مقدمة
لقد غيرت ثورة الكمبيوتر والإنترنت والمعلوماتية معطيات التعليم كلها، بل إنها قلبت نظامه، ومفاهيمه، وأساليبه رأسًا على عقب، فأصبح استخدام التقنيات الحديثة في التعليم ضرورة ملحة وليس اختيارًا، وأصبح دمج التكنولوجيا في العملية التعليمية ضرورة عصرية، وليس امتيازًا أو ترفًا، إذ لم يعد التعليم التقليدي يتناسب مع الجيل الجديد، ويتضح ذلك جليًّا من خلال تعلق الطلاب بأجهزتهم اللوحية وهواتفهم المحمولة الذكية، وغيرها من أشكال التقنيات المختلفة، فأصبح من الضروري أن تفكر المؤسسات التعليمية بشكل يحاكي حاجات العصر وظروفه، من خلال توفير بيئات تعليمية مشوّقة وجذابة بما يتناسب مع اهتمامات الطلاب.
إضافة إلى أنه كثيرا ما يعاني المعلمون بعض الصعوبات مع طلابهم، على سبيل المثال:
- الفوارق الفردية بينهم، تُؤثِّر في سرعة الفهم والاستيعاب.
- الإغفال أو النسيان لبعض النقاط الرئيسة في الدرس.
- مشكلة الغياب وضياع فرصة حضور الدرس.
- عدم إنجاز الواجبات في المنزل بشكل كامل أو صحيح بسبب «نسيان» الطلاب بعض المعلومات أو المهارات التي تعلموها خلال الدرس.
- قضاء المعلم وقتًا طويلًا في إعادة الشرح داخل الصف أو خارجه لبعض الطلاب.
- عدم إيجاد المعلم فرصة للمناقشة أو إجراء بعض التطبيقات أو الأنشطة خلال الدرس لضيق وقت الحصة.
كل هذه التغيرات التكنولوجية والصعوبات وغيرها كانت حديث مُطوِّرِي التعليم في العالم وخبرائه، والتي أقيمت حولها مؤتمرات وحلقات نقاش عديدة لبحث الحلول المناسبة لها. ومن هذه الحلول الجيدة والمبتكرة طريقة «الصف المعكوس»:
Flipped Classroom / Classe Inverse.
نشأته
نشأت فكرة «الصف المعكوس» في الغرب حيث وضع إريك مازور «Eric Mazur» مبدأ تعليم الأقران عام 1980م، ووجد أن التعليم بمساعدة الكمبيوتر يسمح له بالتدريب بدلا من المحاضرة. وفي أوائل خريف عام 2000 استخدم محاضرون بجامعة ويسكونسن ماديسون فيديو لإلقاء المحاضرة بدلا من المباشرة، في دورة علوم الكمبيوتر. وفي عام 2001 تم تأسيس مركزين في ولاية ويسكونسن للتركيز على التعلّم عبر «الصف المعكوس». وفي عام 2006، قدَّم Tenneson وMcGlasson نهجا للمعلمين في البحث «متى يقلبون الصفوف؟ وكيف ينتجون طرقًا متعددة في «الصفوف المعكوسة»؟». وقدم بيل برانتلي Dr. Bill Brantley نموذجًا لـ «الصف المعكوس» في شباط 2007 في مؤتمر جمعية العلوم السياسية الأميركية. وفي عام 2011 طبقت مدرسة كلينتون ديل الثانوية / Clinton Dale في ميشيغان نموذج «الصف المعكوس» على سائر الصفوف.
تعريف «الصف المعكوس»
يعرّف «الصف المعكوس» بأنه التعلّم المعكوس في إطار «الصفوف المعكوسة»، وهو نموذج تربوي حديث تنعكس فيه المحاضرة والواجبات المنزلية بكافة أشكالها، ويُعتبر شكلًا من أشكال التعليم المزيج الذي يشمل استخدام التقنية للاستفادة من التعلم الذاتي واستغلال الوقت في الصفوف الدراسية لأداء الأنشطة والواجبات.
في السياق التقليدي يقوم المعلم بشرح الدرس، في حين يُترك للطلاب تعميق المفاهيم المهمة في المنزل، من خلال الفروض المنزلية، وهذا ما لا يراعي الفروق الفردية للطلاب. أما في نموذج «الصف المعكوس»، فيقوم المعلم بإعداد الدرس عن طريق مقاطع فيديو أو ملفات صوتية أو غيرها من الوسائط، ليطلع عليها الطلاب في منازلهم أو في أي مكان آخر، باستعمال الكومبيوتر أو الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي قبل حضور الدرس، وبهذا يتمكّن الطلاب عامة، ومتوسطو الأداء المحتاجون إلى مزيد من الوقت بشكل خاصّ، من الاطلاع على المحتويات التفاعلية مرات عدة وفي الوقت الذي يناسبهم، ليتسنى لهم استيعاب المفاهيم الجديدة. ويُعتبر الفيديو عنصرا أساسيا في هذا النمط من التعليم حيث، يقوم المعلم بإعداد مقطع فيديو مدته من 5 إلى 10 دقائق، ويشاركه مع الطلاب في أحد مواقع الويب أو شبكات التواصل الاجتماعي.
وُصِف هذا النموذج التربوي الحديث بمستقبل التعليم، لِكونه الطريق الأسهل إلى تكنولوجيا التعليم، والذي يَعْتَبر التفاعل المباشر بين المتعلّم والمعلم من جهة، وبين المتعلمين فيما بينهم من جهة أخرى، ركيزة أساسية لبناء التعلّم.
إن قلب الصف لا يعني بالضرورة أن يؤدي إلى «التعلم المعكوس»، وكثير من المعلمين يمكن أن يقلبوا صفوفهم من خلال تكليف الطلاب بقراءة الكتاب خارج الصف، أو مشاهدة مقطع فيديو مثلا. لكن الانخراط في «التعلّم المعكوس» يَحْتِم على المعلمين مزج المكونات الأربعة الآتية في عملهم F-L-I-P:
- بيئة مرنة: Flexible Environment.
- ثقافة التعلم: Learning Culture.
- المحتوى المقصود: Intentional Content.
- المعلم المتخصص: Professional Educator.
بيئة مرنة «Flexible Environment»
يسمح «التعلّم المعكوس» بمجموعة من نماذج التعلم، ويمكّن المعلمين من إعادة ترتيب أماكن التعلّم للتكيف مع الوحدة التعليمية، أو الدرس لدعم أي عمل جماعي أو دراسة مستقلة. هذه النماذج تُوجِد مساحات مرنة لكي يختار الطلاب متى يتعلمون، وأين. وزيادة على ذلك، فإن المعلمين الذين قلبوا صفوفهم، مَرِنُون في توقعاتهم لجداول تعلم الطلاب وفي تقييمهم.
يسمح المعلم بإيجاد مساحات وأطر زمنية كي يتفاعل الطلاب معه، ويفكِّرُوا أثناء تعلمهم عند الحاجة. ويراقب المعلم طلابه لكي يقوموا بالتعديلات حسب الحاجة، ويقدم المعلم لهم طرقًا مختلفة لتعلم المحتوى وتنمية المهارة.
ثقافة التعلّم «Learning Culture»
في نموذج التعليم القديم، المحور هو المعلم الذي يُعتبر المصدر الرئيس للمعلومات، في حين أنه في نموذج «التعلم المعكوس» الطالب هو المحور، إذ يُسند التعليم إلى المتعلّم، بحيث يخصص وقت الحصة في الصف لاكتشاف الموضوعات بشكل مركز وخلق فرص تعليم وتعلّم. ونتيجة لذلك يشارك الطلاب بنشاط في بناء المعرفة، ويشاركون ويقيّمون تعلمهم بطريقة ذات معنى شخصي، ويقدم المعلم الأنشطة للطلاب من خلال التمايز وردود الفعل.
المحتوى المقصود «Intentional Content»
يَعْرف معلِّمو التعلم المعكوس جيِّدًا كيف يطبقون هذا النموذج، لمساعدة الطلاب على تنمية فهمهم لكل المفاهيم وأداء الوظائف بشكل مبدع، ويحدد المعلمون ما يحتاجون إليه لعملية التدريس، وما المواد التي يكتشفها الطلاب بطريقتهم الخاصة. ويستخدم المعلمون المحتوى المقصود أو المراد تدريسه للاستفادة من وقت الحصة، لتبنِّي أساليب وإستراتيجيات للتعلم المتمركز حول المتعلم، وإستراتيجيات للتعلم الناشط. وهذا يعتمد على مستوى الصف والمادة الدراسية. ويستعين المعلم بأشرطة الفيديو لعرض المحتوى على الطلاب مع مراعاة الفروق الفردية.
المعلم المتخصص «Professional Educator»
دور المعلم المتخصص مهم جدًّا وضروري في «التعلّم المعكوس». فأثناء وقت الحصة يلاحظ طلابَه باستمرار ويقدم لهم التغذية الراجعة (Feedback) المناسبة في الحال، ويقيّم أداءَهم ويركز على تواصل بعضهم مع بعض لتحسين عملية التدريس، وتقبّل النقد البنّاء، والتسامح والتغاضي عن الفوضى في الصف. وبينما يقوم المعلم المتخصص بأقل الأدوار بروزًا في التعلم المعكوس، يبقى العنصر المؤثر في استمرار هذا التعلم.
مميزات «التعلم المعكوس» | إشكاليات تطبيق نظام «الصف المعكوس» | |
يبني علاقات أقوى بين الطالب والمعلم. | عدم توافر الأجهزة والبرمجيات اللازمة الضرورية للتسجيل وإعداد الدرس لدى المعلمين. | |
يُمكّن الطلاب من «إعادة الدرس» أكثر من مرة، بِناءً على فروقهم الفردية. | عجز بعض المعلمين عن توظيف التِّقْنِيَّة بمهارة لتطوير طرق التدريس والتحفيز والتواصل مع الطلاب. | |
يخلق بيئة للتعلم التعاوني في الصف الدراسي. | تمسُّك بعض المعلمين بالطريقة التقليدية وعدم رغبتهم في التخلي عنها. | |
يجري من خلاله تطبيق التعلم الناشط بكل سهولة. | عدم توافر خدمة الإنترنت عند جميع الطلاب. | |
يضمن الاستغلال الجيد لوقت الحصة. | ||
يشجع على الاستخدام الأفضل للتقنية الحديثة في مجال التعليم. | ||
يحوّل الطالب إلى باحث عن مصادر معلوماته. | ||
يعزز التفكير الناقد والتعلم الذاتي، وبناء الخبرات ومهارات التواصل، والتعاون بين الطلاب. |
ختامًا
يُعدُّ «الصف المعكوس» Flipped Classroom – Rangée Inverse إحدى الوسائل الفعّالة، التي من خلالها تلعب التكنولوجيا دورًا في حل مشكلة الفجوة القائمة بين الدراسة النظرية للعلوم والمعارف، والجانب التطبيقي لها في الحياة العملية؛ ما يجعل هذه الأنشطة الصفّية تقضي على جمود العملية التعليمية. وبهذا، يعالج أحد أهم أسباب عزوف الطلاب عن التعلّم بشكل عام؛ ما يؤدي حتمًا إلى إقبال مزيد من شبابنا على دراسة التخصّصات الحيويّة، التي تسهم في صناعة أجيال متخصّصة، وبناء مجتمع الاقتصاد المعرفي.