عالمـــان
سيرة المرحوم الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي بقلم الشاعر الأديب الشيخ سامي أبي المنى لا تؤرخ لماضٍ بعيد ولا تتحدث عن أحد رجال السلف الأقدمين، بل هي تعرض لحياة شيخ زاهد مجاهد كان قبل أسابيع يعيش بين ظهرانينا، ويعايش عصرنا نحن، عصر الأزمات والاستهلاك والضياع القيمي والإنترنت وغيرها من علامات الفترة؛ لكن سيرة هذا الرجل الرقيق العارف تُبيِّن أن كل هذا الضجيج الذي يبلبلنا ويحرمنا من السلام الذي ننشده لم يكن لِيمَسَّ منه شعرة؛ فهو اختار مساره منذ شبابه المبكر وسلك على كبار الشيوخ وتأسّى بهم وأخلص وثابر واستقام على صراط التقوى حتى النفس الأخير. لقد أثرت في نفسي سيرته الطاهرة لأنني وجدت فيها (كما وجدت دوماً في سير أوليائنا) مثالاً قوياً على القاعدة التي تحكم مجتمع العقال الموحدين وهي أن “أدب الدين قبل الدين” ويا لها من قاعدة ذهبية فعلاً لأنها توجِّه جهد السالك مهما ظنّ نفسه متقدماً في المعارف إلى زجر النفس والتخلق بأرفع الآداب والخصال، ومن السهل الحديث في أمر الدين أو المحاضرة في عمومياته لكن من الصعب حقاً نهي النفس عن الهوى ومراقبة السلوك واكتساب الخصال التوحيدية وفي رأسها اللين والحلم والعفو عن المسيء واحتقار الدنيا وقصر الأمل واستحقار النفس والإستغفار الدائم، فهذه الخصال لا تكتسب بكثرة القراءة بل بدوام المراقبة ومجاهدة الهوى والتأسّي بالصالحين والسير في أثرهم، وهي بالتالي خصال لا تتحصّل إلا لأولي العزم وأصحاب الهمم العالية.
ومن نعم الله على الموحدين أن جعل من جهاد النفس (وليس علوم الكتب وفصاحة التعبير) الركن الأساس للمسلك، ومعياراً يقاس به الإخلاص والفلاح في الطريق، وما أكثر العلماء اليوم لكن ما أقل الصالحين. لذلك فإن سير الموحدين لا يرد فيها أسماء مشاهير أهل العلوم أو المؤلفين الجهابذة لكنها زاخرة بسير الزُهّاد الفقراء الصالحين الذين يتناقل مجتمعنا مآثرهم من جيل إلى جيل. والموحدون الدروز هم بين مسلمي هذا العصر من الأكثر تعلّقاً بالمبادئ التي قام عليها الإسلام، وهم يتناقلون في مجالسهم سير الصوفية العظام من سلمان الفارسي إلى أبي ذر الغفاري إلى الجنيد وينهجون على أثرهم، كما هو جليّ في اللباس الإسلامي البسيط لعقالهم وللسالكين في أثر السلف من شبانهم، وفي حجاب الموحدات الأبيض المهيب المنسدل على لباسهن المحتشم وفي أدبهن وحيائهن. وهذا المجتمع المتمسك بالزهد الطبيعي وأعلى معايير السلوك والمحافظة لا نجدّ ظاهرة تماثله اليوم وسط أمواج التديُّن الضيّق والتعصّب والكراهية، والإنجراف في الوقت نفسه في مباهج الدنيا وكلّ يتعارض مع تعاليم الدين القويم.
وقد يكون مجتمعنا الأصيل يتعرض اليوم مثل غيره لما يعتمل في عالم المعاصرة والإتصالات من تأثيرات هائلة أصبحت عاملاً أساسياً في تخريب سلوك الأفراد والمجتمعات، لكن مثال الشيخ أبو سليمان حسيب الحلبي ومثال الأولياء الصالحين السابقين ومشايخنا الأجلاء يستمرّ في تقديم أنموذج جليّ وجذاب للرفعة الإنسانية والروحية في وجه هذه الجاهلية الجامحة للقرن الواحد والعشرين.
وربما يكون تبجيل المجتمع التوحيدي لأوليائه الصالحين ظاهرة تدلّ في حد ذاتها على بناء قِيمي خاص بهذا المجتمع، لكنه يسلط الضوء في الوقت نفسه على هذا التعايش الملفت بين عالمين مختلفين: عالم الشيخ أبو سليمان حسيب وأقرانه الأطهار وما يتصل بهم من مجتمع العقال والسالكين وبين عالم أهل الزمان، وهو عالم آخر تماماً من “مرجئة” الدين الذين تشغلهم الدنيا بمباهجها ومشكلاتها وهمومها عن التفكّر وإصلاح النفوس بالجهد وصحبة الأخيار. وبينما يشترك هؤلاء -لا شكّ في ذلك- في فطرة التوحيد، فإنهم يعوِّضون عن التقصير ربما بإظهار المحبة الصادقة لأهل الصلاح وتقديرهم، لكن دون أن يجدوا دوماً العزيمة الكافية للأخذ من معينهم والتزيّن ببعض ما يمثلونه من خصال التقوى وآداب المسلك القويم، لكنّها سنّة الله تعالى في خلقه وهو القائل:
}وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ{ (الأنعام: 35)