طرق التحقُّق الروحي مبنية على العمل بعدد من القواعد والتمارين الروحية التي بُنيت على اختبار المُرشدين العِظام وتعليمهم وتربيتهم لمريديهم. وقد اشتهر من هذه القواعد التي تأخذ بها بعض الطرق الصوفية ما يعرف بـ «الكلمات الإحدى عشرة»، والتي تلخص بإيجاز بليغ أهم القواعد التي يقتضي على السالك التزامها على طريق المجاهدة واستكشاف الحقائق المستبطنة في ظاهر الوجود وسريانه في الزمان والمكان. وكما سيلاحظ فإنَّ الهدف الأساسي لتلك القواعد هو صرف اهتمام وحواس السالك عن أغراض الدنيا وعن نوازع الهوى، وتوجيه كامل وجوده للعبادة والتقرّب من الله تعالى بالصلاة ومجاهدة النَفس ومداومة الذكر، إلى أن يثمر كل ذلك تطهير القلب من الرذائل ودوام الحضور مع الله تعالى إلى حين تجلِّي نور الحق في القلب وتحقّق الحضور والقرب من المولى وهو قرب يدرك بعين القلب لا بعين الرأس، أي بالبصيرة لا بالبصر.
الكلمات الإحدى عشرة التي تمثِّل قانون سلوك المريد الجاد على صراط الحقِّ، فهي حسب المصطلح الصوفي كالتالي:
اليقظة عند النَفَس – النظر إلى القدم – السفر في الوطن – الخلوة في الجَلوة – الذكر الدائم – العودة من الذكر إلى الذات – حراسة القلب من الغفلات والخواطر، أو الحضور الدائم – حفظ آثار الذكر في القلب – الوقوف الزماني – الوقوف العددي – الوقوف القلبي , وفي ما يلي تفصيلها:
-1 اليقظة عند النفس، أو حفظ الأنفاس
معنى حفظ النَفَس عن الغفلة، أي أن يكون قلب السالك حاضراً مع الله في جميع الأنفاس، فلا تتوزَّع خيالاته على أمور دنيوية. وقال أحد أقطاب التصوّف بهاء الدين نقشبند إنَّ عمل السالك متعلِّق بنفسه، فعليه أن يعلم هل أمر نفسه مع الحضور أو مع الغفلة لكي يبقى في الذكر ولا يتوزّع باله على الماضي أو المستقبل في حال الغفلة. وباختصار تعني هذه الكلمة عند أهل الحقيقة اليقظة والدِقَّة والفكر عند التنفّس، وهو درجة من درجات الترقّي في الطريق، حتى قيل أنَّ السالك إذا أضاع نَفَساً له فكأنه ارتكب ذنباً.
-2 النظر إلى القدم
على الصوفي في حال مشيه في الطريق أن يكون نظره مركَّزاً على موضع قدمه حتى لا يتوزَّع باله وعقله على أنحاء كثيرة، وحتى يكون عقله وفكره مع الله تعالى فلا يغترّ بجمال ومتاع الدنيا، وهذا عمل محمود ولكن الإمام الربَّاني يقول إنَّ معنى النظر على القدم هو كالاستطلاع للسير على القدم لعروج المقامات، وقبل أن يخطو بقدمِه إلى المقام الجديد فعليه أن يتحقَّق فيه ويعرف مكانه، فيخطو إلى المقام الجديد.
-3 السفر في الوطن
وله معنيان: المعنى الأول، هو السفر بالجسد على اعتبار أنَّ السير في الأرض يورث العِبرة في النظر إلى المخلوقات، ويوجِّه أبصار السالك إلى عظمة خالقه. أما المعنى الثاني، فهو البحث عن المُرشد الصالح. إذ أوصى كبار المشايخ بسفر المُريدين للبحث عن مُرشد كامل، وقالوا أيضاً أنَّ السفر في الوطن يُقصد به أخذ السالك لطريق الانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة، وهو سفر من عالم الخلق إلى الحقّ؛ وهو سفر من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام أرفع.
-4 الخلوة في الجلوة
ومعناه أنَّ جسده مع الخلق وقلبه مع الخالق. والخلوة نوعان: خلوة مادية، وهي عبارة عن انتقال السالك إلى زاوية معزولة للتعبُّد والتأمُّل، وهذه نافعة للسالك لضبط حواسه وإمكان التركيز على قلبه والانهماك في حال قلبه. ومن المعلوم أنَّه كلَّما استطاع تعطيل الصفات الخارجية من العمل، كلما تزداد الصفات الباطنية نشاطاً وعملاً. وبهذا يقرب من عالم الملكوت. والنوع الثاني، هو خلوة القلب، بحيث لا يغفل عن ذكر ربِّه حتى إذا كان مع الناس ومشغولاً بالكسب والذهاب والإياب، فيبقى قلبه ذاكراً ولا يغفل عن ربِّه، قال تعالى: «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (النور 37)؛ ويستحسن معظم كبار علماء التصوُّف أن يعود السالك إلى الناس عاملاً بالكسب الحلال بعد أن يستقرَّ ويتقدَّم في سلوكه. وقال الشيخ أبو سعيد الخراز، المتوفى 279 هـ: ليس الكامل من صدر عنه أنواع الكرامات، وإنما الكامل الذي يقعد بين الخلق يبيع ويشتري معهم ويتزوج ويختلط بالناس، ولا يغفل عن الله لحظة واحدة. ويقولون (الصوفي كائن بائن) أي بالظاهر، والجسم كائن مع الخلق والباطن والقلب بائن عنهم.
-5 الذكر الدائم
والذكر بالمعنى العام الذي يشمل ذكر اسم الجلالة والتأمُّل، والصلاة وقراءة القرآن الكريم والدُّعاء هو أساس السلوك الصوفي. والغالب الشائع من معانية هو ذكر اسم الجلالة (الله) والتأمُّل. والذِكرُ قد يكون جهراً وقد يكون سراً جوهره النفي والإثبات (لا إله إلاَّ الله)، وفي الحديث الشريف: «أفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلاَّ الله». والمقصود بالذِكر هنا هو مداومة الذكر والتذكُّر، والفائدة في الذِكر القلبي أنه لا يحتاج إلى صوت أو حرف، أي القول باللسان فيستطيع السالك أن يذكر حتى في خِضمِّ العمل. وهذا الذِكر القلبي يتطلَّب المداومة حتى يتحقَّق للذاكر سالك الحضور الدائم مع المذكور، وهو الله سبحانه؟.
-6 العودة من الذكر إلى الذات
ومعناها رجوع الذاكر من النفي والإثبات (لا إله إلاَّ الله) بعد إطلاق نَفَسه إلى المناجاة بهذه الكلمة الشريفة باللسان أو بالقلب «إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي»، وذلك لطرد كلِّ الخيالات من قلبه حتى يفنى من نظره وجود جميع الخلق.
-7 حراسة القلب من الغفلات أو الحضور الدائم
ومعناه أن يحفظ المُريد قلبه من دخول الخواطر ولو للحظة، فإنَّ خطراً على قلبه شيء حقاً كان أم باطلاً، فعليه أن يوقف ذكره حتى ينتهي من طرد الخواطر، ليبدأ بالذكر من جديد. وهذا التوقّف معناه أنَّ على السالك أن يحافظ على الثمار من البركات التي حصل عليها بمداومة الذِكر، أو على درجة الحضور والمشاهدة التي حصل عليها باستقامته على الذكر، فلا يسمح بتسلُّل الخطرات إلى قلبه. وبهذا فإنَّ على السالك أن يتمرَّن ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً حسب طاقته على حبس ذهنه وفكره القلبي، بحيث لا يخطر في قلبه شيء ولا يبقى في قلبه غير الله سبحانه. لكن ليس المقصود أن لا تمرَّ أيَّةُ خاطر مهما كان في القلب، بل المعنى هو أن لا يستقرَّ ذلك الخاطر فيكون كالأوراق التي تمرّ سريعاً على الماء الجاري ولا تتوقَّف.
-8 المشاهدة
وهي التوجُّه الخاص لمشاهدة أنوار الذات، وتُسمَّى أيضاً عين اليقين والشهود. وقال أحد المشايخ العارفين إنَّ المشاهدة هي حضور القلب مع الله تعالى على الدوام، وفي كل حال من غير تكلف ولا مجاهدة؛ وهذا الحضور في الحقيقة لا يتيسَّر إلاَّ بعد طي مقامات الجذبة وقطع منازل السلوك. وقيل أيضاً أنَّ المشاهدة هي ثمرة عمل السالك، وقد تكون ثمرة الذكر أو المراقبة أو مساعدة المُرشد، ويصلها السالك بعد قطع كل الحواجز.
-9 الوقوف الزماني
وهو المحاسبة القلبية، ومعناه أنه ينبغي على السالك بعد مضي كل ساعتين أو ثلاث أن يلتفت إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث. فإنَّ كانت حالة الحضور مع الله تعالى شكر الله تعالى على هذا التوفيق وإن كانت حالة الغفلة استغفر منها وأناب. وجاء في كتاب “الرشحات” أنَّ بهاء الدين نقشبند قال: «الوقوف الزماني هو أن يكون السالك واعياً لحاله، عارفاً بما هو فيه هل يستحق الشكر عليه، أو يجب عليه الاعتذار فإن كان حسناً شكر الله عليه وإن كان غير ذلك اعتذر. أي أنَّ الوقوف الزماني هو مراقبة الحالين القبض والبسط؛ ويفهم أيضاً أنَّ حالة البسط أساسها اليقظة وحالة القبض أساسها الغفلة.
-10 الوقوف العددي
وهو المحافظة على عدد الِوِتر في النفي والإثبات ثلاثاً أو خمساً (لا إله إلاَّ الله)، ومنهم من يستطيع الذكر 21 مرة بنَفس واحد. فهذه المراقبة العددية تُسمَّى الوقوف العددي. فالسالك واقف متيقِّظ بضبط نفسه على الذكر بالوتر، وهذا الذكر بالقلب وبالباطن وكذلك عدّه بالقلب وبالباطن وليس باللسان. ولهذا الوقوف ثمرة معنوية كبيرة، والحِكمة منه هي معرفة السالك متى وفي أي مرحلة من الذكر تحصل له ثمرته، فإن بلغ في الذكر 21 مرة ولم يشعر بالثمرة المعنوية، فإنَّ علامة واضحة لنقصان شروطه وأنه يراقب العدد ليعرف في ما إذا حصلت له البركة أم لا. فإن لم تحصل البركة من 21 مرّة فعليه أن يبحث عن سرِّ النقص في المجاهدة والعمل.
-11 الوقوف القلبي:
قال الشيخ عبد الله الدهلوي إنَّه عبارة عن تنبُّه السالك لحال قلبه بمراقبته ومحاولة الإطلاع على أنه ذاكر أم لا، أي أنَّ الوقوف القلبي هو حراسة القلب لكي يذكر الله دائماً ولا يغفل عنه، ويكون القصد من الذِكر هو «المذكور» لا الكلمة في حدِّ ذاتها. والوقوف القلبي أفضل من الوقوف الزماني والوقوف العددي، ذلك أنه مع أهمية الوقوفين الزمني والعددي لاستحصال البركات، فإنَّ فقدانهما لا يؤثِّر في السلوك الصوفي، ولكن الوقوف القلبي ضروري لأنَّ السالك الذاكر إن فَقَدَ الوقوف القلبي وأصبح ذكره مجرد حركة اللسان دون الوعي، فإنه لا يحصل على شيء.