السلطان محمد الفاتح
مؤسس الإمبراطورية العثمانية
لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ
الرسول محمد (ص)
جمع بين الورع والثقافة والإدارة والعبقرية العسكرية
فأزال الدولة البيزنطية وأرعب روما والممالك الأوروبية
كان شيخه الكوراني يخاطبه بإسمه ولا ينحني له، ولا يقبّل يده
وكان يقول له «مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط»
أعطى لنصارى القسطنطينية حرية العبادة واختيار رؤسائهم
والحكم في قضاياهم وأبقى لهم نصف الكنائس في المدينة
أعدّ لفتح القسطنطينية بكل عناية فاهتم بالمدافع وإحكام الحصار
والأسطول البحري لكن سلاحه الأول كان مرافقة العلماء للجيش
أغلق المدافعون عن القسطنطينية الممر البحري بالسلاسل
فنقل الفاتح سفنه بجرها على اليابسة فصعق البيزنطيون
كلّف رجال دين نصارى رسمياً مهمة التجوال في أنحاء الدولة،
ومراقبة إدارة الدولة ومدى إحقاق العدل بين الناس في المحاكم
عند ذكر الفاتحين العظام الذين بدّلوا وجه التاريخ يبرز ذكر السلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح) كواحد من القلّة النادرة من صنف هؤلاء الفاتحين، وهو الذي لم يكن سنه يتجاوز الرابعة والعشرين عندما تمكّن من سحق الإمبراطورية البيزنطية وإزالتها من الوجود، وقد درس محمد الفاتح على أيدي أولياء صوفية كبار مثل المولى شمس الدين الكوراني والمولى زيرك والقطب الصوفي الشهير آق شمس الدين. فمن هو السلطان محمد الفاتح وما هو الأثر الذي تركه على مسار الدولة العثمانية والعالم الإسلامي والإنسانية؟
«محمد الفاتح» أو «محمد الثاني» هو السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، وهو محمد بن مراد بك بن محمد بك بن بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان، يُلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً نجح خلالها، من خلال فتح القسطنطينية، في افتتاح تاريخ جديد للدولة العثمانية وعزّز مكانة الإسلام وهيبته في العالم.
نشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني الذي أهلّه ليكون جديراً بالسلطنة، إذ علّمه علوم الدولة وعلوم الشريعة والعلوم الحديثة فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلّم الفقه، كما درس الرياضيّات وعلم الفلك، إضافةً إلى إتقان فنون الحرب والقتال، كما تدرّب على إدارة شؤون الدولة، إذ تولّى السلطة على منطقة أماسيا في السلطنة، وكان ما زال في الحادية عشرة من عمره. وفي هذا ما يذكّر بتجربة الاسكندر الأكبر الذي ولّاه أبوه حكم مقدونيا كوكيل له وهو كان لا يزال في سن الخامسة عشرة. ورث عن أبيه الجلد والشجاعة والصبر والمعرفة بأمور القتال وتشرّب منه روح الإسلام لاسيما عبر الشيوخ الأقطاب الذين انتدبهم والده لتربيته، وكان إلى عبقريته العسكرية عالي الثقافة ومحباً للعلم والعلماء، وكان يتحدث عدداً من اللغات إلى جانب اللغة التركية، وهي: الفرنسية، اللاتينية، اليونانية، الصربية، الفارسية، العربية، والعبرية.
كان محمد الفاتح مهتماً بدراسة التاريخ، مغرماً بقراءة سير العظماء. تميّز بثقته الكبيرة بنفسه وبقدرته على تحمّل المشاق، ندر أن أدى صلاته خارج المسجد وسلك كل طريق تُقرِّبُه إلى الله جلّ وعلا، كان طموحاً محباً للتفوّق. وإلى جانب هذا كلّه، كان متواضعاً محباً للعلماء ورجال الأدب بالإضافة إلى الفنون وخاصةً الرسم، وكان يتذوّق الأدب ويحفظ الشعر وينشده، ولعلّ أكثر ما ميّزه هو حياته البسيطة فقد كان عدواً للترف وللعادات المعقّدة، مائدته بسيطة نادراً ما تخلو من العلماء والأدباء.
إخبار الرسول (ص) عنه
من أهم الكرامات التي حظي بها محمد الفاتح، السلطان المؤمن، هو أن رسول الله (ص) مدحه ضمناً في حديث صحيح ورد في مسند ابن حنبل تنبأ فيه بفتح القسطنطينية وقد جاء فيه:
} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ{
أسبغ الحديث النبوي الذي تنبأ بفتح القسطنطينية وامتدح الأمير الذي سيفتحها وجيشه هالة من الجلال والاحترام على شخص الفاتح عندما تمّ الفتح وتحقق ما جاء في إخبار الرسول (ص) على يده، إذ تمكّن السلطان الشاب بنصر من الله من تحقيق أعظم إنجاز في تاريخ الإسلام منذ الفتوحات الأولى، فأسقط بذلك تلك المدينة العظيمة والمحصّنة التي صمدت أكثر من ثمانية قرون لأكثر من 11 محاولة لفتحها على يد الخلفاء المسلمين المتعاقبين، وهي كانت تحوّلت إلى شوكة في خاصرة الدولة العثمانية الصاعدة ومصدر متاعب لها. وقد أدى فتح القسطنطينية إلى القضاء نهائياً على الدولة البيزنطية بعد أن استمرّت أحد عشر قرناً ونيف، وبلغ من أهمية الحدث في نظر العديد من المؤرخين أنهم اعتبروه خاتمة العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، ويعتبر فتح القسطنطينية عند الأتراك فاتحة ما أسموه بـ «عصر الملوك» إذ تحوّلت الدولة العثمانية في عهد الفاتح ومع زوال بيزنطة من سلطنة إلى إمبراطورية قبل أن تبلغ ذروتها من القوة والمجد والرقي في عهد سليمان القانوني ابن حفيد محمد الفاتح في القرن السادس عشر الميلادي.
وقد تابع السلطان محمد بعد ذلك فتوحاته في آسيا، فوحّد ممالك الأناضول، وتوغّل في أوروبا حتى بلغراد ويبدو أنه كان في طريقه إلى روما مقر البابوية لولا أن الموت عاجله وهو منشغل بإعداد حملة عسكرية ضخمة أبقى تفاصيلها كلها سراً حتى عن أقرب المقربين إليه.
كتب لوالده الزاهد طالباً منه العودة لتحمــّـل مسؤولياته قائلاً: إن كنت أنت السلطان فتعالَ وقف على قيادة جيشك ودولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش
مولده ونشأته
وُلد محمد الثاني، للسلطان مراد الثاني في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية فجر يوم الأحد بتاريخ 26 رجب سنة 833 هـ الموافق 20 أبريل من سنة 1429 م ، وعندما بلغ سن الحادية عشرة، أرسله والده السلطان، كما كانت عليه عادة الحكّام العثمانيين، إلى أماسيا ليكون حاكماً عليها وليبدأ في اكتساب الخبرات اللازمة لحكم دولة بقوة واتساع الإمبراطورية العثمانية. وقد مارس محمد الأعمال السلطانية في حياة أبيه، وكان منذ تلك الفترة يعايش ويتابع صراع المسلمين مع الدولة البيزنطية وقد استوعب مع الوقت أن بقاء بيزنطة والقسطنطينية أصبح عقبة لا بدّ من إزالتها إذا أريد للدولة العثمانية القوية أن تحقق طموحاتها وتبسط سيادتها على العالم القديم حتى تخوم الصين والهند. وكان السلطان مطلعاً اطلاعاً وافياً على المحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة.
الشيخ فوق الأمير
وخلال الفترة التي قضاها حاكماً على أماسيا، أرسل السلطان مراد الثاني إليه عدداً من المعلمين بهدف الإشراف على تعليمه وتربيته وفق المبادئ الإسلامية لكنه وهو الأمير الصغير المعتد بقوته لم يمتثل لأمرهم، ولم يقرأ شيئاً، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، الأمر الذي كان يُعد ذا أهمية كبرى في تكوين ملوك بني عثمان، عندها طلب السلطان مراد أن يأتوا له برجل ذي مهابة وحدة، فذكر له المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني، فجعله معلماً لولده وأعطاه قضيباً يضربه به إذا خالف أمره، فذهب إليه، ودخل عليه والقضيب بيده، فقال: «أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري»، فضحك السلطان اليافع من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضرباً شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد، وخضع لهيبته وقد ساهم ذلك في تحقيقه تقدماً كبيراً وسريعاً في حفظ القرآن الكريم والتضلّع بالعلوم الشرعية في مدة يسيرة.
تربية إسلامية وتقوى
هذه التربية الإسلامية على يد ذلك الولي الصالح كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصية محمد الفاتح، إذ جعلت منه مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيداً بالأوامر والنواهي، معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها، فتأثر بالعلماء الربانيين، وبشكل خاص معلمه مولاه «الكوراني» وانتهج منهجهم. ثم برز دور الشيخ العارف الصوفي «آق شمس الدين» في تكوين شخصية محمد الفاتح وقد بث فيه منذ صغره أمرين هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، وإخباره دوماً منذ صغره بأنه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي، وقد جعل ذلك محمد الثاني مؤمناً حقاً بأنه أصطفي من الله تعالى لإنجاز ذلك الفتح، وأنه هو المقصود على الأرجح بحديث الرسول (ص) حول فتح القسطنطينية.
اعتلاؤه العرش للمرة الأولى
في 13 يوليو سنة 1444 أبرم السلطان مراد الثاني معاهدة سلام مع إمارة قرمان بالأناضول، وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده حزناً شديداً وسئم الحياة، فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر إلى ولاية أيدين للإقامة بعيداً عن هموم الدنيا وغمها، لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتماداً على تغرير الكاردينال «سيزاريني»، مندوب البابا، وإفهامه لملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تُعد حنثًاً ولا نقضاً.
وكان السلطان محمد الثاني قد كتب إلى والده يطلب منه العودة للقيام بمسؤولية حكم وإدارة السلطنة تحسباً لوقوع معركة مع المجر، إلا أن مراد رفض هذا الطلب. فردّ محمد الثاني الفاتح: «إن كنت أنت السلطان فتعالَ وقف على قيادة جيشك ودولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش». وبناءً على هذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة فارنا، التي كان فيها النصر الحاسم للمسلمين بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1444.
يُقال بأن عودة السلطان مراد الثاني إلى الحكم كان سببها أيضاً الضغط الذي مارسه عليه الصدر الأعظم «خليل جندرلي باشا»، الذي لم يكن مولعاً بحكم محمد الثاني، بما أن الأخير كان متأثراً بمعلمه المولى «الكوراني» ويتخذ منه قدوة، وكان الكوراني على خلاف مع الباشا.
ولايته الأولى في مانيسا
انتقل السلطان محمد الثاني إلى مانيسا الواقعة بغرب الأناضول بعد ثورة الإنكشارية عليه، وبعد أن جمعهم والده وانتقل لخوض حروبه في أوروبا. ولا توجد معلومات وافية عمّا قام به السلطان محمد في الفترة التي قضاها في مدينة مانيسا. وكان السلطان مراد الثاني قد عاد إلى عزلته مرة أخرى بعد أن انتصر على المجر واستخلص مدينة فارنا منهم، لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضاً، لأن عساكر الإنكشارية ازدروا ملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة 1445 وأخمد فتنتهم. وخوفاً من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة، أراد أن يشغلهم بالحرب، فأغار على بلاد اليونان والصرب طيلة سنواته الباقية، وفتح عدداً من المدن والإمارات وضمها إلى الدولة العثمانية.
قام محمد الفاتح خلال المدة التي قضاها في مانيسا، بضرب النقود السلجوقية بإسمه، وفي أغسطس أو سبتمبر من سنة 1449، توفيت والدته، وبعد ذلك بسنة، أي في 1450، أبرم والده صلحاً مع «اسكندر بك الألباني وكان الأخير قد تظاهر بالإسلام وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قرّبه إليه، ثم انقلب عليه أثناء انشغاله بمحاربة الصرب والمجر، وبعد عدد من المعارك رأى السلطان الذي كان منشغلاً بالفتوحات مصالحة الأمير المتمرد ريثما يفرغ من حملاته تلك فيعود إلى معالجة ما كان هذا يحدثه من فوضى واضطراب».
اعتلاؤه العرش للمرة الثانية
عاد السلطان مراد الثاني إلى أدرنة، عاصمة ممالكه ليُجهز جيوشاً جديدة كافية لقمع الثائر على الدولة، «اسكندر بك»، لكنه توفي في يوم 7 شباط/ فبراير سنة 1451، وما أن وصلت أنباء وفاة السلطان إلى ابنه محمد الثاني، حتى ركب فوراً وعاد إلى أدرنة حيث توّج سلطاناً للمرة الثانية في 19 شباط/ فبراير من السنة نفسها، وأقام جنازة لوالده الراحل وأمر بنقل الجثمان إلى مدينة بورصة لدفنه بها.
عندما تولّى محمد الثاني الملك خلفاً لوالده لم يكن قد بقي خارج سلطانه في آسيا الصغرى إلا جزء من بلاد القرمان ومدينة «سينوب» ومملكة طرابزون الروميّة. وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها. وكان إقليم «موره» مجزءاً بين البنادقة وإمارات صغيرة عدة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية. أضف إلى ذلك بلاد البشناق المستقلة، والصرب التابعة للدولة العثمانية تبعية سيادية؛ أما ما بقي من شبه جزيرة البلقان كان داخلاً تحت سلطة الدولة كذلك.
الإعداد لفتح القسطنطينية
أخذ السلطان محمد الثاني، بعد وفاة والده، يستعد لفتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق، فبذل بداية الأمر جهوداً عظيمة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون جندي، وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب الجيش على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهله للغزو الحاسم المنتظر، كما أعتنى الفاتح بإعداد قواته إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وكان يذكرهم دوماً بثناء الرسول (ص) على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لإنتشار العلماء بين الجنود ومرافقتهم لهم في المعارك أثر كبير في تقوية عزائمهم.
أراد السلطان، قبل أن يبدأ الحملة الفاصلة لفتح القسطنطينية أن يُحصّن مضيق البوسفور بما يقطع الطريق المائي لإمداد المدينة من مملكة طرابزون، وذلك بأن يُقيم قلعة على شاطئ المضيق في أضيق نقطة من الجانب الأوروبي منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي. ولمّا بلغ إمبراطور الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يُقررها، فرفض الفاتح طلبه وأصرّ على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأطلق عليها إسم «قلعة روملي حصار» ، وأصبحت القلعتان متقابلتين، ولا يفصل بينهما سوى 660 متراً، تتحكمان في عبور السفن من شرقي البوسفور إلى غربه وتستطيع نيران مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة. كما فرض السلطان رسوماً على كل سفينة تمرّ في مجال المدافع العثمانية المنصوبة في القلعة، وكان أن رفضت إحدى سفن البندقية التوقّف رغم إرسال العثمانيين لها عدداً من الإشارات، فتمّ إغراقها بطلقة مدفعية واحدة فقط.
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع، التي أخذت اهتماماً خاصاً منه، حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع، فأحسن استقباله ووفّر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية. تمكّن هذا المهندس من تصميم وتصنيع العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها «المدفع السلطاني» المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.
ويُضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني، حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها من دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة، وقد ذُكر أن السفن التي أعدّت لهذا الأمر بلغت مائة وثمانين سفينة في أقل تقدير، وقد ذكرت مصادر أخرى أنها قاربت الثلاثمائة سفينة.
معاهدات لكسب الوقت
عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غالاطا المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع جنوة والبندقية، وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن المدينة.
في الوقت الذي كان السلطان يعد العدة للفتح، حاول الإمبراطور البيزنطي جاهداً ثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره، ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنِه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا وهو الرئيس الروحي للكنيسة الكاثوليكية في العالم، وهذا على الرغم من العداء التاريخي الشديد بين روما وبين الكنيسة البيزنطية، وقد اضطر الإمبراطور لمجاملة البابا والتقرّب إليه بأن أظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، وكان موقف الإمبراطور البيزنطي يائساً بالفعل لكي يقدم مثل تلك التنازلات التي لم يكن شعبه أو كنيسته موافقة عليها. ويبدو أن البابا وجد في التهديد الوشيك للقسطنطينية فرصة تاريخية لمدّ نفوذ الفاتيكان شرقاً، وهو قام لذلك بإرسال مندوب منه إلى المدينة فخطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، إلا أن تدخل روما على تلك الصورة أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال أحد زعماء الكنيسة الأرثوذكسية: «إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية» .
أقنعه شيخه بأنه هو المقصود بحديث الرسول (ص) عن فتح القسطنطينية فبث هذا الإيمان في جنوده وضباطه وسار على رأسهم وأثبت صدق النبوءة
السلطان يخطب في الجيش
في تلك الأثناء كان السلطان محمد الفاتح قد بدأ في تسريع استعداداته للحرب الفاصلة فقام أولاً بتمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة عبرها إلى القسطنطينية. كما قام السلطان بتحريك المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية، وخلال مدة شهرين تمّ تركيزها كلها كما تمت حمايتها بقسم الجيش، ثم وصلت بعد ذلك الجيوش العثمانية التي كان يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 6 أبريل 1453.
صبيحة اليوم التالي جمع السلطان جيوشه المتعددة الألوية والبيارق وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي أي ربع مليون، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكّرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عز للإسلام والمسلمين، وقد ردّ الجيش على الخطبة بصيحات تهليل وتكبير مدوية وعلّت في أرجاء المعسكر أناشيد حماسية عبّرت عن تحرق الجيش لبدء الهجوم.
مع اكتمال حشد الجيوش كان السلطان قد أحكم الحصار على المدينة بجنوده من ناحية البرّ، وبأسطوله من ناحية البحر، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية مدفعية وضع بها المدافع الجسيمة التي صنعها أوربان، والتي قيل بأنها كانت تقذف كرات هائلة من الحجارة إلى مسافة ميل، ومن الأمور العجيبة التي حصلت أثناء الحصار أن قوات السلطان وقادته اكتشفوا في أثناء الحصار قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي استشهد حين حاصر القسطنطينية في سنة 52 هـ أثناء خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي. وقد اعتبر السلطان هذا الاكتشاف فأل خير وهو سيعود ليقيم فوق المكان جامعاً مهيباً يعتبر من أكبر جوامع اسطنبول.
وفي هذا الوقت كان البيزنطيون قد قاموا بسدّ مداخل ميناء القسطنطينية بسلاسل حديدية غليظة حالت بين السفن العثمانية والوصول إلى القرن الذهبي، بل دمرت كل سفينة حاولت الدنو والاقتراب، إلا أن الأسطول العثماني نجح على الرغم من ذلك في الاستيلاء على جزر الأمراء في بحر مرمرة، فاستنجد الإمبراطور قسطنطين، آخر ملوك الروم، بأوروبا، فلبّى طلبه أهالي جنوة وأرسلوا له إمدادات مكونة من خمس سفن، وكان يقودها القائد الجنوي جوستنياني يُرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة، فأتى هذا القائد بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فاعترضته السفن العثمانية ونشبت بينهما معركة هائلة في يوم 21 أبريل، 1453 انتهت بإفلات جوستنياني وتمكّنه من دخوله الميناء بعد أن رفع المحاصَرون السلاسل الحديدية ثم أعادوها بعد مرور السفن الأوروبية كما كانت.
حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلاسل الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه، إلا أنها لم تنجح في ذلك، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة. عندها أخذ السلطان يُفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برّاً وبحراً، فخطرت في باله فكرة غريبة هي أن يتم جر المراكب العثمانية في حركة التفافية عبر طريق بري، بحيث يتم تجاوز السلاسل الموضوعة لمنعها من دخول المضيق وإنزالها في مكان متقدم من المضيق خلف القوات البحرية المدافعة. وقد وتمّ هذا الأمر المستغرب بأن مهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وجيء بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة من السهل انزلاق السفن عليها وجرها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من البيزنطيين.
استيقظ أهل المدينة صباح يوم 22 نيسان/ أبريل وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين. وقد عبّر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: «ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحوّل الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر».
أيقن المحاصرون عندها أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم، لكنهم صمموا مع ذلك على الدفاع عن مدينتهم ربما بسبب آمال ضعيفة أن تصلهم إمدادات كبيرة من أوروبا إن هم تمكنوا من تأخير الهجوم العثماني، إلا أن السلطان محمد الفاتح الذي أصبح واثقاً من النصر سعى الى اجتناب إراقة الدماء فبعث إلى الإمبراطور قسطنطين برسالة دعاه فيها إلى تسليم المدينة سلماً، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى. وأعطى السلطان الفاتح الخيار لأهل المدينة بالبقاء فيها أو الرحيل عنها. ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إلى التسليم وأصرّ آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور إلى رأي القائلين بالقتال، وهو قام برد رسول الفاتح مع رسالة قال فيها إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم، وأنه يرضى أن يدفع له الجزية، أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها حتى آخر نفس في حياته، فإما أن يحفظ عرشه أو يُدفن تحت أسوارها. ولما وصل جواب الإمبراطور البيزنطي إلى الفاتح قال: «حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر».
كان لشدة اهتمامه بالتعليم يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ويحضر الصفوف كما أنه جعل التعليم في كافة مدارس الدولة مجانياً
الهجوم الحاسم
عند الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء 29 مايو، 1453 بدأ الهجوم العام على المدينة، فهجم مائة وخمسون ألف جندي وتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج وأعملوا السيف في مَنْ عارضهم واحتلوا المدينة شيئاً فشيئاً إلى أن سقطت بأيديهم، بعد 53 يوماً من الحصار، أما الإمبراطور قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه كما وعد، ولم يهرب أو يتخاذل. ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب، فأصدر أمره بمنع كل اعتداء، فساد الأمن حالاً. ثم توجه إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القساوسة والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف المسيحيون داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بأن يؤذن في الكنيسة بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً. وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين الذين لهم حق الحكم في النظر بالقضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع. ثم قام بجمع رجال الدين المسيحيين لينتخبوا بطريركاً لهم، فاختاروا جورجيوس كورتيسيوس سكولاريوس وأعطاهم نصف الكنائس الموجودة في المدينة، أما النصف الآخر فجعله جوامع للمسلمين. وبتمام فتح المدينة، نقل السلطان محمد مركز العاصمة إليها، وسُميت «إسلامبول»، أي «تخت الإسلام» أو «مدينة الإسلام» .
سياسة الفاتح المتسامحة
بعد تمام النصر والفتح، إتخذ السلطان لقب «الفاتح» و«قيصر الروم»، وذلك بإعتبار أن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن نُقل مركز الحكم إليها سنة 330 بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وكونه هو سلطان المدينة فكان من حقه أن يحمل هذا اللقب. وكانت للسلطان رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، بما أن كثيراً من أسلافه، كالسلطان أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات.
يذكر أن السلطان أمر بعد سقوط القسطنطينية بحبس الصدر الأعظم «خليل جندرلي باشا»، الذي اتهم أثناء حصار المدينة بالتعامل مع العدو أو تلقيه رشوة منه لفضح تحركات الجيش العثماني، فحُبس لمدة أربعين يوماً وسُملت عيناه، ثم حُكم عليه بالإعدام فأعدم.
السلطان يوسّع رقعة الدولة
بعد إتمامه لترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وتحصينها، أمر السلطان ببناء مسجد بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري، جرت العادة في ما بعد أن يتقلّد كل سلطان جديد سيف عثمان الغازي الأول في هذا المسجد، ثم سافر بجنوده لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد موره، لكن لم ينتظر أميراها «دمتريوس» و«توماس»، أخوا قسطنطين، قدومه، بل أرسلا إليه يُخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوكا. فقبل السلطان ذلك، وغيّر وجهته قاصداً بلاد الصرب، فأتى هونياد الشجاع المجري، الملقب «بالفارس الأبيض»، وردّ عن الصرب مقدمة الجيوش العثمانية، إلا أن الصرب لم يرغبوا في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم، حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا روما، والصرب أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة البابا بل كانوا يفضلون حكم المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقاً. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنوياً ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة 1454.
وفي السنة التالية أعاد السلطان الكرّة على الصرب من جديد، بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومرّ بجيوشه من جنوب تلك البلاد إلى شمالها من دون أن يلقى أقل معارضة حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب وحاصرها من جهة البر والنهر. وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها بشراسة فقرر السلطان رفع عنها الحصار سنة 1455. لكن ورغم عدم تمكّن العثمانيين من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم أصابوا هونياد بجراح بليغة توفي بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يوماً. ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم «محمود باشا» لإتمام فتح بلاد الصرب فأتمّ فتحها من سنة 1458 إلى سنة 1460.
وفي هذه الأثناء تمّ فتح بلاد موره. ففي سنة 1458 فتح السلطان مدينة «كورنته» وما جاورها من بلاد اليونان حتى جرّد «طوماس باليولوج»، أخا قسطنطين، من جميع بلاده ولم يترك إقليم موره لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية. وبمجرّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار طوماس وحارب الأتراك وأخاه معاً، فاستنجد دمتريوس بالسلطان فرجع بجيش عرمرم ولم يعد حتى تمّ فتح إقليم موره سنة 1460 فهرب طوماس إلى إيطاليا، ونُفي دمتريوس في إحدى جزر الأرخبيل. وفي ذلك الوقت فُتحت جزر تاسوس والبروس وغيرهما من جزر بحر الروم.
التوسّع في آسيا الصغرى
بعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحاً مع إسكندر بك وترك له إقليمي ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه من دون أن يُعلم أحداً بوجهته في أوائل سنة1461، فهاجم أولاً ميناء بلدة أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جنوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجّاراً يُحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرّض لأموالهم أو لأرواحهم، فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب. ثم أرسل إلى «اسفنديار»، أمير مدينة سينوب، يطلب منه تسليم بلاده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصار الميناء، فسلمها إليه الأمير وأقطعه السلطان أراضي واسعة بأقليم «بيثينيا» مكافأة له على خضوعه، ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها من دون مقاومة شديدة وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.
وفي سنة 1464، أراد ملك المجر استعادة البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات، ودخل في جيش الإنكشارية ثلاثون ألفاً من شبانها وأسلم أغلب أشراف أهاليها.
في سنة 1463 أشعل البنادقة حركة عصيان على الدولة العثمانية، لكنهم لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد موره من دون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد موره من دون فائدة.
البابا يدعوه إلى الدين المسيحي
بعد ذلك حاول البابا «بيوس الثاني» بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية النجاح في أحد بأمرين. وهو اختار أولاً سبيل الإغراءات فأرسل خطاباً إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعتنق المسيحية، كما اعتنقها قبله قسطنطين الأول الروماني وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه إن هو اعتنق المسيحية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية، خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، فحاول بعث المشروع الصليبي في نفوس النصارى، شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً، واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين، ولكن لما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية المختلفة، عاجل الموت البابا بعد ذلك بفترة قصيرة.
لقد حول محمد الفاتح اليابسة إلى بحار وجعل سفنه تبحر فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق بهذا العمل الإسكندر الأكبر
(قائد بيزنطي)
الفاتح يلحق الهزيمة بالمغول
بعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا، حوّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى ووجد سبيلاً سهلاً للتدخل، وهو أن أميرها المدعو إبراهيم أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحق، ولكونه كان لديه إخوة لأب أكبر منه سناً، يرغب كل منهم بالحكم بطبيعة الأمر، تدخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحق وهزمه وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة اسكندر بك، الذي كان ما زال على قيد الحياة آنذاك، فانتهز الأمير إسحق غياب السلطان وعاود الكرّة على قونية، عاصمة القرمان، لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد، فرجع إليه السلطان وقهره. وليستريح باله من هذه الجهة أيضاً، ضمّ إمارة قرمان إلى بلاده وغضب على وزيره محمود باشا الذي عارضه في هذا الأمر.
وبعد ذلك بقليل زحف أوزون حسن ، سلطان دولة الخروف الأبيض، وهو أحد خلفاء تيمورلنك، الذي كان سلطانه ممتداً على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهري جيحون والفرات، وفتح مدينة «توقات» عنوة ونهب أهلها. فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرّار وأرسل لأولاده داود باشا بكلر بك الأناضول، و مصطفى باشا حاكم القرمان، يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوّ، فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش «أوزون حسن» على حدود إقليم الحميد، وهزماه شر هزيمة في معركة بالقرب من مدينة إرزينجان. وبعدها، في أواخر صيف سنة 1473، سار إليه السلطان نفسه ومعه مائة ألف جندي وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة كَنجه، ولم يعد «أوزون حسن» لمحاربة الدولة العثمانية بعد ذلك، إذ أن هذه المعركة كانت قد قضت على سلطة دولته، ولم يعد للعثمانيين من عدو لجهة الشرق، حتى بروز الشاه إسماعيل الصفوي والدولة الصفوية في وقت لاحق، وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا روما وأمير نابولي، وكان النصر فيها دائماً للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم.
مواجهة دولة البندقية
وفي سنة 1477 أغار السلطان على بلاد البنادقة ووصل إلى إقليم «فريولي» بعد أن مرّ بإقليميّ «كرواتيا» و «دالماسيا » ، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة كرويا. بعد ذلك، وبسبب الضغط المستمر للمدفعية العثمانية قرر البنادقة عقد صلح جديد مع السلطان تنازلوا بموجبه عن ميناء إشقودره الاستراتيجي مقابل بعض الامتيازات التجارية، وتمّ الصلح بين الفريقين على ذلك ووقعت بينهما معاهدة في يوم 28 كانون الثاني/يناير سنة 1479 وكانت هذه أول خطوة خطتها الدولة العثمانية لفرض نفسها كطرف في جنوب القارة الأوروبية، إذ كانت جمهورية البندقية حينذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة البحرية، وما كان يُعادلها في ذلك إلا جمهورية جنوة.
تنظيمات السلطان الفاتح للدولة
في موازاة اهتمامه بالفتوحات وتوسيع رقعة الإمبراطورية العثمانية أظهر السلطان محمد الفاتح كفاءة كبيرة في تنظيم الدولة عبر الاهتمام بالاقتصاد والجيش والإدارة والمالية والصحة العامة والأمن والقضاء وغيرها من شؤون الدولة لكن السلطان أولى في الوقت نفسه اهتماماً خاصاً بتعزيز الدين الإسلامي فبنى الجوامع والمعاهد الدينية ورصد لها الأوقاف واهتم بالعلماء وقربهم، ونبع اهتمام السلطان بالجانب الديني من تحول الإمبراطورية العثمانية رسمياً إلى دولة الخلافة والسلطان إلى خليفة المسلمين أو «أمير المؤمنين»، كما نبع من اقتناعه الشديد بأن التزام الدين الحنيف من كل فئات المجتمع ولا سيما الحكام يوفّر للدولة التوفيق والنصر من الله جلّ جلاله.
إصلاحات رائدة لنظام التعليم
كان أول ما فعله السلطان محمد الفاتح هو الاهتمام بنظام ومؤسسات التعليم بحيث يوفر أساس قوة الدولة وحيويتها، وهو بدأ بإعادة هيكلة هذا القطاع وترتيب المدارس درجات ومراحل مع وضع المناهج لها، وجرى تحديد العلوم والمواد التي تُدرّس في كل مرحلة، ووَضَعَ لها نظاماً واضحاً.
فرض السلطان إجراء الامتحانات الدقيقة لتقرير انتقال الطالب إلى المرحلة التالية، وكان ربما يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة، ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، كما أنه جعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان، وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس: التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة وعلوم اللغة والهندسة، وأنشأ إلى جانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثماني مدارس على كل جانب من جوانب المسجد يتوسطها صحن فسيح، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته، وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وأنشأ إلى جانبها مكتبة خاصة وكان يُشترط في الرجل الذي يتولّى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحراً في أسماء الكتب والمؤلفين، وكانت مناهج المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضاً.
من أبرز مآثره أيضاً تقريبه للعلماء ورفع قدرهم وتشجيعهم على العمل والإنتاج، بدل التواكل، وبذله لهم الأموال والعطايا والمنح والهدايا وتكريمهم غاية الإكرام.
وقد كان من مكانة شيخه المربّي أحمد الكوراني أنه كان يخاطب السلطان بإسمه ولا ينحني له، ولا يقبّل يده بل يصافحه مصافحة، وكان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه، وكان يقول له: «مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط». وكذلك بالنسبة للشيخ «آق شمس الدين» الذي درّس السلطان محمد الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الزمن، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية، والفارسية والتركية، وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب، وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولّى إمارة «أماسيا» ليتدرّب على إدارة الولاية، وأصول الحكم. واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: «لتفتحنَّ القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».
وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا. وكان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بيّن السلطان لمن حوله – بعد الفتح-: «إنكم ترونني فرحاً، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين». وعبّر السلطان عن مهابته لشيخه في حديث له مع وزيره «محمود باشا»، حيث قال: «إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري. إنني أشعر وأنا إلى جانبه بالانفعال والرهبة».
مدفع سلطاني عثماني مماثل للمدفع الذي استخدم عند حصار القسطنطينية. تمّ صب هذا المدفع عام1464، وهو الآن موجود في متحف الترسانة الملكية البريطانية
دعم حركة الترجمة والتأليف ونشر المعرفة بتعميم المكتبات العامة وأنشأ في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت
اهتمامه بالثقافة والشعر
كان السلطان الفاتح شاعراً موهوباً، وكان له اهتمام شديد بالأدب عامة والشعر خاصة، وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم، وكان في بلاطه ثلاثون شاعراً يتناول كل منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم، وكان مع هذا ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب من يخرج عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاده. وكان الفاتح يكتب أشعاره بإسم «عوني»، ويُعدّ أوّل شاعر سلطاني اتخذ لنفسه إسماً مستعاراً. وللفاتح ديوان باللغة التركية معظمه في الغزل.
أتقن السلطان اللغة اليونانية وست لغات أخرى وكان عمره لا يتجاوز الـ 21 عاماً، أي في السنة التي فتح فيها القسطنطينية، وقد أمر بنقل العديد من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية، ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب للزهراوي، وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له طلب من العالم الرومي «جورج أميروتزوس» وابنه أن يقوما بترجمته إلى العربية وإعادة رسم الخريطة باللغتين العربية واليونانية، وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة، وقام العلامة القوشجي بتأليف كتاب بالفارسية ونقله للعربية وأهداه للفاتح.
كما كان مهتماً باللغة العربية فقد طلب من المدرّسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في تدريسهم وبين علم اللغة كالصحاح.. ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكتبات العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت.
اهتمامه بصحة رعايا الدولة
كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة. شجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وجميع أشكال العمران التي تعطي المدن بهاء ورونقاً، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتماماً خاصاً، وكان حريصاً على أن يجعلها «أجمل عواصم العالم» و«حاضرة العلوم والفنون».
الكثير من العمران انتشر في عهد الفاتح ، واهتم بدور الشفاء، ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب – ثم زيد إلى اثنين – من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحّال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين، وكان يُشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ووجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وأن لا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس من دون تمييز بين أجناسهم وأديانهم.
ولعلّ أبرز آثار السلطان العمرانية هو قصر الباب العالي الذي أمر بالبدء ببنائه قرابة عقد الستينات من القرن الخامس عشر، إضافة إلى مسجده الذي حمل اسمه، وآيا صوفيا بطبيعة الحال التي أمر بتحويلها من كنيسة إلى مسجد.
الاهتمام بالتجارة والصناعة
اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية، وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة، وأنشأوا الجسور الجديدة مما سهّل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة، واضطرت الدول الأجنبية لمسايسة الدولة العثمانية ليمارس رعاياها حرفة التجارة في الموانئ المهمة العديدة في ظل الراية العثمانية. كان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عمّ الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة، وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة، ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد.
سنّ القوانين وتنظيم إدارة الدولة
عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته؛ ولذلك فقد سنّ القوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته، وكانت تلك القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية. وضع السلطان الفاتح أنظمة جديدة سار عليها من جاء بعده، فأطلق على الحكومة العثمانية اسم «الباب العالي» وجعل لها أربعة أركان، هم الصدر الأعظم وقاضي العسكر والدفتردار والنيشانجي. وشكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع «قانون نامه» المستمد من الشريعة المذكورة وجعله أساساً لحكم دولته، وكان هذا القانون مكوناً من ثلاثة أبواب، يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية، وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات، ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أياً كان أصله وجنسه، وقد استمرت المبادئ الأساسية لهذا القانون سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى سنة 1839.
إهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم، وأشاع العدل بين رعيته، وجدّ في ملاحقة اللصوص وقطّاع الطرق، وأجرى عليهم أحكام الإسلام، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية. وعندما كانت الدولة تعلن الجهاد وتدعو أمراء الولايات وأمراء الألوية، كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزاً تاماً، وذلك حسب نسب مبينة، فكانوا يجهزون فارساً كامل السلاح قادراً على القتال عن كل خمسة آلاف آقجة من إيراد اقطاعه، فإذا كان إيراد إقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلاً كان عليه أن يشترك بمائة فارس، وكان جنود الإيالات مؤلفة من مشاة وفرسان، وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات الإيالات وبكوات الألوية. قام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاءة وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته.
فرمان سلطاني بحماية المسيحيين
في سنة 1462، وبعد إخضاع السلطان الفاتح لبلاد البوسنة قام بإصدار فرمان يتعلق بحماية الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد من أي اضطهاد أو ظلم، بسبب معتقداتهم الدينية، وما زال ذلك الفرمان يعتبر نموذجاً على سياسة التسامح التي طبقها العثمانيون على الأقليات المسيحية في جميع البلدان التي فتحوها. وفي ما يلي نص الفرمان.
“ بسم الله الرحمن الرحيم
أنا السلطان محمد خان الفاتح،
أعلن للعالم أجمع أن،
أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن: لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم ! وبأنهم سيعيشون بسلام في دولتي. وبأن أولئك الذين هجروا ديارهم منهم، سيحظون بالأمان والحرية. وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة.
لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيراً، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي أنفسهم !
لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم، وكنائسهم !
وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية.
وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا عمد، وبسيدنا محمد عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين أجمعين، بأنه لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !”
جعل العلاج والأدوية في مستشفيات الدولة بالمجان للجميع دون تمييز وكان يفرض على الأطباء عيادة مرضاهم مرتين في اليوم
تعزيز عديد وأسلحة بالجيش
تميّز عصر السلطان محمد الفاتح إلى جانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي، بإنشاءات عسكرية عديدة متنوعة، فأقام دور الصناعة العسكرية لسدّ احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان وإعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال.
كان هناك صنف من الجنود يسمى، «لغمجية» وظيفته الحفر للألغام وحفر الأنفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد الاستيلاء عليها، وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء. تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات، وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين. استحق معه أن يعده المؤرخون مؤسس الأسطول البحري العثماني، ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوة، أقوى الدول البحرية في ذلك الوقت.
تنظيم القضاء
إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه – شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته، ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة، ويمنحهم مرسوماً مكتوباً يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تُساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم، وقد أُعطي هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان.
كانت تقارير هؤلاء المبعوثين المسيحيين تشيد دائماً بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس من دون محاباة أو تمييز، وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته. اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب، بل لا بدّ إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس، وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة، فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة، وأحاط منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والقداسة والحماية. أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل.
كان السلطان الفاتح – رغم اشتغاله بالجهاد والغزوات – إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة واهتمام، وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي، وكان كثيراً ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه، كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها.
وفاته
قاد السلطان حملة لم يحدد وجهتها، لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سُئل مرة: «لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها»، لكنّ المؤرخين يخمنون بأنها كانت إلى إيطاليا. لكن السلطان مرض وتوفى قبل تمكنه من السير فيها يوم 3 مايو سنة 1481 عن ثلاث وخمسين سنة بعد أن حكم لمدة 31 عاماً قضاها في حروب متواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، وأتم في خلالها مقاصد أجداده، ففتح القسطنطينية وجميع ممالك وأقاليم آسيا الصغرى والصرب والبشناق وألبانيا، وحقق كثيراً من المنجزات الإدارية الداخلية التي سارت بدولته على درب الازدهار ومهدت الطريق أمام السلاطين اللاحقين ليركزوا على توسيع الدولة وفتح أقاليم جديدة. ومن مآثره أيضاً وضعه أول مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبات البدنية، أي العين بالعين والسنّ بالسنّ، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة أتمّها السلطان سليمان القانوني لاحقاً.
دُفن السلطان في المدفن المخصص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسسها في الآستانة، وترك للأجيال سمعة مهيبة في العالمين الإسلامي والمسيحي على حد سواء.
وصيّته لابنه:
هذه هي الوصية التي سجّلها السلطان محمد الفاتح لابنه بايزيد وهو على فراش الموت:
«ها أنذا أموت، ولكنني غير آسف لأنني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك من دون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها. وسّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تبدّد، وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتَهم، وابذل إكرامك للمستحقين .
وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
حذار حذار لا يغرَّنَّك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذِ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك».