الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

فريد الدين العطار

سلطان العاشقين العارفين
فريـد الديـن العطار النيسابوري

«لقد طاف العطار بمدن العشق السبع، وما زلنا نحن في منعطف جادة من جادات إحداها».
جلال الدين الرومي

كلمة «أنا» تجلب البلايا فلا تقلها
حتى لا تبتــــلي بشــــرور إبليس

من يعشق عالم الغيب فهذا هو الخلي من كل عيب

الخلق بلا وفاء وغاية في الجهل، لذا فقد تحملت الآلام وحدي
وإذا أقمت مائدة من خبز جاف فإنني أبلله بدموع عينيّ

يا من وقعت أسيراً للتعصب وظللت أبداً أسير البغض والحب
إن كنت تفخر بالعقل واللب فكيف وقعت أسير التعصب؟

يتربع على عرش الإرث الشعري الصوفي ثلاثة من عمالقة العرفان المسلمين هم على التوالي الحكيم سنائي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي. وقد ظهر الثلاثة إلى الوجود في حقبة متقاربة وخلف كل منهم للحضارة الإسلامية والإرث الروحي الإنساني عموماً إرثاً هائلاً ومتنوعاً ما زال يغذي بثرائه وموسيقاه وفعله في النفوس أجيالاً متعاقبة من الباحثين والسالكين والمهتمين في جميع أنحاء الأرض. ومن مظاهر إعجاز القدرة أن يتميز كل من هؤلاء بلون وبأسلوب وأن يأخذ كل منهم منحى معيناً في التعبير عن اختباره العرفاني، وهذا التنوع لا يعكس فقط اختلاف في الميزات الشخصية والذوقية وفي الزاد اللغوي والثقافي لكل من الشعراء الثلاثة، بل هو في الحقيقة برهان ساطع على إعجاز العرفاني الصوفي وتنوع رسالته ومصادر إمداده في الغيب وقد جاء في الآية الكريمة:
} قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا{ (الكهف: 109) ولا بد من القول إن كل ما جاد به شعراء الصوفية الكبار يكاد يكون قطرات لا غير من بحور المعنى التي لم يتوقف ورودها على السالكين في طريق الحق، وذلك رأفة من الله تعالى ومِنّة وإكراماً.
في هذه الحديقة المباركة يجلس فريد الدين العطار في مكانة رفيعة إلى جانب الشاعرين سنائي والرومي إلا أنه حظي بتعظيم خاص من جلال الدين الرومي نفسه الذي عاش بعده، ويقال إنه التقى العطار عندما كان طفلاً برفقة والده بهاء ولد في زيارة لنيسابور. وقد قال الرومي الذي يعدّ أعظم شعراء الصوفية في جميع العصور عن العطار: «لقد طاف العطار بمدن العشق السبع، وما زلنا نحن في منعطف جادة من جادات إحداها» وكما عظم الرومي العطار فإن العديد من أعلام الصوفية أسبغوا على شخصيته هالة وضاءة من المهابة والاحترام. وقد اشتهر العطار واحتل مكانته الفريدة فعلاً بسبب تبوّئه عرش شعر العشق الإلهي خصوصاً القصصي منه وأسلوبه العجيب في المناجاة واستدرار الرحمة والعون من الحضرة، وهو أسلوب يهيج المشاعر وأمواج الشوق والحزن معاً في صدور السالكين. وقد ألّف العطار عدداً من الدواوين والمنظومات الشعرية أبرزها وأشهرها هو ولا شك كتاب «منطق الطير» الذي سنعرض له ولأهميته في هذا القسم الأول من البحث على أن نخصص الحلقة الثانية لعرض موجز لبعض أهم حكايات منطق الطير ومعانيها الروحية العميقة.

من هو فريد الدين العطار
إنه فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر بن أبي يعقوب اسحق العطار المعروف أيضاً بنسبته إلى مدينة نيسابور من بلاد فارس، وفيها دفن وأقيم له ضريح، هو من مقامات الصوفية الأكثر اجتذاباً للزائرين.
عرف بالعطار لأنه مارس مهنة الطب والصيدلة التي ورثها عن والده وقيل إن الأخير اشتهر حتى ملك في بعض الأيام أكثر حوانيت العطارة في نيسابور وحقق من ذلك ثروة كبيرة. ويبدو أن العطار برع أيضاً في المهنة، وذكر هو أنه كان يستقبل كل يوم نحو خمسمائة مريض يجس نبضهم ويصف لهم العلاج وغالباً ما كان يصنعه هو من خلائط وعناصر في دكانه المزدهرة.
من المؤكد أن العطار سلك في طريق الصوفية وكان لا يزال يمارس مهنة العطارة فهو يخبر مثلاً أنه ألف «مصيبة نامه» و«إلهي نامه» في دكانته، حيث يقول في تقديم كتابه الضخم «تذكرة الأولياء»: «مصيبة نامه وهي حسرة العالم وإلهي نامه وهي الإسرار المشهودة، بدأتهما في الصيدلة وسرعان ما فرغت من كليهما». ويضيف في مقدمة تذكرة الأولياء ما ترجمته:«وباعث آخر – لتأليف الكتاب- هو أنني بلا سبب كنت أشعر منذ الطفولة بمحبة زائدة تجاه هذه الطائفة تموج في قلبي، كما كانت أقوالهم تسعدني في كل آونة».
وهذا يعني أن العطار كان مولعاً بطريق التصوف منذ صغره لا سيما وأن والده كان سالكاً في طريق القوم، كما أن الحقائق الصوفية العميقة التي يعبّر عنها في الكتابين المذكورين تؤكد أنه كان قد بلغ مرحلة متقدمة من الاختبار الصوفي قبل أن يهجر دكانه. لكن العطار سيقرر لاحقاً التخلي عن مهنة العطارة والتفرغ للخلوة والعبادة، ولا توجد رواية واضحة عن زمن وظروف تركه للمهنة ودخوله مرحلة الاعتكاف وترك الدنيا بكل وجوهها، إلا أن عبد الرحمن الجامي يورد في كتابه «نفحات الإنس» رواية جاء فيها: «ذات يوم كان العطار في دكان عطارته فجاءه هناك فقير، وقال له مرات عدة: أعطني شيئاً لله. فلم يأبه له. فقال الفقير: أيها السيد كيف تموت؟ فقال العطار: كما ستموت أنت. فقال الفقير: أيمكنك أن تموت مثلي؟ فقال العطار: نعم. فوضع الفقير قدحه تحت رأسه وقال: الله! وأسلم الروح. فتغيّر حال العطار وتخلص من متجره توا وجاء إلى هذا الطريق». وقد تكون هذه الرواية صحيحة وقد لا تعدو كونها بعض ما ينتجه خيال العامة حول حياة الأولياء من الفصول المثيرة. ولا بدّ من القول إن القصة تتحدث عن رد العطار للسائل الفقير وهذا مناقض لشيم العطار نفسه وللصوفية عموما،ً كما أن واقع أن العطار أنجز تأليف اثنين من أهم كتبه في عطارته، كما يقول يلقي بشكوك قوية على الحكاية التي تجعل من تحول العطار إلى طريق الزهد بالدنيا تحولاً مفاجئاً نجم عن حادث غير متوقع اعترض حياته العادية. وتذكِّر القصة بما حدث للحكيم سنائي مع «المجنون» الذي أنبه لمجالسته السلطان وسعيه في الدنيا، كما أنها تذكر بقصة إبراهيم بن أدهم وتحوله المفاجئ إلى الزهد، كما أن جلال الدين الرومي أيضاً تبدّلت حياته جذرياً بمجرد اعتراض سيره من درويش أمي غامض هو شمس تبريز.
تتفق المصادر المختلفة على أن والد العطار اسمه إبراهيم وكنيته أبو بكر وكان يعمل عطاراً هو الآخر، وكان من مريدي الشيخ الصوفي قطب الدين حيدر في قرية كدكن، وهي إحدى قرى نيسابور. وقد عمر والد العطار إلى ما بعد الثمانين من عمره، كما أن امه كانت على قيد الحياة يوم وفاة أبيه ويعتقد أنها توفيت أثناء تأليف العطار لكتاب «اسرار نامه»، وأنها كانت من أهل المعنى وقد بكاها العطار، وكتب يقول:«لم يكن لي إنس إلا بأمي، وقد ذهبت. كم أشدت أزري هذه الضعيفة التي كانت خليفة من مملكة الدين، لقد كانت ضعيفة كالعنكبوت، ولكنها كانت لي حصناً ودرعاً». وكانت كما يقول «رابعة الثانية بل أتقى من رابعة، بقيت تسعة وعشرين عاماً تلبس حقير الثياب وخشِنَها، وكانت تقوم الليل دعاء وبكاء».

«شكرا لله أنني لم ألجأ إلى قصر ولم أكن ذليلاً لحقير ولم أُطعم من خوان أي ظالم أبداً، ولم أختم كتاباً بذكر أحدهم مطلقاً»

لقاء العطار والرومي
تحدّث المؤرخون عن لقاء العطار بجلال الدين الرومي الذي كان يومها ولداً صغيراً وقد اصطحبه والده «بهاء ولد» إلى نيسابور حيث زار الشيخ فريد الدين العطار، ويقال إن العطار أخذ الطفل جلال الدين بين ذراعيه وبشر والده بأن له مستقبلاً عظيماً ثم باركه وأعطاه نسخة من منظومته «أسرار نامه»
وليس هذا بغريب، فمن عادة الصوفية أثناء الترحال الإسراع بلقاء كل شيخ عارف مشهور تسنح لهم فرصة اللقاء به. وقد كان العطار يوم زيارة بهاء ولد إلى نيسابور قد أصبح ذائع الصيت ولا بد أن بهاء ولد كان في شوق لرؤيته فانتهز تلك الفرصة.
اختلف المؤرخون في تحديد سنة ولادة فريد الدين العطار لكن الرأي الأغلب هو أنه ولد بين سنتي 545 و553 هجرية. لكنّ المؤرخين اتفقوا على أن العطار عمَّر أيضاً حتى سن الكهولة وذهب بعضهم إلى أنه عاش حتى بلغ 114 عاماً. لكن الرأي المرجح بناء لبعض تلميحات العطار نفسه في شعره أنه بلغ الثمانين من العمر.
توفي العطار بإجماع أغلب المؤرخين في سنة 627هـ. وفاة طبيعية ودفن في نيسابور حيث يقع ضريحه .
مؤلفاته
هناك تباين كبير في تحديد عدد المؤلفات التي كتبها فريد الدين العطار، وذلك بسبب الكم الكبير من المؤلفات التي نسبت إليه أو دُست عليه لأغراض معينة، لكن يوجد في الوقت نفسه اتفاق على أن الكتب الصحيحة النسب إلى فريد الدين العطار، تسعة وهي:
1.تذكرة الأولياء – 2.أسرار نامه – 3.إلهي نامه – 4.يند نامه – 5.خسرو نامه – 6.الديوان – 7.مختار نامه – 8.مصيبة نامه – 9.مصيبت نامه – 10.منطق الطير.
وجميع هذه الكتب شعرية، عدا كتاب تذكرة الأولياء الذي تناول فيه بالشرح والدراسة أحوال عدد كبير من أعلام التصوف، ويقع في جزءين كبيرين، وقد أشرف على طبعه وتصحيحه العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني، كما أن هذه الكتب نشرت وترجم بعضها إلى لغات عدة. لكن لم يترجم منها إلى العربية إلا كتاب يند نامه (أي كتاب النصيحة) وتبع ذلك ترجمة كتاب منطق الطير وأخيراً تذكرة الأولياء.

شيخ العطار
التقى العطار بالشيخ مجد الدين البغدادي، وقال البعض إنه كان من أنصار الشيخ نجم الدين كبرى لكن الرأي الأرجح أنه تأثر بالشيخ أبي سعيد ابن ابي الخير المتوفي سنة 440 هـ. والدليل على ذلك أنه أكثر من مديحه فقد ذكره في تسع حكايات في «مصيبة نامه» وفي خمس حكايات في «إلهي نامه» وفي ثلاث حكايات في منطق الطير وفي حكاية واحدة في «أسرار نامه»، وكل هذه الحكايات تعظم أبا سعيد غاية التعظيم.
كما أن العطار أشار صراحة إلى أن ما بلغه مستمد من روحانية الشيخ أبي سعيد فضل الله ابن أبي الخير.
«إنني أدرك أن كل حظ أجده في هذا الزمان من أنفاس أبي سعيد».
«كما أنني أحظى في كل لحظة بنصيب وافر من سبل مدده».
لكن العطار تأثر أيضاً بالإمام أبو حامد الغزالي بدليل أن الغزالي كان أول من أعلن الحرب على الفلسفة وقد تابعه العطار في ذلك، كما أن العطار متأثر في بعض قصصه بالغزالي وخصوصاً قصة منطق الطير التي أخذ أصولها عن «رسالة الطير» للغزالي، كما أن العطار أخذ قصة الشيخ صنعان عن الفصل العاشر من تحفة الملوك للغزالي. أخيراً فإن الغزالي قام بالتدريس في نيسابور فترة من الزمن ولا بدّ أنه ترك آثاراً كبيرة فيها، وأن بعض تأثير الغزالي وصل إلى العطار وإن كان من المرجح أن الرجلين لم يلتقيا.
كان العطار ذا ثقافة واسعة تغطي مختلف جوانب الفقه وعلوم الحديث والتاريخ والطب والفلك وكان حافظاً للقرآن شغوفاً بقراءة سير السابقين من الأئمة والأولياء الصالحين وكتابه «تذكرة الأولياء» خير دليل على ذلك. إذ يقال إنه قرأ من كتب السير والتراجم ما وصل مجموعه إلى أربعمائة كتاب في سياق جمع مادة «التذكرة».

ابتعاده عن أهل السلطان
كان العطار يعيش بيسر ودعة من جراء عمله في مهنة الطب والصيدلة، وكان يستقبل حسب قوله نحو خمسمائة مريض يومياً ويصف لهم الدواء أو يصنعه بنفسه. وقد ساعدته مهنته على أن يحتفظ لنفسه بحرية تامة، وأن يجانب أهل السلطان منصرفاً بكليته إلى مهنته أولاً ثم إلى العبادة والتأليف. ولم يؤثر عنه انه أهدى كتاباً من كتبه إلى ملك أو أمير، كما فعل سنائي الشاعر الصوفي الذي ختم سير العباد إلى المعاد بمدح أبي المفاخر سيف الدين محمد بن منصور قاضي سرخس.
وهو يقول في منطق الطير ما ترجمته:
لكن حال العطار تبدّلت بعد أن هجر الصيدلية ودخل في مرحلة من الاعتكاف والبعد عن الناس وعاش على أبسط الطعام، كما يقول هو في منطق الطير:
«الخلق كلهم بلا وفاء وغاية في الجهل، لذا فقد تحملت الآلام وحدي وإذا أقمت مائدة من خبز جاف فإنني أبلله بدموع عينيّ».
وفي شعر آخر شبّه العطار نفسه في عزلته وابتعاده عن الخلق بمالك الحزين.
«يقولون: ما له آثر العزلة، لا! إنني أصادق الله في هذه العزلة»
«ولا صديق لي بين الخلق، وإن كنت أفعل ذلك فلأنني في الطبع مثل مالك الحزين».

ناهض الفلسفة لقيامها على التأويل العقلي الظني لشؤون لا يمكن إدراكها إلا بالمجاهدة والكشوفات القلبية، مؤكداً أن العقل الإنساني قاصر، وهو عرضة لمختلف أنواع التأثر والتوهم والأهـواء

ن-حدائق-نيسابور
ن-حدائق-نيسابور

مناهضته للفلسفة
يتفق الصوفيون على اختلاف مشاربهم على مناهضة الفلسفة بإعتبارها تقوم على التأويل الظني لشؤون لا يمكن إدراكها إلا بالمجاهدة والاختبار الحدسي. فالحقائق العلوية أو «العلوم اللدنية» لا تأتي في نظر أهل التصوف من طريق إعمال العقل، لأن العقل الإنساني قاصر – وهو عرضة لمختلف أنواع التأثر والتوهم والأهواء- بل عن طريق الكشوفات التي ترد على القلب غالباً بفعل إمداد المرشد وفي سياق تربيته للسالك أو المريد. وبهذا المعنى فإنه لا تعلُّم في نظرهم من دون معلم، أو كما يقولون «من ليس له مرشد فمرشده الشيطان»، وهم يعنون بذلك أن من لا يأخذ المعرفة عن طريق مُسلِّك عارف بالأسرار فإنه سيقع عاجلاً أم آجلاً في الحيرة ويقيم علمه على الظن وأهواء النفس فيصبح بذلك فريسة سهلة للشيطان.
يبقى القول إن العطار ناهض الفلسفة بقوة كما ناهضها الإمام أبو حامد الغزالي في مؤلفه الشهير «المنقذ من الضلال»، وكذلك في كتاب «تهافت الفلاسفة»، إلا أنه ناهضها بشِعرِه القلبي واختباره الروحي المباشر وإعلائه لشأن العشق والفناء كطريق للكشف العرفاني. وجاء نقد العطار للفلسفة صدى لإزدهار ما سمي في عصره علم الكلام، وما أثاره عبر نظريات الفارابي وابن سينا من جدالات ومحاكمات عقلية لا تنتهي حول الوجود والعالم، وكل تلك النظريات المتضاربة كانت كلها في نظره نتاج الخيال ولا تفعل سوى قطع السالك عن مسيره عبر إلهائه بجدل يقوم كله على الظن وليس الاختبار اليقيني.
«وكيف تعرف عالم الروحانيين من بين فلسفة اليونانيين»
«ولن تكون رجلاً في حكمة الدين إن لم تفارق تلك الحكمة»
«وكل من يحمل هذا الاسم (فيلسوف) في طريق العشق فلن يكون خبيراً في مجال الدين بالعشق»
«يكفي رجل الدين حكمة السيرة (المحمدية) فانثر التراب على مفرق اليونانيين من طريق الدين»
«وإن يقطع علم الجدل الطريق فهو كثيراً ما يقطعه على العارفين».

مناهضته للتعصب
كان العطار معادياً للتعصب والمتعصبين، وهو كتب في مقدمة منطق الطير فصلاً مسهياً حاول فيه تسفيه منطق المتعصبين وتعييرهم بالجهل بصورة عامة وبجهل حقيقة النبوة وحقيقة الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام. يقول العطار في مطلع منطق الطير ما ترجمته:
«يا من وقعت في أسر التعصب وظللت أبداً أسير البغض والحب، إن كنت تفخر بالعقل واللب فكيف وقعت أسير التعصب؟ فيا أيها الجاهل لا توجد الرغبة في الخلافة إذ كيف تتأتى الرغبة لدى أبي بكر وعمر؟
يشير بعض المؤرخين إلى أن العطار كان سنياً شافعياً لكن شعر العطار يوحي بأنه كان مثل أهل الصوفية منفتحاً على المذاهب فهو مدح الخلفاء الراشدين وخص الإمام علي (ع) بالكثير من المديح، كما أنه ذكر أبا حنيفة وترجم له ومدحه في كتاب تذكرة الأولياء وذكر الإمام الشافعي، وخص أحمد ابن حنبل بحكاية في منطق الطير.
ونعود إلى نقطة أساسية هي أن العطار مثل جميع الصوفية الكبار هو من أهل المعنى والتحقيق وهو لا يرى من منظار مقام التوحيد سوى التوحيد، فلا توجد في ذلك المقام مذاهب ولا اجتهادات ولا فوارق لكن العطار يلتزم أدب الصوفية في احترام مختلف العقائد والنظر إلى التنوع بعين الوحدة. لهذا السبب، فإن معظم أقطاب الصوفية عظموا القرآن الكريم والرسول (ص) والصحابة كما عظموا الأنبياء الذين عظمهم الإسلام لكنهم لم يدخلوا إطلاقاً في جدل المذاهب، ولم يذهب أي منهم إلى القول بهذا المذهب أو ذاك، وقد كان هذا التباين، أو قل التنوع، شائعاً بين الفقهاء وهو أمر اعتبره الإسلام أمراً إيجابياً بدليل الحكمة الشائعة «اختلاف الأئمة رحمة للأمة».

مكانة العطار
يحتل فريد الدين العطار مقاماً رفيعاً بين شعراء الصوفية، وهو أحد الذين ألهبوا مشاعر العابدين وألهموا العديد من شعراء الصوفية في ما بعد، وها هو جلال الدين الرومي الذي يعتبر العطار أحد مصادر إلهامه يقول:
«العطار روح وسنائي عيناه، ونحن خلَفنا سنائي والعطار»، وقد نهج شعراء المولوية، وهم أتباع جلال الدين الرومي على نهج مؤسس الطريقة في إحاطة اسم العطار بهالة من الحرمة والقدسية، فالشاعر المولوي محمد أفندي وهو من شعراء القرن الثالث عشر الميلادي يقول في إحدى غزلياته:
«إن مصباح طبعي يشتعل عن قاسم الأنوار، ويتنسم أنفه عطر الفناء من العطار».
ويقول الشاعر كاتبي النيسابوري:
«إنني كالعطار من روضة نيسابور، ولكنني شوك في صحراء نيسابور وهو وردها».
وكتب الحاج ميرزا عبد الكريم بخط يده بيتين على نسخة من ديوان العطار هذه ترجمتها:
«إن العطار كاشف أسرار الوجود وإنه كسنائي من فيض الإله
فاقرأه دائماً كما تقرأ القرآن فإنه يحيل أهل الشكوك أهل شهود».

مدح العطار لشعره
الملفت أن العطار نفسه كان معجباً بشعره ليس من منظور التفاخر بل لأنه اعتبره نتاج إلهام رباني وإمداد أولياء المعنى الذين تعهدوا مسيرته الروحية والشعرية. وهذا بعض ما جاء في خاتمة منطق الطير على لسان الشاعر:
«لقد خُتم عليك منطق الطير ومقامات الطيور كما ختم على الشمس بالنور»
«وهذه المقامات طريق كل حائر، كما أنها ملاذ لك مضطرب»
«وكل من لم يتنسم قولاً من هذا الاسلوب، فما أدرك قيد شعرة من طريق العشاق»
«وإذا تيسر لك أن تقرأه كثيراً، فبلا شك سيزداد حسناً في كل مرة لديك»
« ولقد نثرت الدر من بحر الحقيقة، كما ختم عليّ الكلام وهذا هو الدليل»
«وإن تلاشت هذه الأفلاك التسعة من الوجود، فلن تضيع نقطة واحدة من هذه التذكرة»,
وقال أيضاً:
«وأهل الصورة غرقى بحار كلامي وأهل المعنى رجال أسراري»
«إن نظمي يتسم بخاصية عجيبة فهو يولد معنى جديداً في كل آونة»
«وحتى يوم القيامة لن يكتب شخص قط كلاماً مثلي أنا الولهان»

منطق الطير
يعتبر كتاب منطق الطير أهم مؤلفات العطار الشعرية، كما أنه من أعظم ما نظم في الأدب الفارسي عامة وفي الأدب الصوفي بشكل خاص. وقد توسّل الشاعر في نظم منطق الطير قصة النبي سليمان بن داود في القرآن الكريم وحديثه مع الطير، والقرآن الكريم تكثر فيه الآيات التي تفيد بأن للطير لغته الخاصة. من ذلك ما جاء في سورة النمل
} حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{ (النمل:18)
كما أنطق الله سبحانه وتعالى الهدهد الذي قال موجهاً كلامه إلى الملك سليمان:
}فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ { (النمل:22).
وجاء في القرآن الكريم قول النبي سليمان لقومه إن الله علمه لغة الطير }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ{ (النمل:16)
كما أن القرآن الكريم يورد أمثلة عديدة على أن الطيور وكافة المخلوقات تسبح الله تعالى }وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ{ (الإسراء:44) كذلك قوله تعالى في سورة النور: }أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ{ (النور: 41)
كل هذه الأمثلة وفرت للعطار المنطلق الإيماني لكتاب منطق الطير، لكن الشاعر وجد في استخدام عالم الطير أيضاً ميزات شعرية مهمة لجهة استخدام الرمزية وإسناد الصفات المختلفة للطيور بما يجعل سهلاً عقد رابط بين سلوكها في الرحلة وأقوالها وأعذار كل منها وبين ما يتعرض له السالكون في الطريق، لكن بأسلوب شاعري خيالي يضفي على الرواية سحراً خاصاً بل وأثراً روحياً في النفوس، كما أن استخدام الطير مكّن العطار من الحديث عن الطيران، وهو صورة جميلة للارتقاء، كما مكّنه من استخدام صورة الهبوط والتعثّر في الأودية التي تعترض السالك في رحلته إلى المعرفة.

بنية الكتاب
تبدأ قصة منطق الطير باجتماع للطيور استهدفوا منه البحث عن طريق موصل إلى الله تعالى ومعرفة سبل السير عليه بحيث لا يضيع المسافر في الطريق ويتعرض إلى المهالك. وكان أول ما فعلته الطير هو اختيار الهدهد مرشداً لها يتولى السير بها نحو الله تعالى، والذي يرمز له العطار بطائر السيمرغ، وهو طائر متخيل لا وجود له في الطبيعة، وقد بدأ الهدهد بتعريف الطيور بمصاعب الطريق وما ينتظرها فيه، وقد أثر إدراك الطيور بقدر المشاق والمخاطر التي تكتنف الرحلة في عزيمتها، وبدأ كثير منها بالتلكؤ وإيجاد الأعذار للهدهد الذي كان يرد على كل من تلك الأعذار ويحث كل منها على متابعة السير. ويعرض العطار في الكتاب للأودية السبعة التي لا بدّ للسالك من اجتيازها، وهذه الأودية هي وادي الطلب ووادي العشق ووادي المعرفة ووادي الاستغناء ووادي التوحيد ووادي الحيرة وأخيراً وادي الفقر، وهو آخر الأودية الموصل إلى الفناء.

الصوفي والتكليف

يعتبر العطار التمسّك بأهداب الدين شرطاً أساسياً للطريق، وهو في هذا لا يختلف عن أعلام الصوفية الذين أعلنوا دوماً تمسكهم بالشريعة. لكن العطار شأنه شأن صوفيين كبار مثل نجم الدين كبرى والبسطامي والرومي وغيرهم يعتبر استغراق القلب وإقبال الروح على الله في حالة الفناء أعلى من التكليف. وهو يورد المثال التالي وينسبه إلى لقمان الحكيم.
طلب لقمان السرخسي من الله أن يمنحه السعادة فقال له هاتف:”يا من يعد من خواص الحرم، إن كل من يطلب الخلاص من العبودية عليه أن يفنى عقله وتكليفه معاً. فقال: “إلهي، إني أطلبك أنت على الدوام، وليس لي بالعقل والتكليف أي اهتمام”.
وأخيراً خرج عن حدود العقل والتكليف، وظل يرقص مما تملكه من جنون، ويقول: إني لا أعرف الآن من أنا، فإن لم أكن عبداً فمن أنا؟ لقد انمحت العبودية، وانعدمت الحرية، وما تبقى من ذرّة هم أو بارقة سعادة في القلب، وهل عدمت الصفة؟ وهل أنا عارف؟ أم أنني لا اتسم بأي معرفة؟ ولا أعلم أأنا أنت أم أنت أنا؟ فقد فنيت فيك وتلاشت الأنية.

آراء العطار في منطق الطير

أولاً: المرشد والمريد
بدأ العطار منظمته بمشهد اختيار الطيور للهدهد مرشداً لها تأتمر بأمره وتتبع هديه وإرشاده، وعرض العطار في هذا الفصل لأهمية المرشد في طريق المعرفة وأهمية التسليم له بالكلية حتى يصبح المريد بين يدي الشيخ مثل «الميت بين يدي الغاسل»، لأنه من دون هذا التسليم لا يمكن للمريد متابعة السير. يصف العطار هذا المبدأ الأساسي في مسلك الصوفية فيقول:
«وقال الجميع: يجب أن يكون لنا رائد في طريق البحث، يكون له علينا العقد والحل
ويكون مرشدنا في الطريق، لأنه لا يمكن قطع الطريق اعتماداً على الغرور
وسننفذ أوامر حاكمنا بأرواحنا، ولن نقطع الطريق إلا بحكمه وأمره
وبعد الاقتراع لصالح اختيار الهدهد مرشداً في هذه الرحلة الشاقة يتحدث العطار عن أهمية التسليم التام للمرشد من قبل المريد بالكلام التالي:
«وتعهد الجميع أن يكون هو (الهدهد) رئيسهم، وأن يكون مرشدهم في الطريق وهاديهم. والحكم حكمه والأمر أمره ولن يبخل أحد عليه بالروح أو بالجسد» .
وفي هذه الأبيات يوضح العطار بعض مبادئ الصوفية حول علاقة الشيخ بالمريد وهي:
لا بد أن تكون للسالك الرغبة الجامحة في السير إلى جناب الحق، وهذا واضح في مقدار عزم الطير على المسير.
لا يمكن قطع الطريق بلا مرشد أو دليل يعرف أسرار الطريق وطرق الوصول إلى الهدف، لأنه أولاً هو واصل وباتت لديه خبرة طبيب القلوب وتخليص المريد من أدران النفس، وتربيته بحيث يصبح أهلاً لتسلّم الأسرار، وهذا يعني أن المريد يبدأ طالباً لكنه جاهل بسبل الوصول ومخاطر السير، فإذا سار بمفرده فإنه سيتبع هواه والأوهام المسلطة على عقله فيضل.
والعطار يشير إلى تلك المبادئ في سلوك أهل المعنى بالقول:
«ولا بدّ للطريق من شيخ ولا تسر بمفردك ولا تسلك هذا البحر مسلك التخبط والعمى.
وإذا كنت لا تميّز بين الطريق والهوة السحيقة فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل.
«وليست لك عين بصيرة، كما أن الطريق ليست قصيرة والشيخ في طريقك هو هادي الطريق».
والولاية في رأي العطار منحة إلهية لا تتم بالمجاهدة والرياضة بل يهبها الله سبحانه وتعالى لمن أراد. وهو يشير إلى أن الشيخ المرشد يصل إلى الولاية بنظرة تصيبه من صاحب الحضرة فترفعه هذه النظرة إلى مقام المرشد،.شرح العطار ذلك في جواب الهدهد لطائر سأله كيف حظي بهذه المكانة العالية دون سائر الطير. قال العطار على لسان الهدهد:
«أيها الطائر لقد كان سليمان يديم النظر صوبي في كل آونة.
ولم أحصل على ذلك بالفضة أو الذهب، وإنما تتأتى هذه المكانة من نظرة واحدة».
ومن صفات الشيخ حسب العطار، أن يكون قد وصل إلى إدراك الحقيقة كما يكون قد خبر الطريق وطاف بكل وديانه، فقد قال على لسان الهدهد:
«وجئت وقد أمدتني الحضرة بالمعرفة، وصرت صاحب أسرار بالفطرة
ولقد قضيت السنين في البحر والبر، وكم أصابني الاضطراب من قطع الطريق».

ثانياً: الله والعالم
يقول العطار في منطق الطير:
«وعندما هبطت الروح إلى الجسد صار الجزء كلاً، والروح: تتصف بالطهارة، أما الجسد فصفته الذلة والمهانة. وسرعان ما اجتمعت الروح الطاهرة بالجسد المهين، وما أن اتحد السمو بالخسة حتى كان آدم أعجوبة الأسرار».
أي أن الإنسان، كما يرى العطار وغيره من المتصوفة، مكون من جسد نزاع للشهوات والعودة إلى أصله الخسيس وروح نزاعة إلى الطهر والعودة إلى أصلها العلوي أو القدسي. يقول على لسان الله تعالى موجهاً كلامه إلى النبي داود عليه السلام:
«ولما لم يكن هناك عوض لي فلا تكن بدوني، وأنا يكفيني الروح فكن روحاً ولا تكن جسداً».
أما عن طبيعة الصلة بين الله والعالم فهي حسب تصوير العطار مثل الصلة بين القطرة والبحر وما البحر إلا الله وما القطرة إلا العالم.
«وحضرة الحق بحر خضم عظيم، وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم ومن يملك البحر يملك القطرة، وكل ما عدا البحر هوس وجنون».
ويستخدم العطار تصويراً رائعاً ثانياً لمحاولة تقريب صلة الله بالعالم إلى الإذهان مستخدماً مثل العلاقة بين الشمس والظل. فالعالم ما هو إلا ظل الله سبحانه وتعالى. وحين سأل طائر الهدهد أن يوضح العلاقة بين «السيمرغ»، أي الله تعالى، وبين الطير أي الإنسان، قال الهدهد:
«عندما رفع «السيمرغ» النقاب فإن وجهه بدا كالشمس المشرقة، وسقطت منه مئات الألوف من الظلال على التراب، وقد نثر ظله على العالم فأصبحت تلك الطيور، وصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظل للسيمرغ».
ويقول العطار على لسان الهدهد:
«إن كل ثوب يكسو المروج ما هو إلا ظل للسيمرغ، ونحن نعرف السيمرغ في هذا الظل، لأن السيمرغ لا ينفصل عن الظل، ولا ينبغي للإنسان أن يبقى أسير الظل يتخبط فيه، وإنما يجب عليه أن ينظر في ظل السيمرغ وسيرى الشمس وسط الظل، وإذا فتح باب المعرفة فسترى كيف تتلاشى الظلال في الشمس وتشاهد كذلك أن كل شيء هو الشمس».
وفي مقدمة منطق الطير يناجي العطار ربه فيقول:
«ولما كنا متلازمين دائماً، فأنت كالشمس ونحن كالظل».
ويقول :
«وما أكثر من خبروا سطح ذلك البحر، ولكن لم يدرك أحد قط ما في قاعه. فالكنز في القاع وما الدنيا إلا طلسم، وفي نهاية الطلسم سيتحطم قيد الجسد، وستجد الكنز عندما يفنى الطلسم أولاً، وستظهر الروح عندما يفنى الجسد، وبعد ذلك فما روحك إلا طلسم آخر، فروحك للغيب جسد آخر وما الغيب إلا الله».
ويستخدم العطار صورة المولّى والعبد ليصف علاقة الإنسان بالله يقول:
«أنا بالنسبة لك عبد بذول للروح ولي وسم كالحبشان منك، وإن لم أكن لك عبداً فكيف أكون سعيداً؟ وقد احترق قلبي حتى أصبحت عبداً لك، فلا تبع عبدك الموسومن ولتضع حلقة العبودية في أذني عبدك».
بناءً على هذه الصور الثلاث، فإن العالم عدم لا وجود له ولا وجود إلا لله الأعظم وهو صاحب الوجود وحده. وما دام الوجود لله وحده وما عداه عدم فلا يمكن أن يصدر عن العدم فعل فالفاعل هو الله وحده }فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ{(هود: 107)
«فقال صاحب الحضرة: أيها العجزة، يا من تلوثتم بدماء القلب كالوردة
فإن تكونوا أو لا تكونوا في الدنيا فهو السلطان المطلق الأبدي»
كما أن الملك محمد الغزنوي يرد على ذلك الذي حادثه في دار القرار وسأله عن حاله فيها مخاطباً إياه بلقب السلطان. يقول:
«إن سلطاني خيال وغرور، إذ كيف تكون السلطنة لحفنة من السقط؟ الله وحده هو السلطان مالك الدنيا، وهو الحقيق بهذه السلطنة، وما أن رأيت عجزي وحيرتي حتى شعرت بالعار من سلطنتي».
وما دام الله هو السلطان وحده والخلق ظل له فهو في غنى عن الخلق وطاعتهم لن تنفعه بشيء كما أن معصيتهم لن تضره بشيء فكل شيء قد يخطر على بال بشر أو لا يخطر متوافر لديه، وخزائنه لا يمكن أن تنقص من المنة والعطاء.

الهدهد-الذي-ذكره-القرآن-الكريم-في-سورة-سبأ-جعله-العطار-مرشدا-للطير-إلى-الله-في-كتاب-منطق-الطير
الهدهد-الذي-ذكره-القرآن-الكريم-في-سورة-سبأ-جعله-العطار-مرشدا-للطير-إلى-الله-في-كتاب-منطق-الطير

وما أكثـــــر من خبروا سطح ذلك البـــحر ولكــــن لم يدرك أحــد قط ما في قاعـــــه

جانب-من-بازار-نيسابور
جانب-من-بازار-نيسابور

فناء السالك في الله أشبه بفناء القطرة في البحر والظل في الشمس والفـــراشة فــي شعــلة النور

 

عالم الوحدانية والفناء في الله
يبدع العطار في أوصافه الشاعرية للوحدانية وهو يختلف هنا في وصفه عن مفهوم وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، :
«وعلى أي شيء يستقر الفضاء؟ لم يستقر على شيء مطلقاً، فلا شيء إلا العدم، وما كل هذه الأشياء إلا عدم مطلق، فأمعن التفكير، في صنع الله، إذ كيف يحفظ هذه الأشياء مستندة إلى العدم؟ وإذا كانت كلها في عالم الوحدانية عدماً، فهذه كلها عدم ولا ريب. فالجميع هو الله، وما هذا العالم أو ذاك إلا الله وحده، ولا وجود إلا له، وإن كان هناك موجود فهو الموجود وحده».
فالوحدانية بالنسبة للعطار لا تعني وحدة الوجود بل وحدة الموجود بمعنى أنه وحده الموجود وكل ما عداه في عالم الصورة عدم متخيل ونتاج الوهم.
«فتخلَّ عن نفسك، فهذا أصل الكمال، وكفى، وافن نفسك، فهذا عين الوصال، وكفى، فلتفن نفسك فيه حيث في الفناء الخلود، وكل ما عدا ذلك ضرب من الفضول، ولتمضِ في طريق الوحدانية متجنباً الثنائية، وليكن لك قلب واحد وقبلة واحدة وطريق واحد».

دعوته لكتم الحقيقة عن غير أهلها
والعطار رغم جرأته في البوح بسرّ الوحدانية يدرك بحكمته ويعي دقة الكلام في الموضوع، والذي يجب أن لا يتجاوز الخاصة والراسخين في التجربة وعالم البرهان، وهو يوصي بكتمان الحقائق الملكوتية عن العامة والاحتفاظ بالسر، يقول:
«فإذا عرفت فتبين الحقيقة وكن حذراً، وإذا عرفت فلا تكن مفشياً للسر وكل من صار هكذا فإنه يكون مستغرقاً، فحاشا لله أن تقول «أنا الحق»، وإذا لن تصر مثلما قلت فأنت لست الله، ولكنك مستغرق في الحق دائماً، وكيف يكون المستغرق حلولياً؟ وكيف يكون هذا الكلام من شأن الفضولي؟»
«لا تقل ذلك ما لم تأتِك إشارة بذلك، ولا تتحدث عن شيء ما لم يأتِك به بيان، أما هو فلا تليق به الإشارة ولا البيان، وليس لإنسان قط علم به، ولا عرفان التجربة والمقربون من جنبا الحق، فهو ينصح السالك المطلع بالكتمان ويضيف وعبرة الحلاج لا شك ماثلة في ذهنه».

صور الفناء في شعر العطار
فناء السالك في الله كفناء القطرة في البحر، وقد وضع العطار هذه الصورة في نهاية الحديث عن وادي الفقر والفناء، وهو يقول:
«إذا هاج وماج البحر الكلي فهل تبقى نقوش على صفحة البحر؟ إن كلا العالمين نقش ذلك البحر. وكل من أصابه الفناء في بحر الكل فهو دائما فانٍ بالٍ، والقلب في هذا البحر الغاص بالفناء لا يجد شيئاً إلا الفناء.. وإذا فني نجس في بحر الكل صار إلى القاع ذليلاً بصفاته، ولكن إذا مضى فيه رجل طاهر فسيفنى فناء حقيقياً، ولن يبقى له أثر، فتصبح حركته هي حركة البحر».
في صورة أخرى يشبه العطار فناء السالك بالله بفناء الظل في الشمس، وهو يقول في نهاية القصة بعد أن وصلت الطير إلى السيمرغ، وتمّ اللقاء بينها وبينه وتمّ لها الفناء. يقول:
«لقد انمحوا فيه في النهاية على الدوام، كا يفنى الظل في الشمس والسلام».
ويشرح العطار هذه الصورة في كتاب مختار نامه فيقول:
«إن النبي يقول للسالك: إذا أردت أن تخرج عن نفسك، وأن تفنى، فلا بدّ وأن تصبح لا شيء في ذات الله، كن ظلاً يضيع في الشمس، كن لاشيء والله عالم بكل شيء».
يقول العطار:
«إن لم يصبك النقصان في الفناء فلن ترى السلامة مطلقاً في البقاء. وفي الطريق تُلقى إليك الذِلة في البداية ثم ترتقي فجأة بالعِزة، فصِر إلى العدم حتى تدرك الحياة في أثر ذلك، فما دمت موجوداً فكيف تصل الحياة إليك، وإن لم تُمحَ في الذلة والفناء فكيف يصلك من العزّ إثبات البقاء».

ما-هذه-الدنيا-إلا-وهم
ما-هذه-الدنيا-إلا-وهم

التحقق الصوفي
التحقق أي تلقي الكشوفات الربانية والعلم اللدني غير ممكن في نظر العطار من دون الفناء في العشق والمحبة. يقول في هذا المعنى:
«فما أن جئت من العدم إلى الوجود، حتى جئت أسير وجودك، فيا ليتك تكون الآن كما كنت أولاً، حيث كنت عن الوجود معطلاً، فطهر نفسك كلية من الدنية، ثم أسلم هذه النفس إلى الريح بعد ذلك ووارها التراب.
ويضيف في مكان آخر:
«وأنت يا عطّار متى تتخلص من هذا الكلام المجازي؟ وتعود إلى سر أسرار التوحيد؟ فعندما يصل السالك إلى ذلك المكان، يتلاشى الرجل والمكان من الطريق، يتلاشى لأنه هو وحده الظاهر والبادي، ويلزم الصمت، لأنه وحده المتكلم والناطق، ويفنى الجزء ويبقى الكلّ، ثم يفنى الكلّ والجزء معاً»
أفاض العطار كثيراً في منطق الطير في الحديث عن العشق، وهو القوة الخفية التي تدفع السالك للمضي قدماً في الطريق شوقاً للقاء بالمحبوب الأزلي. وقد اعتبر العطار وغيره من الصوفية العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر فهو يفوقهما معاً.
«كل من كانت له قدم في طريق العشق راسخة فقد تخطى الكفر والإسلام معاً».
اعتبر العطار العشق أسمى مكانة من العقل البشري فقال:
الفارق بين العقل والعشق هو أن الأول مخالط للطبيعة والثاني من الذات الإلهية.
وقد نصح أحد شيوخ الصوفية مريده بالقول:
«عليك بإفناء نفسك في العشق تماماً حتى تصبح في الضعف كالشعرة».
والعشق نوعان: عشق دائم هو عشق المعرفة، وعشق زائل هو عشق الصورة الذي يزول بزوال الصورة. يقول العطار:
«ومن يعشق عالم الغيب فهذا هو العشق الحق، إذ أنه خلي من كل عيب»
كما أن الهدهد يرد على البلبل وهو يتباهى بعشق الوردة فيقول له: يا من تعلقت بالصورة لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميل فعشق شيء مآله الزوال يصيب العاقلين بالملل والضجر».
ويرى العطار أن عشق الذهب يصيب الإنسان بالبلايا، وهو دليل الكفر، وفي الآخرة تمسخ صورة عابد الذهب».
والعاشق يفضّل المعشوق على كل ما عداه من نعيم وملك وأموال، كما جاء في قصة ذلك الوقّاد الذي كان محمود الغزنوي ينزل عليه ضيفاً. وفي زيارة قال السلطان محمود للوقّاد: اطلب ما تبغي وأنا أحققه لك في التو والحال، ولو طلبت أن تكون ملكاً لما توانيت في تحقيق ما تريد. ولكن الوقّاد يقول: إنني أطلبك أنت ولا حاجة لي إلى هذا أو ذاك.
«أنا لا أطلب مُلكاً ولا سلطنة، ولكن كل ما أطلبه منك هو أنت»
والعاشق الحق هو الذي يتخلى عن روحه طواعية من أجل محبوبه ويتضح ذلك من قصة الفقير الذي وقع في حب ملك مصر، ثم خيره الملك بين القتل وترك البلاد جزاء جرأته على حبه فاختار المسكين الرحيل، فما كان من الحاكم إلا أن أمر بقتله لأنه غير جاد في عشقه، ولأنه لو كان جاداً لما خاف الموت ولعرض تقديم روحه للمحبوب بلا تردد.
لقد أعلى العطار مكانة العشق وأحاطه بهالة من السمو والرفعة حتى جعل في مقدور العاشق الإتيان بالخوارق.
«أنه شبيه بالمجنون من شدة العشق، كما أنه يسير على سطح الماء من قوة العشق».
ومن كان في الضعف أكثر عجزاً من النملة، فإن العشق سيمدّه في كل لحظة بقوة هائلة».
العشق هو القوة الحقيقية التي تحث الإنسان على الطلب والعمل والمجاهدة، والتي تهيب بالإنسان إلى العظائم، وترفعه عن الدنايا.

وصف الطريق والأودية السبعة
أولاً: وادي الطلب
وادٍ مليء بالتعب ولا بد فيه من الجد والمجاهدة لسنوات طويلة كما يجب التخلي فيه عن المال والملك وعن الكل، كما يجب التطهر من كل العلائق، وعلى السالك ألا يأبه في هذا الوادي بمخاوف الطريق، كما يجب أن لا يكف عن الطلب، فإذا توانى لحظة عن الطلب فهو مرتد وعليه أن يقدم روحه نثاراً في هذا الوادي، كما يجب أن يتحلى بالصبر حتى لا ييأس في أول مراحل الطريق.
ثانياً: وادي العشق
كل من سار فيه فهو في نار وحرقة، لا يعرف الكفر من الإيمان كما يتساوى أمامه الخير والشر، والعقل غير جدير بهذا الوادي فهو عاجز عن إدراك اسرار العشق. والعشق يوجب على السالك أن يقوم بأي عمل مهما صعب من أجل المعشوق، والسالك في ذلك الوادي يجب أن يتخلى عن كل ما يملك، فالعشق والإفلاس قرينان والعاشق يقدم روحه طواعية تلبية لأمر المعشوق ولكن يكره أن تكون هناك واسطة بينه وبين معشوقه.
ثالثاً: وادي المعرفة
في هذا الوادي يختلف سالك الروح عن سالك الجسد وتتفاوت المعرفة بين السالكين كل حسب مقدرته، بعضهم يدرك المحراب وبعضهم يدرك الصنم، وكلما واصل السالك المسير كلما زادت معرفته بالأسرار، ولا بدّ للسالك ألا يقنع بما يحصله من معرفة بل عليه أن يقول دائماً «هل من مزيد؟» حتى يصل إلى ذي العرش المجيد. وهذا الوادي طريقه طويل لا تبدو له بداية ولا نهاية، وعلى السالك أن يبعد النوم عن عينيه وأن يكون في سهاد وأرق دائمين.
رابعاً: وادي الاستغناء
وفيه يجب على السالك أن يتخلى عن كل شيء في الدنيا، فكل ما فيها تافه لا قيمة له، فما هذه البحار الشاسعة إلا بركة صغيرة وما الأفلاك والأنجم إلا كورقة شجرة كما يجب على السالك أن لا يطمع في شيء مطلقاٌ فما العالمان إلا كذرة رمل لا قيمة لها.
خامساً: وادي التوحيد
وهو منزل التجريد والتفريد، وفيه يرى السالك الكثرة قلة حتى يصل الكل إلى أن يكون واحداً، ولا أهمية للأزل ولا للأبد في هذا الوادي، ومن لم يفنِ من السالكين في الوحدة والاتحاد فهو غير جدير بالمريدية. وعندما يصل السالك إلى مقام التوحيد فإنه لا يشعر بالمكان ولا بنفسه، فيضمحل وجوده الفردي ويتلاشى في هذا الوادي، كما تتلاشى الثنائية أو الإثنينية ولا بقاء إلا للوحدانية.
} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{ (الرحمن:27)

اجتماع-الطير-في-رسم-فارسي
اجتماع-الطير-في-رسم-فارسي

وهو منزل التجريد والتفريد، وفيه يرى السالك الكثرة قلة حتى يصل الكل إلى أن يكون واحداً، ولا أهمية للأزل ولا للأبد في هذا الوادي، ومن لم يفنِ من السالكين في الوحدة والاتحاد فهو غير جدير بالمريدية. وعندما يصل السالك إلى مقام التوحيد فإنه لا يشعر بالمكان ولا بنفسه، فيضمحل وجوده الفردي ويتلاشى في هذا الوادي، كما تتلاشى الثنائية أو الإثنينية ولا بقاء إلا للوحدانية.
} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ{ (الرحمن:27)
سادساً: وادي الحيرة
وفيه يصاب السالك بالألم والحسرة وينخرط في عمل متواصل ويكون عرضة للأحزان دائماً، وتنهال عليه المصائب في كل لحظة فتكثر آهاته وكل ما حصلت روحه عليه من التوحيد يضيع منه في هذا الوادي دفعة واحدة، ولا يعرف السالك أهو موجود أم غير موجود، أهو ظاهر أم خفي، فالسالك في هذا الوادي لا يعرف كنهه ويكون قلبه مفعماً بالعشق ولكن لا يعرف من المعشوق ويكون حائراً بين الكفر والإسلام وقد ساق العطار قصة الشيخ نصر آباد دليلاً على ذلك، إذ حج أربعين مرة ثم ترك ذلك كله وطاف حول معبد للنار من شدة اضطرابه وحيرته من دون أن يشعر بما يفعل.
سابعاً: وادي الفقر والفناء
أهم ما يميّز هذا الوادي هو النسيان، ولا سبيل أمام القلب في هذا البحر الخضم إلا الفناء، ونهاية المطاف في هذا الوادي تختلف من سالك إلى آخر كل حسب طهره وعزيمته، فمرتكبو الخطايا يسيرون إلى القاع أذلاء ولكن من تتطهر نفوسهم يفنون فناء حقيقياً وتصبح حركة كل واحد منهم هي حركة البحر. وهكذا يتم الاتحاد وما الاتحاد إلا فناء السالك عن ذاته وفناؤه في الله، وإذا ما مضى السالك عن الجميع فهذا هو الفناء، وإذا ما فني عن الفناء فهذا هو البقاء بعد الفناء.
ثامناً: العطار وذم النفس
العطار يذم النفس دائماً ويشبهها في بعض الأحايين بالكلب الذي لا يطيع أمراً مطلقاً. فالنفس بمثابة العدو الأول له، وبمثابة اللص الذي يسرق منه أسرار الطريق، فهو يقول:
«إن نفسي لي عدوّ، فكيف أقطع الطريق إذا كان رفيقي لصاً، فالنفس كالكلب لم تطع لي أمراً مطلقاً، ولا أعلم كيف أحرر الروح من ربقتها».
ولا سبيل بالتالي لبلوغ الكمال حسب العطار إلا بإفناء النفس:

مشهد-من-طبيعة-نيسابور
مشهد-من-طبيعة-نيسابور

السهاد ضريبة العشق

يقول العطار إن على العاشق أن لا يغمض له جفن، لأن آلام العشق يجب أن تؤرقه دائماً إن كان صادقاً في عشقه. وهو يورد هذه الحكاية:
“مر معشوق بعاشقه فوجده نائماً فكتب له وريقة فيها بعض الكلمات منها: لتخجل إن كنت عاشقاً، فأي شأن للنوم بعين العاشق، وإذا نام العاشق فلا يكون ذلك إلا في الكفن. وإذا كنت بالعشق جاهلاً فلتهنأ بالنوم لأنك لست للعشق أهلاً”.
وجزاء من لا يحسن العشق الإلهي أن يطرده الله سبحانه وتعالى من عشقه، فالله يطرد من عشقه من ينشغل بأي أمر من الأمور عن عبادته، والدليل على ذلك قصة العابد الذي عبد الله أربعمئة سنة ثم انشغل بتغريد طائر فوق شجرة في بستان يتوسط داره.

«وإن تفن نفسك ذات يوم فستصبح في إشراقة حتى ولو كانت الليالي كلها حالكة».
«وما دامت لك نفس وشيطان، ففي داخلك فرعون وهامان»
«الخلق يخشونك وأنا أخشى نفسي، فما رأيت منك إلا كل خير، وما رأيت من نفسي إلا كل شرّ»
وهو يشبه النفس أيضاً بالثعبان والعقرب فيقول:
«فطهر نفسك من الصفات الدنية، ولتصر بعد ذلك إلى العدم وأنى لك أن تعلم ما بجسدك من أدران وأوساخ فالثعبان والعقرب خفيّان تحت حجبك، وقد ناما وأخفيا نفسيهما».
« ولا تقل «أنا» فكلمة «أنا» تجلب العديد من البلايا حتى لا تبتلي بشرور إبليس».
وصف العطار للنفس لا يختلف عن وصف جميع الزهاد والصوفية كما أنه مستمد من نظرة القرآن الكريم الذي يحذر من مكر النفس ويثني على من يحكمها ويخالف أهواءَها. } أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{(الجاثية:23)
وأيضاً : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) سورة النازعات.
}فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ{ (البقرة: 54)
}إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ{ (التوبة:111)
العطار وذم الدنيا
العطار، كعامة الصوفية، يذم الدنيا وينفر منها، وهو يشبهها في مواضع كثيرة بموقد مشتعل، إذ لا يستقر فيها إنسان في هدوء وسكينة، وهو يقول على لسان الهدهد:
«يا من أنت أقل همة من المخنث، إنك كلب فوق موقد نار، فماذا تصنع؟ وما الدنيا الدون إلا هذا الموقد، وما قصرك إلا حفنة من تراب هذا الموقد».
ويشبهها كذلك ببيت العنكبوت وما الساكن فيها إلا كذبابة تتردى في هذا البيت حتى يصيبها الفناء والبلاء بعد أن يمتص العنكبوت دمها:
«إن الدنيا ومن يرتزق فيها أشبه بذبابة داخل بيت العنكبوت»
وهو يعتبرها في موضع آخر ناراً محرقة:
«وما نارك إلا الدنيا فابتعد عنها، وافعل كما فعل الأبطال، وكن حذراً من هذه النار».
خاتمة : من مناجاة العطار
يا من لا وجود لسواك في طلعتك، أنت العالم أجمع ولا وجود لأحد غيرك، الروح خفية في الجسد، أما أنت ففي الروح اختفيت.
إذا كنت أيها القلب طالباً فكن للطريق سالكاً، وتزود بالحذر ولتمعن النظر أمامك وخلفك. وارقب من وصلوا إلى الأعتاب العلية من السالكين، فجميعهم سلكوا الطريق متعاقبين. وفي كل ذرّة في الطريق عقبة وخلف وكل ذرة طريق جديد إليه؛ فكيف يمكنك معرفة أي طريق ستسلك؟ وأي طريق إلى تلك الأعتاب يوصلك؟
ما أحاط به شرح، كما تنزه عن أي صفة، ولا نصيب للخلق منه أكثر من الخيال، ومعرفة أي خبر عنه ليس أكثر من محال، وما قيل، حسناً كان أم سيئاً، فقد صدر من نبع الخيال، وليس لشخص قط في الصحو والسكر أن يدرك منه نصيباً، وأنى تستطيع روح آدمية أن تصل إلى إدراكه، إنه أسمى منزلة من الروح آلاف المرات لذا فهو يسمو عن كل ما أنطق به.

إن نفسي لي عدوّ، فكيف أقطع الطريق إذا كان رفيقي لصاً

ممر-العجائب-في-جبال-نيسابور
ممر-العجائب-في-جبال-نيسابور

يا خالقي لقد وقعت في الحيرة والاضطراب، أما أنت فظللت في سترك خلف النقاب، فلترفع النقاب ولا تحرق روحي، ولا تعذبني أكثر مما أنا فيه، فقد غرقت فجأة في أمواج بحرك، فمن هذا البحر المتلاطم أنقذني، وإن لم تأخذ بيدي فالويل لي. كما لوث العبث روحي، ولم تعد لي طاقة لتحمل أي عبث، فإما أن تخلصني من هذا الفساد، وإلا فلتنه حياتي ولتوارني في التراب.
يا إلهي لقد تخضب قلبي بالدم، وأصبحت في حيرة كالفلك، فوجه أقوالي إليك ليل نهار، ولا تتخلَّ لحظة واحدة عن تحقيق طلبي وأنا في جوارك دائماً. فأنت كالشمس وأنا كالطفل. فيا واهب المحتاجين ماذا يكون الأمر لو أنك حفظت حق الجوار؟ فبقلب مفعم بالأسى وبروح غاصّة بالألم تنهمر دموعي كالمطر اشتياقاً إليك. فلتكن مرشدي إذا ما ضللت الطريق، ولتعنِّي إذا ما جئت في غير موعدي. فكل من حاز البقاء في حضرتك أصبح سعيداً، بعد أن فني فيك، وأصبح بنفسه غير مكترث، فلست مستيئساً وقد قرّ قراري بجوار من يعين واحداً من كل مائة ألف.

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading