إنَّ استعمالنا لكلمة “الزيِّ الديني” يجب أن يفهم بمعناه الثقافي والتراثي، لأنَّ الموحّدين الدروز السالكين في معارج الحق هم جماعة من العابدين والزُهَّاد الأحرار الذين لا يتبعون إلى رهبانية أو ما يشابهها من المؤسسات والسلطات التي قامت في العديد من الأديان، وبات لها هرميتها وتراتبيتها وامتيازاتها. وقد نشأ الموحَّدون الدروز كسالكين يهتدون بهدي العارفين من كبارهم وزُهادهم، الذين لا يبتغون من هذه الدنيا سوى مرضاة الله والالتزام بوصاياه والتقرُّب منه بالعبادة والذكر الدائمين.
أما “الزيّ الديني” فقد تطوَّر من الأساس ليس ليمنح عُقَّال الدروز والطالبين منهم موقَّعاً خاصاً على غيرهم، ولا ليشير إلى مكانة دنيوية أو سلطة على العباد، بل ليقدِّم أوضح دليل على مجافاتهم لمباهج الدنيا وبهارجها وتحمُّلهم لمشقَّة ارتداء الخشن من الثياب وأسود اللون منها ورفضهم التزيُّن، أو استخدام الذهب أو الفضة أو غيرها. كما إنَّ قيافة السلوك بين العُقَّال واحدة ولا يستحبّ لأيِّ منهم أن يبالغ في نوع القماش أو الهندام بغية أن يرفع نفسه على الآخرين، وهذا ما يقوي فيهم روح الزُهد والخضوع لله والتساوي والأخوة والتواضع في السلوك.
برغم ذلك فإنَّ اتساع جماعة العُقَّال وتنوّع مداركهم ومراتبهم في السلوك، وَلَّد مع الوقت توجُّهاً لترجمة هذا التمايز في السلوك والمقام الروحي ببعض العلامات البسيطة التي تمثِّل إعترافاً بفضل أهل العلم والصلاح، وإصراراً من عامة الموحِّدين على تقدير مشايخهم من أصحاب المقامات الروحية أكثر ممَّا تمثِّل اتجاهاً أو قبولاً بخلق تراتبية كهنوتية من أي نوع.
وتعرف طائفة الموحّدين الدروز أكثر ما تُعرف بأزياء مشايخها ونسائها المتديّنات، وهي أزياء كما يتضح لها جذورها في المجتمع المشرقي الإسلامي، وإن كانت قد اتخذت خصوصيتها الثقافية ربما بتأثير تطوُّر المجتمع الدرزي كمجتمع جبلي وزراعي، بل يمكن القول إنَّ قسماً مهماً من لباس الموحِّدين الأجاويد يعود في جذوره إلى القرون السابقة ربما كان يشترك في بعضه (الشروال والصدرية المزررة وحتى العمائم) جمهور الموحِّدين، لكن التطوّر الذي شهده المجتمع في ما بعد _ وبتأثير دخول التقاليد الغربية والثقافات العصرية _ زايد الفارق في لباس العُقَّال وبقية المجتمع الدرزي إذ تمسَّك الأجاويد السالكين منهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساء بتراث الأجداد وأدب المظهر حشمة وتقشُّفاً، فنشأ بذلك هذا التمايز الذي نراه اليوم.
تمييز المشايخ التُقاة في زيِّهم جاء اعترافاً بفضلهم وتكريماً لهم، ولم يستهدف في أي حال خلق تراتبية كهنوتية من أيِّ نوع
يُعرَف “الأجاويد” الموحّدون، أي الملتزمون، بارتدائهم الزيّ الديني وحلاقة شعر الرأس. أمّا اللباس فيتألَّف، في الغالب، من السروال والقميص أو “القمباز” أي القِباء، وفوقه الجبّة أو العباءة التي تُرتدى في المناسبات، وغالباً ما يكون الأسود هو اللون المعتَمد، في إشارةً إلى الزهد الذي طبع حياةَ المتديّنين، وربما على سبيل الابتعاد عمَّا ساد المجتمعات المشرقية في مراحل الازدهار والبحبوحة من تباه بالألبسة المزركشة ومظاهر الجاه. علماً أنَّ بعض الأجاويد يُفضّلون اللون الكحلي الداكن، بينما يختار الآخرون ألواناً خاصة للعمل مثل: اللون الزيتي، أو الأسمر الفاتح (العسكري). وأمّا الأكيد، وفي جميع الحالات فهو البساطة المعتمدة في الزيِّ وعدم التزيُّن واعتماد الألوان، قاصدين أنَّ يكون الهدف من الزيّ السترة وتأكيد الزهد والتواضع والتساوي.
كما أنَّ زيّ المرأة الموحِّدة “الجويّدة”، يتألّف من التنورة السوداء، وأحياناً الكحلية الفضفاضة الطويلة حتى محاذاة الكعبين، والقميص اللائق غير الشفاف وطويل الكمّين، والمنديل الأبيض الكبير الذي هو حجابٌ يغطي الرأس والصدر والظهر والفم بل والأنف أيضاً لدى بعض المتورّعات التقيّات، وهذا ما يُسمّى “اللَّثمة” أو “الستحة” بحيث لا تظهر المرأة الموحِّدة إلاَّ عينيها. كما لا يُستحَبُّ اعتماد ألوانٍ أخرى أو التفنّن بترتيب الزيّ وهندمته، ولكن يجوز عند بعض النسوة أو الفتيات تخفيف المنديل طولاً وعرضاً وسماكة، مع الالتزام باللون الأبيض وتغطية الشعر. بعض النسوة، اليوم، يضعن المنديل الأبيض الصغير كشعارٍ، ومنهنّ من يضعنه في مناسبات الأتراح فقط، ولكن، ما يُشدّد عليه المشايخ، في كلّ حال، هو “أنّ زيَّ الموحّدين والموحّدات يجب أن يراعي شروطاً ثلاثة هي: الحشمة والسترة، البساطة والزهد، النظافة والترتيب
مؤسسة العرفان التوحيدية، تعرّف إلى مذهبك، ص 48.
الأمير السيد شدَّد دوماً على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّدين
لقد كانت السلطات الدينية والزمنية الإسلامية تتدخّل، غالباً، للحفاظ على الأزياء، وشدّد الأمير السيّد التنوخي على احتشام المرأة في لباسها، وعلى ضرورة تقيّدها بالقواعد الدينية… حتى أنّ
مشيخة العقل تصدّت مرّاتٍ عدّة لأمر اختلاط النساء بالرجال وتزيّنهنّ بالأزياء الأوروبية الحديثة ” المُخلّة بالآداب”، والسفور عن الوجوه، موجّهةً ومحذّرةً من تفشّي الخلاعة.. إذ في ذلك غضب الله تعالى والحرمان الديني. وهذا ما يُشدّد عليه “الأجاويد” دائماً”، مع التأكيد على تلازم الباطن والظاهر وتكاملهما وتوازنهما في مسلك الموحّد، دون أن يغلب أحدهما الآخر، فيتحوّل الدينُ تحجّراً ورياءً، أو يغدو تساهلاً ويُسراً خاضعاً للأهواء والمغريات.
فصول من العادات والتقاليد في جبل لبنان، حسن البعيني، ص 211، (بتصرّف).
أمّا المشايخ الموحِّدون فيرتدون العباءات السوداء في المناسبات، وبعضهم يرتديها حتى في محيطه القريب محافظاً على الطابع الرسمي لكونه شيخاً، وهي على 3 أنواع:
- العباءة السوداء: يلبسها معظم رجال الدين في مناسباتهم الاجتماعية. وهي قصيرة الأكمام مفتوحة الصدر، تنتهي تحت الركبتين بقليل.
- العباءة الحمراء المقلَّمة بخطوط بيضاء عمودية: وهي قصيرة تصل الى تحت الخصر، ويلبسها غالباً كبار السن من رجال الدين.
- العباءة البيضاء المقلّمة بخطوط سوداء عمودية: وهي قصيرة أيضاً، ولا يلبسها إلاَّ من يجتمع رأي المشايخ على أن يرتديها في حال رأوه أهلاً لذلك، وفقاً لدقّة مسلكه وإخلاصه في
عبادته، فيكون واحداً من المشايخ القدوة في منطقته أو على مستوى الطائفة”ز
كذلك، يعتمُّ الرجالُ بالعمامة البيضاء، وتُعرف أيضاً باسمٍ آخر هو “اللفّة”، باعتبارها قبّعة ملفوفة بنسيج، وهي مؤلفة من طربوش أحمر يلفه كليّاً وبطبقات رقيقة القماش الأبيض، سوى سطحه، وقد “كانت العمامة معروفة وذات أهميّة عند العرب، اقترن مصيرهم بها، وقد جاء في الحديث الشريف “العمائم تيجان العرب” وقيل أيضاً يبقى العرب ما بقيت عمائمهم،… وكان الخليفة العباسي المتوكّل أول من أحدث تمييزاً في العمائم، فجعل البيضاء والخضراء للمسلمين، والصفراء لليهود، والكحليّة (الزرقاء) للنصارى”[2]وتغيّرت الألوان بتغيّر العهود. وتقترب عمامة الموحّدين من عمامة شيوخ الأزهر مع بعض الاختلاف في عدم بروز سطح الطربوش الأحمر عن مستوى “اللفّة البيضاء”.
يعتمر العمامةَ معظمُ المشايخ الملتزمين، بحيث لا تفارق رؤوسهم سوى أثناء العمل لتحلّ مكانها “العرقية” أو “القلنسوة” البيضاء أو “الحَطّة” التي هي شبه المنديل الصغير الأبيض (معتمَدَة في مناطق راشيا وحاصبيا، كما في سورية)، والتي يُمكن أن تُوضع، كذلك، فوق العمامة، والغاية من ذلك أن لا يبقى الرأس دون غطاء، وهذا تقليدٌ إسلاميّ قديم.
أمّا العمامة “المدوّرة” أو “المكولسة”، أو “اللفّة المدوّريّة”، فتخصّ البارزين في التقوى من أركان المرجعية الروحية أو الهيئة الروحية العليا، كما بات يُعرَف اليوم، أو من المشايخ المشهود لهم بورَعهم وتقواهم، “وقد تراوح عدد المعمَّمين بها بين قلّةٍ وكثرة، فوصل إلى حوالي الأربعين في أواخر القرن التاسع عشر”، بينما مرّت فتراتٌ لم يكن فيها من المعمّمين سوى شيخٍ واحد أو اثنين أو ثلاثة، امّا اليوم فهم أربعة فقط، “ولابسو هذه العمامة يتحوّلون محجّة ومرجعاً لأخوانهم من رجال الدين، كما يعود إليهم رجال السياسة في المواضيع المهمّة والأزمات الصعبة والقضايا المصيرية. ومن المعروف أنَّ معظم من لبس هذه العمامة لم يرضَ أن يُعمّم بها إلاّ بعد إلحاحٍ شديد من المشايخ، وذلك من قبيل الزهد والتواضع، ولم يُخالف هذه القاعدة إلاّ قلائل جدّاً ممّن رغبوا باعتمارها، أو ممّن لبسوها عن يد مَن ليس مُعمَّماً بها، وهذا الأمر يُعتبَر استثنائياً وغير مُستَحبّ.
من جهةٍ أُخرى، يقتدي الأولاد بأهلهم، عادةً، في ارتداء الزيّ، فيلبس الولد السروال، ويُسمّى “الشروال”، “والعرقية” البيضاء على الرأس، وتلبس البنت الرداء الطويل والمنديل الصغير الأبيض، منذ سنِّ مبكّرة، ويُفضَّل عدم تعويدهم على الألوان المزركشة والملابس الفاخرة، حتى إذا بلغ الولد فيختار إمّا الاستمرار في الالتزام بالزيّ الديني ومسلك أهله، أو التخلّي عن الزيّ، ومنهم من يبقى ملتزِماً سلكه الديني، وإن لم يظلّ مرتدياً الزيّ بشكلٍ دائم.
(نصّ مقتطف من رسالة جامعية للشيخ سامي أبي المنى، رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، وأمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية – 2009)