قراءة في كتاب الدكتور الشيخ سامي أبي المنى
الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان
رؤية الموحِّدين الــدّروز1
مرجع لفهم قضية مركزية في العلاقة الإسلامية المسيحية
ودليل إلى فهم الموحِّدين الدروز وتاريخهم وثقافتهم الحوارية
يعتبر الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان من أبرز المواضيع التي يشارك فيها مثقفون ورجال دين وسياسة من مختلف الطوائف المنتمية إلى الجماعتين الروحيتين في لبنان. وهناك شخصيات حوارية ومجالس حوار وندوات حوار تشكّل في مجموعها بيئة مميزة في لبنان. ويعتبر الشيخ سامي أبي المنى الشاعر والأديب من الشخصيات الحوارية المعروفة بسبب ما يتميز به من شخصية هادئة ولباقة وأسلوب راق في التعبير عن الاختلافات، وهو من الشخصيات التي تدعى بإستمرار للمشاركة في الندوات الثقافية أو في الحوارات التلفزيونية، وقد ساهم بمداخلاته المتَّزِنة في تقديم صورة إيجابية ومضيئة عن الموحِّدين الدروز خصوصاً من خلال الأقنية الفضائية التي تصل إلى قسم كبير من الجمهور اللبناني والعربي.
نهج الشيخ سامي أبي المنى الحواري والتوفيقي طبع بوضوح مؤلفه الجامع حول موضوع الحوار، لكن الكتاب متأثر أيضاً بوظيفته الأصلية كأطروحة للدكتوراه الجامعية، والتي لا بدّ من اتباع منهجية معينة في إعدادها وفق المعايير السائدة في الوسط الجامعي، لذلك جاء جيد التبويب، شديد التفصيل، مدعَّماً بلائحة من مئات المراجع استغرقت 12 صفحة، بل إن من الممكن وصف الكتاب باعتباره عدة كتب في مجلد واحد، وهو لهذا يحمل فوائد عدة ويترك للقارئ خيار التوقف أكثر عند الموضوع الذي يرتدي أولوية بالنسبة له. خذ مثلاً الفصل الوافي عن الموحِّدين الدروز الذي قصد الشيخ أبي المنى من خلاله تقديم دفاع عقلاني عن موقف طائفته من خلال البحث بعمق في هويتها الروحية الإسلامية والعربية ودورها التاريخي في الدفاع عن الدولة الإسلامية وتنظيمها الاجتماعي ومسلكها الروحي والأخلاقي وتسامحها الشهير، وهو يقدّم دليلاً موجزاً عن الموحِّدين الدروز لمن ليس له إلمام كاف بحقيقتهم أو من يحمل أفكاراً مغلوطة عنهم متأثرة بالأغراض السياسية وتاريخاً طويلاً من التكاره بين الفرق في الإسلام، وهو يصف قومه بأنهم “أهل تسامح وعرفان وتصوف” وهم قبل كل ذلك مُوحِّدون وأتباع مذهب يدين بالإسلام.
وفي ما يحمل الموحِّدون الدروز هوية ثقافية وروحية يتمسكون بها وهي متأصلة فيهم فإنهم من الناحية الاجتماعية منفتحون يتقبلون الآخر بسهولة بل يتفاعلون معه ويأخذون من نواحي تميزه كما يظهر من العلاقة التاريخية مع الطوائف الإسلامية ثم وبصورة خاصة مع الموارنة الذين استقدم العديد منهم من قبل أمراء الدروز لأهداف اقتصادية لكنهم أُعطوا في الوقت نفسه كل ما يمكنهم من ممارسة شعائرهم والتعبير عن هويتهم. وفي هذا السياق، يلفت وصفه للمثقفين الدروز بأنهم “ينسجمون مع فكرة الحوار والانفتاح، فهم ذوو عقل ليبرالي متحرر يميل إلى العلمانية في التفكير، وبذلك ينسجون علاقات فكرية ووطنية واجتماعية مع نظرائهم من اللبنانيين، وهذا ما يفسر انخراط العديد منهم في المنظمات والأحزاب اللاطائفية، وفي الحركات النضالية على مستوى البلاد والوطن العربي (وهو هنا يشير على الأرجح إلى دورهم في الثورة العربية وفي الجهاد في فلسطين ثم الثورة السورية الكبرى وفي غيرها من أعمال النهضة العربية، والأهم من ذلك اهتمامهم الفعلي بالحوار، ولعب دور فاعل ووسطي وتقريبي بين جميع المواطنين”.
وفي سياق عرض تقاليد التسامح والحوار لدى الموحِّدين الدروز يضيف الشيخ أبي المنى فصلاً خاصاً عن المعلم كمال جنبلاط، إذ يعتبره النموذج الأكمل على التنوع والغنى في مصادر ومقومات التوحيد الدرزي وعلاقته التقدمية والإنسانية مع الآخر.
وهو يورد شرح المعلم الشهيد للأسس التي يقوم عليها تلاقي المسيحية والإسلام على ثلاثة أركان هي: 1- ملتقى العقائد 2-منحى التجمّع البشري والاجتماع الحياتي 3- مستوى الحضارة العربية الشرقية الواحدة.
ويزيد المؤلف هذا الوصف البليغ من قبل المعلم كمال جنبلاط لأبرز معوقات الحوار والتعايش الحقيقي (لا “التكاذبي”) والتي يصفها على هذا النحو في كتابه “في ما يتعدى الحرف” إذ يقول: “إن أزمة لبنان غير المعلنة هي في ازدواجية التعاطي والأخذ والردّ، والقول والعمل، وهو عقدته النفسية العميقة التي تمنع المواطنين من التوحّد والتكامل والانصهار في بوتقة الخليّة الاجتماعية والوطن والدولة” (كمال جنبلاط: “في ما يتعدى الحرف” – ص 14).
ويبرز الشيخ سامي في الفصل الخاص عن كمال جنبلاط رؤية المعلم المتقدمة لتكامل المسيحية والإسلام فيورد أولاً تأكيد كمال جنبلاط على أن الرسول محمد بن عبد الله (ص) هو مؤسس الحضارة العربية وهو ذاته مؤسس الإسلام.. لكن الحضارة العربية لم تقتصر على الشعب العربي وحده أو على المسلمين لأن النصرانية أسهمت إسهاماً ضخماً في الحضارة العربية الإسلامية لهذا، فإن النصرانية حسب كمال جنبلاط هي “وديعة الإسلام الحقيقي، وهو بدوره وديعتها في ما يتحلى به من قيم وحضارة في بلاد المشرق” داعياً الجميع لأن يدخلوا “في سياق مجرى تطور الجماعة نحو علمنة الدولة واشتراكية الاقتصاد وازدهار الفن والأدب وتنمية روح الكشف عن الكنوز الدفينة وتجاوز حدود المكان والزمان لنرى الحقيقة على الدوام كما هي” (في ما يتعدى الحرف).. والاشتراك الحقيقي بين النصرانية والإسلام بحسب كمال جنبلاط هو في النهاية “الاشتراك في التوحيد الحكمي والفلسفي والمعرفي والإنساني والعرفاني”.
يقدّم الشيخ سامي في خواتيم الكتاب مجموعة اقتراحات تتعلق بترسيخ مناخ الحوار ومفهوم المواطنة عبر إصلاح التعليم مثلاً وعدم التدخل في كتابة التاريخ وتعليمه بتأثير العقائد والأهداف السياسية حتى ولو كانت نبيلة مثل دعم فكرة الوحدة الوطنية، لأن التاريخ علم قائم بذاته يعتمد بالكلية على الوقائع والموضوعية في العرض والتحليل.
نعود إلى القول إن كتاب الشيخ سامي أبي المنى واسع وغني بالتفاصيل وهو مكتوب كرسالة طويلة في الإقناع وفي تبيان أسس الحوار وقواعده وغاياته، لكن المؤلف لا يترك القارئ قبل أن يضع لكتابه خاتمة يمكن اعتبارها بمثابة “مانيفستو” يتضمن مجموع القواعد التي يجب أن يقوم عليها الحوار والتضامن الوطني والاجتماعي بين اللبنانيين ومنها بصورة خاصة:
1. إن تلاقي الأديان هو السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية وإنقاذ الإنسان


2. إن لبنان لا يمكن أن تحكمه طائفة واحدة على حساب الآخرين وإن النزاعات المكلفة التي قامت من حين لآخر بين اللبنانيين تفرض عليهم أن يتوجهوا نحو الدولة المدنية أو “دولة المواطنة الجامعة”.
3. إن تطبيع العلاقات بين المسلمين أنفسهم أصبح اليوم أكثر إلحاحاً وإن المصالحة الإسلامية-الإسلامية ضرورة أساسية لإنقاذ الحوار الإسلامي المسيحي نفسه.
4. إن المسالمة الحقيقية لدى الموحِّدين الدروز هي مسالمة داخلية مع الذات ومسالمة مع الآخر وهم منفتحون على المستقبل وقابلون بإجراء النقد الذاتي، وهم لذلك يعتبرون أن الحوار يجب أن يبدأ مع الذات وتنقيتها لكي يصحّ مع الآخر.
5. إن الموحِّدين الدروز يعتبرون أن مسلكهم الإسلامي التوحيدي العرفاني هو نقطة الاشتراك مع كلّ الأديان والمعتقدات
6. إن رسالة الموحِّدين الدروز الجديدة يجب أن تشمل في نظر العديد من مثقفيهم المشاركة في تجديد الخطاب والفكر الإسلاميين ومقاومة التطرف.
ر.ح.