تناولت المُحاوَراتُ الأفلاطونية التساؤلاتَ الأساسية لحقائقِ الوجودِ، والنَّفْسِ، والفضيلةِ، والمُثُلِ، والمعرفةِ، والحقِّ والخيرِ والجَمَالِ والسعادةِ والمحبّة والعَدْل، ووقفت عند تلك الحقائق بعُمقٍ فلسفي أذهلَ البشريةَ عبر التاريخِ ولا يَزال يُذهِلها. لكنّها كثيراً ما كانت تُلمِّح ولا تُصرِّح، تُشير تلويحاً بالحقائق ولا تَبُتُّ فيها بالإجابة النهائية، بل هي أحياناً تنتهي بـ «حَيْرة فلسفية» (aporia)، فيما هي في الحقيقةِ تُمهِّدُ المعرفةَ لمَنْ هم مُهَيّؤون لتلقِّيها وفَهْمِها الفهم الصحيح. فما هي هذه الحقائق؟ ولمَنْ احتفظَ أفلاطون بها؟ ولمَنْ نَقَلَها شَفَهِيّاً؟ ومَنْ حَمَل هذه الأمانةَ المعرفيّة الحِكْمَويّة ونَقَلها للأجيال التالية؟ وهل كانت هناك نظريةٌ رئيسية توحيدية في ما بينها؟ إنّ أوّلَ مَنْ تحدَّثَ عن تلك «العقائد غير المكتوبة» لدى أفلاطون هو تلميذُه أرسطو وعددٌ من التلامذة الآخرين في أكاديميّته، فضلاً عن فلاسفة أقدمين.
«العقائدُ الأفلاطونية غير المكتوبة» هي مفاهيم ميتافيزيقية لاهوتية نَقَلَها أفلاطون شَفَهِيّاً لنخبةٍ من تلامذته المُهيَّئين في أكاديميّته وعلى رأسهم أرسطو، التي أشار إليها في أكثر مِن مؤلّفٍ له، لا سيّما «في الطبيعة» (physica)، وفي مقاطع أخرى مِن مُؤلِّفه الشهير «في الماورائيات» (metaphysica)، وهي بمثابة «النظرية الرئيسية» المحورية لجميع مفاهيم أفلاطون الفلسفية.
أرسطو .. “أغرافا دوغماتا”
وقد استخدم أرسطو في إشارةٍ إلى «العقائد غير المكتوبة» لدى أفلاطون (ولأرسطو أيضاً عقائد سرّية غير مكتوبة.. وهذا بحثٌ آخر!!) العبارةَ اليونانية «أغرافا دوغماتا» (agrapha dogmata γραφα δόγματα)، موضِحاً أنّ أفلاطون علَّمها شَفَهِيّاً في أكاديميّته. وكتب أرسطو يقول إنّ أفلاطون استخدم مفهوماً ما في إحدى محاوراته على نحو مختلف ممّا كان يُعلِّمه شَفَهياً «في ما يُدعَى العقائد غير المكتوبة»، وقد اعتبر العلماء وباحثو الفلسفة هذه الشهادة من تلميذه الأول أرسطو خيرَ دليلٍ على وجود تلك الحقائق غير المكتوبة المخصّصة لنخبة من التلاميذ.
للمُهيَّئين فقط!
بل هناك إثباتاتٌ أخرى في الأدبيات الفلسفية القديمة، منها ما ورد في نصٍّ لأحد تلامذة أرسطو يُدعَى أرستوكزينوس (Aristoxenus)، الذي نقل عن معلِّمه أرسطو أنّ ثمة محاضرة لأفلاطون حول «الخير» تشتمل على براهين رياضياتية وفلكية تُثبت وجود «الواحد» كمبدأ أسمى. وكانت هذه المحاضرة مُعدَّة للمُهيَّئين، في حين أنّ «السَّامعين غير المُهيَّئين لم يفهموا شيئاً» منها! وهناك كذلك مقاطع لـ ثيوفراستوس (Theophrastus)، أحد تلامذة أرسطو أيضاً، يتحدّث فيها عن عقائد أفلاطونية سرّية.
ويعزو الباحثون إلى أفلاطون نصّاً فلسفياً يُدعَى «الرسالة السابعة» (Seventh Letter) يُسهِب فيه بالتحدُّث عن العقائد المُنتَقِلة شَفَهِيّاً لمَنْ هم أَهْلٌ لها، وهو ما نجده أيضاً في مقاطع من أعمال تلامذة نخبويين في أكاديمية أفلاطون أبرزهم هيرمودورس السرقُسطي (Hermodorus of Syracuse)، وكذلك تلميذه الآخر سبيوسيبوس (Speusippus)، وثمة إشارة واضحة إلى أُصولها الفيثاغورية. أمّا الإشارات في مُحاوَرات «بارمينيدس» (Parmenides)، «وتيماوس» (Timaeus)، و»الجمهورية» (Politeia)، التي تناولناها في أبحاثٍ سابقة، وكذلك في مُحاوَرة «فيليبوس» (Philebus)، فثمة حقائق فيها لا يمكن فهمها إلَّا تحت أضواء مفهوم «العقائد غير المكتوبة».
«العقائد الأفلاطونية غير المكتوبة هي مفاهيم ميتافيزيقية لاهوتية نَقَلَها أفلاطون شفهيّاً لنخبةٍ من تلامذته المُهيَّئين في أكاديميته وعلى رأسهم أرسطو».
تحفُّظ «على ما هو أثمن»
في مُحاوَرة «فايدروس» (Phaedrus)، على سبيل المثال، يؤكّد أفلاطون بالتفصيل تفوُّق التعليم الشَّفَهِي على ذلك المكتوب في نقل الفلسفة والحكمة لأنّه أكثر استجابة ومرونة وتفاعلاً مع المتلقِّي، وكيف أنّ الكتابة ربما تُضعِف الذهن، وهي تنفع للتذكير وليس للإضاءة على الحقائق الحِكْموية. ويؤكّد أنّ مَنْ بوسعه أن يُعلِّم بهذه الطريقة الشَّفَهِيّة هو الفيلسوف الحقيقي الذي بإمكانه أن ينقل للمُستحقِّين «ما هو أثمن» ممّا يتعذَّر الإفصاح عنه خطّياً، وهي إشارة واضحة إلى «العقائد السرّية غير المكتوبة».
كما أنّ هناك أسلوب «التحفُّظ» (Reservedness) في المُحاوَرات، حيث ينقطع النقاشُ الفلسفي فجأة عندما يبلغ ذروته، في مسائل معرفية هي في غاية الأهمية. ويشير بعض الباحثين إلى أنّ ما جرى التحفُّظ عليه إنّما «احتُفِظ به» لنقلِه شَفَهِيّاً لمُستحقِّين، إذ إنّه غير ملائم للنقاش الظاهري العام، وهذا ما أكده أرسطو أيضاً.
أسرار من أثينا إلى الإسكندرية!
وفيما سادت بعد عهد أرسطو القراءةُ الحرفيّة لمُحاوَرات أفلاطون، انتقلت عقائدُه الشَّفَهِيّة من أثينا عبر نخبةٍ من التلامذة إلى الإسكندرية وغيرها من المدن على المتوسط، حيث انتشرت بعدئذ القراءةُ الرمزية المجازية وفقاً لتلك العقائد، وتزامَن ذلك مع إعادة إحياء المبادئ الفيثاغورية، في ظلال مدرسة «الفيثاغوريين الجُدد» (Neo-Pythagoreans)، وعلى الأخص الفيلسوف نومينيوس الأفامي (Numenius) (القرن 2 بعد الميلاد) الذي ألمحَ إلى أنّ محاورات أفلاطون تنطوي رمزياً على عقائد فيثاغورس، لا سيّما في عمله الشهير «في الأسرار أو العقائد المحفوظة عند أفلاطون» (On the Secrets or Reserved Doctrines in Plato).
ويبدو بذلك أنّ «المدرسة الأفلاطونية المُحدّثة» (Neo-Platonism)، ولا سيّما في القرن الميلادي الثالث، مع مؤسِّسها الفيلسوف أفلوطين (Plotinus) الذي يعتبر نفسه مُفسِّراً مُخلِصاً لعقائد أفلاطون لا سيّما في الماورائيات، قد استندت في فلسفتها المثالية الروحية إلى تلك العقائد غير المكتوبة المُشار إليها.
أمّا الأفلاطوني المُحدَّث ماكروبيوس (Macrobius) (القرن 5 بعد الميلاد) فسلّط الضوء على التفسير الرمزي الماورائي غير الحرفي لأعمال أفلاطون، لا سيّما حينما يتطرّق في مُحاوَراته إلى مِثال «الخير»، وهو ما أكّده الفيلسوف بروكلوس (Proclus) (القرن 5 بعد الميلاد)، في إطار شرحه لمُحاوَرة «بارمينيدس»، حيث يشير إلى «أسرار» المُحاوَرة أو «معانيها العميقة» الماورائية والدينية.
«مدرسة توبينغن» .. إثباتات
في مقابل تلك المصادر التاريخية العريقة، هناك إثباتاتٌ علميّة حديثة حققتها «مدرسة توبينغن» (Tubingen School) الفلسفية، والباحثون الرئيسيون فيها مقرّهم «جامعة توبينغن» في جنوب ألمانيا، وقد سعوا إلى إجراء تقصٍّ في المقاطع الفلسفية الكلاسيكية والتاريخية لاستبيان تلك العقائد الأفلاطونية السرّية.
جيوفاني ريالي.. «عقيدة الواحد» شفهيّاً!
أبرز المُدافِعين في المدرسة المذكورة عن وجود العقائد الأفلاطونية غير المكتوبة هو الباحث الإيطالي جيوفاني ريالي (Giovanni Reale)، ويُعرَف نَهْجُه بـ «المدرسة الميلانوية» نسبة إلى مدينته ميلانو، وقد أشار إلى أنّ تلك العقائد تتمحور حول أصل الوجود وعقيدة «الواحد»، المبدأ الأفلاطوني الأرقى. وتؤكّد هذه المدرسة أنّ العقائد التي احتفظ بها أفلاطون للنقل الشَّفَهِي إنّما تتعدَّى بشكلٍ كبير المفاهيمَ الفلسفية التي عَبَّرَ عنها في محاضراته العلنية في أكاديميّته أو في مُحاوَراته المكتوبة، وتعتبر أنّ تلك «العقائد غير المكتوبة» هي ثمرة منطقية لفلسفة أفلاطون نحو تفسير التعدُّدية أو الكثرة التي يتسم بها الكون في «وحدة»، وهو في نظرية «المُثُل» يُحاول أن يُخفِّض تلك التعدُّدية إلى عددٍ أقل نسبياً من المُثُل الأساسية ذات التراتبية العليا، وأنّ طَرْح نظرية المُثُل إنّما كان خطوة تمهيدية لوحدةٍ أرقى، لم يُعبِّر عنها أفلاطون كتابياً للعامّة بل تركها للخاصّة من تلامذته في إطار «مهمّته» الأخلاقية والمعرفيّة السَّامية.
تُوضِح هذه المدرسة أنّه ربّما لم يُفرَض على النخبويين «المُهيَّئين» ضمن الحلقة المُختارة أن يلتزموا السرية والصمت إزاء تلك الحقائق، لكنّ هؤلاء التلامذة المُخلِصين لم يكتبوا أي شيء عن تلك العقائد ولم يستخدموها في أعمالهم، بل ألمحَ بعضهم إليها تلميحاً، فيما تحدَّث بعض المؤلِّفين القدامى عن عقائد نقلها تلامذة أفلاطون المُختارين شَفَهِيّاً فحسب. وقد سَعَت «مدرسة توبينغن» إلى تحرِّي تلك الإثباتات والأدلّة المتناثرة في بطون الأدبيات القديمة لإعادة ربط تلك المبادئ، المتصلة بوشائجٍ منطقية وثيقة، بالعقائد الأفلاطونية المكتوبة، والخروج بمفهومٍ واضح يُجلي غوامضَ الماورائيات التي تكمن في المُحاوَرات الأفلاطونية كمصدرِ «المُثُل»، و»الكائن المتعالي»، و»الواحد الفيثاغوري» الذي تنطوي فيه هذه المُثُل الكونية، كما أشرنا في تناولنا لمُحاوَرة «بارمينيدس» (يُميِّز أفلاطون ما بين أرقام الرياضيات في عالمنا الأرضي، والمُثُل الماورائية للأرقام، وهذا ينطبق على «الواحد»)، ومفهوم «الأُصول العُلْوية» (aitia – ατια) للوجود، والمبدأ «الفعّال» (poietikos) والمبدأ «المُنفعل» (pathetikos). كلُّ هذا يَفرض قراءةً جديدة لمُحاوَرات أفلاطون على ضوءٍ فلسفي جديد، إنّما يُفضِي إلى نظريةٍ توحيدية مُوحَّدة.
قراءة مُوحَّدة وفلسفة توحيدية
على سبيل المثال، تشرح مُحاوَراتُ أفلاطون المكتوبة نظريةَ «المُثُل» والوجودَ وعالَمَ الظواهر، لكن في عقائده غير المكتوبة إنّما هناك حقائق حول أصل عالَم «المُثُل» والمبدأ المُتَحكِّم به، الـ «ديميورج» (Demiurge)، الذي أشار إليه أفلاطون في مُحاوَرة «تيماوس»، و»الواحد المُتَعالي» (Transcendent One) عن كلّ الوجود.
نعم، تشير «مدرسة توبينغن» إلى تفسيرٍ توحيدي بديل في العقائد غير المكتوبة للواحد الماورائي المتعال فوق كلّ العِلل والمبادئ المُتَحكِّمَة بالكون، في فلسفةٍ توحيدية تتراءى أطيافُها بشكلٍ خاص في محاورات «بارمينيدس» و»تيماوس» و»الجمهورية» و»فايدروس». ونحن نعلم كيف أنّ أفلاطون مَنَحَ «مِثالَ الخير» في نظريّته في «المُثُل» مكانةَ المبدأ الأول في ما يتعدَّى الوجود المادي، بل هو أصله والمُتَحكِّم به كما في «الجمهورية». ونتذكر ما يقوله في «الجمهورية» إنّ فكرة «الخير» هي كالشمس، مصدر الحقيقة والمعرفة وأنّ «الخير» يقع في ما يتعدّى الوجود الكائن علواً وقوةً.
فندلاي وتشيفر .. تجربة دينية
هذه الخلاصة هي تماماً ما أشار إليه الباحثان جون نيميير فندلاي (John Niemeyer Findlay) وكريستينا تشيفر (Christina Schefer)، اللذان اعتبرا أفلاطون في نهجه الفلسفي بالتالي «مُوحِّداً» (monist). وتُلمِح كريستينا تشيفر إلى أنّه كما في عقائد أفلاطون المكتوبة كذلك في تلك غير المكتوبة لا مجال للإدراك الفلسفي لـ «الكائن المُتَعال»، إنّما أفلاطون يشير إلى تلك الإمكانية فقط في تجربةٍ دينية «لظهورٍ» أو «تراءٍ إِلَهي» (theophany) أشبه بتجربة وحدة الشُّهود الصوفيّة، وهذه تكمن في صميم عقائده غير المكتوبة، ولو أنّه ترك إلماعاتٍ وإلماحاتٍ وإشارات إلى ذلك في مُحاوَراته الرئيسية.
أفلاطون .. رسالة للبشرية
كم مِن باحثٍ في محاولته لتفسير أفلاطون شددّ على أنّ هذا التفسير لا بُدَّ أن يتعدَّى الحرفيّ المكتوب، فأفلاطون هو كاتبٌ عبقري، وعُمق وبُعد وشمول كتابته وعبقريّته أدهشت العلماء عبر العصور. ولا ريب أنّ أفلاطون كان يستشعر عظمة وأهميّة رسالته المعرفيّة، ولطالما أكّد أنّه يكتب «للعصور الآتية»، وهو على لسان سقراط في مُحاوَرة «الدفاع» (Apology) يقول إنّه يستشعر أنّ «الإِلَه قد خصَّهُ بمهمّة أخلاقية» للبشرية. وهذا ما دفع الباحثين إلى التأكيد بأنّ تفسير مُحاوَرات أفلاطون ينبغي أن يتم معاً على الصُّعُد الفلسفية والسيكولوجية والدينية بشكلٍ خاص.
لكن هل هناك تفاصيل أكثر عن عقائد أفلاطون السرّية التوحيدية المحفوظة دون نشر؟ نعم، لكنّنا سنُحافِظ على نَهْجِه ونُبقيها غير مكتوبة، وإذا ما نُقِلَت شَفَهِيّاً.. فللخاصةَ!.
المراجع
– Apology, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– The Republic, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Parmenides, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Timaeus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedrus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Majid Fakhry, Philosophy and Theology: from the Eighth Century CE to the Present, Oxford University Press 2000, pp. 271-273.
– W. T. Jones, The Classical Mind: a History of Western Philosophy (Second Edition) -Harcourt Brace Jovanovich, Publishers, New York, 1970.