الإستشــراق
و صياغة ذاكرة المغلوبين
المشروع الإستعماري للمنطقة تطلب تقديماً متحيزاً وجاحداً للإسلام
وتقديم أوروبا كقوة تمدين لشعوب متأخرة يحكمها الإستبداد
آرنست رينان رفض إعطاء أي فضل للعرب أو للإسلام
وهيغل رأى فضلهم في حفظ الحضارة الإغريقية للأوروبيين
برغم دفاع الأفغاني عن دور الحضارة الإسلامية
إلا أنه قبل تحليل رينان عن أسباب تأخر المسلمين
سياسات التدخل الغربي في شؤون المشرق العربي ( الإسلامي – المسيحي) وشمال أفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين لم تأتِ فجأة ومن دون مقدمات، بل مهّد لها خطاب معرفي إستشراقي حاول استبطان نقاط القوة والضعف في مجتمع الخصم المراد إضعافه قبل السيطرة عليه وإخضاعه، وكان من الضروري لنجاح ذلك المشروع الاستعماري، إعادة صياغة ذاكرة المغلوبين من موقع المركزية الأوروبية التي تفهم تشاركية العالم الجديد كرسالة تحضر يحملها المجتمع الأوروبي إلى الإنسان الآخر البربري المطلوب تمدينه.
والباحثون الغربيون في شؤون الشرق والإسلام في استخدامهم المنهج التجريبي الوضعي، كانوا دائماً ينفون وجود أهداف سياسية لعملهم البحثي ويصرون على أنهم منحازون الى الواقع فقط، فهم يتركون الوقائع تتحدث عن نفسها، أما في الحقيقة فإن الحصول على هذه المعرفة يستلزم دائماً اللجوء إلى إطار نظري معين أو اتخاذ موقف للتفسير.
وأول أساطير الفكر الإستشراقي التي تكشف زيف موضوعيته، كانت ادعاءه تجانس هويته العرقية والحضارية بالقول بوجود استمرارية تاريخية بين حضارة اليونان القدماء وفكر عصر التنوير وأوروبا الامبريالية والتي أصبحت مصدر النزعة الإنسانية العلمانية، والادعاء بأنه ما نتج عن تلك الحضارة من فلسفة وعلوم كان وليد تطور الفكر اليوناني وحده ، ولكن الكثير منا بات يعرف الآن أن الإغريق بالحقيقة تأثروا بشدة في ثقافة جيرانهم الأقدم والأغنى والأقوى واقتبسوا منهم، ومن بين هؤلاء حضارة مصر القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
أما الأسطورة الثانية التي بناها الفكر الإستشراقي حول أصوله الثقافية، هي أن حضارة الإغريق كانت أول تجربة ديمقراطية مقابل مجتمعات آسيا المستبدة، أما الحقيقة فهي أن المدن الإغريقية كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وكانت مجتمعات يحكمها طغاة أو حكومات أقلية أو نخب تنتمي الى عائلات أو قبائل محلية قوية أو مسيطرة على قبائل منافسة، أما المواطنون الأحرار فكانوا أقلية والعبيد هم الأكثرية.
حتى إنه في رحلة بحثه عن الأصول قام فكر الإستشراق بتهميش تاريخ الإمبراطورية الشرقية ( البيزنطية )، بسبب التأثيرات الشرقية والعربية التي أفسدتها !
كما تمّ تجاهل وطمس ما للعرب من حضارة مميزة في العصور الوسطى تمّ الحفاظ فيها على تراث الحضارتين اليونانية والرومانية وتطويره، الأمر الذي سمح لأوروبا في القرون الوسطى لاحقاً الاتصال بذلك التراث وبعث نهضتها من جديد. وليس غريباً أن نجد اليوم من يقول بأن ذلك التراث قد تمّ اختراعه لأنه ليس له وجود أصلاً1.
بدايات الإستشراق
في القرنين الخامس والسادس عشر بدأت تظهر دراسات عن لغات وأديان وثقافات هذا الشرق وكان للإسلام النصيب الأوفر منها، وقد ساعدت الاعتبارات السياسية والتجارية للدول الأوروبية على تطور حركة الإستشراق، فاستحدثت في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج في منتصف القرن السابع عشر كرسي للغة العربية، وفي فرنسا استحدثت أول كرسي للغة العربية في العام 1539، وبشكل عام إحتوت تلك الدراسات على تقييمات نزيهة موضوعية بل كانت أحياناً مفتونة بالدولة والمجتمع العثمانيين.
وفي نهاية القرن السادس عشر وبسبب انحطاط الدولة العثمانية بدأت تتغير وجهات النظر فكل ما كان يعتبره الأوروبيون جديراً بالإعجاب في المجتمع العثماني أصبح عيوباً وأخذوا يصورون الأتراك بشكل متزايد كمستبدين وفاسدين.
وفي القرن الثامن عشر بدأت الدول الأوروبية التدخل في الأقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني، وأصبح المفكرون السياسيون في عصر النهضة يعتبرون مجتمعهم قائماً على الحرية والقانون، وفي المقابل أصبحت الإمبراطورية العثمانية تعتبر المثل المعاصر للإستبداد.
وعلى يد المفكر الفرنسي مونتسيكو (1689-1755) تطور المفهوم ليصبح ( الإستبداد ) سمة عامة للشرق كله الأمر الذي أفسح في المجال لظهور مصطلح “الاستبداد الشرقي” وهو الذي عرض له مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) L’esprit des lois حيث رأى أن المناخ والجغرافيا في أوروبا يجعلان الناس يميلون للحفاظ على حريتهم، بينما المناخ الحار في الشرق يدفع بهم ليكونوا أذلاء لذلك كانت السلطة في آسيا إستبدادية.
في عصر التنوير الأوروبي تمّ الكف عن النظر للإسلام كنقيض للمسيحية بل أصبح ينظر إليه كمشروع حضاري مختلف و منافس، لذلك كانت الدراسات الاستشراقية في تناولها لحضارة الإسلام أكثر موضوعية وإنصافاً. أما في القرن التاسع عشر فقد بدأ يغلب الدافع السياسي على المعرفي في فكر الاستشراق وتحول إلى مؤسسات بحثية متخصصة. ففي باريس أقيمت مدرسة للغات الشرقية العام 1795، وفي العام 1873 انعقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين ومنذ ذلك التاريخ انتظم عقد هذه المؤتمرات.


1758- 1838 ) دوراً مهماً في تطوير فكر الاستشراق سواء على صعيد المنهج أو نوعية الأبحاث المقدمة حيث نشر أبحاثاً وترجمات كثيرة بالعربية والفارسية والتركية وتتلمذت على يديه أجيالٌ من الباحثين والمترجمين وقدم المشورة في الشؤون الإسلامية للحكومة الفرنسية. وكان المنهج المسيطر على هذه الدراسات المنهج الفيلولوجي (فقه اللغة التاريخي المقارن) بينما تمّ العزوف عن استخدام المنهج الأنثروبولوجي – (الذي ستظهر أهميته السياسية لاحقاً كعلم خاص بالشعوب المستعمرة أو التي تخلصت منه، حيث سيتم التركيز في تلك الدراسات على الظاهرتين العرقية والقومية) – وعلم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ حيث كانت تعدّ هذه العلوم لا شأن لها بالموضوع .
كان لانعطافة الدول الأوروبية باتجاه التدخل العسكري المباشر في شؤون المشرق العربي دورٌ حاسمٌ في تغيير وظائف الفكر الاستشراقي. (فنابليون بونابرت) الذي قام بغزو مصر سنة(1798م) استقى الكثير من معلوماته عن مصر من خلال روايات الكونت دي فولنى المنشورة سنة (1787م) عن رحلته في مصر وسوريا، وبما أن بونابرت كان يؤمن بالدور التمديني لفرنسا فقد جلب معه فريقاً من الباحثين والعلماء الذين أجروا دراسات شاملة صدرت لاحقاً في مجلدات بعنوان (وصف مصر).
وعلى يد الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) اختلفت الرؤية لتاريخ العالم من تعاقب دول وإمبراطوريات إلى تعاقب حضارات، حيث كل حضارة تحمل عبقريتها المميزة، وتضمحل هذه الحضارة بتحرك الروح المطلق التي كانت بالشرق في مرحلة الطفولة لمرحلة البلوغ بعد انتقالها إلى الغرب. كان هيجل يرى أن الدور المميز للإسلام يكمن في حماية تراث الحضارتين الإغريقية والرومانية من الاندثار والضياع، ونقله لأوروبا وهو بذلك يكون قد ساهم في نهضة أوروبا الحديثة، ولكن في تاريخانية هيغل تبقى المقارنة قائمة بين غرب يتمتع بفضائل العقل الإغريقي في مقابل جمود الشرق وانغلاقه باعتباره سمة لليهودية وللإسلام المتعصب ( بريان تيرنر 1081/15)2.


الإستشراق همّش تاريخ الإمبراطورية البيزنطيّـــة وتجاهلــــه لإعتباره أن التأثيرات الشرقية والعربية «أفسدتها» !
وخلال القرن التاسع عشر وبسبب النشاط الاستعماري المحموم لأوروبا تأثر الفكر الاستشراقي بالعرقية البيولوجية، وكان أبرز مروجيها المستشرق الفرنسي (آرنست رينان) حيث بلور في محاضرة له سنة 1883 تحت عنوان: “الإسلام والعلم” أطروحة تقول بـ “انحطاط الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعاليمها إلا من هذه الديانة. وانغلاق عقل كل مؤمن صادق)، أما كيف لذلك المسلم البدوي المتعصب والغبي بحسب زعمه أن ينتج علماً وفكراً فلسفياً في العصور الوسطى؟ فإنه يجيبنا على هذا اللغز بقوله: “إن هذا المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدون باللغة العربية، هو في الحقيقة تراث إغريقي ساساني وقد يكون أكثر دقة أن نصفه إغريقياً احتفظ بهما المسيحيون المحليون والملاحدة الحرانيون تحت القشرة الإسلامية، وان ذلك كان لحظة تفوق مؤقتة للشرق انقلبت بعد ذلك إلى دونية متأصلة” ..”فالعربي البدوي هو أكثر الناس شاعرية ولكنه أقلهم ميلاً للتأمل والتصوف، وعندما كان الإسلام منحصراً بالعرق العربي طوال الفترة الممتدة من الخلفاء الأربع إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافية مستقلة عن الدين” . فمجيء “الدولة العباسية مثَّـل انبعاثاً جديداً لمُلك كِسرى، وكانت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسية المنبعثة من جديد”.
آراء رينان سالفة الذكر هذه مارست تأثيراً كبيراً داخل الفكر الاستشراقي وخارجه كما إنها ساهمت إلى حد كبير في إعادة صياغة فكر النخب المغلوبة لحوالي قرن من الزمان أو يزيد قليلاً، بل يمكننا القول إنها ما زالت تمارس تأثيرها حتى يومنا هذا.
مناظرة الأفغاني- رينان
جرت محاولة مهمة للرد على أفكار رينان السالفة الذكر، قام بها المفكر الإسلامي الإصلاحي (جمال الدين الأفغاني) فدحض ما تضمّنته تلك المحاضرة من مقولات عرقية دونية بحق العرب والإسلام، وتمّ نشر الردّ بالفرنسية في صحيفة “المناظرة” Le Debat بتاريخ 18/5/1883، وقام رينان بالتعقيب عليه لاحقاً في نفس الصحيفة في اليوم التالي، فتحولت بذلك إلى مناظرة بين الشرق والغرب، لكن نسيت في ما بعد كل الردود بإستثناء ردّ الأفغاني أو تمّ تناسيها وإغفالها قصداً. وكانت المفارقة الكبرى أن هذا الرد أثار عند نشره سخط المسلمين المحافظين، بينما حظي بإعجاب رينان والمثقفين الفرنسيين. وبدأ الحملة ضد الأفغاني الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) عندما انتقى عبارات من رد الأفغاني بشكل مبتور، ثم نقل عنه اغلب الدارسين هذه الصورة المشوهة للنص. وبقي النص الحقيقي للرد مجهولاً ومعتّماً عليه حتى تاريخه بسبب خطورته، والخطورة تكمن في أن الأفغاني برغم دفاعه عن الإسلام والعرب، إلا أنه سلم لأرنست رينان بصحة الكثير من انتقاداته الحادة تجاه الإسلام والمسلمين .
جاء رد الأفغاني على رينان مسلِّماً بالقضايا التالية (أقر بأن الإسلام الرسمي – أي كما مورس من الحكام في عصور متأخرة) حاول خنق العلم وعرقل تطوره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وردع العقول عن البحث في الحقائق العلمية) وأضاف الأفغاني القول: “لكن الديانة المسيحية لم تكن على علم براء مما شابه هذا. وإني لأدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية، والمؤمن عندهم مدعو للابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية. أدرك هذا تمام الإدراك، لكنني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية قائلاً يتحول بتقدم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. ولا ينكر احد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات” ثم يتوقف الأفغاني في ردّه متسائلاً (كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظل هذا المشعل منطفئاً والعرب غارقون في لجج الظلام؟”
“هنا تبدو الدولة الإسلامية مسؤولة، ومن الواضح أن الاستبداد أعانها إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين.”


منطق تبشيري
وجاء تعقيب رينان على الأفغاني ليقول مادحاً صاحبه الذي وافقه الرأي تقريباً في كل ما ذهب إليه (إن الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضد الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: “إن أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمة بعد اليابان، إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة محل خلاف بيننا. لا كل ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كل ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتاج الدين المسيحي ولا كل ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام، هذا هو المبدأ الذي اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس” ثم يختم رينان تعقيبه بالقول: “خلال رحلاتي في المشرق وجدت أن مصدر التعصب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوة للممارسات الدينية، وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدمها للمسلم هي أن نحرره من السلطة الدينية”.
بذلك المنطق التبشيري الذي يعطي للمستعمر الأوروبي الحق باستخدام القوة ضد الشعوب المغلوبة، وتغطية مصالحه الاستعمارية برسالة التمدين والمدنية، سوف يختم رينان رده على الأفغاني.
مفهوم الأمة والمصالح المشتركة
وفي محاضرة ثانية له بجامعة السوربون في 11 آذار 1882 تحدث رينان عن مفهوم الأمة باعتباره شيئاً جديداً على التاريخ نافياً أن يكون للعرق أو اللغة أو الدين أو الاشتراك بالمصالح المشتركة أوما تكون أجنبية أو إثنيه تسيطر على نحو استبدادي على الكتلة الاجتماعية، لذلك توجد هوة واسعة بين الحاكمين والمحكومين وقد اعتبرت تلك المجتمعات مفتقرة إلى الوحدة العضوية والتماسك المميزين للمجتمعات الغربية فهي على العكس خليط متنافر أو بشكل أكثر تأدباً (فسيفساء) من جماعات دينية وإثنية وعشائرية وقبلية ومهنية وعرقية تحكم نفسها إلى حد كبير وغير مترابطة وغالباً متعادية. تلك هي الصورة بحذافيرها التي استحضرها المستشرقان ( جيب وبوين) عن المجتمع العثماني في مراحله الأخيرة والذي يربط المجتمع ببعضه ويمنعه من الانهيار هو وجود الإسلام والمؤسسة الدينية واللذين يعملان كغراء اجتماعي يمنع المجتمع المسلم من التفسخ إلى أجزاء .
ويؤكد جيب وبوين في بحثهما المشترك (1950) فرضية المستشرق الألماني غرونباوم (1970) بأن تاريخ الإسلام هو تاريخ انحطاط، وإن الحضارة الإسلامية لها سمة أساسية هي الركود والاستبداد.
وفي أبحاث له حول (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) انطلق جيب من فرضية وجود “عقل عربي” أو “عقل مسلم” ثابت ومميز وكلاهما مشتقان من العقل السامي الأكثر بدائية حيث كتب يقول (وبالتالي فإن رفض أنماط العقلانية وأخلاق المنفعة التي لا تنفصل عنها لا تكمن جذورها في ما يسمى ظلامية اللاهوتيين المسلمين، وإنما في تذرّر وتفكك الخيال العربي ) .
على قسم مهم من فرضيات آرنست رينان وهاملتون جيب سوف يبني المفكر العربي( محمد عابد الجابري) مشروعه في نقد العقل العربي بالتسليم بوجود عقل عربي مشرقي له بنية تاريخية هرمسية منعته من إنتاج الفلسفة والتأمل العقلي ودفعت به إلى الغنوصية أو العرفان يقابله عقل مغربي برهاني ( بياني) هو فكر إغريقي الأصول، دخل في قطيعة مع الأول وقد عرفته بلاد المغرب على يد فيلسوف قرطبة ابن رشد شارحاً مؤلفات الفيلسوف أرسطوطاليس.
ثم جاء بعد جيب المستشرق (برنارد لويس) ليوظف كل الفرضيات المنحازة والنظرة العرقية الدونية لتاريخ الشعوب العربية في أبحاثه بدأها بسلسلة محاضرات سنة 1963 5 فبرأي لويس التناقض الأساسي بالشرق هو العداء والصراع المستمر بين الرعاة والمزارعين وهو عداء مستحكم قديم وأقدم تاريخ مسجل لهذا العداء بينهم، موجود في بعض مقاطع سفر التكوين بين (هابيل) الراعي و( قابيل ) المزارع أما في الشرق الأوسط على العكس الرعاة هم الذين سوف يقتلون المزارعين ويبنون حكمهم على أشلائهم (1965م/ص 5 ) وهو الذي سيدافع عن دولة (سايكس بيكو) ودورها التحديثي وهي التي سيحاربها الفكر الإسلامي باعتبارها وثناً أو صنماً يدعو إلى الإلحاد و العلمانية، لذلك يجب هدمه حين فرقت بين المسلم وأخيه المسلم، لذلك كانت (أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط)6.
وهي وجهة نظر سيتم اعتمادها من قبل الباحث (محمد جابر الأنصاري) في أبحاثه عن الدولة القُطْرية7مراهناً على دورها الايجابي والتحديثي في نقل المجتمعات العربية من طور البداوة إلى طور الحداثة، والتجزئة هنا ليس مردها لوجود الدولة القُطرية، بل بسبب وجود الفراغات الصحراوية غير المأهولة بالسكان والتي يناسبها نمط الاجتماع القبلي والعشائري أي طور الاجتماع في مرحلة ما قبل (الدولة/الأمة). والدولة القُطرية هنا سوف تستعيد نفس الدور التجميعي الذي لعبته الإمارة الإقطاعية في أوروبا قبل الانتقال لمرحلة (الدولة/ الأمة)، وبذلك نجد أنفسنا من خلال وجهة النظر التي يتبناها الباحث، أمام ضرورة التسليم بكونية المسار الأوروبي للتطور كنموذج حتمي ووحيد، يجب على كل تجارب الأمم الحديثة استعادته في المستقبل، هذا هو الوهم الاستشراقي الكبير الذي غذى شعور التفوق لدى الغربيين والذي تحول مع الوقت إلى المبرر الأخلاقي الضمني لفلسفة الاستعمار ولعملية اقتسام العالم بين الدول الكبرى الغربية، كما إنه لا يزال هو الدافع الأول للصراع الدولي المحموم حول هذه المنطقة ولمشاريع التفتيت التي نشطت بصورة غير مسبوقة للسيطرة عليها.


الجباعي عاب على الفكر القومي العربي خلطه بين العرق واللغة والدين ومفهوم الأمة وركز على العقد الاجتماعي والمصلحة المشتركة كـأســـــاس لقيام الكيانات الحديثة

