الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

تاريخ الموحدين الدروز والموارنة

في ضوء مؤلَّفاتهم القديمة

تاريــــــخ الموحِّــــدين الــــدروز والموارنـــــة

السجل الأرسلاني – قواعد الآداب حفظ الأنســـــاب – تاريــخ بيـــروت تاريخ ابن سباط- زجليات ابن القلاعي

لا بُدّ من الإشارة أولاً إلى أن ما سيرد ذكرهُ ليس تاريخاً للموحِّدين (الدروز) والموارنة، نكتبهُ في ضوءِ المصادر والمراجع القديمة والحديثة، ونتطرّق فيه بالتالي إلى تاريخ سائر الطوائف التي سكنت معهم أو جاورتهم في المناطق اللبنانية، وإنما هو خلاصةُ قراءةٍ متأنّية ومعمّقة لما جاء في خمسةِ مصادر تاريخية دوّنها أبناؤهم في القرون الوسطى، مع ذكر بعض الإيضاحات والتصويبات والشروحات، من أجل وضع ما جاء في هذه المصادر في السياق التاريخي العام.
الموحِّدون (الدّروز) في لبنان
بعد أن انتشرت الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية كلها، إنطلق العرب المسلمون في الفتوحات لنشر الإسلام خارجها، فتمَّ لهم – وفي فترة قصيرة- انتزاع بلاد الشام ومصر من الروم البيزنطيين، وانتزاع العراق من الفرس، كما توسَّعوا خارج هذه الأقطار، وقد فتح القائد أبو عبيدة بن الجرّاح البقاع، وفتح يزيد بن أبي سفيان، بمعاونة أخيه معاوية، مدن الساحل اللبناني، لكن الجيوش العربية لم تتوغّل في المناطق الجبليّة اللبنانية، في البداية. ومن أجل ملء الفراغ السكاني الذي أحدثه جلاء الروم البيزنطيين وجلاء بعض السكان معهم، ومن أجل حماية سواحل بلاد الشام ومدنها من غارات الروم البيزنطيين الذين ظلوا يحاولون العودة إليها، أعاد العرب إعمار هذه المدن، وشحنوا السواحل بالمرابطين والمثاغرين.
وفي سنة 758م استقدم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المناذرة اللخميين للمرابطة في جبل بيروت المعروف أيضاً بـ”جبل الغرب” من أجل الدفاع عن بيروت وساحلها، من هجمات الروم البيزنطيين، ومن أجل حمايةِ الطرق البرية المؤدية إليهما من اعتداءات من سمّاهم المؤرّخ طنوس الشدياق:”المردة المتحصّنون في الجبال العالية”، ومنذ ذلك الحين أصبح المناذرة اللخميون: الأرسلانيون، والتنوخيون، وبنو فوارس، وآل عبد الله – وهم بعض أجداد الموحِّدين الدروز- النواة التي استقطبت جموع النازحين الدروز إلى جبل لبنان من مناطق حلب ووادي التيم وفلسطين، وأبرزهم النازحون الذين جاؤوا إلى لبنان في سنة 820م، بحسب ما يذكر أحد المصادر التي سنتحدّث عنها.

إن أصول الموحِّدين الدروز من عرب اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ومن عرب نجد والحجاز في شمال الجزيرة، أي أن أصولهم عربية يمنية وقيسية كانوا على مذهب السُّنّة، وتشيَّع بعضهم عند سيطرة الدولة الفاطمية على بلاد الشام وغدَوا منذ النصف الأول للقرن الحادي عشر الميلادي على معتقد “التوحيد” أو “مسلك التوحيد” الذي هو أحد المذاهب الإسلامية، والذي اشتق اسمهم الحقيقي منه (الموحِّدون)، فيما اسم “الدروز” تسمية خاطئة لكنهم اشتهروا وعُرفوا بها عبر التاريخ.
توطّن الموحِّدون (الدروز)، من لبنان، جنوب كسروان ومناطق المتن والجرد والغرب والشوف ووادي التيم، وأسَّسوا في هذه المناطق إمارات امتدَّ نفوذها إلى غيرها من المناطق اللبنانية، وإلى خارج لبنان أحياناً كما في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، وأكّدوا عروبة لبنان وإسلامه، ولم يتخذوا من مواقعهم فيه ملاجئ حصينة يحتمون بها فقط، بل أيضاً خطوط دفاع عن ساحل الشام وداخلها ضد غزوات الروم والفرنجة، مما جعلهم سيوفاً مشهرة للعروبة والإسلام.
شكَّل الموحِّدون الدروز مع جيرانهم الموارنة النازلين في جبل لبنان الشمالي، ثم المُساكنين لهم في مناطقهم منذ القرن السابع عشر، ثنائيّة صبغت بسماتها تاريخ لبنان الوسيط وتاريخه الحديث، وأسَّست لكيانه الذي عُرف من سنة 1861 وحتى سنة 1920 بـ”لبنان الصغير”، وعُرف بعد ذلك بـ”لبنان الكبير”.

الموارنة في جبل لبنان
الموارنة في المعتقد الديني هم أتباع القدّيس مارون الذي عاش في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، وتوفي سنة 410م، ويُقال إنه دُفن في براد في جبل نابو سابقاً الذي هو جبل سمعان في سورية اليوم. والموارنة من المسيحيّين القائلين بالطبيعتَين والمشيئتين للسيد المسيح، لذا بدَوا مختلفين عن اليعاقبة القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، وعلى نزاع معهم، واضطرُّوا جرّاء اضطهاد هؤلاء لهم للنزوح سنة 669م من وادي العاصي، حيث يقيمون، إلى جبل لبنان الشمالي، ولحق بهم أخوان لهم في سنة 685 جرَّاء اضطهاد الروم البيزنطيين لهم.
تزامن قدوم الموارنة إلى جبل لبنان مع قدوم الجراجمة إليه، وهؤلاء نُسبوا إلى جرجومة في جبل اللكام، وقد سخَّرهم الروم البيزنطيون وأرسلوهم لإشغال الدولة العربية في بلاد الشام بعد جلائهم عنها، لذا سمّاهم بعض المؤرّخين المسلمين “خيل الروم”. وممن سخّرهم الروم أيضاً لإشغال الدولة العربية: المردائيون الذين عُرفوا باسم “المردة”. وقد بقيت أقلّيّة من الجراجمة والمردة متوطّنة في جبل لبنان بعد صلح الإمبراطور البيزنطي يوستنيان مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، واختلطت مع الموارنة، ومن هنا كان منشأ إشكاليّة الموارنة والمردة والجراجمة التي عالجها المؤرِّخون الذين تكلَّموا عن أصل الموارنة واختلفوا فيه.
إن أوّل من ذكر المردة –وبإسم المردائيتاي- هو المؤرِّخ البيزنطي تيوفانس المتوفَّى سنة818م، وهم من أصل فارسي. وأول من أطلق على الموارنة اسم “المردة” هو البطريرك إسطفان الدويهي (1630-1704) الذي قال إن الموارنة لقِّبوا بالمردة لأنهم تمرَّدوا على الإمبراطور البيزنطي يوستنيان. وبما أن المجال لا يتّسع هنا لذكر سائر المؤرِّخين وأقوالهم عن أصل الموارنة وعلاقتهم بالمردة والجراجمة، سنكتفي بذكر أسماء معظمهم مع مؤلَّفاتهم، وهم إضافة إلى البطريرك إسطفان الدويهي ومؤلَّفَيْه: “تاريخ الأزمنة” و”تاريخ الطائفة المارونيّة”، المطران يوسف الدبس في “الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، والأب بطرس ضو في “تاريخ الموارنة”، والخوري ميخائيل غبرئيل الشبابي في “موسوعة تاريخ الموارنة”، وميشال شيحا في “لبنان في شخصيّته وحضوره”، وبولس نجيم (جوبلان) في “القضيّة اللبنانيّة”، وكمال سليمان الصليبي في “بيت بمنازل كثيرة”، وعادل إسماعيل في مؤلَّفَيْه: “المردائيّون (المردة) من هم وما علاقتهم بالجراجمة والموارنة، و”انقلاب على الماضي”. وقد أوضح المؤرِّخ عادل إسماعيل أن المردة والموارنة والجراجمة شعوب مختلفة لغةً وعِرقاً ومذهباً، وأنّ الموارنة ساميّون من أصل عربي أو آرامي أو سرياني1.
كان الموارنة مع الدروز من أبرز مالئي الفراغ السكاني الذي حصل بعد الفتح العربي في لبنان عموماً، وفي جبل لبنان خصوصاً. وبما أن الموارنة لجأوا إلى جبل لبنان تجنُّباً لاضطهاد مخالفيهم في المعتقد الديني (اليعاقبة)، ولاضطهاد الروم البيزنطيّين لهم في فترة معيّنة، نشأت عندهم وتعزَّزت مع الزمن مقولة “لبنان الملجأ” التي يأخذ بها العديد من المؤرِّخين، ذلك لأنهم حمَوا أنفسهم من الاعتداء، وحمَوا معتقدهم من الأفكار الهرطقيّة اليعقوبيّة.
أقام الموارنة في مناطق بشرّي والبترون وجبيل، وجعل بطريركهم مار يوحنّا مقرّه في كفرحي، وكان عليهم حكّام منهم، لقبهم “المقدّمون”، وتوسَّعوا في السكن جنوباً حتى بلغوا نهر الجعماني (نهر بيروت) وهو الحد الجنوبي لكسروان سابقاً، وأصبحوا متجاورين مع أجداد الموحِّدين (الدروز) ثم مساكنين لهم، وشكّلوا معهم الثنائيّة التي وردت الإشارة إليها.

مؤلَّفات الدروز والموارنة القديمة
تكلّم الكثيرون عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة في معرض حديثهم عن التاريخ العامّ، أو تاريخ بلاد الشام عموماً، وتاريخ لبنان وسورية خصوصاً، كما أصدروا عشرات الكتب تحت عناوينهم، أو العناوين الخاصة بكل منهما.
وبناءً على ذلك، وعلى أن الحديث عن هذا التاريخ الطويل زمنيّاً،

دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد
دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد

والغنيّ بمواضيعه، لا تتَّسع له مقالة أو مقالتان، سنقصر الحديث فقط على مرحلة زمنيّة منه هي التاريخ الوسيط، وسنحصر تناوله في ضوء مؤلَّفات الدروز والموارنة التي تعود إلى العصور الوسطى.
وصلتنا من المؤلَّفات القديمة خمسة مصادر تاريخيّة من العصور الوسطى، هي السِّجل الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، وزجليّات ابن القلاعي. وهذه المصادر تضيء على تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة منذ توطّنهم في جبل لبنان بعد الفتح العربي لبلاد الشام، وتسدُّ النقص الحاصل في الكتابة عن تاريخ هذا الجبل، ذلك أن المؤرِّخين العرب والمسلمين لم يتناولوه وسواه من المناطق الجبليّة إلاّ بالقليل من الإشارات، وركّزوا في كتاباتهم على الحواضر، كما إنهم لم يتناولوا جميع الأحداث التي جرت بين أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي، وهي المرحلة الزمنيَّة التي شهدت انتقال بلاد الشام من المماليك إلى العثمانيِّين.
جاء معظم ما في المؤلَّفات الأربعة الأولى عن جبل لبنان الجنوبي، وعن مكوِّنه الرئيس الموحِّدين (الدروز) الذين أعطوه اسمهم لتكاثرهم فيه ولشهرتهم “جبل الدروز”، لكن هذه المؤلَّفات ركَّزت على بلاد “الغرب” وعلى الإمارات المنذريّة اللَّخميَّة التي قامت فيها، ولم تذكر سائر البلدان المأهولة بالدروز إلاَّ بإشارات قليلة، حتى إنها لم تتكلم عن الأمراء المعنيِّين، إلاّ بإشارات في تاريخ ابن سباط، وهم الذين كانوا مقدّمين في الشوف، ثم أسَّسوا أقوى الإمارات الدرزية. وجاء المؤلَّف الخامس عن جبل لبنان الشمالي، وعن مكوِّنه الرئيس (الموارنة)، فارتسمت به وبالمؤلَّفات الأربعة الأخرى صورة متكاملة لتاريخ هاتين الجماعتَين.
وبما أن المؤلّفات الأربعة الأولى مدوّنة من الموّحدين الدروز، كان هذا مما يخفِّف عنهم الملامة بسبب القول الشائع عنهم إنهم يصنعون التاريخ ويدَعُون لغيرهم كتابته. فإذا كان في هذا القول شرف صنع الحدث، وتطابقٌ مع قول بسمارك: “إن المهم صنع التاريخ لا الكتابة عنه”، فإن فيه خطأ إهمال الكتابة عنه، وترْك ذلك إمّا للضياع، وإمّا لكتابة الآخرين المشوبة أحياناً بالنّقص والأدلجة والتغرّض، كما إنه تجدر الإشارة هنا إلى أن قِدم المؤلَّفات المذكورة يدلُّ على أن الدروز كانوا أسبق من غيرهم في جبل لبنان إلى كتابة التاريخ إضافة إلى صنعهم لبعض أحداثه.
وفي ما يلي سنتكلَّم عن المؤلَّفات التاريخيّة الخمسة -وبإيجاز-وبحسب تسلسلها الزمني بادئين بالسِّجلّ الأرسلاني، محاولين ما أمكن التعريف بالمؤلِّفين وبالمخطوطات ونسخها، وذلك من قبيل إيفاء الموضوع حقَّه.

السِّجلّ الأرسلاني الإثباتات
لا يقترن السِّجلّ الأرسلاني بإسم مؤلِّف ما، لأنه مجموعة إثباتات، أو سجلاّت، أو مضبطات شرعيّة، بلغت 21 إثباتاً حتى اليوم، طلبها أمراء أرسلانيُّون بغية الحفاظ على النسب وتسلسله، ومعرفة تواريخ الولادات والوفيات، أوّلها موقَّع عند قاضي معرَّة النعمان في 2 شعبان سنة 141هـ= 8 كانون الأوّل سنة 758م، وآخرها في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بيروت بتاريخ 15 شعبان سنة 1419هـ= 4 كانون الأوّل سنة 1998م، بتصديق رئيس هذا المجلس سماحة آية الله الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وبين هذين الإثباتَين مجموعة من الإثباتات موقَّعة من قضاة الشرع في بيروت ودمشق وصيدا وطرابلس وقاضي جبل لبنان، منها 15 إثباتاً بين سنة 758 وسنة 1519م، مما يدلُّ على أن معظمها يتناول تاريخ ثمانية قرون تعود إلى العصور الوسطى، وهي المرحلة الزمنيَّة التي تعنينا، لأن سائر المؤلَّفات التي سنتكلَّم عنها موضوعة قبل سنة 1519.
نُقلت هذه الإثباتات في سنة 595هـ= سنة 1198م، من الخط الكوفي القديم إلى الخط المتعارف عليه، وجُعلت في سجلٍّ واحد جرى تجديده في سنة 1095هـ= سنة 1682م، وانتهى حديثاً سجلاً واحداً طوله بضعة أمتار.
أول من أخذ عن السِّجلّ الأرسلاني هو المؤرِّخ حيدر الشِّهابي المتوفَّى سنة 1835، وذلك في تاريخه المعروف أيضاً بإسم “الغرر الحسان في أخبار أبناء الزّمان”، ثم المؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق المتوفَّى سنة 1861، وذلك في تاريخه المسمَّى “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، كما أخذ عنه مؤرِّخون عديدون غيرهما، وبعد ذلك أورد الأمير شكيب أرسلان معظم نصوصه في تعليقاته على ما ورد في ديوان أخيه الأمير نسيب “روض الشقيق في الجزل الرقيق” الصادر في سنة 1935. وقد حقَّق الدكتوران محمد خليل الباشا ورياض حسين غنَّام السِّجلّ الأرسلاني، وصدر بكامل إثباتاته في سنة 1999.
وفي ما يتعلَّق بالمؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق، فقد كتب فصلاً عنوانه “في نسبة الأمراء الأرسلانيِّين”، سمَّى في آخره السّجلّ بإسم “النسبة”، وقال إنها منقولة عن نسب قديم موجود بيد الأمراء الأرسلانيِّين، موروث عن الآباء والأجداد، مثبت عند القضاة والحكّام عصراً فعصراً2. وكتب فصلاً ثانياً عنوانه “في أخبار الأمراء الأرسلانيِّين” وسمّى في آخره السّجلّ “النسبة” أيضاً، وأعاد ما قاله عنها، مضيفاً تواريخ الإثباتات وأسماء القضاة الذين أثبتوها3.
تعرَّض السِّجلّ الأرسلاني للنّقد على أساس أن بعض إثباتاته تضمَّنت ألفاظاً لم تكن متداولة في زمنها، مثل “المرحوم” و”المردة” و”الفرنج” و”أرسلان”، كما تضمّنت أسماء وتواريخ للأحداث في غير مكانها، ومنها ما هو غير موجود في المصادر الإسلامية، وبلغ النقد عند من اعتمدوا على ذلك حدَّ القول إن السّجلّ من صنع الأمراء الأرسلانيين لأهداف سياسيّة هي إظهار أنفسهم متميِّزين عن الأمراء البحتريِّين التّنوخيّين، وتقديم الإمارة الأرسلانية على الإمارة البحتريّة التنوخيّة، في إطار التنافس على التاريخ الدرزي، وعلى تاريخ بيروت و”الغرب”.
ولسنا هنا في صدد مناقشة السّجلّ، ولا في صدد ذكر مناقشات الآخرين له، بعد أن قمنا بذلك في كتابنا “التّنوخيّون والمناذرة اللخميّون والمعنيُّون. الفصول الغامضة من تاريخهم والإشكاليّات”، وإنما لا بدَّ من القول إن السِّجلّ الأرسلاني ليس مصطنعاً، ولا يعود فقط إلى تاريخ حديث، وإنما هو معطيات تاريخيَّة قديمة وصحيحة أسقط عليها الناسخون الألفاظ غير المتداولة في زمن الإثباتات، وسقط منها، من دون قصد، أسماء بعض الأمراء الأرسلانيِّين فخلا السّجلّ المحقَّق منهم. وشأن السّجلّ في ذلك شأن سائر المصادر التي تعرَّضت نُسَخها المتعدِّدة للزيادة والنقصان جرَّاء النقل المتكرِّر.
صحيح أن هناك ما يدعو إلى نقد السجلّ الأرسلاني، وتكوين الملاحظات على نصوصه بالصيغة التي وصلت إلينا، ولكن الصحيح أيضاً هو أنه مصدر تاريخي قديم يشتمل على معلومات يؤخذ بها، ويُركن إليها، وتؤكِّد مصداقيّته، ومنها ما هو متوافق مع التاريخ العامّ أو مذكور فيه، ومنها ما فيه الدليل على أنه لم يوضع بهدف تحقيق المصلحة السِّياسيّة، بل من أجل ذكر الوقائع إذ ليست هناك من مصلحة في الأساس عند واضعيهِ سوى تدوين الولادات والوفيات وذكر الأعمال الحاصلة، وليس عندهم بالتالي ما يدعو إلى ذكر أشخاص ومواضيع لا صلة لهم ولها بالأرسلانيِّين – إذا كان القصد بحسب ما اتَّهمهم الناقدون- إبراز أهميتهم، وتأكيد أسبقيتهم على الأمراء البحتريِّين التّنوخيِّين.
وإذا كان المجال هنا لا يتَّسع إلاَّ لما ذكرناه عن السِّجلّ، فإنه من المفيد مناقشة الاسم الذي نسب إليه الأرسلانيُّون.

بين الاسم “أرسلان” والاسم “رسلان”
عُرف الأرسلانيُّون بإسم جدِّهم أرسلان بن مالك بن بركات، الوارد اسمه هكذا في جميع إثباتات السّجلّ الأرسلاني، إلاّ أنهم حملوا أيضاً اسم بني أبو الجيش، وحمل بعض أمرائهم الاسم “رسلان”، وذكروا في بعض النصوص بإسم “بيت رسلان” ومن ذلك ما يلي:
1. ورود اسم “رسلان” كجدٍّ أعلى للأمراء الأرسلانيِّين في كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وورود ذكره في الكتاب نفسه كأسرة بالصيغة التالية: “بيت الأمير رسلان”4.
2. ورود أسماء أربعة أمراء فيها الاسم “رسلان” في تاريخ صالح بن يحيى، هم: شجاع الدين رسلان بن مسعود، وجوبان بن رسلان، وعلي بن رسلان بن مسعود، وعماد الدين موسى بن حسان بن رسلان5.
3. وجود الاسم “رسلان” في الكتابة المدوّنة على مدخل السراي الأرسلانيّة المشادة في عين عنوب سنة 1117هـ= سنة 1705م.
الاسم “أرسلان”، وحاليّاً أصلان، هو في الأصل اسم فارسي معناه: الأسد، أخذه السّلاجقة الأتراك عن الفرس، وحمله القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله المعروف بالبساسيري، الذي انقلب على الخليفة العبَّاسي القائم، وقُتل سنة 451هـ= سنة 1059م، وحمله ملك الدولة السّلجوقيّة الشهير ألب أرسلان ومعنى اسمه: المحارب الأسد، وهو الذي هزم إمبراطور الروم البيزنطيِّين هزيمة ساحقة في ملازكرد وأسرَهُ، وكان ذلك في سنة 463هـ= سنة 1071م، الأمر الذي أدَّى إلى وصول نفوذ الأتراك السّلاجقة إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام.
والاسم “رسلان” هو إمّا تصحيف للاسم “أرسلان” بحذف حرف الألف منه، وإمَّا أنه اسم عربي من فعل “رسل” بحسب ما جاء في معجم “لسان العرب” لابن منظور، ومعجم “تاج العروس” للزبيدي، فهو إذاً على وزن الأسماء العربية التالية: عدنان وقحطان وغسَّان ويقظان ونعمان وغيرها من الأسماء، وقد ورد عند ابن ماكولا المتوفَّى سنة 486هـ= سنة 1093م، اسم لجَدّ أحد رجال الحديث، المتوفَّى في القرن الرابع الهجري، وهو أحمد بن صالح بن رسلان الفيُّومي، مما يعني أن رسلان من أبناء القرن الثالث الهجري.
حمل الاسمَ “رسلان” أشخاصٌ كثيرون غير الأمراء الأرسلانيِّين، وحملتْهُ أُسر عديدة، منها أُسَر في بعلبك عُرفت به منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وهنا تبدو صعوبة معرفة ما إذا كانت أسماء هؤلاء الأشخاص وتلك الأُسَر أسماء عربيّة في الأصل أم هي تصحيف للإسم الفارسي (التُّركي السّلجوقي لاحقاً): أرسلان. وبالنسبة إلى الأمراء الأرسلانيِّين يقول أمير البيان شكيب أرسلان في تعليقه على ديوان أخيه الأمير نسيب: “روض الشقيق في الجزل الرقيق” ما يلي: “رسلان وأرسلان واحد وإنما رفعوا الألف للتخفيف وله نظائر”6، وهذا الكلام يعني أن الأصل هو الاسم “أرسلان” وأنه صُحِّف في بعض الأقوال والكتابات فغدا “رسلان”.
وبناء على قول الأمير شكيب أرسلان نرى أن الأمير الذي نُسب إليه الأرسلانيُّون حَمل الاسم “أرسلان” وحده، أو حَمل هذا الاسم، كلقبٍ يعني الأسد، بعد اسم سقط من السِّجلّ لاحقاً عند

الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب
الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب

نسخه، وذلك كما حمل الأمير مسعود بن عون لقب”قحطان”، وحفيده الأمير المنذر لقب “التنوخي”، وكما حمل قبلهما الملك المنذري اللخمي امرؤ القيس لقب “المحرّق”، والملك النعمان الأوّل لقب “الأعور”، والملك المنذر بن النعمان لقب “المغرور”، وفي كلتا الحالتين فإن الإسم لم يأتِ اقتباساً عن الأتراك السلاجقة وإنما عن الفرس الذين أخذه السلاجقة عنهم.
إن الاسم “أرسلان” في رأينا معروف عند المناذرة اللخميِّين قبل قرون من ظهور القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله (البساسيري)، والملك السّلجوقي ألب أرسلان، وذلك جرَّاء احتكاكهم بالفرس الذين سادوا في العراق وتبعت لهم المملكة التي أنشأها المناذرة في الحيرة بالعراق ودامت 364 سنة، وانتهت بآخر الملوك المناذرة الملك المنذر بن النعمان (المغرور) الذي أسلم عند ظهور الإسلام، وقد شكَّلت هذه المملكة خط دفاع عن مملكة الفرس كما شكَّل الغساسنة خط دفاع عن الروم البيزنطيِّين أعداء الفرس، وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يتأثَّر المناذرة بالفرس في نواحٍ عديدة منها أخذ الاسم أرسلان عنهم.

نسب الأرسلانيِّين وسائر المناذرة
ركَّز العرب على معرفة أنسابهم، وحثُّوا على تعليم النسب وتعريف كل امرئ نسبه الذي يعود إليه لإيجاد الصلة بين الأجيال المتعاقبة، ولكي لا يكون هناك خطأ في التنسيب، فكانوا يحفظون أنسابهم كحفظ أرواحهم ما لم تحفظه أمَّة من الأمم. وكان الرسول (ص) يحضُّ على تعليم النسب، ونظراً الى أهميته والاهتمام به دوَّن النَّسَّابون الكثير من الكتب عنه بدءاً بأقدمهم ابن الكلبي المتوفَّى سنة 204هـ= 819م، ودوَّن الموحِّدون الدروز بعض أنسابهم في أربعة مؤلَّفات، هي السِّجلّ الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، كما دوَّنوا مع هذه الأنساب بعض تاريخهم وحوادثهم وهم يفتخرون في دخولهم التاريخ بما صنعوا، ويفتخرون بأنسابهم المتوارثة، وأنسابهم الحاصلة بالأعمال والصنائع.
يرد في الإثبات الأول من السِّجلّ الأرسلاني، أن الأمير المنذر وأخاه الأمير أرسلان حضَرَا في سنة 758م إلى قاضي المعرَّة ليكتب لهما وفاة آبائهما في رق (سجلّ) “ليحفظاه عندهما من حوادث الزمان وتحفُّظًا من السَّهو والنسيان لأنهما عزما على الرحيل إلى جبال بيروت”. إن الأمير أرسلان الذي ينتسب إليه الأرسلانيُّون هو –بحسب ما جاء في هذا الإثبات- ابن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون ابن الملك المنذر (المغرور) ابن الملك النعمان (أبو قابوس) الذي يتَّصل عبر أجداده وأجداد أجداده بيعرب بن قحطان جد العرب العاربة7.
إذاً إن الأرسلانيِّين هم من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين الذين حكم منهم 17 ملكاً في الحيرة، وهذا النسب الرفيع الذي كان لهم بلقب “الملوك” استمرّ بعد ذلك، ولا يزال مستمراً حتى اليوم، بلقب “الأمراء”.
وبناءً على ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وتقاطعه مع ما جاء في تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، هناك ثلاثة فروع أخرى من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين توطَّنت مع الأرسلانيِّين في جبلَ بيروت بعد انتقالهم إليه من جهات المعرَّة، أوّلها بنو فوارس وهم من نسل فوارس بن عبد الملك، وعبد الملك هو أخو الأمير أرسلان، وثانيها آل عبد الله وهم من نسل عبد الله بن النعمان، والنعمان هو الأخ الثاني للأمير أرسلان، وثالثها التّنوخيّون الذين سنتكلّم عنهم عند الحديث عن تاريخ بيروت، والذين يلتقون مع آل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس عند الجَدّ الأعلى الملك النعمان (أبو قابوس).

الإمارة الأرسلانيّة في “الغرب”
أخذ المؤرِّخون – إلاّ قلّة منهم- بمقولة “حلف تنوخ” في الحديث عن المناذرة اللّخميِّين، أو عن أحد فروعهم المتأمِّرة في لبنان، فنسبوهم خطأً إلى التنوخيِّين بمعنى أنهم من حلف تنوخ الذي نشأ في البحرين أو من قبيلة تنوخ، فيما الحقيقة أنهم من سلالة الملوك المناذرة اللّخميِّين، كما أوضحنا في كتابنا:”التنوخيون والمناذرة اللخميون والمعنيون” وأن الشرف المتأتِّي لهم من هذه النسبة هو أكبر من شرف الانتماء إلى قبيلة تنوخ أو إلى حلف تنوخ. وجانَبَ بعض المؤرِّخين الحقيقة أيضاً حين جعلوا المعنيِّين تنوخيِّين منتمين إلى الحلف المذكور، ذلك أنهم ينتسبون إلى الأمير معن بن ربيعة، وهم قيسيُّون فيما المناذرة اللخميّون يمنيُّون. وبناءً على كل ما ورد صار الأرسلانيُّون في نظر هؤلاء المؤرِّخين تنوخيِّين، وضاع تاريخهم القديم، أو كاد يضيع في تاريخ التنوخيّين الذين سنتحدث عنهم والذين تأسّست إمارتهم في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، كما غابت الإمارة الأرسلانيّة التي تأسّست قبل هذا التاريخ.
اعتماداً على السِّجلّ الأرسلاني هناك إمارة أرسلانيّة منذريّة نشأت في بلاد “الغرب” بعد توطُّن المناذرة اللخميِّين فيها، وقبل قيام الإمارة البحتريّة التنوخيّة بقرون، عُرف أميرها بعدة تسميات، هي: أمير الغرب، وأمير الجبل أي جبل بيروت أو جبل الغرب، وأمير جبل الغرب وبيروت، وأمير صيدا وبيروت والغرب، وأمير بيروت وجبل لبنان، وقد وردت هذه التسميات في السّجل اعتماداً على عهدات أولي الأمر للأرسلانيّين بتسلّم الإمريّة على “الغرب” وعلى مدينتَي بيروت وصيدا8.

طلال ارسلان
طلال ارسلان

وبهذا، يصبح الأرسلانيون القادة الأوائل والأقدمين لأجداد الموحِّدين الدروز في لبنان، إلاّ أن قيادتهم هذه لم تكن إلغائيَّة لنفوذ أمراء أبناء عمومتهم من المناذرة (آل عبد الله وآل تنوخ وبنو فوارس) الذين كان في كل أسرة من أُسَرهم أمير مقّدم على سائر أمرائها، كالأمير الأرسلاني الأول المقَّدم على سائر أمراء أسرته، والذي له الإمرية الكبرى، ولم ينحصر نفوذ الأمير الأرسلاني في “الغرب” ومدينتَي بيروت وصيدا، بل إنه تعدَّى هذه المناطق إلى غيرها، إذ وُلّي الأمير النعمان بن عامر على صفد، والأمير رشد الدولة أبو الفوارس زنكي على اللجون وبعلبك وصفد وغيرها، والأمير تميم بن المنذر بن النعمان على طرابلس، والأمير هارون بن حمزة على صور9.
من وجوه تسلُّم الأمراء الأرسلانيين عهداتهم تسلّم الأمير ناصر بن منصور الأرسلاني العهدة على “بيروت وجبل لبنان” في سنة 383هـ= سنة 993م، من منجوتكبن الذي يذكر أحياناً بنجوتكبن، وكان والياً على الشام من قبل الخليفة الفاطمي العزيز بالله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ورود لفظة “جبل لبنان” في هذه العهدة، هي مما يدلّ على أن هذه التسمية كانت تُطلق قديماً على جبل لبنان، ومما يدحض مقولة إن الموارنة نقلوها معهم بعد انتقالهم من جبل لبنان الشمالي إلى مناطق الدروز المسمَّاة “جبل الدروز”، والواقعة في جبل لبنان الجنوبي.

إمارة بني فوارس في “الغرب”
كانت الإمرية الكبرى، أو إمارة “الغرب” هي للأمير الأوّل والأكبر شأناً من بين الأمراء المناذرة اللخميّين، أنه كان المقدّم بين المقدّمين، وكما غُيِّبَت الإمارة الأرسلانيّة من التاريخ بالرغم من استمرارها من المنتصف الثاني للقرن الثامن إلى المنتصف الأوّل للقرن الثاني عشر الميلادي، هكذا غُيِّبت: إمارة بني فوارس على “الغرب”، وإمارة أخرى عليه هي إمارة آل عبد الله، وما كانت هذه الإمارات الثلاث عُرفت لولا السِّجلّ الأرسلاني.
جاء في السِّجلّ الأرسلاني أن أهل “الغرب” انقسموا، بعد موت الأمير مطوع الأرسلاني، إلى فريقين: “الواحد يطلب إمارة عماد الدّين موسى ابن الأمير مطوع، والآخر يطلب إمارة الأمير أبو الفوارس معضاد من بني فوارس، وهو ابن الأمير همَّام ابن الأمير صالح ابن الأمير هاشم الفوارسي، ثم ولّي الأمير موسى، وبعد سنة نزل عنها للأمير أبي الفوارس”10.
تسلَّم الأمير أبو الفوارس إمارة “الغرب” من سنة 1020 إلى سنة 1040م. وتشير أدبيَّات الموحِّدين (الدروز)، التي تعود إلى تلك الفترة، إلى بعض جهاتها، وهي فلجّين والبيرة وعين صوفر والمروج وعين عار11، وإذ انتهت إمارة بني فوارس على “الغرب” مع الأمير معضاد استمرَّ وجود بني فوارس كأُسرة ثم كأُسَر تفرّعت منها وحملت أسماء مختلفة، منها آل الخضر وآل المغربي في كفرسلوان، ومنها آل أبو اللمع الذين تحوَّلوا تباعاً من الدرزيّة إلى النّصرانيّة بعد موقعة عين داره سنة 1711. أمَّا السِّجلّ الأرسلاني، فهو يذكر عدا الأمير أبي الفوارس ثلاث أميرات وأميرين من بني فوارس.

إمارة آل عبد الله في “الغرب”
كما أدَّى انقسام الأمراء الأرسلانيِّين في سنتي 1019و1020م إلى تسلُّم الأمير أبي الفوارس معضاد إمارة “الغرب”، هكذا كان اندثارهم على يد الفرنجة سبباً في تسلُّم آل عبد الله هذه الإمارة بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني الذي يرد فيه أن الأرسلانيِّين نكَّل بهم الفرنجة عند احتلالهم مدينة بيروت سنة 1110م ومهاجمتهم “الغرب”، وقد ذهب ضحية ذلك 21 أميراً أرسلانيّاً إضافة إلى غيرهم من أمراء سائر الأُسَر المنذريّة، وغيرهم من أهل “الغرب”.
لم يبقَ من الأمراء الأرسلانيِّين سوى أمير صغير اسمه بحتر، غير مؤهَّل لتسلُّم الإمارة، فتسلَّمَها الأمير مجد الدولة من آل عبد الله الذين هم أبناء عمِّ الأرسلانيِّين، وبقي متسلِّماً لها حتى مقتله سنة 1137م في إحدى المواقع مع الفرنجة. لم يذكر السِّجلّ الأرسلاني بعد هذا الأمير سوى ستّ أميرات من آل عبد الله مع الإشارة إلى أن منهم أسرة آل علم الدين التي تأمَّرَت مراراً على “الغرب” والشوف في عهد المعنيِّين، ومنهم أسرة آل تقيّ الدين.

ترجمة الأمراء الأرسلانيِّين
تَرجم السِّجلّ الأرسلاني لجميع الأمراء الأرسلانيِّين البالغ عددهم، من تاريخ الإثبات الأوّل في سنة 758م حتى الإثبات الأخير في سنة 1998، 356 أميراً، منهم أمراء لم تُعرف عنهم إلاَّ أسماؤهم وصلتهم بسائر الأمراء الأرسلانيِّين، ومنهم من بلغوا شأناً كبيراً، وقاموا بدور بارز في التاريخ كان القديم منه ضاع وضاعت أسماء القائمين به لو لم يحفظه السجلّ الأرسلاني.
وذكر السِّجلّ الأرسلاني أن الأمراء الأرسلانيِّين كانوا يتنافسون أحياناً على الإمارة، ويتصارعون على النُّفوذ، ويكيد بعضهم لبعض ويتآمر عليه، وقد تقاتلوا في سنة 838م في خلدة، وفي سنة 1002م في مرتغون الواقعة إلى الشمال من خلدة، كما إنهم تقاسموا الأراضي، وانقسموا بشأن الولاء للقوى المتصارعة في بلاد الشام، كالصراع بين الفاطميِّين والعبّاسيِّين واضطرار الأمير المنذر بن النعمان الذي تسلَّم الإمارة سنة 936م إلى مبايعة الخليفة الفاطمي12، وتأييد الأمير درويش بن عمرو للقائد العبَّاسي هفتكين وتأييد الأمير المنذر المذكور، في المقابل، لابن الشيخ وابن موهوب والي دمشق من قبل الفاطميِّين. وكان انتصار قوة على أخرى يؤدِّي إلى تسلُّم الأمير الذي يواليها إمارة “الغرب”، كمايذكر السّجلّ أيضاً تضرُّر الأرسلانيِّين من غزو التركمان (أمراء كسروان) للغرب.
وذكر السجلّ الأرسلاني إقبال الأمراء الأرسلانيِّين على التعلُّم والتفقُّه، مما يدلّ على أنهم منذ القدم كانوا أرباب العلم كما هم أرباب السيف، وقد كانت لهم مساهمة في إعمار “الغرب”، من وجوهها بناء قرية الشويفات على مجموعة تلال، واسمها عربي هو جمع شويفة أي تلّة مشرفة، وقد غدت اليوم مدينة، ومن أبرز ما يُذكرون به هو مشاركتهم في الجهاد الإسلامي.

المشاركة في الجهاد الإسلامي
ينفرد السِّجلّ الأرسلاني عن المصادر الإسلامية بذكر مشاركة أجداد الأرسلانيِّين في الفتوحات الإسلاميّة، فهو يذكر أن الأمير عون ابن الملك المنذر (المغرور) حضر مع المسلمين فتح بصرى، وشارك في وقعة أجنادين وتوفِّي بعد أيام قلائل بسبب جرحه فيها، وأن ابنه مسعود تابع مسيرته فحضر فتح دمشق، وكان أوّل من دخلها، ثم حضر وقعة مرج الديباج ووقائع اليرموك، وكان معه من لخم 1500 فارس. وحضر مع أخيه عمرو فتح بيت المقدس، ثم شارك في فتح حلب وقلعتها، وكان ممن شاركوا في فتح أنطاكية، كما إن الأمير عمرو، وابن عمه الأمير همّام ابن الأمير عامر ابن الملك المنذر (المغرور)، شاركا في فتح قيساريه وفي فتح مصر.
تابع الأرسلانيُّون هذا الدور الجهادي بعد قدومهم إلى لبنان، وقد كان قدومهم أصلاً إلى جبل بيروت أو جبل “الغرب” للقيام بهذا الدور، إذ استقدمهم الخليفة العبّاسي إلى جبل مدينة بيروت للدفاع عن هذه المدينة وعن ساحلها ضد اعتداءات الروم البيزنطيِّين.
من وجوه جهاد الأرسلانيِّين ضد الروم البيزنطيِّين تحصين الأمير النعمان بن عامر لسور مدينة بيروت وقلعتها، وانتصاره على الروم حين نزل جندهم في رأس بيروت. ومن وجوه جهادهم ضد الفرنجة تصدِّيهم لحملات هؤلاء عند نهر الكلب، وفي مدينتَي بيروت وصيدا، وفي منطقة “الغرب”، وتكبّدهم الخسائر البشريَّة الكبيرة في ذلك، مما أدَّى إلى اندثارهم كما وردت الإشارة إلى ذلك.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرسلانيِّين كانوا قادة أجداد الموحِّدين (الدروز) في هذه المحطَّات الجهاديّة، وكان معهم أبناء عمومتهم من المناذرة اللّخميِّين، ومن يتبعهم ويتبع هؤلاء من الأهالي، وأن جهاد الأرسلانيّيِن حديثاً هو استمرار لجهادهم قديماً، ويأتي في طليعة المجاهدين منهم حديثاً الأمير شكيب أرسلان، الملقَّب بـ”داعية العروبة والإسلام” لجهاده من أجل القضايا العربية والإسلاميّة، وأخوه الأمير عادل (أمير السيف والقلم) المناضل من أجل القوميَّة العربيَّة، كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الجهاد الذي بدأ بقيادة الأرسلانيِّين واستمرَّ فصولاً معهم، استمرَّ أيضاً فصولاً بقيادة سواهم من أعيان الموحِّدين (الدروز).

قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت
قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت

الصراع مع المردة
يذكر السِّجلّ الأرسلاني قتال الأرسلانيِّين لمن يسمّيهم “المردة” و”أهل العاصية”، وهو لا يتكلَّم عن قتال الأميرَين المنذر وأخيه أرسلان، وقتال الأمير مسعود بن أرسلان، لهم، فيما يذكر المؤرِّخ طنّوس الشِّدياق ذلك، إمَّا نقلاً لمعلومات سجلٍّ لا ترد في نصّ السِّجلّ المحقَّق، وإمَّا اعتماداً على مصدر غيره، فهو يذكر موقعة جرت بين الأمير أرسلان والمردة عند نهر الموت بالقرب من سن الفيل حيث يقيم الأمير، وموقعة جرت بين هذا الأمير وأخيه الأمير المنذر وبين المردة في انطلياس، ويذكر انتصار الأرسلانيِّين فيهما.
لكن السِّجلّ الأرسلاني يذكر في الإثبات الثالث المؤرَّخ في 4 شعبان سنة 252هـ (سنة 866م) أن الأمير هاني ابن الأمير أرسلان حارب في سنة 845م “المردة وأهل العاصية لعنهم الله حروباً عظيمة حتى كاد أن يدمِّرهم” فلّقب بالغضنفر، وبلغ خبره الأمير خاقان التركي والخليفة العباسي المتوكِّل على الله، كما يذكر السِّجلّ الأرسلاني في الإثبات الرابع المؤرَّخ في 10 شوال سنة 269هـ (سنة882م) أنه كان في سنة 262هـ (سنة 875/876م) “بين الأمير النعمان والمردة الحروب العظيمة التي أهلكهم فيها وبلغ خبرها أمير المؤمنين المعتمد على الله، رحمه الله، فكتب له كتاباً بخطّه يقرّره على إمارته هو وذرّيته”.
استطاع الأرسلانيُّون إبعاد خطر المردة عن طريق بيروت دمشق، وذلك بزحزحتهم نحو الشمال إلى أنطلياس ثم إلى نهر الكلب، إلا أن شوكة هؤلاء لم تنكسر بل ظلُّوا يشكِّلون خطراً على الأرسلانيِّين، وكانوا رجال حرب وأحياناً هم المهاجمون والمبادرون إلى القتال كما جرى عند مهاجمتهم للأرسلانيِّين وخوض موقعة نهر الموت معهم، وكما جرى بعد ذلك عند هجومهم مع الفرنجة على “الغرب”، وهذا الهجوم لا يذكره السِّجلّ الأرسلاني فيما يذكره الشّدياق إمَّا نقلاً لمعلومات لم ترد في السِّجلّ المحقق، وإمَّا اعتماداً على معلومات وردت في غيره من المصادر.

كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” مجهول، إمَّا لأنه لم يشأ ذكر اسمه، أو أن اسمه دُوِّن في الأصل لكن الذين نسخوا مخطوطه لم يذكروه.
وإذا كان اسم هذا المؤلِّف مجهولاً، فإن أصله ومنطقته وصفته أمور نستشفّها من عبارات كتابه، وهي أنه من “الغرب”، ومن الموالين لأمرائه البحتريِّين التنوخيِّين، وهو من الموحّدين (الدروز) بناءً على أدلة كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تكلَّم عن جدود أُسَر الموحِّدين (الدروز)، وعاش بينهم، وسمّى بعض المناطق المسكونة بغيرهم، أي بالسُّنَّة والشِّيعة.
2. أورد عبارات من أدبيات الموحِّدين (الدروز)، ومنها قوله عن حصول بعض الأمور قبل ما سمَّاه “الكشف”، وحصول بعضها الآخر بعد “الكشف”13.
3. أظهر حبّه للأمراء البحتريين وموالاته لهم وقربه منهم بذكر مواضيع وردت عند صالح بن يحيى البحتري التنوخي، وبقوله إن “أمراء عبيه”، وهم الأمراء البحتريُّون، يبغضون بني أبو الجيش الأرسلانيِّين “وهم وإيَّاهم على السيف”، وبوصفه بني أبو الجيش بأنهم ثقال الطبع.

نِسَخ مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
يعود تدوين مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب” – بالصِّيغة التي وصلت إلينا- إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وتحديداً إلى ما بعد سنة 1389م بقليل، لأن فيه إشارة إلى قريتَي البيرتَين اللَّتَين خربتا في هذه السنة، وهما البيرة التحتا والبيرة الفوقا الواقعتان بين بلدتَي بيصور وكيفون، يضاف إلى ذلك ذكر سنة 785هـ= سنة 1383م في المخطوط.
عُرف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” بإسم آخر هو “النسبة” ذلك لأنه متعلِّق بالنسب، ولأن مدوِّنه سمّاه “النسبة” فقال: “ نقلتُ هذه النسبة المباركة عن نسبة نُقلت في شهر رجب سنة 505هـ. [وهذا التاريخ يوافق يناير سنة 1112م]، مثبتة عند قضاة الشرع في دمشق وحلب” بدءاً بسنة 710هـ (سنة 1310م) وانتهاء بسنة 785هـ (سنة 1383م)
إن أول من أشار إلى كتاب “قواعد الآداب …” هو القنصل الفرنسي في لبنان هنري غيز الذي نشر ذلك بين سنتَي 1843و1847، ثم الأمير شكيب أرسلان، وكان منه خمس نُسَخ أو نسب، هي النسخة الموجودة في مكتبة بلدية روان الفرنسية، ونسخة عند المؤرِّخ عيسى إسكندر المعلوف، ونسخة عند المؤرِّخ سليم أبو إسماعيل، ونسخة مجزوءة ملحقة بتاريخ الأمير فخر الدين الذي وضعه الشيخ الخالدي الصفدي، وقد ألحقها محقّقا هذا التاريخ به، وهما الدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد إفرام البستاني، وهي خمس صفحات مخطوطة وثلاث صفحات مطبوعة، والنسخة الخامسة هي بإسم “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”.
اطَّلع بعض الباحثين على نسخة مدينة روان الفرنسيَّة، ونقل المستشرق جان سوافاجيه – وهو أستاذ التاريخ الإسلامي في كوليج دي فرانس- نسخة عنها وأهداها إلى حسن قبلان المحامي العامّ في محكمة التمييز اللبنانيّة، وقد حقَّق الدكتور الياس القطّار نسخة مدينة روان في سنة 1986 وهي النسخة التي سنتكلّم عنها، والتي وصلتنا مكتوبة بلغة عصر الانحطاط، فيها الكثير من الجمل الغامضة والركيكة، وفيها العديد من الأخطاء، لكننا قبل أن نتكلَّم عنها، نرى من المفيد التكلُّم عن النسخة الخامسة، أي “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”14.
إن النسخة المذكورة منقولة عن نسبة كُتبت سنة 940هـ (سنة 1533م)، منقولة بدورها عن نسبة كُتبت سنة 890هـ (سنة 1485م)، وقد أضاف ناسخ النسبة المسماة “كتاب العجائب…” إلى النسبة الأصليَّة قصة سيلار نايب كرك الشوبك، التي جرت في سنة 710هـ (سنة 1310م)، وأخبار فيضان نهرَي الصفا والباروك في سنة 963هـ (سنة 1556م)، وأضاف إليها أيضاً ذمَّ بني أبو الرجال الذين يكرههم لأسباب شخصيَّة، فيما هم ممدوحون في المخطوط الأصل، ومحمودون عبر العصور، ومنهم شيوخ دين ثقات بينهم الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) الشيخ عزّ الدين أبو الرجال، ومنهم الصدر الأجلّ الشيخ سليمان، ورجل اسمه غازي هو أحد أبدال الحراسة على ثغر بيروت في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الميلادي، وهذا مما يدلّ على أن مخطوط “قواعد الآداب” تعرَّض للتهديم والزيادة والنقص والتعديل على يد بعض ناسخيه، وقد حقَّق المحامي سليمان تقيّ الدين بالاشتراك مع الأستاذ نائل أبو شقرا، النسبة المسمّاة “كتاب العجائب..” بعنوان “الأُسَر في جبل الشوف من خلال مخطوط قديم، وصدر هذا الكتاب في سنة 1999.

أنساب العشائر وصفاتها
وُضِع كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” من أجل معرفة أنساب الطوائف (العشائر) وتحديد صفاتها، لحفظ ذلك والعمل بقواعده، وورد فيه أن بعض هذه الأنساب مثبت عند قضاة الشرع في دمشق وحلب، وهو في هاتين الناحيتَين يلتقي مع السِّجلّ الأرسلاني الذي وُضع من أجل الحفاظ على النسب، وعدم ضياعه مع الزمن وتقلّبات الحوادث، كما يتقاطع معه، ومع ما ورد عند صالح بن يحيى عن تاريخ أسرته البحتريّة التنوخيّة في القول التالي: “فأول النسب الشريف الطاهر العالي الأمير نعمان الجميهري اللَّخمي بن لخم ابن أبيت اللعن ابن قابوس ابن ماء السماء ابن المنذر ابن النعمان الأكبر…الذي هو أكبر الملوك وأكبر البيوت وأكبر أهل الزمان من الجاهليّة إلى الآن”15. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سلسلة هذا النسب وصولاً إلى آدم عليه السلام تختلف في “قواعد الآداب…” بعض الشيء عما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وفي تاريخ بيروت لصالح بن يحيى وفي المصادر الإسلاميّة.
إن عدد الطوائف (العشائر) المذكورة في كتاب “قواعد الآداب..” هو في الأصل 12 طائفة عربيّة يمنيّة، ثم بلغت في جبل لبنان مع فروعها ومع من انضم إليها من العشائر 111 عشيرة. أمّا العشائر الاثنتا عشرة فهي تعود إلى ثلاثة أمراء، وتسعة أسياد، مما يعني أن لقب “السّيِّد” دخل في أدبيّات الموحِّدين (الدروز)، وهو يعطَى لأعيان القوم من روحيِّين وزمنيِّين، وقد أُعطِي لأكبر وأقدم وأشهر أولياء الموحِّدين وعلمائهم ورؤسائهم الروحيِّين، الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي (ق)، والأمراء هم الأمير شهاب، والأمير مسعود بن رسلان بن مالك، والأمير فوارس، والسادة هم السيد عزايم، والسيد عبد الله، والسيد عطير، والسيد حصن، والسيد هلال، والسيد كاسب، والسيد شجاع، والسيد نمر، والسيد شرارة.
إن هذا النسب الرفيع لأجداد الموحِّدين (الدروز) هو – مع المفهوم التاريخي لعقيدة التوحيد التي اعتنقوها- محل فخرهم واعتزازهم، وهذا حمل أحد رؤسائهم الروحيِّين، الشيخ أبا علي قسّام الحنَّاوي من جبل العرب، على القول التالي:
أفضل نسب في الأرض تلقى نسبنا متـــــجنّــــــــــــــــــــبين العــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار والمعيــــــــــار
إن صفات الطوائف (العشائر) بحسب ما جاء في “كتاب قواعد الآداب..” هي التالية:
• بنو فوارس: شجعان وأصحاب غيرة وكرماء وأوفياء وفصحاء، لا يفوقهم أحد في ذلك، ولا يتزوَّجون إلاَّ من بعضهم، وهم يُعرفون بالنعمانيّة نسبةً إلى معرّة النعمان.
• آل عبد الله (العبادلة): علماء وصادقون وحلماء.
• بنو أبو الرجال: خيَّالة ورجال، ولا أخيل ولا أرجل منهم.
• بنو أبو الجيش (آل أرسلان) وبنو حرب: ثقال الطباع.
• بنو الشويزاني وبنو فضل وبنو الشاعر وبنو نمرو وبنو روق: شعراء وحلفاء وجمَّاعون للمال.
• بنو الحصن وعمّار وأبو النصر وأبو الفتوح: علماء وحلماء وصادقون وأدباء.
• بنو ملهم وبنو عجل: أخَّاذون بالثأر.
ومن سائر الطوائف (العشائر) التي لا شأن لها كالطوائف المذكورة، يسمِّي مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب..” بني صيدان وبني طرطور وبني قبع، ويصفهم بأنهم “جلب” أي جيء بهم بعد العشائر الأولى الرئيسة.

قواعد الآداب حفظ الأنساب 2
قواعد الآداب حفظ الأنساب

برز المواضيع
يتضمّن كتاب “قواعد الآداب…” مواضيع كثيرة بالرغم من قلة عدد صفحاته وخلوِّه من العناوين. ومن المواضيع ما يلتقي فيها مع السِّجلّ الأرسلاني ومع تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، ومنها ما ينفرد به كالحديث عن أسرة بني الشويزاني، ومنها ما هو خاطئ كالقول إن عمارة حصن الأكراد هي من شغل أجداد الأمراء بيت معن الذين يتحدَّرون “من سلالة بني أيوب سلاطين بغداد وثغورها وحلب وثغورها والشام وثغورها ومصر وثغورها”. وبما أن المجال لا يتّسع لذكر جميع مواضيع الكتاب نكتفي بذكر أبرزها.
• أسباب قدوم العشائر إلى لبنان: يرد في “كتاب قواعد الآداب…” قدوم اثنتي عشرة طائفة، أي عشيرة، من اليمن إلى العراق، ثم انتقالها منه إلى معرَّة حلب بسبب قتل الملك كسرى للنعمان، وبما أن حكم الملك كسرى للفرس بدأ في سنة531م، فإن نزوح هذه الأُسَر هو بعد هذا التاريخ وهذه الأُسَر عادت وانتقلت من معرَّة حلب، أي معرَّة النعمان، إلى “بلد بيروت” بسبب اعتداء مشدّ المغل على إحدى نسائها، مما دفع بأحد أبنائها (نبا) إلى قتله والخروج من جهات حلب مع بعض النساء والأولاد إلى كسروان ولحق بهم أقاربه. وكان خروج هذه الطوائف من المعرَّة بتاريخ شهر المحرّم سنة خمس ومايتي سنة” وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران820م.
• توطُّن العشائر: ورد في كتاب “قواعد الآداب…”أن نبا كان أوّل القادمين من معرَّة النعمان إلى جبل لبنان، ثم قدمت إليه سائر الطوائف (العشائر) عبر المغيثة، أي ضهر البيدر، ومنها من نزل أوّلاً في حصن أبي الجيش في وادي التيم. وقد توطَّنت العشائر الاثنتا عشرة مناطق المتن والجرد والغرب والشوف، وتقاسمت بعض قراها. وورد في الكتاب أيضاً اسم المكان الذي نزلت فيه كل عشيرة من العشائر القادمة أوّلاً، ومن العشائر التي تفرّعت منها أو لحقت بها، فبلغ مجموع هذه الأمكنة 140 قرية، أكثريتها الساحقة في جبل لبنان الجنوبي، ولا يزال منها 121 قرية عامرة حتى اليوم، فيما هناك 19 قرية دارسة، وهذا مع توطُّن العشائر التي قدمت إلى لبنان في سنة 758م، ساهم في إعماره، وملء الفراغ السّكَّاني الذي حصل فيه بعد الفتح العربي له وجلاء الرومالبيزنطيين عنه، كما ساهم في نشر الدين الإسلامي فيه، واللغة العربية التي حلّت مكان اللغة السّريانية، مع بقاء آثار الأخيرة ظاهرة في العديد من أسماء المكان القديمة.
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” الذي هو من الموِّحدين (الدروز) لا يكتفي بذكر القرى التي يقيمون فيها، بل يذكر المقيمين بينهم، أو بالقرب منهم، من أصحاب المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فيقول إن السُّنَّة موجودون في قرى سبلين والوردانيَّة والجيّة وشحيم ومزبود وعانوت والناعمة وبطلّون وبحمدون ومجدل معوش، وإن الشِّيعة (المتاولة) موجودون في البرج القريبة من بيروت، وفي إقليم الخرُّوب وجبل عامل، لكنه لا يذكر شيئاً عن النصارى، لأنهم كانوا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مقيمين في جبل لبنان الشمالي.
ذِكْر الملك العادل نور الدين محمود زنكي: يرد في كتاب “قواعد الآداب..” أن أحوال المسلمين والبلاد تغيَّرت في عهد الملك العادل الذي قهر الفرنجة وكان “أعدل الرعية وفتح بعض البلاد وعمّر القرايا”، والذي نادى في الناس “من أراد السكن بالحماية والرعاية والعزّ والعدل والقوة عليه بكنيسة حمام [الكنيسة في وادي التيم] فانبث الخبر في البلاد” ورحل بعض المتوطِّنين في جبل لبنان إلى الكنيسة16.
والملاحظ أن مدوِّن كتاب “قواعد الآداب..” يُطلِق على الملك العادل نور الدين لقب “سيدي”، ويترحَّم عليه بقول: “قدّس الله روحه”، وهذه عبارات معتمدة عند رجال الدين من الموحِّدين (الدروز) يعطونها للرجل التقيّ الصالح، وقد كان الملك العادل ديِّناً وصالحاً، جاء عنه في تاريخ ابن سباط، الذي سنتكلَّم عنه لاحقاً، ما يلي:

كفرمتى وعبيه وقرى الغرب
كفرمتى وعبيه وقرى الغرب

“كان نور الدين لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلاَّ من ملك اشتراه من خالص ماله ومن عمل السكاكر [الأقفال] للأبواب… وكان يستفتي الفقهاء في ما يحلُّ ويحرم، ولم يلبس حريراً ولا ذهباً ولا فضة، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان يحدُّ شاربَها”.
• غَدْر الفرنجة بأبناء الأمير كرامة بن بحتر التنوخي: إن قصّة غدر صاحب بيروت الفرنجي اندرونيكوس كومنينوس بثلاثة من أبناء الأمير كرامة بن بحتر واردة عند المؤرِّخ صالح بن يحيى في تاريخ بيروت، وهذه من المعلومات المتقاطعة بين مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” وبين صالح بن يحيى البحتري التنوخي الذي كتب بعده، مما يدلّ على أن هذا المؤلّف كان على صلة بالبحتريين، ويعرف تاريخهم كما وردت الإشارة إلى ذلك. ومفاد قصة الغدر هذه أن صاحب بيروت الفرنجي دعا أبناء كرامة إلى عرس ابنه في بيروت، فنزلوا من حصن سرحمور، وحين أصبحوا داخل بيروت ووسط الفرنجة غُدر بهم وقتلوا، وعندما فتح السلطان صلاح الدين بيروت، وكان معه الأخ الأصغر الرابع للمغدورين، أمر السلطان بالإحسان عليه وأقرَّه على أملاك أبيه وأقاربه.
• أسرة بني الشويزاني: المتداول عن تاريخ هذه الأسرة في لبنان، قبل تحقيق كتاب “قواعد الآداب…” ونشره، معلومات قليلة، منها أنها أصل أربع أُسَر درزيّة، هي: آل عبد الملك، وآل أبو هرموش، وآل حماده، وآل أبو حمزة ومنها إهمالها الحراسة في ثغر الدامور سنة 1302م مما تسبّب في قتل أمير بحتري تنوخي وبعض المرابطين معه، ومنها اسم منطقة في الشوف هو الشوف السويجاني، واسم حصن هيلنستي فيه هو قصر السويجاني. ولفظة “السويجاني” هي تصحيف للفظة “الشويزاني”17.
إلاَّ أن كتاب “قواعد الآداب..” أضاء على أسرة بني الشويزاني، حين تحدَّث عنها في 4 صفحات كاملة، وأشار إليها في 3 صفحات، من أصل الكتاب المطبوع الذي تبلغ صفحاته 24 صفحة ونصف. فلقد ذكر فروع هذه الأسرة، وأماكن نزولها. كما توسَّع في الحديث عن حادثة جرت بينها – حين كانت في تيروش إلى الشمال الشرقي من عين داره- وبين الدرغام (مقدّم سبعل القريبة من بحمدون) والبقاعيّين، وتحدَّث عن انتصارها على البقاعيِّين، وعن تسمية بني نمر وبني روق للقائد المنتصر (فهد الشويزاني) بالمقدام (المقدّم) والعقيب18.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي