بلـدة سهـوة الحنّـاوي
في جبل العرب
تاريخ كفاح ومنارة العقل والصالحين
قدمت الشهداء في مقاومة محمد علي باشا والفرنسيين
ولجأ إليها سلطان باشا إبّان الحملة الظالمة للشيشكلي
زارها الرحالة والمستشرق السويسري بيركهاردت
وانتصر آل الحنّاوي فيها للأطارشة ضد آل الحمدان
آل الحناوي قدموا مجموعة من مشايخ العقل
أبرزهم أبو علي قسام الملقب بـ «سيف الدين»
شقيقان من آل غريزي من بتاتر في لبنان استشهدا بعد مقاومة بطولية ساعدت في تأخير اقتحام الجيش للقريّا وأعطت سلطان باشا فرصة كسر الطوق والتوجّه إلى السهوة
على السفح الغربي الأوسط من جبل العرب، وعلى مسافة نحو تسعة كيلومترات من مدينة السويداء مركز الجبل، بين مخاريط بركانية عدة منطفئة، تقع سهوة البلاطة، وهي قرية قديمة العمران أصلاً، القديم منها يقع على بلاطة صخرية، بل قل على مرتفع صخري منبسط يمتد باتجاه شمالي ـ جنوبي، يظهر هذا بوضوح بالنسبة للناظر إلى عمرانها القديم من جهة الغرب، ولا تزال ماثلة فيها بعض المباني القديمة التي تعود إلى عصور الإغريق ما بعد الإسكندر، والأنباط والرومان، والعصور العربية، إضافة إلى مقابر قديمة تشهد على عراقة عمرانها، ولابدّ أنّ وجود عدد من الينابيع قد ساهم بنشوء تلك القرية الأولى القابعة على الكتف الغربي لجبل «الرّيّان»، كما كان يسميه العرب قبل الإسلام، ومن هذه الينابيع نبع «عين الوسطاني» و «نبع الشلاّلي» و«عين زيدان»، لكن كل هذا لم يحل دون أن تمتد إليها يد الخراب التي طالما تطاولت على الجبل عبر التاريخ، بحكم موقعه على حافة جنوبية من الهلال الخصيب ممّا يلي بوادي الصحارى العربية، وهذا الموقع المفصلي بين الحضر والبادية، جعل سكّان الجبل منذ القديم على تناقض حاد مع البداوة، بما هي عليه من تهديد تاريخي للتحضّر والعمران.
ترتفع قرية السهوة القديمة الأولى عن مستوى سطح البحر نحو 1150 متراً، ويبلغ عدد سكانها على دفتر النفوس نحو الخمسة آلاف نسمة، أمّا عمرانها الحديث فقد تجاوز البلاطة الصخرية التي تتوّج التلّة التي تموضع عليها العمران القديم، وامتدّ لينتشر على تلال عدة متتالية الارتفاع باتجاه الشرق، وباتّجاه الغرب حيث يميل السفح الجبلي إلى انحدار ليّن باتجاه قرية رساس، غير أن القادم إليها من جهة الشرق لا يرى شيئاً من عمرانها للوهلة الاولى، وكأنه في حالة من السهو عن أن بلدة ما سيفاجئه ظهورها أمامه على غفلة منه، ولعل إسم البلدة جاء من هذا المعنى، فالسّهو، هو الغفلة والذهول عن الشيء، وفي اللغة: السهوة: الريح الليّنة، والصخرة لا أصل لها في الأرض، والليّن السهل الوطيء الملائم، وما يشبه الرّف توضع عليه الأشياء.
تبلغ المساحة العامة للأراضي الزراعية والحرجية والصخرية للقرية نحو 25000 دونم، ويتراوح ارتفاع تلك الأراضي عن سطح البحر ما بين 1050 متراً في الغرب، ممّا يلي قرية رساس، و 1600 متر من جهة الشرق مما يلي قرية الكفر وجبل القليب، ومن ضمنها مساحة المخطط التنظيمي العمراني للسهوة والبالغة ألفين وخمسمائة دونم تضم القرية الأثرية القديمة كنواة ينتشر حولها العمران الحديث على سفوح وقمم تلّية متموّجة تهب القرية طبيعة جبلية آسرة.
دخول آل الشومري
كانت السهوة في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر إقطاعاً من حصة الشيخ خطار الحمدان، أحد مشايخ آل الحمدان في السويداء، وقد أسكن هذا فيها الشيخ أبو حسين علي الشومري وآله المهجّرين قسراً من كفرقوق من ديار راشيّا الوادي في لبنان، إذ كان الموحّدون آنذاك يتعرّضون في سائر ديار جبل لبنان لاضطهاد منظم من قبل الشهابيين وأحلافهم من الفرنسيين وبعض أوساط الإكليروس بهدف تهجيرهم من لبنان وديارهم.
وهكذا كان آل الشومري، ممثّلين بشخص الشيخ أبو حسين علي الشومري، على ما يذكره الشيخ مهنّا الشومري، مختار السهوة الحالي، أول من سكن سهوة البلاطة من بني معروف الموحّدين.
المستشرق بيركهاردت
سنة 1810، في التاسع عشر من تشرين الثاني، زارها المستشرق السويسري جان لويس بركهارت ــ رحّالة من أب سويسري وأم إنكليزية، وهو صاحب كتاب رحلات في شبه الجزيرة العربية ــ موفداً من قبل الجمعية الملكية البريطانية، وكان هذا يتنكّر بشخصية رجل مسلم ألباني قد تضطلع بالعربية والقرآن وأحكام الشريعة تحت إسم الحاج عبد الله إبراهيم اعتقاداً منه أن ذلك سيسهل له رحلاته إلى المشرق والتعامل مع أهل البلاد، وهناك دلائل قوية أنه أسلم فعلياً في ما بعد. وصف بيركهاردت السهوة بالقول: « يمرّ بالسهوة وادٍ يدعى عين الطواحين ينحدر من عين موسى، وهو نبع قرب الكفر، ويجري نحو عرى. والسهوة قرية درزية وليس فيها إلّا عائلة واحدة مسيحية. ثم يقول «وعندما تركت القرية صار همس بين الدروز لمنعي من السفر أو لقطع الطريق عليّ، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث».
ولعل توجّس بركهارت وخوفه من قطع الطريق عليه ناجم من تشكك أهل البلاد الشرقية من نوايا المستشرقين الغربيين الذين وفد معظمهم بمهام استخباراتية، في الوقت كانت الدولة العثمانية أصيبت بالضعف وبدت عاجزة عن مواكبة ما أصبح عليه أولئك الغربيون من قوة وقدرة على اقتحام البلاد الشرقية.
آل الحنّاوي ينزلون في السهوة
يذكر الشيخ فارس قاسم الحنّاوي، مؤلّف كتاب «صفحة مجيدة من تراث الأسرة الحنّاويّة »، ما يشير إلى أن أصل آل الحنّاوي يعودون في أصلهم إلى «أسرة عربية عريقة قدم رجالها من شبه الجزيرة العربية، ورافقت جيوش الفتح الإسلامي لتستقرّ في المغرب العربي، ومنها انتقلت إلى الأندلس ثم عاد أبناؤها فاستقرّوا في جزيرة «جربة» في تونس، ومن ثمّ انتقلوا منها أيّام فتح مصر من جديد عن طريق الخلفاء الفاطميين وبزمن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، واستوطنت بعض هذه العائلات في طنطا». وحسب الرواية، فإنّه في زمن محنة الخليفة الفاطمي علي الظاهر ضد الموحّدين، اضطر الموحّدون من تلك الأسرة إلى الانتقال إلى بلاد الشام، فأقاموا في يافا، ويبدو أنهم اضطرّوا في ما بعد للإنتقال إلى جبل عامل، فجبل لبنان، حيث أقاموا في قرية الكنيسة بادئ الأمر، أمّا زمن استقرار آل الحنّاوي في السهوة فقد يعود إلى نحو سنة 1832م ممثّلين بالشيخ أبو فارس أسعد الحنّاوي. ولمّا كان تملّك المطحنة على الماء في ذلك العهد يعتبر أحد مظاهر الوجاهة وعلوّ الشأن، وحيث كانت قوة آل الحمدان آخذة بالتراجع، فقد اشترى الشيخ أسعد الحناوي إحدى المطاحن على نبع عرى القريب من السهوة من الشيخ هزّاع الحمدان، ولم يلبث أن لحق به إليها الشيخ المشهور، أبوعلي قسّام الحنّاوي، وقد برز دور آل الحناوي أكثر، إثر توطّد تحالفهم مع اسماعيل الأطرش وآله ضد آل الحمدان، أصحاب الزعامة الأولى في الجبل قبل قدوم الأطارشة إليه، ونظراً لغلبة تلك العائلة عددياً في السهوة، إضافة إلى ظهور شخصيات بارزة من رجالاتها في مجالات المجتمع والفروسية في الجبل، أبرزهم الشيخ أبوعلي قسّام الحنّاوي، الملقّب بسيف الدين. ويروى أنّه بعلو همّته قدم خصيصاً من جبل الدروز، إلى جبل لبنان بهدف إنجاز المصالحة بين الحزب الجنبلاطي والحزب اليزبكي أيام سعيد بك جنبلاط، والمشايخ من الحزب اليزبكي، وهم خطّار بك العماد، والشيخ أبوعبّاس حسين تلحوق والمشايخ من آل نكد وغيرهم، وذلك بعد استفحال الخلاف الحزبي بين الفريقين، والذي طالما كان قد لعب بشير الشهابي الثاني دوراً خبيثاً في تأجيجه.
يضاف إلى ذلك، عدد من مشايخ العقل الحنّاويين المشهود لهم بالتقوى ورجاحة العقل، وفي فترة الأربعينات برز في حقل العمل الوطني من السهوة « كَرَم الحنّاوي » الذي كان أميناً عامّاً لعصبة العمل القومي في محافظة السويداء. لكل ما سلف بيانه فقد أصبحت تلك البلدة تدعى أحياناً بـ «سهوة الحنّاوي»، تمييزاً لها عن قرية أخرى تحمل الإسم نفسه، وتقع إلى الجنوب الشرقي منها على مسافة بضعة عشر كيلومتراً، هي قرية «سهوة الخُضر» نسبة إلى مزار منسوب إلى النبي الخضر، وهو كان في أصله كنيسة غسانية قديمة تعود للعصر البيزنطي، كما وتدعى تلك القرية أحياناً بـ « سهوة الكواونة» نسبة لآل كيوان الذين يشكّلون أغلبية سكّانها. وممّا يجدر ذكره أنّ آل الحنّاوي هم أيضاً من مجموعة العائلات المدعوّة بالكفارقة (نسبة إلى قرية كفرقوق في قضاء راشيا من جنوب لبنان)، هذا من حيث التاريخ القريب، غير أن الشيخ مهنّا الشومري يذكر ما يؤكّد رواية الشيخ فارس قاسم الحناوي حول الأصل البعيد للأسرة، ولئن صحّت هذه الرواية، فلا بدّ أن تكون هجرة القوم قد أعقبت وقف العمل بنشر دعوة التوحيد وما حلّ بالموحّدين من اضطهاد بعد ذلك، كما ويعتبر آل الشومري، وهم الذين سبقوا آل الحناوي إلى إعادة إحياء الموات في عمرانهم للسهوة من جديد، من مجموعة العائلات المعروفية الوافدة إلى الجبل من كفر قوق وما حولها.
مجتمع السهوة
يتألّف مجتمع السهوة الحالي من عائلات عديدة من الموحّدين من بني معروف، والعائلة الأكثر عدداً بينها اليوم هم آل البنّي، وهؤلاء قدموا إلى القرية نحو النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قرية البنّيه القريبة من عاليه، في جبل لبنان من عائلات (حسن، وهبه، جابر، يحيى) وقد اتخذوا جميعاً اسم عائلة البنّي تعبيراً عن وحدتهم والفتهم. تليها عدداً عائلة آل الحنّاوي ومن هؤلاء عدد من شيوخ العقل المعروفين بمواقفهم الشجاعة في الذود عن أهل التوحيد بدءاً من الشيخ أبوعلي قسّام، ومنهم شيخ العقل الحالي الشيخ أبو وائل حمّود الحنّاوي أطال الله بعمره، كما عرفت السهوة في العقود الأخيرة من القرن الماضي شيخاً جليلاً من مشايخ التصوّف هو الشيخ أبو حسين محمد الحنّاوي.
ولآل الحناوي فروع هم آل صلاح وأبو حدّور، وأبو الجود، ومن العائلات الأُخرى في السهوة، آل الشومري، وهم الأقدم وفوداً إليها، وآل كَحْل، وهؤلاء فرع من آل حاطوم المهجّرين من كفرسلوان في لبنان أيام بشير الشهابي الثاني، وآل خويص وعزّام، وعسّاف وهاني وأبو غاوي والجوهري وأمان الدين والدبس والسلمان، ووهبي وأبو حسّون، وغريزي، ويونس ومرداس، والمصري وحيدر ونكد والعرموني ومن البدو عشيرة الشنابلة السنّة، وعائلات: الحمد والشباط والسعيد ومطر.
تاريخ من الكفاح
لمجتمع السهوة تاريخ كفاحي عريق في سبيل الحفاظ على مقومات الحرية وكرامة الإنسان في جبل العرب، بدأ هذا منذ إعادة إعمار بني معروف للجبل، وتمثّل خصوصاً في مناهضة محمد علي باشا والي مصر المنشق عن الدولة العثمانية، الذي طرد العثمانيين بجيوشه من بلاد الشام في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، ومطلع العقد الخامس منه، وقد توسّم به أهل الشام بادئ الأمر خيراً، إلاّ أنّ سياساته، وسياسة ابنه ابراهيم التعسفية غير المتبصّرة والمنحازة إلى جانب بشير الشهابي وأحلافه ضد الموحّدين الدروز في جبل لبنان، أثارت ضدّه سلسلة من المتاعب، ومن ثم نشبت بؤر من ثورات متتابعة في ما بعد بسبب عدم تفهّم تلك الإدارة لمصالح الناس وحاجاتهم الأساسية، ولم يلبث معظم السوريين في فلسطين، وجبل الدروز وجبل لبنان وسواها أن انخرطوا في معمعانها، وكان الموحّدون الدروز على قلة عددهم، هم أبرز من قدّم التضحيات لمناهضة تلك الإدارة الطغيانية للإحتلال المصري.
في خضم معارك بني معروف في تلك المواجهات التي حدثت في القرن التاسع عشر، استشهد العشرات، من أبطال البلدة أسوة بإخوتهم من قرى جبل الدروز آنذاك، ويذكر الشيخ فارس قاسم الحناوي أسماء عشرين شهيداً من آل الحناوي، كما ينقل الشيخ فارس الحناوي أن عدد شهداء البلدة بلغ واحداً وعشرين شهيداً في معارك المواجهات ضد الاحتلال الفرنسي.
أمّا الشاعر الشيخ صالح عمار أبو الحسن فيذكر في ديوانه الشعبي الذي وثّق فيه ما استطاع من أسماء شهداء الثورة السورية الكبرى، ص 17 و18، أسماء تسعة عشر شهيداً من أهل السهوة عامة من آل الحناوي وسواهم، وهم: عمّار وذياب وسعيد وفرزان وحمدان وعلي وحمد وسلامة ومحسن قسّام وهاني عسّاف وقاسم بوحدّور وقاسم صلاح الحناوي ومن أهل البلدة: هلال البنّي ويوسف عبد السلام ومحمد طربيه ومحمد أمان الدين. وفارس بن ابراهيم كحل ــ على حد رواية الشيخ فارس قاسم الحنّاوي، الذي يقول إنّ المجاهد ناصر الدين صلاح الحنّاوي، حامل بيرق سهوة البلاطة ومن تبعه من مقاتلي قريته، يوم معركة المسيفرة سنة 1925، قد تقدّم فرسان قريته خارقين بذلك التحصينات التي أقامها الجيش الفرنسي، ورفع البيرق فوق أعلى السطوح في قلب المسيفرة، هذا ويشيد الشاعر المعاصر لأحداث الثورة السورية الكبرى، صالح عمار بمقاتلي سهوة البلاطة، وكرم أهلها بقوله:
فرســــــــــان في سهوة بلاطة حَيّها أهل الديانة بتنعرف من زيّهــــــــــا
أهل الشهامة والكرم والمرجلـــــــة وقت المجاعة أيتام عاشوا بحيّهـــــا
في مواجهة استبداد الشيشكلي
عمد الضابط الانقلابي أديب الشيشكلي إلى فرض نفسه رئيساً للجمهورية السورية سنة 1951م عبر استفتاء صوري، والاستئثار بالسلطة ومصادرة الحرّيات، فألّف حزباً ليدعم به سلطته، أسمّاه «حركة التحرير» وصنع مجلساً نيابياً بانتخابات مزوّرة، «يحقّق رغائبه» ــ على حد تعبير الشيخ فارس قاسم الحناوي في كتابه «صراع بين الحرية والاستبداد» (ص 106)، واستنهض طغيان الشيشكلي قوى المجتمع السوري للمطالبة بالحريّات والديمقراطية فعُقد مؤتمر حمص سنة 1953 وفيه قُرئت كلمة القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، التي دعا فيها إلى « تحقيق آمال البلاد وإعادة الحرّيات والحياة الدستورية الصحيحة»، وقد أثار هذا غضب الشيشكلي الذي كان يقول في مجالسه الخاصة، وإلى المقرّبين منه: «إن أعدائي يشبهون الأفعى رأسها جبل العرب وبطنها في حمص وذنبها حلب، فإذا سحقنا الرأس ماتت الأفعى». ويشير الشيخ الحنّاوي في كتابه السالف الذكر(ص 116و117) إلا أن الشيشكلي كان يستند إلى الدعم الأميركي في سياسته ضد الحركة الوطنية في سوريا، وهكذا فإنه بادر إلى محاولة التخلّص من سلطان باشا والحركة الوطنية السورية عموماً، فعمد إلى إرسال حملة عسكرية من الجيش إلى السويداء، فاحتلت المدينة التي قاومت العدوان وخسرت أربعة وعشرين شهيداً بينهم شيوخ ونساء وأطفال، وقاد ذلك العدوان الجنرال رسمي القدسي الذي حاصرت قوّاته القريا أيضاً بهدف اعتقال سلطان، وكان من بين الرجال الذين هبّوا لفك الحصار عن القريا شبّان من بلدة سهوة البلاطة، وقد استشهد يومها هاني الحناوي في معركة نمرة، وكانت حصيلة حصار القريّا آنذاك أربعة وعشرين شهيداً من بني معروف توافدوا من قرى عدة من الجبل.
سلطان باشا ينتقل إلى سهوة البلاطة
كانت أوامر الشيشكلي تقضي باعتقال سلطان باشا ونقله إلى دمشق، ولما كان لا يثق بنوايا العقيد الوطني فؤاد الأسود، فقد عزله وعيّن بدلاً منه الزعيم رسمي القدسي الذي ارتكبت قواته فظائع في الجبل، ولكن ثلّة من رجال قرية حبران الأبطال وبأسلحتهم القديمة التي كانت مخبأة منذ أيام الثورة على الاحتلال الفرنسي، وبأسلحة الصيد والفؤوس والعصي اقتحموا الطوق المضروب حول بلدة القريّا من جهة الشمال الشرقي، وقد استشهد اثنان منهم في موقعة كسر الحصار تلك هما: قاسم أبو سعد وسلمان الحيناني، لكنّ مقاتلي حبران بإقدامهم البطولي ذاك تمكّنوا من إنقاذ سلطان باشا من الحصار وحموا شرف بني معروف وكرامتهم.
غير أنّ المقدّم فيصل الحسيني من قوّات الشيشكلي انتقم من الجرحى المتواجدين في قرية نمرة على بعد نحو كيلومترين جنوب القريّا، وذلك بعد انسحاب المقاتلين منها، وكانوا في بيت حمد الصّفدي وشقيقه خليل، يذكر ذلك فارس الحناوي في كتابه المشار إليه سابقاً، ص 130 فيقول:« كان عددهم خمسة عشر جريحاً فلما دخل عليهم فيصل الحسيني أطلق عليهم الرصاص فقتل ستة أشخاص، وأجهز النقيب فيصل الشيشكلي على الباقين فقتلهم جميعاً».
سلطان يتوجه إلى منفاه في صحراء الأردن
كتب فارس الحناوي في «صراع بين الحرّية والاستبداد» (ص139) «أنّ سلطان باشا انتقل بعد خروجه من طوق الحصار إلى قرية سهوة البلاطة، ترافقه زوجته، وولداه ناصر وطلال، ومن معه من رجال لم يتخلّوا عنه أثناء الحصار، وهم أخوه علي وكذلك هايل ونوّاف الأطرش برفقتهم نخبة من شباب القريّا وأعيانها، منهم: جادالله شلهوب وصالح الصالح وسلامي وحديثي مراد وكذلك المجاهد نوّاف علي الأطرش والمجاهدون نايف وفؤاد وسليم وزيد وحمد جودية من قرية قيصما» وفي السهوة نزلوا ضيوفاً في منزل الوجيه رشراش الحنّاوي، ومنزل سماحة شيخ العقل يحيى الحنّاوي.
وأودع سلطان باشا أسلحة ومقتنيات من بيته في بيت الشيخ أبو حمد شاهين قسّام الحنّاوي، وذلك قبل أن يتوجّه إلى قرية حبران، ومنها عبر بعض قرى الجبل التي لم تتخلَّ عنه، ومن ثمّ إلى الصفاة شرقي الجبل متجنّباً الاشتباك مع الجيش، ليتوجّه بعد ذلك إلى المملكة الأردنية الهاشمية، كان سلطان باشا يعتبر أن الخسائر في المواجهة ستكون على حساب الشعب السوري والوطن، وأن الحرب الأهلية هي كارثة وطنية عامّة.
وقد أشار إلى هذه المسألة الدكتور حسن أمين البعيني، صاحب كتاب «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» (ص583) بالقول: «إزاء إصرار أديب الشيشكلي بعدوانه على جبل العرب، وعلى اعتقال سلطان، وُضع سلطان أمام أمرين: إمّا أن يقاوم مع ما في ذلك من سفك دماء أهل الجبل والجيش السوري، وخراب وتدمير وخسائر وخطر على الوحدة الوطنية، وإمّا التنحّي ( يقصد الابتعاد خارج سوريا) مع ما في ذلك من وضع نفسه والبلاد أمام المصير المجهول، والتسليم المؤقت بانتصار الطاغية على القوى الوطنية. وكلا الأمرين مرّ. وقد فضّل الأمر الثاني. لأنه أحلى ألف مرّة من سفك الدماء العزيزة، وراهن على حصول تطوّرات وانتفاضات في سائر المناطق السورية، أو انقلاب الجيش على الطاغية»، وقد برهنت مجريات الأحداث اللاحقة في ما بعد على بُعد نظر سلطان باشا وحرصه على حماية الوطن من الخراب.
قصة الشقيقين اللبنانيين حسيب وملحم الغريزي
كان من بين شهداء حصار قوّات الشيشكلي للقريّا آنذاك أخَوان لبنانيّان، هما حسيب وملحم غريزي من بلدة «بتاتر» في جرود عاليه من ديار جبل لبنان، يومها دخل هذان الرجلان تاريخ جبل الدروز من بابه الأوسع، كانا حينها دخيلين في حمى سلطان، وقد أبت عليهما شهامة بني معروف أن يقفا متفرجين في يوم يتهدّد فيه العدوّ مضيفهما وحاميهما. حمل كلّ منهما بندقية، ووقفا يقاتلان في وجه القوات المكلّفة باقتحام الدار التي بها يحتميان، دار سلطان.
صمد الأخَوان من آل غريزي في مواجهة المدرّعات والمدافع والرشاشات، والبنادق الأحدث، وقاتلا حتى الاستشهاد، كما قاتل سائر بني معروف يومذاك، بأسلحة قديمة!، وقد أبديا شجاعة خارقة في تعويق اقتحام الجيش لدار سلطان، بطولة مازالت ذكراها ماثلة في مضافات ومرويّات جبل العرب، وبموقفهما المشرّف هذا عند حيطان حِماهما، سهّلا على رجال قرية حبران كسر الحصار من الجانب الشمالي الشرقي لبلدة القريّا، فخرج سلطان باشا سالماً، وهكذا خابت آمال الشيشكلي باعتقاله، ولكن جند الشيشكلي والقدسي دخلوا الدار على دماء الشهداء الذين أمّنوا على سلامة قائد الثورة، فنهبوا ما وجدوه أمامهم من سلاح ووثائق، ولمّا أراد القدسي تفجير الدار منعه الشيشكلي من الإقدام على ذلك، ولعلّه في موقفه ذاك كان يستبصر مغادرته لداره هو أيضاً في القادمات من الأيّام.
العمران والحياة الاقتصادية في السهوة
يشير الأستاذ يوسف البني إلى أنّ عدد المساكن في السهوة سنة 2004 بلغ نحو 656 مسكناً، 97 % منها تتمتّع بخدمة الصرف الصحّي، وقد أنجز هذا بمساهمة مشتركة بين مواطني البلدة والجهات المختصة في الدولة، أمّا المساكن المسكونة في السهوة فيبلغ تعدادها نحو 538 مسكناً، والفارق بين الرقمين يعود لغلبة الهجرة على نشاطات أهل السهوة الذين يعتبرون من السبّاقين إلى الاغتراب، وخاصة إلى فنزويلّا، وغيرها من بلدان أميركا اللاتينية، يبلغ عدد الأفراد المغتربين خارج القطر من القرية بـ 762 مغترباً. ويبلغ عدد مواطني السهوة المسجّلين في دفتر النفوس نحو الخمسة آلاف نسمة، المقيمون منهم في البلدة نحو 3000 نسمة.
وفي ذلك العام ــ عام الإحصاء ــ كان عدد المساكن قيد الإنشاء 42 مسكناً، هذا ويبلغ عدد الأسر النازحة داخل القطر 548 أسرة أغلبها يسكن في مدينة السويداء، مركز المحافظة، والعاصمة دمشق.
وتشكّل الزراعة نشاطاً أساسياً للسكّان في السهوة، إذ يبلغ عدد المزارعين الحائزين على ملكيات زراعية نحو 313 شخصاً.
وفي القرية 47 بئراً ارتوازية سطحية على عمق 160 متراً كحد أقصى، منها سبعة آبار خارج المخطّط التنظيمي، وبطاقات ضخ محدودة تفيد في الاستثمار الزراعي الفردي.
الاشجار المثمرة تحل محل الحبوب
بعد أن كان النشاط الزراعي متركزاً على زراعة الحبوب وتربية الماعز والأغنام والأبقار الجبلية والخيول والدواجن، فقد تراجعت هذه النشاطات في العقود الأخيرة من السنين لصالح زراعة الأشجار المثمرة، كالعنب والزيتون والتفاح واللوزيات وغيرها.
وقد بلغ متوسّط إنتاج العنب في السنوات الأخيرة نحو 2000 طنّ سنويّاً، منها 17 طنّاً على الري، ومن حيث إنتاج الدبس فإن كل 5 كلغ من العنب تعطي كيلوغراماً واحداً من الدبس، هذا ويرفض المشايخ من الموحّدين بيع عنب كرومهم لغابات إنتاج الخمر، وهم يفضّلون تصنيع عنب كرومهم دبساً وزبيباً وخلاًّ.
وفي السنوات الأخيرة بلغ متوسّط إنتاج الزيتون نحو 169 طنّاً، منها مئة وستون طنّاً بعلية، وتسعة أطنان على الري. ومن المعروف بأن كل 4 إلى 5 كيلوغرامات من حبوب الزيتون تعطي كيلوغراماً واحداً من الزيت. أمّا التفاح فقد بلغ إنتاجه نحو 600 طن، ولمّا لم يكن إنتاج اللوز على ما يرام في العام الفائت فإن إنتاجه لم يتعدَّ الخمسة أطنان. وفي السهوة أربعة برّادات لحفظ الفواكه، وذلك حرصاً على عدم التفريط بمواسمها، ولبيعها بأسعار مناسبة.
وهكذا، فإنّه امام منافسة زراعة الأشجار المثمرة، ككروم العنب والتفاح والزيتون واللوزيات، والفستق الحلبي والإجّاص، تراجعت زراعة الحبوب عمّا مضى بشكل ملحوظ، وخاصة القمح والشعير، لذا، فإن نحو ألفي دونم فقط، هي ما تبقّى لهذا النوع من الزراعة الاستراتيجية، التي تساهم في تحقيق الأمن الغذائي.
ومن أجل خدمة الأعمال الزراعية من حراثة ونقل مواسم، يوجد في السهوة خمسة وخمسون جرّاراً تتراوح قوّة محرّك كل منها ما بين 70 إلى 45 حصاناً، بالإضافة إلى درّاسة آلية واحدة.
تربية الماشية والدواجن
تراجعت إلى حد الانقراض تربية الأبقار الجبلية (عجول باشان)، تلك التي أشارت إليها التوراة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وحلّت محلّها تربية الأبقار ذات الأنواع المحسّنة من السلالات الأوروبية كالفريزيان عالية الإدرار، إذ يبلغ متوسط إنتاج البقرة الواحدة سنويّاً نحو3000 كلغ من الحليب، وبالإضافة إلى ذلك فهي أكثر إنتاجاً للّحم من سلالات البقر الجبلي. ويبلغ عدد الأبقار المحسنة في السهوة مئة وسبعة، تنتج سنوياً نحو 306 أطنان من الحليب.
أما تربية الدواجن، ففي القرية 3 مداجن متخصّصة بإنتاج الفرّوج للّحم، تنتج كل منها 3 إلى 4 أفواج في السنة، ويبلغ عدد الطيور المنتجة نحو مئتي ألف فرّوج في السنة.
الطبيعة جبلية أخاذة
تتنوّع المناظر الطبيعية في الأراضي المحيطة بقرية السهوة، فهناك نحو 1800 دونم من الأراضي، هي عبارة عن أحراج تغلب عليها أشجار البلّوط والزعرور والسنديان، وهي محمية من قبل الدولة. وهناك نحو 2500 دونم من الأراضي الصخرية والرملية غير صالحة للزراعة، لكنّها لا تفتقر للإخضرار، كما يشغل السدّ الواقع إلى الغرب من البلدة ما مساحته نحو 2000دونم على شكل بحيرة تتقلّص مساحتها في الفصول الجافة، وتبلغ الطاقه التخزينيّة لها نحو مليون متر مكعب سنوياً، يستفاد منها في الري وسقاية مواشي القرية. ونظراً لأهمية الزراعة والأشجار والأحراج في السهوة، ولكونها تقع ضمن منطقة الاستقرار الأولى في محافظة السويداء، إذ يبلغ متوسّط أمطارها السنوية أكثر من 350 ميلّيمتراً، فقد مُنعت فيها تربية الماعز الجبلي والأغنام من قبل الدولة، وذلك حماية للزراعة والاخضرار في هذه القرية الجبلية الجميلة.
ثروات المغتربين ظاهرة في كثرة السيارات وفي الجمعية الخيرية والحركة النشطة لبناء الفلل الحديثة
المرافق العامة والخاصة
تتواجد في قرية السهوة مدرسة إعدادية واحدة، بشُعَب مختلطة للذكور والإناث، كما توجد جمعية تعاونية فلاّحية ومركز صحّي للعلاج المجّاني، وقد تمّ تقديم البناء من قبل أهالي البلدة، يعمل فيه بضعة من الموظفين والموظفات لدى مديرية الصحة ويستقبل المرضى فيه طبيب يحضر إلى المركز ثلاثة أيام في الأسبوع، بالإضافة إلى عيادة لعلاج الأسنان. وهناك في السهوة صالة بيع للمستهلك، ومبنى خاص بالهاتف.
وبالنظر للنشاط الاغترابي في السهوة فقد انعكس ذلك بحالة رخاء نسبي في البلدة التي يبلغ عدد السيارات الخاصة فيها نحو خمسمائة سيارة، وهناك خمس حافلات نقل عام للركاب ــ بملكية خاصة ــ تنقل الركاب بالأجرة، بين البلدة والسويداء وسواهما.
وفي البلدة جمعية خيرية يدعمها مغتربو البلدة ومتموّلوها وعامة القادرين من أهلها، وتلعب هذه الجمعية دوراً ذا شأن في تقديم الخدمات التعليمية والصحّية والاجتماعية لمواطني السهوة، وتعمل هذه الجمعية على مساعدة الطلاب المحتاجين لإتمام دراستهم والسعي لرفع المستوى الثقافي لدى أبناء القرية والمساهمة في بناء المرافق الخدمية في السهوة. ويبلغ عدد أعضاء الجمعية أكثر من مئة وخمسين عضواً، أمّا مواردها فهي التبرّعات، ووصايا المحسنين المتوفّين، والهبات، وتبلغ وارداتها بضعة ملايين من الليرات السورية سنوياً.
كما بني مدرّج عام يتسع لآلاف الأشخاص من المشاركين في المناسبات العامة، والمشاركين في التعازي في حالات الوفاة.
ومن المرافق العامة في البلدة مجلس للموحّدين، ومسجد للبدو السنّة في الحي الذي يقطنونه من السهوة. بالإضافة إلى الصالة الاستهلاكية التجارية، هناك عدد من المحلاّت التجارية التي يبلغ مجموعها نحو 70 محلاً، ومحلات أُخرى متعددة تنتشر في أرجاء البلدة تبيع سلعاً متعدّدة.