يستعدّ لبنان لحدث مهم يتمثل بانعقاد أول مؤتمر عالمي للمغتربين من طائفة الموحدين الدروز، وذلك بهدف التداول في الشؤون التي تهمّ مجتمع الاغتراب والعلاقة التي يجب أن تقوم بينه وبين الوطن الأم. في هذا المجال لا بدّ لنا من إبداء ملاحظات يرجى أن تساهم في تطوير الحوار والتفهم الإيجابي بين المغتربين وبين أهلهم ومرجعيتهم في الوطن.
أولاً:
أي حوار بين عالم الاغتراب وبين الوطن يجب أن ينطلق من تفهم الطرفين لواقع أن عالم الاغتراب يختلف عن وطن الأجداد. وأنه وعلى الرغم من التقارب المستمر بين المجتمعات فإن الفروقات تبقى كبيرة بين البيئة الجماعية والثقافية والدينية التي يعيش فيها الموحدون الدروز في الأوطان المشرقية وبين مجتمعات المهجر التي يقع معظمها في البلدان الغربية. فإن أصل الفروقات قائم في اختلاف المجتمعات وتباعد المسافات والتأقلم، بل في الاندماج بثقافة البلد المضيف في غياب الصلة اليومية والمنتظمة ببيئة التوحيد وممارساته اليومية على الأرض.
ثانياً:
إن هيمنة النظرة الليبرالية للأديان وتفشي عادات الترخيص والاستسهال في الدول الغربية خصوصاً، تجعل بعض الإخوان في المغترب يرون في تمسك موحدي الوطن بالأسس وحذرهم من فوضى الأفكار نوعاً من الجمود أو التقصير في مجاراة الزمن. والعديد من المغتربين يعتقدون مثلاً أن مصلحتهم من أجل تحصيل القبول في مجتمعهم الغربي أن يجاروا تلك المجتمعات أو ما يسمونه التطور وغير ذلك. وقد رأينا بعض الكنائس الأميركية تعاني الأمرين من ضغوط أهل الترخيص والبدع إلى حد فرض سيامة الكهنة النساء أو الشاذين، بل الذين يباهون بشذوذهم. والمشهد الديني في معظم بلاد الغرب محزن لأنه يتسم بالفوضى وبإحلال اجتهادات بعض الأدعياء محل الأوامر السماوية وأسس المعتقد، وعلى إخواننا المغتربين أن يدركوا أنهم يعيشون في مجتمع متأزم لم يعد فيه ثوابت تذكر ولم يعد صالحاً للاقتداء به خصوصاً في أمور العبادة. وفي هذه الحال، فإن قبلتهم ومحط ثقتهم وطمأنينة قلوبهم لا بد وأن تكون مرجعية أهل الحق الذين حفظوا قيم التوحيد وصانوها من كل تشويه على مرّ القرون.
ثالثاً:
إن أساس المرجعية الروحية في الوطن قائم في كون هذا الوطن موطن التوحيد وموئل أهله عبر القرون والدهور، ولا يمكن في الحقيقة الفصل بين عقيدة التوحيد وبين مجتمع التوحيد لأنه لا توحيد من دون أهل التوحيد الذين يحفظون أمانته وينقلونها من جيل إلى جيل. ومن أراد النظر إلى عقيدة التوحيد فليدع الكتب ولينظر إلى مجتمع التوحيد ومن أراد الاستزادة في مسلك التوحيد ومعرفة أصوله فليعد في ذلك إلى الأصل وليهمل ما عداه.(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ( سورة الأنبياء:43). على العكس من ذلك، فإن بعض الأديان العريقة تراجع تأثيرها في الغرب واندثر الكثير من حقيقتها الأصلية لسبب أساسي هو اندثار الجماعات المؤمنة التي تتمسك بالدين وتتناقل وصاياه ومقتضياته من جيل إلى جيل. وهذا مثال آخر على أن الدين يبقى ما بقي أهل الدين والمتبعون لوصاياه وتعليمه، حتى إذا تفرق شمل جماعة المؤمنين وضعف شأنها واجتاحتها الأهواء والتأثيرات الدخيلة انحل الدين من تلقاء نفسه وجرى عليه التحريف والتغيير حتى لا يبقى منه في النهاية إلا الاسم من دون المسمى.
رابعاً:
مغزى هذا القول إن على إخواننا المغتربين توخي الحيطة في اتّباع ما قد يظهر من أفكار واجتهادات. ويعتقد البعض أن فيها تسهيلاً ومراعاة لظروف الاغتراب وبعده عن الوطن، مما قد يبرر للبعض الميل نحو إنشاء كيانات أو مرجعيات تعنى بشؤون المغتربين وتساعد على توثيق عرى الأخوة ورابطة العصبية بينهم. هذا الدور مرغوب ولا شك في أمور الدنيا وفي بعض الأمور الحيوية مثل الأحوال الشخصية، لكنه في أمور العقيدة ليس مطلوباً ولا مرغوباً ولا ممكناً أصلاً لأن المعتقد لدى أهل التوحيد ينبع من اتفاق العقال وأهل الحل والربط ولم يكن في أي وقت مناطاً باجتهادات أفراد مهما علا شأنهم. وهل سمع أحدكم بأن أهل التوحيد ظهر بينهم مجتهد أو صاحب تقليد أو مذهب؟ وهل كانت العقيدة في أي وقت رهناً بمرجعية شخص أو علمه أو اجتهاده. بالطبع لا، ولهذا السبب فإن الموحدين الدروز يفصلون في أمورهم الدقيقة في اجتماعات شاملة تمثّل عموم العقال وأهل الرأي الراجح بينهم، كما يتناقلون أسس المسلك ويرتقون في منازله في إطار جماعة الإخوان وبمساعدتها وليس بالاجتهاد الشخصي فقط. ولهذا لم يشجع الموحدون الدروز قيام «العلماء» وأهل الكلام والبيان على نسق ما حصل لدى بعض المذاهب كما أنهم لم يجيزوا قيام كهنوت من أي نوع، كل ذلك بسبب تركيزهم على السلوك أكثر من اهتمامهم بالجانب النظري، لهذا يردد المشايخ دوماً «أدب الدين قبل الدين».