شبعا والعرقوب شُركاءُ جِهاد
وأخـوةٌ مُتَلاحمون في المُلِمّات
تْربّيْنـــا على قِــصَص بطــولات المجاهــدين في جبـــل العــرب
وقهــــرنا معــاً شبَــح المجاعــة في الحــرب العالميّــة الأولــى
إقتداء بالأخ الصّديق الأستاذ الشيخ غالب سليقة الكاتب والباحث في شؤون وادي التّيم ومآثرها وقِيَمها ودور رجالها، والمنقّب عن تراثها الأخلاقي والإنساني، آثرتُ أن تتركّز هذه العُجالة على مواقف ومآثر الأجداد والآباء في جبل الشّيخ “حرَمون” لا سيّما في الأيّام الصّعاب والأحداث الأليمة وكيف تمّت مواجهتها بروح عالية ومواقف موحّدة لإجهاض المخطّطات التي يعتمدها كلّ محتل، لاسيّما تغذية الانقسام وإشعال روح التعصّب الطائفيّة والمذهبيّة ونشر الأحقاد التي لا ينتج عنها إلا الخراب والدّمار. وقد كان لتلك المواقف الموحّدة لأجدادنا أثرها البالغ في الحفاظ على الجميع وتحقيق الانتصارات الباهرة على كلّ غاصب محتلّ وعدوٍّ آثم.
لقد تَربّيت في بيت له اهتماماته بالجوار وعلاقاته الوثيقة بأهالي القرى المجاورة، وقلّما خلت سهرة أو جلسة من الحديث عن مآثر وبطولات وشهامة الرّجال ومواقفهم في المناطق المحيطة الأقربين والأبعدين من جبل العرب إلى الإقليم، ومن حوران إلى الجولان، ومن الحولة إلى وادي التيم. وقد تأثّرت أكثر ما تأثّرت ببطولات وأخلاق بني معروف، ونشأ في قلبي حبٌّ لهم، وتعلّق بقيمهم واقتداء بأخلاقهم وسجاياهم، وكلّها تؤكد على أهمّية التّفاعل الإنسانيّ والحفاظ على الجوار والتّعاون لما فيه خير الجميع، وكلّما مرّ حدث خطر كان الموقف الواحد هو السّلاح الأمضى. ففي الثّورات المتلاحقة ضدّ المستعمر الإفرنسي، في مطلع العشرينيّات من القرن الماضي، والتي توّجتها الثّورة السوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش وما تبعها وسبقها من أحداث. وخلال ثورة 1958، وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ واعتداءاته المتكرّرة كانت المواقف واحدة والأيادي متشابكة لاسيّما الأحداث التي تعصف اليوم في الشّقيقة سوريا، أكّدت أنّ شبعا والعرقوب هما شركاء جهاد ورفاق نضال لبني معروف في حاصبيّا وراشيّا والإقليم والجولان، وهما كالبنيان المرصوص.
لن أتوقّف عند الأحداث التّاريخيّة ومجرياتها التي أتركها لأربابها، وهم كُثُر، ولكن سأتحدّث عن بعض المواقف المسؤولة التي تنمّ عن رجولة وكبرياء وكرامة وأخلاق عالية ومسؤوليّة وطنيّة وروح عربيّة بكلّ ما تعني هذه الكلمات.
تتزاحم الرّوايات والقصص والتي تحتاج إلى مصنّفات، لكنّني سأتوقّف عند بعضها والتي كانت تتكرر مرّات ومرّات في بيتنا لما فيها من عبر ودروس يلقّنها الكبار للصّغار لتكون لهم زادٌ في مشوار الحياة الطّويل والآتي من الأيّام الصّعبة.
فالحديث عن سلطان باشا الأطرش وثورته، وجبل العرب وبأس رجاله، وفؤاد باشا سليم والأمير عادل أرسلان ورشيد طليع وسعيد طليع وغيرهم من كبار قادة الثّورات العربيّة المتلاحقة يطول الحديث ويتشعّب ويشمل المقلب الشرقيّ لجبل الشّيخ بدءاً من عرنة آل كبول، وحضر آل حسّون وآل الطويل، إلى مجدل شمس أبو صالح معقل الثّوار ومرقد الشّهيد فؤاد سليم، إلى عين قنيا الشّعلان كما يسمونها العرب.
تأثّرت ببطولات وأخلاق بني معروف، ونشأ في قلبي حبّ لهم، وتعلّق بقيَمهم واقتداء بأخلاقهم وسجــــاياهم.
كثيرون يعرفون أو سمعوا عن الثّورة السّوريّة الكبرى، وحفظوا عن ظهر قلب نداء سلطان باشا الأطرش الذي أصبح نداء كلّ مخلص يثور في وجه ظالم، وعن بطولات بني معروف وشجاعتهم وتضحياتهم التي حقّقت الانتصار بوسائل بدائيّة وأعتدة قليلة على جيش دولة عُظمى وقد وصفها المؤرّخ محي الدّين السفرجلاني “لقد محا بنو معروف بأفاعيلهم هذه أعاجيب الأساطير الأولى”، وقد روى شاهد عيان أنّ كثيراً ما كان البطل الدّرزي يشطر الفرنسيّ بضربة سيف.
ولكن قلّة قليلة هي التي تعرف مواقف سلطان الإنسانيّة إبّان الثورات وشهامته وعزّة نفسه التي كان يرويها والدي: كانت تأتي المعونات والمساعدات والدّعم من الأردن وفلسطين إلى الجبل على ظهور الجمال، فكان سلطان يشرف على توزيعها على الجميع لا سيّما من كانت حالتهم الماديّة ضعيفة، ولم يسمح بإدخال شيء إلى داره، وكان والدي يسأله قائلاً: “يا باشا إنّك تتحمّل الكثير، فلماذا لا تدخل إلى دارك أي شيء من الدّعم والمَعونات؟”، فكان يجيب “أنا أتحمّل ولكن يجب أن ندعم الجميع”. هذه هي أخلاق القادة الكبار. أمّا الحديث عن سعيد طليع فكان يردّد بيتين من الشعر خاطب بها فرنسا قائلاً :
يــــــــــــــا فَـــــــــرَنسا لا تُغالـــــــــــــــــي فتقولي: الفتـــحُ طابْ
ســــــوف تــــأتيك الليالي نـــــــورُهـــــــــــــا لَمـــــــــــــْــع الحِـــــراب
أمّا عن المجدل فهي بلدٌ للأبطال ومرقد الثّائر الكبير فؤاد باشا سليم، إذ يختم أحمد الخطيب مذكّراته، بعد أن منعه المستشار الفرنسيّ من مغادرة شبعا والالتحاق بأحمد مريود في العراق، قال المستشار الفرنسيّ: “لا يمكنك أن تسافر وعليك أن تثبت وجودك دائماً، وقد وُضعت تحت المراقبة”.
وفي نهاية الصّيف وصلت بوادر الثّورة إلى حاصبيّا ومرجعيون وراشيا الوادي، وقد تأثّرت الثّورة بعد استشهاد فؤاد سليم قرب بركة رام التّابعة لمجدل شمس، وقد كان من كبار رجال الثّورات العربيّة، وقد تمكّن أحمد الخطيب من زيارة ضريحه ليلاً وقرأ الفاتحة، ورغم فرض الإقامة الجبريّة عليه، والحديث يطول عن دور العرقوب ووادي التّيم في تلك الثّورة.
لقد تعاون أبناء شبعا في تجارة القمح مع عرنة وبيت جنّ وحضر وجباتا والمجدل تعاوناً وثيقاً فكان لكلّ شبعاوي بيت في كلّ قرية، وكذلك كانت بيوت أبناء شبعا مفتوحة لهؤلاء، وفي كلّ بقعة من بقاع جبل الشّيخ ألف قصّة من قِصص البطولة والجهاد من أجل حياة كريمة لا سيّما في الصّراع مع رجال السّلطات المستعمرة التي كانت تمنع البيع والشّراء أيّام الحروب، وتحتكر الإنتاج لجيوشها. لكن أبناء شبعا والمجدل كسروا الاحتكار وأمّنوا القمح لجبل لبنان خلال الحرب وقد تحدّث عن ذلك الأديب الكبير سعيد تقيّ الدين تحت عنوان “أبطال أكارون” قائلاً: هل حين يفخر اللبنانيون بتاريخهم وينشدون الأغاني في أبطالهم تراهم لا ينشرون إلّا صفحة مجيدة يجب أن تكون من ألمع صفحاتها أبطال أكارون أطعموا جياع لبنان في زمن الحرب حين سوّر الأتراك والألمان جبلنا بسياج من حراب وجنود يمنعون الغلال والقوت، إذ ذاك نهض في جنوب لبنان فِتيان وكهول تزنّروا بالرصاص وشدّوا على الدواب وراحوا يتسلّقون الجبال فإذا بلغوا حوران بعد جهد أربع ليال رجعوا إلى لبنان بالحِنطة وزغردت أجراس بغالهم منشدة “لا جوع في لبنان ونحن صِبيانه”. إنّها قِصص بطولة مَجد حقيقيّة لا يهتمّ بها مسؤول ولا يعيرها حاكم اعتباراً بل ربّما كانت الملاحقة من نصيبهم.
فتحيّة لهؤلاء الأبطال، أطعَموا الجائع وحاربوا شبح الموت عندما خيّم فوق كلّ منزل. إنّهم الأبطال والشّجعان ورجال الوطن والوطنيّة.
مجلة “الضحى” تتوجه بالشكر والتقدير للأستاذ منيف الخطيب على هذه المساهمة القيمة في الإضاءة على علاقات المودة والمحبة والاحترام التي سادت وما زالت منطقة حاصبيا مرجعيون والتي نعتبرها نموذجاً يُقتدى به في جميع أنحاء لبنان .
(رسالة شُكرٍ
بسمِ الله الرّحمن الرّحيم
مجلّة “الضحى” الزاهرة
جانب رئيس التّحرير الموقّر
تحيّة طيّبة وتقدير جزيل..
“الضّحى” أصبحت رسالة العصر في مواضيعها العلميّة والأدبيّة والثّقافية والتّاريخيّة والصحيّة وغيرها.
وأوَدّ أن أنوِّه بصورة خاصة بالمؤرخ الشّيخ غالب سليقة وذلك لجهده المتواصل في التّعريف بالتراث الثقافيّ والأدبيّ لوادي التّيم المجيد.
مع الشّكر القائم الدائم لحضرتكم لعطائكم الجزيل في خدمة الطّائفة عبر هذه المجلّة المحترمة النزيهة والتي أثبتت في مناخات الاختلاف والتباينات أنها حرة وللجميع.
أدامكم الله وسدّد خطاكم على هذا النّهج السّويّ الصّحيح إنّه سميعٌ مُجيب.
حاصبيّا في 1 كانون أول 2016
حسين رعد)