نشأ في بيت تقوى وجاه وديانة؛ اختطَّ لنفسه نهج سَلفه الطَّهَرة فسلك مسلك التوحيد والإيمان، وبذل النفس والنفيس في سبيل الخير، واستطاع بحكمته السديدة وبصيرته النَّيِّرة الذّبّ عن إخوانه وأبناء بلده، فكان شيخاً جليلاً حكيماً… تحلَّى بسجايا حميدة أهّلته لتولِّي منصب مشيخة العقل – إذ عُدَّ أبرز أهل زمانه علماً وعملاً وأشدَّهم حرصاً على وحدة الكلمة ولمِّ الشمل.. عرفه معاصروه شجاعاً وقوراً معطاءً ذا أنفة وإباء وتقوى وذكاء وقَّاد؛ تُوِّج بالعمامة المدوَّرة دلالة على فضله وعلوِّ درجته…إنه الشيخ أحمد أمين الدين(1) خَيِّرٌ فاضلٌ من بلدة عبيه من سلالةٍ كريمةٍ تعود إلى الشَّيخ بدر الدِّين العِنداري(ر)(2)؛ وتُنسب عائلة أمين الدين إلى آل القاضي التنوخيين الأعراق..
الثريُّ الزاهد
إنّ الخيرات التي يجريها الله على عباده ليست إلّا امتحاناتٍ يمتحن بها الباري خلقه، ليبلوهم أيهم أكثر صبراً وشكراً.. وقد ابتُلي الشيخ أحمد بهذا الامتحان إذ اشتُهر بالغنى واليَسار وسعة الأملاك التي انتقلت إليه إرثًا عن آبائه وأجداده التنوخيين الأمراء، فنشأ ثريًّا ولم يذق طعم الفاقة والعوز ولا عرف الحرمان والحاجة.. إلّا أنه أدرك بعقله المميِّز أنّ المال وديعة أودعه إياها الواحد الرَّزَّاق وأنه مُستخلف فيه، لقوله تعالى: «وانفقوا مما جعلكم مُستخلفين فيه».. فسعى شيخنا الجليل إلى إنفاق ماله بما يرضي الله سبحانه منصفًا الفقراء والمساكين، زاهدًا بالدنيا وقصورها وحَشَمها، بعيدًا عن كل ألوان البذخ والجاه.. فكان فيما ائتُمن خير أمين.(3)
اعتمد الشيخ مبدأ الدّقة في محاسبة النفس، وأجرى على ماله هذا المبدأ مستخدماً إياه لسدِّ الحاجة وستر الحال؛ أمّا الفائض فكلُّه للإخوان، ولا حظَّ منه لشهوات النفس وأهوائها.. ومما يُذكَر عنه رحمه الله أنه بعد جني الغلال وتوزيع المحاصيل والأموال على مصاريف المجلس والخلوة والحقول، كان يومي بقفا يده إلى كومة المال المتبقية على الأرض ويقول لتلميذه الشيخ أبو علي ناصر الدين قرضاب(4): «وهذا المال الباقي قد انتقل من ذمتي إلى ذمتك تصرَّف به كما تشاء». فلا يلبث المال تحت إمرته ليلة واحدة بل ينفقه على الفور بعد أخْذ ما يلزم لستر الحال وسدِّ النفقات؛ وبالطبع فالشيخ قرضاب رحمه الله موضع ثقة الشيخ، ونعم التلميذ المسؤول الذي يحسن تفريق الأموال على من يستحق.. فيستظلُّ الشيخ أحمد بظلِّه ليبقى بعيداً عن الأنظار والشهرة.(5)
كما زاده ورعه تعلُّقا بالخالق دون الخلق، فلم يتّخذ لنفسه زوجًا وبالتالي لم يكن له أولاد يشغلونه عمّا هو أسمى وأبقى..
استمرَّ الشيخ أحمد على هذا النهج القويم طيلة حياته، صابرًا على النعمة، مستغلاً خيرات الدنيا كسبًا للآخرة، مُسَلّمًا روحه وماله وكل أملاكه لمولاه وفاءً لعهده..
جامع الخصوم
عاصر الشيخ أحمد حكم الشهابيين وما شهدته تلك المرحلة من شَدِّ الخناق والتضييق على الموحّدين الدروز ومحاولة شق صفوفهم، ولعلَّها من أصعب الحقبات التي مرت على الموحدين الدروز، خاصة بعد أن استتبَّ الحكم للأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل على «إضعاف شوكة الدروز» وانتهج سياسة القتل والتنكيل بمن حوله من أصحاب النفوذ وذوي الإقطاع «وزرع بذور الطائفية والتعصب المذهبي وجرَّ البلاد إلى أتون حرب الطوائف».(6)
ولم يكن تولِّي منصب مشيخة العقل بالأمر المستهان في تلك الظروف؛ فالمسؤوليات التي تقع على صاحب هذا الموقع جمَّة -خاصة عند الأحداث المفصلية حين يتعلق الأمر بمصلحة الطائفة وحمايتها، فاتخاذ القرارات عندئذ يتطلب الكثير من الشجاعة والحكمة. وهو ما كان عليه الشيخ أحمد الذي تولى مشيخة العقل بعد وفاة الشيخ حسين ماضي (ر) 1216هـ/1801مـ، فكان خير خلف لخير سلف، إذ امتلك مقوّمات تليق بصاحب هذا المنصب. وحين ناداه الواجب بذل أقصى جهده للذود عن طائفته -شأنه شأن مشايخ العقل على مر الزمن الذين جاهدوا في سبيل العزة والكرامة ولهم الفضل الأكبر في الحفاظ على كيان الطائفة ووجودها حتى يومنا هذا…
اتخذ الأمير بشير سياسة «تحطيم الرؤوس قاعدةً لحكمه ونهجاً سار عليه طوال وجوده على رأس الإمارة» (7) ، لينفرد بالحكم والطغيان، ولقد استطاع تحقيق مُبتغاه -إذ قضى على غالبيتهم، ولم يبقَ أمامه سوى الشيخ بشير جنبلاط.. ومن هنا بدأ النزاع بين البشيرين، فحاول المشايخ العقّال -كعادتهم- إصلاح الحال بينهما؛ إلا أنهم هذه المرة لم ينجحوا.. واحتدم الصراع حيث ذهب ضحيته الكثير من القتلى والجرحى.
ولم يكن الشيخ أحمد ليقف مكتوف اليدين إزاء الأحداث من حوله. فقد كان رحمه الله ذا نخوة وحميَّة، محبًّا للخير والصلاح، فسارع إلى المختارة وحتم على الشيخ بشير ومن حوله من حزبيين ومشايخ مصالحة الأمير الشهابي حقنا للدماء واتِّقاءً لشرٍ أكبر. وتمَّت بفضله المصالحة، فكرَّمه الأمير الشهابي على الاثر وقرَّبه إليه ولقبه بـ»الشيخ الرّضي» وأصبح يستشيره في أموره.(8)
لم يذكر التاريخ الكثير عن حياة الشيخ أحمد، إلّا أن هذه الحادثة كشفت عن مزايا عديدة اكتسبها شيخنا الجليل. فقد دلَّت على صدق طويَّته، لقوله تعالى «من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته» فصِدقُه وإخلاصه أوصلاه إلى مُراده.. كما دلّت على حسن تدبيره وسياسته فمثل هذه المواقف لا يوفَّق إليها إلا صاحب الحنكة والعقل الراجح – إذ سبقه الكثيرون إلى هذه المهمة ولم يُفلحوا.
ومن الواضح أن الشيخ أحمد كان يحظى بعلوِّ المكانة والمهابة والقول المطاع عند اكابر القوم من أمراء ومشايخ، فحين رأى أنَّ المصالحة حاجة ملحّة سارع إلى الشيخ بشير جنبلاط والعقال وطلب منهم مصالحة الأمير الشهابي فقبلوا خاطره واتبعوا رأيه الصائب؛ وما توفيقه في مسعاه إلّا ثمرة ديانته وورعه وتقواه، لأن من أطاع الله اطاعته العباد ومن زاد ورعه زادت هيبته، وهذا ما حدا بالشيخ أبي أحمد زين الفقيه إلى اصطحاب الشيخ أحمد معه إلى اسطنبول للحصول على بعض المطالب حيث قابلا السلطان مصطفى آغا خان وخرجا منه بفرمان يقر بمطالبه.(9)
ولعل القارئ للتاريخ يقدِّر أهمية المصالحة بين البشيرين وكيف استقرت أحوال الموحدين الدروز بعد المصالحة من وحدة الصف واجتماع الكلمة، وما آلت إليه أمورهم من تشتت وضعف بعد الخلاف الثاني الذي نشأ بعد وفاة الشيخ أحمد وعُرف بحرب البشيرين حين لم ينجح أي مسعى للصلح والوفاق وانتهى بمقتل الشيخ بشير جنبلاط عام 1825م.(10)
وصيته… كنزٌ مدَّخرٌ
قصد رحمه الله الأجرَ الذي لا ينضب، والحسنة الجارية التي لا تنقطع، لقول الرسول الكريم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له».. فَقبْل وفاته بست سنوات كتب وصيته – أرادها صدقة جارية إلى يوم الدين على يده- فعيَّن المجلس الخاص به وخلوته التي يملكها في عبيه ليكونا مجمعًا لأهل الخير ومنهلاً يرد إليهما الأجاويد من جميع المناطق، وأوقف لهما الوقوفات الكثيرة؛ وقسَّم بقيَّة أرزاقه على المستحقين الخيِّرين وشيوخ البلاد، وخصَّ الخلوات والمجالس المنتشرة في لبنان وسوريا بحصص معينة من أموال ومحاصيل وغلال.. وحرَّم أشد التحريم أن يرث الجُهَّال شيئا من رزقه أقرباء كانوا أم غرباء. وأوكل خمسة مشايخ ثقات لرعاية هذه الأوقاف وصرْف رَيعها على مستحقيها وأوصاهم بالتعاون وعدم الإهمال أو التقصير في تنفيذ الوصية كما هي. وكلّف الشيخ بشير جنبلاط حماية الوقف والقيمين عليه، «..ذكر حضرته بأن يكون نظر جناب الشيخ بشير جنبلاط المحترم على الوكلاء المذكورين في الذَّب عنهم وعن الوقف المذكور عند الاحتياج..» (11)
اقتفى الشيخ أحمد في وصيته أثر الأمير السَّيِّد(ق) الذي أوقف أملاكه لأهل الدين والمساكين وطلاب العلم، فكان للأمير السيد(ق) وللشيخ أحمد من بعده الفضل الأبرز في تكوين الوقف الدرزي- وهما المعروفان بالوقف التنوخي والأحمدي-ولعلَّ وقف الشيخ أحمد هو الأكبر بين جميع الأوقاف من حيث المساحة؛ إذ يُقدَّر بمئات آلاف الأمتار، ومنه أُنشئت المدرسة الداودية.
كما أنّ في وصية الشيخ أحمد التزام جَليّ بشرط الأمير السَّيِّد الذي أوجب على المسلم الموحد أن لا يبذل ماله لمن لا يستحقه، ولا يدّخره عمن يستحقه، ويخصُّ بوصيته الصالحين والصالحات، فلا يذهب رزقه للأشرار ينفقونه في غير رضى الله سبحانه فيستوجب وإياهم عقاب الخالق الجبار؛ بل جعل جميع ما يملكه في عهدة الخيِّرين يحسنون نفقته فيلحقه من إحسانهم إحسانٌ إلى يوم الدين.
فبوصيته هذه أدى أمانته، وتمَّم فضله.. وسيجني ثمار الفوز عند لقاء ربه يوم تُجزى كل نفس بما كسبت.
وما زال الموحدون اليوم – وبعد مضي قرنين من الزمن على وفاة الشيخ أحمد-يتنعَّمون من فضل جوده وبذله؛ خاصة في مجلسه الزاهر في عبيه الذي أُطلق عليه مجلس البلاد – إذ كان قبل الحرب الأهلية ملقًى لكبار الشيوخ وأهل الدين وبعد ترميمه عام 1988م عادت حلقات الذكر والعلم إلى أرجائه.. أمّا خلوته في عين الشاوي فهي حتى هذا التاريخ عامرة بالموحدين يؤمّونها من كافة أنحاء البلاد لنهل العلم والمعرفة.
الوداع المهيب
أتمَّ واجباته، وأنجز أعماله، وتهيأ للقاء ربه..
عاش كريماً مكرَّماً في حياته وخصَّه خالقه بالكرامة في مماته.. توفي في حزيران سنة 1809م الموافق 1224هـ، فشيَّعه جمع غفير من المشايخ والأعيان.. وترافق البشيران لحضور المأتم، وفور وصولهما إلى البلدة حُملت الجثة على الأيدي لملاقاتهما -وفق العادة الجارية ذلك الحين- وما أن شاهدا النعش المحمول حتى ترجَّلا وحملاه مع المشيّعين، ولم يتركاه إلّا بعد أن توسّل إليهما أعيان البلد؛ وقد بدا عليهما الحزن والتأسف لفقده.
وتجدر الإشارة أنّ حمل البشيرين للنعش كان حدثاً فريداً، دلّ على علوّ قدره وتفرُّده بخصال دينية ودنيوية قلَّ نظيرها..
دُفن الشيخ أحمد في عبيه بجانب مجلسه، وأمر الأمير بشير الشهابي ببناء قبة فوق الضريح وحُجرة مؤرِّخة لتاريخ وفاته وهي مزار يقصده المؤمنون للتبرُّك، كما أمر شاعره المعلِّم بطرس كرامة بنظم الأبيات التي نُقشت على الحجرة المباركة، وهذا نصُّها:
من زار تربةَ أحـمـدٍ نال المـُنى
وحَظى بطالع كوكب الأنـوار
يا سعـدَ قصَّادٍ أتـت واستنشـقـت
ريـحَ الشذا مـن ذلك المِعطار
هذا أميـنُ الديـنِ أحمدُ من وفـى
حــقَّ الـعـبـادةِ لـلإلـه البـاري
فاهدوا إليه البشرى بالتاريخ بل
هـنُّوه في فردوسِ تـلك الدّارِ (12)
وبوداع الشيخ أحمد أمين الدين ودَّع الموحدون الدروز آخر شيخ عقل أوحد للطائفة – إذ بدأت سياسة التفريق تغرس أنيابها في جسد الطائفة، وبدأت معها ازدواجية المشيخة التي سعى إليها بشير الشهابي لتحقيق مآربه في شق الصف الدرزي وإضعاف موقع مشيخة العقل وبلغ الانقسام ذروته عندما قام الأمير بشير بإضافة شيخ ثالث إلى مشيخة العقل وهو الشيخ شبلي أبي المنى، واستمرّ الانقسام قائما إلى أوَّل السبعينيات مع وفاة أحد شيوخ العقل الشيخ رشيد حمادة، وبقي الشيخ محمّد أبو شقرا (13) الذي انتُخب عام 1949م وحيداً في هذا الموقع (14). وفي عام 2006 صدر عن مجلس النواب قانون ينظم شؤون طائفة الموحدين الدروز ويوحِّد مشيخة العقل قانونياً بحيث يتم اختيار شيخ العقل عن طريق الانتخاب.(15).
المراجع:
1- هو الشيخ أحمد بن الشيخ سيِّد أحمد بن الشيخ أحمد ابن الشيخ حسين بن الشيخ علم الدين أمين الدين بن الشيخ بدر الدين العنداري رضي الله عنه.
2- الشيخ بدر الدين العنداري كان من كبار مشايخ عصره، تولّى مشيخة العقل في القرن السادس عشر للميلاد وقت ولاية الامير فخر الدين المعني، توفي سنة 1020هـ ودفن في عبيه.
3- حافظ أبو مصلح، أضرحة العبَّاد الموحدين، معرض الشوف الدائم، ص،ص:47،48.
4- ولد رحمه الله في الجاهلية نشأ على الزهد والتقوى، انتقل إلى عبيه لملازمة الشيخ أحمد وتتلمذ على يده وكان خير معين له في حياته وموضع سره وثقته، توفي سنة 1052هـ ودفن في خلوة عين الشاوي في عبيه.
5- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، عاليه: منشورات مدرسة الإشراق، ج3، ط1، 2011، ص: 61.
6- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، بيروت:المركز العربي للأبحاث والتوثيق، ط2، 1994، ص: 205،206.
7- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، المرجع السابق، ص: 177.
8- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق، ص:12.
9- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق، ص:11.
10- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، مرجع سابق، ص-ص: 174-205.
11- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق ص-ص:307-348.
12- محمَّد خليل الباشا، معجم أعلام الدروز في لبنان، المختارة – الشوف – لبنان: الدار التقدمية، ط2، 2010، ص:158.
13- الشيخ محمّد أبو شقرا، ولد عام 1910 في عماطور شارك في الثورة العربية الكبرى تولى منصب مشيخة العقل عام 1949 إلى حين وفاته عام .1991.
14- د. صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، مرجع سابق، ص:248.
15- حافظ أبو مصلح، أضرحة العبَّاد الموحدين، مرجع سابق، ص،ص: 47،48
www.lp.gov.lb/Resources/Files/09ac950f-7840-486b-b082-597881b20175.doc