الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الاخيرة

الضحى

قبل خمسين عاماً

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

يا زمان الجاهلية

العالم من حولنا بغربه وشرقه يسير ويتقدم، بينما نتقهقر نحن من سيىء إلى أسوأ؟ العالم بدوله وشعوبه منهمك في العمل لتنمية الاقتصاد والعلوم وإيجاد فرص العمل وتوفير الأمن والرفاه للمواطنين، وقد انضوت أكثر تلك البلدان في شتى أنواع التكتلات الاقتصادية والإقليمية وتناست ماضياً طويلاً من الحروب والمآسي بعد أن أدركت أن الحروب، وبغض النظر عن الشعارات النبيلة التي تخاض باسمها أحياناً، لا يأتي منها إلا الأحزان والتخلّف والدمار والبؤس الإنساني.

عندما تنقسم الشعوب هناك فحول الحياة وليس حول الموت، حول المستقبل (مستقبل الإنسان) وليس حول الماضي، وهي تنقسم حول الخيارات الاقتصادية أو حول مسائل أساسية مثل الحريّات أو الإفتئات عليها أو حول خيارات كبرى تهمّ الجميع وتعنيهم، وكل هذه المسائل يتم التداول فيها عبر الحوار السياسي المفتوح أو في وسائل الإعلام وأشكال العمل السياسي الحرّ الأخرى، وعند الحاجة للحسم فعبر قرارات سياسية أو عبر الإنتخابات..
لا يُتصوَّر في العالم المتحضر أن يثير أي اختلاف في تلك البلدان نزاعاً أهلياً أو أزمة وجودية…بصورة خاصة لم يعدّ وارداً لتلك الشعوب المتقدمة في ميادين العلوم والاقتصاد والتعليم والثقافة أن تنقسم حول شأن ديني أو اعتقادي، لأن الدين أصبح بالممارسة، وبحكم القانون، متعلقاً بالحرية الشخصية وحرية الاعتقاد، أما المواطنية فواحدة. ولم يعد مسموحاً بالتالي للنظام السياسي أن يتخذ لنفسه ديناً أو مذهباً لأن “الدين لله والوطن (أي الدولة) للجميع” وفق الشعار الذي رفعته الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي..
لاحظوا معنا أن الديانات الثلاث السماوية الموسوية والنصرانية والإسلام انطلقت من منطقة الشرق الأوسط لتصبح ديانات عالمية تعيش في معظم دول آسيا أو في دول أوروبية راقية في سلام، وإذا كنا نشاهد في تلك المجتمعات توتراً أو مظاهر عنف معزولة فإنما ذلك بسبب هستيريا العنف والتدمير المتبادل التي ننهمك فيها نحن في أرض الرسالات، فنحن مرضى بالعنف لكننا نضيف إلى ذلك القدرة على تصديره أو نقل فيروساته وتوزيعها في كل مكان، وإنها فعلاً لمأثرة نتفرد فيها في هذا الجزء التعيس من العالم.
نحن ورثة الوحي والأنبياء والرسل، لكننا لم نستطع تجاوز ثارات ونزاعات الجاهلية الأولى، وهذه المنطقة مصابة بالعنف الديني والاقتتال باسم العقائد منذ أن ظهر بنو إسرائيل ثم من بعدهم الكنائس النصرانية المختلفة ثم الفرق الإسلامية. وعلى عكس الشعوب الأوروبية التي تجاوزت ماضي الحروب والتنازع الديني أو القومي وانطلقت في بناء مجتمعات مزدهرة يعيش فها الجميع بسلام وكرامة، فإننا ما زلنا وبعد ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف سنة نرفض أن نتصالح، وأن نتحابّ، أو أن نتعاون في بناء حياة كريمة للجميع، ونفضل، على خيار الفطرة الإنسانية السليمة، خيار الحروب الجاهلية الباهظة التكلفة ولا نتردد في إنفاق جلّ مواردنا على أسلحة الدمار وفي تمويل عمليات سفك الدماء البريئة والتدمير الانتحاري لتاريخنا وعمراننا ومدننا الزاهرة في أتون النزاعات البدائية، ولا يوجد في الحقيقة نوع من أنواع التناقض أو التضادّ أو التكاره أو التفرّق السياسي أو الديني إلا وحافظنا عليه كما لو أنه مبرر وجودنا بحيث لا يمكننا العيش من دونه، بل إننا زدنا عليه تفرقاً ضمن التفرق وعداوات ضمن العداوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الدول التي قد نعتبرها صديقة تتفرج علينا وهي حائرة فعلاً في أمرنا وفي ما نبذُّره من موارد عزيزة وأرواح وفرص في هذا النزف العقيم، أما الذين يتربصون الدوائر بالمنطقة وشعوبها ونفطها ومصالحها فإنهم يبذلون أقصى جهدهم لكي يستمر هذا التقاتل العقيم حتى يستنزف الجميع وتسقط الطريدة بسهولة في يد الصياد.
لقد بعثنا برسالات المحبة والمغفرة والرحمة إلى العالم فصدّقها وقبلها وعمل بموجبها، لكننا نحن أصحاب القضية نفعل العكس، إذ نحوّل رسالات الرحمة والسلام إلى سيوف نقتتل بها، ويبيِّن ذلك أن المشكلة ليست في الأديان بل في نكوص أهلها عنها إلى ما كانوا عليه من جاهليات ونزاعات وتخلف.
فكروا أيها المتقاتلون وأنتم تهزجون بالانتصارات أو تطلقون شعارات الكراهية ضد بعضكم بعضاً: من الذي يراقب هذا المنظر وهو لا يكاد يصدق حظه.. فكروا من هو المالك الحقيقي لبيدر العنف هذا ثم انتبهوا فإن موعد الحصاد قد لا يكون بعيداً.

الصفحة الاخيرة

الصفحة الاخيرة

..ويحدثونك عن الديمقراطية

مع الإهتمام الكبير في المنطقة وفي الأوساط الإسلامية والمسيحية بمؤتمر الأزهر حول الحرية والمواطنة، ومع الإعلان التاريخي الذي يتبنّى بصورة رسميّة مبدأ المساواة بين المسلمين والمسيحيين ويدعو إلى الدولة المدنية الديمقراطية، فإن أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ المهتم هو التوجّه إلى شبكة الإنترنت ليرى ما سيرد من تفاصيل عن الحدث في وسائل الإعلام الغربية والمعلقين والمثقفين وطبيعة الترحيب الذي سيحظى به. أليسوا هم من يتهمون الإسلام بالتعصب والتطرّف؟ أليسوا هم من يجب أن يغمرهم السرور لهذه المواقف التقدمية، فيبادروا إلى تغطيتها بالتفصيل بهدف تعميم الفائدة وحث المسلمين في العالم على تأييد سياسات الاعتدال التي يعبّر عنها أكبر مرجع ديني لهم في العالم؟

لا تتعب نفسك! لأنك لن تجد مقالاً ولا خبراً ولا تعليقاً في الصحف الكبرى الأميركية أو البريطانية أو الفرنسية أو غيرها عن هذا الحدث الهام. وإذا أردت أن تتأكد فحاول أن تبحث في غوغل باللغة الإنكليزية عن كلمة Azhar conference on Freedom and citizenship ومهما حاولت فإنك لن تجد شيئاً! فهذا الحدث الذي يظهر سماحة الإسلام وعلاقات التآخي التاريخية بين المسلمين والمسيحيين وتمسكهم بالتنوّع وبثقافة الحوار والعيش المشترك لا يهم وسائل الإعلام الغربية لأنه لا ينسجم مع خط التحريض على الإسلام والمسلمين الذي تأتمر بأمره تلك الوسائل التي تدعي أنها تمثل الإعلام الموضوعي وتتبنى قيم التسامح.

لو حصل أي اعتداء من متطرفين معزولين أو مشبوهين أو مرتبطين بأجهزة استخباراتية دولية في شارع صغير في بلدة أوروبية لوجدت الحادث في اليوم التالي على الصفحات الأولى للصحف وفي مقدمات نشرات الفضائيات الأجنبية ومن خلالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكل ما يمكن أن يعمم الخبر الفظيع. لكن أن تجتمع قيادات دينية من 60 بلداً تمثل المسلمين بمختلف مذاهبهم والمسيحيين بمختلف كنائسهم للبحث في وضع أنظمة ومواثيق لبناء الدولة الديمقراطية العصرية وتساوي بين المواطنين وترفض التطرف فهذا لا يستأهل أي اهتمام من وسائل الإعلام المحترمة تلك !!

الغريب أنه لم تشذ أية وسيلة إعلام غربية فتنشر تغطية لهذا الحدث، أو على الأقل مقتطفات من الإعلان الصادر عنه. فما هو سرّ هذا الإجماع المريب على تجاهل تطوّر بهذه الأهمية؟ ألا يدعم ذلك القناعة الراسخة في المنطقة والدول الإسلامية بأن الإعلام الغربي ممسوك بالكامل من آمر واحد؟ ومن هو هذا الآمر سوى القوى التي تملك معظم هذه الوسائل أو تمثل مصدراً رئيسياً لتمويلها؟ ثم ألا يعني ذلك أن آخر ما يهم أهل النفاق في الغرب هو نشر ثقافة الاعتدال الديني خصوصاً بين المسلمين والمسيحيين وأنهم على العكس من ذلك يحبِّذون استمرار هذه الصورة السلبية عن المنطقة وعن المسلمين لأن ذلك يخدم مصالحهم بصورة مباشرة؟

شيخ الأزهر المفكر والمتصوف الدكتور أحمد الطيِّب ألمح بصراحة إلى هذا الحلف بين الإرهابيين بالإجرة الذين يدربون في الخارج لاستخدام أعمالهم المشينة في الحرب على الإسلام أو ما يسميه «الإسلاموفوبيا» وبين الإعلام المتواطئ في اللعبة عن طريق مؤامرة الصمت والإعلام الانتقائي وازدواج المعايير في التعامل مع الإرهاب «الإسلامي» ومع التطرف اليهودي أو المسيحي وهو مثلاً تساءل أمام المؤتمرين: «هل الإرهاب صناعة محلية، أو صناعة عالمية، أُحِكمَت حلقاتُها، ثم دُبِّرت بليل في غفلة» وهذا السؤال بات مشروعاً أمام المعلومات و»الأسرار المكشوفة» التي نشرت وما زالت تنشر عن الملابسات التي تحيط بعدد من الحوادث الإرهابية التي اتهم فيها مسلمون متطرفون (تمهيداً لاتهام الإسلام نفسه) ثم تبين أن الرواية تشكو من تناقضات كثيرة وأن الأدلة الحقيقية تشير إلى مكان آخر.

ويحدِّثونك عن الإعلام النزيه ..ويحدِّثونك عن الديمقراطية!!

الصفحة الاخيرة

عالمـــان

سيرة المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي بقلم الشاعر الأديب الشيخ سامي أبي المنى لا تؤرخ لماضٍ بعيد ولا تتحدث عن أحد رجال السلف الأقدمين، بل هي تعرض لحياة شيخ زاهد مجاهد كان قبل أسابيع يعيش بين ظهرانينا، ويعايش عصرنا نحن، عصر الأزمات والاستهلاك والضياع القيمي والإنترنت وغيرها من علامات الفترة؛ لكن سيرة هذا الرجل الرقيق العارف تُبيِّن أن كل هذا الضجيج الذي يبلبلنا ويحرمنا من السلام الذي ننشده لم يكن لِيمَسَّ منه شعرة؛ فهو اختار مساره منذ شبابه المبكر وسلك على كبار الشيوخ وتأسّى بهم وأخلص وثابر واستقام على صراط التقوى حتى النفس الأخير. لقد أثرت في نفسي سيرته الطاهرة لأنني وجدت فيها (كما وجدت دوماً في سير أوليائنا) مثالاً قوياً على القاعدة التي تحكم مجتمع العقال الموحدين وهي أن “أدب الدين قبل الدين” ويا لها من قاعدة ذهبية فعلاً لأنها توجِّه جهد السالك مهما ظنّ نفسه متقدماً في المعارف إلى زجر النفس والتخلق بأرفع الآداب والخصال، ومن السهل الحديث في أمر الدين أو المحاضرة في عمومياته لكن من الصعب حقاً نهي النفس عن الهوى ومراقبة السلوك واكتساب الخصال التوحيدية وفي رأسها اللين والحلم والعفو عن المسيء واحتقار الدنيا وقصر الأمل واستحقار النفس والإستغفار الدائم، فهذه الخصال لا تكتسب بكثرة القراءة بل بدوام المراقبة ومجاهدة الهوى والتأسّي بالصالحين والسير في أثرهم، وهي بالتالي خصال لا تتحصّل إلا لأولي العزم وأصحاب الهمم العالية.
ومن نعم الله على الموحدين أن جعل من جهاد النفس (وليس علوم الكتب وفصاحة التعبير) الركن الأساس للمسلك، ومعياراً يقاس به الإخلاص والفلاح في الطريق، وما أكثر العلماء اليوم لكن ما أقل الصالحين. لذلك فإن سير الموحدين لا يرد فيها أسماء مشاهير أهل العلوم أو المؤلفين الجهابذة لكنها زاخرة بسير الزُهّاد الفقراء الصالحين الذين يتناقل مجتمعنا مآثرهم من جيل إلى جيل. والموحدون الدروز هم بين مسلمي هذا العصر من الأكثر تعلّقاً بالمبادئ التي قام عليها الإسلام، وهم يتناقلون في مجالسهم سير الصوفية العظام من سلمان الفارسي إلى أبي ذر الغفاري إلى الجنيد وينهجون على أثرهم، كما هو جليّ في اللباس الإسلامي البسيط لعقالهم وللسالكين في أثر السلف من شبانهم، وفي حجاب الموحدات الأبيض المهيب المنسدل على لباسهن المحتشم وفي أدبهن وحيائهن. وهذا المجتمع المتمسك بالزهد الطبيعي وأعلى معايير السلوك والمحافظة لا نجدّ ظاهرة تماثله اليوم وسط أمواج التديُّن الضيّق والتعصّب والكراهية، والإنجراف في الوقت نفسه في مباهج الدنيا وكلّ يتعارض مع تعاليم الدين القويم.
وقد يكون مجتمعنا الأصيل يتعرض اليوم مثل غيره لما يعتمل في عالم المعاصرة والإتصالات من تأثيرات هائلة أصبحت عاملاً أساسياً في تخريب سلوك الأفراد والمجتمعات، لكن مثال الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي ومثال الأولياء الصالحين السابقين ومشايخنا الأجلاء يستمرّ في تقديم أنموذج جليّ وجذاب للرفعة الإنسانية والروحية في وجه هذه الجاهلية الجامحة للقرن الواحد والعشرين.
وربما يكون تبجيل المجتمع التوحيدي لأوليائه الصالحين ظاهرة تدلّ في حد ذاتها على بناء قِيمي خاص بهذا المجتمع، لكنه يسلط الضوء في الوقت نفسه على هذا التعايش الملفت بين عالمين مختلفين: عالم الشيخ أبو سليمان حسيب وأقرانه الأطهار وما يتصل بهم من مجتمع العقال والسالكين وبين عالم أهل الزمان، وهو عالم آخر تماماً من “مرجئة” الدين الذين تشغلهم الدنيا بمباهجها ومشكلاتها وهمومها عن التفكّر وإصلاح النفوس بالجهد وصحبة الأخيار. وبينما يشترك هؤلاء -لا شكّ في ذلك- في فطرة التوحيد، فإنهم يعوِّضون عن التقصير ربما بإظهار المحبة الصادقة لأهل الصلاح وتقديرهم، لكن دون أن يجدوا دوماً العزيمة الكافية للأخذ من معينهم والتزيّن ببعض ما يمثلونه من خصال التقوى وآداب المسلك القويم، لكنّها سنّة الله تعالى في خلقه وهو القائل:
}وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ{ (الأنعام: 35)

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

ماذا فعلتم بطعامنا؟

إحدى أكبر مصائب العصر الذي نعيشه هو أن أهل هذا الزمن باتوا لا يجدون قُوتَهم وإن كانوا “يأكلون” أكثر من حاجتهم، وبات ما يحصلون عليه “مأكولات” شتى لكن لا ينطبق على معظمها تسمية “الطعام” الحقيقي.
والطعام بكل بساطة هو الحياة، وهو العنصر المقرر للصحة الجسدية والعقلية والنفسية، هو العنصر المقرر لنوعية الحياة بصورة عامة. والقاعدة الذهبية للطب الطبيعي هي: “كما تأكل تكون”. إن كان طعامك طبيعيا وسليما فهو سيتحول داخل جسدك إلى قوة ومناعة وطاقة حياة . وإن كان طعامك جاهزا ومعلبا ومعالجا (ورفوف المخازن مليئة بأنواع تلك الأطعمة) فإنه سيكون على الأرجح خاليا من المواد المغذّية وسيتسبب بمختلف أنواع المشكلات الصحية الظاهرة والخفية، ومعظم الأطعمة التي تباع في المخازن محشوة بالنكهات الكيميائية أو الملونات أو المواد الحافظة بينما طعام المنزل بات بدوره معتمدا على مكونات جاهزة أو لحوم المزارع وخضار الزراعة الهرمونية والكيميائية والفاكهة المشبعة بالمبيدات فأين المفرّ؟
كم من أهل هذا الزمان لا يزال في إمكانهم أن يتناولوا الطعام الطبيعي الذي كان يتناوله أجدادهم وأسلافهم؟ كم منهم يستطيع القول أنه يحصل على الطعام المناسب لصحته الجسدية والفكرية؟ الجواب سيكون صادما لأنه لم يعد هناك إلا القليل ممن يمكنهم القول أنهم ضمن هذه الفئة السعيدة من المحظوظين.
وإذا كنا نخسر غذاءنا الطبيعي الذي حفظ صحة أجدادنا ومكنهم من التصدي لأشق المهام الجسدية فما الذي يبقى لنا؟ وإذا كان حسابك في البنك هائلا أو قصرك شامخا أو كنت وجيها أو غير ذلك من أسباب السرور بنفسك فما ينفعك كل ذلك إذا كنت لا تجد ما تأكل مما كان يتوافر لأي فلّاح بسيط قبل خمسين أو ستين عاما؟
وقد أفسح ضعف القيمة الغذائية لطعام هذا الزمان في المجال أمام ظهور صناعة متكاملة هي صناعة “المُكمِّلات الغذائية” والفيتامينات وهي صناعة لم تكن موجودة عندما كان الناس يأكلون مما تجود به طبيعة أرضهم وأسلوب عيش أجدادهم، ثم ظهرت صناعة خبراء التغذية أو أطباء التغذية وبات عمل هؤلاء أن يقرروا للناس كيف يأكلون وأي مُكمِّل غذائي يجب أن يتناولوه، وفي غالب الأحيان يتعلق عمل هؤلاء بمعالجة مشكلة زيادة الوزن والبدانة الناجمة عن فوضى التغذية وفساد الأطعمة الحديثة. وبين صناعة المكملات ونصائح الإنترنت وخبراء التغذية الذين يريدون أن يديروا حياتنا بتنا فعلا في حيرة من أمرنا وفي قلق دائم، والكلّ يسأل ماذا علينا أن نأكل؟ هذا السؤال الغريب لم يكن موجودا أبدا في قاموس السلف لأن الجواب عليه كان في ما تربّى عليه كل فرد من حياة الطبيعية والقرية والبساطة. كان الطعام الصحي وغالبا الطازج (أو غير المطهي) هو القاعدة ولم يكن موجوداً في حياة الناس إلا الطعام الطيِّب النافع غير الملوّث بمعالجات الصناعة وتجّارة الغذاء، لكنه كان طعاما ينتج الفرد أغلبه من أرضه وبجهده أو يشتريه من عند جاره، أو من سوق قرية مجاورة أو من بائع متجوِّل محلي، فلا حيرة ولا نصائح ولا خبراء، إذ كان الناس أسياد غذائهم بكل ما في الكلمة من معنى، وكانوا لذلك في هناء وحرية حقيقية لأن الحرية هي انتفاء العوز إلى أي شيء من خارجك وهي أن تكون سيِّد نفسك وسيِّد حياتك في مجتمع هو بدوره حرّ وغير مرتهن في عيشه بالأجنبي أو بحادثات الزمان.
أصل المشكلة هي أننا تركنا الأرض وخبرة الأرض وحب الأرض فحلَّت علينا “لعنة الأرض” وأصبحنا “فقراء” ومحرومين رغم كل ما جنيناه بعيدا عن أمِّنا الطبيعة من مال أو ثروات، وقد بات هذا هو شقاؤنا الحقيقي وأصل كل ما نعانيه اليوم.
كيف نعود؟ وإلى أين نعود؟ وهل بقي مُتَّسعٌ للعودة؟ كيف يمكن أن نستردّ حياتنا وحريتنا؟ كيف نسترجع غذاءنا الذي لم يعد في أيدينا؟ إنها أسئلة وجودية ليس هنا مجال الخوض فيها، لكنها نقاط للتأمل لأولي الألباب.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

أعمالُكُم عُمّالُكم

خطر في بالي شيء وأنا أمر كل يوم بركام النفايات والأنقاض ومخلفات البشر التي تنتشر على الطرقات. جاءني أن هذه الأوساخ ليست بنت الصدفة ولا هي نازلة هوت علينا من السماء. لا.. ليس الأمرُ أزمة مع هذه الشركة أو تلك، ولا هم السياسيون ولا هو نقص الأماكن المناسبة للتخلص منها..ولا أي سبب آخر. إنما هي شيء يتعلق بنا نحن، فهي إلى حد كبير أوزارنا كلها التي نكسبها كل يوم ويجمعها ملائكة كرام في حسابنا لا يتركون صغيرة منها ولا كبيرة، هي أوساخنا المعنوية وقد اتخذت شكلا يجعلنا نراها فينتبه كل ذي لبّ وتفكّر إلى ما وصلت إليه حالنا كبشر.

في مجالسِ السمر أو في كل مرة يجتمع شخصان أو أكثر، فإن أول ما يكون الحديث هو عن تردّي الطبيعة الإنسانية، عن انفلات الأنانية وقسوة القلوب، عن الطمع وظلم الإنسان للإنسان، عن ترك الأوامر والنواهي، عن النفاق، وهو أعظم كبائر الأزمان، عن تجارة الحقد وحرفة القتل الرائجة واللائحة طويلة.. مجالس السمر نفسها والأحاديث هي أيضا مجالس للشكوى من الزمان ومن الدولة ومن ضيق سبل العيش ومن المرض ومن سيول النفايات التي نزلت على البيوت والأحياء وأصبحت تقطع طريقنا وتكدِّر أيامنا وتحرمنا هناء الغفلة التي نغُطّ فيها.

الملفت هو أن الناس قليلا ما تنتبه إلى العلاقة بين الأمرين، أي بين تردي النفوس وزوال النعم وتردّي بيئة الحياة، فتشكو من كل أمرٍ دون أن تشكّ في أن يكون له علاقة بالأمر الآخر. بذلك أصبحنا جميعنا أهل شكوى لكن لا نجد إلا القليل من أهل الفطنة والاعتبار، وقد حذَّر المولى تعالى في كتابه الكريم مما نراه من إعراض ومن تجرّؤ على حدوده فقال، جلّ من قائل: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا{ (طه: 124). وجاء في الحديث الشريف: }إنما هي أعمالُكم تُردُّ أليكم{

وهناك قاعدة يعرفها أهل السلوك، وهي أنه لا يوجد فصل بين ما هو في داخل الإنسان وبين ما هو خارجه، فهما يتبادلان التأثير بصورة مدهشة. إن أمكن للمرء أن يصلح داخله وأن يجد حلاوة الطمأنينة والإنس بالحق تعالى، فإن كل ما حوله سينتظم من تلقاء ذاته، وسيلمس كيف يمكن أن يغيِّر محيطه دون أي جهد سوى الجهد الذي يبذله في إصلاح النفس ونصحها بل وزجرها. على العكس من ذلك، إن اضطرب حال النفس وابتعدت بها الوساوس والمعاصي ورزايا الأعمال عن الحق فإن العالم حولها سيبدو مخيفا متهاويا، لا تقترب من شيء إلا فرّ منها كما يختفي الهباء في الريح العاصف.

فيا أخي إذا مررت غدا بنفاياتنا السائبة فكرهت عيناك منظرها وعافت نفسك نَتَنَها فلا تبدأ باللعن ولا تتعب نفسك بهذا العبث ولا تهدر طاقتك في كيل اللوم. فكِّر قليلا كما يفكر العاقل الرصين، وانظر، لعلك ترى الخيط الموصل بين شقاء الحياة وبين شقاء النفوس وأنت رجل مؤمن بأن الجزاء من جنس العمل دنيا وآخرة. اترك مهنة الشكوى، ولا تَسَل عمن أوصل الحال إلى ما هي عليه، لأن الناس كلهم صالحُهم وفاسدُهم ليسوا إلا من خلق الله، والظالم المسلط على رقاب العباد هو من خلق الله، ونتوقف عندالعنت والفقر والمرض هي من خلق الله، والطبيعة التي لم تَعُد تجود بخيرها هي أيضا، وفساد البرّ والبحر وما يصيب بيئة الأرض من كوارث حيث قال تعالى: }سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{ (النمل: 93)

خلاصة هذا القول، الذي قد يراه البعض صادما، هو أن من الأفضل والأجدر اتخاذ نوائب الحياة وتغيُّر الأحوال وزوال النعم سببا للتفكر، والإقلاع عن الانشغال بما هو خارجنا والانتباه إلى ما في نفوسنا، وقد جاء في الحديث أيضا: }طوبى لمن شغله عيبه عن النظر في عيوب الناس{. ولهذه النصيحة سبب وجيه هو أنه مهما حاولنا أن نبدل واقعنا دون أن تكون البداية تبديل ما في النفوس فإنه لن يأتي إصلاح ولن يستقيم شيء، بل على العكس، فإن ما نراه من تفاقم العلة يجعلنا نخشى المزيد من العنت وسوء الحال.
}إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ{ (الرعد:11)
صدق الله العليُّ العظيم

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

الحياة هبة الموت

في جسد الإنسان تعاقب لا ينقطع بين موت وحياة جديدة. تعاقب يشبه إلى حد كبير شعلة الشمعة التي تنحل في الأثير لكنها تستمر ملتهبة بسبب ما يردها من قاعدة اللهيب من وقود جديد. بنفس المعنى فإن جسدنا الذي يبدو ثابتا ومستقرا على السطح هو في موت وحياة مستمرين، وحسب العلماء فإن كل ذرات أو جزيئات جسدك التي تعد بالمليارات بل الترليونات ستكون قد ماتت كلها وحلت مكانها ذرات جديدة كل 7 إلى 10 سنوات من عمرك.

بهذا المعنى فإن الحياة هي فعلا هبة الموت، لأنها لم تكن لتستمر لولا قانون التجدد عبر موت الخلايا التي تنسحب بهدوء مخلية الطريق لنشوءالخلايا الجديدة ، كما لو أن الحياة تستمر فقط بقوة ودفع غريزة العطاء وامحاء الجزء في سبيل استمرار الكل، مثل مياه نهر يتدفق نحو مصبه في بحر الحياة اللانهائية.

لكن يحدث أحيانا أن ترفض بعض الخلايا الموت وتقرر بدل من ذلك أن تتكاثر على هواها دون أي تنسيق أو ضبط لأهدافها مع أهداف ترليونات الخلايا التي تكوِّن جسدنا الشديد التعقيد. عند ذلك يحصل خلل وجودي في حياتنا نسميه: «السرطان». رغم أنه يصعب أن ننسب إلى خلية أو بضعة خلايا «إرادة» أو «قصد» معين فإن سلوك الخلايا الخبيثة التي تبدأ بالتوسع في جسدنا دون أي حساب للنتائج يمكن اعتباره تصرفا «أنانيا» وبسبب وجود هذه الظاهرة نعيش في حال خوف من أن تحدث في نظام جسدنا وتقلب حياتنا رأسا على عقب، وهذا شبيه بما يحصل لمجتمعنا المريض أيضا نتيجة تفشي الأنانية وانهيار قوى التضامن والتراحم والتعاون بين الناس.

والمقارنة قائمة لذلك بين جسد الإنسان الفرد وما يعتريه من أمراض وسقم نتيجة «الأنانية» التي تظهرها بعض خلاياه وبين جسد البشرية التي تعاني أيضا من سرطانات لا تحصى نتيجة تفشي الأنانية بين الأفراد والجماعات والقوميات والأديان والمذاهب. وقد بلغت الأنانية حدا يبدو معه النسيج البشري اليوم مثل هشيم من أجزاء متناثرة لا يربط بينها رابط كأن سرطاناً تفشى في أنحاء الجسد المجتمعي وانتشر في مختلف الأطراف، ولن يمضي وقت حتى يصيب القلب أو الرأس وعندها فإن البناء كله سيتداعى، كما يتهاوى جسد المريض الذي هاجت فيه أنانية بعض الخلايا المارقة أو الخارجة عن قانون الطبيعة.

كان المعلم كمال جنبلاط يعتبر أن الكون يمرّ في مراحل تحكمها قوانين تشبه القوانين التي نراها اليوم فاعلة في أجسادنا السقيمة أو مجتمعاتنا المبتلاة بشتى أنواع الصراعات وأشكال الدمار والموت. وكان يقول أنه في فترات السعادة والسلام تكون قوى الجذب نحو المركز Centripetal هي الأقوى، وهوما يؤدي إلى تماسك الكتلة أو الجُزَيئات حول النواة، وهوما يشبه في المجتمع البشري غلبة قوى التضامن والتماسك والفضيلة والمحبّة والسلام. أما في مراحلها الأخيرة فإن قوى الطرد إلى الخارج Centrifugal تصبح هي الأقوى في الحياة وهو ما يؤدي إلى تلاشي قوى الجذب إلى المركز لصالح قوى الطرد والتفكيك وتطبيق ذلك على عالمنا هو ما نشهده في كل تلك الظواهر الكونية من صراعات واقتتال شاملين بين البشر وزوال قيم الإخلاص والرحمة والشرف وانهيار البيئة الحاضنة للحياة البشرية في الجو وفي المحيطات وعلى اليابسة وتردي نوعية الغذاء الذي أصبح موبوءا ومختلطا بكل أنواع السموم، وتردّي نوعية المياه التي نتجرعها والهواء الذي نستنشقه، بل أننا نرى تفكك مكونات الحياة في تلك الأسقام التي عمّت وأصابت البشر حتى لم يعد هناك أصِحَّاء إلا في بعض القِفار المجهولة والأدغال البعيدة كل البعد عن حضارة البشر.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

إعلامُ السُّوء

أعترفُ بأنّني لا أضعُ في بيتي جهازَ تلفزيون أو راديو ولا أتابع أيّاً من القَنَوات الأرضيّة أو الفضائيّة، لذلك فإنّني والحمد لله أتمتّعُ بحياةٍ هانئة أقضي بعضها في الطّبيعة الجميلة والثّرِيّة المحيطة بمنزلي (والتي رتّبتُها بنفسي) أو في التأمّل في مُعتَكفي، وعندما تكون بي حاجة للاستزادة حول موضوع أو استقصاء شأنٍ جَللٍ فإنَّ مقصدي الأوّل هو قاعدة البيانات الهائلة للإنترنت، حيث يمكن الحصول – بجميع اللّغات – على أشمل المعلومات وأوثقها من “رأس النّبع” بمجرّد امتلاك تقنيّات التّنقيب وخبرة الإبحار فيها وتجنُّب متاهاتها. والإنترنت هي مصدر أساسيٌّ من مصادر الثَّقافة المعاصرة لأنّها مرآة العالم وبحر العلوم، وأهمُّ شيء فيها أنَّك تحصل منها بلحظات على كل ما تحتاجه أو تسأل عنه من أصول وفروع المعارف على اختلافها.

إنَّها معجزة عصر المعلومات الّتي لم ينتبه إلّا قليلون بعدُ إلى الأخذ بها بقوّة بهدف بناء محتواهم المعرفي وتكوين فَهمٍ أعمقَ للعالم ولِما يعتمل فيه من اتّجاهات وتيّارات وتطوّرات متسارعة في كل المجالات. هذا لا يُلغي بالطّبع أهميّة الكتاب وأهميّة التّراث المكتوب، لكنَّ الكتاب العربيَّ تأخّر كثيراً عمّا يحدث، فبتنا لا نجد في معارض الكتاب التي نرتادها إلّا القليل من جديد المؤلَّفات التي تستحقُّ أن تأخذ مكانها على أرفُف المكتبة، ليس كمجلّدات للزّينة أو إبهار الزائرين، بل كوسيلة مفيدة يمكن أن تزيد المرء علماً على علم.

وضعنا هذه المقدَّمة لكي ننتقل إلى المقارنة بين مصادر المعرفة والحضارة الإنسانية من كتاب أو من قواعد بيانات الإنترنت وبين الدَّور السّلبي إن لم نقل المُخرِّب الذي يلعبه إعلام الاصطفافات السّطحيِّ الذي سيطر على ساحة الإعلام في لبنان. السّلاح الماضي الأوّل لهذا الإعلام هو الشّاشة المستطيلة (والّتي ازداد اتّساعها لتحتلّ مساحة الجدار أحياناَ)، أما سلاحه الثّاني فهو سلبية المتفرَّج الكسول الذي يرتمي لساعات على مقعد وثير ويحمل الرّيموت بيد وشيء من الطّعام أو الشّراب بيد ويتابع باهتمام أو حماس هذا أو ذاك من برامج السطحية والتوتير والأنباء السّيِّئة.

التَّنافس على استرهان الجمهور وزيادة عدد المشاهدين جعلنا نقتبس من الأميركان – أو غيرهم – أحدث الأفكار والتّقنيّات المخصّصة لشدّ النّاس إلى الشّاشات ولو باختلاق القِصَص أو إثارة الغرائز والإبقاء على درجة كبيرة من التّوتر والإثارة حتى لا يفلت المشاهد ولو لنصف ساعة أو ساعة من أجل قِسطٍ من الرّاحة.

أكثر القنوات، تلجأ إلى برامجَ تسمّيها “حوار” وهي في الحقيقة “حوارات طرشان” ومشادّات كلاميّة مُصَمَّمة لاستثارة المتبارزين ــ وجمهورهم ــ وإظهار أسوإِ ما في السّياسة من فساد وإفساد. وهناك بعد ذلك إعلام التّشهير الفضائحيّ الذي نادراً ما يتّصف بالموضوعيّة أو باستقصاء صحفيٍّ نزيه، والنَّتيجة العامَّة لهذا الكوكتيل السامّ هو أن التّلفزيون بات أكبر سبب لهدم المعنويّات وتيئيس النّاس من حياتهم ومن بلدهم، وربّما هو سبب رئيس في تهافت الشّباب على الهجرة وترك البلد، لأنَّ من يشاهد تلفزيونات لبنان يتكوَّن لديه غضب وشعور عارم باليأس من البلد والقرف، وقناعة أكيدة ألّا مفرّ له من هذا المُستنقع إلّا النّجاة بنفسه عبر ركوب أوّل طائرة.

بالنِّسبة للَّذين لا يوجد لديهم إلّا خيار البقاء في البلد، مع من هم باقين، فإنّ إعلام الأخبار السيِّئة والتَّيئيس بات ربّما من أهمّ أسباب ارتفاع ضغط دمِ الكثيرين والإصابة بالاكتئاب أو أمراض التوتُّر والأرق وسوء الطِّباع، لأنَّ تجارة الحِقد والشَّحن لها أثرٌ نفسيٌّ خطيرٌ في اللّاوعي وهي تجارة تجعل نار الغيظ والكراهية ونوايا السّوء تضطّرم في صدور كثيرين فتؤذيهم، لأن “المكر السَّيّئ” لا يحيق إلّا بأهله كما جاء قي القرآن الكريم.

نصيحتُنا لكلِّ من يريد أنْ يُخْفِضَ معدّل التّوتّر لديه، وأن يحافظ على حدٍّ أدنى من السَّكينة والتفاؤل بالحياة في هذا الزَّمن الرَّديء، هي أن يعتمد صداقة الكتاب وثورة المعلومات على الإنترنت وينسى “صندوقَ الفرجة” هذا، أو قُلْ صُندوقَ الهمِّ والغمِّ وأخبارَ الشُّؤْمِ.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

من العيش ..

الى عد الأيام

كان أسلافنا يعيشون الأيام

أصبحنا نعدّ الأيام لكن لا نعيشها حقاً

عندما تفرغ الحياة من معنى مستمر هو معنى الطمأنينة والإنس بالله تبطل أن تكون وجوداً وتصبح «زمناً». الوجود الحقيقي بالله لا ينقطع والزمن هو وحدة قياس الوجود الفارغ. الوجود بالله ديمومة لا تشعرك بالوقت، الإنقطاع عن الله يجعلك وحيداً على بساط الزمان، خائفاً وجلاً.

لأن الله إن لم يملأ الزمان يجعله فارغاً مخيفاً فيتبدّى الوقت على شكل شبح الموت الزاحف. إنسان اليوم فقد الله فإذا هو قرين الموت يتبعه مثل ظله، هو في وحشة الغفلة حبيس الفراغ محروم من كل شيء ذي معنى وغارق في سراب الأشياء.

إنسان اليوم لا يعيش حقاً إلا بمعنى إنفاق الأيام المنصرمة من عمره، كما ينفق المرء رصيد المال، والحياة من دون الروح فقد دائم، وأيام تنقضي من دون كسب، وفي حديث للرسول (ص) أن «من استوى يومه فهو مغبون» أي من انقضى يومه ولم يزد في نفسه شيئاً من العلم ولم يرتق ولو درجة في مواجهة خصاله الذميمة فهو حتماً مغبون لأنه خسر ذلك اليوم الذي حسب عليه عند الله يوماً ولأن الحياة نعمة من الله لا يجوز تبذيرها، وإذا كنا نضن في حياتنا العادية بتبذير المال أو حتى الأشياء الزهيدة فكيف نتجرأ على طرح نعمة الوقت فنحيل الوجود الحق في خضم غفلتنا موتاً؟

في سياق قتل الوقت أو إنفاقه في اللاجدوى، صرنا فعلاً نمضي عيشنا نعدّ الأيام. الموظف يعيش يومه وعينه على آخر يوم في الشهر فهو يعدّ الأيام، والطالب كذلك يعدّ الأيام التي ينفقها يوماً بعد يوم قبل أن يصل إلى آخر يوم تحصيل ويعتبر نفسه حراً مع شهادة تخرّج، كذلك الصائم والمفطر والمبتلى بالدَّين والمبتلى بالربا والحسناء التي ترى انقضاء صباها والرجل الذي ظهر على مفرقه الشيب والقاضي والمحامي والعاطل عن العمل والمزارع والمسافر والقاعد والعاقل والجاهل كلهم يعدّون الأيام، ولا يحيون حقاً، لأن الله نزع بركة الوقت بعد أن فرغ الوقت من ذكره.

من علامات وحشة الوقت ما ابتلي به الناس من أنواع الأمراض والسقم والإكتئاب والخوف، وقلما يوجد اليوم إنسان لا يتناول عدة أنواع من العقاقير والأدوية. ينظر الواحد إلى علبة الدواء فيعدّ كم أحدث في كل مصفوفة من ثقوب وكم بقي من الحبات، فيعلم أنه أمضى عشرين يوماً أو خمس وعشرين يوماً وهو يتناول تلك العقاقير يوماً بعد آخر. والجوارح التي لا يكون عملها في مرضاة الله يبتليها الحق بعمل السخرة في معاينة ما ينيبها من فعل الأيام فتصبح كالمعلقة بين ما يجري عليها من صروف الدهر وبين السخرة في خدمة الدنيا فلا تذوق حلاوة الرضا ولا تقع ألحاظها إلا على الباطل والزائل من بضاعة الأوهام.

من علامات عدّ الأيام الانتظار والتوزّع الدائم للفكر بين ما مضى وانقضى وبين مجهول الأيام القادمة. وانتظار الأياميامأأا وغيوبها عبء على النفوس لكنه رفيق الرغبة والاشتهاءات لأن النفس الراضية في حال سكون وطمأنينة لا يحزنها ما مضى ولا يشغلها ما لم يزل في طيّ الزمان، لذلك كانت بركة الوقت في الماضي أن الناس تعيش أيامها دون أي قلق على صباح اليوم التالي بل كانت حتى في صباحها لا يخطر في بالها أي خاطر في ما خص رزق العشاء، ومعروفة قصة المرأة الصالحة التي تعجبت عندما أرسل لها من بيت الأمير السيد (ق) طعام يكفي للغداء والعشاء فردّت طعام العشاء قائلة إن طعام العشاء سيأتي في وقته، وإنها ليست منشغلة بشأنه لأن ثقتها بالله تعالى تامة لا يشوبها أي شك.

“الله حسبي، كفاني ربي» هذا هو لسان حال العبد المؤمن، أما الحائر الغافل فهو في تفكير دائم: “من أين سيأتي رزق الغد؟”..

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

تضامنـــاً مـع السوريين في لبنان

منذ عشرات السنين يعتبر وجود الأخوة السوريين في لبنان عاملاً أساسياً في حركة الاقتصاد اللبناني، فقد هجر اللبنانيون مع الوقت عدداً من المهن اليدوية في الزراعة أو في قطاع البناء ليتوجهوا إلى المغتربات أو ينتقلوا إلى نشاطات التجارة أو الحرف، وحل محلهم مع الوقت عمال وفنيون سوريون تأمنت بفضل وجودهم الورش والاعمال الزراعية وأصبح الكثير من النشاطات البسيطة أو التي تتطلب جهداً جسدياً معتمداً بصورة متزايدة فعلاً على مئات الألوف من العمال الأجانب والذين يأتي في طليعتهم السوريون. وقد بدا هذا الوضع طبيعياً بسبب القرب الجغرافي وبسبب العلاقات الخاصة بين البلدين والتي يمكن فيها للبناني زيارة سوريا وللسوري زيارة لبنان دون الحاجة إلى سمة دخول.

هذا الوضع لم يتغير في الحقيقة رغم الأحداث السورية وما نجم عنها من مآسٍ إنسانية ومشكلات نزوح، فالاقتصاد اللبناني في حاجة إلى مئات الألوف من السوريين الذين يتوزعون على قطاعات البناء والزراعة والعديد من المهن الأخرى. أما النازحون فقضيتهم مختلفة وتحتاج ولا شك إلى دعم عربي ودولي للحكومة للبنانية من أجل الوفاء بواجباتها تجاه هؤلاء الذين يعيشون في أوضاع صعبة للغاية وبسبب ظروف لا دخل لهم بها.

لذلك عندما أصدر الأمن العام اللبناني قراراته المتعلقة بفرض التأشيرة على السوريين وأضاف إليها سلسلة طويلة من الاشتراطات فقد استدعى ذلك على الفور ردود فعل شاملة من السوريين ومن بعض الحكومات الأجنبية، ونشرت في الوقت نفسه مقالات وتعليقات تحدثت عن سوء المعاملة التي يتعرض لها السوريون على الحدود اللبنانية بما في ذلك استخدام الضرب والإهانات والاستهزاء وكسر الهويات السورية على سبيل العقاب ورد الناس عن الحدود بصورة اعتباطية وإدخال تدبير غير مسبوق هو منع السوري من الدخول لسنة أو أكثر (!) عبر إدخال إسمه في قاعدة بيانات الأمن العام .

الحكومة اللبنانية محقة ربما في تذمرها من نقص الدعم الدولي وترك بلد صغير مثل لبنان يقلع شوكه بيديه في موضوع النازحين، لكن المشكلة ظهرت عندما اتخذت الحكومة نفسها موقفاً من السوريين لا يميز بين النازحين وبين من يعملون في لبنان منذ سنوات عديدة والكثير منهم مقيم مع عائلاتهم في شقق مستأجرة في البلدات المختلفة حتى أصبحوا جزءاً من سوق العمل فيها ومن نسيجها الاجتماعي ومن اقتصادها، والسوريون الذين يعملون في لبنان أكثرهم ينفق قسماً من دخله على الأقل في البلد ويخلق بالتالي طلباً على الحاجيات والسلع والخدمات.

لذلك وعندما بدأنا نسمع عن أصدقاء سوريين بعضهم أساتذة في مدارس خاصة وبعضهم مهنيون وحرفيون وقد تمّت أعادتهم إلى سوريا على الحدود أدركنا أن هناك خللاً ما. أحد هؤلاء أخذ معه عقد الإيجار وبطاقة العمل ومع ذلك قالوا له لا يكفي وأعطي لائحة بوثائق وتصديقات كلفته نحو 400 دولار قبل أن يسمح له أن يجرب حظه مرة ثانية ويسمح له بالدخول لكن لمدة أسبوع فقط.!

أحد مظاهر الخلل في السياسة الجديدة استحداث نظام الكفيل، وهذا النظام مستحيل التطبيق على العمالة المؤقتة ويمكن تطبيقه فقط في مؤسسات على عمالها الدائمين المستخدمين بعقود. إن أكثر العمال السوريين لا يمكنهم إيجاد وظائف ثابتة وعملهم موسمي وهم ينتقلون من ورشة إلى أخرى حسب توافر فرص العمل ولا يمكن بالتالي تطبيق نظام الكفيل عليهم، وإذا طبق هذا النظام فإنه سيجبرهم على البحث عن «كفالة» شخص يصبحون رهينته ولا يفيدهم في شيء.

لذلك فالذي سيحدث هو أن السوريين الباقين في لبنان سيتحولون إلى وجود غير منظم لأنهم لن يستطيعوا التقدم في لبنان لتجديد إقامتهم وفق النظام القديم كما إنه لن يمكنهم السفر عبر الحدود لتسوية وضعهم حسب الإجراءات الجديدة مما سيخلق وضعاً صعباً للغاية ويجعلهم رهائن فعلا ويسبب لهم وضعاً إنسانياً غير مقبول.

لذلك نقول إنه لا بد لأي تنظيم لوجود السوريين في لبنان أن يبدأ بالاعتراف بحقوقهم الإنسانية وبحاجة البلد إليهم وإلى جهودهم، وأن يقوم -إذا كان ذلك ممكناً- على التمييز بين النازحين وبين العمال. أما إذا تبين أن ذلك التمييز غير ممكن فيجب الحفاظ على الاتفاقات المعقودة مع سوريا حول حرية انتقال الأشخاص بين البلدين والبحث عن حلول واقعية للأعباء الناجمة عن النزوح أو لبعض المشكلات الأمنية التي قد يعتبرها البعض مرتبطة به. إن السوريين في لبنان مواطنون لهم كرامتهم وهم في حاجة لتضامننا وتفهمنا وليس إلى سياسات تمييز جعلت بعض الصحف الدولية تعيّرنا بالعنصرية وانعدام الشعور الإنساني.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

الحرام

الحلال هو ما أباحه الشرع ، وأما ما نهى عنه وحظّره فهو حرام. ومن يعدم التمييز بينهما، لا يستقيم به مسلك مثمر. فالإيمان والحرام لا يجتمعان. لكن هذه الحقيقة الأصلية لم يعد هناك مع الأسف من يعمل بها ويعتني بفرائضها حق عناية إلا من رحم ربيّ من القلة التي أنعم الله عليها بالحفظ.

من علامات زمن الفترة أو المحنة إستطابة الحرام والانغماس به فالمرء يتوهم أن ما يحصل عليه من حرام هو «كسب» بينما هو حجة عليه ووزر ثقيل. وهناك غريزة افتراس استيقظت وغلبت وأصبح الكثير من الناس ضالعين في فنون المكر ينصب كل منهم الشراك للآخر وعينه على ماله أو على ما يتمتع به لا يضيره أن ما يفعله إنما هو اعتداء وخيانة وفساد في الارض.

كان جيل البركة من السابقين والسلف الصالح يعتني أشد اعتناء بأمر الحلال والحرام، وكان راعي الماعز إذا قضمت إحدى ماعزه ولو بضعة أوراق من رزق أحد من الناس يسارع إلى حلب تلك المعز على كعب الشجرة التي أخذت منها لأنه كان يعتبر ما في ضرعها قد أصبح حراماً لأنه اختلط بحرام، ولو كان ذلك الحرام بضع وريقات من شجرة. وقد روي عن أبي يزيد البسطامي أن رجله زلت في أحد أزقة المدينة فتمسك بحائط لكي يقي نفسه السقوط، وما أن اعتدل في وقفته حتى سارع إلى باب ذلك المنزل وطرقه وعندما أطلّ صاحب الدار طلب البسطامي من الرجل أن يسامحه ويجيز له تمسكه بحائط داره.

وروي عن الشيخ الفاضل رضي الله عنه أنه أراد يوماً أن يشرب من عين البلدة ولم يجد ورقة جوز يضعها في الميزاب الحجري للنبع لكي يستطيع الشرب، وكانت العين محاطة بأشجار الجوز، لكنه ما قبل أن يستخدم ولو ورقة جوز واحدة قبل أن يعرف مالك الشجرة ويطلب منه أن يأذن له بذلك. وما هي ورقة الجوز؟ أنها لا شيء وليست لها أي قيمة، لكن الأولياء الصالحين كان همهم أن يقدموا المثال على دقة أمر الحلال والحرام وضرورة عدم التهاون أو الترخيص فيه. وكان ذلك أحد أعظم وجوه تعليمهم لأجيال زمانهم ولتلك التي توالت بعدهم.

وقد برز مؤخراً في منتصف القرن الماضي المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج من عبيه الذي ساد بتقواه وورعه وله سيرة مليئة بالمآثر والتعليم البليغ حول الحلال والحرام وسنأتي على تفصيل سيرة هذا الشيخ القدوة في عدد قادم من «الضحى» بإذن الله.

أين نحن اليوم من شيوخ التقوى والورع هؤلاء ؟ أين نحن من تعليمهم؟ وقد برزت في تبرير الحرام في أيامنا نظريات «التجارة» و«الشطارة» وأغمض الكثيرون أعينهم وهم يتناولون الباطل فقست القلوب وماتت الضمائر وسهل الكذب والغش. لكن بدل التصدي لمثل هذه المعاصي والكبائر إنشغل كثيرون عنها بأمور شكلية مثل أن يأخذ أحدهم على جاره تقاضيه لراتب من الدولة ولا يأخذ على غيره أو حتى على نفسه تقاضي المال من تاجر فاسد أو من صاحب ثروة مشكوك بمصدرها أو من مرتكب أو آكل حرام أو شارب خمر أو راش أو مرتشٍ.

الدولة اليوم هي دولة راعية تقدم خدمات الطبابة والتعليم والاقتصاد والرعاية الاجتماعية وتحافظ على أمن الأفراد وتقضي بين الناس وتقمع المرتكبين، وهذه الدولة، وإن لم يكن عملها قريباً مما هو مرغوب ومأمول، لا ينطبق مع ذلك على مالها ما كان ينطبق على مال السلطان الجائر في عصور الإستبداد وظلم الناس وإرهاقهم بالضرائب والسخرة وغيرها من الآثام. ومن كان يعتبر مال الدولة حراماً فليمتنع إذاً عن قبول خدمات الكهرباء والهاتف والمياه ولا يرسل اولاده إلى مدارسها وليرفض مساعدتها الصحية وكل ما يمتّ إليها بصلة، لأن العبرة ليست في النقود بل في التعامل حتى لو كان تسديد موجبات مالية لها ونحن لا يمرّ يوم لا نتعامل فيه بمختلف الأشكال مع الدولة وإداراتها ومؤسساتها!!

«الحلال بيّـِن والحرام بيِّـن» لكن لكثرة انتشار الحرام اختلطت الأمور وبات كل يجتهد على هواه. الأولى من كل ذلك هو مراقبة النفس واستيقان الحلال في رزقنا والصدق في كلامنا وإيفاء عهودنا قبل رمي الآخرين بالتهم والظنون. هذا هو الأمر المهم، أن نصلح ضمائرنا ونراقب عيوبنا وتقصيرنا وأن لا نتدخل ونحكم على هذا وعلى ذاك فذلك من الفضول الذي لا طائل تحته ولا يتأتى منه أي إصلاح بل هو فتنة بين الناس. -}قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) { (سورة الكهف).
أستغفر الله .

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

حديث الموت

أهل الدنيا يحبون الحديث عن الحياة، عن الأمل والمستقبل، وفي أيامنا على الأخص هم ربما لم يعودوا يتحدثون إلا في الدنيا والحياة. من المفارفات أنه بقدر ما يزداد اندفاعنا في مجاري الحياة والدنيا، كذلك يزداد حضور الموت بين ظهرانينا كأنما يوجد بين هذين الوجهين للوجود تواصل خفي وتكامل في حركة كل منهما.

الحياة والموت وجهان لصيرورة الوجود يتبع أحدهما الآخر كما يتبع الشيء ظله، لكن رغم هذا التلازم فإن قلّة هم الذين يريدون الحديث في الموت أو أن يتفكروا فيه، لذلك نجدهم يتصرفون في عيشهم كما لو أنهم يعيشون أبداً، وهذا من أشدّ وجوه الغفلة. نظرهم كله مركز على الحياة بل إن موقف الكثيرين من أهل هذا الزمان هو أنهم «يكرهون» الموت مع أن ذلك الموقف الذي يشبه موقف النعامة لا يبدّل شيئاً ولأن كلاً منا سيغادر هذه الدنيا في الموعد المضروب شاء أم أبى.

الله تعالى جعل في الموت رحمة وحكمة فهو عنصر إيقاظ من الغفلات ومحفز على الطاعات ومحرك للتأمل والبحث في حقيقة الوجود والتقرب من رب الوجود الذي لا يتفكّر بالموت ولا يتوقف عند معنى قهره غافل محروم من نعمة الحكمة، هو يعيش كما تعيش الأنعام لا تتحرك فيه إلا جوارح الجسد وأهواء النفس لأن الأنعام لا تدرك حقيقة الموت ولم تؤت ملكة التأمل في حقائق الوجود والهدف من خلقها فهي تمضي حياتها المرسومة تقتات من حشائش الأرض إلى أن تبلغ أجلها المرسوم.

من المصادفات اللافتة في هذا العدد من «الضحى» وجود ثلاثة من حكماء البشرية العظام الذين تطرقوا جميعاً إلى الموت بلغة وتعابير جعلت الموت يظهر في كلامهم باعتباره هو الأمر الإيجابي الذي يجب انتظاره وليس الهرب منه.

سقراط الحكيم مثلاً تحدّث عن الموت بلهجة إيجابية للغاية عندما قال للمحكمة التي حكمت عليه بالإعدام: « ان من يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه كما لو كان الشر الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم»! في مكان آخر يهزأ سقراط من أولئك الذين في مواجهة الموت يعتقدون أنهم سيمرون في «تجربة رهيبة» في ما لو ماتوا وأن في إمكانهم بالتالي أن يعيشوا إلى الأبد لو أنك أعطيتهم الفرصة لذلك» هنا يتحدث سقراط بكلام العارفين لحقيقة الموت عندما يخاطب المحكمة بالقول: «إذا كان الموت هو انتقال الروح إلى مكان آخر فأي شيء سيكون أفضل من هذا أيها الأصدقاء؟».

نأتي الآن إلى حكيم آخر هو تشوانغ زي أحد مؤسسي فلسفة التاوية في الصين القديمة الذي يعيب أيضاً على الناس الخوف من الموت بالكلمات التالية:
ما يدريني أن حب الحياة ليس إلا مجرد وهم؟ ما يدريني أن من يخاف الموت ليس إلا كطفل ضلّ الطريق فهو يبكي لأنه لا يجد السبيل إلى بيته»، أي ان الخوف من الموت سببه جهلنا لحقيقة الموت ولحقيقة أننا عن طريق الموت سنجد الطريق إلى بيتنا، والبيت هنا هو حقيقة وجودنا الأزلي التي أضعناها بسبب انبهارنا بمظاهر الدنيا وما تلقيه من حجب وأوهام فوق بصيرتنا الأصلية.

الحكيم الثالث الذي نتحدث عنه في هذا العدد هو تاج العارفين الجنيد البغدادي الذي يمكن تلخيص تعليمه كله بدعوة كل عاقل إلى ترك الدنيا على اعتبار أنه لا سبيل لنيل السعادة الحقيقية إلا بترك التعلق بالفانية (وهو بتعبير الجيلاني فعل «موتوا قبل أن تموتوا») والتفكر والمجاهدة سعياً لبلوغ عتبات عالم البقاء والصفاء وجنة السعداء.

هذه الملاحظات العميقة لحكماء عارفين يجب أن تدفعنا للتصالح مع الموت والإطمئنان إلى وعد الله الحقّ بأنه عودة النفس راضية مرضية إلى جواره وإلى جنته، بل يجب أن تشجع على التفكر في حقيقة الموت وليس الهرب منها على طريقة النعامة. وأعظم دلائل التفوق الذهني والذكاء الإنساني هو أن يرى المرء الوجود بكليته وأن يسعى لفهم اسراره وأن يقبل بحقيقة الموت باعتبار أنه ليس نهاية إلا لوهم الصورة والثوب الشحماني وأنه في حقيقته مفتاح باب الخلود ومعجزة لا تقلّ في معانيها ووظيفتها عن معجزة الحياة نفسها.

الضحى

صفحة أخيرة