الياسميــن الأصفــــر الجميــــل ..القــاتــــل
كل جـزء منـــه سام وحتـــى رحيـــق الأزهـــار
مميت ليرقات النحـل والعامـــلات الصغيـــرات
تناول زهرات قليلة منه قد يصيبك بالشلل أو الموت
لكن طب الأعشاب صنع منه ترياقاً لكثير من الأمراض
كتب المحرر الزراعي
كم مرة صدف أن مررت بمنازل تزين أسوارها أو مداخلها صفوف من الياسمين الأصفر المنورة بأغصانها الطويلة المتدلية وأوراقها الخضراء ومجموعات الأزهار الصفراء التي تعطي لهذه الشجيرة زهواً مدهشاً، ومع هبوط الليل تطلق أزهار الياسمين الأصفر شذاها الرائع ليحمله النسيم العذب إلى النوافذ والشرفات. هذا بالطبع مطلع قصة الياسمين الأصفر فقط وليست القصة كلها لأن للحديث تتمة قد تبدو صادمة للكثيرين وخصوصاً أولئك الذين يتباهون بصفوف الشجيرة العطرة التي تعتلي أسوار حدائقهم أو مداخل بيوتهم.
تتمة القصة هي أن الياسمين الأصفر جميل قاتل بكل معنى الكلمة، لأن زهوره الصفراء تحتوي على سمّ هو من القوة بحيث يمكنه أن يقتل طفلاً بمجرد امتصاصه لزهرات معدودة. فما هي حقيقة هذه الشجيرة التي قد لا يخلو منها حي أو شارع في بعض قرى لبنان؟ وهل يبرر جمال زهورها الاحتفاظ بها بين أشجار الحديقة أم أن سُمِّيتها العالية تحمل مخاطر تجعل من المفضل التخلّص منها؟
لنبدأ بتوضيح مهم وهو أن الياسمين الأصفر Gelsemium sempervirens يختلف تماماً عن الياسمين الشامي الأبيض Jasminum grandiflorum والذي يعتبر جزءاً أساسياً من تراث المدن المشرقية خصوصاً في سوريا ولبنان وفلسطين ويزرع بكثرة في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، فهذا الأخير عطري لكنه غير سام وهو يستخدم في إنتاج أفخر العطور الباريسية.
الياسمين المزيَّف
أما الياسمين الأصفر فموطنه الأصلي هو الولايات المتحدة الأميركية، وهو شجيرة مستديمة الخضرة مزهرة ذات أغصان رفيعة تشبه السلك، وهي سريعة النمو ويمكن أن يصل ارتفاعها من 3 إلى 6 أمتار، ويتم استخدام العطر الذي تكونه زهرة الياسمين الأصفر في بعض أنواع العطور، لكن الخاصية الأهم التي عرف بها هو أن كل أجزائه تعتبر سامة، مما يفرض درجة معينة من الحذر في التعامل معه والانتباه لإمكان تناوله من قبل الأطفال الذين قد تغريهم ألوانه وحلاوة أزهاره ولا يدركون أنه سمّ زعاف، لهذا السبب، فإن من بين الأسماء التي أطلقت على الياسمين الأصفر اسم “الياسمين المزيّف” False Jasmine بينما اشتهر أحياناً باسم ياسمين كارولينا Carolina Jasmine لوجوده بكثرة في ولاية كارولينا الجنوبية الأميركية التي اتخذته رمزاً للولاية. ويوجد الياسمين الأصفر كنبات بري في الولايات الجنوبية الأميركية، لكنه زرع لاستخدامه كسياج للحدائق بسبب نموه السريع وميله للتشكل في شبكة أغصان كثيفة ومتداخلة وبسبب قوة نموه، لكن النبتة انتقلت إلى لبنان تدريجياً حيث استخدمت كنبات زينة بسبب سهولة زرعها وإمكان تكثيرها بالفسائل والعقل، لكن من المؤكد أن القليل من أصحاب هذه الشجيرات لا يعلم أن مظهرها الجميل يخفي مخاطر شديدة بسبب سميتها التي تقترب من سمية نبات سم الشوكران Hemlock المميت، وقد اشتهر الأخير بأنه أعطي لسقراط الحكيم في الكأس الذهبي الذي تجرعه وأدى إلى موته.


السم عندما يصبح ترياقاً
إن استهلاك أي قسم من أقسام النبتة يؤدي إلى آلام مبرحة تؤدي الشلل أو الغيبوبة أو الموت وذلك حسب الكمية التي تم تناولها، لكن كما في يحدث في طب الأعشاب فإن السم قد ينتج منه علاج شاف لبعض الأمراض، وبالفعل فإن الأجزاء الغضة من جذور النبتة السامة تستخدم من قبل الطب التماثلي Homeopathy في تحضير علاج لبعض حالات الخلل العصبي أو الجسدي، وقد تم استخدام الياسمين الأصفر في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة لأغراض علاجية وجرى استخدام أزهاره أو جذوره من قبل السكان الأصليين (الهنود الحمر) لتحضير محاليل مسكنة للألم أو مخدَّرة أو كعلاج للحمى أو الربو أو السعال الديكي، وهناك نصوص قديمة جاء فيها أن أزهار الياسمين الأصفر استخدمت لصنع شاي يعالج اللهاث والسعال والاضطرابات المعوية. لكن استخدام الياسمين الأصفر اضمحل بعد ذلك بالنظر الى دقة عملية تحضيره وسميته العالية بكل جزء من أجزاء النبتة.
خطر الياسمين الأصفر على النحل
بالنظر إلى انتشار الياسمين الأصفر في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة، فإن الأميركيين يمتلكون تجربة طويلة مع هذه النبتة، وقد أعدّت دراسات وكتب عن الآثار السامة للياسمين الأصفر على الإنسان والحيوان والنحل، والمهم هنا أن أكثر الدراسات والمقالات العلمية التي نشرت تؤكد خطر الياسمين الأصفر على خلايا النحل، وقد جاء في تقرير أعدّه كيميائي في ولاية جورجيا في آذار سنة 1919 طلب منه تحليل عسل قيل إنه أدى إلى حالة تسمم لدى بعض الأفراد أنه وجد فيه حبوب لقاح من الياسمين الأصفر.
وكتبت إحدى مربيات النحل في سان فرانسيسكو في العام 2013 تقول: إن هذه النبتة رغم كونها نبتة أميركية أصلية ليست مما يجب زرعه في أي مكان بسبب سميتها العالية جداً وإضرارها بالنحل لذلك دعت الكاتبة إلى الاستغناء عن هذه النبتة كما دعت من توجد في حديقته لأن يقتلعها.
وكتب نحال سنة 1879 يقول إنه لاحظ منذ تسع سنوات أنه في كل مرة يبدأ موسم إزهار الياسمين الأصفر كانت نحلاته تتعرض لاعتلال مميت كان يصيب بصورة خاصة النحلات الصغيرات وكان المرض يختفي فجأة بمجرد انتهاء موسم إزهار تلك النبتة، ولاحظ النحال أن أعراض تسمم النحل برحيق الياسمين الأصفر كانت تمدداً في بطنها وتصرف النحل كما لو كانت تحت تأثير الكحول، وكانت بعض النحلات وقد بدا أنها خسرت قوتها العضلية تزحف خارج الخلية حيث كانت تموت، وكانت كميات النحل النافقة كبيرة.
وجاء في تقرير أعدّته وزارة الزراعة الأميركية في العام 1936 : إن العاملات الصغيرات من النحل تتأثر فوراً بالتعرض لرحيق الياسمين الأصفر حيث تموت بعد مدة قصيرة، بينما لم يلاحظ التأثير نفسه على العاملات الناضجات. وأضاف التقرير أن يرقات النحل والعذارى ماتت بتأثير تغذيتها برحيق الياسمين الأصفر حيث بدت محنطة في العيون السداسية. لذلك يمكن القول إن تعرض الخلية كلها لرحيق الياسمين الأصفر أدى إلى إضعافها بصورة كبيرة.
الوضع في لبنان
لا يوجد الياسمين الأصفر في لبنان كنبتة برية ولا توجد منه كميات يمكن أن تؤثر على النحل السارح، لكن النحال الذي يجد في بيته الكثير من تلك النبتات التي ربما زرعت للزينة عليه أن ينتبه لأثرها المحتمل على الخلايا خصوصاً وأن الياسمين الأصفر يزهر في وقت مبكر من الربيع وقبل تفتح الأزهار البرية التي يتغذى عليها النحل وهو لذلك قد يكون لفترة مصدر غذاء أساسياً للنحل ويمكن لهذا السبب أن يؤثر على الخلية. وفي هذه الحال، فإنه من الأفضل اقتلاع تلك النبتات الغريبة عن بلادنا لأن أثرها التزييني قد لا يعادل ضررها على النحل وخطرها المحتمل على الأطفال أو بعض الحيوانات.