمّة”، فإنّ أهالي عين داره في منطقة الجرد، وقادتهم المحليين الدّروز”رفضوا أن يدفعوا الضّرائب، وكانوا قد قاموا قبل ذلك بالهجوم على مقرّ إقامة السّباهي الذي كان مسؤولاً عن جمع الضّرائب. وسرعان ما انضمّت قرى أخرى مثل المتين (في اقليم المتن المجاور) وقيادات درزيّة أخرى الى هذا التّمرّد”.
ويذكر أبو حسين أن تمرّد المناطق الدرزية على دفع الضرائب وصل إلى حد امتناع أيّ من النّاس عن التّقدم لنيل إلتّزام هذه المناطق لجباية ضرائبها، ولذا اضطرّت الدّولة إلى تعيين “أمناء” (مفردها أمين) emin 8 لجباية الضّرائب، إلّا أنّ هؤلاء لم يحظوا بالطّاعة أو الإحترام من قبل الدّروز الذين كانوا يتذرعون بأنّهم دفعوا ضرائبهم حسب السّجل القديم (defteri Atik) أو أنّ مزارعهم غير منتجة، أو أنّها غير مسكونة، ولكنّهم كانوا يرفضون السّماح للقاضي أن يحقّق في صحة تلك الادّعاءات. وبإختصار فقد كان من غير الممكن أن يتواجد أيّ نوع من الحضور الرّسمي للدّولة في هذه المناطق، ولذا فقد توالت الأوامر لحكّام الأقاليم مطالبة بإعتقال مقدّمي الدّروز ومعاقبتهم9. وقد اتّسع التّمرّد بعد سنوات إلى خارج منطقة جبل لبنان ليشمل الدّروز والشّيعة في سنجق صفد إلى الجنوب، وبدأ هؤلاء يتعاونون مع الدّروز في الشّمال، وحذوْا حذوهم في الامتناع عن دفع الضّرائب المترتّبة عليهم وقاموا في الوقت نفسه بالإشتراك في أعمال تمرّد وعصيان أخرى.
5. إشكاليّة الأمير القويّ: بالنّظر لتركيبة لبنان المستندة إلى تنوّع مذهبي ومناطق جغرافيّة حصينة فإن سياسة إيجاد مقاطعجيّين أو ملتزمين كثر، وإن كانت تحدّ من خطر وجود الأمير القوي، إلا أنها لم تكن مفيدة لأن الحصيلة كانت تشرذم وجود الدولة تجاه التهديدات الخارجية الدائمة وغياب متولٍّ كبير يمكنه أن يفرض طاعة الدّولة على الجميع ويمدّ الخزانة العثمانيّة بما كانت تحتاجه لتأمين إنفاقها الكبير. لذلك قبلت الدّولة العثمانيّة بمخاطرة تأمير أسرة مثل المعنيّين كملتزمين2 للجبل باعتباره “شرّاً لا بدّ منه” لكنها عملت دوماً على مراقبتهم ومحاولة تحجيم دورهم ومتابعة تحركاتهم ومن ذلك محاولة تجريدهم وأتباعهم من السّلاح بين الفينة والأخرى، وهو ما كان الدّروز يقاومونه بضراوة. بل على العكس بالنظر إلى توجّس الدروز من إمكان تجريدهم من السلاح عبر شنّ الحملات المتكرّرة عليهم فقد أصبح هؤلاء أكثر حرصاً على التسلّح وكانوا من المقاتلين الأشدّاء، كما إنّ زعماءهم كانوا من الثّراء بحيث يمكنهم شراءالسّلاح حيث يجدونه ثم خزنه في مخابئ يصعب على الجيش العثمانيّ العثور عليها. ولهذا فقد كانت الدولة تعالج موضوع السّلاح بأن تفرض على الأمراء الدّروز وغيرهم من الملتزمين أن يسلّم كلٌّ منهم عدداً معيّناً من البنادق والذّخيرة أو أن تفرض الأمر نفسه على كل بيت درزيّ.
6. دور الدّروز في توسيع نطاق التمرّد على الدّولة العثمانيّة: بالنّظر لقوّتهم السّياسيّة والعسكريّة فقد كانت للتمرّد الدّرزيّ آثارٌ تتجاوز الدّروز أنفسهم إلى العديد من المناطق والجماعات التي تجاورهم في كنف الدولة العثمانيّة خصوصاً في نطاق جبل لبنان وشمال فلسطين. وقد رأت الدّولة العثمانيّة أنّ الدّروز وحدَهم يمكنهم إشهار التّحدّي لسياساتها بل لجيشها حاملين بذلك خطر نقل العدوى إلى غيرهم من رعايا الدّولة، وكان هذا الواقع سبباً إضافيّاًً في العنف الذي جرّدته الدّولة على الدّروز في حملات متوالية عبر القرنين السادس عشر والسّابع عشر، وقد تميزت الحملات العثمانيّة على مناطق الدّروز بالعنف والقسوة كما لو أنّ الدّولة أرادت أن تجعل من “العصاة” عبرة لغيرهم، وقد زاد هذا النّهج وأعمال القتل وحرق القرى التي لجأ إليها العثمانيّون من غضب الدّروز فوسّع ذلك بصورة فادحة الهوة بينهم وبين الدّولة. في الوقت نفسه فإنّ الأوامر التي استمرّت في الصّدور من اسطنبول إلى حكّام ولايات بلاد الشام تفيد بأنّ الدّروز استمرّوا في كونهم العصب الرّئيسي للعصيان وفي طليعة قيادته أو نظر إليهم على أنّهم المتمرّدون الأساسيون ضدّ السّلطة العثمانيّة 10، وأنّ التّمرّد انتشر على نطاق واسع ليشمل كلّ المناطق الدّرزيّة وأنّه ينبغي بالتالي تجريد الدّروز من السّلاح. وهكذا في أيلول عام 1574م كانت الخطة قد أعدّت وصدر الأمر إلى قوّات من الأسطول العثمانيّ بالتّعاون مع القوات العسكريّة المتوفّرة في ولاية دمشق لتنفيذ هجوم واسع مشترك لقمع التّمرّد.11 وحسب أبو حسين فإن هذا الهجوم ربما لم يحصل لكنّ المراسلات العثمانيّة بشأنه تبين أنّ المشكلّة استمرت قائمة لأنّ الأوامر المتتالية من اسطنبول لحكام ولايات بلاد الشّام تواصلت مطالبة إيّاهم بتجريد الدّروز من السّلاح.
7. عامل الخصوصية: رغم تكوينها كإمبراطورية متعددة الأعراق والأديان والمذاهب فإنّ الرابط الدّينيّ بل العصبية الدينية كان لها دور كبير في مجتمع السّلطنة العثمانيّة، ومن هذا المنظور فإنّ الأمراء الدّروز رغم ما كان يرى من انتمائهم إلى مذهب إسلاميّ خاص حافظوا على دورهم السياسيّ والعسكريّ المهم في حماية السّلطنة، وكان ذلك استمراراً للدور الذي لعبه أسلافهم في ظل الممالك الإسلاميّة المتعاقبة منذ استيطان القبائل العربية الأولى لبنان لذلك الغرض بتشجيع من الدّولة الإسلامية. وقد أظهر الدروز كفاءة كبيرة واحترافاً في قيامهم بهذا الدّور لكنّهم أثبتوا مع ذلك (بدليل التمرّدات المستمرّة التي ميزت علاقتهم بالسّلطنة) أنّهم حليف صعب المِراس وأنهم يتوقّعون مقابل دورهم التّاريخيّ وتضحياتهم درجة عالية من الحكم الذّاتي واحترام خصوصيّتهم السياسيّة والثقافيّة، وهذا التّمايز الدّرزيّ أو تلك الخصوصيّة الإيمانيّة وجدت في الإدارة العثمانيّة أو في الأوساط الدّينيّة الرسميّة من يعتبرها سبباً كافياً للتّشكيك بولاء الموحّدين الدّروز ، بينما وجدت بعض أوساط الدّولة في هذا التّمايز فرصة للتّحريض الطّائفي كأسلوب مناسب لتأليب الرأي العام وتبرير الحملات الإنتقاميّة على الدّروز “العصاة” ومحاولة إخضاع مناطقهم. ويعتقد أبو حسين أنّ التّحريض الطّائفي الذي كان يظهر أحياناً ضدّ الدّروز في الأوساط العثمانيّة ربّما ولّد لديهم الشّعور بالغربة وانعدام الأمان مما جعلهم ميّالين للتمرّد ضدّ العثمانيّين كلّما سنحت الفرصة لذلك”. في المقابل فإنّ الاعتقاد الأوروبيّ الخاطئ، ولكن الشّائع حينذاك، بأنّ الدروز يتحدّرون من سلالة صليبية جعل البنادقة يرَوْنَ فيهم الحلفاء المثاليّين لهم في بلاد الشّام.12
8. دور العامل الاقتصادي: يبينّ المؤرخ أبو حسين في بحثه أنّ التّمرّد الدّرزي لم يكن يدور فقط حول مسائل “وجوديّة” مثل السّلاح والضّرائب بل كانت له أسباب اقتصاديّة مهمّة تتعلّق بالمصالح الكبيرة التي كانت للدّروز في التجارة والموانئ ومدن ساحليّة، مثل بيروت، إبّان العهد المملوكي السابق، وقد كان الفتح العثمانيّ لبلاد الشّام ومصر ( 1516-1517م) كارثة على مصالح البنادقة التجاريّة إذ حرمهم من أحد مصادر الإمداد أو الاستيراد الأساسيّة ومن أحد أسواقهم الهامّة كذلك. ومن المهم أن نتذكّر أيضاً أنّ الخسارة جرّاء ذلك لا بدّ أنّها قد لحقت كذلك بشركائهم التجاريّين المحليين في بلاد الشّام ومن بينهم زعماء الدّروز وتجّارهم وذلك نتيجة للقيود العثمانيّة على استيراد وتصدير العديد من الموادّ والسلع . وقد كان الزّعماء الدّروز، والطّائفة عموماً، الشّركاء المحليين للبنادقة في هذه التّجارة المربحة. ولذا فليس من المُستغرب أن يشترك البحتريّون والمعنيّون في تمرّد 1518م ضدّ العثمانيّين. هذا التّمرّد – كما تمت الإشارة سابقاً- بحيث يُعتقد أنّه كان محاولة لإعادة سلطة المماليك التي تمتّع في ظلها البنادقة، عمليّاً، بإحتكار التّجارة مع بلاد الشّام. ويَعتقد أبو حسين أنّ تلك الخسائر تركت أثراً سيّئاً للغاية على شركاء البنادقة المحليين خصوصاً الدّروز، الأمر الذي قد يكون ولّد لديهم الرّغبة والإستعداد للإتفاق مع البنادقة، ليس فقط في مجال تهريب المواد الممنوعة واستيرادها فحسب، بل في أن يكونوا جزءاً من الحرب السّريّة، وأحياناً الحرب العلنيّة التي كان البنادقة يخوضونها ضدّ العثمانيّين. وفي سياق هذا الصّراع، يمكن ربط هجوم عام 1520م على ميناء بيروت بمحاولة البندقيّة اليائسة للسّيطرة على أحد الموانئ الأكثر حيويّة لتجارتها مع بلاد الشّام.

السلطان سليم الأول لم يلتق بفخر الدين الأول ولم يعطه لقب سلطان البر كما تزعم الرواية التي يتم تدريسها للطلاب اللبنانيين
السلطان سليم الأول لم يلتق بفخر الدين الأول ولم يعطه لقب سلطان البر كما تزعم الرواية التي يتم تدريسها للطلاب اللبنانيين

مواجهات مُبكّرة
يذكر المؤرخ أبو حسين نقلاً عن المصادر التّاريخيّة أنّ أوّل حادثة تمرّد شهدت تورّطاً لزعماء من الدّروز حصلت بعد الفتح العثمانيّ لبلاد الشّام بسنتين. وفي هذا الصّدد يروي المؤرّخ الدّرزي ابن سباط (توفي 1520) أنّه في عام 1518م ألقي القبض على أربعة من الأمراء الدّروز كان أحدهم من البحتريين، أمّا الثّلاثة الآخرون فقد كانوا من المعنيّين، لإشتراكهم في عصيان قاده ناصر الدّين محمد ابن الحنش ضدّ السّلطان سليم الأوّل، وكان ناصر الدّين هذا زعيماً بدويّاً سنّياً من سهل البقاع، وقد اعتبر هذا العصيان الأوّل بمثابة انتفاضة للعناصر الموالية للدّولة المملوكيّة البائدة ضدّ الدّولة العثمانيّة الحديثة العهد في المنطقة. وعلى أيّ حال كان ابن الحنش المتمرّد الرّئيسي، وقد اعتُقل في ما بعد، وأُعدم عقاباً له، أمّا الأمراء الدّروز فقد كانت عقوبتهم مخفّفة إذ اقتصرت على غرامة باهظة دفعها كلّ منهم 13.
بعد سنتين من تمرّد ابن الحنش، حصلت في 12 تشرين الأول 1520 حادثة اعتبرها العثمانيّون أكثر خطورة تمثلت في غزو مفاجئ لأسطول صغير من سفن الفرنجة لمرفأ بيروت في محاولة للإستيلاء عليه وعلى المدينة واستخدامه قاعدة لحملات عسكرية تالية ضد الأراضي العثمانية. يروي إبن طولون، المؤرّخ الدّمشقي الذي عاصر الحدث أنّ الحامية العثمانية تنبهت للهجوم فدارت معركة كبيرة قُتل فيها نحو 100 من المسلمين ونحو 400 من الفرنجة الذين أرسلت رؤوس قسم من قتلاهم إلى دمشق وتمّ عرضها في أحياء مختلفة من المدينة.
ثم يذكر إبن طولون الذي شهد الحدث الأوّل أنّه وبعد ثلاث سنوات من الإغارة الفرنجيّة أي في العام 1523 هاجم حاكم دمشق خُرّم باشا منطقة الشّوف الحيطي وقتل كثيراً من الخلق وعاد إلى دمشق في موكب النصر وقد حدّد إبن طولون المنطقة الدّرزيّة التي تعرضت لهذا الهجوم على أنّها شوف سليمان بن معن (أو الشّوف الحيطي). وعلم الدّين سليمان هذا كان من بين الزّعماء المعنيين الذين انتفضوا ضدّ العثمانيّين عام 1518م.
يعتقد المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين الواسع الإطّلاع على الوثائق العثمانية أنّ هذا العمل الهجوميّ للعثمانيّين قد يبدو مفتقراً إلى مبرّر مباشر لكنّه عند التمعًّن بتلك الفترة يمكن اعتباره ردّاً على دور للزّعماء المعنيين في تمرّد ابن الحنش عام 1518م، والاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أنّ الهجوم كان ناجماً عن الشّكّ في تواطؤ بعض أمرائهم مع البنادقة في الهجوم على ميناء بيروت عام 1520م. ويضيف أبو حسين أنّه و”مهما يكن سبب تلك الحملة العثمانيّة فإنّ الجدير بالملاحظة هو أنّ الهجمات اللّاحقة على الدّروز اعتُبرت دائما ردّاً على “عِصيانهم” كما يرد في الوثائق العثمانيّة والكتابات الشّامية المحليّة.14
لكنّ الدّروز في ما يبدو استمرّوا في التّحدّي، وقتلوا الصّوباشي ورجاله الذين عيّنهم خرّم باشا لتطبيق القانون والمحافظة على النّظام. ومرّة ثانية قاد خرّم باشا جيشه إلى مناطق درزيّة أخرى وأعمل فيها تنكيلاً وحسب إبن طولون فإنّ “أكثر من ثلاثين قرية أُحرقت، ونُهبت قرى كثيرة أخرى”. ويورد مصدر دمشقيّ متأخّر أنّ خُرّم باشا أحرق في هجومه الثّاني هذا ثلاثاً وأربعين قرية منها قرية الباروك مقرّ قرقماز بن معن.
ويعرض المؤرّخ أبو حسين لوثيقة عثمانيّة تشير إلى امتداد التمرد المسلّح إلى سنجق صفد الذي كان أصبح تحت سيطرة الأمير قرقماز بن معن وجاء في الوثيقة أنّ أمير لواء صفد بالتّعاون مع السّباهية في اللواء وآغا الانكشارية على رأس خمسماية من جنوده قاموا بقتال الدّروز في مدينة صفد وريفها واعتقلوا زعيمهم ابن منذر و بعض رجاله ثمّ قتلوهم، وأرغم بقيّة المتمرّدين على تسليم 600 بندقيّة، وعلى التّعهُّد بدفع الضّرائب المتأخّرة المترتبة عليهم.15 ويرد في وثيقة أخرى أنّ دروز صفد وبدوها يشكلّون العناصر الأساسيّة في التّمرّد. وتوضح هذه الوثيقة أنّ السّكان المحلّيين وأرباب الزّعامات والتّيمار قد اشتكَوْا ضدّ المتمرّدين
و أشاروا في شكواهم إلى أنّ البدو والدّروز انتهزوا فرصة غياب أمراء الألوية والعساكر الذين كانوا في عداد المشاركين في السّفر الهمايوني (الحرب الخارجيّة) وقاموا بتمرّد مسلّح، وهكذا لم يكن من الممكن أن يجمع ولو مقدار أقجة واحدة من ضرائب تلك المنطقة، نظراً إلى أنّ عدد البنادق في سنجق صفد وحده قد وصل إلى سبعة آلاف بندقيّة. وتختم الوثيقة بالأمر باعتقال زعماء التّمرّد وإرسالهم مع السلاح المصادر إلى اسطنبول، وأن تتمّ معاقبة مستحقّي العقاب فوراً. 16
بذلك، بقي دروز لبنان أبرز أهداف النّقمة العثمانيّة وخصوصاً زعيمهم الأوّل قرقماز بن معن، الذي وسّع نطاق سيطرته، على ما يبدو، ليشتمل على سنجق صفد، ونظراً إلى ذلك فقد صدر الأمر إلى والي طرابلس بتقديم العون إلى والي دمشق للتّخلص منه.17
إلّا أنّ الجهود لإنهاء التّمرّد الدّرزي استمرت في التّعثر، وبقي الدّروز في حالة من التّمرّد المعلن في كلّ ولايات بلاد الشّام التي يتواجدون فيها في الأعوام 1583 و 1584 و 1585.18 ومرّة أخرى نُظِر إلى قرقماز بن معن على أنّه أكثر زعماء الدّروز خطراً و إلى الدّروز إجمالاً على أنّهم أكثر الجماعات تمرّداً، وطُلب إلى والي دمشق وطرابلس أن يوحدا قواتهما لمحاربتهم.19
حملةُ الحسم
وفي عام 1585م إنطلقت حملة تأديبية عثمانيّة كبيرة ضدّ الدّروز بإمرّة القائد إبراهيم باشا الذي قاد القوّات التي تجمّعت من مختلف ولايات بلاد الشّام والأناضول. وكان حجم الحملة يدلّ على مدى خطورة الوضع، وعلى أن القوات العثمانيّة الموجودة في ولايات بلاد الشّام لم تكن قادرة وحدها على القيام بما هو مطلوب.
وحسب مؤرّخ محلي فإنّ وقع هذا العرض الجبّار للقوّة العثمانيّة على السّكان المحليّين كان بالغاً لدرجة أن “ارتعب منه كلّ بلاد العرب”.20 وحسب المصادر والوثائق العثمانيّة، ومثلها العربية، كانت العمليّة العسكريّة ناجحة. إذ تمكّن إبراهيم باشا من تجريد الدّروز من السّلاح، وصادر آلاف البنادق، بالإضافة إلى الكثير من الأسلحة الأخرى، كما جمع مبالغ كبيرة من المال- التي يرجّح أن تكون ضرائب متأخّرة.21 ويبدو أن الحملة العثمانيّة الهائلة حققت أغراضها في فرض وضع حدّ للتمرد وفرض هيبة الدولة، يدلّ على ذلك غياب أيّ إشارة في الوثائق العثمانيّة والمصادر المحليّة إلى قيام الدّروز بأيّ اضطرابات أخرى حتى القرن السّابع عشر.
يلاحظ المؤرّخ أبو حسين بإستغراب أنّ المصادر المتوفّرة حول شؤون بلاد الشّام والدّروز لا تغطي أحداث تلك الحقبة المهمّة من الصّراع العثمانيّ – الدّرزي المبكّر مضيفاً: ”إنّ المصادر التي يمكن وصفها بـ”اللبنانيّة” لا تأتي حتى على ذكر تلك الحوادث وتصمت صمتاً كاملاً ومثيراً للرّيبة عن الشّؤون الدّرزيّة منذ بداية الفتح العثمانيّ إلى عام 1585م، وهي الفترة التي شهدت تطوّرات مهمّة تدلّ على استمرار التّمرّد الدّرزي من جهة والرّد العثمانيّ القمعيّ عليه من جهة أخرى”.
يبدو أنّ الحملة العثمانيّة ضدّ الدّروز عام 1585م كانت آخر حملة في القرن السّادس عشر، إذ لا تذكر الوثائق العثمانيّة أو الكتابات المحليّة، أيّ تمرّد درزيّ أو أيّة أعمال إنتقامية عثمانيّة مضادّة. وكما أشرنا سابقاً، ربّما كان هذا الهدوء عائداً إلى نجاح الحملة العثمانيّة، وإلى الضّعف الذي اعترى البندقيّة كقوّة بحريّة وتجاريّة في البحر الأبيض المتوسط.22 هذا علاوة على أنّ العثمانيّين أتبعوا نصرهم العسكريّ بإجراءات إداريّة تضمّنت إنشاء ولاية الدّروز.23
ولكنّ “ولاية الدّروز” هذه لم تعمّر طويلاً. وعوضاً عن ذلك، نقل العثمانيّون سنجق صيدا-بيروت من التّابعيّة لسلطة ولاية دمشق إلى تابعيّة سلطة ولاية طرابلس وبالعكس مراراً. وقد اتُّخذ هذا الإجراء، في ما يبدو، أملاً في أن تصبح المنطقة تحت سيطرة أكثر حزماً وربما أكثر ولاءً.24 إلّا أنّ هذا الإجراء أيضاً لم يعمّر كما يظهر من الإنتقال المتكرر للسّنجق ولم يؤت الثمار المرجوّة، فقد تجدّد التّمرّد الدّرزيّ مع بداية القرن السّابع عشر، هذا القرن الذي سيشهد صعود فخر الدين الثاني وتوسيع سلطانه بصورة لم يحققها من قبل أي أمير محلي. لكن هذا الصعود المبهر للزّعيم الدّرزي ما لبث أن اصطدم بالحقائق السّياسيّة الأساسيّة وكلّفه في النهاية ملكه ثم حياته. ومنذ ذلك الوقت أصبح فخر الدّين بتأثير الرّوايات اللبنانية لتلك الفترة القلقة بطل الفكرة اللبنانية ومؤسّس الكيان اللبناني الذي تكرّس بإعلان الجنرال الفرنسي غورو في العام 1920.

البندفيقة في مطلع القرن السابع عشر قوة تجارية كبرى لكن سيطرة العثمانيين على موانئ شرق المتوسط وجهت ضربة قويه لمصالحها
البندفيقة في مطلع القرن السابع عشر قوة تجارية كبرى لكن سيطرة العثمانيين على موانئ شرق المتوسط وجهت ضربة قويه لمصالحها

بناء على ملخص هذا البحث المهم لأحد أبرز مؤرّخي الحقبة العثمانية في لبنان وسوريا يمكن الخروج بنتائج جديّة ومهمة تقلب الكثير من المسلّمات والأفكار المتداولة بين كتّاب التاريخ اللّبنانيّ ولاسيّما التأريخ المارونيّ للبنان: ومن أهمّ هذه النتائج:
1. إنّ العنصر الحاسم تاريخيّاً في تشكّل فكرة لبنان كما تبلورت في أواسط القرن التّاسع عشر ومطلع العشرين ليس أيّ “مقاومة لبنانيّة” فلا يوجد أيّ دليل تاريخي على حدوثها بل “التمرّد الدّرزيّ الطّويل” على العثمانيّين والذي بدأ بعد سنتين من دخول السّلطان سليم الأوّل واستمر حتى نهاية العهد المعنيّ، إذ ساهمت نزعة الدّروز الاستقلاليّة عن العثمانيين وتمسّكهم بحماية وضعهم الخاص بما في ذلك حقهم في امتلاك السلاح ومقاومتهم للضّرائب والولاة العثمانيّين فضلاً عن وعورة مناطق تواجدهم وكفاءتهم القتالية، ساهم كل ذلك في إنتاج إحدى الإمارات القليلة التي لم تكن ولاية عثمانيّة محكومة مباشرة من السلطنة وغذّت بالتالي ديناميكيّة سياسيّة ومجتمعيّة كانت فكرة الكيان اللبناني إحدى ثمارها الطبيعيّة.
2. إنّ التّمرّد الدّرزيّ ضدّ العثمانيّين حتى عام 1633م، وربما حتى النّهاية في 1697، كان يستفيد إلى حد كبير من المخطّطات الأوروبيّة السّياسيّة والتجاريّة والدينيّة المرسومة لبلاد الشّام، وقد تصدّت البندقيّة لأخذ زمام القيادة في هذه المخطّطات الأوروبيّة في المرحلة الأولى للتمرّد خلال القرن السّادس عشر. أمّا في المرحلة الثّانية في القرن السّابع عشر، فقد حلّت قوى حديثة الصّعود كتوسكانا محلّ الدّول الكبرى، كالبندقيّة، لا كمجرد قوى قرصنة في شرق البحر الأبيض المتوسّط كما أشار بروديل،25 بل إلى ما هو أكبر من ذلك، كصاحبة مشاريع أكثر جرأة وطموحاً، كما تشير إلى ذلك حالات التّمرّد التي قام بها علي جانبولاد والأمراء المعنيون.
3. أمّا على المستوى المحلّي، فقد أتاح هذا التّمرّد الطّويل الفرصة لتأسيس إمارة الشّهابيين السّنّة، التي كانت تدبيراً اتُّخذ بمبادرة درزيّة ووجد العثمانيّون-الذين تخلّصوا في النّهاية من المعنيين – فيه مصلحة لهم، خاصّة حيث تضاءلت مقدرتهم على الإكراه وفرض الطّاعة بشكل ملحوظ، ليس فقط بسبب “التّمرّد الطّويل” السّابق الذّكر، ولكن أيضاً بسبب حربهم المستمرّة على الجبهة النّمساوية وهزيمتهم فيها. وقد أعطى هذا التّدبير الذي شمل أواسط جبل لبنان وجنوبه، من عام 1697 حتى عام 1841م لهذا الكيان طابع “الإمارة” الوراثيّة. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشّهابيين يتحدّرون من السّلالة المعنيّة عن طريق النّساء؛ ذلك أنّ السّلالة المعنيّة، عن طريق الذّكور، قد انقرضت بوفاة أحمد بن معن 1697م دون أبناء.26
4. هذا التّطوّر السّياسيّ الهامّ ما كان ليحدث لولا “التّمرّد الطّويل” الذي صنع “للبنان” و “اللبنانيين” بطلهم الوطنيّ، وسلالتهم المؤسّسة. وهكذا فإنّه بالرّغم من الخلافات الجذريّة العميقة بين المؤرّخين اللبنانيّين التي أشرنا إليها أعلاه في ما يتّصل بطبيعة لبنان وتاريخيته، وفي سياق المرحلة العثمانيّة، فقد تبلور لدى هؤلاء المؤرّخين موقف مشترك يقف من فخر الدّين المعنيّ (توفيّ 1635) موقف إجلال، وكذلك من أفراد آخرين من السّلالة المعنيّة كأبطال مؤسّسين لشيء ما. بالنّسبة للقوميين العرب فإنّ ظاهرة فخر الدّين كانت تعبيراً مبكّراً عن القوميّة العربيّة، حيث مثّلت صداماته مع الدّولة العثمانيّة انتفاضات قوميّة عربيّة ضدّ الطّغيان التّركيّ. أمّا بالنّسبة للقائلين بخصوصيّة لبنان، فإنّ فخر الدّين هذا في حدّ ذاته بطل قوميّ لبنانيّ حارب الأتراك كما فعل أسلافه من قبله. وبالنّسبة للبنانيّين خصوصاً، فقد كان فخر الدّين هذا بطلاً وطنيّاً يحارب التّرك، كما فعل السّلف من قبله، وكما سيفعل الخلف من بعده. إلّا أنّ فخر الدّين يتميّز عن سلفه وخلفه، في النّظرة إليه، كمؤسّس للبنان الحديث. وقد اتّخذت وجهة النّظر الثّانية هذه صبغة شبه رسميّة – إن لم تكن رسميّة- في لبنان. ذلك أنّ هذا ما يرد في الكتب المدرسيّة اللّبنانيّة في المراحل الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة في كافّة أنحاء البلاد.
5. ويمكن القول إنّ المعنيين كسلالة احتلّوا -عموماَ- مرتبة الشّرف في الرّواية الوطنيّة اللبنانيّة. فهم إمّا أبطال النّضال ضدّ العثمانيّين، أو ضحايا ظلمهم ومزاجيّتهم أو كلا الأمرين معاً. فهذه هي الصّورة التي تقدّمها الأعمال البحثيّة، والكتب المدرسيّة، وأكثر أشكال التّعبير التّاريخيّة شعبيّة، مثل المقالات الصّحفيّة والمسرحيّات والأفلام.. إلخ تجمع على هذه الرّواية القوميّة لـ “تاريخ لبنان” في المرحلة العثمانيّة كما تمّ شرحها أعلاه. كانت كتب التّاريخ التي تُدرّس في المدارس اللبنانيّة، وما زالت، إحدى نقاط الخلاف الكثيرة بين مختلف القادة السّياسيين، أو الدّينيين، أو كليهما معاً. وقد حصل الإجماع في اتفاق الطّائف الذي وضع حدّاً للحرب الأهليّة الأخيرة على تشكيل لجنة تمثّل كلّ الأطراف للنّظر في التّاريخ في المنهاج المدرسيّ، وذلك لإعادة كتابته ليكون مقبولاً لدى جميع الأطراف، ولتنمية الشّعور بالإنتماء إلى لبنان ليحلّ هذا الشّعور محلّ الانتماءات الطّائفية، إلّا أنّ كافّة الجهود في هذا الاتجاه لم تثمر حتى الآن وما زالتّ الرّواية القوميّة المتعلّقة بفخر الدّين والمعنيّين الجزء الوحيد من رواية اللّبنانيّين لتاريخهم، التي مازالت تلقى شبه إجماع. دَعونا نتفحّص كيف قدّمت هذه الرّواية القوميّة، وكيف جرى بناؤها.
في العدد القادم : فخرُ الدّين المعنيّ

الهوامش

1. الاستثناء الهام الوحيد لذلك هو الدور الذي لعبه فخر الدين والذي يعتبره المؤرخون اللبنانيون والعرب صفحة مجيدة في مقاومة الطغيان العثماني.
2. حول الدويهي كمؤرخ لبلاد الشام العثمانية ومحاباته للمعنيين انظر A. Abu-Husayn, “Duwayhi as a Historian of Ottoman Syria”, Bulletin of the Royal Institute for Inter-Faith Studies 1, no. 1 (Spring 1999), 1-13; A. Abu-Husayn, “The Korkmaz Question: A Maronite Historian’s Plea for Ma‘nid Legitimacy”, Al-Abhath 34 (1986), 3-11.
3. دفتر المهمة العثماني (يرد في ما بعد د. م.) 26، رقم 101 بتاريخ حزيران 1546.
4. د. م. 5 رقم 565.
5. د. م. 5 رقم 1091، بتاريخ 1564- 1565 ؛ التشديد مضاف
6. د. م. 5 رقم 488 بتاريخ 28 اب 1574.
7. د. م. 42 رقم 273 بتاريخ 25 تموز 1581، د. م. 49 رقم 443 بتاريخ 10 تموز 1583.
8. الأمين (Emin) هو الموظف المكلف بتحصيل الضريبة لقاء راتب.
9. د. م. 29 رقم 70 بتاريخ 16 كانون الأول 1576.
10. د. م. 27 رقم 70 بتاريخ 23 شباط 1576.
11. د. م. 5 رقم 614 بتاريخ 18 أيلول 1576.
12. بقي فخر الدين، حتى أيامه الأخيرة في بلاد الشام حجر الزاوية في المشاريع الكاثوليكية لاحتلال جزيرة قبرص والأراضي المقدسة. استمر البابا والدوق الأكبر لتوسكانا في التفكير بهذه المشاريع حتى عام 1633 قبيل القاء القبض على فخر الدين، ففي احدى رسائله الى فخر الدين يتوجه اليه البابا كحفيد لـ Godefroy de Bouillon ويعبر عن أمله بأن فخر الدين سيعود في النهاية الى ديانة أجداده العظام، انظر بولس قر ألي فخر الدين المعني الثاني: حاكم لبنان ودولة توسكانا، بيروت 1992 (يرد في ما بعد قر ألي)، 272، 349-350. وقد عبر عدد من مبعوثي الباباوات والحكام الزمنيين عن هذه النظرة الى فخر الدين ففي رسالة وجهها فخر الدين الى السفير الفرنسي لدى البلاط الباباوي أثناء اقامة الأول في ايطاليا يدعي فيها أن عائلته تتحدر من القائد الصليبي Godefroy de Bouillon.
13. انظر A. Abu-Husayn, Provincial Leaderships in Syria, 1575-1650 (Beirut, 1985), 68-69; hereafter, Abu-Husayn, Provincial.
14. إعلام، 241.
15. د. م. 46 رقم 30 ب بتاريخ 1581- 1582.
16. د. م. 46 رقم 518 بتاريخ 1581- 1582.
17. د. م. 46 رقم 30 ب بتاريخ 1581- 1582.
18. د. م. 49 رقم 110 بتاريخ 27 نيسان 1583، د. م. 52 رقم 969 بتاريخ 26 نيسان 1584، د. م. 53 رقم 724 بتاريخ 12 شباط 1585، د. م.. 58 رقم 635 بتاريخ 31 آب 1585.
19. د. م. 53 رقم 724 بتاريخ 12 شباط 1585.
20. أسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، حرره الأب فردينان توتل بيروت 1951، 284؛ يرد في ما بعد الدويهي.
21. د. م. 58 رقم 636 بتاريخ أواخر آب الى أوائل أيلول 1585؛ الحسن البوريني، تراجم الأعيان من أبناء الزمان، حرره صلاح الدين المنجد (دمشق 1959- 1963) يرد في ما بعد البوريني، الجزء الأول، 324. G. Minadoi, Historia Della Guerra fra Turchi e Persiani (Venice, 1594) (hereafter, Minadoi), 295; M. Selaniki, Tarihi Selaniki (Istanbul, 1281 H), 194. صدرت طبعة من هذا العمل محررة باللغة التركية الحديثة. البطريرك والمؤرخ الماروني الدويهي يشرح أن سبب هذه الحملة هو حادثة نهب الخزينة المصرية التي حصلت في شمال الساحل اللبناني ويضيف بأن قرقماز بن معن والدروز قد اتهموا زوراً بالمسؤولية عن هذه الحادثة. كما إنه يضيف أن ابراهيم باشا قد قتل، خلال هذه الحملة ما لا يقل عن خمسمائة من المشايخ الدروز. للمزيد من التفاصيل حول هذه الحملة انظرA. Abu-Husayn, “The Ottoman Invasion of the Shuf in 1585: A Reconsideration”, Al-Abhath 33 (1985), 13-21.
22. حول ذلك أنظر Alberto Teneti, Piracy and the Decline of Venice, 1580-1615 (Berkeley and Los Angeles, 1967), xii-xiv.
23. د. م. 50 رقم 123، بتاريخ 1585.
24. حول هذا الانتقال المتكرر بين سنجق صيدا- بيروت وولايتي طرابلس ودمشق انظر Abu-Husayn, “Problems.”
25. Braudel, 865.
26. حول خلافة آل شهاب، انظر For a detailed discussion of the Shihab succession, see A. Abu-Husayn, “The Shihab Succession: A Reconsideration”, Archive Orientalni, Supplementa VIII, 1998, 9-16.

 

مزاعم عيران الحايك

مزاعم عيران الحايك
تكذّبها الدراسات الإسرائيلية وحقائق التّاريخ

من كذبةِ الأصولِ المشتركةِ إلى الأصلِ القوقازيّ
“تلفيق جيني” هدفه تضييع النسب العربي للدروز

دراسة إسرائيلية أثبتت في العام 2015 عروبة الدروز
واستقرار خصائصهم الجينية منذ القرن الحادي عشر

كتب رئيس التّحرير
فجأةً انتشر في وسائل التّواصل الاجتماعيِّ في لبنان وفي المنطقة فتاتٌ من نظريّة إسرائيليّة مستحدثة تدَّعي أنّ أصلَ الدّروز ليس عربيّاً وأنّهم على الأرجح جاؤوا من مناطق في شرق تركيا وإيران، وزادت النظريّة أنّ الدّروز جاؤوا من مناطق جغرافيّة متقاربة مع المناطق التي سكنها اليهود في شمال شرقي تركيا وأنّه يجمعهم باليهود خصائص جينيّة تفوق ما يجمعُهم بسكّان المنطقة العربيّة، وأخيراً أنّ الدّروز من أصل قوقازيٍّ وليسوا عرباً!
بالطّبع هذه الادّعاءات هي من السطحية والافتقاد لأيّ سند علميّ بحيث لا تستحقّ الردّ، وذلك لأنّ تاريخ الدروز موثّق بالتّفصيل ومنذ أن بدأت طلائع القبائل العربيّة التي جاءت من الجزيرة العربية لتقطن السّواحل اللبنانيّة والجبال المطلّة عليها، وقد تمت تلك الهجرات بحثٍّ من الدّولة الإسلامية التي عهدت إلى أسلاف الدّروز بحماية الثّغور وطرق المواصلات من اعتداءات البيزنطيّين وبعض الجماعات الجبليّة المسيحيّة التي كانت متوطّنة في شمال سوريا ولبنان.

غطاء علمي لأجندة سياسية
لكنْ وبما أنّ تاريخ الدّروز وموقعهم في المنطقة من الأمور التي تهمّ كثيرين، فقد قام العديد ممّن وصلتهم الرّسالة حول أصل الدّروز (معتقدين بأنّها ذات قيمة علميّة) بإعادة بثّها إلى معارفهم وقام هؤلاء بدورهم بتحويلها إلى آخرين، فكان أن تداولت أوساط متنوِّعة في المنطقة هذه الأكذوبة لاسيّما وأنّ الموضوع جرى تقديمه بإعتباره “اكتشافاً علمياً” مستنداً إلى علم الجينات. وبالطّبع وقبل أن نتطرّق إلى هذه المكيدة ونظهر كونها مجرّد تلفيق علميّ لأهداف سياسيّة، فإنّنا نلفت إلى الأثر الهائل الذي باتت تمارسه وسائل التّواصل الاجتماعيّ في تكوين الأفكار والتأثير في الرأي العام، وهو ما جعلها تدخل كمكوِّن أساسيّ في استراتيجيّات التّضليل السياسيّ أو خدمة أهداف الدّول والمجموعات، وهذا الأمر يظهر خطورة التأخّر عن الرّكب وبالتالي أهميّة امتلاك أسلحة التّواصل الاجتماعيّ وموقع الإنترنت والمجلّة وغيرها من وسائل الاتّصال لأنّه من دونها سيكون من السّهل على من يريد بالموحّدين وبالوطن شرًّا أن ينشر ما يشاء من الأقاويل والدّسائس ودون أن يكون هناك من يمكنه التّصدي الفوري لردّ تلك الهجمات وفضح أهدافها.
الرّسالة التي نشرت على وسائل التّواصل الاجتماعيّ استندت إلى مقال للبروفسور “عوز ألموج” نشره على صفحته الشّخصية في موقع فيسبوك وجرى ترويجُه بعد ذلك عبر وسائل إعلام إسرائيليّة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ ثم نشر الموقع الإسرائيلي بالعربيّة “المصدر” عَرْضاً مفصّلاً لنظريّة “الدّروز ليسوا عرباً” فساهم بذلك في زيادة تأثير النظريّة. لكن “ألموج” الذي نشر نظريّته السّخيفة ليس عالماً بالهندسة الوراثيّة ولا هو بباحث في أنتروبولوجيا الشّعوب بل أستاذ أكاديميّ في علم الاجتماع والتّاريخ الإسرائيليّين في جامعة حيفا وهو وجد صعوبة في نشر مقاله في أيّ صحيفة إسرائيليّة محترمة فاكتفى بالنّشر على صفحته الخاصّة مستهدفا إحداثَ أكبر أثرٍ ممكنٍ لأقاويله.

رائد في “التلفيق الجيني”
وفي ما عدا إيراد بعض “الدّلائل” الواهية على أصل الدّروز القوقازيّ مثل “سكنهم في الجبال” و”اختلاف سماتهم الفيزيولوجيّة عن العرب” (وهذا كذب صريح) وطبيعة مذهبهم ذي المصادر العديدة فإن “ألموج” استند بصورة خاصة إلى نظرية لـ “باحث” إسرائيلي يدعى “عيران الحايك” وهو أستاذ في جامعة شفيلد في بريطانيا لكنّه ليس من علماء الجينات المعروفين ولا يعمل ضمن فريق له مصداقيّته، وقد نشر حتى الآن جملة من النظريّات حول أصل أوروبيٍّ (خَزَريٍّ) مزعوم لليهود تعرض بسببها لهجمات من قبل المصادر الأكاديميّة ووسائل الإعلام الإسرائيلية، وقد حذر موقع Forward الذي يعكس آراء اليهود

المحافظين من الانخداع بنظريّات الحايك مصنّفاً إيّاها في خانة “العلم المُبتذَل” Junk science.
ويجب التّنبيه إلى أنّ هذا النّوع من أنصاف العلماء الذين يعملون على هامش المؤسّسة العلميّة غالباً ما يتمّ إدماجهم في مؤسّسات الدّولة وخطَطها السياسيّة، وفي هذا السّياق فإنّ هذه الدّراسات يتمّ على الأرجح تنسيقها وتركيب نتائجها من قبل أجهزة متخصصة بالدعاية والحرب النفسية ثم البحث في كيفيّة إعطائها الطابع العلمي بما يوفّر لها الأثر المطلوب. ومن الأمور المماثلة تعميم استخدام تعبير “الدّيانة الدرزية” (بدل “مسلك التوحيد”، كما يسمّي الموحّدون الدّروز أنفسهم). في بعض الإعلام الإسرائيليّ.
ونشير هنا إلى أنّنا نخصّص هذا المقال ليس بهدف الردّ على مزاعمه السّطحيّة ولكن من أجل إظهار الأساليب الماهرة التي تستخدمها الدّولة الإسرائيليّة في سبيل خدمة أهدافها وتضليل الرأي العامّ الدرزيّ وغير الدرزيّ في موضوع حسّاس يتعلّق بطائفة لها مكانتها ودورها في تاريخ العرب والمسلمين.
المهمّ هنا أنّ “ألموج” لم يأتِ من عنده بشيء ذي قيمة وهو أنشأ فرضيّته القائلة بأنّ الدّروز ليسوا عرباً بالاستناد إلى نظريّة حول الموضوع للباحث الإسرائيليّ عيران الحايك وهو أستاذ في جامعة شفيلد في بريطانيا لكنّه ليس من علماء الجينات المعروفين ولا يعمل ضمن فريق له مصداقيّته وقد نشرَ حتى الآن جملة من النّظريّات حول أصل أوروبيّ مزعوم لليهود تعرّض بسببها لهجمات من قبل المصادر الأكاديميّة ووسائل الإعلام في إسرائيل، وقد حذّر موقع Forward الذي يعكس آراء اليهود المحافظين من الانخداع بنظريّات الحايك مصنّفا إياها في خانة “العلم المُبْتذَل” Junk science.

الحايك “يكتشف” الدروز
وقد بدأ الحايك مقالته “الكشفيّة” بتقديم يزعم فيه أنّه ولأكثر من ألف سنة فإن “المصادر الغامضة” (لاحظوا التعبير) للشّعب الدرزيّ حيّرت علماء اللّغات والمؤرّخين وعلماء الاجتماع الذين لم يتوصّلوا للاتّفاق حول ما إذا كان الشّعب الدّرزي هو من أصل عربيّ أو قوقازيّ أو تركيّ أو فارسيّ”. فالحايك يمهّد لنظريّته بإعطاء الانطباع بأنّ تاريخ الدّروز مجهول وغير متّفق عليه، ليضيف بعد ذلك أنّه وبفضل البحوث الجديدة (التي أجراها منفرداً) فإنّه تمكّن من حل هذا اللّغز (هكذا..) إذاً، فإنّ الدّروز الذين شاركوا في حياة المنطقة منذ الإسلام الأوّل وحكموا مناطق كثيرة من جبل لبنان ثم خدموا الدّولة الإسلامية ثمّ السّلطنة العثمانيّة لمئات السنين، هؤلاء الدّروز ذوي الأنساب العربيّة الصّحيحة والأسماء العربيّة الصريحة والعقيدة الإسلامية العربيّة والذين لا يوجد جزء من تراثهم الفلسفيّ أو الروحي أو التاريخي إلا وكتبوه هم باللّغة العربيّة، هذا الشّعب الأبيُّ العريق هم حسب هذا الباحث الإسرائيليّ لا يعرف تاريخه ولا يعرف خصوصاً أنه من أصل غير عربيّ!!.
كيف حل الباحث الإسرائيليّ اللّغز المتعلّق بأصول الدّروز؟ حلّه في مختبر خاصّ به يقول إنّه أجرى فيه “أبحاثاً جينيّة” تستخدم طريقة اخترعها وسمّاها “علم السّبر الجغرافيّ للجينات” وهي طريقة مُفبركة لا أساس علميّاً لها وليست مستخدمة من قبل أيّ جهةٍ علميٍّةٍ، لكنّها مناسبة لخدمة أغراض الباحث ولاستكمال عمليّة التّلفيق. يقول الحايك:
“لقد أظهرت تحقيقاتنا الجينيّة أنّ معظم الدّروز يعودون في تركيبهم الجينيّ إلى منطقة شمال شرقي تركيا وجنوب غربي أرمينيا وشمال العراق، وهي المنطقة المحاذية لجبال زاغروس”. ويتابع بأنّ الدّروز نزحوا عن تلك المناطق بسبب الحروب والصّراعات التي حصلت فيها، وبما أنّهم معتادون على العيش في تلك الجبال الشاهقة فإنهم مالوا للإستقرار في المناطق الجبليّة في لبنان وسوريا وفلسطين. ثم يورد الكاتب مزاعم غير مسبوقة مثل “إنّ التركيب الجينيّ للدّروز أقرب إلى اليهود الأشكناز منه إلى شعوب الشّرق الأوسط.”

نظرية “الأصول المشتركة”
ثم يضيف الحايك القول: إنّ في الإمكان ردّ التّشابه الجينيّ بين الدروز واليهود الأشكناز إلى “الأصول المشتركة” التي تجمعهما وذلك بسبب أنّهما عاشا جنباً إلى جنب في تلك المناطق من القوقاز (مما يبنى عليه أنّه حصل تمازج وربما تزاوج بين الشّعبين هو الذي يفسر التّشابه في تركيبهما الجيني)، ثم ينتقل الكاتب لمحاولة تبرير حقيقة تاريخية معروفة تكذّب نظريّته وهي أنّ الدّروز لم يلتقوا أبداً باليهود ولم يعيشوا معهم منذ هجرتهم إلى بلاد الشام، وهو يقول في ذلك إنّ الشّعبين “افترقا” فاتّجه الدّروز إلى جنوب سوريا واتّجه اليهود إلى بلاد الخزَر Khazar في آسيا الوسطى وهما “يجهلان أصولهما المشتركة” وهذا إلى أن أثبت علم الجينات ذلك مجدّداً!!

مبروك إذاً للدّروز!! فبعد أكثر من ألف عام عاشت فيها هذه القبائل العربيّة العريقة في جبال لبنان وفلسطين وسوريا وعمّرت قراها لكن دون أن تعرف (أو ربما نسيت) من أين أتت وما هي أصولها أتركيّة أم قوقازيّة أم كرديّة أم غير ذلك، وبعد عدّة قرون تولى فيها الموحّدون الدّروز حكم مناطق شاسعة من لبنان وسوريا وفلسطين بتفويض من الدّول الإسلاميّة والعربيّة المتوالية، جاء باحث يهوديّ يعمل ربما في “وحدة دراسيّة” تحت إشراف الدولة ليكشف لهم اللّغز وينبئهم بأنّهم لا يعرفون من هم ويبشّرهم بأن جيناتهم تدلّ على أنّهم من أصول مشتركة مع اليهود الأشكناز بعد أن تمازجوا بهم في جبال القوقاز. والنّتيجة الأهمّ التي شدّد عليها الحايك هي أن الدّروز ليسوا كما يقال عرقاً متميِّزاً لم يمتزج بغيره بل هم حملوا من خصائص الكثير من الشّعوب الشرق أوسطيّة وغيرها التي تداخلوا معها. إنّ الهدف من الاستنتاج الأخير هو تشكيك الدّروز بأصولهم العربيّة وجعلهم منفتحين على نظريّات مثل الأصل المشترَك مع اليهود الأشكناز وما شابه من الترّهات.

الدراسات الجينية كلها أثبتت أن الدروز عرب أقحاح تعود أصولهم إلى القرنين السادس والسابع الميلادي أي إلى بدء الدعوة الإسلامية
الدراسات الجينية كلها أثبتت أن الدروز عرب أقحاح تعود أصولهم إلى القرنين السادس والسابع الميلادي أي إلى بدء الدعوة الإسلامية

الدّراسة الإسرائيلية التي أثبتت عروبة الدّروز
قلنا إنّ الأبحاث الإسرائيليّة والدوليّة الرّصينة نفسها تكذّب عيران الحايك وعوز ألموج وأمثالهما من المزوّرين المحترفين، وسنذكر في هذا المجال وبصورة خاصّة البحث التّفصيلي الذي أجراه فريق من الباحثين الإسرائيليّين والدّوليين وأعلنت نتائجه في شباط 2015 ونشرت نتائجه في “المجلة الأوروبيّة لأبحاث الجينات الإنسانيّة” ثمّ في صحف إسرائيليّة ودوليّة وأثار اهتماماً عالمياً،
يومها أعلن رئيس الفريق البروفسور جيل آتسمون أستاذ البيولوجيا الإنسانيّة وعلم طب الجينات في جامعة حيفا أنّ الدّراسة هي “أوّل بحث في الخصائص الجينيّة للطائفة الدرزيّة يؤكّد أنّها تتمتّع بتاريخ من المُورِّثات الجينيّة المشتركة يعود إلى القرن الحادي عشر الميلاديّ، وأن نتائج البحث تلتقي مع ما يعتقده الدّروز أنفسهم في ما يخصّ أصولهم العرقيّة والثقافيّة”.
تألّف الفريق الدّراسيّ يومها (إضافة لرئيسه البروفسور جيل أتسمون) من البروفسور جمال زيدان أستاذ طب الجينات في جامعة بار إيلان ومن البروفسور إيتان فريدمان من جامعة تل أبيب ومن مركز بئر السّبع الطبّي في تلّ هاشومير. وانضمّ إلى الفريق البحثيّ الدكتور دان أبراهام من قسم طبّ الجينات الوراثيّة في كليّة أينشتاين في جامعة نيويورك، والدّكتور شاي كارمي الأستاذ في قسم علوم الكمبيوتر في جامعة كولومبيا والدكتور تيسير مرعي من مبادرة تنمية الجولان. ويشير تكوين الفريق البحثيّ من هذه الشخصيّات العلميّة الشهيرة في حقل البحوث الجينيّة إلى أهمّية الدّراسة التي قاموا بها والتقنيّات البحثيّة التي استخدموها لإعداد هذه الدراسة التي خرجت باستنتاجات تطابق ما خرجت به دراسات علميّة سابقة كما تطابق تاريخ الدّروز واعتقادهم بأنّهم يتمتّعون بأصول عربيّة صافية، بينما تقوم “نظريّة” عيران الحايك على عمل علميّ مزعوم في مختبر شخصيّ مُغلق لم يشارك به أحد ولم تطّلع عليه أو تفحص نتائجه أيٌّ من الهيئات العلميّة المشهود لها بالخبرة.
إستهدفت الدّراسة الشّاملة للفريق العلميّ الإسرائيليّ- الدوليّ معرفة ما إذا كان دروز الزّمن الحاضر يشتركون في أصول جينيّة واحدة، وفي حال ثبوت ذلك، في أيّ وقت بدأت تلك الأصول المشتركة في التكوّن. وتناول البحث 120 مشتركاً من دروز مناطق فِلِسْطين والجَولان واشترط ألّا يكون بين أيٍّ منهم روابط قربىمن الدّرجتين الأولى والثّانية بهدف ضمان شروط الدِّقة العلميّة للبحث، وتمّ استخدام نتائج دراسات جينيّة إضافيّة أُجرِيَت في لبنان وجبل الكرْمل ومناطق أخرى عديدة يقطنها الدّروز، وفقاً لعضو الفريق البروفسور جمال زيدان.
ومع اختتام أعمال مجموعة البحث، أعلن الفريق العلميّ أنّ الدّراسة أثبتت أنّ الدّروز يشتركون بالفعل في مورّثات جينيّة تُميِّزهم بقوّة عن أفراد الجماعات الأخرى في الشّرق الأوسط، وأنّ المجموعة المُميِّزة لجينات الدّروز بدأت بالتّشكّل في القرن الحادي عشر الميلادي. وحسب الدّراسة فإنّه وبالنّظر لأنّ أفراد الطّائفة لا يتزوّجون من خارجها فإنّ الأصول الجينيّة السّابقة التي حملها الدّروز معهم قبل القرن الحادي عشرَ الميلاديّ تلاشت في نفس الوقت الذي تناقص فيه عدد أفراد الطّائفة فأصبحوا (نتيجة استمرار التّزاوج الداخليّ) أكثر تقارباً وأكثر تمايزاً عن المحيط في مورّثاتهم الجينيّة.

الأمير شكيب أرسلان أثبت بالتفصيل التاريخي أن الدروز عرب أقحاح
الأمير شكيب أرسلان أثبت بالتفصيل التاريخي أن الدروز عرب أقحاح

الدروز حافظوا على نقائهم الجيني
وخرجت الدّراسة بأنّ الطائفة الدرزيّة تأسّست من قبل بضع مئات من العائلات في مطلع القرن الحادي عشَرَ وأنّ جميع الدّروز يعودون في خصائصهم الوراثيّة إلى تلك العائلات. الأهمّ من ذلك هو استنتاج فريق البحث بأنّه لم يُعثر على أدلّة تبيّن أنّ “بنك الجينات” الدرزيّة دخلته مورّثات غريبة طيلة السّنوات الألف الماضية، وهذا يعني أنّ الجماعات الدرزيّة لم ينضمَّ إليها جماعات جديدة منذ ذلك التّاريخ، كما عثر الباحثون على أدلّة تؤكّد وجود فروقات جينية بين المجموعات الدرزيّة في عدد من المناطق المختلفة والمتباعدة مثل لبنان والجولان والجليل الأعلى وجبل الكَرْمل وغيرها، وهو ما يعزّز الافتراض بأنّ الدّروز (على العموم) يتزاوجون في ما بينهم في المناطق التي يسكنونها.
لكنّ الدّراسة أكّدت في الوقت نفسه أنّ الجينوم (النّمط المميّز لجينات الموحّدين الدّروز) يتشابه إلى حد كبير مع الجينوم المميّز للشّعوب العربيّة ولسكان الشّرق الأوسط. ووجد الباحثون أنّ الجينات المُميِّزة للدروز تُظهر صلتهم بجماعات عربيّة عاشت في صدر الإسلام في القرن السابع الميلادي، وأنّ هذه الجماعات هي التي كوّنت أسلاف الدّروز وأجدادهم، والاستنتاج الأخير يطابق أيضاً رواية الدّروز لتاريخهم بأنّهم ينتسبون إلى قبائلَ عربيّة عاشت في صدر الإسلام وارتحلت في أوقات معيّنة بعد ذلك خصوصاً في العهدين الأمويّ والعباسيّ إلى جبل لبنان (الذي كان مفهوماً واسعاً يضمّ أجزاء من شمال سوريا وشمال فلسطين)..
إنّ نتائج الدّراسة الإسرائيليّة الدّوْليّة للعام 2015 تفضحُ المهزلة البحثيّة لعيران الحايك وتظهره على حقيقته، كما تعزّز الشّكوك بأن تكون دراسة الحايك وكلّ ما نُسج حولها في الإعلام ليست سوى جزء من مجهود دعائيّ وإعلاميّ إسرائيليّ منسّق لإيهام الدّروز (في فلسطين خصوصاً) بأنهم يشتركون مع اليهود بأمور كثيرة بينما لا يجمعهم بالعرب جامع، وهو ما قد يُسهِّل فصلهم عن جذورهم التاريخيّة العربيّة الإسلاميّة وإدماجهم بصورة أقوى بأغراض الدّولة العبريّة. ومن الواضح أنّ إسرائيل تستفيد الآن من حالة التمزّق وانهيار المعنويات العربيّة لإطلاق مثل هذه النظريّات على أمل أن تلاقي أصداءً لدى أوساط الموحّدين الدّروز المحبَطين بسبب تراجع القضيّة الفلسطينيّة وحالة التفرّق العربي.

سلطان باشا الأطرش ومجاهدو الثورة العربية السورية في صحراء الأردن- خيال عيران الحايك الواسع رأي فيهم أصولا قوقازية
سلطان باشا الأطرش ومجاهدو الثورة العربية السورية في صحراء الأردن- خيال عيران الحايك الواسع رأي فيهم أصولا قوقازية

العلم في خدمة الأجندة السياسية

نظريّة عيران الحايك حول الأصل القوقازيّ للدّروز بل وأصولهم المشترَكة مع اليهود الأشكناز قد تكون بدعة فجّة وتضليل مكشوف الأهداف، وهي بالتأكيد لن تلاقي أي اهتمام من دروز فلسطين أو الموحدين الدّروز عموماً.
لكن الحايك تميَّز قبل ذلك بكونه أحد مروّجي نظريّة ملفّقة أخرى عن “الأصل الخّزَرِيّ” لليهود، وهي النظريّة التي تقول إنّ يهود العصر الحاضر لا ينتمون جينيّاً إلى العِرق اليهوديّ الذي وُجِدَ في فِلِسطينَ في فجر التاريخ لكنّهم ينتمون إلى قبائل الخزَر التي كانت تسكن في آسيا الوسطى ولكنّها تبنّت اليهوديّة في وقت ما من القرن التّاسع الميلاديّ. وهذه النظريّة أطلقها قبل ذلك مفكّر يهودي ماركسي هو آرثر كوستلر (في كتابه “السّبط الثالث عشر”) وفحوى هذه النّظرية هي أن اليهود الأشكناز جاؤوا من قبائل الخزر وأنّه لا تربطهم بالتّالي صلات جينيّة وعرقيّة باليهود الذين يتّهمهم المسيحيّون بصلب المسيح. وقد نقل أحد أصدقاء كوستلر عنه في ما بعد أنّه أراد من كتابه أن يُظهرَ أنّ اليهود ليسوا عرقاً مميّزاً لعلّ ذلك يساهم في تخفيف الشّعور المعادي لهم والذي يسمّيه اليهود “اللّاسامية”، أي أنّ كوستلر اعترف بأنّه وضع نظريّته لأغراض سياسيّة وأنّه لا يوجد بالتّالي أساس علميّ لها. وها هو الحايك يحوك على نفس المنوال لكنّه يفتتح هذه المرّة سوقاً مع بضاعة تفوح منها رائحة الكذب والتّزييف الصّريح. وهو مثل كوستلر وألموج وغيرهم يقدّمون الدّليل أنّ ولاءهم الأساسيّ ليس للحقيقة بل للأجندة السياسيّة للدّولة اليهوديّة.

البروفسور إران حايك مروج نظرية الأصل القوقازي للدروز
البروفسور إران حايك مروج نظرية الأصل القوقازي للدروز
البروفسور جلعاد (جيل) آتسمون رئيس فريق البحث الذي أثبت نقاء الخصائص الجينية للدروز وأصولهم العربية
البروفسور جلعاد (جيل) آتسمون رئيس فريق البحث الذي أثبت نقاء الخصائص الجينية للدروز وأصولهم العربية

الشيخ سليمان الحلبي

سيرة الشيخ العلم أبو سليمان حسيب الحلبي

مبارك أنت أيها الشيخ القُدوة
في المجاهدة والمحبة وحفظ الأخوان

فقيد المسلك القويم الشيخ الزاهد العابد أبو سليمان حسيب الحلبي رحمه الله
فقيد المسلك القويم الشيخ الزاهد العابد أبو سليمان حسيب الحلبي رحمه الله

فقيد المسلك القويم الشيخ الزاهد العابد أبو سليمان حسيب الحلبي رحمه الله

عينٌ من الأعيان وعلمٌ من أعلام الورع والتقوى وركنٌ من أركان مسلك التوحيد، تميَّز بالإخلاص وسلامة النيّة والحلم والسخاء وحسن الخلق والتواضع والعبودية، وكان مثالاً يُقتدى به بطيب الكلمة والصبر والترفُّعِ عن الأنا. اجتمعت قلوبُ الناس عامةً على محبته، فلم يُعرَف له مبغضٌ، ولم يَعرفِ الحقدَ والقسوة. تأدَّب بآداب مَن سبقه من المشايخ الأتقياء وزاد عليها من جميل صفاته وحميد مناقبه ما جعل سيرتَه العطرة مدرسةً لمن أراد أن يتعلَّم مبادئَ التوحيد والعرفان.

حياتُه ومسلكُه
وُلد الشيخ الحلبي في بلدة بطمة – قضاء الشوف بتاريخ 20 آب 1922م، وسلك مسلك الالتزام الديني منذ مطلع صباه، وعاش عمره المديد مُجِدّاً مجاهداً، زاهداًً في الدنيا، فلم يكن يحب القنية الحسنة، بل كان يفضِّل البسيط من الفرش والأثاث، مستعيضاً عن حبِّ الدنيا بالاستئناس بمحبة أخوانه الموحدين ومتابعة شيوخه الأتقياء، مثابراً على حفظ الكتاب الكريم، وقد تزيّن بالكمال (إطلاق اللحية) في سنٍّ الخامسة والثلاثين على يد المرحوم الشيخ الجليل أبو يوسف حسين عبد الوهَّاب الموجود ضريحه المبارَك في قرية الغارية من قرى محافظة السويداء في سوريا،
تزوَّج في 20 تموز 1958م من الشيخة الجليلة سُمَيّة منذر من بلدة بزبدين المتنية (توفيت عام 2014م)، وهي شقيقة الشيخ الجليل سلمان منذر المعروف وأخوانه بالمحافظة والتقوى، وكانت من النساء التقيّات النقيَّات. رُزق منها ولد وحيد سمَّاه سليمان، كما تزوَّج أخوه الشيخ الجليل أبو سلمان أنيس من أختها الفاضلة في التاريخ ذاته، وعاش الجميع في المنزل المتواضع ذاتِه عِيشةً اتّسمت بالكفاف والبساطة الروحانية، أخوةً ورفاقَ دربٍ ومسلك، وعلى أتمِّ ما يكون من الوئام والوفاق. وكان الشيخ يكدّ ويعمل بنشاطٍ من أجل كسب عيشه والقيام بواجب عياله، فأتقن الحياكة على النَّول، ثمَّ تمرَّس بصناعة الصابون البلدي بالوسائل التقليدية المتوارثة، لا ليجمع الثروة بل ليفيَ حقَّ نفسِه وأهلِه عليه، ولعلَّ شجرة الجوز المعطاء في الحقل تشهد على كدِّ يمينه، وهو مَن لامس جذعها يوماً قبل سنواتٍ قليلةٍ من رحيله وخاطبها معتذراً عن عدم تمكُّنه بعد الآن من تسلُّقِها وقطاف ثمرها، فانحنت وأخواتها في العام التالي ليسهل تناوُل أغصانها، وكأنَّ في ذلك “كرامةً” للشيخ ليظلَّ قادراً على مباركتِها وقطافِ ثمارها.

الشيخ القدوة
كان المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي شيخاً فاضلاً تقيّاً، آمن وعمل الصالحات وفعل الخيرات وقام بالفرائض الواجبات وخاف مقام ربِّه ولاذ في الخلوات ونهى نفسه عن الهوى، انصياعاً وطاعةً، وكانَ حافظاً آياتِ الكتاب العزيز، مجتهداً في تَدبُّر معانيها وغاياتها، حريصاً على عيش الصدق والأخوَّة، مهتمَّاً
بـ “جبر خواطر” أخوانه، آمراً ناهياً باللطف لا بالقسوة، مُصلِحاً بين الناس، ناصحاً أبناءه برفقٍ ومحبة، واضعاً نفسه موضعَ القصدِ والتلقّي، يقيسُ الأمورَ عليها طالباً منها الامتثالَ والالتزامَ قبل أن يَطلبَهما من الآخرين، وربَّما كان ذلك سبباً لقَبول نصائحه واحترام رأيه وتوجُّهه، بفعلٍ من صفاء نيَّته وسلامة قصده، وقد جمع شيوخ البلدة وأهلها ومجتمعه المحيط على كلمةٍ سواء، فاجتمعوا في كنف رعايته متعاهدين على الإلفة والمودَّة.

“كان لا يقبل أن يُغتابَ أحدٌ بحضوره، وكان يردّد أنه «من قال في أخيه بما فيه فقد اغتابه، ومن قال بما ليس فيه فقد أبهته، والبهتان أعظم الكفران”

نهجه التربوي
أمّا نهجه في التربية والإرشاد فكان قائماً على التعليم بالقدوة الحسنة، وعلى إطلاق بعض كلماتٍ وعباراتٍ مؤثِّرة تلخِّصُ توجُّهه، كمثل ما كان يقول لابنه الوحيد مراراً: “لا تظنّ أنني أُفضِّلَك على سواك من أهل الخير إلَّا بما تفعلُه من خير”، و”إذا رأيتَ الخطأ من غيرِك فاكتفِ بأن لا تفعلَ مثلَه”، و”لتكن يدُك مبسوطةً للعطاء وعمل الخير ولا تُطبقها أمام المحتاجين”، و”إياك أن تتكلَّم بسوءٍ عن الناس”، ولذلك كان لا يغتاب أحداً ولا يقبل أن يُغتابَ أحدٌ بحضوره، وكان يردّد هذا القول: “من قال في أخيه بما فيه فقد اغتابه، ومن قال بما ليس فيه فقد أبهته، والبهتان أعظم الكفران”. ولا يرضى سماع أيِّ كلام بحقّ الناس وخصوصاً “الأجاويد” حتى ولو جاءت من مشايخ معروفين ومنظورين، قائلاً لمحدِّثيه: “ليس هنا مكان وزمان هذا الكلام”، كما كان يكره النميمة مردِّداً القول المأثور: “مَن نَمَّ لك نَمَّ عليك”.
ومن خصائص نهجه التربويّ أنه اعتمد الإخلاص في نصحه، فكان ناصحاً بالسرِّ لا بالعلن، وعندما كان ينصح أحداً ولا يقبل منه كان يردُ الأمر إلى نفسه قائلاً: “لو كنّا مخلصين لكان قبِلَ منَّا”، لكنّ جُلَّ همِه كان أن لا ينزعج منه أحد، موصياً ولده ومَن لازمَه بالقول مراراً: “ما تخلّي حدا يزعل منّك”. وكان حريصاً على طمأنة أخوانه وأبنائه المحبّين، فيلتمس لهم العذر، ويتفهَّم مواقفهم، وقد حصل معي مثل ذلك عندما قصدته يوماً لتوضيح موقف معيَّن فكان كالأب الحنون والمعلم الناصح دونما تأنيبٍ أو إحراجٍ، تاركاً لي حسن التصرُف بعد توجيه بضع كلماتٍ طيِّباتٍ كعادته تدعو إلى التسامح وعدم الإساءة إلى الآخرين مهما أساؤوا إليك.

خصاله وسجاياه
كان يرى نفسَه في موضع الإفتقار لله والعبودية، والعبودية هي، بحسب الجنيد (ر)، “ترك الاختيار” و”التبرُؤُ من الحول والقوة وطرحُ النفس بين يدَي الله عزّ وجلّ والصبر على مُرِّ البلوى”، وكان لذلك يكرر اعترافه بالتقصير: يمكننا أن نُقيمَ الحدودَ على الناس، لكن من كان عليه حدٌّ لا يمكنه أن يُقيم الحدود، و”أي أمرٍ نتكلم به يجب أن نطبّقه على أنفسنا أوّلاً”، فكان لذلك يلزم به نفسه والأقربين قبل أيِّ أحدٍ آخر. ومن تواضعه الجمّ أنه لم يكن يجد حرَجاً في متابعة أخوانه ومرافقتهم في تلبية الدعوات واللقاءات الدينية والاجتماعية، حتى من هم أصغر منه سنَّاً ومكانة، غير مهتَمٍّ بكونه شيخهم وكبيرهم. ولذا كان الكرم والمحبة والتعامل الإنساني مع الناس ومحبة “الأجاويد” من أجلّ سجاياه، فما كان يسمع بخلافٍ وقع بين بعضهم حتى يحزن كثيراً، فإذا علموا بحزنه يأتون إليه لطلب “صفو خاطره”، ويتصالحون لديه، أمَّا إذا تخاصم أحدهم مع أخيه وجاء شاكياً له عليه فكان لا يجيبه قطعاً ولا يحكم غيابياً بل ينتظر حتى يسمع الخصم ثم يحكم بعد تفكُّرٍ برويّة قائلاً: “الرأي يللي ما بيبيت ولو ليلة واحدة بيطلع ركيك”.

“من أقواله لأخوانه: «درهم عمل خيرٌ من قنطار علم، ودرهم تقوى خيرٌ من قنطار عمل، ودرهم إخلاص خيرٌ من قنطار تقوى، ودرهم مراقبة خيرٌ من قنطار إخلاص”

رسول محبة
أمَّا المحبةُ فكانت جزءاً من شخصيته ومن أبرز خصاله، وقد كان يعتبر أن محبة أخوانه في الله واجبة، فكان بذلك محبَّاً للجميع ومحبوباً من الجميع بمن في ذلك الذين يسيئون إليه، كما كان صادقاً في حرصه على حفظ الأخوان ومواساتهم، كثير التفقُد لأحوالهم، وخصوصاً الأصدقاء القدامى وكبار السن، كما كان محباً للضيف، كريماً في بيته وفي خلوة “القطالب” التي كان قيِّماً عليها، قائلاً: “ليس أَحبّ إليّ من الضيف؛ أجرُه لي ورزقُه على الله”.
رأى المرحوم الشيخ أنَّ العلم بلا عملٍ عقيم، وأنّ الصمت والتفكُر أفضل من الهذر وكثرة الكلام، ولذا كان يُطيل الاستغراق بالتأمُّل، مستشعراً حضوره في كنف الله عزَّ وجلّ، داعياً إلى وجوب إقران العلم بالعمل، ناصحاً أخوانه بالقول: “درهم عمل خيرٌ من قنطار علم، ودرهم تقوى خيرٌ من قنطار عمل، ودرهم إخلاص خيرٌ من قنطار تقوى، ودرهم مراقبة خيرٌ من قنطار إخلاص”، وكأنه كان يقول عندما يسمع كثرة الوعظ والوعَّاظ: “أمَّا نحن فنتلهّى بدراهم العلم”، وذلك تأثُراً بالمرحوم الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين الذي كان يرى أن إطالة الوعظ أشبه بإلقاء الخُطَب، وكأنهما كانا يريدان القول: لا تُكثروا من العلم على حساب العمل، ولا تحوِّلوا المعرفة إلى مجرَّد عباراتٍ للوعظ بل ارتقوا بالعلم والمعرفة إلى مستوى الحكمة، فالحكمة هي غاية العلم والمعرفة وهي غاية الكتاب. أمَّا هو فقد عرف أنَّ ما يفيد أكثر هو الصمت ودقة الكلام، ولذلك لم يكن يتلفّظ إلَّا بما فيه منفعة، مدقِّقاً في مصادر الكلام، حتى عُرفَ بالسكون والرزانة، وقد ردّد تكراراً، كمن سبقه من الأتقياء، قولَ بعض الحكماء: “أعقِل لسانَك إلّا عن حقٍّ توضحُه أو باطلٍ تَدحضُه أو حكمةٍ تَنشرُها أو نعمةٍ تَشكرُها”، وقد جسَّد حبَّه للصمت بتلك العبارة المخطوطة والمعلَّقة أمام ناظرَيه في غرفتِه، والتي أصبحت حكمتَه الأُولى وعنوانَ طبيعتِه وسلكِه: “الحكمة عشرة أجزاء؛ تسعةٌ منها بالصمت والعاشرة قلّة الكلام”، أفليس الصمتُ أبلغَ تعبيرٍ عن حال المؤمنِ، والحكمةُ أسلمَ سبيلٍ إلى بلوغِ غايةِ الوجود؟
رسم الشيخ بسجاياه الجليلة والمعبِّرة سُنَّةً سلوكية شريفة لأبناء المجتمع، مقتبَسَةً من سُنَن الأنبياء والأولياء والأئمّة والشيوخ الثِّقات، فقلَّما تجدُ أحداً من عارفيه لم يسمع منه مثل تلك المواعظ والحكم والآيات الطيِّبات التي كانت تشكِّل معظم كلامه ومواقفه، كرفضه إلقاء اللوم على سواه وقوله عند مواجهة أية معضلة أو إعاقة: “الحقّ علينا”، وأَنّ “ما يخرج من الإنسان هو الذي يُنجِّسه وليس ما يدخل إليه”. وفي معرض القناعة، كان لا يحبُ الفضول والإسراف معتبراً “أنّ لا شيء يساعد على التخلُص من الحرام غير التقليل”، مردِداً القول المأثور: “خذ ممَّن شئت فأنت أسيرُه، وأعطِ مَن شئت فأنت أميرُه، وساوِ من شئتَ فأنت نظيرُه”.

الشيخ أبو محمد جواد
الشيخ أبو محمد جواد

تأكيده على الإخلاص والمراقبة
أمَّا الصبر فكان من أعظم خصاله، وقد رافقه طيلة حياته المديدة، ولكنّ ما حصل معه في السنة الأخيرة من عمره كان الأهمَّ والأبلغ، فبالإضافة إلى صبره على أوجاع جسده بنتيجة المرض والكسر الذي أصابه في ذلك العام، كان يقابل إحراجه وتألُّمه من بعض المواقف والمعضلات بالصبر والاحتمال، وهو مَن اعتمد قاعدة جوهرية في مواجهة المشاكل، مردِّداً وصية لقمان الحكيم (ع) لولده: “با بنيَّ مَن عاملك بالقبيح عاملْه بالمليح وكلٌّ يلقى عمله”، وقائلاً: “النار لا تُطفأ بالنار بل بالماء”، وهذا ما ردّده في العديد من محطات حياته.
كثيرةٌ هي المواعظ والدروس والإرشادات التي كان يُرسلها الشيخ الطاهرُ على سجيَّته لأبنائه المريدين وأخوانه القاصدين إليه، إضافةً إلى حسن تصرُفه ولطف معاملتِه، وهو الذي لم يَشكُ يوماً ولم تفارق الابتسامة ثغرَه، بل كان متأدِّباً مع الله وخَلقِه، ما إن يئنُ أنَّةً عفويةً في لحظة وجعٍ شديد حتى يؤنِّبَ نفسَه وينعتها “بقلّة الأدب مع الله لأنه لم يتحمَّل بعضَ ألم مُستحقّ”، وهو مَن كان يُبادرُ إلى إرضاء مَن يُسيءُ إليه ومَن يعامله بقسوة، فيردُّ الأمرَ إلى نفسِه، ولا يتوانى عن زيارةِ غريمِه وطلبِ العفو و”صفو الخاطر” منه، وحسبُه في ذلك موعظة في البال ما انفكَّ يُردِّدها في نفسه وأمام الناس، عاملاً بها بكلِّ إخلاصٍ وصدق: “درجات الإخلاص أربعة؛ لا تردّ على من شَتمك – لا تُجازِ مَن ظلمك – وصِلْ مَن قطعك – وأحسِن إلى مَن أساء إليك”، وحسبُه أيضاً أربعةُ أبياتٍ من الشعر للإمام الشافعي (ر) ظلَّت معلَّقةٌ كذلك أمام مرآه:
“إذا شِئتَ أن تحيا سليماً من الأذى
ودينُك مـــوفــورٌ، وعِرضُك صَيِّنَ
لســــانُــــــــــــك لا تذكــــــــرْ بــــــــه عـــــورةَ ٱمرِئٍ
فكلُّك عــــوراتٌ، وللنــــاس ألســــــــنُ
وعـــينـُك إن أبــدتْ إليـــك مــعايبــاً
فصُنها، وقل يا عينُ للنــاس أعيـنُ
وعاشــــرْ بمعروفٍ وسامحْ مَنِ ٱعتدى
وفارقْ، ولكنْ بالتي هي أحســـنُ”
وإذا كان الإخلاصُ الحقيقي هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، وهو على عكس الرياء، فإنه، كما قِيل، “نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق”، لأنَّ مَن تزيَّن للناس بما ليس فيه سقط من عين الله، وكما قال ذو النون المصري: “الإخلاص لا يتمُّ إلّا بالصدق فيه والصبر عليه”. أمَّا إذا نظرتَ إلى شيخِنا الطاهر الجليل، بحسب تلك السجايا والخصال، فلا شكَّ أنَّك ترى فيه مثالاً يُقتدى به في الإخلاصِ وصدق السريرة، وقد استوى باطنُه مع ظاهرِه، بشهادة كلِّ مَن عرفَه وتعاملَ معه من قريبٍ أو بعيد ومَن شهِد عَيناً بأنه بنتيجة إخلاصه كانت أموره ميسّرة وكان ما يريده سهل المنال.
أسفاره الدائمة لتفقد أخوانه
كان صاحبُ هذه السيرة العطرة على غرار أخوانه الشيوخ البررة الأتقياء، منشغلاً بالتعلُّق بإخوانه ومواكبتهم، متفقّداً إيّاهم، قاصداً رؤياهم، شغوفاً بلقياهم، فاتحاً أبوابَ داره للتبرّك بحضورهم، سخيَّاً في ضيافته، قلَّما يرضى بتناول طعامه وحيداً، بل كان يدعو كلَّ مَن يزورُه من الأهل والأخوان لمشاركته، وكان مُجِدّاً في سفره لزيارتهم في قرى الشوف وجبل لبنان وراشيا وحاصبيا وجبل العرب والإقليم وغوطة دمشق وجبل السُمَّاق وفلسطين والجولان وغيرها، فلم تكن هناك بلدةٌ أو ناحيةٌ تواجدَ فيها إخوانه المؤمنون والموحِّدون إلَّا وزارها ودخل بيوتَ “أجاويدها” وسأل عن أهلِها، حتى إنّه كان دائمَ الصلاة لأجلهم، خصوصاً في أيام الصعوبات والمحن، لم يُشغلْه عن ذلك كِبَرُ سنٍّ أو تعبٍ، ولعلَّ ما أخبر عنه ابنُه في عامه الأخير يُصوِّرُ ما كان عليه من صلة محبةٍ وأُخوَّة، عندما عَرف بضيق أهلنا الموحِّدين في جبل السُّمَّاق، فأمضى ليلته ساهراً في فراشِه، مفكِراً بهم، ذاكراً ومصلّياً لأجلهم، وعندما قال له ابنه الذي كان نائماً في غرفته: “ألا ترتاحُ وتنامُ يا أبي؟”، أجابه على الفور: “ألا يستحقُ منّا أخوانُنا هناك ولو ليلةً واحدة؟”.

“كان يقول: لا تطيلوا الوعظ وتحوِّلوا المعرفة إلى عباراتٍ بل ارتقوا بالعلم إلى مستوى الحكمة، وعلّق في غرفته العبارة التالية «الحكمة عشرة أجزاء؛ تسعةٌ منها بالصمت والعاشرة قلّة الكلام”

مع الشيخ الجليل أبو سليمان حسيب الصايغ
مع الشيخ الجليل أبو سليمان حسيب الصايغ

إقتداؤه بالسلف الصالح
كما كان متأثِّراً بالسلف الصالح من المشايخ الثقات، مردِّداً مآثرهم الزكيَّة وساعياً جهده للسير على نهجهم، ولذلك جدَّ في متابعة شيوخِه المعاصرين والالتحاق بركبِهم، وقد تأثّر بالعديد منهم ومن الشيوخ السابقين. ومن المعروف أن بلدة بطمة عمرت بالمشايخ الأعيان والسَّلَف الصالح، ومنهم الشيخ شرف الدين علي الحريري، وقد قال فيه الشيخ أبو علي مرعي: كان له كرمٌ وحميَّةٌ وشجاعة وشدة بأسٍ في النهي عن المنكَرات والرذائل وهمّةٌ لنَيل الفضائل”، كما ذكر المؤرّخ ابن سباط بأنه كان من أكبر تلاميذ الأمير السيِّد جمال الدين عبد الله التنوخي (ق) وأنه استُشهد في حياته ( ت 880 هـ)1، والشيخ أبو صفيِّ الدين محمود الذي كان “شاعراً مجيداً وشيخاً ورعاً مفيداً” (ت 1091هـ)2، وكذلك الشيخ الورع العابد أبو يوسف سليم البيطار المشهور بزهده وتقشّفه وجهاده والذي عايشه شيخنا الحلبي في فترة شبابه وأُعجب بمسلكه الدقيق (ت 1371هـ)، وللثلاثة أضرحةٌ في البلدة تزار للتبرُّك والصلاة.

الشيخ-أبو-حسين---محمود-فرج-أحد-كبار-المشايخ-الذين-سلك-الشيخ-أبو-سليمان-حسيب-الحلبي-على-أيديهم
الشيخ-أبو-حسين—محمود-فرج-أحد-كبار-المشايخ-الذين-سلك-الشيخ-أبو-سليمان-حسيب-الحلبي-على-أيديهم

“كان دائم التذكير بدرجات إخلاص أربع: لا تردّ على من شَتمك، لا تُجازِ مَن ظلمك، وصِلْ مَن قطعك، وأحسِن إلى مَن أساء إليك”

صحبته لشيوخ عصره
وإلى جانب اقتدائه بالأعلام الأتقياء وتأثُره بسيَرهم المفيدة وسيَر مَن سار على نهجهم، تأثّر الشيخ الحلبي في بداياته بمسلك المشايخ الأعيان وفي مقدمهم شيخ ذلك العصر المرحوم الشيخ “أبو حسين” محمود فرج (ت 1953م)، وتيسَّر له مرافقة الشيوخ الأطهار في زمانه فأحبَّهم وأحبُوه، كمشايخ خلوات البياضة ومشايخ راشيا ومشايخ عاليه، وتأثّر بالمرحوم الشيخ الجليل “أبو حسن” عارف حلاوي (ت 2003م)، وحسن خلقه وأُنس محضره وبالمرحوم الشيخ أبو محمد صالح العنداري (ت 1992م)، لجهة الزهد وحسن التصرُف ومقابلة الإساءة باللين والتسامح وعدم الإثارة، قائلاً ما قاله الشيخ العنداري يوماً: “لو تصرَّفنا بغير ذلك و”عملنا نفوس” لكنَّا زدنا الخلاف”، ولم يكن ليسمح لأحدٍ ممّن حولَه بإعادة الكلام المُسيء وبأن يُملي عليه المواقف المتشدِّدة حيال صاحبه، داعياً إلى نزع الحقد من الصدور وليس من الأفواه فحسب.
وكذلك تأثّر بالمرحوم الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين، فكان كالطالب المريد لديه، متأدِّباً بحضوره، لائذاً بظلِّه، قائلاً له: “أسير خلفك لا أمامك ولا إلى جانبك”.،وعندما قيل له ذات يومٍ إنّ الشيخ أبو محمد جواد كان يقول كذا وكذا ردَّ قائلاً: “من تشبَّه بالملك هلك”. وكان متابعاً للشيخ، ملازماً له، وقد تأثّر كثيراً لفقده (ت 2012م)، وهو مَن كان مداوماً على متابعة اللقاءات الدينية وإحيائها في دارتِه في بعقلين قبل وبعد وفاتِه، نازلاً عند رغبته بأن يتحمَّل مسؤولية تلك المدرسة، ورعاية خلوة القطالب، فكان خيرَ أمينٍ مؤتَمنٍ على مكانٍ مبارَكٍ مخصَّصٍ للتعلُم والتعبُد وحفظ الأخوان.

تتويجه بالعمامة “المكولسة”
صعد الشيخ “أبو سليمان” درجات العلم والمعرفة والحكمة باطِّرادٍ، دون تراجُعٍ أو توانٍ، فلم يعثُرْ في دينه ولا في دنياه، ولم يتوقَّف عن السير قُدُماً والصعود في حياتِه، لكنَّه بالرغم من ذلك ظلَّ قلقاً على حسن خاتمتِه، سائلاً مَن جاء يُثني عليه ويُبشّرُه بالخلاص: “هل تكفلُ نجاتي؟”، ومُجيباً على سؤاله بلا تردُّدٍ: “أنا لا أكفلُ نفسي”. ولهذا كان استقبالُه للعمامة المكولسة التي ألبسه إيَّاها الشيخ الجليل أبو سليمان حسيب الصايغ، بتاريخ 31 تشرين الثاني 2015م، استقبالَ الخائف الباكي، وهو من كان ينظر إلى نفسِه نظرة الضعف والعجز والتقصير والتحقير. ومع حرصِه على قَبول خاطر أخوانِه المشايخ الكبار وتقديره لهم، فإنه حاول جاهداً عدم الانصياع لفكرة تتويجه التي باغتته والتي لم يكن يتوقّعها بحسب ما عُرف عنه من نظرةٍ اتهام لنفسه، معلناً بتواضع العارف المتيقّن أنَّه لا يَستحق تلك العمامة وما ترمز إليه من مكانة روحية. وقد كان بعد تعميمه حريصاً على طلب رضا جميع أخوانِه الشيوخ وبركتِهم، وكان أوّل ما قام به بقصد طلبِ الدعاء والرضا، زيارة المشايخ الأعيان وفي مقدّمهم الشيخ الجليل “أبو يوسف” أمين الصايغ، الذي كرَّر زيارته له لأكثر من مرَّة، وهو الشيخ المتوَّج قبله بتلك العمامة، وله مكانة مميَّزة عنده، وقد واجهَ تلك المرحلة المؤثّرة والدقيقة من حياته بالصبر والتحمُل والتماس العذر لأخوانِه، مستأنساً برأي الشيخ الجليل “أبو صالح” محمد العنداري وسماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن وأخوانه الشيوخ المخلصين ومحبتهم، حاصداً بسلامة طويّته راحةَ البال والاطمئنان.

خدمته لخلوة القطالب
بعد وفاة الشيخ الجليل “أبو سلمان محمود الشمعة” في العام 1999م، وهو الذي كان قيِّماً على خلوة القطالب وكان يرى في الشيخ الحلبي خيرَ مُعينٍ له، تسلَّم الشيخ “أبو سليمان” زمام رعاية الخلوة، فجعل منها منارةً دينية ومقصداً للمشايخ من كلِّ حدبٍ وصوب، يعاضده أخوه الشيخ أبو سلمان أنيس الحلبي وكان متشدِّداً في المحافظة على أموالها، منبِّهاً مساعديه ومن معه إلى مكان وجود المال، مدققاً بالسؤال عن نية المحسن، سائلاً إيّاه لأي جهةٍ يرغب صرف حسنته، فإذا لم تكن مخصصة للخلوة صرفها في سبيل الخير، وإلا اعتبرها للخلوة ولو لم يُصرِّح مقدِّمُها بذلك.
حرص الشيخ “أبو سليمان” بمساعدة أخوانه والأقربين على مضاعفة ممتلكات الخلوة وتوسيع محيطها للحفاظ على بيئتها الروحانية، وحسّن في أبنيتها وخصوصاً غرف “الخلواتية”، وكان يقول عن أي شيء استحدثه في الخلوة: “لو استخدمه المشايخ مرة لاستعاد أكثر من كلفته”. وقد قدَّر الله له رجالاً كرماء من أهل الفضل والمعروف، اشتروا مساحاتٍ واسعة من الأراضي المجاورة، سُجِّلت جميعها بإسم الخلوة، ممّا جعله يُسِرُّ لمحيطه بأنه أصبح مطمئنَّ البال إلى القطالب، دون أن يرى في ذلك ما يراه أخوانه الشيوخ من كرامةٍ خاصّةٍ له، وهو المقبولُ أمرُه بمحبَّةٍ، والمُطاعُ بعفويّةٍ دون إحراج أحد، وبخاصةٍ من أخوانه وأبنائه الموحِّدين الملتزمين بقوله تعالى: “يَا أَيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ…3
تجدَّدت مثلُ تلك الكرامة له، في بناء بيت البلدة في “بطمة”، وقد يُسِّر له منذ سنواتٍ معدوداتٍ وجود ابن أخيه البار وبعضٍ من أهلِه الأسخياء وأصحاب الأيادي البيضاء الذين اندفعوا لإقامة الدار وإتمامها، فارتفع البناءُ الجديد على مساحةٍ كافية وتوسَّعت الساحاتُ من حوله، ليكونَ بيتاً جامعاً لجميع أهل البلدة ومقرَّاً واسعاً وجاهزاً لاستقبالِ مأتمه الحاشد الذي ضمَّ عشرات الألوف من المشايخ والمسؤولين والمشيِّعين المودِّعين من أنحاء لبنان ومن سوريا. كما شارك في تشييعه معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط على راس وفد من النواب والقيادات.

مجاهداته وختامُ حياتِه المبارَكة
كان الشيخُ المفضالُ كثير المجاهدة والمثابرة، مُتعباً بذلك جسده النحيل ومُتحمِّلاً تبعات الضعف والمرض الشديد، فلم ينقطع وهو في أشدِّ حالات الضِيق، عن القيام بالواجبات الدينية والاجتماعية حتى آخر لحظةٍ من حياتِه. وفي سنته الأخيرة التي توّجت مسيرة العمر كلِّه، كان يتصرَّف وكأنه يشعر بأن الأجل قد قرُب، وأنَّه لا بدَّ من استغلال كلِّ لحظةٍ متبقية من حياته للصلاة وذكر الله وعمل الخير ومواكبة الأخوان والقيام بالواجب؛ وعلى هذا الرجاء، نام ليلته الأخيرة، ليلة الجمعة، وهو يتفقَّد ما حولَه ويسأل وحيدَه عن دار البلدة: “هل أصبحت جاهزة؟ هل تمَّ تنظيفها؟”، وعن مغلَّفات “الحَسَنة” والأمانات التي بين يَديه: “لا تنسوها، انتبهوا لما كتبتُ عليها”، ممَّا أثار استغرابَهم، وما استغربوه أكثرَ من ذلك كان إصراره في صباح اليوم التالي، أي صباح الجمعة، على الذهاب إلى خلوات البيَّاضة في حاصبيا لمواكبة المشايخ الذاهبين من الجبل لزيارتها، بالرغم من محاولة ثَنيه عن ذلك لكونه يشكو من المرض ويحتاج إلى “الأوكسجين” بين الحين والآخر، بحسب نصائح الأطبَّاء، قائلاً لهم: “بدنا نودِّع”، وملوِّحاً بيده الناعمة الرقيقة لأحبَّتِه الذين تحلَّقوا حول سيارته عند المغادرة، وكأنّه يسافرُ إلى عالَمٍ آخر، ليعودَ في المساء بعد نهارٍ حافلٍ بالمجاهدة ومحطات الذِّكر والمؤانَسة، ويدخل بمساعدة الأهل إلى غرفته التي تحوَّلت إلى شبه “مجلسٍ” أو “خلوةٍ” للصلاة والمذاكرة، يستوي إلى فراشِه لثوانٍ معدوداتٍ، يفارقُ بعدها الحياةَ الدنيوية (في الثاني من ك1 2016)4، وقد أوى إلى فراشٍ من نور، في رحلةٍ أشبه بتحرير اللطيف من الكتيف، ليُعاودَ المسافرةَ والارتقاء، مخلِّفاً وراءَه ذِكراً طيِّباً وسِيرةً وضّاءةً وأملاً متجدِّداً وثقةً ويقيناً لدى محبّيه وعارفيه وأخوانه وأبنائه الموحِّدين، بأنَّ مَن سعى في مرضاة الله رضي اللهُ عنه وأرضاه.

جانب من التأبين الحاشد الذي أقيم له في بلدته بطمة الشوف
جانب من التأبين الحاشد الذي أقيم له في بلدته بطمة الشوف

“رغم مرضه الشديد سافر في نفس يوم وفاته لـ «توديع» البيّاضة ومشايخها وتابع بنفسه قبل يوم من وفاته إعداد قاعة البلدة ومكاتيب الحسنة وكل تفاصيل الموقف ثم أســــــلم الروح”

قام بإعداد هذه السيرة عن حياة ومآثر المرحوم الشيخ الجليل أبو سليمان حسيب الحلبي الشيخ الدكتور سامي أبي المنى بالاستناد إلى ما اجتمع لديه من أخبار سيرة الشيخ الحافلة ومن شهادات المشايخ الأفاضل الشيخ أبو داود منير القضماني (خلوات القطالب).الذي صحب المرحوم الشيخ لسنوات طويلة في الخلوات، وكذلك شقيقه الشيخ أبو سلمان أنيس الحلبي، ونجله الشيخ سليمان الحلبي، وشقيق زوجته الشيخ ياسر منذر، ومرافقه الشيخ صلاح غانم.

لَبِـسَ الصفاءَ كما البهاءُ، مُكرَّمـا

زَهَـــــــــــتِ العمـــــــــامة بـــــــــالمُعَمَّـــــــــمِ عنـــــــــــــــــــــــــــــــــــدمـــــــــا ٱعتمـــــــــــــرَ التُّـــــــــــــقى مـــــــــــــن قبـــــــــــــلِ أن يَتعمَّمـــــــــــا
بـــــــــــــلــــطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافـــــــــــــةٍ وبـــــــــــــعِفَّـــــــــــــــةٍ، بـــــــــــــصفـــــــــــــائــــــه لَبِسَ الصفـــــــــــــاءَ، كما البهاءُ، مُكرَّمــــــــــــــــــا
فــــــــــــــــابيضَّ منــــــــــــــــه التـــــــــــــــــاجُ مثــــــــــــــــلَ فــــــــــــــــــــــــــــــؤادِه والوجــــــــــــــــــــهُ مثــــــــــــــــــلَ الثَّغـــــــــــــــــــــــــــــــرِ نوراً تَمتَمــــــــــــــــــــــــــا
يـــــــــــــــــــــا أيــــــــــــــــُّها الشيــــــــــــــــخُ المُعمَّــــــــــــــــمُ بـــــــــــــــــــــــــــــــالتُّقى كـــــــــالفجــــــــــــــــــــــــــرِ واجهـــــــــتَ الـــــــــزمانَ المُظلِمــــــــــا
يـــــــــــــــــــــا ســــــــــــاجداً يـــــــــــــــــــــا عــــــــــــابداً مُتخشِّــــــــــــعاً أمضيــــــــــــــــــتَ عُمــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَكَ دون أن تتبرَّمـــــــــــــا
سلَّمـــــــــــتَ لِلّــــــــه الوثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاقَ مُســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالِمــــاً بـــــــــل واثِقــــــــــــــــــاً، بـــــــــل راضيــــــــــــــــــاً ومُسلِّمــــــــــــــــــــــــــا
مهمــــــــــــــــــــا تراكمتِ الصِّعابُ تدحرجتْ مـــــــــن راحتَيكَ، وما استكنتَ لتُهزَمــــــا
بـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالزُّهدِ غالبـــتَ الأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا فغلبتَهـــــــــــــــــا وجعلــــــــــــــــــتَ من إذلالِ نفسِــــــــــكَ سُلَّمـــــــــــــــا
شيخي الأعزَّ بكَ الأجـــــــــــاويدُ اقتدتْ يــــــــــــــــــا مَن بجــــودِكَ كنتَ دومـــــــــــــــــــــــــــاً أكرَمـــــــــا
عرفتْــــكَ أرضُ “الشوفِ” فَوحَ أزاهرٍ فـــــــــامتدَّ عِطــــــــــــــــــرُكَ فــــــــــــــــــي البــــــــــــــــــلادِ ونسَّما
عِطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ يُنبِّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــئُ عن طَهارةِ دوحةٍ “حلبيـــــــــةٍ” كرُمَـــــــــتْ وطــــــــــــــــــابتْ مَغـــــــــنَمــــــــــــــا
عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن قريةٍ جبليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ قد أنبتتْ “كــــــــــــــــــحسيبها” وسْــــــــــــــــــطَ الليالي أنجُمــــــــــا
لمعــــــــــــــــــــــــــــــــتْ بليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِ سمائهــــــــــــــــا أسماؤها فغَــــــــــــــــــــــــدا نهــــــــــــــــــــــــــــــــــــاراً مُشــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِقــــاً مُتبسِّمـــــــــــا

يـــــــــــــــــــــا شيــــــــــــــــــــخَنا الأغلى، ديارُك واحةٌ فيــــــــــــــــــها ارتـــــــوى الأخوانُ من حَرِّ الظَّما
كم جُمعـــــــــةٍ! كم جَمعـــــــــةٍ! كم ليلـــــــــــــــــــــــــــــــةٍ! كـــــــــــــــــــــــــــم نهضةٍ! سبــــــــــــــــقَ العطاءُ المَوسِما
وَرَعـــــــــاً وأخلاقـــــــــاً وطُهـــــــــــرَ ســـــــــريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرةٍ ورضىـــــــــــــــــــــــــــا وإيمانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وقلبـــــــــــــــــــــــــــــــاً مُفعَمــــا
كـــــــــــــــــــــــــــخليَّةٍ حَضَنَ الشبـــــــــــابَ شيوخُــــــــــــها والكُـــــــــــــــــــــــــــلُّ يَعمــــــــــــــــــــــــــــــــــــلُ طائعـــــــــاً، لا مُرغَمـــا
مـــــــــــــــــــــــــــن زهرة ِ التوحيـــــــــدِ جَنيُ رحيقِها فَيـــــــــــــــــــــــــــضٌ تدفَّــــــــــــــــــقَ مــــــــــــــــــن غِناهـــــــــا بَلسَمــــــــــــا
يـــا شيخَنا يــــا مَن شمختَ إلى العُلى مُتواضِــــــــــــــــــعاً، وصرفتَ عُمرَكَ مُحرِما
مـــــــــا كـــــــــان وجهُــــكَ غيرَ وهـــــــــجٍ ساطـــــــــعٍ لا عابســــــــــــــــــاً غضَبــــــــــــــــــاً ولا مُتجهِّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
مَــــــــــــن زارَكـــــــــم لـــــــــم يَلــــــــــــــــــقَ إلّا حُبَّـــــــــــــــــــــــــــــــــكم وحنانَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكم، ورأى السلوكَ مُعلِّمـــــــا
مـــــــــا بـــدّلتـــــــــْكَ مَصــــــــــــــــــائبٌ ومَصـــــــــــــــــــــــــــاعبٌ والعمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُ زادَكَ مِنــــعـــــــــةً وتقـــــدُّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كلمــــــــــــــــــاتُ وعـــــــــــــــــــــظِــــــــــــــــــكَ لَمحــــــــــــــــــةٌ أو لَمعــــــــــــــــــةٌ نَطقَـــــــــتْ هُدىً والصَّمـــــــــتُ فيكَ تكلَّمـــــا
يـــــــــــــــــــــا شيخَنــــــــــــــا علَّمتَنــــــــــــــا أنَّ الجِهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا دَ قناعةٌ، والحــــــــــــــرَّ مَن حفِــــــــــــــظَ الدَّمـــــــــــــــــــــا
علَّمتَنــــــــــــــا أنَّ الشجاعــــــــةَ في تحدّي الــــــــــ نَّفــــــــــــــسِ، إنْ مالـــــــــــتْ إلى دربِ العَمــــــــــــــى
والعلــــــــــــــمُ والإيمــــــــــــــانُ يُعرَفُ من غِنى الــــــــــــ تــــــــــــــوحيدِ، لا الــــــــــــــتوحيدُ يُعرَفُ منهُمــــــــــــا
علَّمتَنــــــــــــــا أنَّ الحيــــــــــــــــــــــــــــــــــاةَ عقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدةٌ مــــــــــــــن وحيِهــــــــــــــا نَحيــــــــــــــــــا إلى أن تُختَمـــــــــــــــــــــــــا
علَّمتَنــــــــــــــا أنْ لا نَجِــــــــــــــــــــــــــــدَّ الســيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَ إلّا بـــــــــــــــــــامتشاقِ الحــــــــــــــــــــــــــــقِّ كي لا نُهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزَما
وبــــــــــــــــأنَّ عنــــــــــــــوانَ العبــــــــــــــــــــــــــــادةِ والســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعـا دةِ أنْ يــــــــــــــــــــــــــــكونَ الصــــــــــــــــــدقُ وعداً مُلزِما
ألــــــــــــــــــــــــــــزمتَ نفسَكَ عيشَــه وكــــــــــــــأنَّ ربَّـــــــــــ كَ حاضــــــــــــــــــــــــــــرٌ ويــــــــــــــــــــــــــــراكَ تنظرُ للسَّمـــــــــــــــــــــــــــــا

يـــــــــــــــــــــا خالقــــــــــــــي، ولقــــــــــــــد رآاكَ مَنِ اتَّقـــــــــــــــــــا كَ، بقلبِــــــــــــــــــــــــــــه، مُستشعِــــــــــــــــــراً أو مُغرَمـــــــــــــــا
عــــــــــــــــــــــــــــاش العقيدةَ مؤمِنــــــــــــــاً فَمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوحِّداً مــــــــــــــن بعدِ مــــــــــــــا نطــــــــــــــقَ الشهادةَ مُسلِمــــا
أدَّى الصــــــــــــــلاةَ بِــــــــــــــلا ٱنقطــــــــــــــاعٍ، صادقـاً والصدقُ رأسُ الدينِ يَهدي مَن سَمــــــــــــــا
ومضــــــــــــــى وأمســــــــــــــى صائماً، وفــــــــــــــــؤادُه طــــــــــــــــــــــــــــردَ الأبــــــــــــــــــــــــــــالسةَ الطُّغــــــــــــــاةَ وأَعدمـــــــــــــــا
لــــــــــــــم يُغــــــــــــــــــرِهِ عَـــــــــــــــــــــــــــــــــــدَمٌ ولــــــــــــــم يُفطِــــــــــــــرْ على رزقٍ حــــــــــــــرامٍ، بــــــــــــــــــــــل طــــــــــــــوى وتــــــــــــــألَّمـــــــــــــــــــــــــــــــا
زكّــــــــــــــى بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحبٍّ حــــــــــــــافظاً إخـــــــــــــــــــوانَه وإلى الحقيقــــــــــــــةِ حــــــــــــــجَّ واختــــــــــــارَ الحِمى
وولاؤُه مــــــــــــــــــــــــــــا كــــــــــــــــــــــــــــان إلَّا خـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالصاً وجهــــــــــــــادُه مــــــــــــــا كــــــــــــــــــــان إلَّا مُحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكَما

يـــــــــــــــــــــا شيخَنا حانَ الرحيــــــلُ وأنتَ فيـــ نــــــــــــــا مــــــــــــــاكثٌ وإليــــــــــــــك فــــــــاءَ مَنِ ٱحتمى
ودَّعتَــــــــــــــنا فجمعتَــــــــــــــنا كــــــــــــــرَماً، كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــما كنــــــــــــــتَ الأبَ الحــــــــــاني لكَ الجمعُ ٱنتمى
إرحــــــــــــــــــــــــــــلْ قميصاً وٱبـــــــــــقَ روحاً حُــــــــــــــرَّةً يـــــــــــــــــــــا مـــــــــــَن زرعتَ الخيـرَ زرعُك قد نَما
إرحَــــــــــــــلْ وعُدْ نــــــــــــــوراً يُــــــــــــــشِعُّ وسِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــرةً تُــــــــــــــــــــــروى لنــــــــــــــا لتظــــــــــــــــــــــــــــلَّ ذِكــــــــــــــــــــــــــــراً مُلهِمـــــــــــــــــــا
لــــــــــــــكَ من رضا الأخوانِ خيرُ شهــــــادةٍ كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمُزنِ تَنزِلُ كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَّما دمعٌ هَمـــى
من كلِّ حَدْبٍ قد أتَوكَ وأنتَ في ٱطْ مِئنانِــــــــــــــــــــــــــــكَ المعهــــــــــــــودِ أطبقــــــــــــــــــــــــــــتَ الفَمــــــــــــــــا
الجَمــــــــــــــعُ يَدعــــــــــــــو ســــــــــــــائلاً لــــــــــــــكَ رحــــــــــــــــمةً فــــــــــــــاترُكْ لــــــــــــــه طِيــــــــــــــبَ الــــــــــــــدُعاءِ لِيُــــــــــرحَما

سامي أبي المنى
رثاء العلم الجليل المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي، بطمة، 3-12-2016.

كلمة سواء

تحليلٌ نفسيٌّ لظاهرةٍ غَرِيبَة

يمكن تأريخ تجربة السّير على الطّرقات اللبنانيّة بأنّه تاريخ ما قبل المطبّات وتاريخ ما بعد المطبّات. ففي السّبعينيّات مثلاً أو حتى الثّمانينيّات وربّما التّسعينيّات لم يكن هناك على طرق لبنان وبصورة أخَصّ على طرق الجبل شيء اسمه المطبّات. لكن تبدّل الأمر في ما بعد بصورة غير ملحوظة أوّلاً عندما نبتت مطبّات معدودة على بعض الطرق الرئيسية، وكان واضحاً أنّها سيئة التّصميم وسيئة التنفيذ. ولا بدّ أنّ الفكرة (التي نشأت ربّما من تجربة “السواتر” التّرابية والحواجز في زمن الحرب وتقطيع أوصال البلاد) أعجبت آخرين فزرعوا طرقاتهم بمطبّات حاولوا أن تكون أفضل وأعرض من مطبّات غيرهم، وأهل القرى عندنا يحبون المنافسة والتّشاوف، لذلك، على كل سيارة تمرّ في بلدتي أن ترى أنّ المطبات التي بسطناها لا يوجد مثيل لها في القوّة فنحن بلدة لا نقبل إلا أن نكون الأفضل! وحصل التنافس بعدها (وهنا المصيبة) في عدد المطبّات، وأصبح هناك سباق أعداد: كم من مطب زرعت بلدية بتلون؟ وكم هم زرعوا في كفرحيم أو في باتر؟ وشيئاً فشيئاً أضعنا العدّ لأنّ المطبّات أصبحت مثل الفطر تنبت صباح كلّ يوم بما يناسب مزاج المجلس البلدي (مع تقديرنا لأشخاص الجميع)..

ثم دخل القطاع الخاصّ إلى الميدان (ونحن شعب حرّ مبدع ونحب المبادرة) فانتقل وضع المطبّات إلى أشخاص يخافون على أولادهم الذين اتّخذوا الطريق ملعباً أو إلى مؤسسات تعتقد أن المطب يجبر السيارات على التمهّل والإلتفات إلى بضاعتها، وأصبح كل يُغنِّي على ليلاه، ومع دخول “مقاولين” من كلّ نوع إلى عالم الإعوجاجات هذا تكاثرت التصاميم ورأينا إبداعات لا نهاية لها، فهناك المطبّ “اللئيم” المؤلف من “حبل زفت” مرتفع، الهدف منه تلقين كل سيارة تتجرأ على المرور دون أن تبطئ سيرها درساً قاسياً، وهناك “المطبّ المتسامح” العريض جداً، وهناك “العريض وسط” والمطب الحديديّ الملون، وهو مزعج مؤكّداً لكن أصحابه يعتقدون أنهم متقدمون تكنولوجياً في صناعة المطبّات، ومن أشكال المطبات “المطبّ الأنيق” المطلي بالأصفر والأبيض ومنها “المطب الخفيّ” غير المطلي والذي يفاجئك في آخر لحظة فلا تستطيع تداركه، ومنها المطب “الحضاريّ” المزود بصفّ مسامير فوسفوريّة وأكثرها مما لم يزوّد بأي مسامير فهي إذاً مطبات غير حضاريّة. تكاثرت المطبّات بحيث لم يعد من قبيل الخيال الدّعوة إلى هيئة في الجبل لمنح جائزة “أفضل مطبّ” لهذه البلدية أو لزميلات لها، ثم لم لا نجعل من تحسين المطبّات وتطويرها بنداً في أي برنامج للعمل البلدي؟! لأنّه إذا كانت البلديّات قد تبنّت عقيدة المطبّات فالأحرى – رحمة بالعباد- أن تتقن هذه الصّنعة فتجعل من هذه التلال المنتشرة شيئاً تستحسنه الأعين ويكون رحيماً بالسّيارات وبمن فيها.

المطب في الحقيقة ليس مُنتَجاً من الزّفت أو الإسمنت بل هو مُنتج نفسيّ لأنّه في سياسات القرية الضيّقة إثبات وجود فجّ فحواه “ها نحن نعمل لأجلكم” كما إنّه أوضح عنوان للسلطة على الناس بمعناها الضيّق، والمطب كما يدل اسمه شيء يعترض طريق المواطن ويجبره على مناورة تصبح في حدّ ذاتها عنوان امتثال لشيء قررته سلطة تعلوه وتحكم حياته اليوميّة، وكلمة “سلطة” هنا مهمة لأنّها تظهر المنحى التي تنزلق إليه أيّة “سلطة” ولو كانت هيئة بلدية في علاقتها بالجمهور الناخب. ويكفي للتّدليل على الكيفيّة في هذه السياسات أنه لا يوجد أيّ نصٍّ مرجعيّ يحدّد أين ومتى توضع، ولا نصّ فنيّاً يحدد مواصفاتها الموحّدة، فهي كما نشاهد جميعاً تزرع في أي مكان بتنفيذ مرتجل ودون مشورة مواطنيّ البلدة ومن دون دراسة أو مشورة خبراء. وقد نشأت في مناخات القرى ذريعة بدأت صغيرة ثم كبرت لتصبح مذهباً بلديّاً اسمه “منع الحوادث” وحسب هذه النّظرية فإنه كلّما كثرت المطبات وأُجبر الناس على أن يبطئوا سيرهم كلّما قلت الحوادث، وهذه مقاربة عجيبة غريبة لا يوجد مثيل لها في أيّ بلد في العالم ولم يقدم أيّ دليل عليها للنّاس الذين عليهم أن يتحمّلوا عذاب المطبّات ليل نهار، ولو أنّ الأمر يتعلّق ببعض الشباب الأرعن فإنّ الحلّ الأبسط هو إخضاعهم للقانون إمّا بحجز سياراتهم أو تنظيم غرامات مالية باهظة بحقهم بمعونة قوى الأمن الداخليّ، ولا نعتقد أنّه لو وُجد سلاح الرّدع هذا ستبقى هناك مخالفات على الطرق، ومن أغرب الأمور (التي تحتاج أيضاً إلى تحليل نفسيّ) أن يتمّ تعطيل السّير على الطّرق الرئيسيّة وتكبيد مئات الألوف من أصحاب السيارات والعربات المنضبطين في قيادتهم خسائر كبيرة جراء تخريب سياراتهم وهدر وقتهم، كلّ ذلك لأنّ هناك شخصاً أو عدداً من الأشخاص في مكان ما يصرّون على عدم احترام القانون، فتجري بذلك معاقبة الذين يحترمون القانون وهم الكثرة الهائلة بجريرة بضعة شبان لن توقفهم المطبّات عن ممارسة هواية القيادة السّريعة لسياراتهم خصوصاً عندما يهبط الليل وتصبح الطّرقات ملعباً لهم ولهوايتهم.

“المطبّات ليست شيئاً يمكن لأيّ بلدية أن تفتخر به، بل على العكس، لقد أصبحت فوضى تلال الزفت المفتقدة

لأيِّ معيار فضيحة حقيقية بلديّاً وإقتصاديّاً وإجتماعيّاً “

وهذا المنطق الأعوج والسّاذَج يدخل في علم النّفس أيضاً لأنّنا نتعامل مع مُنتَج آخر هو الجهل المترافق مع الصّلف والمزاجيّة، بدليل أنّ بدعة المطبّات ليست سلوكاً عامّاً فهناك بلديّات كثيرة في لبنان وفي الجبل لا تزرع مطبات، وهناك عدد متزايد من المجالس البلدية استوعب المشكلة وبدأ بإزالة المطبّات في بلداته، وطرق لبنان الرّئيسة والدّوليّة كلّها لا يسمح إطلاقاً بالمطبّات عليها، وباستثناء الطّرق الدّاخليّة في القرى (حصراً) فإنّ جميع طرقات الجبل هي طرقات رئيسة دوليّة والطرق الرّئيسة وإن كانت تمرّ في قرية أو مدينة هي في عهدة الدّولة اللّبنانيّة (وزارة الأشغال) ولا يحقّ للبلديّة التّدخّل في السّير عليها لأيّ سبب كان، لأنّ هذه الطّرق أصول إقتصاديّة يملكها البلد وهي جزء من بنية تحتيّة لتسهيل التجارة وحركة السّياحة والأفراد وحق التّمتّع بها من دون إعاقة من الحقوق المدنيّة التي لا يمكن إلغاؤها بقرار بلديّ أو بقرار من شخص في المجلس البلديّ.

نختم بالقول: إنّ ظاهرة المطبّات ليست شيئاً يمكن لأيّة بلديّة أن تفتخر به، بل على العكس لقد أصبحت فوضى تلال الزّفت المتفشّية دون أيِّ منطق أقرب إلى فضيحة اقتصاديّة واجتماعيّة لا يمكن الدفاع عنها بأيّ سبب أو ذريعة. لقد تفشت الظّاهرة بسبب التّقليد والكسل الذّهنيّ والتّنافس والمزايدات البلديّة، لكن وصل الأمر إلى حدٍّ بات يوجب أن نصحوَ وأنْ نضع حدّاً لهذا التّخريب القصير النّظر لطرقاتنا ولحياتنا اليوميّة، ولأنّ المجالس البلديّة مُنتخبة حديثاً فإنّ الجميع لديه فرصة العودة عن الخطأ وإزالة الضّرر الشّامل لهذه التّشوهات.

هذا في الحقيقة نُصح مُخلص نأمل أن يلقى آذاناً صاغية وفي جميع الحالات فإنّ الحملة التي بدأناها لرفع المطبّات والتّخريب من طرقاتنا ستستمرّ بأشكالٍ مختلفة وسنمدّ اليد فيها إلى منظّمات المجتمع المدنيّ والهيئات الأهليّة والأحزاب والبلديّات والنّوادي. وللموضوع صلة…

كلمة شيخ العقل

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

الموحِّدون الدّروز مكوِّن
أساسيّ لنشوء لبنان

يطالعُ زائرُ اليرزة عند مدخل وزارة الدفاع نُصباً منحوتاً لفارسٍ امتشق سيفه المرفوع في حركةٍ تعبِّرُ عن الشجاعةِ والإقدام، ذلك هو تمثالُ الأمير فخر الدّين الثاني الكبير. وليس من قبيل التلقائيَّة أن يتمَّ اختيار هذا الرَّمز ليكون معبِّراً عن حقيقةِ العقيدة الوطنيَّة التي يتمّ بها صهر اللبنانيَّين في مدرسة الشرف والتضحية والوفاء دفاعاً عن وطنهم الغالي لبنان، بل هو خِيارٌ دقيق لأنَّ الحصيلةَ الجوهريَّة التي حقَّــقها الأميرُ الكبيرُ، وبذل من أجلها حياته قبيل منتصف القرن السابع عشر، هي حصيلةٌ كان من شأنها أن تحوِّلَ الإمارةَ الموزَّعة في إقطاعات إلى فكرة وطنيَّة جامعة حملت الإمكان الفعليّ لقيامةِ وطنٍ يرفعُ رايته الواحدة التي تظلِّل كلّ أبنائه دون تمييز.

إنَّه لا يمكنُ لأيّ باحثٍ منصفٍ في التاريخ اللبنانيّ إلَّا أن يُدرج سيرة هذا الأمير الاستثنائي في الإطار الواقعي الذي يجب أن يُدرج فيه وهو المرحلة التأسيسيَّة لتجسُّد الكيان اللبناني واقعيّاً. ذلك أنه، بإنجازاته المتعدِّدة، وطموحاته البعيدة، وشجاعته البطوليَّة، وحسِّه الحضاريّ، وتجاوزه المدهش لأيّ غريزةٍ طائفيَّة، وكفاحه المتواصل، كان على يقين راسخ بأنَّ الشتات الشعبي، الموزَّع في الامارة وجهاتها الطبيعيّة في امتدادها الجغرافي الأوسع، لديه قوَّة الإمكان بأن يكون موحَّداً بشعور انتماءٍ إلى أرضٍ واحدة وجيش واحد، وتاليا، إلى وطن واحد هو لبنان.

إنَّنا لا نستسيغ فكرة التوظيف الطائفي في كتابة تاريخ لبنان، ولكن لا يمكن أن نتجاهل الوقائع الموضوعيَّة التي أدَّت إلى قيامة الوطن استناداً إلى روحٍ ميثاقيَّة سبقت عهد الاستقلال عبر أجيال وأجيال. فحُسن إدارة الحكم بحكمة ومسؤوليّة وطنيَّة من المعنيِّين، ومن قبلهم التـنوخيّين الكبار الَّذين حافظوا على ميزة الإمارة طيلة قرون عديدة. لذلك، لا بدّ من القول، بأنَّ هذه المقدِّمات هي الخلفيَّة التاريخيَّة العريقة الأثيلة التي تؤكِّدُ ما يُقال اليوم من أن الدّروز كانوا على الدوام من المكوِّنات الأساسيَّة للكيان اللبناني بأرفع معاني الحسّ الوطنيّ الجامع الَّذي يرفع قيمة الولاء للوحدة الوطنيَّة فوق كلّ نزوع طائفي إلى التسلُّط أو غيره.

لقد كان الحضور الحكيم لأسلاف الموحِّدين في جبل لبنان بآفاقه الجغرافيَّة المفتوحة، امتداداً طبيعياً للحضور الاسلامي في المستوى العام الّذي كان يجسّده حكم السلاطين في ظل الخلافة المتوارثة. وكان من عظيم حكمتهم السياسيَّة أن حافظوا دائماً على التوازن الدقيق الصعب بين مسؤوليَّاتهم تجاه “حكّام السلطنة”، وبين إيمانهم العميق بضرورة الحفاظ على أوسع حدّ ممكن من إمكان أن تنعم الإمارة وسكانها من مختلف الفئات بالحريَّة التي تمكّنهم من الحياة الكريمة غير الخاضعة لأيّ استبداد. وكان هذا التبصُّر قاعدة رسَّخت إطار التعامل مع ولاة الإمارة، وشكَّلت بمرور الزمن صيغة واقعيَّة لوجود الكيان الوطني.

إنَّ إيماننا بالوطن الواحد القويّ، وبدولته المتماسكة القادرة، وبمؤسَّساته الدستوريَّة المنتظمة قانوناً، يعزِّزُ من تمسُّكنا بالثوابت التي طالما مكَّنت لبناننا العزيز من الصمود والنهوض وتجاوز الصعاب والمحن. وعلينا أن نحافظ، في المجال الوطنيّ العام، على المكوِّنات الوطنيَّة التي بانسجامها يكون لبنان، ليس فقط رسالة للحوار والاعتدال والعيش المشترك الآمن، بل وطناً عزيزاً حرّاً لا تزعزعه رياح ولا تهدّده مخاوف شتّى. وإيماننا راسخ بضرورة مبادرة كلّ بنيه إلى التعاضد والتعاون ليبقى لبناننا بلداً “لا غنى عنه” بما يمثّله ماضياً وحاضراً من صيغة فذّة للتعايُش والتواصُل والحرّية والسَّلام.

هذا العدد

معَ قَضايا النّاس

إنتبهَ العديدُ من القُرّاء إلى التّغيير الأساسيّ الذي حصل في العدَدَين الأخيرين وإعادة ترتيب اهتمامات “الضّحى” باتّجاه قضايا النّاس، وأعربوا عن تقديرهم لهذا التوجّه مع التّشجيع على استمراره. ففي هذا العدد مثلاً، تحقيقٌ شاملٌ عن أزْمة شبكات الصّرف الصّحّي في الجبل والتي تهدّد بإفراغ المشروع من مضمونه، وقسم كبير خُصِّص للعمل البلديّ وهو المرادف للحكم المحلّي، وموضوع عن تجربتين لفرز النّفايات العُضْويّة في المصدر، واهتمام خاص بموضوع المطبَّات وهو موضوع بلغ درجة من التّفاقم بحيث تسبّب بإحتجاجات واسعة من المواطنين وحملات على وسائل التّواصل الاجتماعي تطالب بإعادة الطّرق إلى الدّولة والمواطن، كما كانت قبل تفشّي هذه الظّاهرة العشوائيّة. واهتمّت المجلة بإجراء حوار مع أوّل سيّدة في كفرنبرخ تُنْتَخَب لمنصب رئاسة البلديّة، كما زادت المساحة المخصّصة لمتابعة أخبار البلديّات بهدف تعزيز التّفاعل وتقليد المساءلة لهذه الهيئات المُنْتخبة التي يجب أن يتذكّر رؤساؤها خصوصاً أنّهم منتخبون للخدمة العامّة وليس للتحول إلى سلطة فوق النّاس.
وبالطّبع إنّ توجُّه المجلة بصورة أوضح نحو الشأن العام وقضايا النّاس لا يُعدِّل في تصميمها الأصليّ كمجلّة للثّقافة التّنويريّة والاهتمام بالتّاريخ والإرث العربيّ الإسلاميّ واختبارات التّوحيد في الحضارات الإنسانيّة المختلفة ولاسيّما التصوّف الإسلاميّ، فـ “الضُّحى” كما يتضّح من جدول محتوياتها ما زالت تعطي هذه الشّؤون الاهتمام الذي تستحقّه، لكنّ التّطوير الحاصل يحقّق توازناً أفضل بين هذه الإهتمامات الفكريّة والحياتيّة وذلك إنسجاماً مع رغبة بعض الزّملاء في مجلس الأمناء وفي المجلس المذهبيّ بتقريب المجلّة أكثر من عموم المجتمع وأخذها لنفسها دوراً أقوى في الإصلاح والتقدّم والتّنمية. وبالفعل فإنّ الاهتمام الذي تُفرده المجلّة للعمل البلديّ وقضايا التّنمية يجعل منها المرجع الأول الآن في هذا الحقل وهي تملأ بذلك فراغاً مهمّاً في مجال أساسيّ من مجالات الدّيمقراطيّة المباشرة أهملته أكثر وسائل الإعلام المكتوبة أو المرئيّة المُنشَغلة بالشّأن السّياسيّ بعموميّته.
أفردت المجلّة أيضاً مساحةً خاصّة لسيرة الشّيخ القُدْوة المرحوم أبو سليمان حَسيب الحلبيّ، أحد المشايخ الثّقات الذين جعلوا من حياتهم أمثولة في تطبيق المسلك القويم والعمل بآدابه والإرتقاء في منازله، وهذه التّغطية هي من ضمن النّهج الذي سرنا عليه منذ عودة المجلّة إلى الصّدور في صيف العام 2010، إذْ كرّست باباً للتّعريف بِسِيَر الصّالحين من السّلف ومن مشايخ العصر الذين هم مصابيح هداية في ليل الحَيْرة الذي نعيشه. وإلى موضوع سيرة المرحوم الشّيخ أبو سليمان حَسيب الحلبيّ هناك أكثر من موضوع في هذا العدد يتناول تاريخ الموحّدين الدّروز أبرزها، البحث القيم الذي وضعه أحد أبرز مؤرّخي العصر العثمانيّ البروفسور عبد الرّحيم أبو حسين حول الدّور الحاسم الذي لعبه الدّروز في بَلْوَرَة الكيان اللّبناني وأُسس الفكرة اللّبنانية، والموضوع المتعلّق بكشف محاولات بعض الأوساط الإسرائيليّة تلفيق نظريّات حول الأصل القوقازيّ وغير العربي للدّروز، وهي محاولات تستهدف التّمهيد لفصل دروز فلسطين عن بيئتهم العربيّة وعن القضيّة الفلسطينيّة وتعزيز عمليّات إدماج الأقليّة الدّرزيّة بخطط ومصالح المجتمع الإسرائيليّ.
في الوقت نفسه، تتابع المجلّة إفراد تغطية وافية للتّاريخ المجيد لأهلنا في جبل العرب ولِسِيَر أبطالهم ومآثرهم، وهي تغطية لا تكفيها المجلّدات لما في تاريخ هذا الشّعب الأبيّ من مآثر وبطولات سطّرها في الذّود عن حياضه وأرضه وعِرْضِه وفي مقاومة محاولات الإخضاع والمظالم التي تعرّض لها من الدّولة العثمانيّة في أيّامها الأخيرة ثمّ من الانتداب الفرنسيّ، وتغطية المجلّة لتاريخ الجبل وقضاياه جعل منها المطبوعة الأولى التي يتداولها أخواننا في جبل العرب، وهم يَرَوْن فيها بادرة تضامن معهم من أخوانهم في لبنان في هذه الأوقات الصّعبة التي يواجهونها وتواجهها سوريّة العزيزة. وتقديراً لهذا الدّور، ولخطّ المجلّة الوطنيّ البعيد عن الفِرْقة والانقسامات السّياسيّة، فقد أصدرت وزارة الإعلام في القطر السّوريّ ترخيصاً يسمح بإدخال المجلّة وتوزيعها بحريّة في القطر.
أخيرا،ً فإنّ “الضّحى” تفتح المجال ابتداءً من هذا العدد للتّواصل معها عبر البريد الإلكترونيّ (راجع الإعلان الخاصّ بهذا الشّأن) فلا تتردّدوا أيّها الأعزّاء في المساهمة والتّواصل وأداء قِسْطِكُم في نجاح هذا العمل الذي هو منكم وإليكم.

واللهُ من وراءِ القَصْد.

ازهار الخزامي

زراعتها منتشرة في أوروبا وبدأت تتّسع في لبنان

أزهار الخُزامى العطريّة

جمـــــال وعـــــلاج وثـــــروة إقتصاديـــــة

تعتبر الخُزامى العطريّة Lavnendula. Officinalis من أشهر النباتات في العالم ومن أكثرها فائدة من النواحي الطبية والمنزلية والاقتصادية. ومن أهم عوامل الجذب في عشبة الخُزامى سهولة زرعها والعناية بها وطول عمرها والنسبة العالية من الزيت العطري الذي يمكن الحصول عليه منها بطريقة التقطير العادية. ولزيت الخُزامى استعمالات عدّة في الطب البديل وفي صناعات الصابون والعطور ومستحضرات التجميل وبعض الزيوت الطبية، وبسبب الطلب عليه فقد بات لهذا الزيت قيمة كبيرة، مما قد يجعل منه مصدر دخل حقيقيّاً في مشاريع الزراعة الكثيفة للخزامى العطريّة، كما يحصل خصوصاً في فرنسا والعديد من الدول الأوروبية. وفي لبنان لم تنتشر زراعة الخُزامى العطريّة على نطاق تجاري حتى الآن، لكن الإهتمام بها يزداد يوماً بعد يوم بسبب تزايد الطلب على الزيت العطري المستخرج منها. ولزراعة الخُزامى فوائد أساسية لمربي النحل بسبب الإقبال الكبير عليه من عاملات النحل، وهو يعتبر بالتالي، مع أعشاب أخرى مثل الصعتر وإكليل الجبل والقصعين، من الأعشاب الرحيقية العظيمة الفائدة لإنتاج أفضل أنواع العسل ذي الطعم المميز والخصائص الشفائية، وقد بدأ العديد من البلديات والجمعيات في لبنان بتنفيذ مشاريع لتوطين الصعتر وغيره من النباتات العطريّة بهدف تشجيع تربية النحل والاستفادة في الوقت نفسه من هذه المحاصيل العشبية لأغراض تجارية.

أنواعُه وخصائصُه
توجد الخُزامى بأنواع عديدة، لكن الأكثر انتشاراً منها في لبنان هو الخُزامى الإنكليزية وكانت تسمى Lavnendula. Officinalis والميزة الأهم لهذا النوع هو تحمله الجيد للصيف اللبناني في المناطق الجبلية، بحيث إن في إمكانه النمو والاستمرار لسنين طويلة دون حاجة لريّه، وإن كان الريّ المتقطع له في الصيف يساعد على نموه ويحسن إنتاجه من الأزهار. وللخزامى الإنكليزية (والبعض يسميها الخُزامى المُغربيّة) ميزة أساسية على الأنواع الأخرى مثل الخُزامى الهولندية هي أزهارها الكثيفة وطيب رائحتها والنسبة العالية من الزيت العطري الذي يمكن استخراجه منها، علماً أن الخُزامى تعطي أعلى نسبة من الزيت العطريّ إذا زُرِعت على ارتفاع 1000 متر عن سطح البحر وما فوق.
رغم أنها تُزرع في المناخات المعتدلة، فإن الخُزامى العطريّة تحقق أفضل النتائج في الأماكن المشمسة والتربة الجافة الجيدة الصرف والمختلطة بالحصى والتي تمرر بالتالي كميات كافية من الهواء لقاعدة النبتة وجذورها السطحية، وهي لا تحتاج إلى تسميد كيماوي أو عضوي لأنها نبتة قوية مثل النباتات البرية بل إنها بسبب قوتها غالباً ما تحول دون ظهور الأعشاب الطفيلية الأخرى في جوارها. على العكس من ذلك، فإن التسميد العضوي الزائد قد يزيد الرطوبة حول الجذور ويصيبها بالتعفّن، ومرض تعفن الجذور هو أحد الأمراض القليلة التي تصيب شجيرة الخُزامى وقد تؤدي إلى يباسها. ومن أجل الحؤول دون ذلك، فإنه من الأفضل فلش الحصى الناعم حول كعب الشجيرات، وكذلك تقليم النبتة تقليماً وافياً ونزع الأغصان الخشبية والقديمة وإعطاء الشجيرة فرصة إنبات فروع جديدة تكون أكثر خضرة وقوة. وفي ما عدا التقليم (الجائر) كل بضعة سنوات، فإن شجيرات الخُزامى لا تحتاج إلى عناية ولا يتعرض موسمها لآفات، كما إنها قادرة على البقاء والنمو سنة بعد سنة دون ريّ على الإطلاق، وهذه ميزة كبيرة في مشاريع الزراعة الكثيفة التي لا تتوافر لها إمكانات الريّ المنتظم، إذ لن يكون على المزارع أن يقلق بشأن توافر المياه لري الحقل. الاستثناء الوحيد هنا، هو ضرورة ري شتول الخُزامى خلال فصل الصيف التالي لزرعها لتمكينها من تعزيز كتلة الجذور والنمو حتى بلوغ فصل الشتاء. وفي الغالب، فإن الريّ لسنة واحدة غالباً ما يكون كافياً لإنطلاقة شجيرات الخُزامى ونموها المستمر في السنوات التالية، كما إن الخُزامى تحتاج إلى تشذيب وتقصير الجذوع بعد القطاف بهدف إراحة الشجيرة والحؤول دون ظهور سنابل جديدة في الموسم نفسه.

منتجات مختلفة مصنوعة بزهر الخزامى أو زيته
منتجات مختلفة مصنوعة بزهر الخزامى أو زيته

“الخُزامى مثاليّة للزراعة الكثيفة، قليلة استهلاك الماء قوية معمرة ومنتجة لعســـل لذيذ ولزيت عطــــــري غالي الثمن ومتعدد الاستـــخدامات”

تكثير الخُزامى
يمكن لأي صاحب مشروع أن يشتري شتول الخُزامى الجاهزة من المشاتل وهي عادة لا تكلف أكثر من دولار واحد للشتلة الجيدة من عمر سنة أو أكثر في الأكواب، لكن إذا كان مصدر الري الصيفي متوافراً فإن في إمكان المزارع تكثير الخُزامى محلياً بطريقة الأقلام المقتطعة من الشجيرات المعمرة الموجودة في البستان، على أن يتم انتقاء الأقلام من عمر سنة على الأقل وليس الأقلام النابتة في الموسم الجديد، وفي كثير من الحالات يمكن اختيار فسائل من على كعب الشجيرات القائمة تحمل بعض الجذور، الأمر الذي يعزّز حظوظ نجاح الفسيلة ونموها في المشتل. وأفضل وقت لأخذ الأقلام أو الفسائل هو أوائل شهر شباط عندما تكون العصارة متوقفة والطقس مائلاً إلى البرودة، ويتم وضع الأقلام أو الفسائل في أكواب بقطر 10 سم وتنظيمها في صفوف متلاصقة في مكان مناسب وظليل من الحديقة بحيث يسهل ريها بطريقة الرش وحيث يمكن لكميات قليلة من المياه أن تكفي لتأمين الري طيلة فصل الربيع والصيف. وفي نهاية هذه المدّة وعلى مشارف الشتاء تكون الشتول قد تجذّرت وأنتجت نُموّات ساقية وزهرية، وأصبحت بالتالي جاهزة لنقلها إلى مكانها الدائم. وهذا المكان يمكن أن يكون على جنبات الطرق أو مساكب للزينة أو في أراض زراعية مخصصة له في حال الزراعة الكثيفة، ويجب أن لا يغيب عن بال المزارع أن الشتلات التي نقلت إلى مكانها الدائم ستحتاج إلى ريها مجدداً طيلة فصل الصيف التالي كما ورد ذكره سابقاً.

قطاف الخُزامى
يختلف توقيت قطاف الخُزامى وأسلوبه وفقاً لنوع الإستعمال المتوقع للحصاد، لكن المبدأ الأساسي هو أن حصاد سنابل الخُزامى يمكن أن يبدأ بعد اكتمال الإزهار وتفتح أكثرها على السنبلة، وهذا الحصاد هو الأنسب لتجفيف الأزهار على شكل باقات تجمع وتُعلّق على حبال بإتجاه الأسفل، تمهيداً لتسويقها أو من أجل تقطيرها بهدف إستخراج زيت الخُزامى الغالي الثمن، وفي حال الرغبة في إنتاج الزيت الجيد فإن من الضروري تقطير الزهر بعد القطاف مباشرة ودون انتظار عملية التجفيف.
لكن رغم أهمية هذه الاعتبارات فإن المزارع قد يقرر تأخير موسم القطاف لأسباب أخرى منها وجود قفران النحل في البستان، إذ يهدف مربو النحل عندها إلى أن يتيح للعاملات أخذ النسبة القصوى من رحيق زهيرات الخُزامى لما في ذلك من فائدة لتحسين كمية العسل ومذاقه وخصائصه الشفائية، وهنا فإن ما يجنيه المزارع من العسل يعوِّض أو يزيد على ما كان يأمل الحصول عليه من التقطير المبكر لحصاد الأزهار. ويمكن للمزارع أن يقرر تأخير القطاف لأسباب “سياحية” كأن تكون مزارع الخُزامى جزءاً من مشروع سياحي مما يتطلب الإبقاء عليها في حالة الإزهار وعلى لونها البنفسجي الرائع لأطول مدة ممكنة.
يؤدي التأخُّر في قطاف سنابل الخُزامى إلى تحول الزهيرات من اللون البنفسجي الأزرق الزاهي إلى اللون البنّي الفاتح وربما إلى تساقط قسم منها، أما الزهيرات الباقية فإنها ستخسر قسماً من الزيت العطري عند تقطيرها وربما تأثرت أيضاً نوعية الزيت. ومن أجل تفادي هذا الأمر، فإن المزارع الذي يكون مربياً للنحل أو مهتماً بإطالة موسم الإزهار يمكنه أن يلجأ إلى “حل وسط” وهو البدء بالحصاد وعملية التقطير في منتصف الموسم وقبل أن تجف الزهيرات ويتغير لونها.

النحل يعشق زهرة الخزامى وينتج منها عسلا لذيذا شافيا
النحل يعشق زهرة الخزامى وينتج منها عسلا لذيذا شافيا

.إنتاجية الخُزامى من الزيت
تتوقف إنتاجية الخُزامى من الزيت العطري على مجموعة من العوامل أهمها:
1. موقع الزراعة : نوعية التربة والمناخ وارتفاع الحقل عن سطح البحر
2. عمر الشجيرة
3. وقت النهار الذي يتم فيه الحصاد
4. نوع شجيرة الخُزامى(الصنف)
5. توقيت التقطير
يقول خبراء صناعة تقطير الخُزامى إن الزهر المجفف لا ينتج نوعية جيدة من الزيت، وإن الحصول على نوعية جيدة منه ممكن فقط من السنابل التي تمّ قطافها للتو ويجب أن يتم تقطير هذه السنابل فور القطاف. وأفضل وقت لقطاف سنابل الخُزامى هو أواخر حزيران أو أواسط تموز. ورغم أن الخُزامى ينتج موسماً آخر (رجعياً) من الأزهار، إلا أن هذه لا تنتج زيتاً جيداً لأن نسبة الكافور فيها تكون عالية وبالتالي فإن زيتها يعتبر غير صالح تجارياً، لذلك يفضّل في أزهار الخُزامى العائدة للموسم المتأخر إستخدامها لأغراض الزينة أو بيعها كأزهار مجففة فقط.
وتقدّر إنتاجية الزيت في أزهار الخُزامى المقطوفة حديثاً والمقطرة على الفور بنسبة 2 إلى 5% وهي نسبة عالية، لكن العامل المقرر في تحقيق هذه الإنتاجية هو موقع الشجيرات وقوة نموّها. لكن في حال ترك الشجيرات حتى نهاية موسم الإزهار قبل البدء بقطافها فإن المحصول “الجاف” الناتج لن ينتج من الزيت بأكثر من 1%.

“زهر الخُزامى علاج معترف به لحالات القلق واضطراب النوم ومستخلص الزيت الطيار مفيد جدا ًلمعالجة التوتر والإنقبـاض النفسي”

جهاز منزلي حديث لتقطير زيت الخزامى
جهاز منزلي حديث لتقطير زيت الخزامى

فوائد زيت الخُزامى
يتمتع زيت الخُزامى بخصائص مطهرة ومضادة للإلتهابات، كما يستخدم في صناعة العطور وتعطير منتجات الصابون والكريمات وسوائل الإستحمام والكثير من مستحضرات العناية بالبشرة. وفي صناعة الصابون على البارد بصورة خاصة يمكن إضافة زيت الخُزامى إلى السائل بهدف إعطائه رائحة الخُزامى الطبيعية، كما يمكن إضافة الزيت لتعطير أنواع من الشامبو الطبيعي المنتج أيضاً بالطريقة التقليدية. ويضاف زيت الخُزامى إلى مزيج من زيت جوز الهند وزيت اللوز وزيت حبة البركة لإنتاج زيت ممتاز للعناية بالبشرة ومعالجة الجروح أو الأكزيما والتشققات وجفاف أو إحمرار البشرة.

الإستخدامات الطبية
من أهم الفوائد الطبية المعروفة للخزامى هو فعاليته الممتازة في تهدئة التوتر وإحداث شعور بالاسترخاء ومعالجة الأرق وتحسين نوعية النوم. إن تناول شاي من البابونج الممزوج بأزهار الخُزامى كاف لإحداث شعور بالاسترخاء وتسهيل الخلود إلى النوم، كما إن وضع زهر الخُزامى تحت غلاف الوسادة يساعد على تنشق عطرها والاستغراق في نوم عميق نتيجة لذلك. ولمقطر الخُزامى (ماء الخُزامى) أيضاً مفعول مباشر في معالجة الأرق، إذ يكفي وضع ملعقة منه في كوب ماء فاتر أو كوب حليب فاتر وتناوله قبل النوم لمعالجة الأرق أو أي توتّر نفسي قد يكون حائلاً أمام الإخلاد إلى نوم عميق.
ونتيجة لذلك، فقد اهتمت صناعة المكملات الغذائية والعلاجات العشبية بتصنيع كبسولات تحتوي على مستخلص اللينالول Linalool والليناليل أسيتات Linalyl Acetate المستخرجان من زيت الخُزامى كعلاج طبيعي لحالات الأرق وأثبتت دراسة علمية أجريت عام 2010 الأثر الفعّال لهذين العنصرين على نوعية النوم وعلى معالجة القلق وحالات التوتر، كما أثبتت أنه من الممكن تناول هذه الكبسولات دون أي مضاعفات أو آثار جانبية. وأثبتت الأبحاث أيضاً أن عسل الخُزامى (المنتج من النحل الذي يجني رحيقه من حقول الخُزامى) هو الأفضل كعلاج لتطهير وشفاء الجروح غير الملتهبة أو المتقرحة.

احذروا الغش
بالنظر إلى ثمنه المرتفع، والطلب الكبير عليه من الطبّ البديل ومن العديد من الصناعات، فإن زيت الخُزامى هو من أكثر المنتجات تعرّضاً للغش. وأكثر أساليب الغش شيوعاً هو استخدام اللافاندين Lavandin وهو الزيت المستخرج من الخُزامى الهولندية المتدنيّة النوعية باعتباره زيت الخُزامى الأصلي، ومن الأساليب أيضاً تخفيف زيت الخُزامى بزيوت رخيصة مثل زيت اللوز أو بمحاليل صناعية. وبالنظر إلى استخداماته الطبية فإن شراء زيت خزامى مغشوش يمكن أن يؤدي إلى أضرار ومخاطر مما يعني أهمية شراء الزيت الصافي من مصادر موثوقة ومعروفة.

(إعداد: قسم الصحة والغذاء)

العدد 19