تحتاجُ العمليَّة التعليميَّة التعلُّميَّة إلى توفير الأمان والاستقرار للمُتعلِّم؛ أمّا التوتُّر المُفرط والتهديد في البيئة المدرسيّة، فيشكِّلان المساهم الأكبر في إضعاف التعلُّم الأكاديمي. إذ إنّ التوتُّر الذي يتمثّل بالعصبية والقلق والتشتُّت والنِّسيان، ليس سوى جزء صغير من الحقيقة، حيث إنّه ومع مرور الوقت، يمكن للمستويات المرتفعة من هرمون الكورتيزول Cortisol (هرمون الإجهاد)، أن تؤدي إلى تدهور الصحّة الجسدية والعقليّة والعاطفية. وهو الذي يجعلنا أكثر عُرضةً لخطر الاكتئاب.
لكنْ، ما هو التوتُّر؟
هو ردُّ فعل طبيعي للجسم البشري، على وجود أحداث ومُتغيّرات وصعوبات مختلفة، تستدعي من الإنسان التكيّف معها، إذ يجري تسجيل هذا التكيُّف في المُخ على شكل تهديد، تنعكس آثاره على أعضاء الجسم ووظائفه المختلفة. وتَكمن المشكلة في عدم القدرة على التكيّف مع تلك المتغيِّرات أو الأخطار بشكل صحيح، ليُصبح ردُّ الفعل مبالَغًا فيه وغير قابل للسيطرة تمامًا. ومِن ثَمَّ، فإنّ ذلك ينعكس سلبًا على صحّة الفرد النفسية والجسدية، وعلى التحصيل العلمي والذهني. وهذا ما يسمَّى بالتوتُّر المَرَضي، والذي قد يتطوَّر ليصبح مُزمنًا يهدِّد الوظائف الحيويَّة والتوازن الطبيعي للجسم.
إذًا، فإنَّ التوتُّر المفرِط والتهديد في البيئة المدرسية، قد يشكِّلان المساهم الأكبر الوحيد في إضعاف التعلّم الأكاديمي.
وتتضمن أكثر التهديدات شيوعًا التي يستخدمها المعلِّمون تجاه مُتَعلميهم، على سبيل المثال:
الحجز بعد انتهاء الدوام أو في أثنائه، والحرمان من بعض الحِصص المحبَّبة لدى المتعلمين (رياضة، نشاطات، رحلات خاصة وعامة)، وحسم علامات، أو الحرمان من الامتيازات المدرسية المتعددة… إلخ، دون أن يُدرك المُعلِّمون أنّ المشاعر السيئة “تفسد” آراء المتعلِّمين الإيجابية إزاء المُعلّم، والصف، والمدرسة. وقد يكون ذلك الفساد قاتلًا بالنسبة إلى الدافعية والروح المعنوية على المدى البعيد.
ولكن، ما الذي يَحدث على المستوى البيولوجي؟
التوتُّر والتعلّم
عندما نشعر بالتوتر، فإن الغدد الكظرية تُطْلِق بِبتيدًا (Peptide) يسمى كورتيسول (Cortisol). إنّ أجسامنا تستجيب بإطلاق الكورتيسول، سواء واجهت خطرًا ماديًّا، أو بيئيًّا، أو أكاديميًّا، أو انفعاليًّا. وهذا يؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل الجسدية، تتضمن هبوطًا في جهاز المناعة وشدًّا في العضلات الكبيرة، وتخثّرًا في الدم وزيادة في ضغطه.
كذلك يُضعف التوتُّر المُزمن قدرة المتعلم على تمييز ما هو مهم، وما هو غير مهم (Gassaniga, 1988) ، ويشير (Jacobs and Nade1985) إلى أن التفكير والذاكرة يتأثَّران في حالة التوتر، حيث إنّه يَحُول دون قدرة الدماغ على تكوين ذاكرة قصيرة المدى وذاكرة بعيدة المدى.
ثمَّة مشكلات أُخرى
التوتر المُزمِن يجعل المتعلمين أكثر قابلية للإصابة بالمرض. في إحدى الدراسات، أظهر المتعلِّمون هبوطًا في جهاز المناعة عند الاختبار، حيث أظهروا انخفاضًا في مستويات مناعتهم لمقاومة العدوى (Jermott and Magloire, 1985). وهذا قد يفسّر الدورة الأكاديمية السلبية الآتية:
مزيد من التوتر الناتج من الاختبارات مثلًا أو من غيرها، يعني مزيدًا من المرض. وهذا يعني ضعف الصحّة والتغيّب عن الحصص أحيانًا، وهذا يسهم في انخفاض العلامات في الاختبارات. فالخلية المتوترة تحتوي على عدد أقل وأقصر من الشُّجَيرات العصبية، وهذا الخلل يُضعف الاتصالات بالشجيرات الأخرى.
فما الذي يسبب هذا الفرق المُثير؟ وكيف يؤثّر التوتّر الاجتماعي في الخلايا العصبيّة؟
علامات في الاختبارات
هناك علاقة بين البيئة المادية المُثيرة للتوتّر وإخفاق المُتعلّم. فالأوضاع المتَّسمة بالاكتظاظ والعلاقات بين المتعلمين، حتى الإضاءة السيئة، عناصرُ لها أهميتها
يقول (Ray Gottlieb) وهو مختصٌّ في قياس البصر: إنّ التوتر المدرسي يسبب مشكلات في الإبصار، وهذا بدوره يُضعف التحصيل الأكاديمي وتقدير الذات، ويجعل من المستحيل تقريبًا على المتعلّم أن يتابع صفحة مطبوعة، أو أن يبقى مركِّزًا على أجزاء صغيرة من المادة المكتوبة.
هل هذا الإجراء عادي أم استثنائي؟
لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال، غَيّرَ المُعالجُ النفسيُّ Wayne London الإضاءة في ثلاثة صفوف في مدرسة Vermont الابتدائية.
ولأغراض الاختبار، وضَع في نِصف عدد الصفوف مصابيح فلورسنت عاديّة، ووضع في النصف الثاني مصابيح تحاكي الإضاءة الطبيعية (إضاءة بكامل ألوان الطيف).
لقد لوحظ أنَّ تغيّب المتعلِّمين بسبب المرض في الصفوف المضاءة بالطيف الكامل يقلّ بنسبة 65%، مقارنة بالصفوف الأخرى المُضاءة بمصابيح الفلورسنت العادية.
لماذا حدث ذلك؟ إنَّ الضوء الصادر من مصابيح الفلورسنت العادية، يتّسم بخاصيَّة الوميض المتقطّع وبأزيز لا يكاد يكون مسموعًا، وقد أثّرا تأثيرًا قويًّا في الجهاز العصبي لدى المتعلّمين.
من الواضح أنَّ الدماغ يستجيب لهذا المُنبّه السّمعي – البصري، وذلك يرفع مستوى الكورتيسول في الدم، ويجعل العينين تَطرُفان بشكل مُفرط، وكلاهما مؤشّران على التوتر.
قد تكون المواقف الاجتماعيّة أيضًا مصدرًا للتوتّر. وفي حين أنَّ هورمونات التوتّر مثل الكورتيسول تُطلَق عادة أثناء التوتّر، فإنَّ مستوى مادة السيروتونين serotonin يتأثّر أيضًا. ويرتبط انخفاض مستويات السيروتونين بظهور سلوكيّات عدوانيّة وعنيفة.
فمثلًا يصبح المتعلّمون الذين يكونون في بيوتهم “أصحاب السُّلطة الأعلى”، في حين هُم مجرّد أشخاص عاديين في صفوفهم، ويصبحون أكثر تسرُّعًا.
بعض هؤلاء المتعلّمين يَنشطون بشكل مفاجئ، عندما يُعْطَوْن أدوارًا مثل دور القائد الفريقي. وتشير الدراسات إلى أن الوضع الصفّي أو الاجتماعي، يمْكن – بل – إنّه يعمل بالفعل على تغيير كيماوية الدماغ.
وهذا دليل قوي على أهميّة تغيير الأدوار بشكل مُستمر، لكي نضمن إتاحة الفرصة
لكل متعلِّم لأن يقود ويُقاد.
ثمّة مصدر آخر للتوتّر البيئي، وهو حقيقة أنّ توقّعاتنا نادرًا ما تتطابق مع الواقع.
فاليوم المدرسي العادي بالنسبة إلى المتعلّم، يزخر بتوقّعات، وخيبات أمل ومشاريع لم تنجح، وعلامات أقلَّ من المعتاد، ووجود زملاء لم يتصرّفوا على النّحو المُتوَقّع. وكلّ هذه المشكلات قد تكون مَصدرًا للتوتر. وغالبًا ما يتعامل الدماغ مع هذه الأشياء على أنَّها تهديدات.
ما الحلّ؟
الحل هو أن تُوَفَّر للمتعلّمين قابلية للتنبُّؤ، أو تَوقُّع ما يَحدث عبر الممارسات والأنظمة الصفِّية والمدرسية. فالحدث الذي يمكن التنبؤ به، يجب أن يكون إيجابيًّا: تشجيع، أو تحفيز، أو ابتهاج، أو علامات مميَّزة أو مرتفعة… إلخ، بحيث يريح الدماغَ القَلِقَ.
التهديد والتعلّم
إنَّ المتعلِّمين الذين يتعرّضون بشكل مستمر لتهديد وتوتّر عالِيَين في مراحل مبكرة في طفولتهم، ولا سيما أولئك المتعلِّمين الذين ينحدرون من أُسَرٍ تتسم بالعنف، غالبًا ما يكون جلب انتباههم أكثر صعوبة؛ إذ إنَّ بصرَهُم وصوتهم يتحوّلان باستمرار، حيث يمسحون غرفة الصف بحثًا عن أعداء أو “ضحايا” مُحتمَلين، ثم إنّهم غالبًا ما يوجّهون لكمات أو ضربات عنيفة إلى متعلمين آخرين، كطريقة لترسيخ “مكانتهم”.
لقد تكيفت مواقع الاستقبال في أدمغتهم مع سلوك يركّز على البقاء أو النجاة. وفي حين أنّ هذا السلوك يُحبط المُعلّمين، إلّا أنَّه السلوك الصحيح من وجهة نظر المتعلّم، الذي يبدو أنّ حياته تعتمد عليه.
قد تشمل التهديدات أمًّا أو أبًا متوتّرًا جدًّا يهدد بالعنف، أو فقدان الامتيازات في المدرسة أو في البيت، أو صديقًا يهدّد بقطع العلاقة، أو متعلمًا مستأسدًا يزأر بكلمات فظَّة في الممرَّات.
وفي غرفة الصف، قد يتمثَّل التهديد بزميل أو معلّم يهدد متعلِّمًا ما بالإذلال، أو بالحجز، أو بالإحراج أمام أقرانه.
وأيٌّ من هذه الأحداث وغيرها فكثير، ويمكن أن تضع الدماغ في حالة استنفار.
لا يمكننا أن نكرِّر هذا الأمر بشكل كافٍ، فتُنشِّط التهديدات ميكانيزمات دفاعية وسلوكيّات رائعة للبقاء، ولكنَّها سلوكيّات وميكانيزمات غير مناسبة للتعلّم.
أمّا المتعلّمون الذين لديهم توتّر أقل، فيستطيعون أن يقيموا علاقات بين الأشياء، وأن يفهموا النظريّات الأساسية العامة، وأن يكاملوا بين مجموعة واسعة من المواد. وعلى هذا، يجب إزالة التوتُّر، والتهديد، وعجز المتعلِّم الناشئ من البيئة التعليمية، لتحقيق أكبر قدر ممكن من التعلّم.
العجز المُكتسَب
على العكس تمامًا من اعتباره حالة مؤقَّتة من فقدان الدافعية، فإنَّ العجز المُكتسَب حالة مُزمنة ومدمِّرة. فنحن نرى أعراضه في تعليقات للمتعلمين من قَبيل: “أنا غبي”، أو “أنا غير محظوظ، فلماذا أزعج نفسي؟”. وأيضًا من الأعراض التي يبديها المتعلِّمون، لامبالاة تامة تقريبًا، إضافة إلى سلبية مستمرّة.
يُعتَبر العجز المُكْتسَب نادرًا إلى حدٍّ ما في معظم الصفوف، غير أنَّه عندما يحدث، فإنَّه يوهن العزيمة. ومن أجل أن “يتأهَّل” المُتَعلم للعجز المُكتسَب، تكون قد حدثت معه في العادة الحالات الآتية: صدمة القرار، أو بيولوجيا العجز المكتسَب. وهنا يُعتبر الدليل شاملًا؛ إذ إنّه يمكن لصدمات معيَّنة أن تعيد تنظيم الدماغ تمامًا، وباستمرار.
اقتراحات عمليّة للمعلّم:
يجب أن تعمل المُقترحات على المتغيِّرات الثلاثة الآتية:
- التهديدات من خارج الصفّ.
- التهديدات من متعلّمين آخرين.
- التهديدات من نفسك.
• أنت لا تكاد تملك سيطرة على البيئة الخارجية. لذا، تأكَّدْ من تحديد فترة زمنية انتقالية لبدء الحصّة، حيث إنَّ ذلك يسمح للمتعلِّمين بالاستعداد والابتعاد عن الخطر الخارجي المُحتمَل (مُتَعلِّم مستأسد في المَمَرّ، أو مشاجرات في الطريق إلى المدرسة، أو تهديدات أثناء الطريق إلى غرفة الصف، ونحو ذلك).
• قلِّلِ التوتر الناتج من متعلِّمين آخرين في الصف، بأنْ تضع توقّعات واضحة بخصوص السلوك الصفّي، وقدِّم نموذجًا من الذكاء الانفعالي المناسب. ناقِشْ واستخدِمْ استراتيجيّات حلِّ المنازعات، وتابِعْ وطبِّقِ القوانين الصفيَّة. أيضًا لا تَسمح مُطلقًا للمتعلِّمين بأن يهدِّدوا أو يؤذوا بعضهم بعضًا.
• إنَّ التقليل من التهديدات يحتاج إلى يقظة خاصة. فاطلُبْ ما تريده دون أن تضيف تهديدًا في النهاية.
• لا تهدِّد المتعلّمين الذين يرتكبون سلوكيّات غير مقبولة، بتحويلهم إلى مكتب الإدارة مطلقًا.
• أيضًا تَجنَّب الإشارة بالإصبع إلى المتعلّمين غير الملتزمين، بل بالنظرة فقط أو الإشارة، ثم ساعِدِ المتعلمين على العثور على المصادر الرئيسة للمادة أو المواد. أيضًا ساعِدْهم على أن يضعوا أهدافًا مُحَدَّدة، وواقعيّة، وقابلة للقياس. وأخيرًا، اسْألْهُم عن الأشياء التي تعترض سبيل تعلّمهم. قد تكون هذه الأشياء هي اللغة الثانية، أو الأسلوب التعلّمي، أو حتى المُتعلّم الذي يجلس إلى جانبهم.
• أنت بصفتك معلِّمًا وشخصًا راشدًا، لا تَقُلْ للمتعلّمين بأنّك ستفعل أي شيء يطلبونه. ومع ذلك، من المهم أن تُظهر لهم رغبتك في أن تُصغي لهم، وأن تتعلّم منهم. وعندما تُشركهم في تخطيطك، فإنَّ مشاركتهم وروحهم المعنوية ترتفع، وستصبح طلباتهم للتغيير معقولة أكثر.
• ساعِدِ المتعلِّمين على أن يرَوْا العلاقة بين أعمالهم ونتائجها، وقدِّم لهم خبرات غنيَّة يختارون منها، وخاصة في مواقف مثيرة للتوتر.
• أيضًا شجِّع المتعلمين على أن يكتشفوا احتمالات بديلة، لتفسير فشل يبدو بسيطًا. وأخيرًا، ضَعْهُم في مواقف يمكنهم من خلالها أن يعيدوا تمامًا وبشكل إيجابي، تَعلُّم تحريك أنفسهم في وجه التهديد. يمكن للأنشطة الجماعية والرياضية، إضافة إلى الأنشطة المسرحية والتمثيلية المنطوية على أداءات عامة، أن تسهم في ذلك. بالنسبة إلى العديد من المتعلمين، فإنّ التحدِّي الخارجي أو مسافات الإجراءات الخاصة، تُقدّم وسيلة رائعة لتعلم الاختيار في وجه التهديد المُلاحظ.
ختامًا
ينبغي للجوِّ المدرسي المناسب أن يوفِّر للمتعلّمين فرص التعلّم المتنوعة، ويزوِّدهم بالمهارات اللازمة للنجاح في الحياة، ويساعدهم على فَهم أنفسهم، ومعرفة جوانب القوّة والضَّعف عند كلٍّ منهم، ويساعدهم على حلِّ مشكلاتهم، وغير ذلك من الأمور التي تساهم في تدعيم صحّتهم النفسية، ومساعدتهم على التكيّف السَّويِّ مع المواقف المختلفة .
أيضًا يُعتبَر دور المدرسة أساسيًّا في توفير جوّ الأمان الملائم للمتعلِّم، وله تأثير كبير من حيث بناء شخصيته، وإثارة دافعيته إلى التعلُّم .
تُعَدُّ الحاجة إلى الأمن النفسي في مقدَّمة الحاجات النفسية (غير العُضْويَّة) للمتعلِّم، وأكثرها أهميّة بصورة عامة، حيث إنَّ نجاح المدرسة في هذه المهمة يُبرز الدور الحيوي لها، باعتبارها من أهم مؤسّسات التنشئة الاجتماعية التي تُعنى بتربية الأجيال وتعليمهم وتوجيههم. ويكمن دورها في تعزيز شعور المتعلِّم بالأمان، وإشباع حاجته إلى الاستقرار النفسي، كي لا يشكِّل جوُّ المدرسة مصدرًا للقلق والتوتر وعدم الارتياح، أو انشغال الفكر وتَوقُّع الخوف من المعلِّمين أو الرفاق .
إنَّ أمان المتعلِّم في الصف لا يقتصر على أمانِهِ الجسدي فقط، بل يتعداه إلى راحته النفسيّة التي تتمثل بالقدرة على التعبير عن رأيه بدون خوف، وكيف يكون فردًا إيجابيًّا في مختلَف تصرفاته وسلوكيّاته. وهذا الأمر يقع على عاتق المدرسة والمدرّسين؛ فهُم من يقدمون الغذاء الرّوحي للمُتعلّم في الصف، ويخلقون له بيئةَ دراسةٍ آمنة وإيجابية في المدرسة، أي يثيرون دافعيَّته إلى العطاء ويحفزونه على المثابرة والنَّجاح.