الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

البعوضة اللاسعة كيف ندرأ شرَّها؟

البعوضة المخيفة غرست خرطومها ونالت وجبة المساء

دورة حياة البعوضة

صورة معبرة تظهر البعوض الناضج على سطح المياه الراكدة حيث يضع بيضه بينما تزدحم بركة المياه بيرقات البعوض من مختلف الأعمار

البعوضة اللاسعة كيف ندرأ شرَّها؟

مزوّدة بأحدث تقنيات الإستشعار والهجوم
وأكثر ما يجذبها التنفس والعرق القديم

مادة الـ DEET طاردة للبعوض لكنها ضارة بالإنسان
وأهم البدائل الطبيعية زيت السيترونيلا والفيتامين B1

سهرات الصيف في الجبل على الشرفات وفي الصالونات والميادين أوقات سمر ومودة ومرح، لكن كائناً بالكاد تلحظه في تلك اللقاءات له القدرة على أن ينغص الجلسة ويصرف الحضور عن سمرهم إلى معاناة القرص والحك والأزيز الملحاح والمزعج حول الرؤوس الحائرة.
إنها البعوضة شريكة الصيف غير المرغوب بها، الهابطة على السهرات من دون دعوة ولا إذن لتبدأ اللسع الصامت لمن يعجبها من الحضور ويقول العلماء إن واحداً من كل خمسة أشخاص يعتبر من الأهداف الجذابة للبعوض، فهل أنت جاذب للبعوض وماذا يمكنك أن تفعل لتجنب أذاه خصوصاً في أشهر الصيف؟

الهجوم عن بعد
السبب الأهم لنجاح البعوضة في إقلاقنا هو أن بإمكانها أن تستشعر وتحلل عدداً كبيراً من العناصرالكيماوية الموجودة في جسدنا أو على جلدنا من مسافة لا تقل عن 40 متراً. لكن هناك فارق أساسي وهو أن ذكر البعوضة لا يهاجم الإنسان أما أنثى البعوض فأمر مختلف فهي عطشى دائماً للبروتينات وعنصرالحديد الموجود في دم الإنسان لكي تستطيع أن تضع بيضها. وفي ضوء المكتشفات العلمية الأخيرة، فإن هناك عناصر تجتذب البعوضة إلى جسدنا أهمها التالي:
البكتيريا: هناك أكثر من تريليون ميكروب تنتشر على جلدنا وتحدد رائحة جسمنا. 10% فقط من تلك البكتيريات مشتركة بين الناس، أما الـ 90% الباقية فتختلف باختلاف الفرد، والبعض منا يمتلك كوكتيلاً من البكتيريات يبدو جذاباً جداً للبعوض.
العناصر الكيماوية: عندما تبدأ البعوضة بتحليل جسدنا فإنها تبحث عادة بين نحو 227 عنصراً كيماوياً تم عزلها وتحديدها كعناصر جذب للبعوضة.
أكثر العناصر جاذبية للبعوض هو حامض اللاكتيك Lactic acid وحامض الكاربوكسيليك والأوكتنول الموجود في نفس الإنسان عند إخراجه الهواء من الرئتين وفي عرقه، وأكثر ما تحبه البعوض هو ثاني أوكسيد الكربون وهو الغاز الذي نخرجه من الرئتين ضمن عملية التنفس.
كلما أخرجت ثاني أوكسيد الكربون كلما كنت أكثر جاذبية للبعوض ولهذا، فإن الأشخاص ذوي البدانة يخرجون عادة قدراً أكبر من ثاني أوكسيد الكربون الأمر الذي يجعلهم عرضة للسعات البعوض أكثر من الأشخاص النحيلين، وهذا أيضاً السبب في أن الأطفال أقل عرضة للسعات البعوض من الأشخاص الكبار.
الحركة والحرارة: ينجذب البعوض إلى الشخص عندما يكون متحركاً بسرعة (كما عند ممارسة الرياضة في الصيف) فعندها يكون البعوض قد وجد هدفه الأمثل.

البعوض يحب العرق القديم
على عكس الظن السابق بأن البعوض ينجذب إلى عَرَق الإنسان، فإن الأبحاث العلمية أظهرت أن العرق في حد ذاته ليس هو ما يجذب البعوض، إنما هي البكتيريا التي تتوالد في العَرَق عندما يمرّ عليه وقت معين، وهذا يعني أن العرق لا رائحة له وهو يكتسب رائحته الخاصة من تكاثر البكتيريا فيه، وعندها يصبح جاذباً جداً للبعوضة التي تحب “العرق المتخمر”.
وقد أظهرت دراسة جرت في العام 1999 أن البعوض الناقل لجرثومة الملاريا ينجذب إلى الشخص بعد مرور يومين على تعرّقه دون أن يكون قد اغتسل وأزال العرق. ويؤدي تكاثر البكتيريا في العرق إلى إفراز الأمونيا وإلى تحول العرق البشري من محلول حمضي إلى محلول قلوي مناسب لعمل البعوضة.
لكن كما إن البعوضة تنجذب بقوة إلى رائحة معينة في بعض الأجسام، فإن أجساماً أخرى تفرز رائحة تحدث تشويشاً في عمل البعوضة وأحد هذه العناصر هو المتيل بيبرزين الذي يشل حاسة الشم لدى البعوضة بفعالية تجعلها لا تشعر أبداً بوجود اليد البشرية التي تشتهيها في المكان، لهذا فقد تم صنع بخاخات تحتوي على هذا العنصر لتضليل البعوضة لكن العلماء لم يفلحوا حتى الآن في منع تبخر تلك المادة ضمن مدة معينة. ويبدو أن بعض الأشخاص يفرزون قدراً أكبر من هذه المادة الأمر الذي يجعلهم لا يظهرون على “رادار” البعوضة وهو ما يفسر لماذا يتعرض بعض الأشخاص للسعات أكثر من غيرهم.

كيف تحمي نفسك؟
في السوق حالياً مئات المنتجات الطاردة للبعوض لكن الذي يدخل في تركيبها العنصر الفعال DEET لكن لهذا العنصر الكيميائي الذي يمكنه أن يذيب البلاستيك محاذير كثيرة على صحة الجلد وصحة الجهاز العصبي، خصوصاً بالنسبة الى الأطفال الذين يمتص جسمهم هذا العنصر الكيميائي بدرجة أكبر، وقد أثبتت 30 سنة من الدراسات لأثر الـ “ديت” على الصحّة أنه يساهم في ضعف الذاكرة وأوجاع العضلات والدوخة وتهيّج الجلد ومشاكل التنفس والصداع..
عنصر كيميائي آخر قد تجده في المحاليل الطاردة للبعوض هو البرمترين وهو من فئة العناصر الكيميائية المعروفة بأنها تسمم الجهاز العصبي، كما إن وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة اعتبرت البرمترين مادة مسرطنة يمكنها أن تتسبب بحصول أورام في الرئتين وفي الكبد وإضعاف نظام المناعة، كما إن البرمترين سام جداً للبيئة وخصوصاً للنحل والحياة المائية.

إجراءات احتياطية لاجتناب لسع البعوض
1. المياه الراكدة : يجب التخلص من أي مياه راكدة حول المنزل أو في الحديقة حتى ولو كانت في وعاء صغير لأن هذه المياه ستصبح حاضنة ليرقات البعوض.
2. ارتدِ ثياباً فاتحة اللون وواسعة نسبياً مع أكمام طويلة وبنطال مع كلسات
3. إجراءات مساعدة: الماريغولد أو أزريون الحدائق يفرز رائحة طاردة للبعوض، استعمال مروحة كهربائية في الخارج يساعد على طرد البعوض، أبو مغيزل أيضاً من أكبر مفترسي البعوض فلا تؤذوها.

علاجات طبيعية
هناك بدائل طبيعية لمادة الـ “DEET” المضرة وهي بدائل لا تقل فعالية عنها لكن من دون أي آثار جانبية منها ومن هذه البدائل:
• زيت ورق القرفة، أظهرت دراسة أنه أكثر فعالية في قتل البعوض من الـ “ديت”
• امسح زيت الفانيلا عيار 14 ممزوجاً بزيت الزيتون على المناطق المكشوفة من الجلد
• امسح زيت سيترونيلا صافياً (بنسبة 100%) على الجلد
• فيتامين B1 يجعل رائحة الشخص منفرة للبعوض وبما أن الفيتامين يذوب في الماء فإنه يذهب في البول ولا يبقى في الجسم، لذلك ينصح أطباء1 بتناول حبة واحدة يومياً من الفيتامين B1 خلال أشهر ظهور البعوض بين نيسان وتشرين الأول.

كيف تعالج لسعات البعوض؟
هناك مجموعة من الأعشاب التي يمكنها التخفيف من لسعات البعوض أهمها التالي:
1. الألوفيرا Aloe Vera
2. أزريون الحدائق Calendula
3. البابونج
4. زيت الخزامى أو زيت الزنزلخت
5. خل التفاح
6. الحبق
7. السيترونيلا

كما إن أطباء العلاج الطبيعي ينصحون باستخدام الثلج أو الحرارة العالية لمعالجة موضع اللسعة ويكون ذلك إما بوضع قطعة من الثلج على المكان المصاب وإما بالضغط على مكان اللسعة بملعقة صغيرة محماة على النار إلى درجة معينة بحيث تكون ساخنة يمكن احتمالها دون أن تسبب حروقاً. ويمكن تحمية الملعقة بوضعها تحت صنبور الماء الساخن أو وضعها في ماء ساخن مع اختبار الحرارة قبل وضعها على الجلد، وهذه الطريقة ستزيل ألم اللسعة وتطهر الجلد في الوقت نفسه فلا يتعرض إلى التهيج.

معجـــــزة الخلـــــق فـــــي النبـــــاتـــــات

معجـــــزة الخلـــــق
فـــــي النبـــــاتـــــات

النبات يشعر ويحب ويكره ويتواصل
ويقرأ أفكار البشر ويصدّ الاعتداءات

للنبات عالم خاص تحكمه قوانين وتسيّره مشاعر
، فهو يعلن الحب، وقد يعلن الحرب، وهناك من يحذّر من التفريق مثلاً بين الفول والخروع وإلا مات الاثنان! ولا تزرع الكرنب والكرفس متجاورين فقد تقوم بينهما الحرب !! إنه عالم النبات، إياك أن تدخله بنية سيئة أو بفهم مغلوط ! فقد أثبتت الأبحاث أن النبات ليس فقط يظهر أحاسيس ومشاعر معقدة بل إنه يرى ويسمع ويلمس ويتذوق ويشم بحساسية فائقة كما إنه، وهنا المعجزة، يستطيع أيضاً قراءة أفكار البشر .كما إنه يفرح ويخاف ويضطرب عند اقتراب الشخص الذي أساء إليه يوماً ما وربما “يغمى عليه”. هذه الحقائق التي أثبتها العلم بما يمتلكه من تكنولوجيات متقدمة جداً لقياس الموجات “الشعورية” في النبات تدعم ما كان يقوله السلف عن أهمية العناية بالأرض وفق المثل القائل:”اضحك للأرض تضحك لك” أي أنك إن أعطيت الأرض من اهتمامك وحنوت عليها وعلى نباتها وأشجارها فإنك ستحصل على محصول جيد هو مكافأة الأرض والنبات لك على ما تظهره من عناية وحدب. وقد أخبرنا الله سبحانه في قرآنه الكريم عن حياة النبات وامتلاكه لدرجة من الوعي عندما قال:نقص
وهذه الحقيقة حول امتلاك النبات لأحاسيس أكدتها تجارب أجراها أحد العلماء واستخدم فيها جهاز قياس للترددات التي يحدثها الانفعال في النفس يسمى Polygraph وقد قام هذا الباحث بتثبيت قطبي الشريط الموصل للجهاز على سطح ورقة سميكة من أوراق نبات الظل الموجود في مكتبه، ثم بدأ بري النبات بينما كان يتابع حركة المؤشر على شاشة الجهاز وكم كانت المفاجأة عندما وجد العالم أن ذبذبة مؤشر الجهاز تطابق تماماً نمط الذبذبات لأي إنسان يشعر بإثارة عاطفية ناعمة، مما يؤكد أن النبات يستجيب لريه بالماء ويشعر بالرضا والسعادة .وحدث العكس عندما فكر العالِم بإيذاء النبات (مجرد التفكير فقط دون الفعل) إذ همّ بإشعال عود ثقاب يُقرِّبه من أوراق النبتة فوجد قفزة فجائية في ذبذبات المؤشر مما يؤكد أن النبات استجاب لمجرد فكرة حدثت في عقل العالِم تضمنت نية الإيذاء، وهو ما يثبت أن النبات يتمتع بالقدرة على الإحساس والإدراك عن بعد وبالتالي الاستجابة لأفكار الناس الذين يقتربون منه.

النبات ينمو على الحنان
والنباتات مثلها مثل الأطفال تحتاج الى الرعاية الدائمة، فهي تنمو بالحب والحنان وتأنس لوجود الإنسان، بل إنها تستجيب للكلمات والحديث اللطيف وتظهر طاقة أكبر للنموّ، ومن هنا فإن تثبيت نبات الزينة الداخلي إلى جانب جهاز التلفون قد يكون مفيداً لأنه يتيح للنبات فرصة المشاركة والاندماج بالحضور الإنساني الذي يقوم إلى جواره والكلمة الطيبة الحلوة الموجهة الى النباتات يكون لها أثر السحر فهي لا تقل عن السماد الذي يخصب النبات ويؤدي إلى ازدهاره، وقد أجريت تجارب عدة تمّ فيها بث الموسيقى الناعمة أو الكلاسيكية في مواقع تربية الأبقار الحلوب وتأكد أن تلك الموسيقى أدت إلى زيادة الإنتاج من الحليب وإلى مظاهر رضا وصحة نفسية واضحة في سلوك الحيوانات الحلوبة.
والنبات حريص حرص الإنسان على استمرار جنسه والحفاظ على نوعه فلا يقبل عضو التأنيث في أي نبات إلا حبوب اللقاح التي من جنسه، ولو استقبلت أية حبة لقاحاً غريباً عن جنسها لفظته في فترة لا تزيد على ربع الساعة أي أن النبات وفيّ لجنسه ويتخير أسلوب التناسل الأمثل لاستمراره في الزمن.

رسائل تحت الأرض!
من الظواهر الخارقة في سلوك بعض النباتات أنها تتخاطب تحت سطح الأرض بهدف إبعاد جذورها عن بعضها بعضاً حتى تتيح الفرصة لجارتها لتنمو دون أي نوع من الاحتكاك أو الإعاقة ويكون ذلك عن طريق إشارات تصدر في صورة مادة كيميائية تشعر بها جارتها فتترجمها وتستجيب لها على الفور، وعند تعرض النبات للخطر تخبر النباتات بعضها بعضاً بالخطر القادم، وقد لاحظ العلماء أن مهاجمة إحدى الأشجار من قبل حشرات معادية (ضارّة) يصاحبها تغيّر كيميائي في أوراق الشجرة المهاجَمة بحيث تصبح كريهة الطعم منفرة للآفات، والعجيب هو أن الأشجار المجاورة للشجرة المصابة وعلى مسافة بعيدة أحياناً تتخذ الإجراءات الاحتياطية نفسها مما يؤكد نتائج الأبحاث العلمية الأخيرة وهي أن الأشجار تتواصل وتتبادل الرسائل بينها عبر شبكة الجذور وعبر شبكة أخرى موازية من الحساسات و”الناقلات العصبية” النباتية التي لم يكن العلم يدرك وجودها وهو بدأ مؤخراً فقط التعمق في درس كيفية عملها وتأثيرها.
وبعد البحث وإجراء التجارب تبيّن أن بعض النباتات تستخدم إشارات كيميائية تنطلق عبر الهواء وعن طريقها يمكنها التخاطب مع جيرانها ودق ناقوس الخطر .وقد أعلن مؤخراً عن أن المحبة والكراهية ليستا وقفاً على الإنسان، بل إن النباتات تشاركه فيهما ، فهل تعلم أن البصل والجزر صديقان حميمان وأن رائحة كل منهما تستطيع طرد الحشرات الضارة عن النوع الآخر؟
كما إن فول الصويا يحب أن يعيش مع الخروع وتستطيع رائحة الخروع إبعاد الخنفساء التي تضر بفول الصويا . وتنمو الذرة الشامية والبازلاء بقوة إذا زرعتا في نفس الحقل، كما إن رائحة العنب بإمكانها أن تصبح أشد عطراً إذا ما زرع زهر البنفسج إلى جانبه.

نبتة المستحية تنكمش على نفسها إذا لمست باليد
نبتة المستحية تنكمش على نفسها إذا لمست باليد

إكتئاب .. و«بكاء» بسبب العطش
وعلي العكس من ذلك، تنشأ الكراهية بين بعض النباتات حتى إنها تتحارب !! ومن شدة تركيبته الشعورية فإن النبات يتألّم ويبكي بصوت مسموع ويحتضر أيضاً، فبعد ملاحظة أحد العلماء لنبات ما كان يتألم ويحتضر سأل عن سبب ذلك فأخبروه أنه كان في غرفة مريض توفي حديثاً فكان من نتائج ذلك أن أصيب هذا النبات بالإكتئاب بعد طول معاناة وهو يعايش آلام المريض ويعاني مثله،كما لاحظ العلماء أن بعض النباتات تصدر أنيناً إذا تعرّضت للعطش، وهي تصدر أصواتاً تشبه البكاء عندما تفشل في الحصول على الماء اللازم لنموها في التربة .الطريف هو أن فريقاً من العلماء ابتكر ساعة نباتية مستنداً إلى الحقيقة العلمية وهي أن النبات هو من أقدر المخلوقات التي تشعر بالوقت، وتتكون هذه الساعة من الزهور التي تتميز بنظامها الدقيق فيستطيع الناظر إليها معرفة الوقت من خلال تفتح هذا النوع أو ذاك في وقت محدد من الليل او النهار .والنبات مزاجي، ويستجيب مثل الإنسان للمحرِّضات أو المنشطات التي قد يحصل عليها، فالنبات المحقون بمادة الكافيين يظهر نشاطاً ملحوظاً ، أما النبات المحقون بالكحول فيتطوح مثل الشخص المخمور . كذلك يستجيب النبات للموسيقى فيفرح ويزدهر عند سماع الموسيقى الهادئة ، وينزوي وينكمش عند سماع الموسيقى الصاخبة !

خبير جهاز كشف المشاعر كلايف باكستر يؤكد أن الاختبارات التي أجريت على النباتات بواسطة هذا الجهاز الحساس جدا أثبتت أن في إمك
خبير جهاز كشف المشاعر كلايف باكستر يؤكد أن الاختبارات التي أجريت على النباتات بواسطة هذا الجهاز الحساس جدا أثبتت أن في إمك

“بعض النباتات تتخاطب عبر شبكة جذورها تحت الأرض وبعضها يستخدم إشارات كيميائية عبر الهواء للتخاطب مع الأشجار القريبة ودق ناقـــــــوس الخطر”

هل للنبات ذاكرة؟
آخر ما اكتشفه العلماء أن النباتات لها ذاكرة وهي تستطيع بسبب وجودها أن تميِّز بين الصيف والشتاء مع انه ليس لها دماغ حسب مفهومنا وقد يكون الله سبحانه وتعالى قد أودعها آلة مفكرة من نوع لا نعرفه.
وفي كشف علمي أخير قال باحثون أميركيون إنهم تمكنوا من تحديد جزيء من الحمض النووي الريبي “RNA” يساعد النباتات على “تذكّر” الشتاء والانتظار إلى حين مجيء الربيع للإزهار في الوقت المناسب.. وقال الباحثون الذين أجروا الدراسة في جامعة “تكساس” الأميركية إن إحدى الطرق التي تساعد النباتات على معرفة ربيعها هي “تذكّرها” بأنها مرّت في فترة محددة وموقوتة من البرد. وقال الأستاذ المساعد في علم الأحياء الخلوي سيبلوم سونغ إن “النباتات بالطبع، لا يمكنها التذكر بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنها لا تملك أدمغة، لكن يمكن أن تكون لديها ذاكرة “خليوية” تمكنها من استشعار الشتاء، ويقدّم بحثنا تفاصيل حول العملية” وتدعى هذه العملية بالإرتباع، أي تعرض النباتات لدرجات حرارة منخفضة ولمدة كافية إلى أن يحين انبعاث الإزهار من جديد. واكتشف الباحثون جزيئاً من الحمض النووي الريبي سموه “كولداير” يحتاجه النباتات لصنع ذاكرة محددة حول الشتاء. وفي الخريف ينشط جين يدعى “أف أل سي” بكبح إنتاج النبتة للزهور، إذ إن الإزهار العشوائي قد يكون هدراً لطاقة ثمينة.

أثبتت الأبحاث العلمية أن أشجار الأكاسيا تدافع عن نفسها تجاه الغزلان التي ترعاها بإنتاج مادة شبه سامة في أوراقها
أثبتت الأبحاث العلمية أن أشجار الأكاسيا تدافع عن نفسها تجاه الغزلان التي ترعاها بإنتاج مادة شبه سامة في أوراقها

كيف تدافع أشجار البلوط عن نفسها؟
أحد محبي الطبيعة والباحثين الهواة في جنيف ذكر في شهادة له بأنه يلاحظ منذ خمسين سنة ما يحدث في حديقة بيته أو حتى في غابته المفضلة التي يتردد عليها باستمرار، وأن هناك تفاصيل ملفتة جذبت انتباهه، وهي كانت من الغرابة بحيث جعلت الناس يهزأون منه عندما كان يخبرهم عنها.
من ذلك تأكيده بأن الأشجار تتكلم في ما بينها أو على الأقل “تتواصل” في ما بينها، وهو يضيف بأنه تابع عن قرب عمليات تضامن لمجموعة من النباتات مع واحدة منها تعرضت إلى الكسر وتوصلت تلك النباتات إلى حدّ تنظيم دفاع مشترك تحمي به بعضها بعضاً، كلما شعرت بأن خطراً يهددها وهكذا توصل الرجل بعد عدة أبحاث معمقة وتجارب إلى أن أشجار البلوط تنبه بعضها عند اقتراب أي غزو للجعلان ( الجعل خنفساء مضرة بالنباتات ) تجاه إقليمها، حيث تطلق تلك الأشجار من حولها رائحة تحذر بعضها بعضاً من الخطر الذي يستهدفها مما يجعلها ( أي أشجار البلوط ) تُقوِّي بفضل مادة كيماوية مجهولة، سمك أوراقها، مما يمنح تلك الأوراق القدرة على تحمل الاعتداءات الخارجية التي تتعرض إليها بعد إفرازها لمادة سامة. فهذه الظاهرة تشبه الدفاع النباتي الذاتي ضد الجليد المفاجىء الذي يتسبب في ظهور تلقائي في النسغ ( ماء النبات ) لمادة قوية مضادة للصقيع ومنذ سنتين، في الصيف، يضيف الرجل، أنه لاحظ ظاهرة شبيهة بسابقتها وهذا في حديقة غزاها الجفاف ولم يبق فيها إلا بقايا الأشجار وبعضاً من غصونها وأوراقها التي كانت تهاجمها الحشرات من كل نوع. لكن تلك الحشرات ماتت مسمومة بعد أكلها لها.
هذه الشهادة التي تعتبر جديدة من حيث غرابتها جاءت في وقت كثرت فيه الدراسات العلمية والاكتشافات التي تؤكد وجود اتصال ما بين النباتات، وكذلك قدرتها على تبديل سلوكها بهدف حماية نفسها من المخاطر الخارجية. ويؤكد أحد علماء الحيوان في جنوب أفريقيا يعمل في جامعة “بريتوريا” ويدعى فان هوفن أنه بينما كان يحقق في ظاهرة نفوق قرابة نصف الظباء في محمية غابة “ترانسفال” لاحظ أولاً أن تلك الحيوانات كانت تموت بعيداً عن أسباب العطش أو الجوع أو أي مرض معلوم، لكن عمليات التشريح أثبتت أن مَعِدات تلك البهائم كانت تحتوي على أوراق acacia لم تهضم بشكل جيد و تحتوي على عدة مواد سامة، مما قاد العالم المذكور إلى مواصلة تحقيقه بجدية أكثر ليتوصل إلى نتيجة فاجأت علماء النبات، إذ تبين من الأبحاث أن أوراق شجرة الأكاسياAcacia وبسبب شدة الاعتداءات التي كانت تتعرض لها من قبل حيوانات المحمية، أفرزت تلقائياً موادّ سامة للدفاع عن نفسها، وذلك برفعها تلقائياً لمستوى مادة العفص التي تحتوي عليها، كما إن تلك الأوراق كانت تنبّه جاراتها من شجرة إلى شجرة بالخطر القادم إليها، من خلال إطلاقها في الهواء لمادة غازية وحسب – فان هوفن – فإن مدة عشر أو خمس عشرة دقيقة كافية لكي تتلقى شجرة تبعد بخمسين متراً الرسالة من الشجرة المنبّهة وخلال تلك الفترة الوجيزة تستطيع نفس الشجرة مضاعفة مادة العفص لكي تصبح سامة بالقدر الكافي لحماية نفسها من هجوم ظباء المحمية.

الإستشــراق و صياغة ذاكرة المغلوبين

الإستشــراق
و صياغة ذاكرة المغلوبين

المشروع الإستعماري للمنطقة تطلب تقديماً متحيزاً وجاحداً للإسلام
وتقديم أوروبا كقوة تمدين لشعوب متأخرة يحكمها الإستبداد

آرنست رينان رفض إعطاء أي فضل للعرب أو للإسلام
وهيغل رأى فضلهم في حفظ الحضارة الإغريقية للأوروبيين

برغم دفاع الأفغاني عن دور الحضارة الإسلامية

إلا أنه قبل تحليل رينان عن أسباب تأخر المسلمين

سياسات التدخل الغربي في شؤون المشرق العربي ( الإسلامي – المسيحي) وشمال أفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين لم تأتِ فجأة ومن دون مقدمات، بل مهّد لها خطاب معرفي إستشراقي حاول استبطان نقاط القوة والضعف في مجتمع الخصم المراد إضعافه قبل السيطرة عليه وإخضاعه، وكان من الضروري لنجاح ذلك المشروع الاستعماري، إعادة صياغة ذاكرة المغلوبين من موقع المركزية الأوروبية التي تفهم تشاركية العالم الجديد كرسالة تحضر يحملها المجتمع الأوروبي إلى الإنسان الآخر البربري المطلوب تمدينه.
والباحثون الغربيون في شؤون الشرق والإسلام في استخدامهم المنهج التجريبي الوضعي، كانوا دائماً ينفون وجود أهداف سياسية لعملهم البحثي ويصرون على أنهم منحازون الى الواقع فقط، فهم يتركون الوقائع تتحدث عن نفسها، أما في الحقيقة فإن الحصول على هذه المعرفة يستلزم دائماً اللجوء إلى إطار نظري معين أو اتخاذ موقف للتفسير.
وأول أساطير الفكر الإستشراقي التي تكشف زيف موضوعيته، كانت ادعاءه تجانس هويته العرقية والحضارية بالقول بوجود استمرارية تاريخية بين حضارة اليونان القدماء وفكر عصر التنوير وأوروبا الامبريالية والتي أصبحت مصدر النزعة الإنسانية العلمانية، والادعاء بأنه ما نتج عن تلك الحضارة من فلسفة وعلوم كان وليد تطور الفكر اليوناني وحده ، ولكن الكثير منا بات يعرف الآن أن الإغريق بالحقيقة تأثروا بشدة في ثقافة جيرانهم الأقدم والأغنى والأقوى واقتبسوا منهم، ومن بين هؤلاء حضارة مصر القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
أما الأسطورة الثانية التي بناها الفكر الإستشراقي حول أصوله الثقافية، هي أن حضارة الإغريق كانت أول تجربة ديمقراطية مقابل مجتمعات آسيا المستبدة، أما الحقيقة فهي أن المدن الإغريقية كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وكانت مجتمعات يحكمها طغاة أو حكومات أقلية أو نخب تنتمي الى عائلات أو قبائل محلية قوية أو مسيطرة على قبائل منافسة، أما المواطنون الأحرار فكانوا أقلية والعبيد هم الأكثرية.
حتى إنه في رحلة بحثه عن الأصول قام فكر الإستشراق بتهميش تاريخ الإمبراطورية الشرقية ( البيزنطية )، بسبب التأثيرات الشرقية والعربية التي أفسدتها !
كما تمّ تجاهل وطمس ما للعرب من حضارة مميزة في العصور الوسطى تمّ الحفاظ فيها على تراث الحضارتين اليونانية والرومانية وتطويره، الأمر الذي سمح لأوروبا في القرون الوسطى لاحقاً الاتصال بذلك التراث وبعث نهضتها من جديد. وليس غريباً أن نجد اليوم من يقول بأن ذلك التراث قد تمّ اختراعه لأنه ليس له وجود أصلاً1.

بدايات الإستشراق
في القرنين الخامس والسادس عشر بدأت تظهر دراسات عن لغات وأديان وثقافات هذا الشرق وكان للإسلام النصيب الأوفر منها، وقد ساعدت الاعتبارات السياسية والتجارية للدول الأوروبية على تطور حركة الإستشراق، فاستحدثت في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج في منتصف القرن السابع عشر كرسي للغة العربية، وفي فرنسا استحدثت أول كرسي للغة العربية في العام 1539، وبشكل عام إحتوت تلك الدراسات على تقييمات نزيهة موضوعية بل كانت أحياناً مفتونة بالدولة والمجتمع العثمانيين.
وفي نهاية القرن السادس عشر وبسبب انحطاط الدولة العثمانية بدأت تتغير وجهات النظر فكل ما كان يعتبره الأوروبيون جديراً بالإعجاب في المجتمع العثماني أصبح عيوباً وأخذوا يصورون الأتراك بشكل متزايد كمستبدين وفاسدين.
وفي القرن الثامن عشر بدأت الدول الأوروبية التدخل في الأقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني، وأصبح المفكرون السياسيون في عصر النهضة يعتبرون مجتمعهم قائماً على الحرية والقانون، وفي المقابل أصبحت الإمبراطورية العثمانية تعتبر المثل المعاصر للإستبداد.
وعلى يد المفكر الفرنسي مونتسيكو (1689-1755) تطور المفهوم ليصبح ( الإستبداد ) سمة عامة للشرق كله الأمر الذي أفسح في المجال لظهور مصطلح “الاستبداد الشرقي” وهو الذي عرض له مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) L’esprit des lois حيث رأى أن المناخ والجغرافيا في أوروبا يجعلان الناس يميلون للحفاظ على حريتهم، بينما المناخ الحار في الشرق يدفع بهم ليكونوا أذلاء لذلك كانت السلطة في آسيا إستبدادية.
في عصر التنوير الأوروبي تمّ الكف عن النظر للإسلام كنقيض للمسيحية بل أصبح ينظر إليه كمشروع حضاري مختلف و منافس، لذلك كانت الدراسات الاستشراقية في تناولها لحضارة الإسلام أكثر موضوعية وإنصافاً. أما في القرن التاسع عشر فقد بدأ يغلب الدافع السياسي على المعرفي في فكر الاستشراق وتحول إلى مؤسسات بحثية متخصصة. ففي باريس أقيمت مدرسة للغات الشرقية العام 1795، وفي العام 1873 انعقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين ومنذ ذلك التاريخ انتظم عقد هذه المؤتمرات.

الجيوش الصليبية تستسلم للسلطان صلاح الدين - الاستشراق سعى لتحقيق ما فشلت الجيوش في تحقيقه وهو هدم الشخصية العربية
الجيوش الصليبية تستسلم للسلطان صلاح الدين – الاستشراق سعى لتحقيق ما فشلت الجيوش في تحقيقه وهو هدم الشخصية العربية

1758- 1838 ) دوراً مهماً في تطوير فكر الاستشراق سواء على صعيد المنهج أو نوعية الأبحاث المقدمة حيث نشر أبحاثاً وترجمات كثيرة بالعربية والفارسية والتركية وتتلمذت على يديه أجيالٌ من الباحثين والمترجمين وقدم المشورة في الشؤون الإسلامية للحكومة الفرنسية. وكان المنهج المسيطر على هذه الدراسات المنهج الفيلولوجي (فقه اللغة التاريخي المقارن) بينما تمّ العزوف عن استخدام المنهج الأنثروبولوجي – (الذي ستظهر أهميته السياسية لاحقاً كعلم خاص بالشعوب المستعمرة أو التي تخلصت منه، حيث سيتم التركيز في تلك الدراسات على الظاهرتين العرقية والقومية) – وعلم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ حيث كانت تعدّ هذه العلوم لا شأن لها بالموضوع .
كان لانعطافة الدول الأوروبية باتجاه التدخل العسكري المباشر في شؤون المشرق العربي دورٌ حاسمٌ في تغيير وظائف الفكر الاستشراقي. (فنابليون بونابرت) الذي قام بغزو مصر سنة(1798م) استقى الكثير من معلوماته عن مصر من خلال روايات الكونت دي فولنى المنشورة سنة (1787م) عن رحلته في مصر وسوريا، وبما أن بونابرت كان يؤمن بالدور التمديني لفرنسا فقد جلب معه فريقاً من الباحثين والعلماء الذين أجروا دراسات شاملة صدرت لاحقاً في مجلدات بعنوان (وصف مصر).
وعلى يد الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) اختلفت الرؤية لتاريخ العالم من تعاقب دول وإمبراطوريات إلى تعاقب حضارات، حيث كل حضارة تحمل عبقريتها المميزة، وتضمحل هذه الحضارة بتحرك الروح المطلق التي كانت بالشرق في مرحلة الطفولة لمرحلة البلوغ بعد انتقالها إلى الغرب. كان هيجل يرى أن الدور المميز للإسلام يكمن في حماية تراث الحضارتين الإغريقية والرومانية من الاندثار والضياع، ونقله لأوروبا وهو بذلك يكون قد ساهم في نهضة أوروبا الحديثة، ولكن في تاريخانية هيغل تبقى المقارنة قائمة بين غرب يتمتع بفضائل العقل الإغريقي في مقابل جمود الشرق وانغلاقه باعتباره سمة لليهودية وللإسلام المتعصب ( بريان تيرنر 1081/15)2.

المستشرق الاسكتلندي هاملتون جيب اهتم بشرح أسباب انحطاط السلطنة العثمانية
المستشرق الاسكتلندي هاملتون جيب اهتم بشرح أسباب انحطاط السلطنة العثمانية

الإستشراق همّش تاريخ الإمبراطورية البيزنطيّـــة وتجاهلــــه لإعتباره أن التأثيرات الشرقية والعربية «أفسدتها» !

وخلال القرن التاسع عشر وبسبب النشاط الاستعماري المحموم لأوروبا تأثر الفكر الاستشراقي بالعرقية البيولوجية، وكان أبرز مروجيها المستشرق الفرنسي (آرنست رينان) حيث بلور في محاضرة له سنة 1883 تحت عنوان: “الإسلام والعلم” أطروحة تقول بـ “انحطاط الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعاليمها إلا من هذه الديانة. وانغلاق عقل كل مؤمن صادق)، أما كيف لذلك المسلم البدوي المتعصب والغبي بحسب زعمه أن ينتج علماً وفكراً فلسفياً في العصور الوسطى؟ فإنه يجيبنا على هذا اللغز بقوله: “إن هذا المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدون باللغة العربية، هو في الحقيقة تراث إغريقي ساساني وقد يكون أكثر دقة أن نصفه إغريقياً احتفظ بهما المسيحيون المحليون والملاحدة الحرانيون تحت القشرة الإسلامية، وان ذلك كان لحظة تفوق مؤقتة للشرق انقلبت بعد ذلك إلى دونية متأصلة” ..”فالعربي البدوي هو أكثر الناس شاعرية ولكنه أقلهم ميلاً للتأمل والتصوف، وعندما كان الإسلام منحصراً بالعرق العربي طوال الفترة الممتدة من الخلفاء الأربع إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافية مستقلة عن الدين” . فمجيء “الدولة العباسية مثَّـل انبعاثاً جديداً لمُلك كِسرى، وكانت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسية المنبعثة من جديد”.
آراء رينان سالفة الذكر هذه مارست تأثيراً كبيراً داخل الفكر الاستشراقي وخارجه كما إنها ساهمت إلى حد كبير في إعادة صياغة فكر النخب المغلوبة لحوالي قرن من الزمان أو يزيد قليلاً، بل يمكننا القول إنها ما زالت تمارس تأثيرها حتى يومنا هذا.
مناظرة الأفغاني- رينان
جرت محاولة مهمة للرد على أفكار رينان السالفة الذكر، قام بها المفكر الإسلامي الإصلاحي (جمال الدين الأفغاني) فدحض ما تضمّنته تلك المحاضرة من مقولات عرقية دونية بحق العرب والإسلام، وتمّ نشر الردّ بالفرنسية في صحيفة “المناظرة” Le Debat بتاريخ 18/5/1883، وقام رينان بالتعقيب عليه لاحقاً في نفس الصحيفة في اليوم التالي، فتحولت بذلك إلى مناظرة بين الشرق والغرب، لكن نسيت في ما بعد كل الردود بإستثناء ردّ الأفغاني أو تمّ تناسيها وإغفالها قصداً. وكانت المفارقة الكبرى أن هذا الرد أثار عند نشره سخط المسلمين المحافظين، بينما حظي بإعجاب رينان والمثقفين الفرنسيين. وبدأ الحملة ضد الأفغاني الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) عندما انتقى عبارات من رد الأفغاني بشكل مبتور، ثم نقل عنه اغلب الدارسين هذه الصورة المشوهة للنص. وبقي النص الحقيقي للرد مجهولاً ومعتّماً عليه حتى تاريخه بسبب خطورته، والخطورة تكمن في أن الأفغاني برغم دفاعه عن الإسلام والعرب، إلا أنه سلم لأرنست رينان بصحة الكثير من انتقاداته الحادة تجاه الإسلام والمسلمين .
جاء رد الأفغاني على رينان مسلِّماً بالقضايا التالية (أقر بأن الإسلام الرسمي – أي كما مورس من الحكام في عصور متأخرة) حاول خنق العلم وعرقل تطوره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وردع العقول عن البحث في الحقائق العلمية) وأضاف الأفغاني القول: “لكن الديانة المسيحية لم تكن على علم براء مما شابه هذا. وإني لأدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية، والمؤمن عندهم مدعو للابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية. أدرك هذا تمام الإدراك، لكنني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية قائلاً يتحول بتقدم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. ولا ينكر احد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات” ثم يتوقف الأفغاني في ردّه متسائلاً (كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظل هذا المشعل منطفئاً والعرب غارقون في لجج الظلام؟”
“هنا تبدو الدولة الإسلامية مسؤولة، ومن الواضح أن الاستبداد أعانها إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين.”

أرنست رينان رفض الاعتراف بفضل العرب وقدمت آرائه الأساس الأخلاقي للاستعمار الغربي لبلدان الشرق
أرنست رينان رفض الاعتراف بفضل العرب وقدمت آرائه الأساس الأخلاقي للاستعمار الغربي لبلدان الشرق

منطق تبشيري
وجاء تعقيب رينان على الأفغاني ليقول مادحاً صاحبه الذي وافقه الرأي تقريباً في كل ما ذهب إليه (إن الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضد الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: “إن أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمة بعد اليابان، إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة محل خلاف بيننا. لا كل ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كل ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتاج الدين المسيحي ولا كل ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام، هذا هو المبدأ الذي اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس” ثم يختم رينان تعقيبه بالقول: “خلال رحلاتي في المشرق وجدت أن مصدر التعصب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوة للممارسات الدينية، وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدمها للمسلم هي أن نحرره من السلطة الدينية”.
بذلك المنطق التبشيري الذي يعطي للمستعمر الأوروبي الحق باستخدام القوة ضد الشعوب المغلوبة، وتغطية مصالحه الاستعمارية برسالة التمدين والمدنية، سوف يختم رينان رده على الأفغاني.

مفهوم الأمة والمصالح المشتركة
وفي محاضرة ثانية له بجامعة السوربون في 11 آذار 1882 تحدث رينان عن مفهوم الأمة باعتباره شيئاً جديداً على التاريخ نافياً أن يكون للعرق أو اللغة أو الدين أو الاشتراك بالمصالح المشتركة أوما تكون أجنبية أو إثنيه تسيطر على نحو استبدادي على الكتلة الاجتماعية، لذلك توجد هوة واسعة بين الحاكمين والمحكومين وقد اعتبرت تلك المجتمعات مفتقرة إلى الوحدة العضوية والتماسك المميزين للمجتمعات الغربية فهي على العكس خليط متنافر أو بشكل أكثر تأدباً (فسيفساء) من جماعات دينية وإثنية وعشائرية وقبلية ومهنية وعرقية تحكم نفسها إلى حد كبير وغير مترابطة وغالباً متعادية. تلك هي الصورة بحذافيرها التي استحضرها المستشرقان ( جيب وبوين) عن المجتمع العثماني في مراحله الأخيرة والذي يربط المجتمع ببعضه ويمنعه من الانهيار هو وجود الإسلام والمؤسسة الدينية واللذين يعملان كغراء اجتماعي يمنع المجتمع المسلم من التفسخ إلى أجزاء .
ويؤكد جيب وبوين في بحثهما المشترك (1950) فرضية المستشرق الألماني غرونباوم (1970) بأن تاريخ الإسلام هو تاريخ انحطاط، وإن الحضارة الإسلامية لها سمة أساسية هي الركود والاستبداد.
وفي أبحاث له حول (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) انطلق جيب من فرضية وجود “عقل عربي” أو “عقل مسلم” ثابت ومميز وكلاهما مشتقان من العقل السامي الأكثر بدائية حيث كتب يقول (وبالتالي فإن رفض أنماط العقلانية وأخلاق المنفعة التي لا تنفصل عنها لا تكمن جذورها في ما يسمى ظلامية اللاهوتيين المسلمين، وإنما في تذرّر وتفكك الخيال العربي ) .
على قسم مهم من فرضيات آرنست رينان وهاملتون جيب سوف يبني المفكر العربي( محمد عابد الجابري) مشروعه في نقد العقل العربي بالتسليم بوجود عقل عربي مشرقي له بنية تاريخية هرمسية منعته من إنتاج الفلسفة والتأمل العقلي ودفعت به إلى الغنوصية أو العرفان يقابله عقل مغربي برهاني ( بياني) هو فكر إغريقي الأصول، دخل في قطيعة مع الأول وقد عرفته بلاد المغرب على يد فيلسوف قرطبة ابن رشد شارحاً مؤلفات الفيلسوف أرسطوطاليس.
ثم جاء بعد جيب المستشرق (برنارد لويس) ليوظف كل الفرضيات المنحازة والنظرة العرقية الدونية لتاريخ الشعوب العربية في أبحاثه بدأها بسلسلة محاضرات سنة 1963 5 فبرأي لويس التناقض الأساسي بالشرق هو العداء والصراع المستمر بين الرعاة والمزارعين وهو عداء مستحكم قديم وأقدم تاريخ مسجل لهذا العداء بينهم، موجود في بعض مقاطع سفر التكوين بين (هابيل) الراعي و( قابيل ) المزارع أما في الشرق الأوسط على العكس الرعاة هم الذين سوف يقتلون المزارعين ويبنون حكمهم على أشلائهم (1965م/ص 5 ) وهو الذي سيدافع عن دولة (سايكس بيكو) ودورها التحديثي وهي التي سيحاربها الفكر الإسلامي باعتبارها وثناً أو صنماً يدعو إلى الإلحاد و العلمانية، لذلك يجب هدمه حين فرقت بين المسلم وأخيه المسلم، لذلك كانت (أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط)6.
وهي وجهة نظر سيتم اعتمادها من قبل الباحث (محمد جابر الأنصاري) في أبحاثه عن الدولة القُطْرية7مراهناً على دورها الايجابي والتحديثي في نقل المجتمعات العربية من طور البداوة إلى طور الحداثة، والتجزئة هنا ليس مردها لوجود الدولة القُطرية، بل بسبب وجود الفراغات الصحراوية غير المأهولة بالسكان والتي يناسبها نمط الاجتماع القبلي والعشائري أي طور الاجتماع في مرحلة ما قبل (الدولة/الأمة). والدولة القُطرية هنا سوف تستعيد نفس الدور التجميعي الذي لعبته الإمارة الإقطاعية في أوروبا قبل الانتقال لمرحلة (الدولة/ الأمة)، وبذلك نجد أنفسنا من خلال وجهة النظر التي يتبناها الباحث، أمام ضرورة التسليم بكونية المسار الأوروبي للتطور كنموذج حتمي ووحيد، يجب على كل تجارب الأمم الحديثة استعادته في المستقبل، هذا هو الوهم الاستشراقي الكبير الذي غذى شعور التفوق لدى الغربيين والذي تحول مع الوقت إلى المبرر الأخلاقي الضمني لفلسفة الاستعمار ولعملية اقتسام العالم بين الدول الكبرى الغربية، كما إنه لا يزال هو الدافع الأول للصراع الدولي المحموم حول هذه المنطقة ولمشاريع التفتيت التي نشطت بصورة غير مسبوقة للسيطرة عليها.

المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني دافع عن الإسلام لكنه قبل تحليل رينان لأسباب تخلف المسلمين
المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني دافع عن الإسلام لكنه قبل تحليل رينان لأسباب تخلف المسلمين

الجباعي عاب على الفكر القومي العربي خلطه بين العرق واللغة والدين ومفهوم الأمة وركز على العقد الاجتماعي والمصلحة المشتركة كـأســـــاس لقيام الكيانات الحديثة

الفيلسوف الألماني هيغل اعترف للعرب بحفظ الإرث الحضاري اليوناني للبشرية
الفيلسوف الألماني هيغل اعترف للعرب بحفظ الإرث الحضاري اليوناني للبشرية

 

مرآة التجلِّي في رمزية العطّار

مرآة التجلِّي
في رمزية العطّار

وصلتم ثلاثين فرأيتم ثلاثين!

“الحضرةُ مرآةٌ ساطعة كالشمس، كلُّ مَنْ ينظر إليها يرى نفسَه فيها”، عبارةٌ اختتم بها الشاعر النيسابوري المتصوِّف فريد الدين العطّار رحلةَ الطيور إلى “الحضرة” في منظومته “منطق الطير” وجاءت ثمرةً لتبلور مفاهيم فلسفية وصوفية عبر الأجيال. فكَثُرَ ما تحدَّث المتصوّفون عن مبدأ “صَقْل مرآة القلب” لتصبح مجلوّة وتنعكس عليها الأنوار الإلهية، وذلك بالتخلُّص من كلّ شوائب النفس والأنا نحو الصفاء والنقاء والتحقُّق. فرمزية المرآة في الفكر الصوفي هي أنّها “تعكس الحقيقة”، وهذه الدلالة الصوفية المرتبطة بالمرآة تعود إلى ماضٍ سحيق، منذ أنْ وُجِدَت تلك النقوش والرسومات الهرمسية على جدران الأهرامات والمعابد المصرية القديمة وطي أوراق البردى وتُصوِّر ملوكاً عظماء يُحدِّقون في المرآة! وصَقْلُ مرآة القلب لدى المتصوفة هو بالذكر والمجاهدة الرُّوحية والتحلّي بالفضائل والتخلُّق بأرفع الخُلُق والآداب الروحية لتنقية القلب من شوائب الأنا ومفاسد النفس الأمّارة بالسوء لتصبح صافيةً نقيّة جليّة تعكس الأنوار الإلهية، وعلى قدر ما يزداد النور سطوعاً على تلك المرآة بقدر ما تتراءى ذراري غبار الشوائب فتستلزم مزيداً من الصَّقْل.
وتحدَّث أهلُ التصوّف برمزية المرآة وأبعاد التجلّي الشهودي منذ عهد أبي الحسين منصور الحلاج وصولاً إلى أبي حامد الغزّالي وجلال الدين الرومي ومحي الدين ابن عربي وغيرهم من المتصوّفة، بيدَ أنّ أفضل تصويرٍ لرمزية المرآة وإشارتها إلى التجلِّي الإلهي شهوداً نجده في منظومة “منطق الطير” للعطّار (توفي 627 ه)، تلك الملحمة الشعرية الطويلة التي تتألف من نحو 4,500 بيت، وهي تحفل بالرموز الروحية واللغة الإيحائية الصوفية، عن رحلةٍ للطيور تجتاز فيها الأودية السبعة بقيادة مُرشدها طائر الهدهد نحو حضرة “الطائر الأعظم”، السلطان المُطلق الدائم، “السيمُرغ”.

منطق الطير
تجتمع الطيورُ في منظومة “منطق الطير” وتختار لها طائرَ الهدهد، طائر سليمان الحكيم، ملكاً ومرشداً لها، وسرعان ما يحثّها على القيام برحلةٍ صوب الطائر الأكمل و”السلطان المطلق” المُسمَّى “السيمُرغ” (وهو في الفارسية كشأن “العنقاء” لدى العرب، وطائر “الفينيق” لدى الأقدمين). وأخذت الطيور تباعاً تُقدِّم الأعذارَ والتبريرات لكي لا تتجشَّم عناءَ هذه الرحلة، إلا أنّ الهدهد يُقدِّم لها إرشادات روحية وصوفية راقية للتخلِّي عن العلائق الدنيوية والارتقاء بآداب النفس وصفائها وتحقيق ذلك الحب الإلهي الأرقى واجتياز أودية العشق السبعة وصولاً إلى “حضرة السيمُرغ” ومشاهدته (المقالة الثامنة والثلاثون).
وفي ذلك يقول المتصوّفُ الكبير جلال الدين الرومي: “لقد اجتاز العطّارُ مدنَ العُشق السبع، وما زلنا عند زاويةٍ في طريقٍ ضيق”. لقد اتّبع العطّارُ نهجَ أهل التصوّف في ذكر المقامات والأحوال، حيث تُجاهِد النفسُ في طريقها إلى الحقّ متخلّصةً من كلّ العلائق ومُتطهَّرة من كل الشوائب، لا تُفكِّر في شيء سوى الغاية التي تسعى إليها عقلاً وعشقاً ومجاهدةً، فيجعل الطيرَ تجتاز سبعة أودية هي “وادي الطلب”، حيث يجب التطهُّر من كلّ العلائق وعدم الكفاف أو التواني لحظة عن الطلب والتحلِّي بالصبر؛ ومن ثم “وادي العُشق”، حيث يُقدِّم العاشق روحَه طواعية تلبية لأمر المعشوق؛ وبعده “وادي المعرفة”، حيثما كلّما واصلَ السالكُ المسير كلّما زادت معرفته بالأسرار، ووجبَ ألا يقنع بما يُحصِّله من معرفة بل عليه أن يقول دائماً “هل من مزيد؟”؛ ومن ثم “وادي الاستغناء” بأنْ يتخلّى عن كلّ شيء في الدنيا؛ ويليه “وادي التوحيد؛ و”وادي الحيرة” ومن ثم أخيراً “وادي الفقر والفناء” قبل الوصول إلى “الحضرة”.

العطّار والرمزيّة الصوفية
تنتمي منظومة “منطق الطير” إلى الأدب الرمزي الذي تبدَّى بحُللٍ سنيّة مع أعمالٍ فريدة اعتبر بعضُ الباحثين أنّها قد تركت أثراً كبيراً على العطّار، من مثل “رسالة الطير” للفيلسوف ابن سينا، و”رسالة الطير” للإمام الغزّالي، و”رسالة الغفران” لأبي العلاء المعرّي التي تعكس قلقاً فلسفياً، لكنّ البُعد الصوفي يبدو أكثر وضوحاً لدى العطّار الذي صاغه بلغةٍ رمزية أدبية عالية المستوى، حيث يرى بعضُ الباحثين أنّ الكاتب الإنكليزي جيفري تشوسر (Geoffrey Chaucer) قد تأثّر به في كتابه الشهير “مجلس الطيور” (Parlement of Foules).
وتتناثر في أرجاء المنظومة حكايا رُصِّعَت برموزٍ حِكْميّة فيها ما فيها من المغزى الصوفي الرمزي عن التحقّق والمشاهدة اليقينية، ولعلّ أكثرها دلالةً (ص 213، ترجمة د. بديع محمد جمعة عن الفارسية، دار الأندلس، 1996) حكاية عن ملكٍ وسيمٍ غاية في الجمال وحُسْنٍ لا مثيل له في الدنيا، “فما الصُّبح إلا إشراقة من وجهه وما الرُّوح القُدُسيّة إلا نفحة من طيب مِسْكه ولم يتمكّن أحدٌ قط أن يجد نصيباً من جماله، وبسببه غصَّ العالم بالإضطراب وحُبّه فاقَ كلّ حدٍّ لدى الخلق”.
ويستطرد العطّار في إشاراته الرمزية: “لكنّ هذا الملك الوسيم ساقَ جوادَه الأسود خارج المدينة، وأسدلَ بُرقعاً داكناً على وجهه … وإذا فكَّرَ شخصٌ في وصاله أصاب الفناءُ روحَه وعقله … وما أبهى هذا الأمر! إذ ليس لإنسانٍ أن يصبر على فراقه، وليس لإنسانٍ مقدرة على رؤيته، فكلُّ مَنْ رأى جمالَه عياناً، أسلمَ الرُّوح وماتَ متأوهاً. ويا للعجب! لو قُدِّر وتوفَّرت لشخص القدرة لحظة، لظَهر وجهُ السلطان له عياناً، ولكن إذا انعدم الشخصُ القادر على رؤيته فما استطاع أحدٌ محادثته ومرافقته..
.. فأمرَ السلطانُ بإحضار مرآة حتى يستطيع الخلقُ النظر في تلك المرآة، فشيَّدوا للسلطان قصراً جميلاً ووضعوا المرآة في مواجهته ثم صعد السلطانُ على سطح ذلك القصر، ونظر في التو إلى المرآة، وما إن أطلَّ وجهُه مشرقاً من المرآة، حتى أدرك كلّ شخصٍ منه علامة!”.
ويخلُص العطّار في تلك الحكاية إلى القول في ذروة الرمز: “إنْ ترغب في رؤية جمال الحبيب، فاعلَمْ أنّ القلب هو مرآة طلعته، ليكُنْ قلبك على كفّك، ثم انظرْ جمالَه، ولتكُن روحكَ مرآةً له، ثم انظرْ جلاله، إنّ مليككَ في قصر الجلال والقصر مضيء بشمس ذلك الجمال، وللمليك طريقٌ صوب كلّ قلب، ولكن لا طريقَ للقلب الضال صوبه … انظرْ إلهكَ في قلبك..”.

رسم فارسي للعطار مستوحى من كتاب منطق الطبير
رسم فارسي للعطار مستوحى من كتاب منطق الطبير

وحدة شهود لا وحدة وجود
إنّ العطّار بذلك يرمز إلى وحدة الشهود، الفناء عن شهود الكثرة والتعدُّد في شهود الأحادية، خلافاً لمفهوم وحدة الوجود الذي ينفي وجود الكثرة والتعدُّد ويوجِد الكل في الواحد.
وهنا يتحدّث الهدهدُ عن “الاستغراق في الحقيقة، وعدم إفشاء سرّها”، ويقول العطّار في إشارةٍ إلى اتّهام الحلاج وأبي يزيد البسطامي بالحُلولية “فحاشا لله أن تقول أنا الحق”، ويتساءل “كيف يكون المُستغرِقُ حُلولياً”، بل هو “في الحق دائماً مُستغرقٌ”. ويقول الهدهدُ عن ضرورة ظهور “مرآة لُطف” السيمُرغ في الدنيا: “فإنْ لم تكن لك عينٌ مُبصرِة تُدرِك السيمُرغ، فلن يكون لك قلبٌ كالمرآة المجلوة، ولا بُدّ من عشق هذا الجمال الأخّاذ، وكيف لا، وقد صنع مرآةً من كمال لطفه، هذه المرآة هي القلب، فامعِنْ النظر إلى القلب، ولكي ترى وجهه، أمعِنْ النظر إلى القلب..”. ويقول عن الاستغراق، فيما هو يوصي بالتشبُّه برابعة العدوية: “فقد كانت على الدوام غارقة في نور الحق، متطهِّرة من الفضول، وفي الله مُستغرِقة”.
وفي هذا الإطار يتحدّث العطّارُ عن “السيمُرغ” في بداية كتابه (المقالة الثانية) بشكلٍ محفوف بالغموض والرمزية، فيذكر أنّ بداية أمره من ديار الصين! ومن ثمّ يتحدّث عن وجوده خلف “جبل قاف”، ولذلك يخلُص إلى القول كما قال رسول الله (صلعم)، “اطلبوا العلم ولو في الصين!”. ويحثُّ الهدهدُ الطيورَ إلى السير في الطريق في طلب السيمُرغ: “امضُوا قُدُماً نحو تلك الأعتاب، فلنا ملكٌ بلا ريب يُقيم خلف جبلٍ يُقال له جبل قاف، اسمه السيمُرغ ملك الطيور، وهو منّا قريب، ونحن منه جدّ بعيدون..”. ويؤكّد الهدهد أنّ العلم والعقل لا طريق لهما إليه، ولو كثُرَ المشتاقون، فليس للعقل ولا للرُّوح مقدرةٌ على إدراك كماله، ولا إبصار جماله … مشيراً بذلك إلى شهود الحُبّ واليقين!
وهنا لا بّد من التمييز ما بين “وحدة الوجود” (Pantheism) و”وحدة الشهود” (اعتمد بعض العلماء لها مصطلح Panentheism) عند المتصوّفة، فلطالما حذّر كبارُ المتصوّفة في العهد الذهبي للتصوُّف من الوقوع في شرك وحدة الوجود بمنحاها الاتّحادي أو الحُلولي. ففيما تتحدّث وحدة الوجود أنّ للوجود حقيقةً واحدة ذات وجهين، حقّاً وخلقاً، فإنّ وحدة الشهود هي فناءٌ عن شهود الكثرة والاستغراق في الوحدة، ويقول المستشرق الألماني هلموت ريتر (Hellmut Ritter) إنّ من الأفكار المنسوبة خطأً إلى العطّار قوله بوحدة الوجود، فيما يبدو جلياً أنّ العطّار ابتعد كلّ البُعد عن أي أفكارٍ توحي بالحُلول والاتّحاد، بل إنّه يتحدّث عن وحدة شهودية استغراقاً في الله، ويؤكّد على لسان الهدهد “كلُّ مَنْ سارَ هكذا فإنّه يكون مُستغرِقاً، فحاشا الله أن تقول أنا الحقّ، وكيف يكون المُستغرِق حُلولياً..”.
ويلحظ ريتر أنّ غاية الصوفي هو الفناء في الله، فناءً شهودياً لا وجودياً، وما سفر الطيور إلى السيمُرغ إلا لتحقيق هذا الهدف الشهودي، ولو أنّ العطّار تحدّث في النهاية عن البقاء بعد الفناء بشكلٍ غامض استرسالاً في سرده الشعري.

إقرار شهودي يقيني
ويتحدّث الإمام أبو حامد الغزّالي في هذا الصدد عن وحدة الشهود التي تُثبت الوجود شهوداً، أي أنّ فناء الصوفي هو فناءٌ عن كلّ شيءٍ إلا عن الواحد المشهود، فهو “غائصٌ في بحر عين الشهود”، وبذلك يصبح الشهود بمفهوم أهل التصوّف “رؤية الحق بالحق”، والبقاءُ بعد ذلك إنّما هو بقاءٌ في الحقيقة إقراراً وعُرفاناً.
ذلك التوحيد الشهودي أو وحدة الشهود الذي يتجاوز ما هو نقلي يلتمس الدليل العقلي إلى ما هو شهودي، أي توحيدٍ يقيني ذوقي. وفي ذلك يقول الدكتور أبو العلا عفيفي “هو التوحيد الناشئ عن إدراكٍ مباشرٍ لِمَا يتجلَّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تَجلُّ عن الوصف..”.
وكان العلّامة محمد علي التهانوي قد استدرك ذلك بقوله “يرشدُ فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحُلول والتشبيه والتعطيل” في إشارةٍ إلى الطَّعن في المتصوّفة من قِبَل “طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق”، فالمتصوّفة عندما يتحدّثون عن حالهم الشهودي يفهم هؤلاء الجامدون أقوالَهم بكونه وحدة وجودٍ حُلولية، متغافلين عن أنّ أهل التصوّف هم أكثر مَنْ يُكفِّر القائل بالحُلول والاتّحاد.
إذاً، في “مقام الإحسان”، تجمع هذه الوحدة الشهودية اليقينية معاً “التعالي أو المُبيانة التنزيهية” (Transcendence) و”محايثة الوجود الشهودية” (Immanence).
فالتجلِّي اليقيني الشهودي أو ذلك التجلِّي العُرفاني هو كشفٌ وشهودٌ يقيني، كشفٌ تختبره عينُ البصائر والأبصار معاً فتشهد باليقين بل بـ “عين اليقين” بحسب استعدادها ومدى صفائها. وقد استخدم أهل التصوّف والشهود المرآة التي تعكس الصور المقابلة لها مثالاً على ذلك الشهود، فالناظرُ إلى صورته في المرآة يرى نفسَه وكأنّه ليس فيها. وذلك ما تحدّث عنه محي الدين ابن عربي، بحسب شرح ابن سودكين، إذ بالنسبة إلى ابن عربي فإنّ “آدم هو العين التي تُبصِر الحقائق الإلهية المُنطبعة في مرآة الوجود…”.
وثمة شيخٌ صوفي آخر يعود إلى عصر ابن عربي تحدّث عن هذا الشهود اليقيني هو الأمير المكزون السِّنجاري، الذي يقول:
كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلٌّ يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراكَ كــــــــــــــــــعينه إذ أنــــــــــــتَ مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرآة الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوجود
وســــــــــــــــــواكَ مــــــــــــــــــــــــــــــا يبــــــــــــــــــدو لــــــــــــــــــه فيغيــــــــــــــــــــــــــــــــــــب فــــــــــــــــــي حــــــــــــــــــال الشهود
ويقول أيضاً:
تجلَّــــــى لــــــي فجــــــلَّاني لــــــــــــــــعيني كما لي صــــــــــــــــــــــــورتي المرآةُ تجــــــــــــــــلو
أمّا الأمير عبد القادر الجزائري، الذي عاش في القرن التاسع عشر، فيتحدَّث مطولاً عن تشبيه التجلِّي بالمرايا، وذلك في كتابه “الموافق”، ويقول باختصار: “فما خلقَ اللهُ المرايا إلا ضرْبَ مثالٍ لتجلِّيه، وليست الصورة الظاهرة بسبب المقابلة للمرآة عين المُتَوجِّه على المرآة .. فالحقُّ يتجلَّى بالصور التي هي مراياه، بحسب استعدادها، أي أنّ هذا التجلِّي ليس حلولاً لا من قريب ولا من بعيد ولا اتّحاداً بين المتجلِّي والمُتَجلَّى لهم، بل هو خالص التوحيد”.
وكان الحلاج قد اعتبرَ هذا التجلِّي الشهودي “لطفاً إلهياً”، فالخالقُ “يُحدِثُ الخلقَ تلطُّفاً فيتجلَّى عليه، ثم يستتر عنهم تربيةً لهم، فلولا تجلِّيه لكفروا جملةً، ولولا سترَهُ لفتنوا جميعاً، فلا يُديم عليهم إحدى الحالتَين..”.

مقام فريد الدين العطار في نيسابور
مقام فريد الدين العطار في نيسابور

شمس الحضرة.. مرآة
ونعود إلى رحلة الطير صوب الحضرة، أخيراً، وبعد جهدٍ وعناء شديدين وصلت طيور العطّار إلى مبتغاها، (في المقالة الخامسة والأربعين): “فما إن وصلوا وأضاءت جباهَهم شمسُ القُربى فأضاءت أرواحَ الجميع من هذا الشُعاع، وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائراً (سي مُرغ) طلعةَ السيمُرغ في مواجهتهم، وعندما نظر الثلاثون طائراً على عجل، رأوا أنّ السيمُرغ هو الثلاثون طائراً. فوقعوا جميعاً في الحيرة والاضطراب .. حيث رأوا أنفسهم السيمُرغ بالتمام، ورأوا السيمُرغ هو الثلاثون طائراً بالتمام، فكلّما نظروا صوب السيمُرغ، كان هو نفسه الثلاثين طائراً في ذلك المكان..”. ويبرع العطّارُ في هذا الجناس في دلالته الشهودية بين عِبارتَي “سي مُرغ” أي ثلاثين طائراً، و”سيمُرغ” أي ملِك أو حاكِم الطير!
غرقوا جميعاً في الحيرة، إذ إنّ الثلاثين طائراً ما إن وصلوا وشاهدوا السيمُرغ حتى رأوا أنفسَهم على مرآة جلاله، فطلبوا من السيمُرغ شرحَ هذه الحال فأجاب أنّ “الحضرةَ مرآةٌ ساطعة كالشمس، فكُلُّ مَنْ يُقبِل عليها يرى نفسَه فيها.. وصلتُم ثلاثين طائراً، فبدوتم في هذه المرآة ثلاثين طائراً..”

نجم أبو عاصي بعد خمسة وستين سنة غربة

نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه

في لبنان الكل يسأل عن دينك أما في البرازيل فلا أحد يسألك «لا شو دينك ولا شو معك ولا شــــو عليك»

نورا: الإلفة هي أجمل ما في لبنان لكن الناس يدخنون بكثرة وزحمــــة سيـــــر كبـــــــــيرة

نجم أبو عاصي بعد
خمسة وستين سنة غربة

مش مصدِّق إني بالمعاصر !

نبيه ونجم ونزيه في جلسة فاكهة وذكريات
نبيه ونجم ونزيه في جلسة فاكهة وذكريات

ظهر كمال بك فجأة ليعينني على رفع الصناديق الفارغة إلى البردعة، مشيراً إليّ أن أسندها من الجهة المقابلة، وعندما رآه الناس بُهتـــــــــــــــــوا وراحــــــــــوا ينادونه «لا يا بيك لا يا بيك»!!

قف وأسند راحتيه على الحافة الحديدية في أعلى نقطة مشرفة على كل القرية، كانت عيناه تسرحان في ضيعة تختزن ذكريات طفولته، ضيعة تغيّرت كل معالمها لدرجة أنه لم يعرفها لكنه عرف جبالها وبريتها واخضرارها الممتد حتى القمم كما عرف أيضاً أن حبه لهذا المكان لم يتغير أبداً.
> ما هو شعورك وأنت تنظر إلى المعاصر؟
إستدار وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة وفي عينيه لمعة حزن: “حاسس حالي عم بحلم، ما عمصدق إني بالمعاصر”… هو أيضاً لا يصدّق أنه يرى أبناء وبنات شقيقته وأشقائه وكل ما التقى أحدهم سأله “أنت مصدّق أني هنا أمامك… أنا لا أصدق”.
عشرون يوماً منذ وصوله من البرازيل وهو يحاول أن يعوّض ولو قليلاً ما فاته خلال خمسة وستين عاماً من الغربة البعيدة. إنه عمر طويل بمقياس الزمن وقد أخذه بعيداً إلى الجانب الآخر من الكرة حيث لم تكن هناك مواصلات سهلة ولا وسائل تجعل من السهل البقاء على تواصل كما هي الحال اليوم. كانت الغربة منفىً اختيارياً طويلاً وربما أبديّاً، لكن ها هو يعود محاولاً أن يصدق فعلاً أنه في لبنان وفي بلدة الطفولة. إطلالة واحدة جديدة على الوطن حرّكت فيه كل الحنين.. الحنين إلى الأماكن وإلى الناس، الأصول والفروع لعائلة من ثلاثة أخوة وأخت وحيدة هاجر وهي في الخامسة عشر وعندما عاد كانت هي رحلت عن الدنيا… كل هذا العمر هاتفها مرة واحدة عندما توفّي زوجها، غصّ هو وغصّت هي بالبكاء ولم يستطع أي منهما الكلام فأجلا المكالمة لليوم التالي. الشيء نفسه تكرر مع ابنتها الكبرى، ولكن الفارق أن اتصاله بأخته كان من على بعد ثماني عشرة ساعة سفر في الطائرة، أما ابنتها فكان أقرب، كان يبعد عنها ثلث ساعة بالسيارة.
لم يكن نجم ابن الثمانية عشر عاماً يعلم وهو يلملم رحاله إلى البرازيل أن الله سيمد في عمره في المهجر ليعود يوماً إلى بلدته وهو

كأني عم بحلم
كأني عم بحلم

ابن ثلاثة وثمانين.. وعندما غادر المعاصر في العام 1934 كان وهو الشاب الصغير يتحرك بحماس وشوق لخوض المغامرة وملاقاة المستقبل في قفار بعيدة، وقد رأى في السفر فرصته للخلاص من الكدح في تجارة مضنية باغتته وهو في الثامنة من عمره. لم يكن يائساً من العودة لكن كان أمله بذلك يضعف مع مرور السنين في تلك البلاد. يقول: “ما بعمري خفت إرجع على لبنان بس العين بصيرة واليد قصيرة”… ولكنه في النهاية عاد.. عاد وهو يحمل أثقال الحنين المتجمِّع في قلبه، حنين لا يجد كلاماً مناسباً لشرحه فلا يبقى إلا الدموع.
“أريد أن أخبرك كيف كنت أعمل في لبنان”… هكذا، بالعربية وباللهجة المعاصرية القروية، وبحماسة وابتسامة تعلو محيّاه، يبدأ نجم حديث السنين الخوالي. “من عمر الثماني سنوات بدأت أعمل، كنت أذهب إلى البقاع وأبادل التين والعنب والتفاح والإجاص الذي تنتجه أرض يملكها أهلي، بالعدس والسميد”، في ذلك العصر كانت المقايضة هي الوسيلة الغالبة في التجارة، فبدل دفع المال كان الناس يبادلون بضائع فائضة عنهم ببضائع فائضة عن غيرهم وهم في حاجة إليها.
ورغم المشاق التي تكبّدها بعمله المبكر، إلا أن “عين مصعر”، تلك البقعة التي كانت تنتج بضاعته وعاش فيها طفولته، كانت أول مكان أراد الذهاب إليه فور عودته، ولكن أمله خاب عندما رأى الحال الذي آلت إليه، اذ تغيّرت كل معالم ذلك البستان المثمر المخبّأ في ذاكرته.

مفاجأة في ساحة المختارة
عدا البقاع كان نجم يذهب نهار الأحد إلى نبع الباروك ليبيع التين والعنب، وفي بعض الأحيان كان يذهب إلى المختارة.
وبسبب حداثة سنه وضعف بنيته لم يكن نجم، وكان بلغ التاسعة من عمره، قادراً على إنزال البضاعة عن حماره، فكان الناس يساعدونه في تحطيط حمولته. وفي أحد الأيام كان في المختارة، انتهى من بيع البضاعة وأراد أن يرفع الصناديق الفارغة إلى بردعة (جلال) الحمار ولكنه لم يكن قادراً على ذلك.. يشرح ما حصل له في تلك اللحظة ويقول: كنت أجاهد عبثاً لرفع الأقفاص التي فرغت من البضاعة وبسبب قصر قامتي فإنني لم أجد وسيلة إلى ذلك لأن عليك أن تتمكن من وضعها على ظهر الدابة مرة واحدة. كان الناس في السوق ينظرون ولم يتقدم أحد لمساعدتي، وكنت فعلاً محبطاً بعض الشيء. فجأة إذا بالمعلّم كمال جنبلاط، يأتي إليّ مسرعاً، أخذ يرفع الصناديق الفارغة إلى البردعة، مشيراً إليّ أن أسندها من الجهة المقابلة؛ وعندما رآه الناس بُهتوا ولم يصدقوا فراحوا ينادونه “لا يا بك لا يا بك”.. لكنه لم يُعرهم إهتماماً وتابع عونه لي إلى أن تمكّنت من تثبيت الصناديق على ظهر الدابة وتابعت بذلك طريق العودة إلى بلدتي.
حادثة المعروف الذي قدّمه المعلم بعفوية تامة إلى هذا الطفل الصغير ما زالت منطبعة في ذاكرة الرجل الكهل كأنها البارحة، وهو كما يقول لن ينسى ذلك النبل وتلك الإنسانية العفوية ما دام حيّاً وسيبقى يلهج بها لما فيها من تعليم للكثيرين. عدا هذه الحكاية الجميلة، فإن ذاكرة نجم مزدحمة بفصول الحياة القاسية التي عاشها وهو طفل.. لكنه يتوقف ويتحول فجأة وبالحماسة نفسها للحديث عن البرازيل، الموطن:
“بدي خبرك عن البرازيل، بلاد ما في أحلى منها.. حرة حرة.. تفعل ما يحلو لك ولكن عليك أن تلتزمي بالقانون”.
ذهب والد نجم، عبد الخالق، إلى البرازيل في العام 1920، عاد منها إلى لبنان في العام 1928 ولكنه اضطر أن يعود اليها وهو في السبعينات من عمره لبيع أرض عالقة تعذر على قريبه بيعها، وهكذا أمضى ما تبقى من عمره في تلك الأرض البعيدة ليعود إلى لبنان قبل وفاته ببضعة أشهر عن عمر ناهز الخمسة وتسعين عاماً، ولم تكن عودة عبد الخالق إلى العائلة والوطن بأقل غرابة من عودة إبنه نجم، فالكل تفاجأ به في ذلك الوقت، والمفاجأة الأكبر كانت بقصته مع قارئة كف مشّته الدرب الدرب، وعاد ليموت في لبنان بعد أن تنبأت له بأنه سيموت في شهر محدّد من سنة محدّدة، وقد أصابت معها السنة ولكنها أخطأت التاريخ المحدّد بشهر واحد..

لطعام.. أول صدمة ثقافية
كان نجم الثاني بين ثلاثة أشقاء وشقيقة، وكان شقيقه الأكبر عارف كرّس نفسه لمعاملة خاله وعليه كان نجم المرشّح الأبرز للذهاب إلى والده، ولكن ذلك لم يلق إستحساناً لا عند والدته ولا عند شقيقه عارف.
فنجم لم يكن حينها قد أكمل الثامنة عشر عاماً، لكنه انتظر قليلاً حتى بلغ السن القانوني الذي يُسمح فيه للشاب بالتصرف كمواطن كامل الحقوق، فأسرع إلى مختار القرية وبدأ بإعداد الأوراق اللازمة للسفر.
نسأله عن سبب حماسته للهجرة فيقول والضحكة تعلو وجهه: “أنا كنت شايف بدي روح عند بيي بالبرازيل.. لأنه في لبنان كنت أعمل وأنا صغير وكنت أنا المسؤول نوعاً ما عن المنزل في غياب والدي، فأخي الأكبر كان يعيش عند خالي، وعندما كان والدي في لبنان كان يتنقل بين القرى ويبيع البضاعة بخسارة، في البرازيل كان يبيع ويقبض مقابل بضاعته أما في لبنان فلا أحد يدفع”.
ليس بين لبنان والبرازيل ساعات سفر طويلة وحسب، فالبلدان مختلفان في الجذور من حيث الثقافة واللغة… وقد تكون أول صدمة ثقافية عاشها نجم في البرازيل هي الطعام. وبضحكة عالية يخبر قصته مع أول وجبة طعام أكلها هناك: كان والدي يملك عربة خيل، وأول ما وصلت أخذني معه، عرّج على دكان واشترى لي رغيفاً، ورغيف تلك البلاد كبير فعلاً، وضع فيه قطعة لحم مقدّد وأعطاني إياه”، وعلى ما يبدو قرّف نجم من هذا الطعام فقال لوالده لا أريده وبضحكة يكمل نجم “أجابني والدي بشيء من الحمق وعدم الإكتراث: على مهلك ما تاكل… يلي ساواك بنفسه ما ظلمك”.
كان هذا أول لقاء تعارف بين نجم والبرازيل، بعدها أخذه والده إلى سان باولو وعرّفه بأصدقائه وأعطاه حقيبة مليئة بالأغراض ليتجوّل ويبيع ما فيها.
لم تكن اللغة مشكلة بالنسبة الى نجم لأنه كان يتكلم الفرنسية بشكل جيّد، بعد التجول في الطرقات فتح محّلاً، وهنا يقول بابتسامة الفوز: “أغلب البرازيليين كانوا أميين، فإذا أراد أحدهم أن يرسل مكتوباً إلى أهله كان يطلب مني أن أخطه له”. وكان في البرازيل الكثير من العرب واللبنانيين تحديداً. وعند سؤاله عن شعوره بالغربة يجيب “كنت أحن إلى بلدي ولكنني أحببت البرازيل واعتدت على الجو”. “البرازيل غير شي”، هكذا يصفها.

كرامة لأمي تزوجت لبنانية
من يرى نجم والحنين في عينيه والمحبة الكبيرة لعائلته يستغرب كيف يمكن لشخص يملك قلباً مليئاً بهذا الحب أن يبتعد كل هذه السنوات ولكن كما يبدو كان خائفاً من العودة..
“ممّ كنت خائفاً”… لم يعط جواباً صريحاً ولكن جوابه كان: أخي عارف كان عند خالي وأنا كنت سعيداً ولا أريد العودة”.. ومن هذا الجواب تقرأ أنه ربما كان خائفاً من عبء المسؤولية التي ألقيت عليه باكراً..
هاجر ولم يرد العودة ولكن قلبه بقّي حاملاً ما أخذه معه. وفي هذا الصدد، يتحدث نجم عن الزواج. “قبل أن أسافر إلى البرازيل نادتني والدتي إلى درج مقام خالي وقالت لي اجلس هنا، لا تتزوج إلا بفتاة منّا”.. بقيت كلمات والدته محفورة في قلبه، ولم يخيّب أملها. وهنا يبدأ بسرد قصته مع زوجته والابتسامة تعلو ثغره وعينيه “بعد ثماني عشرة سنة من وجودي في البرازيل لم تعد لدّي معارف عرب، ولكن كان هناك رجل من حاصبيا يعيش في سان باولو على بعد 1500 كلم مني، ويعمل في تجارة الثياب وكان لديه 5 شركاء.. قال لي أريد أن أعرّفك على أصحاب لي وأخذني إلى منزل بيت عمي الحاليين، عندما وصلت إلى المنزل كانت هناك فتاة جالسة في الزاوية قلت لرفيقي لا أريدها، وإذا بزوجتي أميرة مارة فقلت هذه هي من أريدها”.. وعندما تسأله ماذا حصل معه يجيب وكل معالم وجهه منفرجة.. “أحببتها” ويعقّب “لا أزال أحبها حتى الآن”.. ويشرح نجم أن زوجته، وهي أصلاً من مواليد المديرج في لبنان، عاشت كل حياتها في البرازيل وعلى ما يبدو لم يعن لها لبنان شيئاً. يقول وكأنه يحاول أن يبرّر عدم مجيئها إلى لبنان أبداً “مرتي ما بتحب الطيارات”.

نورا تنضم إلى الجلسة الأكل طيب لكن عندكم زحمة سير كبيرة
نورا تنضم إلى الجلسة الأكل طيب لكن عندكم زحمة سير كبيرة

العقدة في الزوجة؟
لو شجعتك هي هل كنت ستأتي قبل الآن؟ بهدوء المحّب يجيب: “لا أعرف إن كنت أتيت لو حمستني.. هي ربيت هناك”. ويتابع بلهفة المتشوّق: “هالسنة ما قدرت جبتها معي بس انشالله السنة الجاية”.
وهنا نسأله: “هل من المحتمل أن تأتي زوجتك إلى لبنان ثم تغير رأيها وتقول لا أريد العودة إلى البرازيل” وبسرعة كان الجواب لا لا”.

تزوجت وصار عندي بيت
تزوج نجم ولكن ماذا تغيّر في حياته؟ يقول بإبتسامة تعكس الراحة: “صار عندي بيت لما تزوجت” وهو لم يقصد بذلك المعنى المادي للمنزل، فهو كان لديه منزل ولكنه كان يفتقد لروح العائلة التي تعطيه معنى.
أما ماذا حمل معه من لبنان إلى البرازيل؟ “أخذت لبنانية”… يجيب بعفوية الأطفال. ويتابع ليقول: “حافظت على ديني، ما غيّرت ديني فهناك بيعملو أديان كثيرة”. وهنا يعقّب أخوه نبيه: “أنا زرته في البرازيل، هو لا يتعدى على أحد، لا يكذب، لا يسرق ولم يتعاط الأشياء الممنوعة، بقيّ محافظاً على أخلاقياته”.
ويختم بالقول: “خمسة وستون عاماً في البرازيل ولا يزال محافظاً على نفس العادات والتقاليد”.
ومع أنهم لا يتكلمون اللغة العربية البتة هناك، يعلّق نجم بأن العرب يسيطرون على 80 في المئة من التجارة البرازيلية، وأكثرهم لبنانيون. وعن علاقة لبنانيي المهجر بالوطن الأم يقول إنهم يأتون إلى لبنان أكثر منه بكثير، إلا أن الغالبية لا يعودون أبداً خصوصاً أولئك الذين يتزوجون بنساء برازيليات.
لم تكن البرازيل بالنسبة إلى نجم ملاذاً من شقاء الحياة في لبنان وحسب، ولكنها كانت مكاناً آمناً بالنسبة إليه على عدة صعد وربما أبرزها الحرية الشخصية، ففي لبنان كان معتاداً أن الكل يسأله عن دينه أما في البرازيل فلا أحد يسألك “لا شو دينك ولا شو معك ولا شو عليك”.
فجأة تراه يبدأ بالضحك، فهذا الحديث أعاد إلى ذاكرته المقالب التي كان يحيكها للشباب البرازيليين والذين كانوا ينادونه بـ Turku نسبة إلى تركيا التي كانت حاكمة لأولاد العرب على حد تعبيره.
وراح يسرد أحد المقالب وعينيه شبه مغلقتين من كثرة الضحك.. “مرة قلت لأحد الشباب هل تريد أن تعرف معنى اسمك باللغة العربية، تحمّس كثيراً للأمر.. فقلت له معناه على أنه اسم لأحد الحيوانات، واذا به من فرط حماسته ينادي على أحد الشباب العرب ويقول له صرت أعرف معنى اسمي بلغتكم، وعندما نطقه انفجر كل الحاضرين بالضحك عليه”.
بفعل الخبرة والزمن تطوّر عمل نجم وبات يملك معملاً للخياطة يشغّل نحو أربعين عاملاً، وهو حالياً متقاعد ويعيش من تقاعده ومن التجارة الحرة في العقارات.
قد تكون العائلة كلها استسلمت لهجرة نجم وأصبح بعده جسدياً ومعنوياً أمراً اعتيادياً بالنسبة إليها، إلا نبيه، أخوه الأصغر، الذي حرص على التواصل معه وإعادته إلى لبنان ولو في زيارة قصيرة.

من الرسائل بالباخرة إلى الواتس
كان نبيه يتواصل مع أخيه عبر الرسائل بالبواخر أولاً ومن ثم الطائرات، وكانت تأخذ وقتاً طويلاً لتصل، حتى العام 1980، حيث أصبح الهاتف متوفراً ولكن طبعاً ليس باليسر الموجود حالياً. ويروي كيف أخذ أخواته في إحدى المرات إلى السنترال وحاول الاتصال بنجم، إلا أن الاتصال انقطع مرتين ولم يتمكنوا من التحدث إليه.. وانحصر التواصل مع نجم المهاجر بنبيه وعائلته، وتلقى الأخير منه دعوة للزيارة لبّاها مطلع عام 1995، ذهب إلى البرازيل ومكّث هناك ثلاثة أشهر. هذه الزيارة عزّزت العلاقة بين الأخوين وصارا بعدها على تواصل دائم، تخلله بعض المقاطعة، ولكنه أثمر في النهاية زيارة إلى لبنان ظلّت حلماً لكلا الطرفين حتى بعد تحقّقه.
وهنا يعلّق نبيه بالقول: “استطعنا أن نقنعه أن يأتي لزيارة لبنان، ما توصلنا إليه في النهاية هو أن يأتي هو وابنته التي كانت متخوفة جداً من المجيء، ولكن تبدّد عامل الخوف لديها بعد أن أتت، أخذناها إلى الشمال وتحديداً طرابلس، كما ذهبت إلى حاصبيا مسقط رأس أحد معارفها في البرازيل”.
ويضيف نبيه أنه حاول أن يقنع أخاه بالمجيء إلى لبنان عندما زاره في التسعينيات ولكن أولاده كانوا صغاراً وقتها، وكانوا يهربون عندما يسمعون باسم لبنان الذي كان يتخبط

بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي(1)
بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي(

بالأحداث السياسية وتبعات الحرب.
نورا هي الابنة الثانية بين ثلاثة أولاد لنجم: ابنتان وصبي، وهي على خلاف والدها الذي يرى كل شيء بعين الحنين، ترى لبنان بعين نقدية عقلانية. لم تزره يوماً ولم تحمل له أي حب أو ذكريات، كان بالنسبة إليها بلد الحرب والخوف، تبدّدت هذه النظرة بعد أن أتت وشعرت بالألفة والمحبة بين العائلة ولكنها لا تخفي شعورها بالخيبة، “الناس هنا يدخنون بكثرة، وزحمة سير كبيرة وهناك مشاكل كبيرة في البنية التحتية”.
تحمل نورا لبنان في جيناتها وهذا ما خلق مودة بينها وبين أولاد عمها وعمتها حتى لو لم تكن تعرف من اللغة العربية الا بضع كلمات كان عمّها يعلّمها إياها.

أينما تذهب طعام طعام!!!
وعندما تسألها عن أكثر شيء أحبّته في لبنان، تجيب بحماسة وابتسامة عريضة “I liked food”، وتفتح يديها وعينيها على وسعهما وتقول باستغراب ممزوج بنوع من الإمتعاض “أينما تذهب طعام طعام طعام”..
وتعقّب بأن الطبيعة في لبنان جميلة جداً، ولفتها أن الناس هنا يحترمون كبار السن. وفي الاطار العائلي، تقول نورا إن أفراد عائلتها في البرازيل مقربون جداً من بعضهم بعضاً ولكن في بعض الأحيان يكون

الأصدقاء أقرب من الأهل هناك.
تعتبر نورا أن الحرية في البرازيل متاحة أكثر منها في لبنان. وعن الصورة النمطية أن السرقة منتشرة بقوة هناك تقول: “يجب أن نبقى حذرين ولكن لم يحصل معنا أي حادث يوماً”.
أما عن الفساد، تقول نورا إنه مستشرٍ في البرازيل ولكنه ليس بالحجم الذي في لبنان. وعندما تسأل والدها يقول بضحكة عالية “ما الرئيس البرازيلي أصلو لبناني”.
قد تبدو نورا غربية المنشأ بطريقة تفكيرها ومنطقها في الحياة ولكن كان واضحاً تعلقها بوالدها، وعندما تسألها عن الشيء الذي لن تنساه عن لبنان، تمسك بيد والدها بكلتا يديها تنظر إليه بحب وتقول “أعتقد ذلك، الألفة بين أفراد العائلة هنا، فوالدي كان غائباً لفترة طويلة جداً، ولكن الكل أفاض عليه بالمحبة”.
وعما إذا كانت نورا مهتمة بالعودة مرة ثانية إلى لبنان، تصمت لبرهة وهي تفكر وكأنها لا تريد أن تعطي جواباً تعرف سلفاً أنه لن يتلاءم مع تطلعات العائلة: “لا أعرف، كل شيء غالٍ هنا، ومن المكلف جداً البقاء”.
أما اذا كانت ستشجع والدتها وأخوتها على المجيء تقول بحماسة شديدة “نعم نعم” وتتابع بضحكة: “الناس يقولون أشياء كثيرة عن لبنان، الجيدة والسيئة ولكنني أرى أن الدروز مختلفون بعض الشيء”.

«بعدني لهلق بس ضم خيي ببكي»
عندما تراه مع أخوته، تشعر بألفة ومحبة لا تصدق معها أنه غاب عنهم خمسة وستين عاماً.
كل هذه السنوات من البعد ولكن ما هو الشعور بعد أول زيارة؟
“توّلد عندي شعور بالندم لو أني أتيت قبل”، يقول نجم بحرقة. وهنا يعلّق مقيم، إبن أخيه، في زفاف إبنة عمتي كان يقول أنا أحلم. ويعقّب أخوه نبيه: “لا يعرفكم ولا يعرف أحد هنا وعندما التقاهم شعر وكأنه يحلُم”.
تتلألأ الدموع في عيني نجم ويقول بدوره: “أنا مش مصدّق حالي إني بلبنان.. كنت حاسس إنو هيدا الشي ما رح يصير بحياتي.. مش مصدق إنو بنتي أجت على لبنان”.
ينظر إلى أخيه الثاني يحضنه بابتسامة ممزوجة بالدمعة: “بعدني لهلق بس ضم خيي نزيه ببكي، خيي نبيه كنت احكي معو وراح لعندي بس نزيه لأ، ما حكيت معو أبداً كل فترة سفري”.
في ختام اللقاء سألنا نجم إن كان يندم على شيء، أجاب بالنفي ولكن عندما سألناه إن كان مجيئه إلى لبنان ولّد عنده شعوراً “لو أتى منذ زمن”… “إيه”.. ومجدداً راح يردّد “مش مصدق إني بلبنان مش مصدق إني بالمعاصر. رح إرجع السنة الجايي على لبنان، وإذا قبلت مرتي بدها تجي معي”.1)

دير المخلص في جون الشوف 1898 /دير القمر في العام قبل نحو 100 سنة في العام 1919
دير المخلص في جون الشوف 1898 /دير القمر في العام قبل نحو 100 سنة في العام 1919

 

من ذاكرة الجبل

من ذاكرة الجبل

درس مـن فدعــــــــــــة صعــــــــــــب
إلــــــى نسيــــــب بــــــك الأطــــــرش
ونجيب بك طراد استردّ دينه ذهباً

كان نسيب بك الأطرش شيخ بلدة صلخد قبل مئة عام ونيّف، من كبار زعماء الجبل وقادة الرّأي فيه، وكان من كبار الملّاكين في تلك المنطقة، وله أراض تتوزع في أكثر من قرية حول صلخد ومنها قرية شنّيرة. وأورد محمود خليل صعب، الأستاذ في الجامعة الأميركية هذه القصة التي جرت لابن عمٍّ له في جبل حوران في كتابه “قصص ومشاهد من جبل لبنان”، وقد أكّدها أحفاد نسيب بك المقيمون على تركة جدّهم في مدينة صلخد، ومؤدّاها أنّه في العام 1909 ذهب نسيب بك لزيارة قرية شنّيرة القريبة من صلخد ونزل ضيفاً مُكَرّماً على وكيله أبي ظاهر يوسف السّعدي، وتماشّياً مع عادات القوم دعا أبو ظاهر رجال شنّيرة للعشاء في مضافته على شرف نسيب بك، وبعد العشاء جلس النّاس للسّهر والسّمر، وكان بين الحضور فدعة (اسم علم مذكّر ذو دلالة على القوّة. على صيغة المؤنّث: كعنترة) بن عبدالله أحمد صعب من الشّويفات، فخصّه نسيب بك بالحديث وأخذ يسأله أسئلة محدّدة عن لبنان ورجال لبنان وكان فدعة على بيّنة من ذلك كلّه، وتشعّب البحث من السياسة إلى التّاريخ إلى المواسم، ثم الأدب الشعبي فدهش نسيب بك من سعة اطّلاع فدعة، وفهمه وطلاقة لسانه وسرعة خاطره. ولمّا انصرف النّاس آخر السّهرة أبدى نسيب بك لمضيفه أبي ظاهر يوسف إعجابه الشّديد بالضّيف الشويفاتيّ الشوفانيّ، وقال له: “إنْ كان هذا الرّجل يحتاج إلى أيّ دعم سياسيّ أو مادّي فأنا مستعدٌّ لمعونته”، فقال له أبو ظاهر” إنّه قريبنا وصهرنا، ولا يحتاج إلى شيء ممّا تفضلت به فهو تاجر، وعنده مخزن كبير هنا في شنّيرة، فانتفض نسيب بك وضرب كفّه الأيمن على كفّه الأيسر وقال لأبي ظاهر “ ماذا تقول يا أبا ظاهر؟ هذا الرّجل تاجر! يا للخسارة”.

الشويفات سنة 1891
الشويفات سنة 1891

كانت تلك نظرة الناس وخصوصاً زعماء العشائر إلى التّجارة والتّجار، وكذلك لأصحاب المهن والحرف، فقد رُوِيَ أنّه كان للأمير مصطفى أرسلان وكيل تجاريّ في دمشق، وهو من أصحاب الثّراء ويملك داراً فخمة فيها، لكنّ الأمير مصطفى لم يكن ينزل في ضيافته عندما يزور دمشق، بل ينزل عند بعض أبناء العائلات الوجيهة و”السّياسيّة”، ولو كان المنزل خشناً؛ ترفُّعاً عن مساواة التّاجر الذي كانوا يسمّونه “البيّاع!” بوجهاء القوم.
بعد مغادرة نسيب بك الأطرش شنّيرة حكى أبو ظاهر لأبي معروف فدعة ما كان من نسيب بك، فنظم فدعة قصيدة زجليّة من نحو ثلاثمائة بيت ضمّنها الكثير من الحِكَم وآداب الحياة والتّشديد على الأخلاق مهما كان ومهما تنوّع العمل، وأرسلها إلى نسيب بك الأطرش. وهنا يبدو أنّ نسيب بك المعروف بحصافته وكياسته تنبّه إلى غلطه بحق الرّجل فحاول استرضاءه، ودعاه إلى زيارته في صلخد، لكنّ فدعة لم يرضَ ولم يقبل الدّعوة.
كان فدعة من أزاهر الرّجال في بني صعب، فقد اجتمعت فيه الفطنة والأناقة والفصاحة، فهو مثل أبيه من الطّبقة الأولى بين شعراء الزجّل، وقد تحلّى بتلك الثّقافة الشّفويّة العفويّة التي تميّز بها “ أهل الذكاء”، ( وهذا هو التعبير الذي كان يطلق على جماعة الشعراء العاميين)، ولقد شدّته مهنة التجارة إلى جبل حوران، إذ قَدِمَ إليه بادئ الأمر مع قريبه علي محمود صعب، لكنّ عليّاً لم يلبث أن ترك العمل في الجبل، وبقي المخزن لفدعة وحده، لكنّ فدعة نفسه عاد إلى السّكن في الشويفات، غير إنّه أبقى على تجارته بالوكالة في شنّيرة، وكان يسافر إليها كلّما اقتضى العمل ذلك.
وحدث مرّة وهو في الشويفات العام (1915) أن أعدّت زوجته رأس خروف لغداء العائلة، وبعد تناول الطّعام رفعت الزّوجة الصّحون ورمت فضلات الأكل والعظام على الطّريق ودخلت إلى المطبخ، فيما كان فدعة يجلس قرب النافذة مسترخياً بعد الغداء، بينما انصرف ابنه الطفل مازن إلى اللّعب في الغرفة، ولاحت من مازن إلتفاتة نحو والده فرآه يتطلّع نحو الطّريق وهو يبكي، ركض إلى قُرْبه يستطلع السّبب فشاهد عدداً من الأطفال وقد تحلّقوا حيث رمت أمّه العظام وهم ينهشون ما بقي عليها من اللّحم.

نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه
نسيب بك الأطرش وأحد أعوانه

كانت مجاعة الحرب العالمية الأولى قد اشتدّت وانتشرت، وفي مثل لمح البصر قرّر فدعة أمراً. نادى زوجته وقال لها “اجمعي أغراض البيت، فنحن مسافرون غداً إلى حوران”. وقبل أن تسأله زوجته عن سبب هذا القرار المفاجئ أخذها بيدها نحو النّافذة وأراها المنظر المُحزِن وقال لها “ما من أحد يدري ما سيكون مصير النّاس وأموالنا في جبل الدّروز، فماذا يحدث لنا إذا انقطعت المواصلات بيننا وبين الجبل؟” وبدأ الاستعداد للرّحيل.
ولبس فدعة ثياب السفر، وذهب من فوره إلى حيّ العمروسيّة لزيارة نجيب بك طراد، وكان هذا الرّجل من وجوه الشويفات المشرقة، وعلى صداقة حميمة به. أخبره فدعة بعزمه على السّفر إلى جبل حوران، وطلب منه أن يقرضه مائة ليرة ذهبيّة ليستعين بها على تجديد وتنشيط تجارته في الجبل، فأعطاه نجيب بك ما طلب ورفض أخذ أيّ مستند بالقيمة.
في الجبل، عاش فدعة مع عائلته في بحبوحة لكنّه لم يتمكّن من جمع المال اللّازم لتسديد دينه إلى نجيب بك طراد إلاّ سنة 1919، فجاء إلى الشويفات وذهب تَوّاً إلى منزل نجيب بك. وبعد تبادل السّلام والأشواق أخرج فدعة صرّة دراهم من جيبه، وعدّ منها مائة ليرة ذهبيّة وناولها إلى نجيب بك.
فقال له نجيب بك: “يظهر أنّك لم تعرف أنّه صدر قانون يسمح بتسديد الديون المعقودة في أيّام الحرب على أساس ليرة لبنانيّة عن كلّ ليرة ذهبيّة؟ وقد أفاد من هذا القانون حتّى الكبراء والأغنياء”، فانتفض فدعة وضرب طربوشه بيده وقال: “نعمْ، لقد عرفت بهذا القانون، ولكن أنا لا أقبل أن أستغلّ القانون لأردّ إليك مالك ناقصاً، فأنا لا أتقيّد إلاّ بقانون الشّرف”.
وكان نجيب بك طراد يستطيب أن يروي ما قاله وفعله فدعة صعب كلمّا ذكرت مكارم الأخلاق.

قرية حوط جبل العرب

قرية حوط جبل العرب

أحبهــــــــــا الأميـــــــــــر عــــــادل أرســـــــــــلان
وأنــــــــس بأهـلها وذكرهــــــا في شعــــــره

قدمت 24 شهيداً في الثورة السورية الكبرى
و16 من عسكرييها سقطوا منذ العام 2011

مضافة لال الصالح في قرية حوط
مضافة لال الصالح في قرية حوط

الوظيفة مصدر أول للعيش والزراعة دخل إضافي
.وتحويلات الاغتراب تخفف ثقل الأزمة المعيشية

غنية بالآثار النبطية والرومانية والمملوكية
وبنو معروف بدأوا بتعميرها في العام 1840

أول ما يشدّ انتباهك لدى وصولك إلى قرية “حوط” الواقعة إلى الجنوب من مدينة السويداء بحوالي 28 كم عمرانها القديم المتداخل مع آثارها التي تشهد على قصة حضارات تعاقبت على المنطقة الضاربة جذورها في عمق التاريخ.
ويشير الباحث في آثار المنطقة توفيق الصفدي إلى أن قرية “حوط” تقع في أرض بركانية محجرة بين وادي الزعاترة جنوباً ووادي البردية شمالاً وتخترقها قناة “السيد” إلى جوار طريق صلخد- بصرى القديم. وتعتبر قرية نبطية قديمة ازدهرت زمن المماليك بين عامي 1073-1186 ميلادية حيث عثر فيها على تمثال أسد يعود للعصر الملوكي بالإضافة إلى مقبرة نبطية قديمة ومذبح لا يزال بابه الحجري موجوداً وهو قائم إلى الشرق من بركة ماء كبيرة لا تزال جدرانها قائمة.
وتضم القرية آثاراً تعود لعهود مختلفة من الرومان والأنباط والبيزنطيين والغساسنة وصولاً إلى العرب المسلمين، ومن آثارها المهمة منازل من الحجر البازلتي المنحوت إلى جانب العديد من اللقى الأثرية المهمة التي تشهد بأن القرية ازدهرت في العصور الماضية غير إنها تعرضت في ما بعد للتخريب إلى أن تمت إعادة إعمارها ابتداء من العام 1840.

جغرافيا القرية
تقع قرية حوط على ارتفاع أقصاه 1118 م فوق سطح البحر على السفح الجنوبي الغربي لجبل العرب في جنوب سورية، فوق هضبة تميل إلى الغرب، ذات منشأ بركاني وَعِر، كثيرة الحجارة والصخور، وقد نجح بُناتها الأقدمون من العرب الأنباط في استصلاح مساحات من تلك الأرض وتأهيلها للزّراعة والتّشجير، وأحاطوا تلك البقاع المستصلحة بحيطان من الحجارة والصّخور التي قاموا بتنظيف التربة منها بهدف استزراع الأرض، ولعلّ اسم القرية “حوط” مشتقّ من الفعل العربي”حاطَ”، ويفيد الحفظ والصّون ومنه “حَوّط الساحة أي: بنى حولها حائطاً1 وهناك اجتهادات وتفسيرات أُخرى، لكنّ هذا يبدو الأقرب لحقيقة اسم القرية موضوع بحثنا.
وتبعد حوط إلى الجنوب من مدينة القريّا بنحو ستة كيلومترات، وعن السويداء عاصمة الجبل بـ 28 كلم. يحدّها من الغرب قريتا بكّا وذيبين، ومن الجنوب أمّ الرّمان، ولجهة الشرق الرّافقة والمنيذرة ولجهة الشمال القريّا ونمرة.

في شعر الأمير عادل
ربطت بين الأمير عادل أرسلان وآل العبد الله صداقة وطيدة وخاصّة مع رشيد العبدالله، ويروي المعمرون طرائف ومزحات لطيفة متبادلة بين الرّجلين، وذكر الأمير قرية حوطَ في شعره عندما افتخر بقومه بني معروف قائلاً:
وحــــــوليَ من قحطانَ قومٌ رَمَتْ بهــم
إلــــــى فَلــــــَوات النّبـــــــــك عِتــــــــْرةُ عــــــدنــــــــــــــــــــــــــــانِ
بقيّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أبـطــــــــــــــــــالٍ لَـــــــــــــــــــــــــــــــوَ أنّ زمـــــــــــــــــــــانـــهم
تقـــــــــــــــــدّمَ لـــــــــــــــــم تســــــــــــــــمع بـعبـــسٍ وذبـــيــــــــــــــــــــــانِ
قـــرأت لــــــــــــــــــــهم شـعــــــــــــــــــرَ الزّرْكِــــــــــــــــــليِّ فيهـــــــم
فهـــــــــــــــــــزّ بهــــــــــــــــــــــــــــــم من نَـجـدةٍ أيَّ أغصـــــــــــــــــــان
وهَمُّـــــــــــــــــــــوا فَلـــولا حِــكمــــــــــــــــــةٌ لا أذيـــعــــــــــــــــــــها
سمعتَ الوغى مابين حــــــــــوطٍ وعرمانِ

قرية نبطية الأصل
وفي مخطوطة لدى محمد متعب العبدالله ــ أحد مواطنيّ حوط ــ ما يفيد أنّها قرية نبطيّة أصلاً، وقد عثر في العديد من بيوتها على زخارف ونقوش وكتابات يونانيّة وشواهد قبور قديمة تعود لتلك العصور البعيدة، كما ازدهرت في العهدين الأيوبيّ والمملوكيّ، ولعلّ هذا يعود إلى موقعها على الطريق القديمة بين بصرى ــ صلخد التي تتصل بالعراق، وطريق قوافل شبه الجزيرة العربيّة جنوباً والشام شمالاً.
وعلى هذا، فإنّ العمران الأوّل في حوط يعود إلى عصور الأنباط الذين سبقوا الرومان في إعمار المنطقة، وهناك آثار تدلّ على ذلك ومنها تماثيل لحيوانات وبقايا تماثيل لآلهة وبقايا دور وجدران ومغاور وبرك تعود لأكثر من ألفي عام.
المنازل الأولى القديمة في حوط مُشادة من الحجر البازلتيّ المنحوت، وفيها “بقايا معبد نبطي حُوِّل إلى كنيسة ومن ثمّ إلى مسجد”.
يقول باحث الآثار علي أبو عسّاف في حوط:” قرية نبطيّة اكتسبت أهميّة في عصر المماليك 1073ــ 1186م حيث وُجِد فيها تمثال الأسد المملوكي وكان على الأرجح في مخفر إضافة إلى بركة ماء وبقايا بيوت”2 .
وتمتدّ أراضي القرية بين وادي الزّعاترة إلى الجنوب منها ووادي البَرْدِيّة شمالها وتعبر أراضيها القناة المنسوبة للشيخ سعيد الأطرش التي كانت تزوّد قريتي ذيبين وبكّا بالماء المستجرّ من أعالي الجبل قبل أن تنجح الدّولة السورية بتأمين المياه لحواضر الجبل من الآبار الجوفيّة.

آثار مملوكية
هذا ولم تُدرَس القرية دراسة آثارية جادّة بعد، غير إنّ القسم الأوسط منها غنيّ بالآثار التي تظهر بين الحين والآخر حيث ظهر في الجانب الشرقي منها تمثالان لأسدين مملوكيّين أحدهما محفوظ في بيت محمد بن اللواء المرحوم متعب العبدالله. وفي بيت السيّد حسن خيزران أبو الحسن كتابة تعود إلى العصر البيزنطي، ومن الدّور الغنيّة بالآثار دار ورثة المرحوم سالم الصالح ودار صياح رشيد العبدالله ودار ورثة آل وهبة وغيرها..
كان التحضّر قد تراجع في معظم ديار جبل حوران في العهد العثماني، وأصبحت البلاد مراعي ومرتعاً لغزوات البدو وعندما زار الجبل الرحّالة السويسري بركهاردت، المكلّف من بريطانيا باستكشاف البلاد عام 1810 كانت حوط وسائر قرى المقرن القبلي من الجبل والواقعة إلى الجنوب من القريّا وشرقها خراباً لا سكّان فيها، ولا ننسى في هذا المجال تأثير الجفاف الدّوري الذي لم يضرب البلاد بين عام وآخر، ولكن النّزاعات الحزبية ــ الاجتماعية بين الزّعامات الدرزيّة الإقطاعية في جبل لبنان التي أضرّت بالموحّدين الدروز، بالإضافة إلى ضغط المارونيّة السياسية المتحالفة مع فرنسا والشهابيين الذين ورثوا الإمارة المعنية، كلّ ذلك دفع بموجات متوالية من بني معروف للجوء إلى جبل حوران.

مورج لدرس المحصول
مورج لدرس المحصول

قدوم بني معروف إلى حوط
وفي مرويّات آل العبدالله أنّ أوّل من سكن قرية حوط وكانت خربة قبيل عام 1840 كان “الشيخ قاسم بن حسين بن عبدالله بن علم الدين معن بن نعمة الله” مع أولاده الثلاثة حمد وحامد ومصطفى، قادمين إليها من بلدة القريّا التي كانت معقلاً لإسماعيل الأطرش وآله، في تلك الفترة من الزمن، وإلى هذا يشير الأمير متعب الأطرش وهو حفيد الشيخ إسماعيل مؤسس مجد الأطارشة في الجبل في مخطوطة مذكّراته ص27 فيقول إنّ جدّه إسماعيل أعطى قريبه قاسم العبدالله قرية حوط والذي من ذرّيته آل العبدالله..”، ولكنّ خلافاً نشأ بين الرّجلين إسماعيل وقاسم حول حق وِرْد الماء على مطخي حوط وبركتها، فقد أراد إسماعيل أن ترد مواشيه على مناهل حوط ورفض قاسم ذلك، وقد تمت التّسوية بين الرّجلين على وضع حد التملّك والرّعي شمال قرية حوط في موقع الكدنة بين حوط والقريا ويبقى حق الاستثمار في الرعي والمياه داخل الحد المتفق عليه من حق قاسم العبدالله وساكني حوط. كان آل العبدالله من النازحين من بلدة بقعسم في إقليم جبل الشيخ وقبلها كانوا قد نزحوا من جنوب جبل لبنان، ويذكر الرّاوية نايف الصالح أنّ الناس قد اصطلحوا في ذلك الوقت أن يعرّفوا بأولاد الشيخ قاسم العبدالله بأنّ ولده الأكبر حمد همّته وهمّه في الحرب والسّيف، وحامد في السياسة والمجتمع، ومصطفى للعناية بالرّزق.
في ذلك الزّمن كان السكّان الدروز الذين اعتمدوا التحضّر والزّراعة نمط حياة لهم في مواجهة حياة البداوة التي كانت تعتمد على نمطي الرّعي والغزو كمورد لعيشهم، بحاجة ماسّة الى توطيد وجودهم في جبل حوران، ولم تكن علاقة آل العبدالله قد انقطعت مع المنطقة التي نزحوا منها في بقعسم، إذ كانت لهم دار وممتلكات تشدهم إليها، ولكنهم نزحوا منها بتأثير ملاحقات الأمير بشير الشهابي الثاني لهم ولأقربائهم آل عبد الغفّار الأطارشة في العقدين الأولين من القرن التاسع عشر.
في زيارة مصطفى لدياره الأولى في بقعسم مرّ بقرية خربة السّودا التي يقطنها أحمد الصالح خال أبيه قاسم، فنزل ضيفاً عليه، وجد عنده ستّة أبناء، فسأله:
ماذا يعمل أبناؤك يا خال؟
ــ كما ترى رعاة ماعز وحراثة ومن ثمّ بطالة..
ولما كان بنو معروف حديثي عهد بالتوطّن في قرى المقرن القبلي وكانوا بحاجة الى الرّجال لتأكيد وجودهم وتوطيد التّحضّر والزراعة في مواطنهم الجديدة، فقد قال مصطفى للخال:
ــ أعطني اثنين من أولادك.
فـأعطاه الخال ولديه بهاء الدين ومحمود وكانا يافعين.
ومن مرويات نايف الصّالح الطّريفة أنّ مصطفى أركب الولدين؛ بهاء ومحمود على جمل من قافلته، وقاد بهما وهو على ظهر فرسه، ولمّا تعب الولدان من ركوب الجمل مع طول الطريق من إقليم جبل الشيخ إلى جبل حوران، فقد خشي مصطفى أن ينعسا على ظهر الجمل ويسقطا أرضاً، لذا أنزل كلاًّ منهما في عديلة من العديلتين المتقابلتين على ظهر الجمل ليأمن عليهما، وليغفوا بعدها بأمان.

توسع الوجود المعروفي
وفي حوط عمل الفَتَيان في رعي الخيل والجمال عند ابن عمتهم الشيخ قاسم وأبنائه. وكبرا، فَحَنّا إلى موطنهما السّابق في خربة السّودا فعادا إليها، ولكنّهما قَتَلا رجلاً على أثر نزاع عائلي من آل طليعة، فأُجلي بهاء الدين من القرية، وتبعه شرف الدين وهبة، وقصد الرجلان حوط تجنباً للثارات. كان قاسم قد توفّي، وكان ابنه الثاني حامد رجلاً ذا دهاء وحنكة سياسيّة أكثر من أخيه حمد الذي كان رجل حرب وقتال يلقبونه بالسّبع الأحول، فاعتمد حامد عليهما وجرت بينه وبينهما علاقات مصاهرة ونمت أسرتان جديدتان من آل الصالح وآل وهبة في حوط، أمّا بهاء الدين الصالح فقد عمّر نحو مئة سنة وتوفّي نحو عام 1926 وبناء عليه يكون قدومه الأوّل إلى حوط نحو عام 1840 أو ما بعدها بقليل.
بالإضافة إلى آل العبدالله وآل الصالح وآل وهبة، فقد قدم إلى حوط من القريّا آل أبو طافش، وهؤلاء أصلاً من آل أبو شقرا في جبل لبنان، نزحوا من بلدة عمّاطور نحو أوائل النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر إلى شمال فلسطين وهم من جب جزّان أبو شقرا، (ومن هذه الأسرة كان الثائر أحمد طافش الذي قاد ثورة في شمال فلسطين ضد الإنكليز واستشهد على أثر المواجهات الحربية عام 1929) وقد انتقل بعض أفراد من هذه الأسرة إلى جبل حوران ونزلوا في القريّا زمن الشيخ إسماعيل الأطرش في منتصف ذلك القرن. ومن عائلات حوط آل المصفي، وآل الشمعة وآل سريّ الدين وآل جابر وآل ملاّك وآل النّجم الذين هم أصلاً من آل عمار من جبل لبنان، وآل مداح من راشيّا وآل اسكندر وأبو دقّة وهم يلتقون بجمهرة آل الأطرش، وآل خيزران والخطيب وهم متفرّعون من آل أبي الحسن المتنيين، وآل الصفدي النازحون من شمال فلسطين، وآل الوزير قدموا من قضاء عاليه، وآل شرّوف من حاصبيّا وفي القرية بضعة أسر بدوية من عشيرة الشّنابلة.

الأمير عادل أرسلان زارها مرارا وأحبها ومدحها شعرا
الأمير عادل أرسلان زارها مرارا وأحبها ومدحها شعرا

شهداء الثورة السوريّة الكبرى
في أهالي قرية حوط يقول الشّيخ صالح عمار أبو الحسن وهو الشاعر الشعبي للثّورة السوريّة الكبرى 1925ــ 1927، في ص 14 من ديوانه:
في حوط ينبوع الذكا وبحر العــــــــلوم
أهـل السخا والمرجلي وفيها قــــــــــــــــــــــــــــروم3
مثل الشمس مـــــن حين يبدي ضَوّها
من نورها تغيب الكواكـــــــب والنّجوم
يذكر أسماء شهداء قرية حوط وهم: عبدالله العبدالله، وولده حسين وخلف وقاسم العبدالله، وحسن خيزران وحسين وحسن الخطيب وعقاب وعسّاف ومحمد وطافش أبوطافش، وحسن وهايل وكايد وزيدان وحسين وهبة وحسن وسليمان العزقي سريّ الدين وحسن الصالح ومحمد وزير ومحمد ويوسف الشمعة وسلمان وقاسم وفارس مداح وعبدالله النجم عمار وحسن شلهوب الأحمديّة.

الزّراعة في حوط
اعتمد السكان الأوائل لحوط من بني معروف على الزّراعة واستمروا على هذا النمط من الكد والعيش أجيالاً طويلة، لكنهم اتجهوا بعد ذلك، خصوصاً بعد الاستقلال، للاعتماد على الوظائف الحكومية ومنها الجيش وهذا ما يفسّر وفرة عدد الشّهداء (16 شهيداً) من شبان القرية المتطوّعين في الجيش خلال الأزمة السّورية بين 2011 و2017.
وفي الوقت الحالي فإنّ غالبيّة العاملين في الزّراعة هم من الكهول المتبقّين في القرية أو من الموظفين الذين يتّخذون من الزراعة مورداً إضافياً يدعمون به مداخيلهم التي تآكلها الغلاء في سنوات الأزمة السّورية السبع المنصرمة، وهؤلاء يعتمدون على ما تجود به السّماء من مطر وثلوج تتذبذب كميّاتها من عام لآخر، فيزرعون الزّيتون والكرمة والتين واللوزيّات، لكنّ كل تلك الجهود تبقى في إطار الزّراعة المعيشية التي لا تكاد توفّر أكثر من المؤونة الضّروريّة للعيش. ويضاف إلى ذلك تربية المواشي من أغنام وماعز وأبقار حلوب، ولكنّ هجرة العمالة إلى الخارج وخاصة دول الخليج تشكّل مورداً هامّاً للعيش والعمران في القرية وهو الأمر الذي يوفّر قدراً من البحبوحة المؤقّتة لأسر المغتربين.

معلومات وإحصاءات
تمتد حوط على مساحة 12,735 هكتار، مساحة المستثمر منها حالياً نحو 4,369 هكتار بسبب وعورة الأرض، غير إنّه يمكن زيادة تلك المساحة بفضل التكنولوجيا الحديثة.
زراعة الحبوب وهي زراعة بعليّة: المزروع قمحاً 1500 دونم، ثمّ 1200 دونم حمّص، ومثلها للشّعير، وهناك زراعة بقوليّات محدودة.
الأشجار المثمرة: الزّيتون يشغل الزّيتون مساحة 264 دونماً، والكرمة 201 دونم، والتّين 102 دونم، واللّوز 30 دونماً.
وهناك زراعة لبعض الأشجار المثمرة تعتمد السّقي على بئر ارتوازية قامت الدّولة بحفرها لصالح القرية، ومن هذه الزراعات الفستق الحلبي (40 دونماً) والتّوت (4 دونمات)، والجوز ( دونمان).
وفي الحدائق المنزليّة ضمن المخطط التنظيمي للقرية يزرع المواطنون أشجاراً يروونها من شبكة مياه المنازل، منها 50 شجرة توت تعطي الواحدة منها نحو 200 كلغ، و 1,000 شجرة فستق حلبي تعطي المثمرة منها نحو 10 كلغ.
أمّا في داخل القرية فهناك 60 هكتاراً من الأراض غير القابلة للزراعة لكونها: أبنية ومرافق عامّة ومدارس ضمن المخطط التنظيمي البالغة مساحته 280 هكتاراً، والباقي عبارة عن حدائق منزليّة.
يضاف إلى ذلك 2,000 هكتار هي حرج صناعي.
ويوجد في القرية خمسة جرارات بالإضافة إلى 30 فرّامة (محراث صغير).

الثروة الحيوانية
يعتمد مزارعو حوط على تربية الأغنام (1,500 رأس) والماعز ( 462 رأساً) وتتم تربيتها بالتّعاون مع رعاة من البدو، غير إنّ أحد شبّان القرية العصاميّين (هو السيّد شاكر أبو طافش) أقدم على تربية الأغنام معتمداً على مبادرته ونشاطه، وحقق نجاحاً في عمله وأرباحاً مجزية. وأما تربية الأبقار الحلوبة التي عملت دائرة البيطرة في وزارة الزراعة على إنتاج الأنواع المحسّنة منها، فيبلغ عددها في القرية 73 بقرة، منها 53 حلوبة، تَحلب كلٌّ منها ما متوسطه 7 أرطال يومياً لمدة 9 شهور من السّنة. ويبلغ ثمن البقرة المنتجة نحو 1,000$ وربّما يزيد على ذلك. وهناك مزرعة في خراج القرية تتضمن 50 جملاً، وفي بعض البيوت يقتنون البطّ والأوز بأعداد قليلة.

المخطّط التنظيمي والخدمات
تبلغ مساحة المخطّط التنظيمي لـ “حوط” 280 هكتاراً، وأطوال شوارعها المعبّدة نحو 10 كلم، وتتبع حوط لبلديّة مدينة القريّا، وتتوفّر فيها خدمات الشوارع المعبّدة والماء والكهرباء والهاتف والإنترنت، وفي البلدة محلّات ميني ماركت ومحلات تجارية أو محلات للخدمات الحديثة مثل الهاتف وكذلك محلات لمهن مختلفة.
الخدمات التّربوية/ التعليمية والطبيّة: في القرية مدرسة ابتدائية ذكور/ إناث، باسم الشّهيد علي النّجم عمار، ومدرسة إعدادية ذكور/ إناث باسم الشهيد فيصل الصالح. ومباني المدرستين ملك لوزارة التربية، كما توجد روضة أطفال تتبع للاتحاد النّسائي.
وفي القرية جمعية تعاونيّة رابحة، باسم “جمعيّة النقل” ساهمت بشراء باص عمومي يؤمن النقل اليومي للمنتقلين من حوط إلى السويداء بدواعي الوظيفة أو قضاء الحاجات اليومية لمواطني القرية، كما توجد جمعيّة تعاونية فلاّحية تؤمّن للفلاحين القروض والبذار والأسمدة والأعلاف لمواشيهم بأسعار معتدلة ومدعومة.

موقع حوط في محافظة السويداء بين القريّا وصلخد ونمرة وبكّا

محطّة البحوث العلميّة الزراعيّة
عمدت وزارة الزّراعة السوريّة إلى إحداث محطّة للبحوث العلميّة الزراعيّة بمساحة تزيد على 300 دونم في المجال الزراعي للقرية، وعلى مسافة نحو خمسمائة متر منها بهدف تطوير زراعة المحاصيل الحقليّة في منطقة الاستقرار الثالثة والرابعة في المنطقة الجنوبية من محافظة السّويداء، وهي محاصيل القمح والشعير وأصنافها، وتنشئة الملائم منها لظروف المنطقة، بالإضافة إلى البقوليّات من حمّص وعدس وجلبان وباقية، واختيار الأصناف المتفوّقة منها لزرعها في البيئة بحيث تتمّ دراسة التّربة والوسائل المناسبة لتحسين مواصفاتها الفيزيائية والكيميائيّة، ووقاية النباتات والأشجار المزروعة من الأمراض والحشرات الضارّة بها، ومن مهامّها احتساب احتياجات التربة للماء، وتقدير مدى خصوبتها. وكذلك العمل على اختبار أفضل أنواع المحاصيل الزّيتيّة كالسمسم وفول الصويا لزرعها في المنطقة وبالإضافة لذلك تُجرى الدراسة على تطوير وتحسين زراعة الزّيتون والفستق الحلبي واللّوز والتّين والدرّاق، كما يُعنى العاملون في المحطّة بإجراء تجارب على تحسين زراعة الشمّام والخسّ والثوم والبطاطا والكوسا والفليفلة ووضع خلاصة تجاربهم في خدمة المزارعين في سائر المنطقة موضوع الدراسة لا في قرية حوط وحدها، ويتم تزويد المحطّة بالماء بواسطة بئر ارتوازية على عمق نحو خمسمائة متر لتأمين احتياجاتها.

سلامة علي عبيد

سلامة علي عبيد

المناضل الوطني والمفكر والشاعر والمؤرخ
رائد الشعر الحديث ومؤلف المعجم الصينــي

قاوم الفرنسيين وعهد الشيشكلي وأيّد الوحدة العربية
لكنه صُدم بالسياسة وفضّل التفرغ للأعمال الإبداعية

كانت ولادة سلامة عبيد في مدينة السّويداء عام 1921، في أسرة معروفيّة ذات تاريخ نضالي عريق، فجدّه حسين عبيد قاوم العثمانيين في جبل لبنان واضطر للنزوح مع أسرته إلى جبل حوران ليستقر ّ في السويداء وذلك في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، ومن ثمّ ليصير أوّل رئيس بلديّة للمدينة عام 1890؛ أمّا والده علي فقد كان من أركان الثورة السوريّة الكبرى عام 1925 ــ 1927 إلى جانب قائدها العام سلطان باشا الأطرش ومن رفاقه في المنفى الصحراوي من أراضي المملكة العربيّة السعودية التي استضافت الثوّار السوريّين آنذاك وحتى عام 1937.

بيئة تحرر ونضال
كانت أسرة علي عبيد أسرة جهاد وتضحيات، فاثنان من أخوة سلامة كانا من الشّهداء، أخوه الأكبر نايف استشهد في معركة السويداء الثانية عام 1926، وأخوه رشيد اعتقله الفرنسيون عام 1930 وكان عائداً من مهمة سرّية من القدس، إذ كانت هناك علاقة وطيدة بين الثوّار السوريين والحركة الوطنيّة الفلسطينية التي كان يقودها الحاج أمين الحسيني، وكان علي عبيد والد رشيد أحد أبرز عناصر التواصل بقادة الحركة الوطنية الفلسطينية. وعلى هذا كان اعتقال رشيد من قبل الفرنسيين وبالتواطؤ مع المخابرات البريطانية وسيلة مباشرة للضغط على الوالد الثائر خصوصاً، وعلى الثوّار السوريين عموماً.
سجن رشيد في درعا وبتأثير التعذيب ساءت صحته، وعندما تأكدوا من قرب وفاته أخرجوه من السجن مشياً على الأقدام من درعا الى السويداء ليتوفّى سريعاً في منزل الأسرة في السويداء بتاريخ 28/5/1930 بعد خروجه من السجن، وقيل إنّ الفرنسيين دسوا السمّ له؛ أمّا أخوه الأصغر من سلامة، كمال، وهو الضابط الطيّار في سلاح الجوّ السوريّ فقد كان من شهداء حرب تشرين عام 1973.

طفولة سلامة في المنفى الصحراوي
عاش الطفل سلامة ردحاً من طفولته في صحراء النبك في الأراضي السعوديّة مع الأسرة المنفيّة، وهناك تعرّف عن كثب على قادة الثورة الكبار، سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وغيرهم من الثوّار وهم رفاق أبيه، ومنهم معلّمه الأوّل الذي تعلّم منه القراءة، إلى جانب أطفال الثوّار في الصحراء، المجاهد الشيخ أبو زين الدّين صالح أبو عاصي (لبناني ثائر من معاصر الشوف)، وعن أولئك الرّعيل من الثوّار تعشّق سلامة حب الوطن وأحبّ الحرية والنّضال في الدفاع عنها.
تقول ابنته الأستاذة المثقّفة سلمى عبيد في مقابلة أجرتها معها “الضحى” ربيع 2017 في معرض حديثها على نشأة الوالد:
“كان لجدّتي شريفة منصور عبيد، والدة أبي الأثر الواضح في حياته، إذ كانت الوارثة الوحيدة لأحد كبار ملاّك الأراضي في جبل لبنان آنذاك، وبالرّغم من اعتيادها حياة الترف فقد رضيت حياة المنفى الصحراوي التي عاشها زوجها إلى جانب رفاقه المجاهدين، وتحمّلت مرارة الجوع والعطش والحرمان في حياة صحراويّة بالغة الشّظف والقسوة”.
> كيف سارت الحياة بالأسرة على أثر لجوء جدّكم إلى المنفى عام 1927، وكيف كانت حياة الطفل سلامة حينذاك؟
عاش والدي مع الأسرة في المنفى حتى عام 1930 وحينها أُرسِل به إلى لبنان للتعلّم في بيت اليتيم الدرزي، بمنحة خاصّة لأولاد المجاهدين الذين فقدوا ثرواتهم أيام الثورة. كان بمفرده بادئ الأمر وقد كتب عن تلك الفترة قصّته الرائعة “هديّة أم”، عندما لم تجد الوالدة التي كانت حينها في السويداء ما ترسله لابنها في لبنان هديّة أو نقوداً ولو ليرة واحدة، فقد أرسلت له مع المعلّم الشيخ هاني باز رضوان فرنكين. لم يكن معها غير ذلك (المبلغ!) من المال. بعد تلك الفترة القاسية على الطفل سلامة قالت أم نايف لزوجها وهي التي لم تتخلّ عنه في فترة الثورة والمنفى بأنها ستذهب إلى لبنان لتبقى مع أبنائها وتهتم بتعليمهم، أجابها الزوج:”أنا رجل معروف ولا أستطيع أن أترك بيتي بلا زوجة “، قالت السيّدة بحزم: “أنت تستطيع أن تجد زوجة غيري، ولكن أولادي لن يجدوا أمّاً سواي!”، وذهبت السيدة شريفة مع أبنائها جميعاً ليعيشوا في عاليه، سكنوا في قبو غير بعيد عن قصر والدها الذي كان قد بيع لتمويل الثّورة التي استهلكت أملاكاً كانت منتشرة بين بيصور وصوفر بيعت للثورة. اصطحبت جدّتي أبناءها إلى موطنها الأوّل في لبنان لتمكينهم من الدراسة وذلك بين عامي 1930 و1940، وفي نهاية تلك الفترة حصل والدي على الشهادة الثانوية ومن ثمّ عاد ليعمل في التّعليم الابتدائي في السويداء، وفي تلك الفترة، فترة الدراسة في الجامعة الوطنيّة وما تلاها تفتحت موهبته الشعرية. كانت أشعاره الأولى أناشيد تطفح بمشاعر الثورة على الاستعمار الفرنسيّ، ففي عام 1943 كتب مسرحية شعرية عنوانها “اليرموك” مستلهماً التاريخ العربي الإسلامي، وعرضت المسرحية فعلا في مدينة صلخد رغم معارضة الفرنسيّين لذلك، وهذا يدل على مدى تصميم شباب الجبل آنذاك الذين كانوا يلتفون حول عصبة العمل القومي التي كان الوالد من نشطائها البارزين (مؤسّسها اللبناني علي ناصر الدّين وقد انتشرت فروعها آنذاك في بلاد الشام) وكان يرأس تنظيمها في السويداء السياسي والأديب سعيد أبو الحسن، وتربطه علاقة وثيقة بالوالد، فكلاهما شاعر وسياسي نهضوي، وثائر على سلطة الاحتلال الفرنسي.
> ما المدارس التي درس فيها الوالد سلامة بعد بيت اليتيم؟
درس أبي في الجامعة الوطنية في عاليه، وكان من أساتذته الأستاذ هاني باز والأديب مارون عبّود الذي اكتشف مواهبه ورعاها وشجّعه على أن يكون كاتباً”.
> وماذا عن دراسته الجامعية؟
وصل والدي إلى بيروت نهاية عام 1946 وبداية 1947، يعني الفصل الثاني من السنة الجامعية، بمنحة قُدّمت له من الجامعة الأمريكية، في حينها كان معلماً وأباً وقد استفاد من نظام الساعات المعتمدة في الجامعة ومن دورات الصيف فكثف دراسته واستطاع ان ينهي دراسته بأقل من خمس سنوات إذ حصل على شهادة الماجستير بدرجة امتياز وقد أنهى دراسته في خريف 1951 ولمّا لفت تفوّقه نظر أساتذته ومنهم د. نقولا زيادة فقد حاولوا إقناعه البقاء في لبنان والتدريس في الجامعة الأمريكية ولكنه أصر على العودة إلى السويداء.
> ماذا عن حياة الوالد الأسريّة؟
تزوّج عام 1945من أمّون نعيم قائد بيه، ابنة خالته من عين عنوب، وتنتمي لعائلة لبنانيّة عريقة تعود بنسبها للأمراء اللمعيين، (وقد نوّه الرّحابنة بدور أمراء آل قائد بيه في مسرحيّتهم التاريخيّة “صيف 1840”. كان لتفاني تلك الأم الوالدة وتحمّلها أعباء ومشاكل الحياة اليومية لأسرتنا الدّور الكبير في تمكين والدي من التفرّغ للكتابة والعمل السياسي والنّشاط الفكري الذي مارسه لفترة من الزّمن قبل سفره إلى الصين. ، وقد أنجب الوالدان ستّة أبناء هم (أنا) سلمى 1946، وليلى 1949، وأكرم 1953، و ضحى 1957 وعامر 1959- 1994 ، وناصر 1963
> ما الوظائف التي شغلها الوالد بعد حصوله على الماجستير؟

منظر عام لمدينة السويداء
منظر عام لمدينة السويداء

> هل كان لدى المرحوم والدكم تخوّف ما على دولة الوحدة بسبب ممارسات سلبيّة في إدارة الإقليم الشمالي مثلاً؟
لم يسكت والدي على ما كان يراه خطأ في دولة الوحدة، كانت تلك الدولة حلم غالبية الشعب العربي في ذلك الزمن، ومع ذلك وبسبب صراحته في نقد مواطن الخلل في إدارة الدولة فقد كان قيد المراقبة الشديدة من عبد الحميد السرّاج وزبانيته الممثّلين بدائرة المباحث (أمن الدولة في ذلك الزّمن ) فهو كعضو مجلس أمّة قريب من السلطة المركزية في الإقليم الجنوبي، وهذا يجعله موضع حذر من السرّاج الممسك بمفاصل السلطة في الإقليم الشّمالي، والذي يكاد يكون الرئيس الفعلي لسورية آنذاك. أذكر يوماً أنّني كنت أمشي في حديقة بيتنا فشاهدت رجلاً يجلس القرفصاء خلف شباك مضافتنا يتنصّت إلى أحاديث والدي وزائريه، ظننته يقضي حاجة، وعندما أخبرت والدي ابتسم بمرارة وقال: “ بابا هذا موظف”، ولم يزد على ذلك. كان ذلك الرجل المريب يكاد يكون مقيماً خلف شباكنا. وقد قدم الوالد الكثير من الاعتراضات على الممارسات القمعية للمباحث آنذاك، وعلى تسريح ضباط الجيش ممن لم يرض عنهم السرّاج وغير ذلك كثير. وكنا نحن أسرته نشعر بأنّه مهدّد بالاعتقال في كل لحظة لولا التخّوف من ردود فعل المجتمع في حينه… من أغلاط الرئيس عبد الناصر اعتماده على السّراج ومن هم على شاكلته في التصرّف بإدارة الإقليم الشمالي. كان الوالد يتذمّر بشدة من عمليّات القمع وخنق الحرّيات واستيراد آلات تعذيب كانت جديدة على سورية حينها.

سلامة عبيد حذر من تجاوزات عهد الوحدة وخصوصا أثناء طغيان عبد الحميد السراج لكن الانفصال شكل صدمة كبيرة له
سلامة عبيد حذر من تجاوزات عهد الوحدة وخصوصا أثناء طغيان عبد الحميد السراج لكن الانفصال شكل صدمة كبيرة له

صدمة انهيار الوحدة المصرية السورية
لكنّه صُدم بانقلاب الانفصال الذي كان يحذّر من مسبّباته المنذرة بالخطر على دولة الوحدة. بعد الانفصال لم يتولّ والدي أيّة وظيفة حكوميّة، ومع أنّه شارك في التحضير والتأييد لثورة الثامن من آذار وعُرضت عليه مناصب وزارية أو دبلوماسية، إلا أنه آثر التركيز على التوعية الفكريّة والابتعاد عن السياسة، ثم وبعد سفره إلى الصين بعد عام 1972 عرض عليه أن يكون سفيراً لسورية في الصين فرفض العرض مكتفياً بالعمل الأكاديمي في جامعة بكين.
> كيف توصل الوالد إلى العمل في الصين؟
بعد تعرّف المسؤولين في السفارة الصينيّة عليه من خلال تعليمه لطلاّبهم وقد وثقوا به وبقدراته؛ اقترحوا عليه أن يشرف على إنشاء قسم للّغة العربيّة في جامعة بكّين، وعلى هذا فقد عمل بمساعدة بعض الأساتذة الصينيّين على تنفيذ تلك المهمّة، ولما لم يكن هناك من كتب مناسبة فقد قام بنفسه على إعداد الكتب المطلوبة في أصول تدريس اللغة العربيّة والأدب العربي واللغويات وأصول الترجمة، وتاريخ الديانات الإبراهيمية الذي أولاه القادة الصينيّون عنايتهم كمعنيين بالسياسة الدوليّة. وبذلك فقد وضع منهاجاً كاملاً للقسم معظمه بمجهوده الشّخصي،
وعندما لم يجد قاموساً صينيّاً عربيّاً تطوّع مجّاناً بتأليف قاموس صيني عربي إنكليزي مستنداً إلى معرفته العميقة باللغات الثلاث، فقد كان يتقنها بالإضافة إلى اللغة الفرنسيّة، ولم يكتفِ بذلك بل عمل على ترجمة مختارات من الأدب الصّيني إلى اللغة العربيّة.. ومن جانب آخر فقد بقي على علاقة طيبة بالسفارة السورية في الصين خاصّة أثناء وجود مواطنه، ابن بلده الدكتور جبر الأطرش سفيراً لسورية هناك. وكان الطلاب السوريون يعتبرونه أباً لهم، حيث كان يعمل على متابعة دراستهم وحلّ أيّة مشكلة تعترض أحدهم مع السفارة الصينيّة.

حياة تنقل دائم

جامعة بكين في الصيين حيث ساعد سلامة عبيد في تأسيس قسم اللفة العربية
جامعة بكين في الصيين حيث ساعد سلامة عبيد في تأسيس قسم اللفة العربي 1966 …
الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل سلامة على درجة الماجستير وعرض عليه التعليم فيها لكنه آثر العودة إلى وطنه
الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل سلامة على درجة الماجستير وعرض عليه التعليم فيها لكنه آثر العودة إلى وطنه

قاموس سلامة عبيد
العربي الصيني الإنكليزي

من أضخم أعمال سلامة عبيد تأليفه القاموس العربي الصيني الإنكليزي الذي عمل عليه بدأب 10-14 ساعة يومياً لأكثر من عشر سنوات ليظهر إلى النور بعد ذلك بـ 2264 صفحة من القطع الكبير.
ساعده عبيد على ذلك فريق من الأساتذة الصينيّين، ولمّا كان الطبيب الصينيّ يحذره من أثر ذلك المجهود على صحّته المتعبة، كان يجيبه: “ هذا القاموس ينهيني أو أنهيه”. وهكذا كان فقد دفع سلامة عبيد فعلاً حياته ثمناً لذلك المجهود الجبّار، إذ توفّي في اليوم التالي لعودته إلى سورية من الصين.

رائداً للقصيدة العربيّة في الشعر الحديث
من المعروف أنّ والدك من روّاد القصيدة الحديثة والتفلّت من الوزن الشعري وهو شرح موقفه هذا في وصفه لحالة الشعر في بغداد أيام بني العباس بهذا البيت:
عـــــــــــــــرف الشعـــــــــــــــر زمـــــــــاناً طيّبًاً
مطـــــــلق النهضة يزري بــــــــــــــالقيود
فما قولكم؟
عام 1946 ولدت (أنا)، ابنته سلمى، ويومها بمناسبة ولادتي كتب الوالد قصيدته المعروفة “إلى ابنتي”، والتي مثّلت حينها أوّل قصيدة تنتمي إلى شعر التفعيلة، يقول فيها:
يا بْنَتي؟ فتّحْتِ عينيكِ على دنيا ضياءٍ وحَنانٍ
وأناشيدٍ حِسان، فتطلّعتِ كئيباً وبكيتِ
وهبوكِ الثّديَ ريّانَ شهيّاً فأبَيْتِ، فلماذا يا بْنَتي جئت حزينة؟
عالماً لاتعرِفينَه ؟؟.
لانيوبَ لدهر آذتكِ، ولا أعوان دهرك
وطيوفُ الهمّ لمّا تتململ فوق صدرك
بيتُنا جرّبْتُ أن يبدوَ في أحسنِ زينهْ، في بياضِ الياسمينه
وفؤادي كان جذلانَ لمرآكِ، طروبا، لا عَبوساً أو غَضوبا
فلماذا يابْنتي جئت حزينهْ؟ عالماً لاتعرفينَهْ ؟؟
كانت تلك القصيدة أسبق من قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة التي نظمت عام 1947، وكذلك مما كتبه بدر شاكر السياب في دواوينه من شعر ينتمي إلى شعر التفعيلة بعد عام 1948 وما بعدها.
قبل ذلك كانت قصيدته من شعر التفعيلة “من دمانا”، وقد نظمها على أثر قصف القائد الفرنسيّ أوليفا روجيه لمدينة دمشق والمجلس النيابي بالطيران والمدفعية، ومما قاله فيها:
من دمانا، أيّها السفّاحُ، من دمع اليتامى والأيامى
أترِعِ الكأس مُداما، وأدرها بين أشلاء الضّحايا
واستغاثات الثّكالى والسّبايا، وزئير المدفع الطّاغي وأنّات الشّظايا
أترع الكأس وناولها النّدامى، من دمانا أيّها السّفاحُ
من دمع اليتامى والأيامى
أمطرِ الشّام حديداً ولهيبا، واسْتَبِحْ فيها هلالاً وصليبا
واذبح المرضى ولاتخْشَ عذولاً، أو رقيبا

مجدد الشعر العربي
يرى الدكتور رضوان القضماني أن سلامة عبيد كان الرائد في الخروج من العمود الشعري في المشرق العربي بدءاً بقصيدته “يا بلادي” التي نظمها عام 1943 وكانت بمثابة “ثورة في التّجديد إذا ما قورنت بأشعار عصرها سواء في المضمون أو في الأسلوب” ثم قصيدته “إلى ابنتي”، التي نظمها عام 1946، هي مثبتة في ديوانه لهيب وطيب، بينما قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة تعود لعام 1947، وللأسف فما زالت المناهج المدرسيّة والجامعيّة تتجاهل حقيقة أنّ سلامة عبيد هو أوّل من أدخل التجديد إلى الشعر في المشرق العربي.
ولقد جمع الرجل في إبداعه بين الشعر والأدب والتاريخ، فهو مؤرخ صادق ومن أعماله المرجعيّة كتابه “الثّورة السّورية الكبرى، في ضوء وثائق لم تُنشَر” ويضمّ كتابه ذاك كمّاً كبيراً من الوثائق الغنيّة بالمعلومات التي عمل على جمعها وتدقيقها على مدى عشرين عاماً تناولت أحداث الثورة التي كان قد تعرّف على أركانها عياناً في المنفى، وفي مراحل حياته التالية بحكم كونه ابنا لعلي عبيد أحد أركانها البارزين، وقد طُبع الكتاب في بيروت عام 1971، ولا يمكن لباحث جادّ في شأن تلك الثورة وفي سيرة سلطان باشا الأطرش قائدها العام أن يتجاهل أهمّية ذلك الكتاب وقيمته المرجعية.

شعره مرآة نفسه
نتلمّس مزايا الشاعر من خلال قصائد ديوانه “لهيب وطيب” وقد قدّم له أستاذه الأديب الكبير مارون عبّود بقوله: “الديوان عنوانه (لهيب وطيب) وهو كذلك، فلو لم يحترق سلامة عبيد في جحيم الآلام لما خرج من رأسه هذا الشعر الفصيح الذي لم تفسده رطانة وميوعة هذه الحقبة، قلنا إنّه تألُّم والألم معصرة القلوب والعقول، عفواً فلنقل إنبيق، لأن الطيب يُستَقْطَر استقطاراً على اللّهيب، وأيُّ لهيب أحرّ من لهيب النّبك في صحراء نجد التي عرفها سلامة طفلاً مشرّداً مع أبيه والعائلة بعدما وضعت الثورة السوريّة أوزارها؟”…

الموظف المسؤول والمثالي
بالإضافة إلى عمله مديراً للتربية في السويداء شغل سلامة عبيد مهمّة مدير بيت اليتيم وكان عضواً في اتّحاد الكتاب العرب وعضواً في جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية ورئيس تحرير لمجلّتها، وقد عمل على تأسيس ومتابعة عدد من الأنشطة الثقافيّة والرياضية في المحافظة كالكشافة والمسرح المدرسي والمنتديات الثقافيّة والمكتبات المدرسيّة والمعارض.
وعمل على الاهتمام بالآثار والتعريف بها وطباعة أدلّة للتعريف بالمحافظة. كذلك شارك في كثير من المؤتمرات الأدبيّة والثقافية وألقى عشرات القصائد في مؤتمرات ومنتديات في سورية ولبنان والعراق ومصر والمغرب والإمارات كما شارك في مؤتمر الأدباء الآسيويين والإفريقيين في بكّين عام 1964
كما كان له دور كبير في إنشاء قسم اللغة العربية في بكّين وكتب عشرات الكتب التعليمية لتعليم الصينيّين اللغة العربية.

سلامة عبيد ولبنان
عاش سلامة عبيد تلميذاً وطالباً في لبنان بين عامي 1930 و1940، ووثّق عن تلك الفترة أحداثاً جمّة سجّلها في كتابه “ذكريات الطفولة”، وفيما بعد درس في الجامعة الأمريكية بين عامي 1947و1951، وفي شعره يتجلّى حنينه ألى لبنان وطن الأجداد إلى جانب ذكرياته في دمشق
في “ديوانه لهيب وطيب” قصيدة “تحية لبنان”، نظمها على أثر استقلال لبنان هذا بعض ما جاء فيها:
لبنــــــــــان والآلام تجــمعنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ورؤىً معطّــــــــــــــــــــرة اللمــــــــى خضــــــــــــــــــــر
وصنـــــــــــائــــــــــــــــــــع بيــــــــــــــــــــض تعشّــــقـــــــــــها وهفـــــــــــــــــــا لمثل أريجــــــــــــــها الزّهـــــــــــــــر
ودم تعصبــــــــــــــت العــــــــــــصــــور لــــــــــــــه فبدت وحـــــــــــــــــــــــــول جبينــها فــجر
يــــــــــــــرضي العروبة مــــــــــا بذلت لها وتعــــــــــــــود بـــعــــــــــــــد الفـــجر تفتــــــــــــــــــــــــرّ
لــــــــــــــبنــــان جئــــــــــــــــت بنيك معتــذراً عنّــــــا وليـــــــــــــــــــــــــس لمثــــــــــــــلنـا عـــــــــــــــــذر
هــــــــــــــم للســـيــــــــــــــادة والحياة مشـــــــوا وسيــــــــــــــوفـــــهم رعّــــــــــــــافــــــــــــــــــــــةٌ حمـــرُ
هبّــــــــوا إلى اســــتقـــــــــــــلاله ومشــــــوا وعلـــــــــى أكبادهم مكلومة مرّوا

سلامة عبيد في شبابه
سلامة عبيد في شبابه

قصيدته في الشهيد عادل النكدي
وهو لاينسى الشهيد البطل عادل النكدي من بلدة عبيه في لبنان، الطالب الجامعي الذي كان يدرس في لوزان في سويسرا وهو على أبواب التخرّج من الجامعة، ترك الجامعة ليلتحق بالثورة السورية مجاهداً، واستشهد بطلاً بعد معارك خاضها في غوطة دمشق، وبمناسبة نقل رفاته في احتفال مهيب عام 1945 ألقى الشاعر هذه القصيدة ومنها:
لــــــــــــي مثـــــــــــــــــــــلُ ما لَكَ أعمــــــــــــــــــام وإخـــــوان في حــــومة الحــــقّ ما ذلّوا وما لانـوا
ضجّوا من القيد بعد القيد يحكــمه معربــــدٌ من خمــور السّــين1نشـــوان
فاستنصروا البيض والجــــــــرد العتاق فما هانت على جيشه الطاغي وما هانوا
أكـــــــــــــــــــــــــــــــــــرم بــــــــها ثـــــورةً دوّت مجـــــــلجلـــــــــــــــةً كمـــا يتفـــــجّر في الظلمـــــــاء بــــــــــــــــركان
فــــــــــي ذمّة الله مــــــــــــــــــن صانوا كـــــــــــــــــرامتــــنا إمّا استُفِـــــزّت ومن قربانـــــــــــــــها كانـــوا

قصيدته «المنارة الهاوية» في رثاء الأمير شكيب أرسلان
يقول فيها:
قضى من تحدّى الدهــر دهراً فما انثنى ولا هادنتــــه أو تراخت نوائبـــــه
سعــــــــــى طـــالبــــــــــاً حـــــــــــــقّ الحيـــــــاة لقومـــــــــه ومــوج المنايا دون مــــــــــا هو طالبــه
فكــــــان بــــــــوجـــه الطامعيـــــــــــــــــن غضنفــــراً هصوراً ثقيل الوقع مذ طرً شاربه
ينـــــــــــــــازلهــــــــــــــــم في أرضـــــهم بعــد أرضـــــه وحيــــــداً فما لانوا ولا لان جانبه
فما انفكّ حتى حصحص الحق وانبرت زلالا لأقـوام عطاش مشاربــــــه

رثاء الأمير عادل أرسلان
في قصيدته” أمل قضى” يرثي الأمير البطل فيقول منها:
هيهــــــــات لا قلمي يـــــكـــــــاد ولا فمـــــــــــــي يقوى علــى بث الأســى المتضرّمِ
سيــــــــــف العروبة لا العروبة وحدها تبــــــــــــــــــكي عليك ولا هـــلال محــرّمِ
أيُّ الأســـــــــود يطيـــق مـــــــــــــــــــــا جابهتـــــــــــــــــــــه تحت الغبار المـرّ في بـــــــــــــــــــــرك الــــدّمِ
أيُّ السيوف يظــــــــــــــلّ مثلك مرهفـــــــــــــــــــــــاً لــــــــــم ينــــــــــــــبُ فـــي أمــــــــــــــــرٍ ولـــــــــم يتثــلّـــــــــمِ
عرفَ الزعامــــــــــــــة عفّـــــــــــــــــــــةً ومــــــــــــــــــــــــــــــروءة لا وطـــأة مـــــــــــــــــــــــن صـــولةٍ وتــحَــــــــــــــكّمِ

وفاته
في اليوم التالي لعودته من الصين توفي الأديب والشاعر والمؤرخ والباحث سلامة عبيد، كان ذلك يوم 25 آذار 1984 واختتم هذا الرجل الفذّ بذلك حياة حافلة بالنضال الوطني والإسهام الفكري والثقافي والاجتماعي.

سليمان حسن مجاهد

كاتم أسرار الأمير حسن الأطرش

سليمان حسن مجاهد وشاهد على الآمال الكسيرة

“لقاء أفكار” مع كمال جنبلاط في دار حسن الأطرش
أثلج صدر سليمان وعزز إيمانه بالزعيم الاشتراكي

كان مستشاراً للأمير حسن وسنداً له في الظروف العصيبة
لكنه خالفه في الموقف من كمال جنبلاط ومن عبد الناصر

لم يكن سليمان أبو علي حسن زعيماً سياسياً ولا وارثاً لجاه أو مال لكنه مجاهد عنيد لم يترك فرصة ولم يبخل بتضحية من أجل القضية التي آمن بها وهي قضية استقلال ووحدة سورية ثم قضية الوحدة مع مصر. وبسبب ثقافته الواسعة وحنكته السياسية ورصيد الثقة التي حصل عليها وجد سليمان حسن نفسه يلعب أدواراً مؤثرة في مرحلة من مراحل تطور الجبل، وذلك بسبب قربه من قادة الأسرة الطرشانية مثل سلطان وسليم ونسيب وعبد الغفار وأخيراً الأمير حسن الأطرش الذي كان لوقت طويل أمين سره ومستشاره وكاتم أسراره. فمن هو “رجل الظلّ” المحنك هذا؟ وما هي سيرته السياسية والأدوار التي قام بها في زمانه المضطرب والمفعم بالأحداث الكبيرة؟

النشأة
ولد سليمان حسن (أبو توفيق) في عترين الشوف العام 1892 وتوفي فيها العام 1991 عن عمر ناهز المائة عام تقريباً، وهو أصغر أبناء محمود يوسف حسن، المعروف بلقبه (أبو علي). كان والده من “ شيوخ الصلح” في ما كان سائداً خلال عهد “ المتصرفية” في جبل لبنان؛ وقد ألحقه وهو فتى صغير في مدرسة الثلاثة أقمار في بيروت، كما فعل من قبل مع شقيقتيه، وقد كان والده من الثقافة وسعة الأفق ما جعله سبَّاقاً في تعليم بناته على صعيد طائفة الموحدين الدروز ، بل ومن الندرة في القرن التاسع عشر على الصعيد اللبناني1 .
أنهى سليمان في مدرسة الثلاثة أقمار في بيروت مرحلة “العلوم الإكمالية” أو ما يعادل في أيامنا المرحلة المتوسطة )البريفيه)، وهي آنذاك مرحلة متقدمة في التحصيل العلمي، لينتقل بعدها إلى إحدى الصيدليات العام 1913 بغية تعلم مهنة الصيدلة بالتمرين بحسب ما كان معمولاً به آنذاك فمكث فيها قرابة السنة ليتركها مضطراً بسبب مرض والده في القلب مما استوجب ملازمته إياه، حيث بات الرجل الوحيد الذي يعتمد عليه، وهذا لأن شقيقه الأكبر ملحم كان وقتذاك مهاجراً إلى أميركا بينما كان أخوه يوسف مقيماً في بيروت حيث كان يملك في العاصمة كراجاً لعربيات الخيل، وكان والد سليمان من الناشطين في “حزب اللامركزية” لكنه كان قد بدأ يعاني من ضعف في سمعه بسبب تقدمه في العمر، وهذا الأمر فرض على الإبن ملازمة والده بل ومرافقته في الكثير من اجتماعاته واتصالاته، إذ لم تكن السماعات حينها عملية لكبر حجمها، لذلك كان الأب يستعين بابنه سليمان مسـمياً إياه : “سـماعتي” وهذا جعله بالضرورة مستودع أسراره.
وبسبب نشاطه في حزب اللامركزية قضت المحكمة العرفية بنفي محمود يوسف حسن إلى “الأناضول”، وقد أخبرنا سليمان انه عندما حضر الدرك لتنفيذ الحكم كان قد مضى على وفاة والده ثلث ساعة، فخرج إليهم ليقول “إذا جئتم لأخذه فقد استخاره الأكبر منكم” . يقول سليمان إن موت والده كان من ألطاف القدر لأنه كان سيموت على الطريق بحكم مرضه الذي اشتد عليه فيدفن في مكان لا يعلمه إلا الله وحده في ظل تقهقر الجيوش العثمانية، وما صاحبها من فوضى في تلك الأيام من منتصف العام 1917.
إضطر سليمان أن يغادر لبنان العام 1918 قاصداً جبل حوران (جبل العرب)، أما مبعث الاضطرار فقد كان وجوب تسديد نصيبه من الديون المترتبة على والده والتي نجمت عن أمرين: الأول هو الرحابة التي يقتضيها مركز “شيخ الصلح” فكيف في أحوال ذلك الزمن من الحرب العالمية الأولى الذي انتشر فيه القحط والمجاعة، والثاني العمل السياسي، وقد كان معظم جماعة “حزب اللامركزية” ينفقون على نشاطهم السياسي من جيبهم الخاص نائين بأنفسهم عن قناصل الغرب و”عطاياهم”! وذلك خلافاً لحال العديد من المطالبين بالانفصال عن السلطنة! وقد اقتصرت معارضة “اللامركزيين” على المطالب الإصلاحية في إطار الولاء لدولة السلطنة.

جبل العرب والعهد الفيصلي
كان جبل العرب خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ينعم بمزايا جعلته مقصداً للكثير من أبناء بلاد الشام التي اجتاحتها المجاعة، حيث الغلال الوفيرة التي لم يصبها الجراد، كما جرى في لبنان، ولم يصادرها العسكر التركي، كما كانت الحال في معظم الأماكن، وقد تجنّب الأتراك الاقتراب من محاصيل الجبل خشيةً انتقام الدروز باعتراضهم لقوافل تموين الجيش التركي التي تمر بجوار الجبل، وهكذا شهد الجبل فترة ازدهار استثنائية وتحول إلى مأوى يتوافد إليه سكان جبل لبنان أو جنوبه لدرء الجوع عن عيالهم.

ضابطا-في-خدمة-العهد-الفيصلي
ضابطا-في-خدمة-العهد-الفيصلي

في خدمة أمير الجبل
وصل سليمان إلى جبل العرب مطلع العام 1918 وتعرف على أميره الشاب سليم الأطرش، ومقرّه في عرى، والذي لفته كياسة وثقافة سليمان فكلّفه بأعمال المحاسبة الخاصة بأرزاقه وحصر غلال أراضيه الواسعة، ولم يمض زمن طويل حتى التحق سليمان في مطلع نيسان 1919 بسلك الشرطة برتبة مفوض ثان2، وكان هو وأقرانه نواة القوة الأمنية للحكومة العربية الأولى برئاسة رضا باشا الركابي ، وقد باشرت الحكومة المذكورة في بناء هيكلية “الدولة السورية”، وكان من أولى مهماتها ضبط الأمن الذي أُفلت من عقاله في دمشق بعد انسحاب الجيش التركي منها. وبالنظر إلى تحصيله العلمي وحسن أدائه في المهام الأمنية التي أوكلت إليه فقد رُقِّي إلى رتبة مفوض أول في مطلع العام 1920. ومن الذكريات التي لم تفارقه ما شهدته دمشق صباح الاثنين من 8 آذار سنة 1920 من الإعلان عن قيام “مملكة سورية”. يومها وقف محمد عزت دروزة من على شرفة مبنى السراي في ساحة المرجة أمام حشود الناس ليعلن باسم المؤتمر السوري قيام المملكة الفتية ومبايعة فيصل مليكاً عليها.
ولطالما كان سليمان أبو علي حسن وهو يستعيد ذكرياته خلال الحقبة الفيصلية يستذكر تلك اللحظة التاريخية بفخر ولاسيما دخوله إلى قاعة التتويج مع زملائه المفوضين واضعاً يده بيد الملك فيصل مبايعاً وفقاً للأعراف المتبعة. يومها كانت “مملكة سوريا” حلم المستنيرين من جيل سليمان أبو علي حسن، فيما كان فيصل رمزاً يلهم هذا الرعيل من القوميين بإمكان تحقيق حلم الدولة العربية المشرقية التي تضمُّ، إلى الشام، العراق والحجاز وذلك بوصفها أول دولة عربية يحكمها عربي، منذ 800 سنة وهو تاريخ سقوط الدولة العباسية في بغداد!
وبقي سليمان يحمل في وجدانه آثاراً من هذا الولاء الذي منحه مع أقرانه للملك فيصل كما بقي يحمل الذكرى الأليمة لخروج الأخير من دمشق إثر دخول الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال الفرنسي غورو إليها، وقد كان قدر الرجل أن يشهد انكسار حلمين – كما كان يردد- سقوط الدولة العربية مع دخول الجيوش الفرنسية إلى دمشق في تموز من العام 1920، وسقوط دولة الوحدة المصرية السورية بفعل حركة الانفصال في 28 أيلول من العام 1961، ولطالما سمعناه أكثر من مرة يقول: “مرتين بكيت فيهما: فيصل عندما غادر سوريا، ومن بعده عبد الناصر”.
خلال عمله مع سليم الأطرش أمير الجبل تعرف سليمان على العديد من رجالات الجبل ومن ضمنهم أقرباؤه من آل الأطرش ، نذكر منهم عبد الغفار باشا ونسيب بك وحسن الأطرش والمجاهد الكبير صياح الأطرش وهذا الأخير كان صديقه الأثير إلى حدود “التآخي” بحسب ما كان سائداً أيامه. أما سلطان الأطرش فكان الأقرب إلى وجدانه وعقله ومحطّ إعجابه بسبب عبقريته القيادية وسموّ أخلاقه وتمسكه بقيم البيئة التوحيدية التي ترعرع فيها3.

النضال ضد الانتداب
شكل دخول غورو إلى دمشق في 25 تموز 1920، وزيارته لقبر صلاح الدين واضعاً قدمه على ضريحه قائلاً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، طعنة لكرامة كل وطنيّ أو مسلم. ووسط الذهول العام من عمق الفاجعة والانكسار النفسي ترك سليمان العمل في 30 تموز 1920أي بعد خمسة أيام من دخول فرنسا، وكانت هذه حال البعض من زملائه أيضاً، وبالرغم مما سبب له ذلك من ضائقة ماديّة فإنه آثر أن لا يترك سوريا ملتحقاً بالأردن كما البعض من زملائه الذين ساروا مع الملك فيصل ليحتضنهم شقيقه عبد الله “أمير شرق الأردن” آنذاك، وفيهم من تبوّأ مراكز مهمة في ما بعد؛ وقد سألناه عن السبب فقال: “لقد كان ولائي لفيصل وليس لعبد الله الذي لم أكن أعرفه، وأما الذهاب إلى الأردن فهو مثل الهارب من الدلف إلى تحت المزراب” وكان يقصد بذلك الانتداب البريطاني، وبالفعل فقد اضطر العديد من الوطنيين إلى مغادرة الأردن في ما بعد بسبب عدم مماشاتهم للبريطانيين الذين كانت بيدهم عملياً مفاتيح الحل والربط في الأردن آنذاك، ومن هؤلاء رشيد طليع وفؤاد سليم وغيرهما ممن عاد والتحق بالثورة السورية الكبرى.

أمين سر معتمدية الجبل
لم تمض ِ أشهر على احتلال سوريا حتى شرع الانتداب بتقسيمها إلى دويلات ، وهكذا أُنشئت حكومة جبل الدروز ربيع العام 1921 برئاسة الأمير سليم الأطرش، وعُيِّنت لها معتمديّة في دمشق برئاسة نسيب بك الأطرش، وقد قام هذان الأخيران بالتوسط لدى السلطات الفرنسية لإعادة سليمان حسن إلى الخدمة، بالنظر الى ما يعرفانه عن أمانته وكفاءته، فتحقق لهما ذلك ليعيَّن سليمان حسن أميناً لسر المعتمدية المذكورة برتبة ملازم ثان، فكان بمثابة الدينامو فيها فضلاً عما أنيط به من مهام تولى حلها بحنكة حتى لقبه نسيب الأطرش: “صاحب الوجه الأخضر”، وقد بقي سليمان في منصبه هذا حتى أيلول من العام 1923 حين ألغت سلطات الانتداب الإدارة الأهلية للجبل مقيمةً مكانها سلطة عسكرية على رأسها الكابتن “كاربييه”. وكان هذا الأخير رجلاً مستبداً متسلطاً، وعلى قدر كبير من الرعونة والكراهية بالآن عينه4.. وضمن سياسته الإستبدادية وسّع كاربييه جهاز المخابرات باثاً المخبرين بين الناس يرصدون حركتهم ولاسيما زعماء الجبل والأطارشة بشكل خاص.

أساليب الفرنسيين
بعد حل “معتمدية جبل الدروز” نُقل سليمان حسن إلى الجبل ووضع بتصرف رئيس شرطتها “موريل” وكان نسخةً عن الحاكم “كاربييه” ، إذ طلب منه أن يتجسس على أصحابه ومعارفه من وجهاء وزعماء الجبل وبالأخص أصدقائه من الأطارشة، فما كان من سليمان إلا أن أعلمهم بالأمر، وليحذرهم من بعض الجواسيس المعروفين لديه والذي دسّهم كاربييه بين الناس!. حجب سليمان حسن كل معلومة مفيدة عن كاربييه ما أثار شكوك الأخير من حيث ولائه للانتداب، فاتخذ قراره بإبعاده مطلع نيسان من العام 1925 إلى بيروت ، جاء ذلك والجبل في حالة غليان في ما كان سلطان باشا يعبئ الناس تمهيداً للثورة. وإمعاناً في الإذلال تعمّد كاربييه إرسال سليمان بشاحنة لنقل الفحم، وفي بيروت أمرته المفوضية الفرنسية بعدم مغادرة المدينة، فكان عليه كل يوم الحضور إلى مقرها صباحاً ومساءً، كما تمّ شطب اسمه من لائحة الترقيات التي كان عليها مرشحاً لرتبة ملازم أول تمهيداً لتسريحه من الخدمة .
قرر المفوض السامي الجنرال ساراي إبعاد الكابتن “كاربييه” إلى باريس بداعي الاستشفاء، بغية امتصاص غضب الناس، وتولى بالوكالة أمور الجبل مساعده الكابتن “رينو” في 17 أيار من العام 1925 وكان هذا الأخير متذمراً من “السياسة الإرهابية” التي اعتمدها كاربييه فأوصى بإعادة النظر في العديد من قراراته، وبناءً عليه أعيد سليمان حسن إلى عمله في “حكومة جبل الدروز”، ولكن بعد أن دفع الثمن بخسارة الترقية ثم جرى عزل رينو منتصف تموز ليحلّ مكانه تومي مارتان والذي جاء والجبل على فوهة بركان، فتقرر بصورة عاجلة إبعاد سليمان عن الجبل، وغيره من المشكوك بولائهم للانتداب وليتحدد عمله في دائرة شرطة دمشق .

مع مساعدين له يتفقد مشاريع وزارة الأشغال في السويداء
مع مساعدين له يتفقد مشاريع وزارة الأشغال في السويداء

عين للثورة في دمشق
لم تمض أيام معدودات حتى اندلعت الثورة في جبل العرب محققة انتصارات سريعة، إذ تلا انتصار الثوار الساحق في معركة الكفر سقوط السويداء بيد الثوار ثم الهزيمة المروعة لفرنسا في معركة المزرعة في الأول والثاني من شهر آب، هنا قررت سلطات الانتداب التخلص من المشكوك في ولائهم لها ولاسيما الأصدقاء المقربين من الطرشان، وبناء عليه جرى تسريح سليمان حسن أوائل شهر آب من العام 1925 ودون إبداء للأسباب. والحقيقة أن شكوك سلطات الانتداب كانت في محلها، فقد دلّت أوراق سليمان حسن انه بعد تسريحه تفرغ ليكون أحد عيون الثورة في دمشق ، منتحلاً في مراسلته اسم “عبد اللطيف الحسن” والتي كتبت بلغة شبيهة بالشيفرة في الإشارة للثورة ، مثل “التجارة رائجة” أو “الخسائر كبيرة “ و”المؤونة قليلة” و”البضاعة المؤمل بها فاسدة” وما شابه، ولا شك أن مثل تلك المهام كانت حسّاسة ومهمة فيما الجبل يمد ثوار الغوطة بكوكبة من مجاهديه حتى أمكنهم السيطرة على بعض أحياء دمشق ومهاجمة مقر مندوب المفوض السامي في “ قصر العظم “ بهدف قتله.

سليمان-أبو-علي-حسن،-الثاني-من-اليسار-في-الصف-الأمامي،-في-حفل-للكتلة-الوطنية-ضم-بعض-اعيان-مدينة-دمشق
سليمان-أبو-علي-حسن،-الثاني-من-اليسار-في-الصف-الأمامي،-في-حفل-للكتلة-الوطنية-ضم-بعض-اعيان-مدينة-دمشق

مهمة سرية
روى بعض من أرَّخ لتلك المرحلة أن سلطان الأطرش كلّف في أيلول من العام 1925 محمود كيوان وهو رجل موثوق به بنقل رسائل منه إلى زعماء دمشق وإيداعها لدى الزعيم الدمشقي نسيب البكري، ويبدو أن كيوان تهيّب الأمر فلجأ إلى صديقه سليمان حسن طالباً منه مساعدته في ايصال الرسائل على اعتبار أن تجواله هو (أي كيوان) في دمشق سيكون مثيراً للشبهة قائلاً له: “جواسيس فرنسا يا أبو علي ملأوا الأرض” سائلاً إياه القيام بالمهمة بوصفه أيضاً من أهل الثقة عند قائد الثورة فما كان من سليمان إلا أن استجاب ناقلاً رسائل سلطان إلى نسيب البكري5 وهذا الأخير كانت تجمعه بسليمان وطيد المعرفة منذ أيام العهد الفيصلي.
هذه الواقعة يعرفها سلطان تماماً وآخرون من أصدقاء سليمان، ومن تفاصيلها المحجوبة أن البكري بعد استلامه للرسائل حدد لسليمان موعداً لأخذ الجواب وليكون شاهداً على قسم يمين الولاء والالتزام بالتحرك تحت راية سلطان، بحيث تشمل الثورة المدينة وغوطتها وكان الموعد في وقت متقدم من الليل. يذكر سليمان، في ما يذكر، أنه عندما همّ الحضور بقسم اليمين على مصحف القرآن الكريم موضوعاً فوق طاولة وسط القاعة، قال نسيب للبكري: “من باب طمأنة الحضور أنضم إليكم بحلف اليمين في ما لو رغبتم” فأجابه البكري: “مو نحنا بدنا منكم اليمين، الباشا بدو اليمين منا، وأنت كمان، لأنك لو لم تكن أهلاً للثقة لما حمَّلكم هذه الأمانة”.

الملك فيصل الأول يعلن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، سليمان أبو علي حسن لا يزال يحمل شعور الاعتزاز لدخوله دار الحكومة وم
الملك فيصل الأول يعلن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، سليمان أبو علي حسن لا يزال يحمل شعور الاعتزاز لدخوله دار الحكومة وم

مستشاراً للأمير حسن الأطرش
بعد انتهاء الثورة ، وهجرة رجالاتها إلى الأردن حصلت تطورات سمحت للبعض منهم بالعودة إلى سوريا منتصف العام 1927، ومنهم حسن الأطرش الذي آلت إليه إمارة جبل العرب منذ العام 1926. استدعى الأخير سليمان إلى دار عرى ليتولى في البداية إدارة أملاكه وليصبح خلال فترة قصيرة الساعد الأيمن للأمير وأمين سره. جاء ذلك على خلفية معرفته المسبقة بسليمان حسن وإخلاصه لعمه الأمير سليم وبعده نسيب الأطرش في معتمدية الجبل بدمشق، فضلاً عن تضحيته بوظيفته في سبيل الثورة كما أسلفنا، وقد كان حسن الأطرش من فرسانها المجلين .
كتب سليمان حسن يومياته في دار عرى منذ التحاقه بها وحتى مغادرتها أوائل العام 1929 وتعتبر هذه اليوميات مرجعاً مهماً سجلت فيه الكثير من الأحداث والأسرار التي دارت في قصر الزعامة وفي الجبل عامةً. ويلاحظ المتابع لهذه اليوميات أن سليمان تعامل بصبر وحكمة مع الأمير الفتى قليل الخبرة وذي الثلاثة وعشرين عاماً من العمر، بل إنه تعامل معه بمحبة كما يظهر جلياً في يومياته، ولعب دور الأخ الموجه له ما اقنع والدته وشقيقتيه للوقوف على رأي سليمان أو طلب مساعدته خصوصاً عندما كانا يجدان الأمير منغمساً في عبث الشباب المترف!
وفي هذا الإطار، كتب سليمان في 24 حزيران 1928 بأن والدة الأمير اجتمعت به وهذا في معرض قلقها على ابنها، لتسأله رأيه “بخصوص حالة الأمير السياسية”، ففاجأها بصراحته كما ورد في يومياته: “بأن ابنها ليس بالرجل السياسي القدير وأن منازعيه الرئاسة أقدر منه سياسياً، لذلك لا يمكنه التفوق عليهم إلا بأمرين كرم يديه ومكارم أخلاقه” لكن من يقرأ تلك اليوميات يعرف بأنه يشملها هي أيضاً، وبالتحديد في موضوع كرم اليد! ملمحاً لها أن تتغلب على ما تطبعت عليه بعد أن غدت أم أمير الجبل، وواجهة دار عرى ذات الصيت كرماً وضيافةً!.
لكن هذا النمط من الصراحة لا يُرضي أصحاب المقامات عادةً، فقد استفزت صراحته الحلقة الأسرية الأقرب للأمير وحركت دسائسها، ما جعل علاقته بالأمير مثل موج البحر مدّاً وجزراً! لكن اللافت فيها بأنها لم تصل إلى درجة الصدام أو الافتراق، وهنا يُسجَّل لحسن الأطرش بأنه تصرف مغلباً العقل، واضعاً مزايا وكفاءة الرجل في الكفة الأخرى من الميزان حتى واجه مرةً والدته وشقيقته بالقول :”لا يمكنني الاستغناء عنه”، لكن سليمان من جهته فكّر ولأكثر من مرة بترك دار عرى، وفي كل هذه المرات كان عبد الغفار باشا الأطرش يثنيه ويلحّ عليه بالبقاء، لأنه كان يدرك أهمية وجود سليمان بجوار الأمير حسن كمصدر للنصح الحسن وكصمّام أمان له وسط الظروف العدائية التي كانت تحيط به ودسائس يحيكها بعض أقاربه وعلى رأسهم متعب بك الأطرش .

نصحه الدائم للأمير حسن

البيت الذي بناه الأمير حسن لزوجته اسمهان في مدينة السويداء
البيت الذي بناه الأمير حسن لزوجته اسمهان في مدينة السويداء

تجدر الإشارة إلى أن عبد الغفار باشا شيخ السويداء وأحد أبرز أقطاب الجبل لم يكن ميالاً لمتعب بك شيخ دار الرساس خلافاً لحاله تجاه الأمير حسن؛ وعليه كان دأب سليمان لفت نظر الأمير لضرورة التحالف مع عبد الغفار بغية تشكيل كتلة كبيرة إلى جانبه مقابل متعب الرجل الداهية والقريب من الفرنسيين؛ وهذا الأمر لم يعره الأمير حسن اهتمامه في بداية الأمر، لكنه عندما فعلها حصد نتائج إيجابية إذ قام عبد الغفار باشا بإفساد مؤامرة أعدها متعب ضده. ومن القضايا الكبيرة إلى اليومية العابرة كان حسن الأطرش الشاب آنذاك يتلمس مشورة سليمان ويحرص على أن يبقيه قريباً منه، من ذلك مثلاً زيارة الكاتب اللبناني أمين الريحاني للأمير حسن في 18حزيران 1928، يقول سليمان: “وحيث إن الأمير لا يعرف ما هي منزلة الرجل أخبرته عن مكانته لكي يعطيه حقه من الترحيب” .
ومن الأدوار التي لعبها سليمان مجنِّباً حسن الأطرش الوقوع في أفخاخ نُصِبت له، نذكر مثالاً على ذلك حادثة نزول “عرب المساعيد” في أراضي عرى في بادرة تحدٍّ للإمارة في عقر دارها، وهي حادثة بدا أنها محسوبة ومرتبة، وهنا سعى سليمان لكي لا يقع الأمير في فخٍ منصوب له خاصة عندما قرر طرد الدخلاء بالقوة. يقول سليمان في يومياته 13 نيسان 1928: “ لقد أقنعته بعد جهد بأن هذا غير مناسب وطلبت منه أن أذهب وإياه إلى السويداء ونخبر الحكومة فرضي بهذا الرأي بعد جهد جهيد”، أما المفارقة الطريفة التي تعكس الوجه الآخر المزاجي للأمير فكانت أنه ترك تدبير هذا الأمر الجسيم لسليمان حسن مفضلاً في اليوم التالي رحلة صيد بعد أن أخبره أحدهم أنه رأى مجموعة من الغزلان في أحد الكثبان! وبالفعل سطّر سليمان باسم الأمير كتاباً لمدير الداخلية والآخر لرئيس المخابرات الفرنسية ووضعهما كليهما أمام مسؤولية نشوب “حرب بين الدروز والعرب” ، وبهذا تحول الأمر إلى قضية أحرجت السلطة ما دفعها للإسراع في حل الأمر.

رابط الشعور الوطني
ومما لاشك فيه أن السبب الموضوعي لحرص سليمان على حسن الأطرش كان مردّه للقاسم المشترك بينهما وهو النزعة الوطنية الكارهة للانتداب والرافضة لفصل الجبل عن سوريا. ومع ذلك حرص سليمان على إبقاء الأمير على مسافة أمان من زواريب العمل السياسي حتى أنه حال دونه ودون الصحافة ما وسعه الأمر، ومن طرائف ما أورده بهذا الخصوص بتاريخ 5 تشرين الأول 1928 أن الأمير صرح لإحدى الصحف بـ “أمور غير مناسبة” مما حدا بسليمان للحاق بالصحفي وإقناعه بتصويب التصريح، وقد كان حريصاً أن لا يغلب حماس الشباب في الأمير على عقله فيُستدرج إلى مواجهة مع الانتداب ستكون بالقطع غير متكافئة بينما الناس يعانون من صدمة انكفاء الثورة ورجالاتها لاجئين إلى وادي السرحان في السعودية، كما كان آخرون أيضاً يتحينون الفرصة لينقضوا على الأمير وعلى إمارته وعلى رأسهم ابن عمه متعب الذي كان من أدهى الرجال فضلاً عن ممالأته للانتداب الذي لم ينسَ بدوره أن حسن الأطرش كان إلى جانب سلطان في الثورة، وأن الأخير جاء به إلى دار الإمارة بعد أن خلع سلفه وعمه حمد الأطرش إبان الثورة العام 1926 وذلك لوقوفه في صف الانتداب .
إنطلاقاً مما سبق، كان سليمان يرى بأن من الحكمة والمصلحة تحصين إمارة حسن الأطرش بتجنيبها الانزلاق في أعمال أو أقوال غير محسوبة فيما الأجدى والممكن أن يلعب عبرها دوره الوطني وبمهمة محددة وهي تعطيل حركة التيار الانفصالي المطالب بتكريس “جبل الدروز” دولة مستقلة عن “دولة سوريا” وهي آنذاك دمشق وحلب. وتشهد اليوميات على وقفات من الشجاعة والوطنية للأمير خلال لقاءاته مع المسؤولين الفرنسيين منها على سبيل المثال ما قاله في اجتماع صلخد بتاريخ 17 أيلول 1928 بحضور الكولونيل موريه “رئيس استخبارات جيش الشرق” مطالباً فيه بانضمام الجبل إلى “دولة سوريا”. يقول سليمان إن كلمات الأمير “نشطت عزيمة الناس فأعلنوا وقوفهم إلى جانبه “.
قام سليمان بعدة زيارات لعمان خلال العام 1928 بتكليف من الأمير وبعضها برفقته قابل فيها زيد وصياح الأطرش وكانا من بين المبعدين من الثوار الذين لم يشملهم العفو، أما ما دار في هذه اللقاءات التي كانت تمتد لساعات أحياناَ فلم تفصح عنها اليوميات سوى بجمل قصيرة ، مثل : “البحث بشؤون البلاد “ أو ما شابه !!. والأرجح أنها لقاءات تعرضت لقضايا حساسة قرر عدم تدوينها في يومياته خشية أن تقع بيد السلطات الفرنسية، وكانت هذه عادته في التحوّط حيث اكتفى بالقول: “وكانت عبارة عن أبحاث تتعلق بعودتهم للبلاد وفي الحالة الحاضرة”.

الأمير حسن الأطرش مع زوجته المطربة أسمهان
الأمير حسن الأطرش مع زوجته المطربة أسمهان

أزمة وراثة
واجهت زعامة حسن الأطرش تحدياً كبيراً في شتاء 1928 بعد وفاة الإبن الوحيد للأمير سليم وكان صغير السن، مما سيؤدي الى توزيع تركة الأمير المذكور على ورثته وهذا برأي سليمان: “يفضي لخراب دار الأمير حسن بل الطرشان”، لأن موضوع الوراثة ثغرة قد ينفذ منها متعب لوضع اليد على دار الإمارة باعتباره وأخيه وباقي أولاد العم على درجة واحدة في القرابة مثل حسن ، فضلاً عما سيتسبب به ذلك من تبديدٍ لثروة دار عرى وهي بوصف سليمان “ التي تحمل الأحمال “ ولعله في هذا يستقي رأياً سابقاً لسلطان باشا الذي كان يعتبر أن دار عرى مؤهلة لتحمل أعباء الدروز بالنظر إلى غناها.
لعب سليمان دوراً رئيساً في خضم هذه الأزمة ومنذ يومها الأول، ومما كتبه في 5 كانون الأول 1928 تاريخ الوفاة: “الولد توفاه الله الساعة 6 صباحاً، ركبنا من الشام إلى الجبل وأول ما قمت به تقابلت مع خال الولد سليمان بك الأطرش، وطلبت منه أن يضع يده بيد الأمير فعاهدني على ذلك، ثم اجتمعت بتوفيق بك الأطرش وطلبت إليه أن يكون هو واسطة للمصالحة بين الحكومة والأمير فكان مسروراً للغاية من هذا الاقتراح”. وكان همّ سليمان بالاستناد إلى الوقائع الواردة في يومياته أن يجمع تكتلاً وازناً في صف الأمير حسن باذلاً مع آخرين جهده لتسهيل نقل أكبر قدر من التركة إليه وتكريس شرعية وجوده في دار عرى. ولعلّ هذا ما حدا بالأمير في ما بعد للزواج بأرملة الأمير سليم، والخلاصة أن أمر التركة دخل في دوامة تجاذبات كان سليمان خلالها بمثابة العقل المفكر ولعل ما كتبه بتاريخ 10 كانون الأول 1928 ينبئ بذلك، يقول:”اجتمعت بالأمير ورسمت له الخطة التي يجب أن يتخذها تجاه متعب وأفهمته أنه من الضروري أن يوضح لعبد الغفار بأنه مستعد لأن يعوض عليه قيمة ما يلحقه من الإرث مقابل أن يساعده على إسقاط الورثة لنصيبهم”.

قرار فرنسي بتسريحه من الخدمة
لم يكن الكابتن أوليف، رئيس الاستخبارات الفرنسية، مرتاحاً لدور سليمان في قصر الأمير وسجله في “خيانة الانتداب” محفوظاً بالكامل لديهم، هذا فضلاً عن دسائس متعب عليه، وعن هذا كتب سليمان في يومياته تاريخ 15 أيلول 1928: “فهمت من مصدر موثوق أن الحكومة قررت إبعادي عن الجبل”، لكن الأمير أحبط الأمر فيما رأى سليمان أن السكوت عنه مسألة وقت، وبالفعل فقد بات تحت أنظار الفرنسيين وكتب بهذا أنه لما خاطب الأمير “رئيس استخبارات جيش الشرق” بخصوص الوحدة السورية في لقاء صلخد 17 أيلول 1928 كانت أنظار الحضور تشخص إليه من جماعة الاستخبارات. من جهة أخرى، لم يكن سليمان في أمان من متعب الذي ما انفك يحيك حوله التهم، وفي المقابل لم يكن في يسر مادي حيث كان الأمير مُقتِّراً في المال وفي هذا كتب سليمان يوم 7 نيسان 1927 “المال أخذه صعب من حسن إذا دخل الصندوق”! وكثيراً جداً ما كان يأخذ راتبه على شكل كمية من القمح يتدبر بيعها في دمشق! لذا ما إن لاحت له فرصة الوظيفة الحكومية في وزارة الأشغال العامة والمواصلات حتى غادر دار عرى، وكان الأمير ممتعضاً من تلك الخطوة، غير إن هذا لم يحل دون استمرار العلاقة بينهما بشقيها السياسي والشخصي، كما ظل سليمان حسن أحد المقربين من الأمير، وخاصة بعد تبوّئه لمركز محافظ الجبل، ثم خلال المرحلة الحرجة التي تخللت وأعقبت فتنة “الشعبية والطرشان” بل إن هذه العلاقة اتسعت لتشمل أسرة سليمان في صداقةً وطيدة مع المرحومة الست ليندا جنبلاط زوجة الأمير وبناته، وقد عشت بداية طفولتي في كنفها وهذا بحكم الجوار أيضاً، حيث منزل جدي يجاور قصر الأمير في السويداء، فيما كنت أتردد إليه كي ألعب في فسحة قصره في السويداء مع ابنته المرحومة نجوى لتقارب الأعمار بيننا، وما زالت صور الأمير منطبعة في ذاكرتي: وجه باش وشخصية متواضعة .
كان ثبات الثقة والمحبة المتبادلة بين الرجلين من المفارقات الغريبة، غير إنها باتت علاقة مبنية على الوفاء ورصيد العلاقة الإنسانية وحسب، هذا بحكم الصداقة أو كما يقال: “الخبز والملح” فيما بات الرجلان على طرفي نقيض في السياسة بفعل ما استجد من شؤون وشجون في أربعينات وخمسينات القرن الماضي كما سنرى في ما بعد.

في وزارة المواصلات
إلتحق سليمان بالوزارة المذكورة في نيسان من العام 1929 بصفة مراقب فني متدرب وقد أتاح له علمه وكفاءته أن يترقى إلى مراقب فني أصيل بعد أن اجتاز امتحاناً لهذه الغاية، وتابع صعوده في السلم الوظيفي حتى بلغ أعلى المراتب في تصنيفه وهي مرتبة “مراقب فني ممتاز”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المراقبين الفنيين كانوا عماد الوزارة المذكورة بالنظر الى قلة أعداد المهندسين في سوريا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. تنقّل سليمان حسن بين عدة أماكن في سورية؛ وفي الأربعينات بات المسؤول التنفيذي الأول عن مشاريع محافظة درعا حتى إنه لما أرادت الوزارة نقله إلى مكان آخر طلب محافظها بكتاب خطي استبقاءه معللاً ذلك “بأنه يدير مشاريع المحافظة بكفاءة بحيث لا يمكن الاستغناء عنه”. في مطلع الخمسينات تحدد عمله في السويداء مديراً للمكتب التنفيذي في مديرية الأشغال العامة والمواصلات ونائباً لمديرها، وعلى يديه تتلمذ الكثير من المراقبين الفنيين، ولطالما كان مشهوداً له بين الناس كما من مرؤوسيه بالكفاءة وحسن التنظيم وعلى رأسهم آنذاك أمينها العام أنيس شباط أحد كبار المهندسين في سوريا. وبالنظر الى استقامته ونظافة كفه كُلِّف بالتحقيق في حوادث السرقة أو شبهة الرشوة وما شابه التي كانت تحدث، ومازالت بعض مسوداتها محفوظة بين أوراقه، ويعرف كل من عاصره من أبناء محافظة السويداء أنه كان عملياً دينامو مشاريع المحافظة، ولاسيما ورشة البناء التي نهضت فيها خلال عهد “الوحدة المصرية السورية”، والذي كان “العصر الذهبي” لجبل العرب على حد وصفه، نال خلالها اهتماماً خاصاً عوض سنوات الإهمال، وقد ذكر سليمان أنه أُنجٍز خلال 3 سنوات ونصف من عهد الوحدة ما يزيد على 360 كلم من الطرقات، وهي أكثر من ضعف ما أنجز في المحافظة طوال عهود الاستقلال السابقة، فيما لم تخل قرية من بناء مدرسة ابتدائية، ومدارس متوسطة في مركز كل ناحية (قضاء)، فضلاً عن ثانوية شكيب أرسلان في السويداء، ومستشفى السويداء الوطني الذي استُقدمت له أحدث المعدات والتجهيزات الطبية. حمل سليمان أعباء تنفيذ مشاريع “وزارة المواصلات” مع فريق من المساعدين الفنيين لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد الواحدة.

سليمان أبو علي حسن مع سلطان باشا الأطرش
سليمان أبو علي حسن مع سلطان باشا الأطرش

النشاط السياسي
في مطلع ثلاثينات القرن الماضي إنتسب سليمان إلى حزب “الكتلة الوطنية” في سوريا والذي ضم وجوهاً وطنية ساهمت في استقلال سوريا ومقاومة مشاريع تقسيمها وتعرف سليمان خلال نشاطه الحزبي على شخصيات سورية بارزة مشكلاً مع بعضهم صداقات نضالية طيبة، نذكر منهم على سبيل المثال: سعيد الغزي، فخري البارودي، سعيد الجزائري وحسان الشريف. لكن محطته البارزة في الحزب برزت في نشاطه الحثيث لعرقلة مساعي “فريق الانفصاليين” في الجبل وعلى رأسهم متعب الأطرش والذي استهدف إعادة فصل الجبل عن سوريا.
وفي العام 1937 انفجرت أزمة في الجبل إثر ترشيح حكومة “الكتلة الوطنية” لحسن الأطرش محافظاً للسويداء الأمر الذي استغله متعب ليضم إلى فريقه عبد الغفار ما جعل فريقه هو الأقوى في الجبل. يقول سليمان بهذا الصدد أنه نصح الأمير حسن بالتنازل عن المنصب مؤقتاً لصالح عبد الغفار “وعدم حشره في زاوية تضطره للتحالف مع متعب” الذي كانت “ تديره المخابرات الفرنسية “ مذكراً إياه بالمحطات السابقة التي كان يفوز بها عندما يتحالف مع عبد الغفار، “لكن هذه الفكرة لم ترق للأمير”، وحيال تشبث الأمير وضغط فريق متعب – عبد الغفار جاء المخرج يومذاك في تعيين محافظ من خارج الجبل لكن حسن لم يلبث أن عاد ومدّ الجسور مع عبد الغفار مشكلاً معه “هيئة الدفاع الوطني” والتي اعتبرها سليمان وسيلة لعزل “الفريق الانفصالي” وإضعافه لينجم عنها تعيين حسن الأطرش محافظاً للجبل في شباط من العام 1938.
كان متعب يستشعر الدور الخفي لسليمان حسن، مثلما أن سليماناً كان ملماً بالدور السلبي لمتعب، ونتيجة لهذا الجفاء الممتد وصلت درجة البغضاء بينهما إلى حد التصادم الكلامي حيث قال متعب للأخير يوماً “بعد ناقصني أذناب الكتلة الوطنية” ليأتي رد سليمان صاعقاً:”ذنب أسد ولا رأس واوي”6 ومن الاستطراد المفيد هنا الإشارة إلى أن هذه الأزمة كادت أن تؤدي لحرب أهلية في الجبل خصوصاً وأن العديد من خيوطها كانت تحركه المخابرات الفرنسية الساعية لضرب وحدة سوريا، لكن حنكة سلطان باشا الذي كان قد عاد ظافراً إلى الجبل أحبطت المكيدة.

المجاهد نسيب البكري في مطلع العشرينيات من القرن الماضي
المجاهد نسيب البكري في مطلع العشرينيات من القرن الماضي

نصير العمّال
ترك سليمان حزب الكتلة الوطنية أوائل الأربعينات جراء الانقسامات التي انتابته، وفساد بعض قادته لينتقل إلى محطة جديدة، فقد كان لاحتكاكه بالطبقة العاملة شبه المعدمة وبالأوساط الريفية البائسة تأثيرها الذي شده إلى القضايا الاجتماعية والتي شكلت نزعته الاشتراكية، ومما لا شك فيه أنه، وهو المثقف والقارئ الحصيف تأثر أيضاً بالنفوذ الذي كانت الفكرة الاشتراكية بدأت تحرزه على النطاق العالمي، فبات بالممارسة مناصراً للعمال المسجلين على جداول مديرية المواصلات في السويداء لجهة تحسين أجورهم أو تدبّر الطبابة المجانية لهم مع أصدقائه الأطباء، ونذكر منهم أديب المقدسي ونزار ملحس رحمهما الله وكانت لهما ذات النزعة الاشتراكية فضلاً عن سجاياهم الإنسانية، كما كان سليمان يضغط على المتعهدين ممن يتهربون من دفع أجور عمالهم، حتى إنه بلغ في الضغط حدّ تأخير تسديد كشوفاتهم ومع مجيء عهد الوحدة التي انتهجت الخط الاشتراكي أمكن لسليمان أن ينتقل إلى مرحلة متقدمة فكان في طليعة المؤسسين لنقابة العمال في محافظة السويداء العام 1959، وقد عاش سليمان حسن قناعاته ومبادئه سواء من حيث نظافة الكف أو في تعاطيه الإنساني مع العمال والفقراء، وأحياناً كان ينتفض أمام بعض المظالم في ما قد يراه البعض مغامرةً أو تهوراً. وعلى هذا نروي ما كان من أمره خلال جولة لأحد وزراء الأشغال يتفقد ومحافظ درعا مشاريعها وقد تصادف مرورهم على إحدى الورش والعمال في استراحة الغداء فوجد الوزير أحدهم يتناول طعامه رغيف خبز من الذرة والشعير وقطعة بندورة، فالتفت إلى المحافظ قائلاً: فاجأني مستوى معيشة العمال !!، كنت أظن الوضع أسوأ من هذا!!. استفزّ هذا القول سليمان فالتفت إلى الوزير قائلاً بلهجة ممازحة: “ولكن يا معالي الوزير ربما لن يؤلمه بطنه لو أمكنه أن يأكل ربع أوقية لحم في الأسبوع”، فنفر الوزير مشيحاً بوجهه ليقول للمحافظ بصوت منخفض “من هذا !!..شايف أفكاره حمراء”!!.

لقاء أفكار مع كمال جنبلاط
حصل اللقاء مطلع الخمسينات في دارة الأمير حسن عندما كان كمال بك جنبلاط يقوم بزيارة لشقيقته ليندا زوجة الأمير حسن في السويداء، وقد شاركتهم الجلسة الست ليندا رحمها الله، وعندما همت بالانسحاب لتترك لهما الحرية لتبادل الحديث قالت لسليمان “ساترككم مع بعض، أكيد ستكون مسروراً عندما تسمع أفكار كمال”، فقد كانت على اطلاع على ميول سليمان الاشتراكية كما إنه لم يكن قد مضى سوى أشهر قليلة على إعلان كمال جنبلاط تأسيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”، وهذا اللقاء الذي امتد زهاء الساعة ونصف كما روى سليمان شرح فيها كمال جنبلاط أفكار الحزب، وكان سليمان سعيداً، معجباً بسعة اطلاع الزعيم الجنبلاطي وثقافته الإنسانية الواسعة، ومنذ ذلك الحين بات كمال جنبلاط مالئاً لوجدان وقلب سليمان حسن، وقد ازداد تعلقاً به مع انجذاب كمال جنبلاط للخيار العربي وصداقته الوطيدة مع القائد العربي جمال عبد الناصر فضلاً عن موقفه الجذري من القضية الفلسطينية.
نذكر هنا أن الموقف من كمال جنبلاط كان أحد الأسباب المباشرة للافتراق السياسي بين الأمير حسن الأطرش وسليمان حسن، فقد كان الأمير محافظاً في أفكاره كما زوجته والست نظيرة، ويروي سليمان أن حسن قال ذات مرة أمامه بأن “نهاية بيت جنبلاط ستكون على يد كمال”، فردّ عليه سليمان: “بل قد تصبح على يديه بداية جديدة للجنبلاطية ..الزمن يتغير يا أمير “.. وكان من بعض الافتراق بينهما جمال عبد الناصر وبالأخص أثناء معركة السويس لدرجة قال سليمان إنه كان يتجنب اللقاء مع الأمير خلالها لكي يكفي نفسه سماع سخريته من عبد الناصر، وكان سليمان بأفقه الواسع يحاول أن يلفت نظر الأمير حسن ولأكثر من مرة إلى أهمية الانفتاح على الجيل الصاعد من شباب الجبل مع انتشار التعليم بينهم وطلائع المتخرجين من الجامعة السورية، وهذا قبل وبعد فتنة “الشعبية والطرشان”، وقد كان في ذلك مدفوعاً بموجبات الصداقة التي تشده للأمير وحيث الصديق هو الصَدوق ، فضلاً عن موجبات الأمانة التي تمليها ثقة الأمير به والذي بقي يطلب مشورته في بعض المسائل. وبنفس السياق كان أيضاً من الناصحين لأصدقائه من آل الأطرش بأن يلجأوا الى تطوير زعامتهم بتعليم أبنائهم لأن الزعامة المعاصرة “انتقلت من ميدان الفروسية إلى ميدان المعرفة”، وهو في هذا يلمح إلى ما يجول في صدره من الرفض لاستئثار آل الأطرش بالمناصب الحكومية في الجبل بُعيد الاستقلال، والذي جاء على غير كفاءة أو علم ، الأمر الذي استثار العامة من أبناء الجبل في ما بعد موجداً التربةً الخصبة لفتنة “الشعبية والطرشان”.

عهد الانفصال
رغم قناعاته الاشتراكية فقد أنكر سليمان حسن على خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي السوري رفضه الوحدة المصرية السورية ومغادرته سوريا إلى بلغاريا، تاركاً أعضاء حزبه يحصدون نتائج مواقفه، وعندما انفصمت عرى الوحدة السورية المصرية العام 1961 كان سليمان حسن من الساخطين على بكداش وقادة البعث آنذاك صلاح البيطار وميشال عفلق وأكرم الحوراني لاشتراكهم في التوقيع على وثيقة الانفصال، وعليه تحول بكل طاقته للعمل مع القوى السياسية الوحدوية آنذاك من أجل إحياء الوحدة، ولطالما شهد منزله في السويداء عدة اجتماعات لوجوه وفعاليات بارزة من المناهضين للانفصال كانت تحترمه وكثيراً ما تقف على آرائه وكانوا بالعشرات منهم على سبيل المثال : الشاعر الكبير سلامة عبيد، والمحامون سلمان معروف وحسين عزيز، والمجاهد حسن رسلان.
نتيجة لنشاطه السياسي، تعرض سليمان حسن لضغوط من حكومة الانفصال لكن ذروتها بلغت باستدعائه للتحقيق معه في المخابرات العامة في السويداء وذلك على أثر مشاركة ابنه الإعلامي توفيق حسن في (ثورة حلب) ضد الانفصال (نيسان 1962) واضطراره للفرار إلى مصر ثم الحكم عليه في سوريا غيابياً بالإعدام، هنا ألحّ ولداه سلوى وتوفيق عليه بترك العمل في سوريا إشفاقاً عليه من الضغوط التي كان يتعرض لها ولاسيما وأنه مريض بالقلب إثر تعرضه لأزمة قلبية قبل سنوات، وبالفعل انسحب سليمان حسن بهدوء إلى لبنان حيث أمضى بقية حياته بعد أن كان قد بنى لنفسه بيتاً في قريته عترين من التعويض الذي حصل عليه عن خدمته في سوريا.
عقلية سابقة لزمانها
إمتاز سليمان حسن بعقلٍ متفتح سابق لزمانه، سواء موقفه من تعليم المرأة أو رفضه لبعض العادات البالية المقيِّدة للتطور والانفتاح على العصر، وهذا ما حدا به لتعليم ابنته سلوى باذلاً أمامها ما بذله في سبيل ابنه توفيق، فيما كان في التزامه الإسلامي يتحلى بعقل متحرر من التقليد والتعصب والقوالب الجاهزة، وكان على قدر كبير من الثقافة والاطلاع التاريخي وفي هذا كان مشدوداً لشخصية النبي العربي (ص) الإنسانية، كما التاريخية بوصفه عبقرية وحّدت العرب في أمة مبنية على رسالة إنسانية عالمية جامعة، وفي سياقها كان شديد الإعجاب بشخصيتين هما عمر بن الخطاب باني الإدارة الإسلامية وقائد فتوحاتها، وعلي بن أبي طالب الذي كان يعتبره “فيلسوف الإسلام”، ولعلّه يستمد هذا الإعجاب بهما من نزعته الاشتراكية، والرجلان من نماذجها البارزة في التاريخ الإسلامي والإنساني .

قصص الأمثال

قصص الأمثال

يضرب هذا المثل في الأمر الفاسد الذي يفرض نفسه بقوة السلطة.
والحكاية أنه في أيام الحكم العثماني كان الناس يعصرون الزيتون في معاصر تعود ملكيتها للمتصرف، وكان المتصرف يستوفي أجرة عصر الزيتون زيتاً ، وكانت لديه كيلتان: إحداهما تنقص أوقية، والأخرى تزيد أوقية عن الوزن الحقيقي، وكان يأمر البرّاك أن يكيل الزيت بالكيلة الصغرى، ويستوفي الأجر بالكيلة الكبرى .

فضج الناس، وظنوا أن اللعبة من البرّاك، فهو الذي يستوفي منهم الأجر مضاعفاً، فذهبوا إلى المتصرف يشكونه، فاستنكر المتصرف الأمر، وقال لهم :
ـ هذا ظلم، وأنا لا أرضى به، وغداً بإذن الله سنصلح الأمر.
في اليوم التالي ذهب الناس إلى المعصرة، فوجدوا برّاكاً جديداً فعلاً، لكن الكيلتين لا تزالان موجودتين، فضجوا ثانية، وتوجهوا إلى المتصرف يشكون الأمر . فقال المتصرف :
ـ ها قد بدلنا لكم البرّاك، ماذا تريدون أكثر من ذلك ؟! . فقالوا له :
ـ يا جناب المتصرف ! نحن لا نريد تغيير البرّاك، نريد تغيير الكيلة .
فرد المتصرف :
ـ ماذا ؟! . هذه الكيلة كيلة السلطنة، وكيلة السلطنة ما بتتغير .

ما بيهز العروش غير النسوان والقروش

ما بيهز العروش غير النسوان والقروش

من اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي ولا أنا مولاه

يضرب هذا المثل في حالات عديدة، فربما ضرب لربّ العمل الذي يحاول الاستهانة بالعمال الذين يعملون عنده لقاء أجر يومي، وربما يضرب للعامل الذي يحاول أن يتطاول فيفرض رأيه على رب العمل مستغلاً حاجة صاحب العمل لخبرته. ورغم أنه لا يوجد ما يوضح مصدر هذا المثل والمكان الذي قيل فيه أو ظروفه، فإنه توجد حكاية تفسر كيف أصبح هذا القول مثلاً بل إنه كان من البساطة والمنطقية بحيث ألهم أهل الحكم صياغة قاعدة أصبحت أحد مرتكزات التشريع أو القانون العرفي الذي ينظم العلاقة بين رب العمل والعمال.
والحادثة ذكرها سلام الراسي في كتابه يا جبل ما يهزك ريح .
وتقول الحكاية إنه في مطلع الانتداب الفرنسي على لبنان قام مستخدمو إحدى الشركات في بيروت بإضراب، فأقدمت الشركة على صرف بعضهم، ورفعت القضية إلى المحكمة المختلطة ( وهي محكمة فرنسية ـ لبنانية ) لأن بعض المستخدمين كانوا من الأجانب.
وبحث رئيس المحكمة ـ وهو فرنسي ـ عن تشريع لبناني يساعده على الحكم في القضية ومنح المصروفين تعويضات صرف من الخدمة، إلا أنه لم يجد ذلك. لذلك سأل هذا القاضي عن الأعراف المحلية المتبعة في لبنان في مثل هذه الحالة، فأشار المحامي الشيخ يوسف جرمانوس أحد كبار المحامين في ذلك الزمان إلى مثل شعبي يقول:
“ من اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي، ولا أنا مولاه “
وقيل إن الأمر تناهى إلى حاكم لبنان الكبير يومئذٍ الكومندان “ ترابو “ الذي استأنس بالمثل المشار إليه لاعتماده، باعتباره عرفاً له قوة القانون، للحكم بموجبه في القضية المشار إليها، على أن توضع في ما بعد تشريعات حديثة للمثل للفصل في مثل هذه الحالة2.

من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود

هي عبارة تطلق للتعبير عن الأمل بإنفراج أزمة ما، فالأيام كفيلة بحل أعقد المشكلات .
وحكاية العبارة أن رجلاً حُكِم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، وحان تنفيذ الحكم، فسيق الرجل إلى حبل المشنقة، وكان ينتصب في المكان أكثر من عمود للشنق، ولما كانت تقضي العادة أن يسأل المحكوم عليه عن آخر رغبة له في حياته كي تقضى له، فقد سأل الآمر هذا المحكوم عن آخر رغبة له، فأبدى رغبته بأن يشنق على عمود آخر غير هذا العمود، فدهش الآمر وسأله : وما الفرق بين الموت على هذا العمود أو ذاك ؟! . فأجابه المحكوم قائلاً :
«من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود»
وكان للمحكوم ما أراد إذ أمر القائم على تنفيذ الحكم أن تلبى رغبة المحكوم، فينقل إلى العمود الذي يختاره.
وبينما كان الرجال يهمون بنقله إلى عموده الذي اختاره، ولم يبق إلاّ أن يعلقوا الحبل في رقبته، أقبل قوم من بعيد يركضون ويصرخون: أوقفوا الشنق … أوقفوا الشنق، وكان لا بد أن يتريث الرجال ريثما يصل الراكضون، إذ كان هؤلاء يحملون دليل براءة هذا المحكوم مما نسب إليه، فانفرجت أساريره وقال : ألم أقل لكم: من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود ؟! .
وفي رواية أخرى أن السلطة الحاكمة أصدرت أمراً بالعفو عن جميع المحكومين فشمل العفو صاحبنا وتمّ إبلاغ الجلاد بالعفو في آخر لحظة بينما كان يهمّ بتنفيذ الحكم.
وقد عثرنا على حكاية هذا المثل في الموسوعة الحورانية، ولم تختلف روايتها عما جاء في روايتنا 3.
وأياً كان الأمر، فإن حكاية هذه العبارة تلتقي مع حكاية قراد بن الأخدع مع الملك النعمان بن المنذر، الذي ذهب يوماً الى الصيد، فجنح به حصانه، ثم أدركه المطر فلجأ إلى بيت أحد الطائيين، فأكرمه، وأحسن وفادته دون أن يعلم أنه الملك النعمان، وحين همّ النعمان بالإنصراف قال للطائي : إذا عرضت لك حاجة فأنا مقضيها لك، فأنا النعمان بن المنذر، فردّ الطائي : أفعل إن شاء الله .
وكان أن تردّت حال الطائي فقالت له زوجته : لتذهب إلى صاحبك، علّه ينجز وعده، فما كان من الطائي إلا أن توجه إلى النعمان، ولسوء حظه فقد صادف وصوله يوم بؤس النعمان، إذ كان من شأن النعمان أن يقتل من يفد عليه في هذا اليوم، ولو كان من أعز أصحابه. فاغتم النعمان لمجيء الطائي في هذا اليوم، لكنه لم يرَ بداً من قتله، فقال له : أما وقد أتيت في هذا اليوم فإنك مقتول، ولكن سلّ ما بدا لك قبل الموت، فإن لك علي يداً، فقال الطائي أذهب إلى أهلي أدبر أمرهم ثم أعود إليك في مثل هذا اليوم من العام القادم، فقال النعمان : أقم عليك كفيلاً فنظر الطائي إلى شريك بن عمرو فأنشده :
يــــــــــــــــــــــــــــا شريـــــــــــــــــــــــــك يــــــــــــــــــــــــــــابــــــــــــــــن عمــــــــــــــــــــــــــــــــــــرو مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من المــــــــوت محــــــــــــــــــــــــاله
يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كـــــــــــــــــــــــــــــــــــل عتيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقٍ يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من لا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا له
يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا النعمــــــــــــــــــــــــــــــــان فـــــــــــــــــكّ اليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوم ضيفـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى لــــــــــــــــــــــــــه
فأبى شريك بن عمرو أن يكفل الطائي، فنظر الطائي في وجوه الرجال، فرأى ضالته في قراد بن الأجدع الذي كفله، وأعطى النعمان الطائي مئة ناقة، وهو يأمل ألا يعود، فيقتل به قراد بن الأجدع .
ومرّ حول إلا يوم، فقال النعمان لقراد بن الأجدع : ما أراك إلا مقتولاً غداً، وكان اليوم الأخير من العام قد ولّى نصفه، فقال قراد بن الأجدع :
لئن يــــــــــــــك صــــــــــــــدرُ هـــــــــــــــــــــذا الـيوم ولّى فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــإن غــــــــــــــداّ لنــــــــــــــــاظره قـــــــــــــــــــــريب
وأخذت زوجة قراد تبكي زوجها متيقنة بموته في اليوم التالي فقالت:
أيـــا عين بكّي لـــــــي قراد بن أجدعا رهـــــــــــــــــــــــين وفــــــــــاء لا رهيـــــــناً مودعـــــــا
ولما كان اليوم الثاني همّ النعمان بقراد يريد أن يمضي به، غير إن رجاله قالوا له : ليس لك أن تقتله قبل أن يمضي النهار. وفيما كان قراد بن الأجدع فوق النطع، ولم يبقَ إلا أن تنزل شفرة السيف على رقبته، إذ ظهر غبار من بعيد، فقالوا للنعمان : ليس لك أن تقتله قبل أن تتبين من خلف الغبار، وحين انكشف الغبار، انكشف عن الطائي الذي جاء مسرعاً فقال له النعمان: ما حمّلك على المجيء وقد نجوت ؟! فقال الطائي: الوفاء، فقال النعمان: والله لن أدع الاثنين أكرم مني فعفا عن الطائي وأحسن لقراد بن الأجدع .

أول فتوح الشر ذبح البصيلي

عبارة تطلق في معركة استجرت معارك عديدة، والعبارة شطر من بيت شعر من قصيدة للشيخ أبي علي قسام الحناوي، يستعرض فيها المعارك التي دارت بين أهل الجبل وجيوش إبراهيم باشا المصري. والبصيلي هو علي آغا البصيلي، أحد قادة إبراهيم باشا الذين توجهوا لإخضاع الجبل ما قبل منتصف القرن الثامن عشر، وقد نقل أخبار هذه المعركة الدكتور فندي أبو فخر4، كما نقلها آخرون5.
وتكاد تجمع المصادر المختلفة على أن حكومة إبراهيم باشا فرضت على الجبل الضرائب كما فرضت تجنيد عدد من شباب الجبل في جيش إبراهيم باشا ونزع سلاح السكان، الأمر الذي جعل يحيى الحمدان شيخ مشايخ الجبل ـ وقيل واكد الحمدان ـ أن يدعو إلى اجتماع عاجل لبحث القضية، وتقرر على أثره إرسال وفد إلى الشام برئاسة يحيى الحمدان أخ الشيخ واكد، للتفاوض مع شريف باشا والي دمشق. ولم تسفر المفاوضات عن اتفاق ، بل تطورت تطوراً خطيراً، عندما قام شريف باشا بصفع يحيى الحمدان على وجهه فعاد الوفد إلى الجبل، وبدأت الاستعدادات لمواجهة الاحتمالات كافة، واختلفت الآراء، وتغلب الرأي الذي قرر المواجهة، ورفض مطالب إبراهيم باشا، وعُقد تحالف مع البدو المقيمين في اللجاة.
وحين علم شريف باشا بهذه الاستعدادات وجه إلى الجبل حملة بقيادة علي آغا البصيلي، الذي توجه إلى قرية الثعلة، وهناك دارت معركة حاسمة، قتل فيها عدد كبير من جنود البصيلي، واختلفت الروايات في مصير البصيلي نفسه، إذ تقول بعض المصادر “لم ينج من الحملة إلا علي آغا البصيلي ونحو ثلاثين فارساً6 في حين ذكرت مصادر أخرى أن البصيلي نفسه قتل، ودليلهم على ذلك قصيدة الشيخ أبي علي قسام الحناوي التي يقول فيها :
أول فتــــــــــــــــوح الشـــــــــــــــــــر ذبــــــــــــــــح البصيلي كسبنا خمسمية حصان بفرد نهار7

بدنا عباي لصعب

أورد سلامة عبيد حكاية هذه العبارة التي تحث على إيجاد حل لمشكلة ما كيفما اتفق، وإن لم يكن حلاً جذرياً، وربما جاءت صيغة العبارة بحسب عبيد : “ طويلة … قصيرة … عباي لصعب “
وصعب هو صعب هنيدي من قرية مجدل الهنيدات 10 كم غربي السويداء، وقد اشتهر في هجومه الشجاع على قلعة عثمانية وتكسير بابها بالبلطة، وإخراج المساجين بالقوة.
ويقال إن شبلي الأطرش الشاعر المعروف، وأحد زعماء الجبل المعروفين قد خلع عباءته على صعب هنيدي، تكريماً له وتشجيعاً. ويبدو أن صعب كان قصيراً، فعلّق الحاضرون على ذلك بأن هذه العباءة فضفاضة ولا تناسبه، لكن شبلي الأطرش أصرّ على تكريمه مردداً هذه العبارة : “ طويلة .. قصيرة .. عباي لصعب “ فغدت مثلاً في الحث على المبادرة السريعة في معالجة ظرف وعدم التأجيل بحجة إمكان وجود حل أفضل 8.

بعده على اجتماع قنوات

مثل معروف في أنحاء الجبل كافة. ويضرب للرجل يأتي بخبر قديم، معتقداً أنه جديد، لم يسبقه إليه أحد، على حين تجاوزته الناس، إلى ما هو أحدث منه. وغالباً ما يستخدم هذا المثل للتنديد بالجمود وعدم التطور، آخذاً بذلك منحىً مختلفاً عن استخدامه السابق .
وقنوات بلدة في محافظة السويداء. خمسة كيلومترات شمالي المدينة، وهي المشهورة بآثارها الرومانية الجميلة .
وحكاية هذا المثل رواها لي زميلنا المرحوم يوسف الهجري عام 1988 وذلك عن أبيه، عن جده. والمرحوم يوسف الهجري من قرية قنوات. وتقول الحكاية إنه في أواخر الحكم التركي أوائل القرن العشرين كثرت الحملات العثمانية على الجبل لإخماد الانتفاضات التي أعلنها أهل الجبل احتجاجاً على المظالم التركية، وقد بلغت تلك الحملات أكثر من أربع متعاقبة، كان آخرها حملة سامي باشا الفاروقي بتاريخ 25 /9 / 1910 م9.
ضاق الجبل ذرعاً بهذه الحملات المتوالية من جهة، وبالضغوط التي كان يمارسها العثمانيون من جهة أخرى والتي كان آخرها فرض الجندية الإجبارية على شباب الجبل، وفرض ضريبة الطرق، وقد أسموها “ الدربية “ من الدرب، وذلك من أجل تسهيل الطرق أمام القوات العثمانية لإحكام قبضتها على الجبل، فما كان من أهل الجبل إلا أن تنادوا إلى اجتماع في بلدة قنوات، بلدة الزعيم الروحي، وشيخ عقل المسلمين الموحدين الدروز، فضيلة الشيخ أحمد الهجري.
وبعد أن تدارسوا أمر فرض الجندية الإجبارية، وفرض ضريبة الدربية، استنكروا ذلك، وأعلنوا رفضهم وتمرّدهم على أحكام العثمانيين، وخرجوا من الاجتماع بالقرار التالي : “لا جندية، ولا دربية “.
وحين وصل خبر الاجتماع إلى الوالي في دمشق، وأحسّ رائحة تمرد جديد، أراد أن يخنقه في المهد، فأمر بتجهيز حملة جديدة على الجبل وعلم أهالي الجبل بأمر الحملة، فتنادى عقلاؤهم إلى اجتماع جديد في السويداء لتدارس الوضع، بعد أن بلغوا حد الإنهاك جراء عدة حملات متوالية، وفي اجتماع السويداء كان الرأي أكثر اعتدالاً إذ أبدى العقلاء رأيهم بأنه ليس من مصلحة الجبل خوض مواجهة جديدة مع العثمانيين في هذا الظرف، ما دام الباب مفتوحاً للمفاوضات فلنذهب إلى دمشق، ولنجر مفاوضات مع الوالي، علّنا نصل إلى حل وسط .
وشكلوا وفداً منهم من أجل المفاوضة. وصادف أن التحق بالوفد رجل كان قد حضر اجتماع قنوات دون أن يعلم بمقررات مؤتمر السويداء، وفي ذهنه أن الوفد ذاهب لإملاء شروطه على الوالي في دمشق.
ودخل الوفد على الوالي، وسأل الوالي أعضاء الوفد عن حقيقة ما استقر عليه الرأي العام في الجبل، فوقف ذلك الرجل الذي التحق بالوفد دون أن يكون من أفراده، ودون أن يعلم ما يحمله الوفد من مقترحات جديدة، وقال:
سعادة الوالي! لا جندية ولا دربية .
وصعق الوالي، واستشاط غضباً ؛ إذ لم يكن يتوقع هذه الإجابة، إلا أن أحد عقلاء الوفد وقف مخاطباً الوالي بالقول :
ـ سعادة الوالي ! هذا الزلمي بعده على اجتماع قنوات .
فذهبت مثلاً في التندر بالجمود وعدم التطور.

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

استشهاد القديس يوحنا المعمدان

صدر أخيراً كتابٌ قيّم للمحامي الدكتور منيف حمدان بعنوان “تركيب الملفات وثورات الكبار”، يتضمن ملفات عن ما يسميه “عشر مظالم تاريخية” أهمها وأجلّها ملف النبي يحيى بن زكريا أو القديس يوحنا المعمدان، الذي سنركز عليه في هذه المراجعة.

وخير ما يبتدأ بذكره الإنجيل المقدس عن يوحنا المعمدان،إذ يقول: “ومن ذلك امتنان الرّب تعالى على أبوية الأكرمين وهم في حالة الكبر”، وكذلك شهادة السيد المسيح (ع) قائلاً: “إنه أعظم نبيٍّ وأنا أشهد أنه أعظم من مائة وثمانين نبياًّ، ومن جملة الأنبياء أصولاً مائة وتسعون نبياًّ”. وأن يوحنا المعمدان الوارد ذكره في الإنجيل المقدس هو ذاته يحيى بن زكريا الوارد ذكرهُ في القرآن الكريم حيث تقول الآية الكريمة: }يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا{ (مريم:7) وكذلك قول الرسول محمد (ص) : لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يحيى بن زكريا، إذ وصفه القرآن فقال }وآتيناه الحكم صبيا {ولم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. وقد ورد اسم النبي يحيى عليه السلام في القرآن الكريم ستَّ مرات، وجاء ذكره في أربع سور قرآنية: آل عمران، الأنعام، مريم، الأنبياء. وجاء الحديث الرئيس عنه في سورة مريم عليها السلام.
حسب النصوص المسيحية فإن القديس يوحنا ولد وعاش في عهد الحاكم الروماني المستبّد هيرودوس لوالدين هما النبي زكريا وزوجته المؤمنة من بنات هارون أليصابات. وكانا عابدين تقيين ملتزمين بالشريعة، وقد طعنا في السن ولم يُرزقا بولدٍ إذ كانت الزوجة عاقراً، ومع هذا لم يفقد زكريا الأمل، وقد كان من عادته ككاهن أن يترك قريته الجبلية ويتوجه إلى القدس مرتين في السنة، وكان من مهامه أن ينثر البخور على الجمر المتوهج، ولما يبدأ البخور برائحته الزكيّة يتصاعد حاجباً ما حوله سأل زكريا ربّه “ربّ هبني من لدنك ذريّة طيّبة إنك سميع الدعاء”. وأجاب الله دعاءه وبعث إليه الملائكة مبشرين.وقال “لا تخف يا زكريا فإن صلاتك قد سُمعَتْ وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتدعوه يوحنا فيكون لك الفرح والسرور، ويكون إماماً عظيماً لا يشرب الخمر والمُسكر ويمتلىء من الروح القدس ويسير أمام المسيح بروح إيليا النبي وقوته”. ولما سأل زكريا الملاك المتكلم معه أجابه: “أنا جبرائيل الواقف أمام الله، وقد أرسلت لأكلمك وأبشّرك بهذا فلتكن منذ الآن صامتاً لا تستطيع الكلام إلى يوم تكون هذه البشارة لأنك لم تؤمن بكلماتي وهي تتم بأوانها”. ولما جاء الوقت لأليصابات أن تلد ولدت ابناً فأسمته يوحنا.
بعد وفاة والديه أدرك الطفل يوحنا أنه معدّ لرسالة عظيمة، فعاهد نفسه على الصبر، لهذا اعتزل الحياة في المدن والقرى وتوجّه إلى البريّة هائماً على وجهه، وقطع عهداً على نفسه أنه لن يقتات إلاّ بأكل الجراد والعسل البريّ، وكان قميصه مصنوعاً من وبر الجمال… ولما بلغ الثلاثين من العمر ترك البرية وعاد إلى القرى المحيطة بالأردن منادياً بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا حيث أثّرت كلماته الروحيّة بسامعيه، فتذكروا كلمات الأنبياء السابقين أشعيا وأرميا وحزقيال، فتقاطرت الجموع إليه من كلّ مكان، من القدس ومحيط البحيرة وبريّة جلعاد حيث يسكن بنو اسماعيل، وراحوا يسألونه فيجيب: “ أثمروا ثماراً تليق بالتوبة، من له قميص فليعط من ليس له، ولا تطالبوا أيّها العشّارون بأكثر مما أردتم به، ولا تظلموا يا أيها الجنود أحداً، ولا تعتمدوا علي وكفاكم أجركم.. أنا أعمّدكم بالماء ويأتي بعدي من هو أقوى منّي.. ذاك الذي لا أستحق أن أحلّ سير حذائه.. هو يعمّدكم بالروح القدس وهو الذي قلتُ عنه يأتي بعدي رجلٌ صار قدّامي لأنه كان قبلي”… بسرعة البرق انتشرت أخبار يوحنا المعمدان، ولما طرقت هذه الأخبار مسامع هيرودوس أطلق جواسيسه في كل مكان لينقلوا ما يتحدث عنه، ودامت تلك المراقبة عدة شهور فأدرك هيرودس أن المعمدان رجلٌ صادقٌ وأمين وطاهر. ويوماً أرسل إليه أحد أتباعه لإلقاء إحدى عظاته في القصر الملكي فلبّى الدعوة واستمع إليه الملك بكل سرور.
غير إنه في زياراته المتكررة للقصر الملكي تكلم القديس يوحنا بأمور عامة ثم ألمح إلى بعض الأخطاء من قبل المشرفين على الإدارة فلاقى ذلك استحساناً لدى السامعين، وسرّ به الملك سروراً عظيماً كون القديس لم يأت على ذكر خطيئته الكبرى بزواجه المحرّم من هيروديا زوجة شقيقه وهو حي رغم أنه كان متزوجاً من بنت الملك عبيدة النبطي ملك العرب في دمشق وجوارها، ولهذا بعد أن علمت الأميرة العربية بهذا العمل المشين ثارت لكرامتها وهجرت القصر الملكي وعادت إلى ذويها في دمشق.
لكن القديس اغتنم فرصة دعوته إلى حفل في قصر هيرودوس ليوجه النقد لسلوك الملك وزوجته مكرراً نبوءته بمجيء قريب لملكوت السموات ووجوب الإنتقال من حياة الغفلة والخطيئة إلى حياة التوبة والفضيلة، ثم قال موجهاً حديثه نحو الأمبراطور: “أما أنت يا هيرودوس فقد أتيت من الأعمال التي لا تأتلف مع هيبتك كملك، ومع أمانتك كزوج ومع دمك كأخ وطعن زوجتك العربية بكرامتها وجميع هذه الأعمال لا تحلّ لك وستدفع مقابلاً لها ثمناً يوماً ما” …
غضب الملك لعظة يوحنا المعمدان كما غضبت زوجته هيروديا فأمر باعتقال القديس وأمر بإرساله إلى قلعة ماكيرا أو البرج الأسود على ضفاف البحر الميت، وهو لم يزل قائماً حتى يومنا الحاضر، وفي هذا السجن الذي لا يدخل إليه النور ولا الهواء النقي، ألقي يوحنا المعمدان بعد أن أوثقوا يديه بالأصفاد وكبّلوا رجليه بالسلاسل انتقاماً منه ومن مواعظه.
ويوماً، وبناء على رغبة زوجته هيروديا، أقام الملك هيرودوس حفلاً عامراً في قلعة ماكيرا ليكون على مقربة من سجن ذلك القديس الذي نغّص عليهما حياتهما، وربما لغاية في نفس زوجته، في تلك الليلة طلبت هيروديا من ابنتها صالومي الرقص بصورة أثارت السرور في قلب هيرودوس فأشار إليها أن تقترب منه، ثم قال: “سلي ما تريدين وأنا أعطيك ما تسألين وأقسم لك بذلك”.
تظاهرت صالومي بالتمنع والخجل، ثم خرجت إلى أمها وسألتها بماذا تجيبه، فقالت أمها على الفور: رأس يوحنا المعمدان. عادت الصبية إلى الملك وقالت له: أريد أن تقدّم لي رأس يوحنا المعمدان على طبق.
تردّد هيرودوس بادئ الأمر، لكنه ونزولاً عند رغبة هيروديا أمر أحد السّيافين بالذهاب إلى السجن وقطع رأس يوحنا المعمدان والعودة به على طبق قدم إلى صالومي التي قدمته بدورها إلى أمها هيروديا. وأدرك هيرودوس على الفور عظم فعله وغدا يرى يوحنا المعمدان ماثلاً أمامه في الليل والنهار يوبخه على إقدامه على فعلته. ثم انتشر الخبر ووصل إلى مسامع ملك دمشق الحارث الرابع، الذي جرّد حملة عسكرية كبيرة ضد صهره هيرودس في العام 27 للميلاد ونازله في عقر داره وانتصر عليه انتصاراً ساحقاً في معركة (جلعاد) وانتقم لشقيقته وأعاد إليها الفرح والحبور، وكذلك انشرح صدر تلامذة يوحنا المعمدان على أعظم انتقام ضد الظالمين في التاريخ أمثال الملك هيرودوس وزوجته هيروديا.
أمّا مكان دفن رأسه، فتروي بعض الكتب التاريخية أنه عند تحويل كنيسة دمشق ما أصبح اليوم الجامع الأموي في دمشق عثر العمال في أساس البناء على مغارة، فأخبروا الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي جاء أثناء الليل يحمل الشموع، فنزل فإذا هي قبو في أسفل الكنيسة وإذا بداخلها صندوق حديدي، فلما فُتِح سقط منه رأس مكتوب عليه: “هذا رأس يحيا بن زكريا”، فردّه الوليد إلى مكانه وقال: اجعلوا عليه عمداً مسفّطاً، وهو العمود المسفّط الشرقي الرابع من ركن القبة في الجامع الأموي والذي يعتبر من أشهر المزارات الدينية والإسلامية.

لله في خلقه شؤون، والناس أجناس لكن أكثر ما نلاحظ توزع أكثرهم بين من هم على سلامة السجية وطيبة القلب وحب الخير ومدّ يد العون للمحتاج وبين من يفتقدون الفطرة السليمة ويحملون سوء النية والظن بالآخرين وربما سقطوا في اتهام الآخرين بما ليس فيهم افتراء وحمقاً. بينما تسهم الفئة الأولى في نشر أجواء الخير بين الناس وتخفف عنهم همومهم وتنشر الإيجابية في المجتمع فإن الثانية هي مصدر دائم للنكد وتعكير الأجواء فهم مثل جنود إبليس لا عمل لهم إلا إفساد المسرّات ونشر الفتنة والتفريق بين أهل المودة والخلّان.
هنا قصة عن رجلين أحدهم هبّ إلى مساعدة جاره وقدم له خدمة جليلة وعظيمة إذ ساعده على إعادة ما فقده من أموال ومصاغ ومقتنيات وليرات ذهبية، ومع ذلك فإنه لم يلقَ من جاره المذكور أي تقدير أو شكر أو امتنان، بل على العكس من ذلك قوبل بسوء الأخلاق وخشونة التصرف وقلة الأدب.
فما هي تفاصيل القصة؟
أثناء حرب قوات حكومة فيشي الفرنسية والتي أقامها الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت موالية له، حصلت معارك ومواجهات عنيفة في قرى الجنوب والعديد من مناطق جبل لبنان بين تلك القوات وبين جيوش الحلفاء التي كانت بدأت في مطلع الأربعينات من القرن الماضي تميل الكفة إلى صفها. وحصلت في منطقتي مرجعيون وحاصبيّا بصورة خاصة معارك بين جيش حكومة فيشي التي كانت تحكمنا، وقوات فرنسا الحرة وبريطانيا التي تمكنت من طرد قوات فيشي من تلك المنطقة في حزيران 1941.
وسط هذا الاقتتال انسحبت الأجهزة الأمنية من المنطقة وفرغت المخافر من عناصرها فغرب حبل الأمن في داخل بلدة حاصبيا ومنطقتها وانتشر القلق على السلامة الشخصية أو على المال بين الناس. لكن فراغ الأجهزة الحكومية وسلطة الأمن ملأتهما على الفور مبادرات المشايخ الأجلاء والوجهاء والعقلاء في منطقة حاصبيا والذين كانوا على يقظة وتماسك في ما بينهم للحفاظ على الأمن والأمان. فبقيت الحياة الإجتماعية على طبيعتها واستمراريتها وحصد الناس غلالهم في جو آمن وامتلأت الكواير بالحبوب حتى إن كبير المشايخ في حينه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين حين سُئل عن رأيه في تغيّر الأوضاع أجاب: “الراعي صالح، أما المغادرون فلا نأسف لرحيلهم وأما القادمون فلا نسّر لقدومهم”.
ومع هذا فإن بعض ضعفاء النفوس وضيقي التفكير لم يجدوا في كل هذا التدبير وتضامن العقلاء سبباً كافياً للطمأنينة ولم تفلح تطمينات الناس والمعارف في تهدئة خواطرهم وهم المصابون بمرض الحرص الشديد على الدنيا والمقتنيات وحرصهم يجعلهم في حالة رعب دائم على مالهم ولا علاج له.
هذا ما غشى على عقل السيد أبو نصري أسعد الدبغي، من أبناء حاصبيا المقيمين فيها، إذ كان رغم أجواء الهدوء والإلفة يتقلب على نار المخاوف، وقد بدأ يرى في كل إنسان أو جار أو عابر سبيل ربما تهديداً لماله ولرغد حاله. ولما لم يعد في قادراً على تهدئة روعه، جمع كل ما يملك من مئات الليرات الذهبية والمصاغ والمجوهرات العائدة لزوجته وبناته المتزوجات وجميع الصكوك والحجج وكل المقتنيات الثمينة فوضعها كلها في مرطبان كبير الحجم من الزجاج ثم أودع المرطبان داخل صفيحة من التنك وأحكم إغلاقها.
وعندما أسدل الليل عتمته فوق بلدته ومنزله خرج إلى الحديقة، وبعد أن أجال الطرف يميناً وشمالاً استقرّ رأيه على أن يحفر تحت أحدى شجيرات الحديقة حفرة عميقة قدر الإمكان، ثم قام بدفن الصندوق الحديدي فيها ولم ينس بالطبع أن يضع قطعة من الخشب فوق تراب الحفرة كعلامة يهتدي لاحقاً من خلالها على مكان الصندوق. لكن، من حكمة الخالق الذي يكره الحرص والظنون أن مرّ على الطريق العام المحاذية لحديقته في تلك اللحظة ثلاثة رجال عرف منهم السيد شاهين حمزة، وقد ألقى الرجال التحية على أبو نصري ثم سألوه قائلين: “يا عم أبو نصري، شو عمتعمل أول الليل في الحديقة؟” ولم يكن تساور المارة الثلاثة أي شكوك إنما أرادوا ملاطفة الرجل الذي كان في منزله وداخل حديقته فربما خرج لحاجة أو للبحث عن شيء من أغراضه.
لكن أبو نصري المسكون بالهواجس صدم بمرور هؤلاء الرجال فاشتعل فكره بعشرات الأفكار والافتراضات، وكل إنسان ينكب على عمل في السرّ وفي عتمة الليل يميل بطبيعة الأمور للخوف ولتفسير أي أمر ولو كان عادياً تفسيراً يقوم على الشك والظنون واحتمال الفضيحة. والله تعالى يقول في قرآنه الكريم }إن الله لا يصلح عمل المفسدين{ (يونس:81)
هكذا أصبح الحال عند العم أبو نصري، وغدا على ثقة تامة بأن هؤلاء الشباب اطلعوا على ما كان يفعله في الحديقة، وأنهم سيتآمرون للاستيلاء على كنزه، لذلك وبعد أن دخل بيته وجلس على أريكته لم يهدأ له بال، وكانت الأفكار تأخذه وتعيده وهو مشوش الفكر حتى لم يعد قادراً على الاحتمال أو السكون في مكانه، فانطلق مسرعاً نحو الحديقة والمكان الذي دفن به مقتنياته، لكنه وبسبب اضطراب فكره وحالة الذعر التي كانت مسيطرة عليه أضاع الاتجاهات واسودت الدنيا أمامه فلم يعثر على العلامة التي وضعها للاستدلال على كنزه الدفين، وقد أضلّه الله ليجعل منه عبرة ومثلاً.
بحث أبو نصري بصورة هستيرية عن المكان ودار على نفسه وفتش في أكثر من اتجاه لكنه لم يعثر على العلامة وأضاع الدليل على كنزه، فعاد في حالة من الخوف الممتزج بالحنق والغضب على كل مخلوق..لا يحمل لفشله في العثور على كنزه إلا الظنون مطلقاً التّهم جزافاً بحق من مرّ قربه قائلاً ومردداً أنهم قد أخذوا أمواله وتحويجة عمره، ثم أخذ يجوب أرض الغرفة ذهاباً وإياباً ويضرب كفاً بكف وبلغت به حال الضياع والغضب أن توجه إلى زوجته المسكينة متهماً إياها بأنها هي التي دبرت المكيدة موجهاً لها التهديد واللغة العنيفة..
المرأة المسكينة أصيبت بالخوف والحيرة، فهي لا تعلم ما يمكنها أن تفعله أمام ثور هائج، لذا سكتت خوفاً من إقدامه على عمل طائش، ثم انسلّت إلى خارج الغرفة وقفزت فوق الحائط الذي يفصل بين منزلها وبين منزل جارهم الشاب أبو سليمان إسماعيل أبو غيدا، متوسِّلة وراجية منه أن يأتي معها ويبحث عن الأموال التي استودعها زوجها في أرض الحديقة لعله يجدها ويهدىء من هيجان وثورة زوجها.
أبو سليمان اسماعيل هبّ مسرعاً ثم ذهب مع خالته أم نصري، كما كان يناديها، وأخذ يتنقل في الحديقة من مكان إلى مكان، ومن زاوية إلى أخرى إلى أن صادف مروره تحت شجرة الليمون، وإذا بدعسة قدمه تهتز تحتها خشبة، فعمل فوراً على نبشها وإذا به يهتدي إلى الصندوق وفي وسطه مرطبان الزجاج، فحمله وعاد مسرعاً إلى منزل جاره وأم نصري تنظر إليه بامتنان واعتزاز.
ذهب الجار بالكنز ليبشر جاره وطرق الباب:
“إفتح يا عم أبو نصري إفتح فهذا قطرميز الزجاج كما وضعته يداك، إفتح “ كان يردد ذلك بكل تهذيب واحترام ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود.
فأبو نصري المسكون بالرعب والظنون اعتبر أن كلام جاره من قبيل تهدئة الخاطر فرفض تصديقه كما رفض فتح الباب له واستمر في الصياح من الداخل مكيلاً اللعن والسباب للجميع فالمرطبان “مع الزعران” ثم لعن الأيام والحياة والزمان والمكان. لهذا وبعد أن يئس أبو سليمان من هذا التصرف الغبي والسيىء ناوله إلى خالته أم نصري وقفل عائداً إلى منزله وكأن شيئاً ما كان.
الزوجة أم نصري هالها هذا التصرف المشين من قبل زوجها أكثر من فقدان مصاغها، لهذا تجرأت ثم فتحت الباب وأدخلت المرطبان وقالت لزوجها الغارق في الهيجان: خذه وتفقده وكفى سوء تصرّف وغضب وقد كان أقل واجب عليك أن تستقبل جارك وتشكره بل وليس إهداؤه شيئاً من محتويات هذا الصندو.. ومع كل ذلك لم يهدأ أبو نصري لكنه مدّ يده وأخذ المرطبان ثم تفقدّه فوجده كما كان، لكنه بقي على تجهمه ولم يتلفظ بأي عبارات تحمد الله أو تشكر جاره على المعروف الذي أسداه إليه، فهو انزوى في مقعده عاقد الجبين وزوجته حائرة في ذاتها آسفة لعشرة السوء هذه التي ابتلاها الله بها وهي صابرة محتسبة.
العبرة من هذه المأثرة يلخصها قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَمـاً عَلَيْـهِ وَيَـنْـدَم

المِسبحَة في التاريخ

صنعها كهنة الصين والهندوس منذ آلاف السنين لكن المسلمين نقلوها وكرّموها ونظموا فيها القصائد

أكثر من عمّم استخدامها العابدون والصوفيون لحاجتهم لضبط التسابيح والأوراد بأعداد معينة

المسبحة بالنسبة الى كثيرين قنية فريدة وزينة وأداة تفاخر وكثير منها يباع بأسعار خيالية

البداية
منتصف أيار 1999، أقلعت بنا الطائرة من مطار بيروت: بيروت – أثينا – نيويورك، في مطار أثينا أمضينا ما يقارب الثلاث ساعات، خلال هذا الوقت وأثناء تجوالي داخل المطار اتجهت نحو “ السُّوق الحرّة “ هناك وقع نظري على كتاب، على غلافه صورة “المسبحة” فاشتريته، وفي أعماق نفسي ارتفعت صرخة أرخميدس”: “وجدتها”.1
أمعنت النظر في اللون، شكل الأحجار، الخيط، الشرّابة… الخ !
“ الصورة نص والنص صورة”.
طوال الرحلة من أثينا الى نيويورك وأنا مستغرق في قراءة هذا الكتاب، وكانت تمرّ لحظات، وكأن الكلمات أصبحت كحبّات السبحة فتذكرت هذا البيت من الشعر لمحمد الصهناجي البوصيري في همزية:
وإذا حـــــــــــلّت الهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداية قلبــــــــــاً نشــــــــــطت للعبــــــــــادة الأعضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
هل كان صدفة نزولي في مطار أثينا لأول مرّة في حياتي؟ هل كان صدفة أن يقع نظري على كتاب المسبحة؟ وهل كان صدفة أن يوقظ محتوى هذا الكتاب في قلبي ونفسي سلسلة من الأسئلة، وباقة من الذكريات؟
في اليوم التالي بعد الظهر وأثناء المشاركة في هذا المؤتمر – قسم الشرق الأوسط، وقبل أن أبدأ بمداخلتي المتواضعة تذكرت النفري في مقولته “الإنسان معنى الكون”.
فقلت باختصار شديد: “غاية الإنسان في هذا الكون أن يعطي لوجوده المعنى، والمعنى من وجود “هيئة الأمم” أيها السادة أشبه بالسُّبحَة Rosary حبّاتها الدول الأعضاء وخيطها ميثاقها وهذا الخيط الذي يجمعها هو رسالتها ودستورها والذي يتضمن معنى “جنين الحدس الأخلاقي الرفيع”، فعلا التصفيق في القاعة بشكل لافت.
مرت ثمانية عشر عاماً على تلك السفرة احتفظت خلالها بهذا المخطوط الثمين، إلى أن آن الأوان ليرى هذا المقال النور على صفحات مجلة “ الضحى” الغرّاء.

إرث إنساني
المسبحة إرث فني بديع متغلغل في التراث الإنساني، قديمه وحديثه، كما إن لها وظائف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة السائدة أو بالأرقام والعدّ والحساب، وهي زينة شخصية ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية ومفخرة منزلية وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعامل مساعد على تهدئة الانفعالات النفسية، علماً أن الأعصاب تنتهي برؤوس الأنامل، لذلك فهي رياضة لطيفة تسلي الأصابع التي تريد أن تبقى ساكنة بحبّاتها.
وللمسبحة أسواقها العامرة وخامات متفاوتة وهي تختلف كثيراً في ما بينها من حيث الندرة والقيمة والجمال والإبهار. وحرفة تصنيع المسابح تستلزم مهارة وإبداعاً في آن معاً، مثلها مثل مهنة تصنيع الحُلِي الذهبية، بل هي كذلك، فبعضها جاوز سعره ثمن قلادات ذهبية، مما يفرض صونها وحفظها في الخزائن الحديدية ومجموعات المقتنيات النفيسة.
وتقول بعض كتب التاريخ إن كهنة الصين والهندوس كانوا أول من ابتدع السبحة، كذلك تشير الدلائل التاريخية إلى أن ظهور السبحة الدينية لأول مرة كان في الهند، في بداية القرن الخامس قبل الميلاد واستقى المسلمون الفكرة هذه من خلال احتكاكهم مع الشعوب الهندية من خلال التجارة والفتوحات.

دور الصوفية في انتشارها
لكن من المرجح أن أكثر من عمّم استخدام المسبحة هم العابدون والصوفيون بسبب حاجتهم لضبط التسابيح والأوراد بأعداد معينة، وكان التسبيح في الأصل يتم على أصابع اليد وغير ذلك، وغالباً ما يلجأ الذاكر إلى أصابع يده إن لم تتوفّر له السبحة، وهناك ثلاثة أحجام للسبحات، الأول 33 حبّة وهو الأكثر انتشاراً والثلثان 66 حبّة والسبحة الكاملة وتتكون من 99 حبّة بعدد أسماء الله الحسنى، هناك في حالات أخرى سبحات طويلة جداً تحتوي الواحدة منها على 999 حبة وبعض هذه السبحات تشترى كتذكارات أو لأغراض تزيين المكان.

تعريف المِسبحة أو السُّبحة
المِسبحة أو السُّبحة عبارة عن مجموعة من القطع ذات الأشكال الخرزية الحبيبية مع فواصل وقطع أخرى، حيث تتألف كلّها من حبات بعدد معيّن منظومة ومنتظمة في خيط أو سلك أو سلسلة، ويختلف شكل الحبّات ومادتها بحسب ذوق الصانع أو متطلبات الذين يطلبونها أو يبتاعونها لأسباب دينية أو اجتماعية أو لغرض اللهو أو التسلية. وقد اختلف أسلوب صنع السبحة عبر القرون حتى بلغ في التنوع في أيامنا ما لا يعدّ ولا يحصى..
وكما ورد في باب الحبيبات بالانكليزية، فإن كلمة beads (بالجمع) قد تعني عقداً أو مسبحة.
وقد استخدمت السبحة كما أسلفنا في أوراد الذاكرين والمسبحين بهدف أداء عدد معين من كلمات أو عبارات التسبيح لله تعالى في جلسة واحدة،. غير إننا لا ننكر تأثير الحضارات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط أو غيرها في مجال استخدامها لأغراض دينية أو لغرض العدّ والحساب لما هو مطلوب من الانسان في كافة شعائر الحياة الدنيا والمتطلبات الروحية الأخرى كما سنرى لاحقاً…
في الإصطلاح الصوفي
• ما أجمل قول الإمام “القشيري”: “التسبيح هو التقديس والتنزيه ويكون بمعنى سِباحة الأسرار في بحار الإجلال”.
• أما قول الشيخ الأكبر ابن عربي: “ فالتسبيح: هو قسم من أقسام الحمد ولهذا فإن الحمد يملأ الميزان على الإطلاق وسبحان الله وغير ذلك من الأذكار تحت حيطة الحمد. حقاّ إنه تسبيحة صلاة.
حسب الصوفية، فإن السبحة هي رفيقة العبادة والأذكار، وهي وسيلة الاستغراق وطاردة الغفلة وقد وصل بها رجال حضرات أسرار الجمال، فسهروا بها الليالي وقطعوا بها سبل التقرب من الله.
لهذا اهتمّ بها المسلمون وكرّموها وأظهروا حبهم لها وأنشأوا في مدحها القصائد، لقد كانت السُّبحَة عند الصفوة رمزاً لسلوك الذكر وحب الذاكرين للسبحة هو من قبل تقدير وظيفتها الخاصة إذ تساعدهم على الاستغراق في الذكر وفي الاستغفار وكل ذاكر يدرك أن عليه أن يستغرق في عبادة الله مئات المرات وأحياناً أكثر بكثير في طريق التوبة والاستقامة على الصراط وكل ذلك بمساعدة السبحة .

هذا المتحف اليوناني المخصص للمسابح هو الوحيد من نوعه في العالم
هذا المتحف اليوناني المخصص للمسابح هو الوحيد من نوعه في العالم

السبحة عبر التاريخ
منذ آلاف السنين ومنذ كان الإنسان القديم يسكن الكهوف وعثوره بطريق المصادفة أو الحَفر على أحجار مُلونة هنا وهناك، فلا بدّ أن هذه الأحجار سحرته بجمالها وألوانها وبريقها فألهبت خياله، ومن أقدم الأحجار والمواد التي استخدمها الإنسان قد عثر عليها في قبور ترجع الى آلاف السنين.
ويذكر أن فكرة التواصل مع هذه الأحجار والمواد ومن ثم خرقها وتجميعها وربط بعضها ببعض بخيط، كانت البداية الأولى بهدف التزين وخاصة أن الحفريات أظهرت أن مثل هذه القلائد كانت في الأعناق تدفن مع الموتى… ولا سيما النساء…
وقيل في ذلك الزمن إن معرفة هوية الهيكل العظمي للمرأة ممكن من خلال تمييز القلادة المعلقة في عنقها. ويعتقد بعض المؤرخين أن فكرة المِسبَحة بدأت عند السومريين قبل خمسة آلاف سنة ومن ثم انتقلت الى بقية الحضارات الأخرى كالفرعونية والهندوسية والفارسية وغيرها من الحضارات اللاحقة. وبرهن على ذلك المكتشفات الأثرية لقلائد وعقود الذهب واللازورد Lapis Lazuli والكورنيليان والفيروز والرخام والعظام في مختلف الحضارات القديمة.
وكان لتطور المعتقدات الروحية والأساطير أثر لافت يومِئ إلى شغف إنسان الحضارات القديمة بهذه المنتجات الطبيعية الجميلة، إذ كان يعتقد أن للأحجار الخضراء اللون تأثيراً يمنع الأمراض، بينما تساعد الحمراء على تخفيف النزيف والالتهاب وحجر العقيق للقبول والإقناع وجلب الحظ وحجر الملكيت للتخدير وللحماية من السحر، أما حجر الياقوت الأزرق فهو رمز العفّة وعلاج لفورات الغضب، والفيروز للنصر وتبيان حالة الإنسان النفسية عند تغير ألوانه، والكهرمان لامتصاص الأمراض من جسم الإنسان ولطرد الأرواح الشريرة. أما المرجان فكانت له أهمية مميزة زمن الحضارة الإغريقية، وكان للعقيق الأحمر فضل كبير عند الرومان حيث استخدم في القلائد والعقود والأختام وغيرها.
أما عند الفينيقيين فقد انتشرت القلائد والأحجار الكريمة بكثافة واستخدمت في مجال المقايضات والتبادل التجاري، وبعد ظهور الدين المسيحي وانتشاره تعلّق الرهبان والناس بالقلائد كرمز ديني، وأكثر ما استخدمت كقلائد بشكل صلبان، فأخذ الرهبان من أديرتهم يستخدمونها في صلواتهم وأصبحت رمزاً مقدساً وما زال نموذج “المِسبحة الوردية” حاضراً لامعاً.
الحديث يطول عن استخدام المسبحة في عصور الاسلام وتطورها، اللافت أن الناس على مرّ العصور كانت تصنّع الأحجار الكريمة كأختام ومسابح وقلادات وغيرها كما مرّ معنا سابقاّ ولقد اشتهر أبو الريحان البيروني بكونه من أشهر علماء العرب في المواد والأحجار الكريمة وذكر ذلك في كتابه

درويش صوفي مع مسبحته
درويش صوفي مع مسبحته

«الجماهر في معرفة الجواهر».
كثيرة هي المراجع التي تشير إلى أن اسم المِسبَحة كان مدرجاّ في أوائل العصر العباسي، فقد ذكر في بعض المصادر ( كتاب مشهد الإمام علي في النجف. مؤلفته سعاد ماهر/ عن دار المعارف

“زينة شخصية ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية ومفخرة منزلية وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعــامل مساعد على تهدئة الانفعــالات”

في مصر/ ص188/ص 189) أنه في السنة الثالثة للهجرة، ولما وقعت غزوة أُحُد وقتل فيها أقوى حماة الإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعظمت المصيبة على المسلمين وقد ناحوا عليه في كل مأتم، وقيل اتسع الأمر في تكريمه إلى أن صاروا يأخذون من تراب قبره يتبركون به “ويعملون السُبحات منه”. والواقع لم نجد مصادر أخرى تثبت هذا الخبر.
وفي العصر العباسي وما تلاه من الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس ومن ثم في فترات حكم المغول والبويهيين والسلاجقة، وانتقال الحكم للفاطميين والمماليك في شمال أفريقيا، انتشرت طرق الحركات الصوفية وحركات الدراويش والدروشة واتباع هذه الطرق يحملون المسبحة ويتبركون بها ويعدون بها أسماء الله الحُسنى وأثناء التشهّد يحملونها أيضاً في تجمّعات الذكر والتهليل، وكانت تتكوّن من العظام أو الخزف أو الأتربة المعجونة والأخشاب والصدف، وبعض مسبحاتهم تتألف من 99 حبة زائد الفواصل والمنارة والبعض الآخر يتألف من ألف حبة وقد تصغر الحبات أو تكبر حسب التقاليد السائدة في كل مرحلة، ويعتقد بعض أتباع الصّوفية أن المسبحة تفيد في العد عند الذكر المتكرر لأسماء الله الحسنى. وقد تطور استعمال المسبحة آنذاك حتى انتقل حملها باليد أثناء المجالس الخاصة بالصوفيين وأحياناً الى العنق أثناء التجوال أو بعد الانتهاء من الصلاة والتسبيح. وما زال منظر الصّوفي أو صاحب الطريقة والذي يعلق مِسبحته في عنقه ماثلاً الى هذا اليوم في مصر والعراق والمغرب وتونس الخ…
وزاد انتشار المسبحة في العهد العثماني وفي النصف الثاني منه بشكل كبير، وخصوصاً في تركيا والعراق وايران ومصر وبلاد الشام وبعد أن انتشرت المسبحة المختصرة (33 حبة) وكان بعض مواد إنتاجها متوافراً محلياً والبعض الآخر يستورد ويطلب تصنيعها مثل مسابح الكهرب التي كانت تستورد من ألمانيا أو غيرها.
وفي بداية هذا القرن والى وقتنا الراهن وبعد التطور الصناعي الكبير وازدياد الثروات أنتجت المسابح بشكل كبير ومن مواد متنوعة قد تنوف على المئة، وخصوصاً من المواد الرخيصة، ودخلت في مجال تصنيعها أمم وشعوب جديدة، مثل دول الشرق الأقصى وأوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية والصين والهند ودول أفريقيا حتى إن البعض شبهها بأقرب ما يكون الى الهجمة الخارجية في تصنيع المسابح بسبب ازدياد تصنيعها في خارج المراكز الاسلامية.
مع الإشارة الى أن السبحة لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام، حيث قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، غير إن بعض الصحابة استعانوا بعد ذلك في تسبيحهم بما يساعدهم على ضبط العدد مثل النوى والحصى والخيوط المعقودة، وفي العصر الأموي ظهرت السبحة، ثم ومع توسع الفتوحات الإسلامية وازدياد الثروات برع الصناع في تصميم السبح من الجواهر والأحجار الكريمة، فحوت خزائن الخلفاء الراشدين والحكام المسلمين أجمل نفائس السبح.
ولعلّ من أشهر السبحات تلك التي استعملتها زبيدة بنت جعفر المنصور، والتي صنعت من ياقوت رُماّني على هيئة بندق والتي اشترتها بخمسين ألف دينار، كما كانت لدى العديد من الأمراء في العصر الفاطمي سُبح نادرة وثمينة، كذلك فإن السُّبحَة الأكثر استخداماً تتألف من 99 حبة أو خرزة وفقاً لعدد أسماء الله الحسنى، وهي تكون مكونة من “الإمام” أو “المئذنة” أي رأس السبحة، والشاهدين الفاصلين اللذين يختلفان عن باقي الخرزات، الأول منه يكون موضعه بعد الخرزة الثالثة والثلاثين، والثاني بعد الخرزة السادسة والستين، أما نهايتها فهي عبارة عن كتلة على رأس “الإمام” أو “المئذنة” تكون مصنوعة من الفضة أو عقدة من خيطها، وبالعادة تعلق على رأس السبحة شرابة نسيجية أو معدنية.
يقول الباحث والمستشرق الألماني جولد زيهر، إن السُّبحَة لم تنتشر في الجزيرة العربية، إلا في القرن الثالث الهجري عن طريق مصر، بينما ذكرت الموسوعة الإسلامية أن أول استعمال للسبحة كان في أوساط الصوفية، وبين الطبقات الدنيا للمجتمع، وقد ارتفعت أصوات بإنكارها في القرن الخامس عشر الميلادي، إلا أن أكثر العلماء أفتوا بعدم وجود مانع من استخدامها.
وإذا كانت السُّبحَة مظهراً من مظاهر العبادة في مختلف الأديان إلا أن عدد حبّاتها يختلف من ديانة الى أخرى. فغالبية المسلمين يؤمنون بأن عدد حبّات السبحة إما 33 حبّة حسب الذكر الذي أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام، أو 99 وهو عدد أسماء الله الحُسنى، بينما السُّبحَة لدى الصّوفية هي 100 حبّة مزودة بعدادين الأول خاص بالمئات والثاني خاص بالألوف، هذا فضلاً عن محبس لمئات الألوف حتى يصل عدد التسبيح من مليون الى مائة مليون. أما السبحة عند المسيحيين فيتراوح عدد حبّاتها بين 45 حبّة، ويعلّق في نهايتها صليب. أما سبحة اليهود فيتراوح عدد حبّاتها ما بين 17 حبّة، و21 حبّة.

فقير في كاتنماندو نبيبال يحيط عنقه بالمسابح كما هي العادة لدى الزهاد الهندوس
فقير في كاتنماندو نبيبال يحيط عنقه بالمسابح كما هي العادة لدى الزهاد الهندوس

والطريف وكما يقول العاملون في صناعة السُبح في مصر، هو أن السائحين الأجانب أخذوا عن المسلمين عادة استخدام السبحة، وتكرار حركة الأصابع أثناء التسبيح كعلاج نفسي للقلق، ولتحقيق انتظام ضربات القلب كما يقولون وكما يفضل البعض سواء من المسلمين أو الأجانب شراء السبح الكبيرة واستخدامها في الديكور، سواء المُصنّعة من خشب الأرو أو الزان أو المصنوع من الخزف الأزرق أو الأخضر وقد كتب عليها أسماء الله الحسنى. وتعدّ المملكة العربية السعودية من أكبر أسواق بيع وشراء السبح في العالم، حيث يصل حجم مبيعات السبح فيها الى نحو مئة مليون ريال سنوياً، كما باتت الصين والطريف وكما يقول العاملون في صناعة السُبح في مصر، هو أن السائحين الأجانب أخذوا عن المسلمين عادة استخدام السبحة، وتكرار حركة الأصابع أثناء التسبيح كعلاج نفسي للقلق، ولتحقيق انتظام ضربات القلب كما يقولون وكما يفضل البعض سواء من المسلمين أو الأجانب شراء السبح الكبيرة واستخدامها في الديكور، سواء المُصنّعة من خشب الأرو أو الزان أو المصنوع من الخزف الأزرق أو الأخضر وقد كتب عليها أسماء الله الحسنى. وتعدّ المملكة العربية السعودية من أكبر أسواق بيع وشراء السبح في العالم، حيث يصل حجم مبيعات السبح فيها الى نحو مئة مليون ريال سنوياً، كما باتت الصين

مسبحة مطعمة بالأحجار الكريمة ومزينة بالفضة
مسبحة مطعمة بالأحجار الكريمة ومزينة بالفضة

 

 

 

مسبحة من الفيروز بـ 99 حبة
‘ مسبحة من الفيروز بـ 99 حبة

نتركه في النهايات، إني أحب أن أذكر الله بقلبي ويدي ولساني.
وقال محمد المير في رسالته: قال الشيخ أبو العباس الرواد: تبيّن من قول الحسن إن السبحة كانت موجودة في زمن الصحابة لأن بدايته في زمنهم.
وقال ابن الجوزي: إن السُّبحَة مستحبة لما في حديث صفيّة أنها كانت تسبّح بنوى أو حصى وقد أقرّها (صلى الله عليه وسلم)على فعلها والسبحة في معناها إذ لا يختلف الغرض عن كونها منظومة أو منثورة.
وقال الإمام السيوطي: وقد أخذ السُّبحَة سادات يشار اليهم ويؤخذ عنهم ويعتمد عليهم فلو لم يكن في اتخاذها غير موافقة هؤلاء السادة والدخول في مسلكهم لكفى.
وذكر القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان في وفيّات الأعيان أنه رؤي في يد أبي القاسم الجنيد بن محمد يوماً سبحة فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سُبحَة؟ قال: طريق وصلت به الى ربي لا أفارقه.

هواية جمع المسابح
على غرار هوايات جمع الطوابع وجمع العملات القديمة والتذكارات، هناك من يهوى جمع المسابح سواء ما اختلف نوع مادتها وشكلها ولونها أم ما انطبق منها وخصوصاً في بعض بقاع العالم الاسلامي والعربي، وفي هذا الجانب فقد تجد من الناس من يذكر لك هوايته المحببة هذه ويسرد عدد مسابح الكهرب أو غيرها من المواد التي يملكها، مفصلاً عن مواصفاتها وجمالها وألوانها ومعاناة جمعها وبدايات هوايته هذه وتلك التي فقدها وروايات شتى تكاد لا تنقطع ولا تنتهي تدور حول تعلّقه بالشخصيات الاجتماعية أو السياسية التي تملك أنواعاً معينة من المسابح النادرة، وكيفية أو تاريخ اقتنائها وما الى ذلك، حتى إن البعض يذهب بعيداً ويضع الخطط في كيفية الحصول على مسبحة نادرة موجودة عند بعض الأشخاص سواء بشرائها أو بطرق اخرى، وهكذا فقد يجلب حب المسبحة مواقف طريفة أو محزنة على حدٍ سواء وبسبب هذه الهواية وهذا الاهتمام نشأت للسبحة أسواق وباعة مختصّون خصوصاً في بعض الدول العربية والاسلامية التي تركزت بها الحضارات القديمة مثل أسواق العراق – بغداد، وكربلاء، والنجف، والكاظمية – وغيرها، وفي مصر – أسواق القاهرة (خان الخليلي وغيرها) وفي السعودية ودول الخليج العربي وتركيا وبلاد الشام وايران والأردن ومناطق أخرى لا حصر لها.

أبو نواس يعترف بفضلها
إن عراقة المسبحة في الشعر العربي ترجع الى ما يزيد على ألف عام، منذ العصر العباسي، فأبو نواس عندما حبسه الأمين، لمجونه وخلاعته، وانقذه من السجن – الفضل بن الربيع- وأظهر التوبة لزم بيته قال شعراً جاء فيه:

مسبحة من الفضة الصافية
أنت يــــــــا ابــــــــــــــن الربيع ألزمتني النُســــــــــــــك
وعـــــــــــــــــــــوّدتنِيــــــــــــــــــه والخــــــــــــــــــــــير عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
فارعـــــــــــــــــــوى باطلي واقصر حبلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدلّت عِفــّــــــــــــــــــــة وزهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
لـــــــــــو تراني ذكرت بي الحسن البصري

مسبحة من الفضة الصافية

في حســـــــــــــــــــــــــن سمـــــــــته أو قتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
مــــــــن خشــــــــــــــــــــــــــــــــوع أزيّنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بنحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول
واصفــــــــــــــــــــــــــرار مثــــــــــــل اصفــــــــــــرار الجــــــــــــرادة
المســـــــــــــــــــــــــابيح في ذراعـــيّ والمصـــــــــــــحف
فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي لبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــتي مكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان القـــــــــــــــــــــــلادة
ولقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد طالمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لقيــــــــــــت ولكـــــــــــــــــــــــــــن
أدركتني على يديــــــــــــك الســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعادة
كما ذكرت السبحة في الشعر العربي كما في قول ابن عبد الظاهر:
وسبحـــــــــــــــــــــــة فــــــــــــــــــــــي أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــامــــــــــــــــــــــــــلي قــــــــــــــــــد شـــــــغفــــــــــــــــــت بحبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها
مثــــــــــــــــــــــــــــــــل مناقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير غـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدت ملتقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطات حَبُّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كما قال فيها شاعر:
ومنظومـــــــة الشمل يخـــــــــــــــــــلو بــــــــــــــــها اللبيب فتــــــــــــــــــــــــــــــــــجمع فـــــــــــــــــي همتــــــــــــــــــــــــــه

من المهم الإشارة الى أن “السبحة” لها “كرامتها” فلا يجوز أن تعار أو تنقل في المجالس من يد الى يد.

www.hdnicewallpapers.com
تمثال للإله الهندي شيفا كما يصوّر عادة مع أفعى الكوبرا وقد أحاط عنقه بمسبحة وحمل أخرى بيده

الخاتمة
علّمتني السُّبحَة أن على المرء أن يدرّب نفسه على اقتناص نبض الحواس الخمس يضاف اليها عين البصيرة، متجهاً نحو الأقاصي العميقة من نداءات الذات، منتصراً للعميق فيه وفي الإنسان عموماً.
علمتني المسبحة أن التساؤل تقوى الفكر. يقول اليابانيون إن المياه تحكي قصة وهي تجري، وأن حبات السبحة سمفونية بين أنامل العارفين. ومن أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزها ما بين البصر والبصيرة، فالبصر مركزه العين، يحصر كل همّه في التقاط أشكال الأشياء وألوانها ومن أشكالها وألوانها يحاول العارف أن ينفذ الى كنهها، في حين أن البصيرة مركزها القلب والوجدان، همها الأول الوصول الى بواطن الأشياء دون التلهّي بمظاهرها، في كلا النموذجين “المِسبَحة- السُّبحَة نموذج”، بإسقاط الضوء على منطقة المعنى…
يقول الفيلسوف الهنغاري جورج لوكاش في كتاب عنوانه “الروح والأشكال”:
“ على من بدأ بحثاً أن ينهيه…” وان كل شيء فيه روح وإن لم تصدِّق، وهكذا الحال مع السُّبحَة وأقوال العلماء التي وردت في النص تأكيد على ذلك، أفما قيل: “آمن بالحجر تبرأ…!” فكيف اذا كان حجراً كريماً صاغته الطبيعة وصقلته وهذبته أولاً أيدي صاغة محترفين. كان عرب اليمن يكتبون الحكمة في الحجارة طلباً لبقائها، فكيف اذا كانت هذه الحجارة مطعمة بأسماء الله الحسنى والتقطتها الحواس الخمس مجتمعةً تمجّد وتسبّح الخالق ليل نهار بكفٍ فارغ وقلبٍ مليء بحب الله تعالى.
لم يعد من كبير شكّ أن السبحة تتكلم بالهمس واللمس لا بالعبارة وتجيب بلسان الحال لا بلسان المقال، ويصدق فيها القول: التراث المحكي هو التاريخ المخفي. تعامل مع سبحتك تعامل أفلوطين مع الجمال والحكمة: انكفء الى نفسك وانظر فيها ملياً، فإذا لم تجد الجمال تصرّف عندئذٍ تصرّف النحّات الذي يسوّي ويصقل حتى يكون قد زيّن تمثاله بجميع صفات الجمال المقدس. والمسبحة بين أناملك “كالطبيعة تتحدث اليك اذا أردت ان تصغي إليها.”
قال ابن الفارض:
ولطفُ الأواني في الحقيقة تابع للطف المعاني والمعاني بها تسمو
ما رأيته بوضوح بالتواصل مع السبحة هو خطوة صغيرة كخطوات الطفل الأولى تؤدي الى الخطوة الثانية. لقد فتحت هذه التجربة حياتي على الشغف الى تحقيق الذات والايمان انه لا توجد حدود لما يستطيع الإنسان انجازه لو أدرك قوى العالم غير المرئي، والتي هي حقنا منذ ولادتنا.
لا شيء يحدث مصادفةً في أي مكان، لأن هذا العقل الكوني مستعدّ على الدوام، ويسير بطرق عجائبية من الاحتمالات الضخمة غير المحددة.
نعم كنت مفتوناً بفكرة أن الحياة محصورة بما أرى وأسمع بحواسي، لقد اكتشفت انني أستطيع أن أفعل ما كنت أظنه مستحيلاً…
ان كان للمرء عــــــــزمٌ في إرادته فلا الطبيعــــــــــــــــــــــة تثنيه ولا القــــــــــــــدر
وان الكتابة والتواصل مع الأشياء نوع من الوجود وملاقاة الآخر، ليس هناك إنسان ضعيف، انما هناك إنسان لا يعرف مواطن القوّة لديه، مع الإيمان المطلق بأن فلسفة الحياة أن تعطي معنى لكل ما تفعل.
دعوتي اليك يا أخي: حاول أن تسمع المعنى وأنت تسبّح بالسبحة.
مسك الختام، ما وجدت أفضل من: سبحان الله، والحمدلله ولا اله إلا الله والله أكبر.

 

العدد 21