مولده
وُلِدَ سيدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، في بلدة (اعْبَيْه) من شحّار غرب لبنان، في شهر شوّال سنة ألف ومئتين واثنتين وثمانين (1282) للهجرة، من أبوين كريمين.
نَشأَتُهُ
نشأ رحمه الله في رعاية أبويه عزيزاً مُكرّماً، وكان ذلك في أوائل عهد النهضة العلمية في لبنان، فتلقّى العلوم الابتدائية البسيطة، وحينما بلغ سنَّ الرّشد ظهرت عليه دلائل الورع والاجتهاد في البحث عن مناقب أولياء الله الصالحين، وطرائق أهل الفضل من الزهَّاد والعبَّاد الورعين، فجدَّ في استقصاء أخبارهم وتتبّع خططهم الشريفة، وكان أكثر تردّده في بداية أمره إلى بلدة بَيْصور، حيث يرى فيها ضالته المنشودة، من إخوانٍ له كثيرين أتقياء مؤمنين، وعلى رأسهم شيخ مشايخ ذلك الزمان في جبل لبنان، المرحوم الشيخ أبو علي اسماعيل حسيكة ملاعب.
وكان من جملة الواردين إليه شابّان ناهضان، هُما الشيخ أبو فارس محمود عبد الخالق من بلدة مجدل بعنا في الجُرد _ والشيخ أبو محمّد رشيد عيد، من بلدة بشامون في الغرب _ والشيخ أبو حسين محمود فرج ثالثهم.
وقد عَلِم رضي الله عنه وتحقّق، وأيقن وصدَّق، أن بلوغ الغاية والمُراد والفوز في دار المعاد، هو بامتثال الأوامر والنواهي الدينية، والنهوض التام في شطريها اللّذين هما الاكتساب، والاجتناب، وكان في كليهما من السابقين حقًّا.
وقال بعض الحكماء: الكمال في أربعة “رصانة العقل، وحسن الخلق، وسخاء النفس، وقمع الشهوة” وقد كانت هذه الفضائل والأوصاف من بعض مزاياه، التي خصّه بها مولاه، وتميّز بها وبأمثالها عن سواه.
منها مَيْزُ كلامِه، وصيانة لسانه دائم الأوقات، مع الصّدق التام في كل الحالات، وتجنّب الحرام والشّبهات، فكانت هذه الخصال الثلاث في بداية أمره، من الدلائل الواضحة، والبراهين الساطعة، على سمو فضله وصحة فضيلته، وعلو مقامه في الدين.
وكان رحمه الله، على مبالغته في تجنب الحرام شديد الحذر من الانسياق في شططه، ولطالما قال بتلهُّف وتوجُّع: إنّ بعض أهل الورع والخوف ممَّن سلف، كانوا يتركون اثنين وسبعين باباً من الحلال، مخافة دخول باب من الحرام.
ويردِّد مُستحسِناً قول لقمان الحكيم لابنه ثاران يا بني، من عاملك بالقبيح، عامله أنت بالمليح، وكلّ يلقى عمله.
ومن خصائصه المشهورة، التي أثبتت فضله، وشهرَت أمره، ورفَعَتْ منزلته منذ بداية أمره، حتى نهاية عمره، طول صمته وأناته، وصدق لسانه وطهارة جنانه، وحسن نيّته، وقلَّة كلامه، إلّا فيما يعنيه ويلازمه في الإفادة والاستفادة، بِرَوِيَّة فائقة، وحكمة بالغة، قال تعالى في كتابه العزيز (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة، فقد أوتي خيراً كثيراً) وقال بعض الحكماء: أعقِل لسانك إلّا عن حقٍّ تُوَضّحه، أو باطل تدحضُه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تشكرها. وقيل: ما خلق الله شيئاً أحقّ بالسجن من اللِّسان، وسجنه طول صمته عن الكلام، إلَّا فيما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بميزان الحكمة والعدل، وهو أنّ الكلام أربعة أقسام، قسمٌ هو ضررٌ مَحض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة، أمّا الذي هو ضرر محض، فلا بدَّ من السكوت عنه. وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة، لا تفي المنفعة بالضرر. وأمّا الذي لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول، والاشتغال فيه تضييع زمان، وهو عين الخسران. فلا يبقى إلّا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام، وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر. وقيل: على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مُقبلاً على شأنه، حافظاً لِلسانه، ومَن عَلِمَ أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه.
ويمكنني القول: إنّ المرحوم لم يَعِدْ وعداً في حياته كلِّها إلّا وفى به، ولا عاهد عهداً إلّا قام بموجبه، ولا قال قولاً صادراً عن نفسه الطاهرة، أو نقلاً عن غيره إلّا صدق فيه، اللَّهم إلّا أن يقع سهو، وَجلَّ من لا ينسى ولا يسهو….
عملُه وزواجُه
تعلَّم المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج صنعة الحياكة على كِبَر وصار ينسج العباءات على أنواعها والبُسْط، فكانت هذه الصّنعة بتوفيق الله، أساساً لعمران البيت، وسبباً للاتصال والتعارف بينه وبين إخوانه مشايخ الدين، في المناطق اللبنانية عامة، ووادي التَّيْم والإقليم وفلسطين، وكان يعمل جادّاً في صنعته هذه، دون كلل أو ملل.
ولمّا بلغ من العمر ما يُقارب الثلاثين سنة، فكّر في أمر الزواج، سنّة الله في خلقه، على أن يأتي بقرينة صالحة تكون عوناً له في دينه ودنياه، وكان رحمه الله يقول، نقلاً عن شيخنا الجليل الفاضل المفضال، المرحوم الشيخ أبي محمّد صالح الجرَماني: “إنّ المرأة سترة للرجل، وأعمال الخير كثيرة. يعني بهذا إنَّ الرجل المُخلص في عمله، الساهر على صيانة نفسه، يتمكن من القيام بفرائض دينه، وامرأته في بيته تشاركه في أعماله وفي وجودها سترة لبعلها، ويتمُّ بذلك النظام الطبيعي الإلهي..
وحينما أراد الله سبحانه وتَعَالىَ توفيقه، سهّل في ذلك طريقه، فكانت الواسطة والهداية على يد الشيخ أبي محمّد علي نصّار من بَيصور، إذ كانت والدة المرحوم المُشار اليه، من بلدة معاصر الشوف، وكان لخاله هناك ابنة في سن الزواج تُدعى زهيّة، وهي ابنة المرحوم الشيخ أبي محمّد محمود سلمان فياض.
وقد ابتدأا حياتهما الأولى، في اجتهاد دائم مُقيم، واقتصاد حكيم، مع حسن تدبير، وأضاف المرحوم إلى شغله في النسيج أعمالاً أُخرى زراعية، مثل تربية دود القز، وهو موسم الحرير المشهور في لبنان، وقد كان من أعظم موارده ومحصولاته فيما مضى، وأخذا زيتوناً بالأمانة، يجمعان ثمره ويعصرانه، ويأخذان سهماً منه لقاء أتعابهما، فكان لشدة ورَعه، وخوفه على نفسه، أثناء جمع ثمر الزيتون، لا يتناول طعامه إلّا بعد أن يغسل يديه، كي لا يبقى أثرٌ لزيت الزيتون عليهما، وغير ذلك من الأعمال لبراءة ذمته.
وعلى النهج القويم استمرَّ سائراً مدَّة حياته، في سائر معاملاته، في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والقرض والوفاء، مُدَقِّقاً على نفسه في القطعة والدرهم، وقد تسهَّلت بعونه تعالى وحسن نيّته أشغاله، وبارك الله له في جميع أعماله، فغدت حركاته الشريفة دائماً موفَّقة وآراؤه بالخير والتسديد مُحقّقة، كما قال سيدنا الأمير قدَّس المولى روحه “العبد إذا كمَّل صفاه وأتمَّ تقواه وجرَّد قواه، واستعبد هواه، واستصحب في جميع أحوالهِ معرفة مولاه، وتوسَّل إليه بهادي الهُداة، وكان عقله الصافي أكمل سجاياه، واستعان بالله في كل ما يتوخَّاه، فلا شكّ في توفيقه في دنياه وأخراه”.
مأكلُه ومشربُه
ان رحمه الله يقول، إنَّ النظام العادل التام، للأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في طعامهم وشرابهم، الترفُّع عن ثقل الشّبع، وعن ألَم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم، والنَّسج على منوالهم جُهد الاستطاعة مع العلم والتحقيق إنَّ الغذاء بمثابة الدواء، يجب أن يُحدَّد مقداره، ويُتناوَل في أوقاته، بعد ِّ المَعدة من فضَلاته، لكي تحصل بتناوله المُقنَّن المنفعة المتوخاة، من دوام الصحة، واتّقاء المضرَّة.
فبسلامة الجسم ونشاطه، يستمرّ الإنسان في العمل والخدمة، والشّكر لله الرازق الحكيم، ويكون لصاحبه صفة القادر الآمر، في سلوك النَّهج القويم، بحيث إنَّ العقل السليم، لا يكون إلَّا في الجسم السليم، ومن بعض ما أورده السيد الأمير(ق)، ورسَمه في تناول الطعام والشراب وحدَّده، قوله: “ينبغي للإنسان أن لا يأكل في نهاره وليله، سوى أكلتين، وأن يترك المائدة وعنده بقية من شهوة الطعام، وأن لا يشرب الماء وقت الأكل أو عقبه تماماً، والأحسن أن يكون الشرب بعد الأكل بساعة أو ساعتين، وأن لا يستوفي الشُّرب، بل يتركه ونفسه قابلته، وحكمه في ذلك مثل حكم الأكل، وإن كان للإنسان عادة في كليهما يشقُّ قطعها عليه أن يقطعها بالتدريج، فأحسن الأحوال الاعتدال، فلا شَبع ولا جوع.
ومن آدابه رحمه الله، أمام الرازق العظيم، في أثناء تناوله الطعام والشراب، دوام ذكره، وأداء حمده وشكره، قال السيد الأمير(ق)، “إذا شَرَعَ الإنسان في الأكل، فليعلم أنه ضيفُ الله، لأنّه تَعَالىَ وتقدَّس الذي يُطعم ولا يُطعَم، فليُسمِّه في الابتداء، وَيَحمَدْهُ في الانتهاء وإن استطاع فليفعل في كلِّ لقمة، وليعرف نعمة الله عليه في كلِّ حال”.
كان المرحوم الشيخ أبو حسين رضي الله عنه، لا يضع في فمه لقمة من طعام، ولا جُرعة من ماء، ولا ثمرة واحدة من جميع الثمر، حتى يذكر اسمه العزيز، قائلاً بلفظ صريح في كلِّ مرة: (بسم الله الرحمن الرحيم) ومن عادته في موسم الفواكه أن لا يأكل العنب، إلّا حبّة، حبّة، ويذكر البسملة عند تناوله كلّ حبة، والغاية من ذلك دوام المراقبة، والإ كثار من ذكر من له الحمد المُقيم، والشُّكر العظيم، كيلا يُنسيه ولا يُلهيه، شيء من شهوات الجسد في جميع الأحوال، عن استشعار وجود المُنعم الخلاَّق، ولزوم الأدب أمامه وتهذيب الأخلاق، لأنَّ الواجب على المُوَحّد العارف أن يُجرِّد المحبة لله تعالى وتقدَّس، ويُخلص العبودية له، ويلازم النظر إليه، والاعتصام بحبله، وأن لا يَسْكُنَ إلّا إليه، ولا يأنسَ إلَّا به، ولا يتقوَّى إلَّا بمعونته، ولا يُؤثر غيرهُ عليه، فيصير هو بعينه، لفرط الاتِّصال به، والتقرُّب إليه، عقلاً خالصاً، وحقَّاً محضاً، وروحاً صافياً، ونوراً إلهياً، وذلك هو الكمال الحقيقي المجوهر الأنسي.
اكتمالُ بدرِه، ودوامُ سؤدُدِه ونَصْرِه
في الحديث النبوي، “أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل” وكان رحمه الله لطيب عنصره، وعظيم صبره، وشدّة عزمه، وطهارة نفسه، كالفضّة الصافية، التي كُلما زادتها النار حَمَّاً، زادتها جوهراً وصفاءً وكان كلما زاده الزمان امتحاناً، ازداد في نفسه يقيناً وإيماناً. بعد كل هذا وصل راقياً بنفسه العفيفة، إلى الرتبة الشريفة، التي هي رتبة الإنسان كما وصفها وعيَّنها سيدنا الأمير(ق)، قائلاً: “ومَن منحه الله القبول والترقِّي والعروج إلى حد الإنسانية، كان من ثمرة أفعاله العقل، والسكون، والرّصانة، والرّجحان، والعفاف، والصيانة، والنزاهة، والنظافة، والطاعة، والطهارة، ومكارم الأخلاق، والزّهد في المطالب الدنيوية، والخوف من الله، والمراقبة له، والثبات على الأوامر، والتزام ترك النواهي، والصبر والاحتمال، والإغضاء عن بلوغ الأغراض، والانصراف بكليَّة الجهد في التطلّع إلى العلوم البسيطة، والتَّلَمُّح من إشارات مضمون معانيها، والمبالغة في العمل بأوامرها، والانتهاء بنواهيها، والبحث والاستكشاف عن أصول مبانيها، القائمة بالفروض الواجبات، والسُّنن المشروعات، إلى أن قال، فهذه درجة الإنسان، التي تبعها السلف الصالح من أهل الفضل والتَّبيان”.
وقد اقتضت الحكمة الربانية، ما ورد ذكره في النصوص الجوهرية، وهو: إنّ الدار لا تخلو من الفاضل، لتثبت به الحجّة على العالم والجاهل، فلمّا اكتملت في جوهره الشريف الأوصاف الإنسانية، وتفرَّد بنفسه حاملاً لواء الفضائل والمحامد الدينية وظهرت عليه هذه الآثار الحميدة، والآراء السديدة، والطريقة الرشيدة، بانت له الفضيلة والمزيَّة على الاقران، في جميع الأصقاع التي توطّنها المعروفيّون، لأنَّ المقامات تعلو بأهلها، والفضائل تشير إلى أصحابها، عندئذ أجمع المخلصون على اختلاف درجاتهم، واتفق المنصفون من سادة العصر وأعيان البلاد، على الاعتراف له بالفضيلة، والرتبة الجليلة، فجعلوه لمحض تقواه، ومراقبة مولاه، وتجرده عن هواه، في سره ونجواه إمامهم المطاع، ومرجعهم الأعلى ورمزهم الأسمى في السبيل الروحاني دون نزاع، وغدا موضع ثقتهم الوحيد، لمسلكه الدقيق الفريد، فأصبح منزله محطّ رحال الإخوان، أهل الفضل والتصديق والإيقان، من قاصٍ ودانٍ، ولطالما سعى الكثيرون من الناس شوقاً لرؤيته والتماس بركته، والتَّفكُّه بمحادثته، واقتباس إفادته، من لفظه العذب الموزون وحميد سيرته، ولطالما جاءه الكثيرون: شاكين: مُتظلّمين: وبه مستعينين ومستنصرين.
فكانت نيّته الصادقة، مصروفة دائماً إلى لمّ شمل إخوان الدين، والإصلاح العام التام بين الموحدين، ليكونوا قائمين على نفوسهم بقسطاس الحقّ والعدل، معروفين لدى الجميع بالإحسان والفضل، مُترفّعين عن الانغماس في الشّبهات والحرام، مقتصرين على طلب الحلال، لستر الحال، مع حسن الاتّكال، ولزوم الورع، وترك الطمع، والعدول عن الفساد، إلى طريق السَّداد، والصلاح والرشاد، فبهذا وأمثاله تتاجر الأبرار، في هذه الدار، وتُدَّخر الحسنات والأعمال الصالحات لدار القرار، أملاً بالرضى والعفو من الكريم الغفّار.