صنعها كهنة الصين والهندوس منذ آلاف السنين لكن المسلمين نقلوها وكرّموها ونظموا فيها القصائد
أكثر من عمّم استخدامها العابدون والصوفيون لحاجتهم لضبط التسابيح والأوراد بأعداد معينة
المسبحة بالنسبة الى كثيرين قنية فريدة وزينة وأداة تفاخر وكثير منها يباع بأسعار خيالية
البداية
منتصف أيار 1999، أقلعت بنا الطائرة من مطار بيروت: بيروت – أثينا – نيويورك، في مطار أثينا أمضينا ما يقارب الثلاث ساعات، خلال هذا الوقت وأثناء تجوالي داخل المطار اتجهت نحو “ السُّوق الحرّة “ هناك وقع نظري على كتاب، على غلافه صورة “المسبحة” فاشتريته، وفي أعماق نفسي ارتفعت صرخة أرخميدس”: “وجدتها”.1
أمعنت النظر في اللون، شكل الأحجار، الخيط، الشرّابة… الخ !
“ الصورة نص والنص صورة”.
طوال الرحلة من أثينا الى نيويورك وأنا مستغرق في قراءة هذا الكتاب، وكانت تمرّ لحظات، وكأن الكلمات أصبحت كحبّات السبحة فتذكرت هذا البيت من الشعر لمحمد الصهناجي البوصيري في همزية:
وإذا حـــــــــــلّت الهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداية قلبــــــــــاً نشــــــــــطت للعبــــــــــادة الأعضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
هل كان صدفة نزولي في مطار أثينا لأول مرّة في حياتي؟ هل كان صدفة أن يقع نظري على كتاب المسبحة؟ وهل كان صدفة أن يوقظ محتوى هذا الكتاب في قلبي ونفسي سلسلة من الأسئلة، وباقة من الذكريات؟
في اليوم التالي بعد الظهر وأثناء المشاركة في هذا المؤتمر – قسم الشرق الأوسط، وقبل أن أبدأ بمداخلتي المتواضعة تذكرت النفري في مقولته “الإنسان معنى الكون”.
فقلت باختصار شديد: “غاية الإنسان في هذا الكون أن يعطي لوجوده المعنى، والمعنى من وجود “هيئة الأمم” أيها السادة أشبه بالسُّبحَة Rosary حبّاتها الدول الأعضاء وخيطها ميثاقها وهذا الخيط الذي يجمعها هو رسالتها ودستورها والذي يتضمن معنى “جنين الحدس الأخلاقي الرفيع”، فعلا التصفيق في القاعة بشكل لافت.
مرت ثمانية عشر عاماً على تلك السفرة احتفظت خلالها بهذا المخطوط الثمين، إلى أن آن الأوان ليرى هذا المقال النور على صفحات مجلة “ الضحى” الغرّاء.
إرث إنساني
المسبحة إرث فني بديع متغلغل في التراث الإنساني، قديمه وحديثه، كما إن لها وظائف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة السائدة أو بالأرقام والعدّ والحساب، وهي زينة شخصية ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية ومفخرة منزلية وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعامل مساعد على تهدئة الانفعالات النفسية، علماً أن الأعصاب تنتهي برؤوس الأنامل، لذلك فهي رياضة لطيفة تسلي الأصابع التي تريد أن تبقى ساكنة بحبّاتها.
وللمسبحة أسواقها العامرة وخامات متفاوتة وهي تختلف كثيراً في ما بينها من حيث الندرة والقيمة والجمال والإبهار. وحرفة تصنيع المسابح تستلزم مهارة وإبداعاً في آن معاً، مثلها مثل مهنة تصنيع الحُلِي الذهبية، بل هي كذلك، فبعضها جاوز سعره ثمن قلادات ذهبية، مما يفرض صونها وحفظها في الخزائن الحديدية ومجموعات المقتنيات النفيسة.
وتقول بعض كتب التاريخ إن كهنة الصين والهندوس كانوا أول من ابتدع السبحة، كذلك تشير الدلائل التاريخية إلى أن ظهور السبحة الدينية لأول مرة كان في الهند، في بداية القرن الخامس قبل الميلاد واستقى المسلمون الفكرة هذه من خلال احتكاكهم مع الشعوب الهندية من خلال التجارة والفتوحات.
دور الصوفية في انتشارها
لكن من المرجح أن أكثر من عمّم استخدام المسبحة هم العابدون والصوفيون بسبب حاجتهم لضبط التسابيح والأوراد بأعداد معينة، وكان التسبيح في الأصل يتم على أصابع اليد وغير ذلك، وغالباً ما يلجأ الذاكر إلى أصابع يده إن لم تتوفّر له السبحة، وهناك ثلاثة أحجام للسبحات، الأول 33 حبّة وهو الأكثر انتشاراً والثلثان 66 حبّة والسبحة الكاملة وتتكون من 99 حبّة بعدد أسماء الله الحسنى، هناك في حالات أخرى سبحات طويلة جداً تحتوي الواحدة منها على 999 حبة وبعض هذه السبحات تشترى كتذكارات أو لأغراض تزيين المكان.
تعريف المِسبحة أو السُّبحة
المِسبحة أو السُّبحة عبارة عن مجموعة من القطع ذات الأشكال الخرزية الحبيبية مع فواصل وقطع أخرى، حيث تتألف كلّها من حبات بعدد معيّن منظومة ومنتظمة في خيط أو سلك أو سلسلة، ويختلف شكل الحبّات ومادتها بحسب ذوق الصانع أو متطلبات الذين يطلبونها أو يبتاعونها لأسباب دينية أو اجتماعية أو لغرض اللهو أو التسلية. وقد اختلف أسلوب صنع السبحة عبر القرون حتى بلغ في التنوع في أيامنا ما لا يعدّ ولا يحصى..
وكما ورد في باب الحبيبات بالانكليزية، فإن كلمة beads (بالجمع) قد تعني عقداً أو مسبحة.
وقد استخدمت السبحة كما أسلفنا في أوراد الذاكرين والمسبحين بهدف أداء عدد معين من كلمات أو عبارات التسبيح لله تعالى في جلسة واحدة،. غير إننا لا ننكر تأثير الحضارات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط أو غيرها في مجال استخدامها لأغراض دينية أو لغرض العدّ والحساب لما هو مطلوب من الانسان في كافة شعائر الحياة الدنيا والمتطلبات الروحية الأخرى كما سنرى لاحقاً…
في الإصطلاح الصوفي
• ما أجمل قول الإمام “القشيري”: “التسبيح هو التقديس والتنزيه ويكون بمعنى سِباحة الأسرار في بحار الإجلال”.
• أما قول الشيخ الأكبر ابن عربي: “ فالتسبيح: هو قسم من أقسام الحمد ولهذا فإن الحمد يملأ الميزان على الإطلاق وسبحان الله وغير ذلك من الأذكار تحت حيطة الحمد. حقاّ إنه تسبيحة صلاة.
حسب الصوفية، فإن السبحة هي رفيقة العبادة والأذكار، وهي وسيلة الاستغراق وطاردة الغفلة وقد وصل بها رجال حضرات أسرار الجمال، فسهروا بها الليالي وقطعوا بها سبل التقرب من الله.
لهذا اهتمّ بها المسلمون وكرّموها وأظهروا حبهم لها وأنشأوا في مدحها القصائد، لقد كانت السُّبحَة عند الصفوة رمزاً لسلوك الذكر وحب الذاكرين للسبحة هو من قبل تقدير وظيفتها الخاصة إذ تساعدهم على الاستغراق في الذكر وفي الاستغفار وكل ذاكر يدرك أن عليه أن يستغرق في عبادة الله مئات المرات وأحياناً أكثر بكثير في طريق التوبة والاستقامة على الصراط وكل ذلك بمساعدة السبحة .


السبحة عبر التاريخ
منذ آلاف السنين ومنذ كان الإنسان القديم يسكن الكهوف وعثوره بطريق المصادفة أو الحَفر على أحجار مُلونة هنا وهناك، فلا بدّ أن هذه الأحجار سحرته بجمالها وألوانها وبريقها فألهبت خياله، ومن أقدم الأحجار والمواد التي استخدمها الإنسان قد عثر عليها في قبور ترجع الى آلاف السنين.
ويذكر أن فكرة التواصل مع هذه الأحجار والمواد ومن ثم خرقها وتجميعها وربط بعضها ببعض بخيط، كانت البداية الأولى بهدف التزين وخاصة أن الحفريات أظهرت أن مثل هذه القلائد كانت في الأعناق تدفن مع الموتى… ولا سيما النساء…
وقيل في ذلك الزمن إن معرفة هوية الهيكل العظمي للمرأة ممكن من خلال تمييز القلادة المعلقة في عنقها. ويعتقد بعض المؤرخين أن فكرة المِسبَحة بدأت عند السومريين قبل خمسة آلاف سنة ومن ثم انتقلت الى بقية الحضارات الأخرى كالفرعونية والهندوسية والفارسية وغيرها من الحضارات اللاحقة. وبرهن على ذلك المكتشفات الأثرية لقلائد وعقود الذهب واللازورد Lapis Lazuli والكورنيليان والفيروز والرخام والعظام في مختلف الحضارات القديمة.
وكان لتطور المعتقدات الروحية والأساطير أثر لافت يومِئ إلى شغف إنسان الحضارات القديمة بهذه المنتجات الطبيعية الجميلة، إذ كان يعتقد أن للأحجار الخضراء اللون تأثيراً يمنع الأمراض، بينما تساعد الحمراء على تخفيف النزيف والالتهاب وحجر العقيق للقبول والإقناع وجلب الحظ وحجر الملكيت للتخدير وللحماية من السحر، أما حجر الياقوت الأزرق فهو رمز العفّة وعلاج لفورات الغضب، والفيروز للنصر وتبيان حالة الإنسان النفسية عند تغير ألوانه، والكهرمان لامتصاص الأمراض من جسم الإنسان ولطرد الأرواح الشريرة. أما المرجان فكانت له أهمية مميزة زمن الحضارة الإغريقية، وكان للعقيق الأحمر فضل كبير عند الرومان حيث استخدم في القلائد والعقود والأختام وغيرها.
أما عند الفينيقيين فقد انتشرت القلائد والأحجار الكريمة بكثافة واستخدمت في مجال المقايضات والتبادل التجاري، وبعد ظهور الدين المسيحي وانتشاره تعلّق الرهبان والناس بالقلائد كرمز ديني، وأكثر ما استخدمت كقلائد بشكل صلبان، فأخذ الرهبان من أديرتهم يستخدمونها في صلواتهم وأصبحت رمزاً مقدساً وما زال نموذج “المِسبحة الوردية” حاضراً لامعاً.
الحديث يطول عن استخدام المسبحة في عصور الاسلام وتطورها، اللافت أن الناس على مرّ العصور كانت تصنّع الأحجار الكريمة كأختام ومسابح وقلادات وغيرها كما مرّ معنا سابقاّ ولقد اشتهر أبو الريحان البيروني بكونه من أشهر علماء العرب في المواد والأحجار الكريمة وذكر ذلك في كتابه


«الجماهر في معرفة الجواهر».
كثيرة هي المراجع التي تشير إلى أن اسم المِسبَحة كان مدرجاّ في أوائل العصر العباسي، فقد ذكر في بعض المصادر ( كتاب مشهد الإمام علي في النجف. مؤلفته سعاد ماهر/ عن دار المعارف
“زينة شخصية ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية ومفخرة منزلية وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعــامل مساعد على تهدئة الانفعــالات”
في مصر/ ص188/ص 189) أنه في السنة الثالثة للهجرة، ولما وقعت غزوة أُحُد وقتل فيها أقوى حماة الإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعظمت المصيبة على المسلمين وقد ناحوا عليه في كل مأتم، وقيل اتسع الأمر في تكريمه إلى أن صاروا يأخذون من تراب قبره يتبركون به “ويعملون السُبحات منه”. والواقع لم نجد مصادر أخرى تثبت هذا الخبر.
وفي العصر العباسي وما تلاه من الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس ومن ثم في فترات حكم المغول والبويهيين والسلاجقة، وانتقال الحكم للفاطميين والمماليك في شمال أفريقيا، انتشرت طرق الحركات الصوفية وحركات الدراويش والدروشة واتباع هذه الطرق يحملون المسبحة ويتبركون بها ويعدون بها أسماء الله الحُسنى وأثناء التشهّد يحملونها أيضاً في تجمّعات الذكر والتهليل، وكانت تتكوّن من العظام أو الخزف أو الأتربة المعجونة والأخشاب والصدف، وبعض مسبحاتهم تتألف من 99 حبة زائد الفواصل والمنارة والبعض الآخر يتألف من ألف حبة وقد تصغر الحبات أو تكبر حسب التقاليد السائدة في كل مرحلة، ويعتقد بعض أتباع الصّوفية أن المسبحة تفيد في العد عند الذكر المتكرر لأسماء الله الحسنى. وقد تطور استعمال المسبحة آنذاك حتى انتقل حملها باليد أثناء المجالس الخاصة بالصوفيين وأحياناً الى العنق أثناء التجوال أو بعد الانتهاء من الصلاة والتسبيح. وما زال منظر الصّوفي أو صاحب الطريقة والذي يعلق مِسبحته في عنقه ماثلاً الى هذا اليوم في مصر والعراق والمغرب وتونس الخ…
وزاد انتشار المسبحة في العهد العثماني وفي النصف الثاني منه بشكل كبير، وخصوصاً في تركيا والعراق وايران ومصر وبلاد الشام وبعد أن انتشرت المسبحة المختصرة (33 حبة) وكان بعض مواد إنتاجها متوافراً محلياً والبعض الآخر يستورد ويطلب تصنيعها مثل مسابح الكهرب التي كانت تستورد من ألمانيا أو غيرها.
وفي بداية هذا القرن والى وقتنا الراهن وبعد التطور الصناعي الكبير وازدياد الثروات أنتجت المسابح بشكل كبير ومن مواد متنوعة قد تنوف على المئة، وخصوصاً من المواد الرخيصة، ودخلت في مجال تصنيعها أمم وشعوب جديدة، مثل دول الشرق الأقصى وأوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية والصين والهند ودول أفريقيا حتى إن البعض شبهها بأقرب ما يكون الى الهجمة الخارجية في تصنيع المسابح بسبب ازدياد تصنيعها في خارج المراكز الاسلامية.
مع الإشارة الى أن السبحة لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام، حيث قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، غير إن بعض الصحابة استعانوا بعد ذلك في تسبيحهم بما يساعدهم على ضبط العدد مثل النوى والحصى والخيوط المعقودة، وفي العصر الأموي ظهرت السبحة، ثم ومع توسع الفتوحات الإسلامية وازدياد الثروات برع الصناع في تصميم السبح من الجواهر والأحجار الكريمة، فحوت خزائن الخلفاء الراشدين والحكام المسلمين أجمل نفائس السبح.
ولعلّ من أشهر السبحات تلك التي استعملتها زبيدة بنت جعفر المنصور، والتي صنعت من ياقوت رُماّني على هيئة بندق والتي اشترتها بخمسين ألف دينار، كما كانت لدى العديد من الأمراء في العصر الفاطمي سُبح نادرة وثمينة، كذلك فإن السُّبحَة الأكثر استخداماً تتألف من 99 حبة أو خرزة وفقاً لعدد أسماء الله الحسنى، وهي تكون مكونة من “الإمام” أو “المئذنة” أي رأس السبحة، والشاهدين الفاصلين اللذين يختلفان عن باقي الخرزات، الأول منه يكون موضعه بعد الخرزة الثالثة والثلاثين، والثاني بعد الخرزة السادسة والستين، أما نهايتها فهي عبارة عن كتلة على رأس “الإمام” أو “المئذنة” تكون مصنوعة من الفضة أو عقدة من خيطها، وبالعادة تعلق على رأس السبحة شرابة نسيجية أو معدنية.
يقول الباحث والمستشرق الألماني جولد زيهر، إن السُّبحَة لم تنتشر في الجزيرة العربية، إلا في القرن الثالث الهجري عن طريق مصر، بينما ذكرت الموسوعة الإسلامية أن أول استعمال للسبحة كان في أوساط الصوفية، وبين الطبقات الدنيا للمجتمع، وقد ارتفعت أصوات بإنكارها في القرن الخامس عشر الميلادي، إلا أن أكثر العلماء أفتوا بعدم وجود مانع من استخدامها.
وإذا كانت السُّبحَة مظهراً من مظاهر العبادة في مختلف الأديان إلا أن عدد حبّاتها يختلف من ديانة الى أخرى. فغالبية المسلمين يؤمنون بأن عدد حبّات السبحة إما 33 حبّة حسب الذكر الذي أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام، أو 99 وهو عدد أسماء الله الحُسنى، بينما السُّبحَة لدى الصّوفية هي 100 حبّة مزودة بعدادين الأول خاص بالمئات والثاني خاص بالألوف، هذا فضلاً عن محبس لمئات الألوف حتى يصل عدد التسبيح من مليون الى مائة مليون. أما السبحة عند المسيحيين فيتراوح عدد حبّاتها بين 45 حبّة، ويعلّق في نهايتها صليب. أما سبحة اليهود فيتراوح عدد حبّاتها ما بين 17 حبّة، و21 حبّة.


والطريف وكما يقول العاملون في صناعة السُبح في مصر، هو أن السائحين الأجانب أخذوا عن المسلمين عادة استخدام السبحة، وتكرار حركة الأصابع أثناء التسبيح كعلاج نفسي للقلق، ولتحقيق انتظام ضربات القلب كما يقولون وكما يفضل البعض سواء من المسلمين أو الأجانب شراء السبح الكبيرة واستخدامها في الديكور، سواء المُصنّعة من خشب الأرو أو الزان أو المصنوع من الخزف الأزرق أو الأخضر وقد كتب عليها أسماء الله الحسنى. وتعدّ المملكة العربية السعودية من أكبر أسواق بيع وشراء السبح في العالم، حيث يصل حجم مبيعات السبح فيها الى نحو مئة مليون ريال سنوياً، كما باتت الصين والطريف وكما يقول العاملون في صناعة السُبح في مصر، هو أن السائحين الأجانب أخذوا عن المسلمين عادة استخدام السبحة، وتكرار حركة الأصابع أثناء التسبيح كعلاج نفسي للقلق، ولتحقيق انتظام ضربات القلب كما يقولون وكما يفضل البعض سواء من المسلمين أو الأجانب شراء السبح الكبيرة واستخدامها في الديكور، سواء المُصنّعة من خشب الأرو أو الزان أو المصنوع من الخزف الأزرق أو الأخضر وقد كتب عليها أسماء الله الحسنى. وتعدّ المملكة العربية السعودية من أكبر أسواق بيع وشراء السبح في العالم، حيث يصل حجم مبيعات السبح فيها الى نحو مئة مليون ريال سنوياً، كما باتت الصين




نتركه في النهايات، إني أحب أن أذكر الله بقلبي ويدي ولساني.
وقال محمد المير في رسالته: قال الشيخ أبو العباس الرواد: تبيّن من قول الحسن إن السبحة كانت موجودة في زمن الصحابة لأن بدايته في زمنهم.
وقال ابن الجوزي: إن السُّبحَة مستحبة لما في حديث صفيّة أنها كانت تسبّح بنوى أو حصى وقد أقرّها (صلى الله عليه وسلم)على فعلها والسبحة في معناها إذ لا يختلف الغرض عن كونها منظومة أو منثورة.
وقال الإمام السيوطي: وقد أخذ السُّبحَة سادات يشار اليهم ويؤخذ عنهم ويعتمد عليهم فلو لم يكن في اتخاذها غير موافقة هؤلاء السادة والدخول في مسلكهم لكفى.
وذكر القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان في وفيّات الأعيان أنه رؤي في يد أبي القاسم الجنيد بن محمد يوماً سبحة فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سُبحَة؟ قال: طريق وصلت به الى ربي لا أفارقه.
هواية جمع المسابح
على غرار هوايات جمع الطوابع وجمع العملات القديمة والتذكارات، هناك من يهوى جمع المسابح سواء ما اختلف نوع مادتها وشكلها ولونها أم ما انطبق منها وخصوصاً في بعض بقاع العالم الاسلامي والعربي، وفي هذا الجانب فقد تجد من الناس من يذكر لك هوايته المحببة هذه ويسرد عدد مسابح الكهرب أو غيرها من المواد التي يملكها، مفصلاً عن مواصفاتها وجمالها وألوانها ومعاناة جمعها وبدايات هوايته هذه وتلك التي فقدها وروايات شتى تكاد لا تنقطع ولا تنتهي تدور حول تعلّقه بالشخصيات الاجتماعية أو السياسية التي تملك أنواعاً معينة من المسابح النادرة، وكيفية أو تاريخ اقتنائها وما الى ذلك، حتى إن البعض يذهب بعيداً ويضع الخطط في كيفية الحصول على مسبحة نادرة موجودة عند بعض الأشخاص سواء بشرائها أو بطرق اخرى، وهكذا فقد يجلب حب المسبحة مواقف طريفة أو محزنة على حدٍ سواء وبسبب هذه الهواية وهذا الاهتمام نشأت للسبحة أسواق وباعة مختصّون خصوصاً في بعض الدول العربية والاسلامية التي تركزت بها الحضارات القديمة مثل أسواق العراق – بغداد، وكربلاء، والنجف، والكاظمية – وغيرها، وفي مصر – أسواق القاهرة (خان الخليلي وغيرها) وفي السعودية ودول الخليج العربي وتركيا وبلاد الشام وايران والأردن ومناطق أخرى لا حصر لها.
أبو نواس يعترف بفضلها
إن عراقة المسبحة في الشعر العربي ترجع الى ما يزيد على ألف عام، منذ العصر العباسي، فأبو نواس عندما حبسه الأمين، لمجونه وخلاعته، وانقذه من السجن – الفضل بن الربيع- وأظهر التوبة لزم بيته قال شعراً جاء فيه:
أنت يــــــــا ابــــــــــــــن الربيع ألزمتني النُســــــــــــــك
وعـــــــــــــــــــــوّدتنِيــــــــــــــــــه والخــــــــــــــــــــــير عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
فارعـــــــــــــــــــوى باطلي واقصر حبلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدلّت عِفــّــــــــــــــــــــة وزهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
لـــــــــــو تراني ذكرت بي الحسن البصري
مسبحة من الفضة الصافية
في حســـــــــــــــــــــــــن سمـــــــــته أو قتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
مــــــــن خشــــــــــــــــــــــــــــــــوع أزيّنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بنحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول
واصفــــــــــــــــــــــــــرار مثــــــــــــل اصفــــــــــــرار الجــــــــــــرادة
المســـــــــــــــــــــــــابيح في ذراعـــيّ والمصـــــــــــــحف
فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي لبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــتي مكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان القـــــــــــــــــــــــلادة
ولقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد طالمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لقيــــــــــــت ولكـــــــــــــــــــــــــــن
أدركتني على يديــــــــــــك الســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعادة
كما ذكرت السبحة في الشعر العربي كما في قول ابن عبد الظاهر:
وسبحـــــــــــــــــــــــة فــــــــــــــــــــــي أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــامــــــــــــــــــــــــــلي قــــــــــــــــــد شـــــــغفــــــــــــــــــت بحبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها
مثــــــــــــــــــــــــــــــــل مناقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير غـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدت ملتقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطات حَبُّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كما قال فيها شاعر:
ومنظومـــــــة الشمل يخـــــــــــــــــــلو بــــــــــــــــها اللبيب فتــــــــــــــــــــــــــــــــــجمع فـــــــــــــــــي همتــــــــــــــــــــــــــه
من المهم الإشارة الى أن “السبحة” لها “كرامتها” فلا يجوز أن تعار أو تنقل في المجالس من يد الى يد.


الخاتمة
علّمتني السُّبحَة أن على المرء أن يدرّب نفسه على اقتناص نبض الحواس الخمس يضاف اليها عين البصيرة، متجهاً نحو الأقاصي العميقة من نداءات الذات، منتصراً للعميق فيه وفي الإنسان عموماً.
علمتني المسبحة أن التساؤل تقوى الفكر. يقول اليابانيون إن المياه تحكي قصة وهي تجري، وأن حبات السبحة سمفونية بين أنامل العارفين. ومن أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزها ما بين البصر والبصيرة، فالبصر مركزه العين، يحصر كل همّه في التقاط أشكال الأشياء وألوانها ومن أشكالها وألوانها يحاول العارف أن ينفذ الى كنهها، في حين أن البصيرة مركزها القلب والوجدان، همها الأول الوصول الى بواطن الأشياء دون التلهّي بمظاهرها، في كلا النموذجين “المِسبَحة- السُّبحَة نموذج”، بإسقاط الضوء على منطقة المعنى…
يقول الفيلسوف الهنغاري جورج لوكاش في كتاب عنوانه “الروح والأشكال”:
“ على من بدأ بحثاً أن ينهيه…” وان كل شيء فيه روح وإن لم تصدِّق، وهكذا الحال مع السُّبحَة وأقوال العلماء التي وردت في النص تأكيد على ذلك، أفما قيل: “آمن بالحجر تبرأ…!” فكيف اذا كان حجراً كريماً صاغته الطبيعة وصقلته وهذبته أولاً أيدي صاغة محترفين. كان عرب اليمن يكتبون الحكمة في الحجارة طلباً لبقائها، فكيف اذا كانت هذه الحجارة مطعمة بأسماء الله الحسنى والتقطتها الحواس الخمس مجتمعةً تمجّد وتسبّح الخالق ليل نهار بكفٍ فارغ وقلبٍ مليء بحب الله تعالى.
لم يعد من كبير شكّ أن السبحة تتكلم بالهمس واللمس لا بالعبارة وتجيب بلسان الحال لا بلسان المقال، ويصدق فيها القول: التراث المحكي هو التاريخ المخفي. تعامل مع سبحتك تعامل أفلوطين مع الجمال والحكمة: انكفء الى نفسك وانظر فيها ملياً، فإذا لم تجد الجمال تصرّف عندئذٍ تصرّف النحّات الذي يسوّي ويصقل حتى يكون قد زيّن تمثاله بجميع صفات الجمال المقدس. والمسبحة بين أناملك “كالطبيعة تتحدث اليك اذا أردت ان تصغي إليها.”
قال ابن الفارض:
ولطفُ الأواني في الحقيقة تابع للطف المعاني والمعاني بها تسمو
ما رأيته بوضوح بالتواصل مع السبحة هو خطوة صغيرة كخطوات الطفل الأولى تؤدي الى الخطوة الثانية. لقد فتحت هذه التجربة حياتي على الشغف الى تحقيق الذات والايمان انه لا توجد حدود لما يستطيع الإنسان انجازه لو أدرك قوى العالم غير المرئي، والتي هي حقنا منذ ولادتنا.
لا شيء يحدث مصادفةً في أي مكان، لأن هذا العقل الكوني مستعدّ على الدوام، ويسير بطرق عجائبية من الاحتمالات الضخمة غير المحددة.
نعم كنت مفتوناً بفكرة أن الحياة محصورة بما أرى وأسمع بحواسي، لقد اكتشفت انني أستطيع أن أفعل ما كنت أظنه مستحيلاً…
ان كان للمرء عــــــــزمٌ في إرادته فلا الطبيعــــــــــــــــــــــة تثنيه ولا القــــــــــــــدر
وان الكتابة والتواصل مع الأشياء نوع من الوجود وملاقاة الآخر، ليس هناك إنسان ضعيف، انما هناك إنسان لا يعرف مواطن القوّة لديه، مع الإيمان المطلق بأن فلسفة الحياة أن تعطي معنى لكل ما تفعل.
دعوتي اليك يا أخي: حاول أن تسمع المعنى وأنت تسبّح بالسبحة.
مسك الختام، ما وجدت أفضل من: سبحان الله، والحمدلله ولا اله إلا الله والله أكبر.