“تأمَّلْ في السموات الواسعة وسوف تجد أنّ الله واحد” هذا ما استشهد به الفيلسوف أرسطو (باليونانية Ἀριστοτέλης)(1) من أقوال الفيلسوف الإيلي كزينوفان Xenophan، ليؤكّد أنّ الله هو “الحاكم الأوحد للكون”(2)، بعد أن اعتبر “العلم الإلهي” أو “الإلهيات” Theologia (θεολογία) “أشرف العلوم”(3) وأكثر المعارف قدسيّة، ومن ثم ملأ الدنيا وشغل الناس بطبيعياته “وما وراءها” ومنطقه وعلومه، بدءاً من أيام تلامذته وشرّاحه المتحمّسين مروراً بالقرون الأولى للميلاد وحتى القرون الوسطى ليصل إلى عصرنا شخصية تتسِم بنظر البعض بالغموض والتناقض، تلاحقه أطيافٌ مَنْ ألصقوا به صفات تكاد تكون إلحادية، أولئك الذين قرأوه ولم يفهموه ووجدوا في أقواله قِدَماً للعالم من غير خلق وأزلية للهيولى المادية والزمان، وحرموه من أفلاطونيته المثالية، ولو أنّ آخرين، أمثال أبو نصر الفارابي في القرن العاشر، والفيلسوف الألماني فرانز برنتانو Franz Brentano، وباحثين غربيين من الماضي القريب، أمثال الألماني وارنر ييغر Werner Jaeger، قد انبروا ليثبتوا أنّ القول بالتعارض بين أرسطو وأفلاطون (Πλάτων) هو “تحامُل” (بحسب عبارة من سبق ذكره من الباحثين) يكاد يكون من “النقائض المنطقية.
ونقضُ مثل هذه “النقائض” إنّما يتطلّب بحثاً معمّقاً في فلسفتَي هذَين الحكيمَين اللذين ألقيا بظلّهما على كلّ حقل من حقول التفكير العلمي والفلسفي حتى أيامنا هذه، وإلتماس ذلك السلك اللطيف الذي يربط فيما بين الحقائق التي تفتّقت عنها العبقرية الفذّة، والعقلية المتبصّرة والروح التوّاقة إلى الملأ الأعلى لدى كلّ من هذين الركنين المعرفيّين.
لكن ما دفع مثل هؤلاء إلى القول بمعارضة أرسطو لمعلّمه أفلاطون، وإلامَ استندوا في موقفهم هذا؟
لا بدّ من العودة في التاريخ إلى الوراء لاستجلاء الأمر وتمحيص هذه الأقوال حول “المعلّم الأول” (كما يُطلق عليه مؤرّخو الفلسفة). نحن الآن في العام 366 (أو 367) قبل الميلاد، أرسطو شاب دون العشرين من عمره، يصل أثينا قادماً من ستاغيرا Stagira، المدينة اليونانية الشمالية (بعدما أمضى جزءاً من طفولته في البلاط المقدوني بمدينة بيلا Pella حيث كان والده نيقوماخوس طبيباً للملك أمينتاس الثاني جد الإسكندر)، ليدخل أكاديمية الفيلسوف “الإلهي” أفلاطون لتلقّي علومه.
نعم، عبقرية فذّة في طور التفتُّح والتبلّور والصقل تلجأ إلى اكتساب المعارف من عملاق فلسفي بكلّ ما تُرخيه ظلاله “المثالية” من ثقلٍ “روحاني”.
وماذا حدثَ؟ عشرون عاماً ونيف قضاها أرسطو في الأكاديمية ينهل من معين أفلاطون الفيّاض بالعلم الإلهي والمدارك الروحانية، وما برحها حتى وفاة معلّمه!
والسؤال المنطقي على الطريقة الأرسطوطالية البرهانية هو كيف تسنّى لهذا العقل الوثّاب المستقل، المُشبَع بالأفكار الواقعية التجريبية الحسيّة أن يبقى “هاجعاً” في كنف أستاذه الرُّوحاني الذي سما بالحقيقة إلى علياء عالم المُثل الإلهية، طوال عشرين عاماً حتى قارب سن الأربعين (بقي في الأكاديمية حتى سنة 347 ق.م تاريخ وفاة أفلاطون)؟
أين كانت تلك “الحسيّة” الطبيعية طوال تلك المدة من “الملازمة”، وأين كان ذلك التمرّد المتعارض الذي إدّعاه القائلون بالخصومة بين المعلّم المثالي والتلميذ العقلاني الواقعي؟ وهل ظهر هذا التطوُّر الفكري المناهض فجأة بعد وفاة معلّمه، ومن ثم بعد تنقُّله بين زملائه “الأكاديميين” في آسيا الوسطى لينتفض ذلك الانتفاض الغامض ويهاجم مُثلَ افلاطون ونظرته إلى المُبدِع وإحداث العالم؟ هل كان هذا “الفيلسوف الفاضل”، الذي أذهلَ العالم على مدى قرون بمنهجيته العلميّة، يعيش “فُصاماً” بين “الإلهي” و”الطبيعي/الحسيّ” إلى هذه الدرجة من الإنفصام الشديد؟
للإجابة على هذه التساؤلات وجبَ استعراض تلك الأقاويل والوقوف عند مصداقيتها أو هشاشتها والتحرّي، بالحجة والبرهان، ما إذا كان ثمة “تحامُل” في القول بالتعارض.
أرسطو الأكاديمي
أسهبَ بعض المؤرّخين في التحدُّث عن رفض أرسطو “شاعرية” أفلاطون في محاوراته واستعانته مجازاً بالأساطير والأمثال والتشبيهات الرمزية، وكأنّه يأخذ عليه تقيُّده بالشكليات وهو مَنْ ارتقَى بالمعرفة إلى أعلى مدارك المعقولات، وكلّ مَن قرأ أعمال أرسطو يعرف مدى إبداعه هو نفسه في وضع أُسس الشعر وذلك في كتابه “في الشعر” (“بيري بويتيكا” per poetika – Περὶ ποιητικῆς) حيث ترك أثراً كبيراً نجده حتى اليوم لا سيّما في الشعر الفرنسي، كما أنّه اقتفى أثر معلّمه في محاوراته الأولى لدرجة أنّ شيشرون Cicero وصف محاورات أرسطو بأنّها “نهر من ذهب” flumen orationis aureum.
و”الذهب” الذي تحدّث عنه شيشرون هو تلك التعاليم الأفلاطونية التي يمكن تلمّس تأثيراتها في فلسفة أرسطو النظرية، بل حتى العلميّة منها. ومَنْ قال إنّ أفلاطون لم يشارك حتى في وضع تلك الأُسس العلميّة؟
في العلم
فقد اتّبع أرسطو المنحى العلمي الذي وصلت إليه الأكاديمية في آخر أيام أفلاطون، لا سيّما بعد انضمام جهابذة في العلوم السائدة آنذاك كالرياضيات (ثيودوروس Theodorus وثياتيتوس Theætetus الذي أطلق أفلاطون اسمه على إحدى محاوراته) والفلك (إيدوكسوس Eudoxus) والهندسة والجغرافيا وحتى الطب(4).
والمنحى العلمي بدا واضحاً في محاورات أفلاطون الأخيرة، لا سيّما محاورات “برمينيدس” Parmenides و”ثياتيتوس” Theætetus و”النواميس” Νόμοι المُصاغة بموضوعية بحثية تستند إلى الجدل العلمي والوقائع والتصنيف، فالتقط أرسطو آخر الخيط الأفلاطوني وأكمل هذا التبصُّر العلمي في منهجية موسوعية تروي أفهام العامة المتعطّشة للحقائق الحسيّة، مع بقاء “الفلسفة الأولى” للخاصة.
وتبدّى هذا الانسياب المعرفي جلياً في “محاورات أرسطو” أو كتاباته الأولى التي بقيت أجزاء منها في أعمال مؤلفين قدامى، وقد نسجها على منوال المحاورات الأفلاطونية، بل واستعار بعض عناوينها، واستند في وضعها إلى مبادئ أفلاطون الفلسفية الأساسية، من بينها محاورات “أوديموس” Eudemus (حول حُلُم زميله في الأكاديمية) و”في الفلسفة” peri philosophia و”بروتربتيكوس” Protrepticus.
واستأثرت هذه المحاورات لاحقاً بتقدير كبير لدى الفيثاغوريين الجدد والأفلاطونيين المحدثين في مقابل تمسّك المشّائيين اللاحقين (الذين طغى عليهم التفكير المادي) بعد القرن الميلادي الأول بمؤلفات أرسطو “العلميّة” ووضع الشروحات عليها من دون التطرُّق إلى المنحى الأفلاطوني الصافي في محاورات أرسطو، وعلى الأخص الشارح الأكبر إسكندر الأفروديسي Alexander of Aphrodisias ومن بعده ثميستيوس Themistius.
لكن هل من تقسيمٍ لأعمال أرسطو على هذا النحو؟
باطني للخاصة وظاهري للعامة
لقد انتهجَ أرسطو نهجَ فيثاغوراس في إلقائه لتعاليمه، فالحقائق المهمة للخاصة من تلامذته والمُريدين، والتعاليم الرمزية والأمثال والعلوم الطبيعية للعامة من الناس. وثمة تقسيمٌ مشهور بين الشارحين والباحثين يُميّز بين نوعين من أعمال أرسطو(5): “مستورة” و”معمّمة”، فالأولى تتضمّن فلسفته الخاصة وتعاليمه الحقيقية، وهو ما يؤكّده الفيثاغوريون الجدد، والثانية تشمل علوماً عامة تُلقَّن للجميع.
ويُستقى الإثبات على ذلك من أرسطو بحد ذاته الذي ذكر في أكثر من مكانٍ في أعماله اعتماده هذا النهج المتميّز(6)، وهو ما كان يعرفه معظم الباحثين والشارحين في العصور القديمة فضلاً عن واضعي تاريخ الفلسفة.
وفي هذا الخصوص، يورد السير دايفيد روس Sir David Ross في كتابه “أرسطو” Aristotle أنّ “ثمة تقليداً قديماً ساد زمناً يرى أنّ هناك أعمالاً باطنية Esoteric من أعمال أرسطو قد تُعزى إليها حقائق صوفية، مقابل تلك الأعمال الظاهرية Exoteric المخصّصة للعامة”(7)، حيث إنّ المواضيع الأكثر تجريداً، على غرار الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي والماورائيات والطبيعيات والمنطق تتطلّب بحثاً معمّقاً وفهماً متطوّراً للنخبة من التلامذة، فيما لا تسترعي المواضيع العامة، مثل التاريخ الطبيعي والعلوم والتاريخ والبلاغة وحتى السياسة، سوى اهتمام الشريحة الشعبية من قاصدي مدرسته “الليسيوم” Lyceum، التي كانت لهذا الغرض تشتمل على متحف للعلوم والتاريخ الطبيعي استعان به أرسطو في شرح محاضراته، وقيل إنّ الإسكندر ساعده على استكمال مجموعته الطبيعية الواردة إليه من جميع أرجاء الإمبراطورية المقدونية المترامية آنذاك.
وربّما لم يتحدث فلاسفة كبار استمدوا من أرسطو، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، عن أعمال مستورة لديه لأنّهم لم يطّلعوا على محاوراته ولا على أعماله المفقودة، التي لا ريب ثمة رابط فيما بينها، وقد وصل إلينا عمل أصلي لأرسطو بصياغة مختصرة (باللاتينية) تحت عنوان “في فيضان النيل” On The Rising Of The Nile. وما همّ أرسطو بفيضان النيل؟ وأيّ فيضان يرمي في الحقيقة إليه؟ وقد ساقَ الباحثُ الألماني ستيفان بارتش Stephan Partsch أدلة كافية تُثبت صحة نسب هذا الكتاب إلى أرسطو(8).
وما حقيقة أعماله المفقودة؟ إنّ أعمال أرسطو المتوافرة حالياً قد وصلت مبتورة وناقصة وغير منتظمة، لا سيّما كتاب الماورائيات “الميتافيزيقيا” (τὰ μετὰ τὰ φυσικά)، ولا حاجة للخوض في صحيحها ومنحولها، وفي الفهارس الثلاثة لمؤلفاته التي وضعها الأقدمون وأوردوا فيها أسماء عشرات الكتب المفقودة، فمن المعروف أنّ بعض أعمال أرسطو ليس في شكله الأصلي، وذلك إثر تركيز المشّائيين في وقتٍ متقدّم على العلميّات وإهمال الأفلاطونيات.
فهل كان ما هو ناقصٌ، أو غير مترابط بانتظام، أو مهمل أو منحول في أعمال أرسطو هو وراء تبنّي فكرة الخصومة والتعارض بينه وبين وأفلاطون؟ وإلامَ استندَ أصحاب فكرة التعارض؟ قالوا غادر أرسطو الأكاديمية بُعيد وفاة أفلاطون بسبب “التعارض” المزعوم. في الواقع، ترك أرسطو الأكاديمية بُعيد وفاة معلّمه، وتسلُّم رئاستها العام 347 ق.م من قِبل سبوسيبوس Speusippus، إبن أخت أفلاطون، الذي انتهج المنحَى الرياضيّاتي وأسقطه على المُثل الأفلاطونية، فجعل منها أعداداً حسابية بحتة.
وربّما كان هذا الخلاف “العددي” مع سبوسيبوس وراء مغادرة أرسطو للأكاديمية لا لكونه الأوْلَى والأجدر لخلافة أفلاطون على رأس الأكاديمية (وهو ما أشار إليه وارنر ييغر في كتابه حول الأُسس الأولى لتطوُّر فكر أرسطو: Aristoteles. Grundlegung einer Geschichte seiner Entwicklung الفصل الأول)، حيث يتحدّث التاريخ أنّه لم يكن يحُق لأرسطو بمقتضى القانون الأثيني رئاسة الأكاديمية لأنّه لم يكن مواطناً أثينياً، وهذا ما يُبرِّر اختيار سبوسيبوس. كما أنّه غادر برفقة زميله كزينوقراط Xenocrates مُشبعاً بالروح الأكاديمية إلى آسيا الصغرى حيث كان زميلاه الآخران إراستوس Erastus وكوريسكوس Coriscus تلميذا أفلاطون المخلصان، لدى هيرمياس Hermeias حاكم أترنوس وأسوس، وهو بدوره كان من الزملاء القدامى في الأكاديمية. فاجتمع الشمل الأفلاطوني وانتشرت تعاليم المعلّم الروحاني.
لم يتخلَّ أرسطو عن أفلاطونيته طوال مشواره الفلسفي، سواء بالنهج الاستقرائي inductive أو الاستنباطي deductive، على الرغم ممّا قاله بعض الشارحين بأنّه في خلال مكوثه في آسيا الصغرى وأثناء فترة تعليمه للإسكندر بعد ذلك في البلاط المقدوني لفترة 5 سنوات كان قد كوَّن أفكاره المستقلّة الذي يُعارض فيها أفلاطون في نظرية المُثل، وخلود النفس، والكلّي والجزئي، وفي الواحد، وقِدَم العالم وإحداثه.
في الصورة والهيولى
فأرسطو استندَ إلى المُثل أو الصور الأفلاطونية كعناصر أزلية، لكنّه سعى مكمِّلاً لفلسفة معلّمه، إلى حل مشكلة التحقق الفعلي لتلك الصور في الوجود بأسلوب وسطي يجمع بين المثالية المفرطة والواقعية التفريطية، فحوَّل مُثُل (“إيدوس” eidos – εἶδος) أفلاطون إلى الثنائية المتلازمة للصورة “إيديا” (idea – ἰδέα) والهيولى (hulē – ὕλη) حيث “تتوق” الأخيرة عشقاً للتحقُّق والكمال في الأولى فتنتقل من القوة إلى الفعل. ومع ذلك بقيت الصورة هي الأرقى، لكونها الوجود بالفعل، في حين إنّ الهيولى هي الأدنى لأنّها الوجود بالقوة.
في الكُلّي والجزئي
كان المؤرّخون قد سلّطوا الضوء على معارضة أرسطو لأفلاطون في اعتباره الوجود الحقيقي هو الكُلّي “كاثولو” Katholou إذ إنّ الجزئي “كاثهيكاستون” Kath’hekaston “يجمع الوجود واللاوجود”، ونسبوا إليه، استقاءً من كتبه، تأكيده أنّ الوجود الحقيقي هو للجزئي، المركّب من الصورة والهيولى، المتحقق في الوجود، و”فهموا” منه أنّ الجوهر “أوسيا” Ousia الأول هو الجزئي في حين إنّ الجوهر الثاني الأقل مرتبة هو الكلّي.
لكنّ أرسطو يُشدِّد على المقدّمات الأفلاطونية لنظرية المُثل، أيّ أنّ العلم هو للكلّي الثابت لا علماً بالجزئي المتغيِّر إذ إنّ المتغيِّر ليس موضوع العلم. كما شدّد على أنّ الوجود الحقيقي هو للصورة أيّ الوجود بالفعل، لا للهيولى، أيّ الوجود بالقوة الأدنى بكثير، ونفهم منه بالتالي أنّ الجوهر الأول هو الكلّي كما قال أفلاطون، فكيف يجعل الجزئي المركّب من هيولى وصورة أرقى من الصورة الكلّية أو الفعل المحض؟ ومن أين جاءت هذه التأويلات المُغايرة، أم أنّ أرسطو قد وقع في مثل هذا التناقض الشديد المحيّر؟
ومهما يكن من أمر تلك التأويلات، يُلقي الفارابي، على سبيل المثال، في كتابه “الجمع بين رأي الحكيمَين” الضوءَ في هذه المسألة على الفارق بين “سياق الكلام” في كلّ حالة، إذ يقول إنّ “من مذهب الحكماء والفلاسفة أن يُفرّقوا بين الأقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة، فيتكلّمون على الشيء الواحد في صناعة بحسب مقتضى تلك الصناعة، ثم يتكلّمون على ذلك الشيء بعينه، في صناعة أخرى بغير ما تكلموا به أولاً”(9)، حيث يشرح أنّ أرسطو يُقدّم الجزئي على الكلّي في سياق “المنطق” ويُقدِّم الكلّي على الجزئي في سياق “الإلهيات” وما بعد الطبيعة، كشأن معلّمه أفلاطون، أيّ مع اختلاف السياق اختلف القول.
وعلى هذا المنوال ساقَ أرسطو حديثه عن قِدَم العالم “الذي اتُّهِمَ به بالإلحاد لدى بعض مفكّري القرون الوسطى”، وهو قد تطرّق إلى هذ الفكرة أولاً في سياق جدلي، لا ماورائي أو إلهي، وذلك في كتابه “الجدل – طوبيقا” Topics. وبذلك بدا الحكيمان متفقين لا مختلفين من ناحية تقديم الجوهر، أيّ باختصار ما يتناوله أرسطو جدلياً من حيث اعتباره الوجود الجزئي هو الوجود الحقيقي هو غير ما يتناوله في الإلهيات حيث يعتبر الكلّي هو الوجود الحقيقي والماهية أو الجوهر الأول، وهو معتقده الأصلي.
في النفس
الإرباك في فهم أرسطو لحِقَ أيضاً بنظرته إلى النفس Psūchês (Ψυχῆς) والتركيز على قوله إنّ الصورة والهيولى متلازمتان غير منفصلتين ففُهِم أنّ لا وجود للنفس الناطقة من دون الجسد، لكنّ أرسطو في الحقيقة تحدّث (في كتاب “اللام” الفقرة 1070) عن بقاء “الجزء الخالد” من النفس بعد اندثار الجسد المادي الهيولاني، أيّ بقاء “العقل الفعّال” nous poietikos، ذلك الجوهر المفارق الذي يُميِّز النفس الناطقة، وهي لديه “كمال أول”، وهذا الجوهر في مرتبة أرقى من “العقل المنفعل” nous pathetikos المندثر المتصل بالنفس النباتية والأخرى الحيوانية. وهنا يُطرَح السؤال بقوة، أين اختلف أرسطو مع أفلاطون في مسألة النفس؟ ألم يتفقا على أنّ ثمة جزءاً عالياً من النفس خالدٌ وباقٍ بعد فناء الجسد وهو مصدر العلوم العقلية والإلهية؟


في العلم الإلهي
بالنسبة إلى “أشرف العلوم” وأسمى المعقولات، كما أطلق أرسطو بنفسه على “العلم الإلهي” Theologia (θεολογία)، ذلك العلم الأشد يقينيّة، “الفلسفة الأولى” (πρώτης φιλοσοφίας) وعلم “العلل الأُوَل” (αἴτια) aitia، حرص أرسطو، بدءاً من مقالته الأولى “ألفا” من كتابه “الماورائيات” أو “الميتافيزيقا”، المعروف لدى العرب باسم “كتاب الحروف”، على سوق الأدلّة والبراهين العقلية على وجود الله، ووحدانيته، وكماله، وثباته بكونه “محرّكاً لا يتحرّك” “أو كينومينون كيناي” (οὐ κινούμενον κινεῖ).
وأخذ عليه الباحثون تحدُّثه عن قِدَم العالم، لكنّ هذا ينطبق أيضاً على ما قاله الفارابي عن الفارق بين “سياق الكلام” في كل حال “بحسب المقتضى”، وتأكيده أنّ أقاويل أرسطو في العلم الإلهي لا المنطق “لها تأويلات ومعانٍ إذا كُشِفَ عنها ارتفع الشك والحيرة”(10). ويخلص أرسطو أخيراً في كتابه “الجدل – طوبيقا” إلى أنّ “قِدَم العالم مسألة لا تُثبَت بالبرهان”.
أما من ناحية المأخذ الثاني على أرسطو وهو أنّ المحرك الأول “لا يعقل إلا ذاته” وأنّ معرفته بالعالم تُنقِص من كماله، يعمد أرسطو في مكان آخر على انتقاد الفيلسوف إمبدوقليس Empedocles لإقصائه جزءاً من الحقيقة عن معرفة الله، ويعتبر أيضاً في مقالة “اللام” أو “لامبدا” (Λ) من كتاب “الماورائيات” (الفقرة 1076 سطر 4) أنّ الله theos (θεὸς) هو “الحاكم الأوحد للكون” بعدما أكد أنّه “تعتمد عليه السموات والأرض” (الفقرة 1072 سطر 13). فكيف يُفسِّر إذاً ذلك الإنطواء المجرّد؟ هل من قطبة مخفيّة؟
ومن ثم يتحدّث عن الدليل الأكبر ألا وهو “نظام (τάξισ) الكون البديع”(11) ومصدره الله، مشيراً على الرغم مَنْ قال بإلحاديته، إلى أنّ نظام الكون إنّما يدل على تنفيذ “خطة إلهية”، وهذا ما يُعارض مفهوم حصر معرفته في ذاته فحسب. ومع ذلك، لا يجد المنتقدون في مقالة “اللام” سوى هذا المعتقد الضعيف.
وقارن أرسطو في مقالة “اللام” أيضاً بين الواحد وقائدٍ يعود إليه نظام قيادة الجيش، أو كحاكمٍ للناس، وكذلك شبّه الكونَ بمنزل تُوكَلُ فيه المهام إلى جميع الأعضاء من الأرقى إلى الأدنى (الفقرة 1075)، وأشار إلى أنّ الله يحكم “بإرادته” مجرى الكون والزمان. وتظهر مثلُ هذه الأدلة أيضاً في كتب أخرى، وهي دفعت الإسكندر الأفروديسي إلى تأكيد إيمان أرسطو “بالتدبير الإلهي للعالم” بعد اثباته أنّه الصانع المنزّه بالوحدانية والكمال.
ومن ثم حينما يمدح أرسطو الفيلسوفَ أناكساغوراس Anaxagoras لاعتباره العقل (“نوس” ΝΟΥΣ) علّة النظام في الكون يقول في عبارة شهيرة “الله لا يفعل أيّ شيء عبثاً” (ἡ θεὸς οὐδὲν ποιεῖ ἅλματα)، فيؤكد بذلك التدبير الإلهي “برونويا” pronoia (πρόνοια) والنظام العام في الكون(12)، نافياً بذلك ما نُسِبَ إليه من قولٍ بغائيةٍ غامضة تكاد تكون “غائبة عن الوعي”، فكيف يتفق الحُكم والنظام والتدبير والخطة الإلهية مع مثل هذا المعتقد؟
وسعى أرسطو بذلك إلى تنزيه الله عن أيّ فعلٍ مباشر يُناقِض كماله المطلق، لكنّه أبدعَ هذا العالم بأمره وتدبيره من خلال “وسائط” أطلق عليها تسمية “العِلل الأُوَل” (αἴτια)، وهو كما يتبدّى من مقالة “اللام”، متعالٍ في عليائه المجرّد و”مُحايثٌ” أو “متلازمٌ” Immanent في الوجود في آن من خلال إتاحة معرفته لخلقه. ويختم أرسطو مقالة “اللام” بتلميحٍ واضح الدلالة، مقتبساً من “الإلياذة”: “حُكم الكثيرين غير صالحٍ، فليكُن هناك حاكمٌ واحد”. وهل يكون هذا الحاكم الواحد صالحاً ما لم تكن ثمة وسيلة لتواصُله مع رعيته وإتاحة معرفته لهم؟
إنّ الفكر الأرسطوطالي هو أفلاطوني المنحى، فلا خصومة ولا تناقضَ معرفياً بين الفيلسوفَين الكبيرَين إنّما حكمة متصلة مُنسابة تُكمِل النهج(13). ويقول في هذا “التكامل” السير دايفيد روس في كتابه “أرسطو” إنّه أينما تطلّعت في أعمال أرسطو الفلسفية “قلّما تمرّ صفحة لا تحمل روحية أفلاطون وسِماته وتأثيراته”(14)، حتى ولو سلّمنا بأنّ أرسطو كان يُحِب أفلاطون لكنّه كان “يُحِب الحقيقة أكثر”، كما نُقِلَ عنه، فإنّه قد التقط “مشعل المُثُل” من يد أفلاطون ليعدو به تقدّماً في نظرية الصورة والهيولى، والقوة والفعل، ليُسلِّم بدوره المشعل إلى غيره من العقول الوقّادة في مجرى تاريخ الفكر، وصولاً إلى إضاءة “الشُعلة الكبرى”.
وتعمل الأدلّة البحثية والحجج المنطقية والفلسفية على تأكيد هذا الانسياب الحكموي المتكامل. وفي هذا الصدد، كان فورفوريوس الصُّوري Porphyry of Tyre (Πορφύριος) أول من تمكّن في شروحاته من فهم فلسفة أرسطو على ضوء عقائد أفلاطون الفلسفية الأساسية وبتوافقٍ كبير، لا سيّما من ناحية قولهما إنّ هدف وجود الإنسان هو الحصول على السعادة، أو الطمأنينة العقلية، من خلال تحصيل العلم الإلهي.
وفي هذا الخصوص، يقول الأستاذ وولتر ستايس Walter Stace في كتابه “تاريخ الفلسفة اليونانية” إنّ “ما من فهمٍ أصيل لأرسطو يستطيع أن يُعزّز الرأي القائل إنّ مذهبه الفلسفي معارضٌ تماماً لمذهب أفلاطون، بل الأفضل القول إنّ أرسطو كان أعظم الأفلاطونيين لأنّ مذهبه لا يزال مؤسّساً على المُثُل … إنّ مذهبه في الواقع هو تطوُّر للأفلاطونية”(15). وعدم ترابط الأجزاء المختلفة لمذهب أرسطو الفلسفي، فضلاً عن نقص أعماله الواصلة إلينا، إنّما يعود إلى كون تلامذته هم مَن قام بجمعها وترتيبها على هذا النحو.
ولا بدّ من قطبة مخفيّة تربط هذه الأجزاء أو حبكة أخيرة تُوضِح الصورة النهائية. ويبقى عدمُ اكتمال كتاب “الماورائيات” وبقاؤه مبتوراً من دون فصلٍ أخير لغزاً محيِّراً لم يُحل بعد.
هل الخطوط الأساسية لهذا الفصل الماورائي الأخير هي وراء وضع كتاب “أثولوجيا” (معرّبة عن “ثيولوجيا”) أو “الربوبية” الذي نسبه العرب إليه، وهو يُعتبر اليوم منحولاً؟ وهل كانت حركة الترجمة التي أتحفت الفكر الإسلامي بهذه الروائع على هذه الدرجة من السطحيّة لكي تنسب إلى أرسطو كتاباً هو عبارة عن الفصول 4 و 5 و 6 من تاسوعيات أفلوطين Plotinus المعروفة باسم “إيساغوجي”، حسبما رتّبها تلميذه فورفوريوس الصوري؟ أمّا أنّ أفلوطين (بعدما “خلا بنفسه” على طريقة أرسطو) نسَجَ تعاليمه “غير المكتوبة” مرتكزاً على الخطوط الأساسية التي وضعها أرسطو في علم الربوبية، فالتبسَ الأمر فيما بعد على المؤرّخين؟
هل ما هو ناقصٌ أو مفقود من كتاب “الماورائيات” يُمهِّد أرسطو فيه، بالتدرُّج البرهاني، أنّه لا بدّ أن يكون ثمة “وجوبٌ” من نوعٍ ما لوجود “العقل الأول” First Intellect، وأنّ الكثرة والصور والمُثل “كامنة فيه بالقوة”، وبالتالي يكون “العلّة الفاعلة” Efficient Cause للوجود فيحُل بذلك عقدة فلسفية أساسية؟
إنّ مَنْ يتتبَّع الفلسفة اليونانية في ترقّي عبقريتها العقلية بحركة تصاعدية، تتويجاً بأفلاطون وأرسطو، يستشف أنّ الثمرة العقلية الروحية لهذين المعلّمين الكبيرين إنّما تهدف إلى تهيئة العقول وصقل النفوس تمهيداً لاستيعاب معارف أرقى. فالأرسطوطالية هي تطوُّر تكاملي للأفلاطونية، حيث تُكمِّل نظرية المُثُل ولا تُقوِّضها. وقد تابع أرسطو من حيث انتهى معلّمه أفلاطون ليؤكد وجود “الحقيقة” aletheia (ἀλήθεια) في عالمنا لكي لا نقع في العدم. وما قصده هو أنّ النفسَ لا تُدرِك الحقيقة في عالم أخرويّ منفصل، إنّما كمالها في هذا العالم بمعرفتها لوجود الموجود بجوهريتها وهي في آلتها الجسمانية. وتختصر لوحة الرسام العالمي رافاييل Raphael هذا التناغم الحكموي لمعرفة الحقيقة حيث يشير أفلاطون بيده إلى السماء فيما يشير أرسطو إلى الأرض.

