سيرة الشيخ العلم أبو سليمان حسيب الحلبي
مبارك أنت أيها الشيخ القُدوة
في المجاهدة والمحبة وحفظ الأخوان


فقيد المسلك القويم الشيخ الزاهد العابد أبو سليمان حسيب الحلبي رحمه الله
عينٌ من الأعيان وعلمٌ من أعلام الورع والتقوى وركنٌ من أركان مسلك التوحيد، تميَّز بالإخلاص وسلامة النيّة والحلم والسخاء وحسن الخلق والتواضع والعبودية، وكان مثالاً يُقتدى به بطيب الكلمة والصبر والترفُّعِ عن الأنا. اجتمعت قلوبُ الناس عامةً على محبته، فلم يُعرَف له مبغضٌ، ولم يَعرفِ الحقدَ والقسوة. تأدَّب بآداب مَن سبقه من المشايخ الأتقياء وزاد عليها من جميل صفاته وحميد مناقبه ما جعل سيرتَه العطرة مدرسةً لمن أراد أن يتعلَّم مبادئَ التوحيد والعرفان.
حياتُه ومسلكُه
وُلد الشيخ الحلبي في بلدة بطمة – قضاء الشوف بتاريخ 20 آب 1922م، وسلك مسلك الالتزام الديني منذ مطلع صباه، وعاش عمره المديد مُجِدّاً مجاهداً، زاهداًً في الدنيا، فلم يكن يحب القنية الحسنة، بل كان يفضِّل البسيط من الفرش والأثاث، مستعيضاً عن حبِّ الدنيا بالاستئناس بمحبة أخوانه الموحدين ومتابعة شيوخه الأتقياء، مثابراً على حفظ الكتاب الكريم، وقد تزيّن بالكمال (إطلاق اللحية) في سنٍّ الخامسة والثلاثين على يد المرحوم الشيخ الجليل أبو يوسف حسين عبد الوهَّاب الموجود ضريحه المبارَك في قرية الغارية من قرى محافظة السويداء في سوريا،
تزوَّج في 20 تموز 1958م من الشيخة الجليلة سُمَيّة منذر من بلدة بزبدين المتنية (توفيت عام 2014م)، وهي شقيقة الشيخ الجليل سلمان منذر المعروف وأخوانه بالمحافظة والتقوى، وكانت من النساء التقيّات النقيَّات. رُزق منها ولد وحيد سمَّاه سليمان، كما تزوَّج أخوه الشيخ الجليل أبو سلمان أنيس من أختها الفاضلة في التاريخ ذاته، وعاش الجميع في المنزل المتواضع ذاتِه عِيشةً اتّسمت بالكفاف والبساطة الروحانية، أخوةً ورفاقَ دربٍ ومسلك، وعلى أتمِّ ما يكون من الوئام والوفاق. وكان الشيخ يكدّ ويعمل بنشاطٍ من أجل كسب عيشه والقيام بواجب عياله، فأتقن الحياكة على النَّول، ثمَّ تمرَّس بصناعة الصابون البلدي بالوسائل التقليدية المتوارثة، لا ليجمع الثروة بل ليفيَ حقَّ نفسِه وأهلِه عليه، ولعلَّ شجرة الجوز المعطاء في الحقل تشهد على كدِّ يمينه، وهو مَن لامس جذعها يوماً قبل سنواتٍ قليلةٍ من رحيله وخاطبها معتذراً عن عدم تمكُّنه بعد الآن من تسلُّقِها وقطاف ثمرها، فانحنت وأخواتها في العام التالي ليسهل تناوُل أغصانها، وكأنَّ في ذلك “كرامةً” للشيخ ليظلَّ قادراً على مباركتِها وقطافِ ثمارها.
الشيخ القدوة
كان المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي شيخاً فاضلاً تقيّاً، آمن وعمل الصالحات وفعل الخيرات وقام بالفرائض الواجبات وخاف مقام ربِّه ولاذ في الخلوات ونهى نفسه عن الهوى، انصياعاً وطاعةً، وكانَ حافظاً آياتِ الكتاب العزيز، مجتهداً في تَدبُّر معانيها وغاياتها، حريصاً على عيش الصدق والأخوَّة، مهتمَّاً
بـ “جبر خواطر” أخوانه، آمراً ناهياً باللطف لا بالقسوة، مُصلِحاً بين الناس، ناصحاً أبناءه برفقٍ ومحبة، واضعاً نفسه موضعَ القصدِ والتلقّي، يقيسُ الأمورَ عليها طالباً منها الامتثالَ والالتزامَ قبل أن يَطلبَهما من الآخرين، وربَّما كان ذلك سبباً لقَبول نصائحه واحترام رأيه وتوجُّهه، بفعلٍ من صفاء نيَّته وسلامة قصده، وقد جمع شيوخ البلدة وأهلها ومجتمعه المحيط على كلمةٍ سواء، فاجتمعوا في كنف رعايته متعاهدين على الإلفة والمودَّة.
“كان لا يقبل أن يُغتابَ أحدٌ بحضوره، وكان يردّد أنه «من قال في أخيه بما فيه فقد اغتابه، ومن قال بما ليس فيه فقد أبهته، والبهتان أعظم الكفران”
نهجه التربوي
أمّا نهجه في التربية والإرشاد فكان قائماً على التعليم بالقدوة الحسنة، وعلى إطلاق بعض كلماتٍ وعباراتٍ مؤثِّرة تلخِّصُ توجُّهه، كمثل ما كان يقول لابنه الوحيد مراراً: “لا تظنّ أنني أُفضِّلَك على سواك من أهل الخير إلَّا بما تفعلُه من خير”، و”إذا رأيتَ الخطأ من غيرِك فاكتفِ بأن لا تفعلَ مثلَه”، و”لتكن يدُك مبسوطةً للعطاء وعمل الخير ولا تُطبقها أمام المحتاجين”، و”إياك أن تتكلَّم بسوءٍ عن الناس”، ولذلك كان لا يغتاب أحداً ولا يقبل أن يُغتابَ أحدٌ بحضوره، وكان يردّد هذا القول: “من قال في أخيه بما فيه فقد اغتابه، ومن قال بما ليس فيه فقد أبهته، والبهتان أعظم الكفران”. ولا يرضى سماع أيِّ كلام بحقّ الناس وخصوصاً “الأجاويد” حتى ولو جاءت من مشايخ معروفين ومنظورين، قائلاً لمحدِّثيه: “ليس هنا مكان وزمان هذا الكلام”، كما كان يكره النميمة مردِّداً القول المأثور: “مَن نَمَّ لك نَمَّ عليك”.
ومن خصائص نهجه التربويّ أنه اعتمد الإخلاص في نصحه، فكان ناصحاً بالسرِّ لا بالعلن، وعندما كان ينصح أحداً ولا يقبل منه كان يردُ الأمر إلى نفسه قائلاً: “لو كنّا مخلصين لكان قبِلَ منَّا”، لكنّ جُلَّ همِه كان أن لا ينزعج منه أحد، موصياً ولده ومَن لازمَه بالقول مراراً: “ما تخلّي حدا يزعل منّك”. وكان حريصاً على طمأنة أخوانه وأبنائه المحبّين، فيلتمس لهم العذر، ويتفهَّم مواقفهم، وقد حصل معي مثل ذلك عندما قصدته يوماً لتوضيح موقف معيَّن فكان كالأب الحنون والمعلم الناصح دونما تأنيبٍ أو إحراجٍ، تاركاً لي حسن التصرُف بعد توجيه بضع كلماتٍ طيِّباتٍ كعادته تدعو إلى التسامح وعدم الإساءة إلى الآخرين مهما أساؤوا إليك.
خصاله وسجاياه
كان يرى نفسَه في موضع الإفتقار لله والعبودية، والعبودية هي، بحسب الجنيد (ر)، “ترك الاختيار” و”التبرُؤُ من الحول والقوة وطرحُ النفس بين يدَي الله عزّ وجلّ والصبر على مُرِّ البلوى”، وكان لذلك يكرر اعترافه بالتقصير: يمكننا أن نُقيمَ الحدودَ على الناس، لكن من كان عليه حدٌّ لا يمكنه أن يُقيم الحدود، و”أي أمرٍ نتكلم به يجب أن نطبّقه على أنفسنا أوّلاً”، فكان لذلك يلزم به نفسه والأقربين قبل أيِّ أحدٍ آخر. ومن تواضعه الجمّ أنه لم يكن يجد حرَجاً في متابعة أخوانه ومرافقتهم في تلبية الدعوات واللقاءات الدينية والاجتماعية، حتى من هم أصغر منه سنَّاً ومكانة، غير مهتَمٍّ بكونه شيخهم وكبيرهم. ولذا كان الكرم والمحبة والتعامل الإنساني مع الناس ومحبة “الأجاويد” من أجلّ سجاياه، فما كان يسمع بخلافٍ وقع بين بعضهم حتى يحزن كثيراً، فإذا علموا بحزنه يأتون إليه لطلب “صفو خاطره”، ويتصالحون لديه، أمَّا إذا تخاصم أحدهم مع أخيه وجاء شاكياً له عليه فكان لا يجيبه قطعاً ولا يحكم غيابياً بل ينتظر حتى يسمع الخصم ثم يحكم بعد تفكُّرٍ برويّة قائلاً: “الرأي يللي ما بيبيت ولو ليلة واحدة بيطلع ركيك”.
“من أقواله لأخوانه: «درهم عمل خيرٌ من قنطار علم، ودرهم تقوى خيرٌ من قنطار عمل، ودرهم إخلاص خيرٌ من قنطار تقوى، ودرهم مراقبة خيرٌ من قنطار إخلاص”
رسول محبة
أمَّا المحبةُ فكانت جزءاً من شخصيته ومن أبرز خصاله، وقد كان يعتبر أن محبة أخوانه في الله واجبة، فكان بذلك محبَّاً للجميع ومحبوباً من الجميع بمن في ذلك الذين يسيئون إليه، كما كان صادقاً في حرصه على حفظ الأخوان ومواساتهم، كثير التفقُد لأحوالهم، وخصوصاً الأصدقاء القدامى وكبار السن، كما كان محباً للضيف، كريماً في بيته وفي خلوة “القطالب” التي كان قيِّماً عليها، قائلاً: “ليس أَحبّ إليّ من الضيف؛ أجرُه لي ورزقُه على الله”.
رأى المرحوم الشيخ أنَّ العلم بلا عملٍ عقيم، وأنّ الصمت والتفكُر أفضل من الهذر وكثرة الكلام، ولذا كان يُطيل الاستغراق بالتأمُّل، مستشعراً حضوره في كنف الله عزَّ وجلّ، داعياً إلى وجوب إقران العلم بالعمل، ناصحاً أخوانه بالقول: “درهم عمل خيرٌ من قنطار علم، ودرهم تقوى خيرٌ من قنطار عمل، ودرهم إخلاص خيرٌ من قنطار تقوى، ودرهم مراقبة خيرٌ من قنطار إخلاص”، وكأنه كان يقول عندما يسمع كثرة الوعظ والوعَّاظ: “أمَّا نحن فنتلهّى بدراهم العلم”، وذلك تأثُراً بالمرحوم الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين الذي كان يرى أن إطالة الوعظ أشبه بإلقاء الخُطَب، وكأنهما كانا يريدان القول: لا تُكثروا من العلم على حساب العمل، ولا تحوِّلوا المعرفة إلى مجرَّد عباراتٍ للوعظ بل ارتقوا بالعلم والمعرفة إلى مستوى الحكمة، فالحكمة هي غاية العلم والمعرفة وهي غاية الكتاب. أمَّا هو فقد عرف أنَّ ما يفيد أكثر هو الصمت ودقة الكلام، ولذلك لم يكن يتلفّظ إلَّا بما فيه منفعة، مدقِّقاً في مصادر الكلام، حتى عُرفَ بالسكون والرزانة، وقد ردّد تكراراً، كمن سبقه من الأتقياء، قولَ بعض الحكماء: “أعقِل لسانَك إلّا عن حقٍّ توضحُه أو باطلٍ تَدحضُه أو حكمةٍ تَنشرُها أو نعمةٍ تَشكرُها”، وقد جسَّد حبَّه للصمت بتلك العبارة المخطوطة والمعلَّقة أمام ناظرَيه في غرفتِه، والتي أصبحت حكمتَه الأُولى وعنوانَ طبيعتِه وسلكِه: “الحكمة عشرة أجزاء؛ تسعةٌ منها بالصمت والعاشرة قلّة الكلام”، أفليس الصمتُ أبلغَ تعبيرٍ عن حال المؤمنِ، والحكمةُ أسلمَ سبيلٍ إلى بلوغِ غايةِ الوجود؟
رسم الشيخ بسجاياه الجليلة والمعبِّرة سُنَّةً سلوكية شريفة لأبناء المجتمع، مقتبَسَةً من سُنَن الأنبياء والأولياء والأئمّة والشيوخ الثِّقات، فقلَّما تجدُ أحداً من عارفيه لم يسمع منه مثل تلك المواعظ والحكم والآيات الطيِّبات التي كانت تشكِّل معظم كلامه ومواقفه، كرفضه إلقاء اللوم على سواه وقوله عند مواجهة أية معضلة أو إعاقة: “الحقّ علينا”، وأَنّ “ما يخرج من الإنسان هو الذي يُنجِّسه وليس ما يدخل إليه”. وفي معرض القناعة، كان لا يحبُ الفضول والإسراف معتبراً “أنّ لا شيء يساعد على التخلُص من الحرام غير التقليل”، مردِداً القول المأثور: “خذ ممَّن شئت فأنت أسيرُه، وأعطِ مَن شئت فأنت أميرُه، وساوِ من شئتَ فأنت نظيرُه”.


تأكيده على الإخلاص والمراقبة
أمَّا الصبر فكان من أعظم خصاله، وقد رافقه طيلة حياته المديدة، ولكنّ ما حصل معه في السنة الأخيرة من عمره كان الأهمَّ والأبلغ، فبالإضافة إلى صبره على أوجاع جسده بنتيجة المرض والكسر الذي أصابه في ذلك العام، كان يقابل إحراجه وتألُّمه من بعض المواقف والمعضلات بالصبر والاحتمال، وهو مَن اعتمد قاعدة جوهرية في مواجهة المشاكل، مردِّداً وصية لقمان الحكيم (ع) لولده: “با بنيَّ مَن عاملك بالقبيح عاملْه بالمليح وكلٌّ يلقى عمله”، وقائلاً: “النار لا تُطفأ بالنار بل بالماء”، وهذا ما ردّده في العديد من محطات حياته.
كثيرةٌ هي المواعظ والدروس والإرشادات التي كان يُرسلها الشيخ الطاهرُ على سجيَّته لأبنائه المريدين وأخوانه القاصدين إليه، إضافةً إلى حسن تصرُفه ولطف معاملتِه، وهو الذي لم يَشكُ يوماً ولم تفارق الابتسامة ثغرَه، بل كان متأدِّباً مع الله وخَلقِه، ما إن يئنُ أنَّةً عفويةً في لحظة وجعٍ شديد حتى يؤنِّبَ نفسَه وينعتها “بقلّة الأدب مع الله لأنه لم يتحمَّل بعضَ ألم مُستحقّ”، وهو مَن كان يُبادرُ إلى إرضاء مَن يُسيءُ إليه ومَن يعامله بقسوة، فيردُّ الأمرَ إلى نفسِه، ولا يتوانى عن زيارةِ غريمِه وطلبِ العفو و”صفو الخاطر” منه، وحسبُه في ذلك موعظة في البال ما انفكَّ يُردِّدها في نفسه وأمام الناس، عاملاً بها بكلِّ إخلاصٍ وصدق: “درجات الإخلاص أربعة؛ لا تردّ على من شَتمك – لا تُجازِ مَن ظلمك – وصِلْ مَن قطعك – وأحسِن إلى مَن أساء إليك”، وحسبُه أيضاً أربعةُ أبياتٍ من الشعر للإمام الشافعي (ر) ظلَّت معلَّقةٌ كذلك أمام مرآه:
“إذا شِئتَ أن تحيا سليماً من الأذى
ودينُك مـــوفــورٌ، وعِرضُك صَيِّنَ
لســــانُــــــــــــك لا تذكــــــــرْ بــــــــه عـــــورةَ ٱمرِئٍ
فكلُّك عــــوراتٌ، وللنــــاس ألســــــــنُ
وعـــينـُك إن أبــدتْ إليـــك مــعايبــاً
فصُنها، وقل يا عينُ للنــاس أعيـنُ
وعاشــــرْ بمعروفٍ وسامحْ مَنِ ٱعتدى
وفارقْ، ولكنْ بالتي هي أحســـنُ”
وإذا كان الإخلاصُ الحقيقي هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، وهو على عكس الرياء، فإنه، كما قِيل، “نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق”، لأنَّ مَن تزيَّن للناس بما ليس فيه سقط من عين الله، وكما قال ذو النون المصري: “الإخلاص لا يتمُّ إلّا بالصدق فيه والصبر عليه”. أمَّا إذا نظرتَ إلى شيخِنا الطاهر الجليل، بحسب تلك السجايا والخصال، فلا شكَّ أنَّك ترى فيه مثالاً يُقتدى به في الإخلاصِ وصدق السريرة، وقد استوى باطنُه مع ظاهرِه، بشهادة كلِّ مَن عرفَه وتعاملَ معه من قريبٍ أو بعيد ومَن شهِد عَيناً بأنه بنتيجة إخلاصه كانت أموره ميسّرة وكان ما يريده سهل المنال.
أسفاره الدائمة لتفقد أخوانه
كان صاحبُ هذه السيرة العطرة على غرار أخوانه الشيوخ البررة الأتقياء، منشغلاً بالتعلُّق بإخوانه ومواكبتهم، متفقّداً إيّاهم، قاصداً رؤياهم، شغوفاً بلقياهم، فاتحاً أبوابَ داره للتبرّك بحضورهم، سخيَّاً في ضيافته، قلَّما يرضى بتناول طعامه وحيداً، بل كان يدعو كلَّ مَن يزورُه من الأهل والأخوان لمشاركته، وكان مُجِدّاً في سفره لزيارتهم في قرى الشوف وجبل لبنان وراشيا وحاصبيا وجبل العرب والإقليم وغوطة دمشق وجبل السُمَّاق وفلسطين والجولان وغيرها، فلم تكن هناك بلدةٌ أو ناحيةٌ تواجدَ فيها إخوانه المؤمنون والموحِّدون إلَّا وزارها ودخل بيوتَ “أجاويدها” وسأل عن أهلِها، حتى إنّه كان دائمَ الصلاة لأجلهم، خصوصاً في أيام الصعوبات والمحن، لم يُشغلْه عن ذلك كِبَرُ سنٍّ أو تعبٍ، ولعلَّ ما أخبر عنه ابنُه في عامه الأخير يُصوِّرُ ما كان عليه من صلة محبةٍ وأُخوَّة، عندما عَرف بضيق أهلنا الموحِّدين في جبل السُّمَّاق، فأمضى ليلته ساهراً في فراشِه، مفكِراً بهم، ذاكراً ومصلّياً لأجلهم، وعندما قال له ابنه الذي كان نائماً في غرفته: “ألا ترتاحُ وتنامُ يا أبي؟”، أجابه على الفور: “ألا يستحقُ منّا أخوانُنا هناك ولو ليلةً واحدة؟”.
“كان يقول: لا تطيلوا الوعظ وتحوِّلوا المعرفة إلى عباراتٍ بل ارتقوا بالعلم إلى مستوى الحكمة، وعلّق في غرفته العبارة التالية «الحكمة عشرة أجزاء؛ تسعةٌ منها بالصمت والعاشرة قلّة الكلام”


إقتداؤه بالسلف الصالح
كما كان متأثِّراً بالسلف الصالح من المشايخ الثقات، مردِّداً مآثرهم الزكيَّة وساعياً جهده للسير على نهجهم، ولذلك جدَّ في متابعة شيوخِه المعاصرين والالتحاق بركبِهم، وقد تأثّر بالعديد منهم ومن الشيوخ السابقين. ومن المعروف أن بلدة بطمة عمرت بالمشايخ الأعيان والسَّلَف الصالح، ومنهم الشيخ شرف الدين علي الحريري، وقد قال فيه الشيخ أبو علي مرعي: كان له كرمٌ وحميَّةٌ وشجاعة وشدة بأسٍ في النهي عن المنكَرات والرذائل وهمّةٌ لنَيل الفضائل”، كما ذكر المؤرّخ ابن سباط بأنه كان من أكبر تلاميذ الأمير السيِّد جمال الدين عبد الله التنوخي (ق) وأنه استُشهد في حياته ( ت 880 هـ)1، والشيخ أبو صفيِّ الدين محمود الذي كان “شاعراً مجيداً وشيخاً ورعاً مفيداً” (ت 1091هـ)2، وكذلك الشيخ الورع العابد أبو يوسف سليم البيطار المشهور بزهده وتقشّفه وجهاده والذي عايشه شيخنا الحلبي في فترة شبابه وأُعجب بمسلكه الدقيق (ت 1371هـ)، وللثلاثة أضرحةٌ في البلدة تزار للتبرُّك والصلاة.


“كان دائم التذكير بدرجات إخلاص أربع: لا تردّ على من شَتمك، لا تُجازِ مَن ظلمك، وصِلْ مَن قطعك، وأحسِن إلى مَن أساء إليك”
صحبته لشيوخ عصره
وإلى جانب اقتدائه بالأعلام الأتقياء وتأثُره بسيَرهم المفيدة وسيَر مَن سار على نهجهم، تأثّر الشيخ الحلبي في بداياته بمسلك المشايخ الأعيان وفي مقدمهم شيخ ذلك العصر المرحوم الشيخ “أبو حسين” محمود فرج (ت 1953م)، وتيسَّر له مرافقة الشيوخ الأطهار في زمانه فأحبَّهم وأحبُوه، كمشايخ خلوات البياضة ومشايخ راشيا ومشايخ عاليه، وتأثّر بالمرحوم الشيخ الجليل “أبو حسن” عارف حلاوي (ت 2003م)، وحسن خلقه وأُنس محضره وبالمرحوم الشيخ أبو محمد صالح العنداري (ت 1992م)، لجهة الزهد وحسن التصرُف ومقابلة الإساءة باللين والتسامح وعدم الإثارة، قائلاً ما قاله الشيخ العنداري يوماً: “لو تصرَّفنا بغير ذلك و”عملنا نفوس” لكنَّا زدنا الخلاف”، ولم يكن ليسمح لأحدٍ ممّن حولَه بإعادة الكلام المُسيء وبأن يُملي عليه المواقف المتشدِّدة حيال صاحبه، داعياً إلى نزع الحقد من الصدور وليس من الأفواه فحسب.
وكذلك تأثّر بالمرحوم الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين، فكان كالطالب المريد لديه، متأدِّباً بحضوره، لائذاً بظلِّه، قائلاً له: “أسير خلفك لا أمامك ولا إلى جانبك”.،وعندما قيل له ذات يومٍ إنّ الشيخ أبو محمد جواد كان يقول كذا وكذا ردَّ قائلاً: “من تشبَّه بالملك هلك”. وكان متابعاً للشيخ، ملازماً له، وقد تأثّر كثيراً لفقده (ت 2012م)، وهو مَن كان مداوماً على متابعة اللقاءات الدينية وإحيائها في دارتِه في بعقلين قبل وبعد وفاتِه، نازلاً عند رغبته بأن يتحمَّل مسؤولية تلك المدرسة، ورعاية خلوة القطالب، فكان خيرَ أمينٍ مؤتَمنٍ على مكانٍ مبارَكٍ مخصَّصٍ للتعلُم والتعبُد وحفظ الأخوان.
تتويجه بالعمامة “المكولسة”
صعد الشيخ “أبو سليمان” درجات العلم والمعرفة والحكمة باطِّرادٍ، دون تراجُعٍ أو توانٍ، فلم يعثُرْ في دينه ولا في دنياه، ولم يتوقَّف عن السير قُدُماً والصعود في حياتِه، لكنَّه بالرغم من ذلك ظلَّ قلقاً على حسن خاتمتِه، سائلاً مَن جاء يُثني عليه ويُبشّرُه بالخلاص: “هل تكفلُ نجاتي؟”، ومُجيباً على سؤاله بلا تردُّدٍ: “أنا لا أكفلُ نفسي”. ولهذا كان استقبالُه للعمامة المكولسة التي ألبسه إيَّاها الشيخ الجليل أبو سليمان حسيب الصايغ، بتاريخ 31 تشرين الثاني 2015م، استقبالَ الخائف الباكي، وهو من كان ينظر إلى نفسِه نظرة الضعف والعجز والتقصير والتحقير. ومع حرصِه على قَبول خاطر أخوانِه المشايخ الكبار وتقديره لهم، فإنه حاول جاهداً عدم الانصياع لفكرة تتويجه التي باغتته والتي لم يكن يتوقّعها بحسب ما عُرف عنه من نظرةٍ اتهام لنفسه، معلناً بتواضع العارف المتيقّن أنَّه لا يَستحق تلك العمامة وما ترمز إليه من مكانة روحية. وقد كان بعد تعميمه حريصاً على طلب رضا جميع أخوانِه الشيوخ وبركتِهم، وكان أوّل ما قام به بقصد طلبِ الدعاء والرضا، زيارة المشايخ الأعيان وفي مقدّمهم الشيخ الجليل “أبو يوسف” أمين الصايغ، الذي كرَّر زيارته له لأكثر من مرَّة، وهو الشيخ المتوَّج قبله بتلك العمامة، وله مكانة مميَّزة عنده، وقد واجهَ تلك المرحلة المؤثّرة والدقيقة من حياته بالصبر والتحمُل والتماس العذر لأخوانِه، مستأنساً برأي الشيخ الجليل “أبو صالح” محمد العنداري وسماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن وأخوانه الشيوخ المخلصين ومحبتهم، حاصداً بسلامة طويّته راحةَ البال والاطمئنان.
خدمته لخلوة القطالب
بعد وفاة الشيخ الجليل “أبو سلمان محمود الشمعة” في العام 1999م، وهو الذي كان قيِّماً على خلوة القطالب وكان يرى في الشيخ الحلبي خيرَ مُعينٍ له، تسلَّم الشيخ “أبو سليمان” زمام رعاية الخلوة، فجعل منها منارةً دينية ومقصداً للمشايخ من كلِّ حدبٍ وصوب، يعاضده أخوه الشيخ أبو سلمان أنيس الحلبي وكان متشدِّداً في المحافظة على أموالها، منبِّهاً مساعديه ومن معه إلى مكان وجود المال، مدققاً بالسؤال عن نية المحسن، سائلاً إيّاه لأي جهةٍ يرغب صرف حسنته، فإذا لم تكن مخصصة للخلوة صرفها في سبيل الخير، وإلا اعتبرها للخلوة ولو لم يُصرِّح مقدِّمُها بذلك.
حرص الشيخ “أبو سليمان” بمساعدة أخوانه والأقربين على مضاعفة ممتلكات الخلوة وتوسيع محيطها للحفاظ على بيئتها الروحانية، وحسّن في أبنيتها وخصوصاً غرف “الخلواتية”، وكان يقول عن أي شيء استحدثه في الخلوة: “لو استخدمه المشايخ مرة لاستعاد أكثر من كلفته”. وقد قدَّر الله له رجالاً كرماء من أهل الفضل والمعروف، اشتروا مساحاتٍ واسعة من الأراضي المجاورة، سُجِّلت جميعها بإسم الخلوة، ممّا جعله يُسِرُّ لمحيطه بأنه أصبح مطمئنَّ البال إلى القطالب، دون أن يرى في ذلك ما يراه أخوانه الشيوخ من كرامةٍ خاصّةٍ له، وهو المقبولُ أمرُه بمحبَّةٍ، والمُطاعُ بعفويّةٍ دون إحراج أحد، وبخاصةٍ من أخوانه وأبنائه الموحِّدين الملتزمين بقوله تعالى: “يَا أَيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ…3
تجدَّدت مثلُ تلك الكرامة له، في بناء بيت البلدة في “بطمة”، وقد يُسِّر له منذ سنواتٍ معدوداتٍ وجود ابن أخيه البار وبعضٍ من أهلِه الأسخياء وأصحاب الأيادي البيضاء الذين اندفعوا لإقامة الدار وإتمامها، فارتفع البناءُ الجديد على مساحةٍ كافية وتوسَّعت الساحاتُ من حوله، ليكونَ بيتاً جامعاً لجميع أهل البلدة ومقرَّاً واسعاً وجاهزاً لاستقبالِ مأتمه الحاشد الذي ضمَّ عشرات الألوف من المشايخ والمسؤولين والمشيِّعين المودِّعين من أنحاء لبنان ومن سوريا. كما شارك في تشييعه معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط على راس وفد من النواب والقيادات.
مجاهداته وختامُ حياتِه المبارَكة
كان الشيخُ المفضالُ كثير المجاهدة والمثابرة، مُتعباً بذلك جسده النحيل ومُتحمِّلاً تبعات الضعف والمرض الشديد، فلم ينقطع وهو في أشدِّ حالات الضِيق، عن القيام بالواجبات الدينية والاجتماعية حتى آخر لحظةٍ من حياتِه. وفي سنته الأخيرة التي توّجت مسيرة العمر كلِّه، كان يتصرَّف وكأنه يشعر بأن الأجل قد قرُب، وأنَّه لا بدَّ من استغلال كلِّ لحظةٍ متبقية من حياته للصلاة وذكر الله وعمل الخير ومواكبة الأخوان والقيام بالواجب؛ وعلى هذا الرجاء، نام ليلته الأخيرة، ليلة الجمعة، وهو يتفقَّد ما حولَه ويسأل وحيدَه عن دار البلدة: “هل أصبحت جاهزة؟ هل تمَّ تنظيفها؟”، وعن مغلَّفات “الحَسَنة” والأمانات التي بين يَديه: “لا تنسوها، انتبهوا لما كتبتُ عليها”، ممَّا أثار استغرابَهم، وما استغربوه أكثرَ من ذلك كان إصراره في صباح اليوم التالي، أي صباح الجمعة، على الذهاب إلى خلوات البيَّاضة في حاصبيا لمواكبة المشايخ الذاهبين من الجبل لزيارتها، بالرغم من محاولة ثَنيه عن ذلك لكونه يشكو من المرض ويحتاج إلى “الأوكسجين” بين الحين والآخر، بحسب نصائح الأطبَّاء، قائلاً لهم: “بدنا نودِّع”، وملوِّحاً بيده الناعمة الرقيقة لأحبَّتِه الذين تحلَّقوا حول سيارته عند المغادرة، وكأنّه يسافرُ إلى عالَمٍ آخر، ليعودَ في المساء بعد نهارٍ حافلٍ بالمجاهدة ومحطات الذِّكر والمؤانَسة، ويدخل بمساعدة الأهل إلى غرفته التي تحوَّلت إلى شبه “مجلسٍ” أو “خلوةٍ” للصلاة والمذاكرة، يستوي إلى فراشِه لثوانٍ معدوداتٍ، يفارقُ بعدها الحياةَ الدنيوية (في الثاني من ك1 2016)4، وقد أوى إلى فراشٍ من نور، في رحلةٍ أشبه بتحرير اللطيف من الكتيف، ليُعاودَ المسافرةَ والارتقاء، مخلِّفاً وراءَه ذِكراً طيِّباً وسِيرةً وضّاءةً وأملاً متجدِّداً وثقةً ويقيناً لدى محبّيه وعارفيه وأخوانه وأبنائه الموحِّدين، بأنَّ مَن سعى في مرضاة الله رضي اللهُ عنه وأرضاه.


“رغم مرضه الشديد سافر في نفس يوم وفاته لـ «توديع» البيّاضة ومشايخها وتابع بنفسه قبل يوم من وفاته إعداد قاعة البلدة ومكاتيب الحسنة وكل تفاصيل الموقف ثم أســــــلم الروح”
قام بإعداد هذه السيرة عن حياة ومآثر المرحوم الشيخ الجليل أبو سليمان حسيب الحلبي الشيخ الدكتور سامي أبي المنى بالاستناد إلى ما اجتمع لديه من أخبار سيرة الشيخ الحافلة ومن شهادات المشايخ الأفاضل الشيخ أبو داود منير القضماني (خلوات القطالب).الذي صحب المرحوم الشيخ لسنوات طويلة في الخلوات، وكذلك شقيقه الشيخ أبو سلمان أنيس الحلبي، ونجله الشيخ سليمان الحلبي، وشقيق زوجته الشيخ ياسر منذر، ومرافقه الشيخ صلاح غانم.
لَبِـسَ الصفاءَ كما البهاءُ، مُكرَّمـا
زَهَـــــــــــتِ العمـــــــــامة بـــــــــالمُعَمَّـــــــــمِ عنـــــــــــــــــــــــــــــــــــدمـــــــــا ٱعتمـــــــــــــرَ التُّـــــــــــــقى مـــــــــــــن قبـــــــــــــلِ أن يَتعمَّمـــــــــــا
بـــــــــــــلــــطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافـــــــــــــةٍ وبـــــــــــــعِفَّـــــــــــــــةٍ، بـــــــــــــصفـــــــــــــائــــــه لَبِسَ الصفـــــــــــــاءَ، كما البهاءُ، مُكرَّمــــــــــــــــــا
فــــــــــــــــابيضَّ منــــــــــــــــه التـــــــــــــــــاجُ مثــــــــــــــــلَ فــــــــــــــــــــــــــــــؤادِه والوجــــــــــــــــــــهُ مثــــــــــــــــــلَ الثَّغـــــــــــــــــــــــــــــــرِ نوراً تَمتَمــــــــــــــــــــــــــا
يـــــــــــــــــــــا أيــــــــــــــــُّها الشيــــــــــــــــخُ المُعمَّــــــــــــــــمُ بـــــــــــــــــــــــــــــــالتُّقى كـــــــــالفجــــــــــــــــــــــــــرِ واجهـــــــــتَ الـــــــــزمانَ المُظلِمــــــــــا
يـــــــــــــــــــــا ســــــــــــاجداً يـــــــــــــــــــــا عــــــــــــابداً مُتخشِّــــــــــــعاً أمضيــــــــــــــــــتَ عُمــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَكَ دون أن تتبرَّمـــــــــــــا
سلَّمـــــــــــتَ لِلّــــــــه الوثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاقَ مُســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالِمــــاً بـــــــــل واثِقــــــــــــــــــاً، بـــــــــل راضيــــــــــــــــــاً ومُسلِّمــــــــــــــــــــــــــا
مهمــــــــــــــــــــا تراكمتِ الصِّعابُ تدحرجتْ مـــــــــن راحتَيكَ، وما استكنتَ لتُهزَمــــــا
بـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالزُّهدِ غالبـــتَ الأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا فغلبتَهـــــــــــــــــا وجعلــــــــــــــــــتَ من إذلالِ نفسِــــــــــكَ سُلَّمـــــــــــــــا
شيخي الأعزَّ بكَ الأجـــــــــــاويدُ اقتدتْ يــــــــــــــــــا مَن بجــــودِكَ كنتَ دومـــــــــــــــــــــــــــاً أكرَمـــــــــا
عرفتْــــكَ أرضُ “الشوفِ” فَوحَ أزاهرٍ فـــــــــامتدَّ عِطــــــــــــــــــرُكَ فــــــــــــــــــي البــــــــــــــــــلادِ ونسَّما
عِطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ يُنبِّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــئُ عن طَهارةِ دوحةٍ “حلبيـــــــــةٍ” كرُمَـــــــــتْ وطــــــــــــــــــابتْ مَغـــــــــنَمــــــــــــــا
عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن قريةٍ جبليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ قد أنبتتْ “كــــــــــــــــــحسيبها” وسْــــــــــــــــــطَ الليالي أنجُمــــــــــا
لمعــــــــــــــــــــــــــــــــتْ بليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِ سمائهــــــــــــــــا أسماؤها فغَــــــــــــــــــــــــدا نهــــــــــــــــــــــــــــــــــــاراً مُشــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِقــــاً مُتبسِّمـــــــــــا
يـــــــــــــــــــــا شيــــــــــــــــــــخَنا الأغلى، ديارُك واحةٌ فيــــــــــــــــــها ارتـــــــوى الأخوانُ من حَرِّ الظَّما
كم جُمعـــــــــةٍ! كم جَمعـــــــــةٍ! كم ليلـــــــــــــــــــــــــــــــةٍ! كـــــــــــــــــــــــــــم نهضةٍ! سبــــــــــــــــقَ العطاءُ المَوسِما
وَرَعـــــــــاً وأخلاقـــــــــاً وطُهـــــــــــرَ ســـــــــريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرةٍ ورضىـــــــــــــــــــــــــــا وإيمانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وقلبـــــــــــــــــــــــــــــــاً مُفعَمــــا
كـــــــــــــــــــــــــــخليَّةٍ حَضَنَ الشبـــــــــــابَ شيوخُــــــــــــها والكُـــــــــــــــــــــــــــلُّ يَعمــــــــــــــــــــــــــــــــــــلُ طائعـــــــــاً، لا مُرغَمـــا
مـــــــــــــــــــــــــــن زهرة ِ التوحيـــــــــدِ جَنيُ رحيقِها فَيـــــــــــــــــــــــــــضٌ تدفَّــــــــــــــــــقَ مــــــــــــــــــن غِناهـــــــــا بَلسَمــــــــــــا
يـــا شيخَنا يــــا مَن شمختَ إلى العُلى مُتواضِــــــــــــــــــعاً، وصرفتَ عُمرَكَ مُحرِما
مـــــــــا كـــــــــان وجهُــــكَ غيرَ وهـــــــــجٍ ساطـــــــــعٍ لا عابســــــــــــــــــاً غضَبــــــــــــــــــاً ولا مُتجهِّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
مَــــــــــــن زارَكـــــــــم لـــــــــم يَلــــــــــــــــــقَ إلّا حُبَّـــــــــــــــــــــــــــــــــكم وحنانَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكم، ورأى السلوكَ مُعلِّمـــــــا
مـــــــــا بـــدّلتـــــــــْكَ مَصــــــــــــــــــائبٌ ومَصـــــــــــــــــــــــــــاعبٌ والعمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُ زادَكَ مِنــــعـــــــــةً وتقـــــدُّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كلمــــــــــــــــــاتُ وعـــــــــــــــــــــظِــــــــــــــــــكَ لَمحــــــــــــــــــةٌ أو لَمعــــــــــــــــــةٌ نَطقَـــــــــتْ هُدىً والصَّمـــــــــتُ فيكَ تكلَّمـــــا
يـــــــــــــــــــــا شيخَنــــــــــــــا علَّمتَنــــــــــــــا أنَّ الجِهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا دَ قناعةٌ، والحــــــــــــــرَّ مَن حفِــــــــــــــظَ الدَّمـــــــــــــــــــــا
علَّمتَنــــــــــــــا أنَّ الشجاعــــــــةَ في تحدّي الــــــــــ نَّفــــــــــــــسِ، إنْ مالـــــــــــتْ إلى دربِ العَمــــــــــــــى
والعلــــــــــــــمُ والإيمــــــــــــــانُ يُعرَفُ من غِنى الــــــــــــ تــــــــــــــوحيدِ، لا الــــــــــــــتوحيدُ يُعرَفُ منهُمــــــــــــا
علَّمتَنــــــــــــــا أنَّ الحيــــــــــــــــــــــــــــــــــاةَ عقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدةٌ مــــــــــــــن وحيِهــــــــــــــا نَحيــــــــــــــــــا إلى أن تُختَمـــــــــــــــــــــــــا
علَّمتَنــــــــــــــا أنْ لا نَجِــــــــــــــــــــــــــــدَّ الســيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَ إلّا بـــــــــــــــــــامتشاقِ الحــــــــــــــــــــــــــــقِّ كي لا نُهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزَما
وبــــــــــــــــأنَّ عنــــــــــــــوانَ العبــــــــــــــــــــــــــــادةِ والســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعـا دةِ أنْ يــــــــــــــــــــــــــــكونَ الصــــــــــــــــــدقُ وعداً مُلزِما
ألــــــــــــــــــــــــــــزمتَ نفسَكَ عيشَــه وكــــــــــــــأنَّ ربَّـــــــــــ كَ حاضــــــــــــــــــــــــــــرٌ ويــــــــــــــــــــــــــــراكَ تنظرُ للسَّمـــــــــــــــــــــــــــــا
يـــــــــــــــــــــا خالقــــــــــــــي، ولقــــــــــــــد رآاكَ مَنِ اتَّقـــــــــــــــــــا كَ، بقلبِــــــــــــــــــــــــــــه، مُستشعِــــــــــــــــــراً أو مُغرَمـــــــــــــــا
عــــــــــــــــــــــــــــاش العقيدةَ مؤمِنــــــــــــــاً فَمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوحِّداً مــــــــــــــن بعدِ مــــــــــــــا نطــــــــــــــقَ الشهادةَ مُسلِمــــا
أدَّى الصــــــــــــــلاةَ بِــــــــــــــلا ٱنقطــــــــــــــاعٍ، صادقـاً والصدقُ رأسُ الدينِ يَهدي مَن سَمــــــــــــــا
ومضــــــــــــــى وأمســــــــــــــى صائماً، وفــــــــــــــــؤادُه طــــــــــــــــــــــــــــردَ الأبــــــــــــــــــــــــــــالسةَ الطُّغــــــــــــــاةَ وأَعدمـــــــــــــــا
لــــــــــــــم يُغــــــــــــــــــرِهِ عَـــــــــــــــــــــــــــــــــــدَمٌ ولــــــــــــــم يُفطِــــــــــــــرْ على رزقٍ حــــــــــــــرامٍ، بــــــــــــــــــــــل طــــــــــــــوى وتــــــــــــــألَّمـــــــــــــــــــــــــــــــا
زكّــــــــــــــى بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحبٍّ حــــــــــــــافظاً إخـــــــــــــــــــوانَه وإلى الحقيقــــــــــــــةِ حــــــــــــــجَّ واختــــــــــــارَ الحِمى
وولاؤُه مــــــــــــــــــــــــــــا كــــــــــــــــــــــــــــان إلَّا خـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالصاً وجهــــــــــــــادُه مــــــــــــــا كــــــــــــــــــــان إلَّا مُحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكَما
يـــــــــــــــــــــا شيخَنا حانَ الرحيــــــلُ وأنتَ فيـــ نــــــــــــــا مــــــــــــــاكثٌ وإليــــــــــــــك فــــــــاءَ مَنِ ٱحتمى
ودَّعتَــــــــــــــنا فجمعتَــــــــــــــنا كــــــــــــــرَماً، كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــما كنــــــــــــــتَ الأبَ الحــــــــــاني لكَ الجمعُ ٱنتمى
إرحــــــــــــــــــــــــــــلْ قميصاً وٱبـــــــــــقَ روحاً حُــــــــــــــرَّةً يـــــــــــــــــــــا مـــــــــــَن زرعتَ الخيـرَ زرعُك قد نَما
إرحَــــــــــــــلْ وعُدْ نــــــــــــــوراً يُــــــــــــــشِعُّ وسِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــرةً تُــــــــــــــــــــــروى لنــــــــــــــا لتظــــــــــــــــــــــــــــلَّ ذِكــــــــــــــــــــــــــــراً مُلهِمـــــــــــــــــــا
لــــــــــــــكَ من رضا الأخوانِ خيرُ شهــــــادةٍ كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمُزنِ تَنزِلُ كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَّما دمعٌ هَمـــى
من كلِّ حَدْبٍ قد أتَوكَ وأنتَ في ٱطْ مِئنانِــــــــــــــــــــــــــــكَ المعهــــــــــــــودِ أطبقــــــــــــــــــــــــــــتَ الفَمــــــــــــــــا
الجَمــــــــــــــعُ يَدعــــــــــــــو ســــــــــــــائلاً لــــــــــــــكَ رحــــــــــــــــمةً فــــــــــــــاترُكْ لــــــــــــــه طِيــــــــــــــبَ الــــــــــــــدُعاءِ لِيُــــــــــرحَما
سامي أبي المنى
رثاء العلم الجليل المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي، بطمة، 3-12-2016.