النبي أيّـوب(ع)، هـو من أنبياء اللـه الذين ذكرهم القرآن الكريم في سورة النساء وذكر نبوّتهم بقوله: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط وعيسى وأيوب…). فقـد كان تقيّاً ورعاً رحيماً بالمساكين، يدعو قومه إلى عبادة اللـه الواحد الأحد. فقـد ارتبطت سيرة النبي أيوب بالصبر على البـلاء، وضُربت به الأمثال في كل الأديان، لمـا لحـق بـه مـن ابتلاء وصبره على هـذا الابتلاء. فقد اختبره الله سبحانه وتعالى في صحّتـه وفي أهله وفي رزقه. ولم يكن نبي الله أيّـوب إلاّ أن يصبـر على كل تلك الابتلاءات، حتى رزقـه اللـه بعـد ذلك الفـرج في كل أمـر قـد ابتلي به. والنبي أيّـوب هو الشخصية الرئيسة في كتاب التوراة (الكتاب المقدّس – العهد القديم- سِفر أيوب). ويُعتبر أيـوب أحـد أنبياء الأديان الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام.
قصّـة النبي أيّـوب(ع)
كان أيوب رجلاً كاملاً ومستقيماً، يتّقـي اللـه ويحيـد عن الشـرّ. وُلِـد له سبعة بنيـن وثلاث بنـات. كان غنيّاً وكانت مواشيه سبعة آلاف مـن الغنـم وثلاثة آلاف جمـل، وخمسمئة فـدّان بقـر. وخمسمئة أُتـن، وعبيـد وخـدم، والأراضي المتسعة من أرض البثنيّة المجاورة لحوران والجولان من بلاد الشام. وكان هـذا الرجل أعظم بني المشـرق. وبعـد أن عاش سبعين عاما بالعـزّ والجـاه. حسـده إبليس اللعين، فسلّطه اللـه على بنيه ومواشيه فسُلِـبَ منـه جميـع ما يملك، وابتُلي بأمـراض في جسـده، ولـم يبـقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكـر اللـه بهما. والبلاء الذي أصيب به والصبر الذي أبداه يفوق طاقة البشر. فسجـد على الأرض وقال: «عـرياناً خرجت من بطن أمّي وعرياناً أعـود إلى هناك، الرّب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً».
وطال مـرض النبي أيّـوب، حتى عافـه الجليس وأُوحش منه الأنيـس، وانقطع عنـه الناس وأُخـرج من بلـده، وابتعـد عنه قومـه لأنهم اعتبروا أن الأنبياء يجب أن لا يصابوا بتلك الأمراض. ولم يبـقَ أحـد يحنو عليه سـوى زوجته «رحمـه» التي كانت تخـدم الناس بالأجر لتقوم بأوْده، وهي صابرة معـه على ما حـلّ بهمـا من فـراق المال والولـد.
فلمّا علم أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشـّر الذي أتى عليه. حضر كل واحد من مكانه. اليفاز التيماني وبلـدد الشوحي وصوفر النعماني، وتواعـدوا على أن يأتوا إليه ليرْثوا لـه ويعـزّوه. وعندما نظروا إليه من بعيد لم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم ومـزّق كل واحد جبّته، وقعـدوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليالٍ. ولـم يكلمه أحـد بكلمة، لأنهم رأوْا أن كآبته كانت عظيمة جـدّاً.(1)
عانى نبي اللـه أيّـوب كثيرا من الأمراض التي أصيب بها، ومكث في بلـواه مـدّة سبع سنوات، وقيل أكثر من ذلك. وكان أيـوب يستحيي أن يطلب من اللـه ما قـد يكون خلاف إرادته واختياره. ويستحيي من الدعاء لتفـريج الكَـرب. لأنه كان يعلم أن اللـة سبحانه وتعالى يبتلي عبـده، ليس جزاء وعقاباً، بل اختباراً لصبره وإيمانـه. فقالت لـه زوجته: «أنت متمسكٌ بعـدُ بكمالك، بارك الله، ومـتّ». فقـال لها: «تتكلمين كلاماً كإحـدى الجاهلات، أألخيرَ نقبلُ من عنـد اللـه والشّرَّ لا نقبـل؟». وقـد اشتـد عليه المـرض. فـدعا النبي أيّـوب ربّـه أن يـزيل عنه الضُـرّ وتسلّط الشيطان. وقـد جـاء في القرآن الكريم، في سورة الأنبياء: «وأيّوب إذ نادى ربّه، إني مسّني الضُرّ وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا لـه، فكشفنا ما به من ضُرّ، وأتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين».
وجـاء في القرآن الكريم أيضاً وفي سورة (ص): «وأذكرْ عبدنا أيوب إذ نادى ربّه إني مسّني الشيطان بنُصُبٍ وعـذاب، اركضْ برجلك هـذا مُغْتَسل باردٌ وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لأولي الألباب، وخـذ بيدك ضِغثاً فاضرب بـه ولا تحنث، إنّا وجـدناه صابراً، نعـم العبدُ إنه أوّاب».
فقـد استجاب الله سبحانه وتعالى لعبـده الصبور أيوب، وأوحى إليه بالعلاج من الأمراض التي ابتُلي بها. فأمره «أركض برجلك»، أي أضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أُمِـر به. فأنبع اللـه له عيناً باردة من الماء، وأمره أن يشرب من مائها ويغتسل. فأَذهب الله عنـه ما كان بـه من الألـم والسّقم والمرض والأذى. فتـمّ شفاؤه وعاد إلى كامل صحته، ومنحه اللـه بعـد ذلك صحّة ظاهرة وباطنة وجمالاً ومالاً كثيراً ورزقاً مضاعفاً. وكانت زوجته من الصابرين. وقـد غابت عنـه فترة، وعندما عادت رأته نَضِراً كما لم يكن سقيماً من قبل. فحمـدت اللـه على ما أنعم عليهما.
عاش النبي أيّـوب في أرض عَوْص وهي أرض البثنيّة المجاورة لبلاد حوران والجولان ما وراء الأردن. وقيل أنه عاش أيضا في أرض آدوم، التي هي الاسم القديم للبلاد الواقعة بين جنوب فلسطين وخليج العقبة. وجاء في بعض المراجع أن النبي أيوب عنـدما توفّي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة. لكن جاء في كتاب التوراة في سفر أيوب: «عاش أيوب بعد هـذا مئة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال».(2)
النبي أيّوب(ع) عاش التحدّي للمحن والبلايا في كل أشكالها وصورها، وما وهنت عزيمته، فكانت لديه قوة العقيدة والإيمان وعزيمة الثبات. فقـد اختبره اللـه سبحانه وتعالى اختبارات قاسية، فنجح وفاز فوزاً عظيماً جليلاً. فهنيئاً له بهذا الفوز وهنيئاً بشهادة اللـه بقوله تعالى: «إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوّاب». فهي شهادة في الصبر والرجوع إلى اللـه سبحانه في الشدة والرخاء والرضى والتسليم والتسبيح والتمجيد. وكانت عقيدته حاضرة ولم يضعف، لأنه كان قويّاً في إيمانه ويقينه. وبقيت نفسه صافية نقيّـة، لا تحمل ضغينة أو كراهية على أحـد. فاستحق بجدارة أن يكون مثلاً أعلى وقـدوة صالحة في عنوان الصبر.(3)
سـِفـر أيّــوب
سـِفـر أيّـوب هـو أحـد أسفار العهد القديم من كتاب التوراة حـول ( سنة 400 ق.م). يحتوي على 42 إصحاحاً في خمسة فصول. يذكر الفصل الأول تقوى أيوب وصفاته وأقاربه وأملاكه. ويتضمن الفصل الثاني ما جرى بينه وبين أصحابه الثلاثة من جدال. ويشير الفصل الثالث إلى ما نطق به أصحابه من حكمة. ويبين الفصل الرابع مخاطبة اللـه له. فيما ينص الفصل الخامس على الخضوع لإرادة اللـه وتعويض ما فاته من الأهل والمال. قصة النبي أيوب تعرض مشكلة الشر في العالم، ولا يجـد لها حـلاّ إلاّ في الخضوع للـه سبحانه وتعالى. والكتاب من آيـات الأدب الشرقي وأغناها شاعـرية، وأعمقها معرفـة بالإنسان(4).
وعن سفر أيّوب قال كارليل ما يلي: «وأنا أقول عنه إنّه أعظم ما خُطّ بالقلم. فهو كتاب نبيل وكتاب الناس أجمعين. وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها – مشكلة مصير الإنسان وتصرّف الإنسان معه على هذه الأرض. وأن لا شيء في التوراة أو في غير التوراة يضارعه في قيمته الأدبية. وقامت هذه المشكلة بسبب اهتمام العبرانيين بأمور هـذه الدنيا. لأن الجنّة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة. فقد كان من الواجب أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم. وإلاّ لم يكن لها ثواب على الإطلاق. وكثيراً ما يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون، وأنّ أشـدّ الآلام قد اختُصّ بها خيار الناس»(5).
بـلاد عـوص وحوران
ينتسب الآراميون إلى آرام بن سام بن نوح، وكان لآرام من الولد (عـوص وحُـول وجاثر وماش وأدمت)، وقـد أقاموا في دمشق وأنحائها ولا سيّما سوريا المجوّفة. سكن عـوص بلاد اللجا في حوران، وهي التي ذكرها الكتاب أنها أرض أيّوب الصدّيق. وهي المسمّاة «أرجوب وتراخوتينس» وذكرت الآثار المصرية اسم شعب (عوصو) في حوران واللّجا. ويقال أنّ عوص هـذا بنى مدينـة دمشـق(6).
مقام النبي أيّـوب
يقع مقام النبي أيّوب(ع) على تلّة مشرفة فوق بلدة نيحا الشوف، في مكان رائع الجمال وغني بالمناظر الطبيعية وكثافة الأشجار الحرجيّة وبخاصة أشجار السنديان المعمّـرة. يعلـو عـن سطح البحر 1400 متر، وعن بلـدة نيحا 300 متر. يقوم البناء على قناطر حجرية عالية بنيت بالحجر الأبيض المنحوت. يتألّف من ساحة رئيسة مُحاطة بعشرين غرفة من جميع جهاتها، وفي أعلاها غرفة المقام، عالية السقف ومكسوة أرضها وجدرانها بالسجاد. يدخلها الزائر بعد خلع الحذاء في الخارج. والنبي أيّوب هو من الأنبياء المكرّمين لدى طائفة الموحدين الدروز، يزورون مقامه هـذا للتبرّك. ويُقال أنّ النبي أيوب، عندما ابتلاه اللـه بأمراضه وفقره تجربة وامتحاناً لصبره وإيمـانه، نقلته زوجته «رحمـه» إلى هـذا الموقع، ثم نزلت إلى بلدة نيحا تطلب خبزاً. ربما كان ذلك حقيقة لأنّ النبي أيوب عاش في أرض عوص المجاورة لبلاد حوران والجولان. وتبعد عن بلدة نيحا الشوف مسافة 12 ساعة سيراً على الأقدام(7).
ليس لدينا ما يشير إلى تاريخ بناء المقام فوق بلدة نيحا، والذي يزيد في غموض تاريخ بنائه، خلو الوصايا التي تعود إلى نحو مئتي سنة من ذكر المقام. ففي وصيّة الشيخ أسد بن زين الدين يقظان من قرية بعذران، المؤرخة سنة 1220هـ/ 1805م، فقـد أوصى بما يزيد على خمسين حسنة نقدية لمقامات ومزارات وخلوات ومجالس وأشخاص، بحسب العادة التي كانت متبعة آنـذاك في تحرير الوصايا. ولم يرد ذكر لمقام النبي أيوب. ووصية الشيخ حسون الدبيسي من قرية مرستي المؤرخة سنة 1226هـ/ 1811م. فقد أوصى أيضاً بما يزيد على ثلاثين حسنة نقدية، لمقامات ومزارات وخلوات ومجالس وأشخاص. ولم يرد ذكر لمقام النبي أيوب. لكن الدكتور شاكر الخوري يُعتبر أول كاتب يشير إلى مقام النبي أيوب، والذي زار المقام في العام 1858 برفقـة سعيد بك جنبلاط. والدكتور شاكر كان طالبا يتابع دراسته في مدرسة المختارة التي أنشأها سعيد بـك. ويذكر الدكتور شاكر أنه في سنة 1858م، توجه مع البيك (سعيد بك جنبلاط) وأولاده وباقي حاشيته إلى نيحا ومكثوا مـدّة شهرين، وكان البيك يسكن الصواوين ويتوجه كل يوم صباحا مع الصيادين لصيد الحجال. وفي أحد الأيام أراد البيك أن يزور مقام النبي أيوب، فتوجه الدكتور شاكر وسعيد بك وأولاده وجميع أفراد الحاشية للزيارة، وبعد تناول طعام الغداء عادوا جميعهم إلى بلدة نيحا(8). وهـذا ما يشير إلى أن بناء المقام ربّـما قـد تم خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وللنبي أيوب(ع) مقام أيضا في بلدة قنوات في سوريا، محافظة السويداء. ويوجد أيضا مقام وضريح للنبي أيوب في بلدة صلالة من بلاد عُمـان، فـوق قمّـة جبل أتين العالي(9).
زيارة مقام النبي ايّوب السنويّة
مـن أجل إحياء ذكرى النبي أيوب «ع»، تتـم زيارة سنوية للمقام في يوم محدد من بداية شهر أيلول من كل عام، من قبل عدد غفيـر من الشيوخ الموحدين وبالتنسيق مع مقام مشيخة العقل. للصلاة والمذاكرة الدينية والتباحث بأمور عامة تتعلّق بشؤون الطائفة الدرزية. وكانت الزيارة تتـم عادة في المساء، ويطلق عليها «سهرة النبي أيّوب». لكن مع بداية الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975، أصبحت الزيارة تتم في وضح النهار. ومنـذ سنوات عـدّة عمـل الشيخ محمّد أبو شقرا (1910- 1991)، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، على تكريس يوم الواحد والثلاثين من شهر آب من كل عام عيداً سنويّاً للنبي أيوب، حيث يُقام احتفال في مبنى المقام فوق بلدة نيحا، بحضور ممثل عن كل من رئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي النواب والوزراء، ووزراء ونواب وسفراء وسياسيين وشخصيات مختلفة. وتُلقى الخطب بهـذه المناسبة تؤكّد على الرّمز الذي يجسّـده النبي أيوب وفضائله(10).
عندما تولى سماحة الشيخ نعيم حسن مسؤولية مشيخة العقل كان رئيس الجمهورية العماد اميل لحود مقاطعاً لقانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز وبالتالي حصل الشغور الرئاسي ونتيجة للظروف السياسية التي كانت سائدة توقفت تلك الاجتماعات واكتفى مشايخ الشوف الاعلى بإقامة سهرات دينية شهرية خلال فترتي الربيع والصيف.
أربعـاء أيّــوب
يوم الأربعاء الأخير من شهر نيسان من كل عام يطلق على هـذا اليوم «أربعاء أيّوب»، وفي اللغة العامّية «أربعة أيّوب». هـذه المناسبة هي طقس شعبي عربي للإستشفاء بمياه البحر. ومن العادات والتقاليد الشعبية والأعياد المتصلة بفصل الربيع. كأعياد الفصح والنيروز وشم النسيم. والتي يُحتَفل بها في بداية شهر نيسان من كل سنة مع قـدوم فصل الربيع. وتردد العامّة «في نيسان بتصير الدني عروس وبيخف الغطا والملبوس». ويحتفل عدد كبير من المسلمين والمسيحيين في هذا اليوم في لبنان وسوريا ومصر. وذلك بالنزول إلى البحر والاغتسال بمائه. وفي الماثورات الشعبية أنّ النبي أيوب عثـر في بلواه على عشـبة يطلقون عليها «حشيشة أيّوب»، وهي عشبة العرعر المعروفة بفوائدها الطبية. فقد بلّها بالماء زمنا ثم استحمّ بنقيعها، فشُفي من الأمراض السبعة التي ابتُلي بها.
في هـذه المناسبة «أربعاء أيّوب» أو «أربعة أيوب»، كما يسمّونها. يحيي البيارتة «أهالي مدينة بيروت»، هـذا اليوم كتجسيد يؤكـد التصاقهم بتراث يقـدّم نموذجا عن قيم ترتكز على المحبّة والتلاقي في سبيل الخيـر. فقد اعتاد البيارتة الاحتفال بتلك الـذكرى على شاطئ البحر، في محلّـة تلال وشاطئ الرملة البيضاء وصخور الروشة وميناء الداليه في محلة شوران. تكريما للنبي أيوب لاحتماله وصبره على المصاعب والأمراض التي ابتُلي بها. كانت التحضيرات تبدأ قبل أسبوعين، فيقوم الشباب بتنظيف رمال الشاطئ ونصب الخيام والعرازيل وتوزيعها وفق المناطق والعائلات. وفي اليوم المحـدد تنطلق عند الفجر مواكب النساء والأولاد من كل الأحياء، وعند وصولهم تُمَـد الحُصُر والبُسط وتُصَف الكراسي والطبليات الخشبية، ويُحضرون معهم مأكولاتهم المتنوعة، وفي طليعتها حلوى «المفتّقـة»، وهي حلوى بيروتية تصنع من الأرز الناعم والسكر وطحينة السمسم ومسحوق الكُركم «العقدة الصفراء» ويحتاج طهيها إلى صبر وتقنيّـة. ويتساعدون في تحريكها، وتُهدى أطباق منها إلى الأهل والأقارب والجيران. ولا تعتبر الطبخة ناجحة إلا إذا بان «السـيرج» زيت السمسم على سطحها. وذلك للمشاركة وفقا لعادات وتقاليد توارثوها عن السلف، ويسعَون لنقلها إلى أبنائهم وأحفادهم، كبادرة تعيـد إلى الأذهان تقليـداً عايشـه الكبار ويحاولون نقله إلى الأجيال الشابّـة. ويتخـلّل المناسبة معـرض تراثي للأشغال الحرفية واليدويــة. حيث يقـدّم البعض أغاني ورقصات شعبية فولكلورية، ويطيّر الفتيان والصبية في الجـو طائرات ورقية تُصنع من الورق الملوّن وترتفع عالية في الفضاء وتُحرّك من الأرض بواسطة بكرة من الخيطان. ويمارس الشبان لعبة شـد الحبال. وينتشر بائعو الكعك واللوز والترمس وغزل البنات والتفاح المغلف بالمعلل، والنمورة والصفوف والسمسمية وغزل البنات. وعندما يحين موعد الاغتسال، تتجمع العائلات ويضرب الشبان طوقاً بشريّاً لمنع مرور الغرباء، وتنزل بعض النساء والفتيات بفساتينهن إلى الماء وتغطس كل واحدة سبع غطسات للتبارك، أو وفاء لنذر أو رجاءً أو طلباً للشفاء اقتداء بما فعله النبي أيوب. والبعض يغسل عيونه بماء البحر. ومنهم من يجمع زهوراً (حشيشة أيوب)، وهي حشيشة العرعر المعروفة، يبلّها في الماء ليلة الأربعاء المعهودة تحت الندى، وفي صباح يوم الأربعاء تُغسل وجوه الأولاد بمائها، وتُرش بهذا الماء لفك عقـدة إبليس من بين العيون. والبعض يمارس عادات وتقاليد، مثل: (أوّل قصّة شعر للمولود تتم في مياه البحر لنوال البركة – شرب سبع غبّات من ماء البحر أو الاغتسال بسبع موجات متتابعة تزيل مفعول السحر والربط – وتلجأ العاقر إلى البحر بأن تملأ فمها زيتا وتدخل البحر ثم تلفظ الزيت في مائه. ثـمّ تبدأ جلسات تدخين النرجيلة ولعب الورق والدومينو. وتُقَدَّم أقداح الشاي وفناجين القهوة والفواكه والمرطبات(11).
وفي بعض القرى اللبنانية، يطلقون على يوم (أربعاء أيوب) تسمية «أربعاء البراقطة» أو «أربعة البراقطة»، حيث تمشّط المرأة شعرها في الظلام فيكسبه لمعاناً وبريقاً. ويستعملون الاكتحال اعتقادا منهم أنّ وضع الكحل على العيون في هذا اليوم يقوّي النظر ويزيـد من صفاء العين وبريقها. ويستعمل بعض الرجال والنساء الكحل أيضاً على العيون، اعتقاداً أنّ ذلك يمنعهم من مشاهدة الأفاعي أثناء العمل في الحقول في فصل الصيف، على أن يتـم الاكتحال في الصباح وقبل شروق الشمس(12).
الكنيسة المارونيّة وأربعاء أيوب
في يوم أربعاء أيوب، تتأمّل الكنيسة المارونية «بأيّـوب» الرازح تحت الأوجاع والآلام والصابر عليها. نسمعه يقول: «عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود، الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً». في هذا اليوم تقيم الكنيسة رتبة القنديل، وتبارك الزيت وتمسح بـه جباه المرضى والمؤمنين. هـذه الرتبة في الأساس كانت سرّ مسحة المرض. يُمسح المؤمنون بالزيت الذي يرمز إلى الشفاء. والمسح بالزيت هو علامة حبّ الربّ للمتألّم والمعذَّب والخاطئ. نصلّي لنعرف كيف نسكب من المسيح النور، أنواراً في قلوب الحزانى وفي جلجلة كل مريض(13).
وذكر البطريرك الماروني في تأمّل قداس أربعاء أيوب ورتبة القنديل، أنّ الكنيسة تذكر في هـذا اليوم من أسبوع الآلام أيوب البار الرازح تحت الأوجاع والآلام والصابر عليها. فكل عطية صالحة هي من جودة اللـه. أمّا الألم فله معناه التكفيري عن الخطيئة الموجودة في العالم، في الفرد وفي الجماعة(14).
مقـامات ومزارات عـديدة
ليس مقام النبي أيّوب وحيداً على المرتفعات الجنوبية من بـلاد الشام. بل هناك مقامات ومزارات دينيّـة عـديدة، منها:
– مقام النبي صافي فوق بلدة جباع الحلاوي، على جبل صافي.
– مقام سجـد قرب بلـدة سجـد في منطقة جبل الريحان. وهذا المقام عليه قبّة، يـؤمه اليهود للزيارة.
– مقام النبي يعقوب في بلدة روم قضاء جزين، وهو المسمّى «مشهـد محيبيـب»، ويقال أنّ فيه قبـر بنيامين بن يعقوب.
– مقام النبي عازر قرب بلدة عازور في قضاء جزين.
– مشهد هارون في بلدة الخرطوم الواقعة في بلاد الشومر في ساحل صيدا، ينسب إلى هارون أخي موسى، كان يزوره اليهود.
– مقام النبي ميشا قرب قرية بنواتي في قضاء جزين.
– مقام النبي حنانيا فوق قرية بحنّين أيضاً(15).
المراجع:
1- الكتاب المقدس- العهد القديم- سفر أيوب -الإصحاح الأول ، ص 543
2- الكتاب المقدس- العهد القديم – سفر أيوب_ الإصحاح الثاني والأربعون
3- تأملات في سيرة النبي أيوب (ع)، المصلحة الدينية والتربوية في المجلس المذهبي، بيروت، 2012
4- المُنجـد في الأعلام، طبعة ثامنة ص 103
5- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ط 3 – 1965 ص391.
6- عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ البقاع وسوريا المجوفة، دار الفارابين بيروت، ج1 ص 233
7- رياض غنام، نيحا الشوف في التاريخ الأرض والسكان، طبع المجلس البلدي في نيحا ط 2 سنة 2018 ص 189
8- شاكر الخوري، مجمع المسرّات، تقديم الياس القطار، دار لحد خاطر، ط 2 – 1985 ص 30
9- رياض غنام، نيحا الشوف في التاريخ، م س ، ص 192
10- صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، 1994ص 244
11- عبد اللطيف فاخوري، مقال في مجلة الأفكار، العدد 407 تاريخ 7/5/1990 – زياد سامي عيتاني، مقال في جريدة الأنباء، 24/4/2019
12- أنيس فريحة، القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال، دار المكتبة الأهلية، ص 274
13- موقع القديسة رفقا على الإنترنت
14- جريدة النهار بتاريخ 8/4/2020
15- رياض غنام، م،س، ص 193