بين «السَّعَادة» و»الحِكْمَة» و»الأخلاق» عُرْوَةٌ وُثْقَى وتناغُمٌ مُتكَامِل في الفكر الأفلاطوني.يتوقُ جميعُ البشرِ إلى السَّعَادة في الحياة، إنّما بالحِكْمَةِ المُسْتَمدَّة من العقلِ يُدرِكُ المَرْءُ القِيَمَ الأخلاقيّة ومِنْ ثمّ يُطبِّقُها في حياتِه اليومية مُنتهِجاً حياةً صالحة، وبذلك يكون قد اختار دربَ الحِكْمَةِ والشجاعة والعِفَّة والعدل وهي أسبابُ السَّعَادة الفعليّة. ويستندُ مَفهومُ أفلاطون في «الأخلاقيّات» (ēthikós, ἠθικός) إلى أنّ «السَّعَادة» (eudaimonia, εὐδαιμονία) هي الهدفُ الأسمى للتّفكيرِ والمَسْلِك الأخلاقيَين ووسيلةُ تحقيقها هي «الحِكْمَة» (sophía, σοφία) و»الفضَائلُ الأخلاقية» (arête, ἀρετή).
ويتردَّد ذلك المفهومُ الحِكْمَوي الخُلُقي للسَّعَادة في العديد من مُحاوَرات أفلاطون التي تبدو كقِطَعٍ متناغمة في لوحة فسيفساء بديعة ومتكاملة تُمثِّل نظرةً موحَّدة في جوهرها، بدءاً من المُحاوَرات الأولى وصولاً إلى آخرها عند بلوغه سنَّاً متقدِّماً، وهي كاللؤلؤ المنضود في تطوُّرٍ مفاهيمي يتبلور من مُحاوَرة إلى أخرى ليتبدَّى بوضوح أمام عينَي القارئ الحصيف القادر على ربط الأفكار المطروحة في مختلف المُحاوَرات على ضوء تعمُّقه بالفكر الأفلاطوني، ويُدرِك أخيراً مغزى ما أَلمحَ إليه أفلاطون، على لسان سقراط، في مُحاوَرة «أبولوجي» (Apology) عن «مُهمّته المُقدَّسة».
ففي مُحاوَرة «الجمهورية» (The Republic) تبدو السَّعَادةُ كحالةٍ من الرُّقي الخُلُقي تستند إلى قناعاتٍ ميتافيزيقية تتّصل بالحقيقة العُليا ومعرفة مِثال «الخير الأسمى» مبدأ كلّ الخيريّة. وكذلك شأن مُحاوَرتَي «المائدة» (Symposium) و «فايدروس» (Phaedrus) اللّتَين تتمحوران حول النفس البشرية وسُبُل الارتقاء بها وصَقْل فضائلها، في حين تتَّخِذ مُحاوَرةُ «فيدون» (Phaedo) البُعدَ الصوفي الأُخروي، ويؤكّد أفلاطون فيها جميعاً أنّ البشر ينشدون السَّعادةَ لذا يسعَوْن إلى الخير بقدر ما أمكنهم، ذلك الخير الذي يكمن في صميم أخلاقياته كما في عمق ماورائيّاته، فالحياة الخَيِّرة المستندة إلى الحِكْمَة هي مصدر السَّعادة للفرد والجماعة.
في هذا السَّعِي الأخلاقي لتحقيق السعادة، يتردَّد قولُ أفلاطون بأنّ هدفَ البشر وجبَ أنْ يكون «التشبُّه بما هو إِلَهِي» (Homoiôsis Theôi) (مُحاوَرة «ثياتيتوس» (Theaetetus))، أي اكتساب الفضائل والأخلاقيات العُليا من العلوم الإِلَهيّة على طريق معرفة «الحقيقة» أو «الحَق» (aletheia, ἀλήθεια) بأبهى تجلّياته!
فلسفة الأخلاق الأفلاطونيّة
تتجذَّر «أخلاقيّات» أفلاطون في صميم فلسفته، فهي السبيلُ كما يقول إلى «العيش على نحو أمثل». فمنذ أعماله الأولى على غرار مُحاوَرة «بروتاغوراس» (Protagoras) وصولاً إلى ثراء الفترة الوسطى لإنتاجه الفلسفي مع «المائدة» (Symposium) و «غورجياس» (Gorgias) و «الجمهورية» (The Republic) ترتقي مفاهيمُ نظريّته الأخلاقية لتبلغ ذروتها في هذه المُحاوَرة الأخيرة ولا سيّما «الكتاب الرابع» منها.
فمع نظريّته في المُثُل يخلُص أفلاطون إلى أنّه ثمّة حقائق أوّليّة / صُور عُليا فوق الأشياء المحسوسة نتوقُ إلى إدراكها فتمنَحنا فَهْماً عقلانيّاً مطلقاً لقِيَمها وظِلالها في العالم المحسوس، وبالتالي فهي تمدُّنا بمعرفة ما هو الأفضل والأمثل. ومن ثمّ فإنّ هذا التفكُّر العقلاني والتَّوق الرّوحاني يقودان بنا تحت أنوار الحِكْمَة وهُدَاها على طريق السَّعادة. فالإنسان يسعى دائماً إلى السَّعادة كحقيقةٍ واضحة يُدرِك أين تكمن بالعقل والمَسلك الأخلاقي، كما يقول أفلاطون في مُحاوَرة «غورجياس»، فما نتوقُ إليه حقّاً هو»السَّعادة» ولا شيءَ غير السَّعادة التي نكتسبها مِن الحِكْمَة والفضيلة والأخلاق. وأيُّ تقصيرٍ في تحقيق هذا الهدف هو فشلٌ في الغاية من وراء وجودنا.الحِكْمَة والعقل والفضيلة
يؤكّد أفلاطون منذ مُحاوَراته الأولى أنّ الفضائل الأخلاقية، وأوّلها الحِكْمَة وحُسْن الخُلُق والعدل والتقوى والشجاعة، هي في حالةٍ وحدة وتناغُم، وسرّ ترابُطها هو الحِكْمَة بكلّ أبعادها. فالإنسانُ الحكيمُ الحصيفُ الفاضلُ يُدرِك ما هو حقٌّ وصائب وما هو باطلٌ وخاطئ، فيسعى إلى القيام بما هو حقٌّ، ويبغض ما هو باطلٌ، فيكون بالتالي سعيداً بحكمته، إنّها مهارة تحقيق الفضائل، حيث يُشدِّد أفلاطون في ذلك على دور العقل، فلا يكتسب الفضيلة الحقَّة فحسب إلَّا مَنْ أخضع نفسَه لحِكْمَة العقل، وبذلك يتردد صدى قول سقراط الشهير «الفضيلة معرفة».
وفي الفترة المتوسطة من إبداعه الفلسفي، يؤكّد أفلاطون في مُحاوَراته الإبداعية أيضاً أنّ الفضائلَ الأخلاقية هي الوسيلةُ التي تَحدو بنا إلى عالَم السَّعادة. ويُشدِّد على النفس الفاضلة وما تنعم به من تناغُمٍ في قواها إنّما يُفضِي إلى السَّعادة بُهدى العقل، وهذا تماماً ما نستخلصه من مُحاوَرة «فيدون» (Phaedo).
وقد تطرَّق أفلاطون إلى مفهوم السَّعادة بشكلٍ خاص في ثلاث مُحاوَرات هي «المائدة» (Symposium)، و «الجمهورية» (The Republic) و «أوثيديموس» (Euthydemus).
«سعيدٌ هو مَنْ اتَّخَذَ الحِكْمَةَ مَنْهجاً وصِرَاطاً، وسعيدٌ هو مَنْ يَرنو إلى تحقيقِ السَّعادةِ بالفضيلةِ ومَكارِمِ الأخلاق». أفلاطون
«المائدة»: السَّعادة رؤية جَمال الحَق
في «المائدة» يضع أفلاطون حديث السَّعادة على لسان الطبيب الأثيني إريكسيماخوس (Eryximachus) الذي يؤكّد أنّ حُبّ «الحِكْمَة» هو الأكثر قدرة على تحقيق السَّعادة، ويوافقه الرأي الكاتب المسرحي أريستوفان (Aristophanes) مؤكِّداً أنّه «يساعد البشرية على تبديد الشرور ويستجلب أقصى سعادة للجنس البشري». ومن ثم يرقى سقراط بهذه الفكرة إلى الحُبّ المَحض لمِثال الجَمال بحدّ ذاته في وَجْدٍ صوفيّ عَبَّر عنه فيما بعد الفيلسوف توما الأكويني (Thomas Aquinas) بروحيّة أفلاطونية حيث اعتبرَ أنّ أقصى سَعَادة هي الرؤية الجليّة للحَق.
«الجمهورية»: السَّعادة تناغُم نفساني
يُماثِل أفلاطون في مُحاوَرة «الجمهورية» أولاً بين صحّة الجسد وصحة النفس،فكما تتبدَّى صحةُ الجسد بنظامٍ بدنيٍّ بديع، كذلك صحة النفس تتجلَّى تناغُماً نفسانياً وسلاماً داخلياً هو سرّ السَّعادة المنشودة، في حين أنّ اعتلال النفس هو نوعٌ من «حربٍ داخلية» بين قِواها حيث يطغى ذلك الجزء الشَّهَوي فيها على قوة العقل. وهنا يُقارِن أفلاطون بين النفس والدولة ويتحدَّث عن وجه التشابُه في نظامهما أَلا وهو العدل، فالنفسُ المتناغِمة هي نفسٌ عادلة، أي مُتَّسِمة بفضيلة العدل، حينما يحكُمها العقل وبالتالي «تصبح النفس حصينة ومنيعة عن غزوات الحظ».
ففي «الكتاب الأول» من المُحاوَرة حينما ينجح سقراط في تفنيد آراء مُحاوِره السفسطائي ثراسيماخوس (Thrasymachus) يؤكِّد له أنّ «العيش بسَعادة يعني العيش باستقامة أي بمنتهَى الخُلُق».وبذلك يُعيد تعريف المفهوم التقليدي للسَعادة عند اليونان ما قبل سقراط، فهي لا تتحقق من المُتَع الحسّية الخارجية بل من المُتَع العقلية والنفسيّة والرُّوحيّة المتأتية من نور الحِكْمَة وتهذيب الأخلاق.
مُحبِّو الحِكْمَة… سعداء!
تَتَبدَّى النظريةُ الأخلاقية لدى أفلاطون بكاملِ مفاهيمها في الكتابِ الرابع من «الجمهورية»، وتشتمل على عناصر من مقاربته في الإثبات الأنطولوجي «للموجود» ونظريتَي المُثُل والمعرفة بالتّشديد على القِيَم الحقيقيّة التي هي قِيَم المُثُل العُليا، وهي لا تنجلي إلّا للعارفين، والعارفون هم الأفاضل الذين يُحقِّقون الفضيلة، والأفاضلُ هم مُحبِّو الحِكْمَة السُّعَداء، سُعَداء في حياتهم المتَّسِمة بالتفكُّر العقلاني والتحلِّي بالفضائل الأخلاقية والسَّعي إلى معرفة «الحقيقة» بأقدس تجلّياتها (وبالتالي هم الحُكَّام الصالحون للدولة المثالية، الذين يُحقِّقون سعادة الدولة وسعادة الجماعة بضمان سعادة الفرد، ولا يكون ذلك إلَّا بالمبادئ الأخلاقية العادلة وقِيَمُ الحِكْمَة العقلانية، وهذاموضوعٌ آخر!)، فإذا ما تسنَّت لنا معرفة ذلك نختارُ العملَ الصالح القويم لإدراكنا أنّ الفضيلة والمَسلك الأخلاقيين سَعادةٌ ما بعدها سَعادة.
سَعَادة العقل!
لمّا كان القانونُ الخُلُقي عند أفلاطون قانوناً مُنطبقاً على الجميع فلا بُدَّ أنْ يكون قائماً على ما هو شاملٌ للخلق أجمعين، أي المبدأ الأوّل، العقل العُلوي.
ومن أجل معرفة الفضيلة الأخلاقية الحقَّة ينبغي أنْ نعرف ما هو الحقّ انطلاقاً من فَهْمٍ عقلاني، تلك هي الفضيلة الحِكْمَوية المؤسَّسة على العقل فالنشاط الخُلُقي يبدأ ويزدهر وينتهي بالسَّعادة، وبالتالي ذو العقلِ يَنعمُ في السَّعادةِ بعقلِه! وبذلك تُشكِّل السَّعادةُ الخيرَ الأقصى الذي يمثّله ذلك العُلوي- وفلسفة أفلاطون الأخلاقية في الحقيقة ليست سوى تطبيق لنظرية المُثُل.
ويخلُص أفلاطون، على لسان سقراط، في «الجمهورية» إلى أنّ الإنسان الصَّالح والمستقيم أخلاقياً هو الأكثر سَعادة، وأنّ الصَّلاح شرطٌ ضروريٌّ للسَّعادة، وأنّه يشمل جميع قوى النفس، العقلانية والشَّهويّة والغضبيّة، في توازنٍ بديع وتناغُمٍ يحكُمه العقلُ بالخير والحِكْمَة. ويضرب مَثَل «خاتم غيغز» (The Ring of Gyges) ليصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مَنْ يفقد السيطرة العقليّة على نفسه يُصبح عَبداً لأهوائه أمّا ذلك الذي يُبقِي العقلَ سيّداً على قواه النفسيّة فهو ذلك «الإنسان السعيد». ويؤكّد أنّ مصادر السَّعَادات الأخرى في الدنيا كالثروة والمُتَع الدنيويّة الزائلة هي أشكالٌ متدنّية بل وهميّة من السَّعادة.
«أوثيديموس»: السَّعادة كفاية الحِكْمَة!
لمّا كان القانونُ الخُلُقي عند أفلاطون قانوناً مُنطبقاً على الجميع فلا بُدَّ أنْ يكون قائماً على ما هو شاملٌ للخلق أجمعين، أي المبدأ الأوّل، العقل العُلوي.
ومن أجل معرفة الفضيلة الأخلاقية الحقَّة ينبغي أنْ نعرف ما هو الحقّ انطلاقاً من فَهْمٍ عقلاني، تلك هي الفضيلة الحِكْمَوية المؤسَّسة على العقل فالنشاط الخُلُقي يبدأ ويزدهر وينتهي بالسَّعادة، وبالتالي ذو العقلِ يَنعمُ في السَّعادةِ بعقلِه! وبذلك تُشكِّل السَّعادةُ الخيرَ الأقصى الذي يمثّله ذلك العُلوي- وفلسفة أفلاطون الأخلاقية في الحقيقة ليست سوى تطبيق لنظرية المُثُل.
ويخلُص أفلاطون، على لسان سقراط، في «الجمهورية» إلى أنّ الإنسان الصَّالح والمستقيم أخلاقياً هو الأكثر سَعادة، وأنّ الصَّلاح شرطٌ ضروريٌّ للسَّعادة، وأنّه يشمل جميع قوى النفس، العقلانية والشَّهويّة والغضبيّة، في توازنٍ بديع وتناغُمٍ يحكُمه العقلُ بالخير والحِكْمَة. ويضرب مَثَل «خاتم غيغز» (The Ring of Gyges) ليصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مَنْ يفقد السيطرة العقليّة على نفسه يُصبح عَبداً لأهوائه أمّا ذلك الذي يُبقِي العقلَ سيّداً على قواه النفسيّة فهو ذلك «الإنسان السعيد». ويؤكّد أنّ مصادر السَّعَادات الأخرى في الدنيا كالثروة والمُتَع الدنيويّة الزائلة هي أشكالٌ متدنّية بل وهميّة من السَّعادة.
لا سَعَادة من دون الحِكْمَة!
ما مِن طرحٍ فلسفي يستأثرُ بموقعٍ مِحْوَري في فلسفة أفلاطون مثل القول إنّ «الحِكْمَة كافيةٌ» لتحقيق السَّعادة، فمَنْ اكتسبَ الحِكْمَةَ كان سعيداً أيّاً تكن تقلُّبات الحياة التي تواجهه. وأكثر ما تبدّى ذلك في مُحاوَرة «أوثيديموس» المذكورة حيث يؤكّد أفلاطون أيضاً الأهميّة المحورية لكفاية الحِكْمَة في تحقيق السَّعادة. فبشكلٍ عام يُحقِّق المرءُ السَّعادة باكتساب العديد من «الخيرات» لكنّ الخير الوحيد الذي نحتاجه ويكفينا هو الحِكْمَة. فالحِكْمَةُ فيها الكفاية أيّاً تكن الظروف. و»الخيرات» الأُخرى إذا ما استُخدِمَت من دون حِكْمَة فلا خيرَ فيها لتحقيق السَّعادة.
ففي هذه المُحاوَرة يوضح أفلاطون على لسان سقراط: «الحِكْمَة هي حتماً حظٌ جيد «توفيق»، حتى الطّفل يعلم ذلك». ويقول سقراط إلى مُحاورِه الشاب كلينياس (Clinias): «إذاً، إنّ الحِكْمَة تجعل الناس محظوظين. فالحِكْمَةُ حتماً لا تُخطئ، بل هي بالضرورة صائبةٌ وتتيح النجاح». ويستدركُ قائلاً: «حينما تكون الحِكْمَة حاضرة، في مَنْ هي حاضرة، لا حاجة للحظّ الجيد».
فالحِكْمَةُ مثلاً لدى عازف الناي البارع، والنّحويّ المتميِّز، والربّان الماهر، هي التي تجعلهم محظوظين في عملهم وبالتالي سعداء. ويوافق سقراط وكلينياس على افتراضٍ أساسي: الجميع يرغب في أنْ يكون سعيداً، والسعادةُ تتأتَّى من الحصول على الخيرات «الدنيويّة»، كالصحّة والمجد والحُسن، وتنطوي السعادة على الاستخدام الصالح لتلك الخيرات. ويستنتج سقراط هنا أيضاً أنّ المعرفة الحكيمة هي السرّ وراء الاستخدام الصالح لتلك الخيرات.
ويقول لِمُحاوِره: سقراط: «إذاً، في ما يختصّ باستخدام أُولى الخيرات التي تحدّثنا عنها، أي الثروة والصحة والجَمال، أليست المعرفة هي التي تُوجِّه أفعالَنا وتجعلها صحيحة من ناحية استخدام تلك الخيرات على نحو صحيح، أو هناك شيءٌ آخر؟». كلينياس: بلى، المعرفة. سقراط: إذاً، هل من فائدةٍ لامتلاكنا أيّ خيراتٍ من دون حِكْمَة؟
ومن ثمّ ينتقل إلى المرحلة الثالثة من المحاوَرة التي يؤكّد فيها «كفاية» و«ضرورة» الحِكْمَة لتحقيق السَّعادة، وأنّ كلّ الخيرات ليست كذلك طبعاً في حدّ ذاتها بل ما إذا كانت الحِكْمَة تقودها، وإلَّا انقلبت شروراً إذا ما كان الجهلُ قائدَها، بل الخيِّريّة فيها هي في استخدامها الحكيم المُفضِي إلى السَّعادة، ليخلُص استنتاجاً إلى أنّ الحِكْمَة هي وحدها الخير بحدّ ذاته، والجهل هو الشر بعينه. وبذلك يُثبت طرح كفاية وضرورة الحِكْمَة لتحقيق السَّعادة.
ويستدرك سقراط قائلاً: «إذاً، دعنا نتمعَّن في ما توصّلنا إليه. فإذا كُنّا جميعاً ننشدُ السَّعادة، وإنّما نُحقِّقها باستخدام الخيرات على نحو صحيح، وبما أنّ الحِكْمَة هي التي تدلّنا على الصِرَاط القَويم وسُبُل النجاح، فباتَ من الضروري لجميع البشر أنْ يُهيِّئوا أنفسَهم بشتَّى السُّبُل لأنْ يتَحلَّوْا بالحِكْمَة ما أمكنَ لهم»، أي يقصد ليغدوا سُعداء!
ليست السَّعادةُ بمُتَعٍ حِسّية ومادية بل هي ثمرةُ حياةٍ تتَّسِم بالصلاح والخير. لذا فإنّ السَّعادةَ تُكتَسب بالتحكُّم العقلي برغباتنا وأهوائنا وخَلْق تناغُمٍ في قوى النفس، بما يستحدث سلاماً داخلياً مُباركاً.وطالما بَقي عقلٌ يتوق بشدّة لاستكشاف وفَهْم العالَم، طالما بَقي هناك فرصٌ لتوسيع نطاق الوعي وتحقيق حالةٍ من السَّعادة العقلية المتزايدة.
وكان الفيلسوفُ الروماني شيشرو (Cicero) يقول إنّ سقراط «أنزلَ الفلسفةَ من السّماء وأحضرها إلى الأرض»، ذلك إنّه قد أكَّد لنا: إنّ بوسعنا تحقيق المعرفة وإدراك الحقيقة ونَيل السَّعادة هنا على الأرض بالحِكْمَة والأخلاق والفضيلة.
ليست السَّعادةُ بمُتَعٍ حِسّية ومادية بل هي ثمرةُ حياةٍ تتَّسِم بالصلاح والخير.
أرسطو: سَعَادةٌ من وحي أفلاطون!
جديرٌ بالذكر أنّ الفيلسوف أرسطو تحدَّث من وحي معلِّمه أفلاطون عن السَّعادة بكونها ممارسةً للفضيلة واتِّسَاماً بالخُلُق الكريم، أو ما يدعوه الفضيلة الكاملة، فالسَّعادة بالتالي هي الغايةُ القصوى والهدفُ الأمثل لكل سعي في حياة البشر، وذلك كلّه يعتمد على العقل والأخلاق والحِكْمَة.
خاتَمَة
إذاً، بالمفهوم الأفلاطوني، سعيدٌ هو مَنْ اتَّخَذَ الحِكْمَةَ مَنْهجاً وصِرَاطاً، وسعيدٌ هو مَنْ يرنو إلى تحقيقِ السَّعادةِ بالفضيلةِ ومَكارمِ الأخلاق، وحُبِّ الفلسفة بل حُبّ الحِكْمَة، وانتهاجِ الحياة الفاضِلة المُتَّسِمة بأرقى الفضائلِ والعِفَّةِ وحُسْنِ الخُلُق،والسَّعي إلى معرفةِ «الحَق».. تلك هي السَّعادةُ الحَقَّة، بل غايةُ وجودِ الإنسان!
المراجع
Annas, J. 1999. Platonic Ethics, Old and New. Ithaca: Cornel University Press.An introduction to Plato’s Republic. Oxford: OUP, 1981.
Brickhouse, T. C., and N. D. Smith. 1994. Plato’s Socrates. Oxford: Oxford University Press.
Irwin, T. 1995. Plato’s Ethics. Oxford: Oxford University Press.Plato’s Moral Theory [1974] Plato’s Gorgias (1979).
Kraut, R. 1984. Socrates and the State. Princeton: Princeton University Press. ‘Two Conceptions of Happiness’, Philos. (1979).
Parry, R. D. 2003. “The Craft of Ruling in Plato’s Euthydemus and Republic”. Phronesis 48: 1–28.
Vlastos, G. 1991. Socrates: Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press.Platonic Studies 2 (1981).
Aristotle. Nichomachean ethics: Book VII.
E. R. Dodds. The Greeks and the irrational. 1966. Berkeley: University of California Press.
Ackrill, J., Aristotle the Philosopher, Oxford: Oxford University Press, 1981.
Ross, Sir David (1995). Aristotle (6th ed).
Dodds, E. R., Plato’s GORGIAS (1959).
Grote, G., Plato and the Other Companions of Socrates 1 (1865).
Gulley, N., The Philosophy of Socrates (1968).
Hume, D., Enquiry concerning the Principles of Morals (1977),
Taylor, A. E., Plato, the Man and his Work 6 (1949).