الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ذاكرة الوطن

حول كتاب «التاريخ المعاصر للموحدين الدروز» للدكتور عباس أبو صالح
ذاكرة الوطن في كل مكوناته

«لبنان أكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون أكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه»
(كمال جنبلاط: في كتاب «من أجل لبنان»)

د. أنطوان مسرّة
عضو المجلس الدستوري

ما معنى الإنتماء اذا كان التلميذ في الكورة وبعقلين وكسروان ومرجعيون وبيروت لا يرى أين هو موقعه في تاريخ كـــل لبنان؟

لا يجب أن نخاف من تنمية التواريخ العائلية والمحلية والمناطقية والمذهبية
لأنها تساهم في إدراك الإنجازات المشتركة وفي مصالحة ذاكرات اللبنانيين

تتجاهل غالباً المقاربة التقليدية والسائدة للبناء القومي، من خلال مركز يمتد بالقوة الى كل الاطراف، إشكالية التواريخ المحلية وتواريخ المكونات الدينية والثقافية، أملاً من هذه المقاربة السائدة بتحقيق الاندماج الوطني. أما البناء القومي بالمواثيق على نمط الديموقراطيات الأوروبية الصغرى (سويسرا، بلجيكا، النمسا، البلاد المنخفضة) ولبنان وايرلندا الشمالية وأفريقيا الجنوبية وجزر فيدجي… فهو يتطلب شمول التاريخ كل مكونات المجتمع المحلية والمناطقية والدينية في سبيل تنمية الإدراك النفسي، وبالعمق لإشكالية تكوّن الوحدة المشتركة والجامعة.
تتحوّل في هذا السياق الوحدة من مجرد شعار الى واقع حياتي معيشي، فلا نختزل تالياً تاريخ لبنان بجزء من جبل لبنان، بل نجعله يشمل تاريخ جغرافيا لبنان الكاملة، كما هي محدّدة في الدستور اللبناني وكامل مكوناته الانسانية. ما معنى إنتماء اذا كان التلميذ في الفرزل والكورة وبعقلين وكسروان ومرجعيون وبيروت… لا يرى أين هو في تاريخ كل لبنان؟
في لبنان ذاكرات طوائف ليست بالضرورة نزاعية، بل قد تكون متكاملة ونابعة من علم النفس التاريخي المتراكم بسبب موقع كل طائفة جغرافياً وخبراتها التاريخية. أدرك ذلك من خلال خبرتي البيروتية وانتمائي الى مذهب الروم الملكيين الكاثوليك وجذوري الارثوذكسية، وربما أيضاً الاسلامية في بعض فروع العائلة. التواصل الاسلامي المسيحي هو الخبز اليومي “لبيارتة” الروم الملكيين الكاثوليك والارثوذكس… الذين عاشوا غالباً في المدن وتعاطوا التجارة وتفاعلوا مع محيطهم اللبناني عامة والعربي. قد يكون الوضع مختلفاً – وليس دونياً – بالنسبة الى طوائف أخرى. فهل نأخذ في الاعتبار كل تواريخنا ونتصالح معها في تناغم مشترك وخلاّق؟
إن تجاهل الذاكرات التاريخية المتنوعة وحساسيات الذهنيات في عمق اللاوعي لدى نقل التاريخ لا يخدم علم التاريخ ولا يخدم الوحدة الوطنية. الخبراء في إثارة الفتنة، داخلياً واقليمياً، يستغلون الذاكرات الفئوية المكبوتة التي لم يتم إخراجها من اللاوعي لمعالجتها وتنقيتها. قد تتكامل عندئذ لبنانية البعض الاطلاقية وعروبة البعض الآخر الاطلاقية في عروبة لبنانية حضارية وليس عروبة السجون.
يتكلم عباس ابو صالح عن “حروب” في لبنان في “ظروف اقليمية ودولية”، وعن “معاناة اللبنانيين الكثير من ويلاتها ومآسيها”. يصدر كتابه، وبفضل جهود رفيقة عمره وامانتها ووفائها، في ظروف تحولات في المنطقة، اذ يوفّر جواباً على تكهنات تستهدف النسيج العربي التعددي فيبرز لنا تالياً “دور الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين ومواقفهم البطولية الى جانب مقاومتهم لمخطط التقسيم الذي ما زالت تسعى اسرائيل لتطبيقه من خلال الحروب الاهلية”.
يطرح الكتاب “آفاقاً جديدة للبحث”، مُركّزاً على “نضال الدروز المستمر في سبيل وحدة الاراضي في لبنان وسوريا”، ودورهم في تحقيق الاستقلال والدفاع عن الحرية الفردية واحترام حقوق المواطن، والعمل على الاصلاح السياسي والاجتماعي، وتمسكهم بـ”كيان لبنان المستقل دون دمجه كلياً أو جزئياً “، ومشاركة الدروز، بخاصة في معارك المالكية التي أسفرت عن نصر عسكري على الدولة الصهيونية “رغم امكانات الجيش المتواضعة”، واهمية تمسك دروز فلسطين بأرضهم.
يعتمد الكاتب على مصادر موثقة وغالباً اولية. أما غايته فيذكرها كالتالي: “بناء لبنان جديد، لبنان عربي ديموقراطي علماني موحد (…) والتقدير للأعلام والرموز الذين خدموا التاريخ“.
تبرز من خلال الوثائق والأحداث الممتدة أن “علاقة الدروز بالطائفة اليهودية لم تكن دائماً ودية وسلمية”. ولم يكن الدروز “أقل وعياً للخطر الاستيطاني الصهيوني”، وساهم تالياً “دروز سوريا ولبنان في دعم ثورة القسّام التي لا تقل شأناً عن مساهمة سائر القوى الوطنية في المشرق العربي”.

الأمير مجيد أرسلان لعب دوراً مهماً في حرب فلسطين ثم استقلال لبنان والزعيم كمال جنبلاط كان رائداً للإصلاح السياســي وفكرة العدالة الاجتماعية

مجاهدون دروز في المختارة اثناء انتفاضة 1958
مجاهدون دروز في المختارة اثناء انتفاضة 1958

تعبّر الوثائق الصهيونية بوضوح عن “الجهود التي بذلها قادة الصهاينة في فلسطين لوقف ومنع المجاهدين الدروز من الالتحاق بالثورة الفلسطينية 1936 – 1937”. وتجاه مساعي التجزئة وتقسيم الكيانات العربية، اتخذ الدروز “الموقف الوطني الصارم”. ويذهب الكاتب الى أبعد من ذلك فيقول: “تقضي الامانة أن من اختار البقاء في فلسطين قد فعل خيراً للوطن، لأن من مصلحة اسرائيل هدم الكيان اللبناني”. هل تتباين بين المذاهب هذه العلاقة العدائية مع الصهيونية؟ تظهر الوثائق الصهيونية “عدم ثقة الصهاينة بأية طائفة عربية في فلسطين بما فيهم الدروز”.
ويورد المؤرخ تقريراً جاء فيه: “إننا لا نستطيع تجاهل ولو للحظة واحدة تجربتنا ومعرفتنا للدروز والمسيحيين، إنهم بهذا لا يختلفون عن المسلمين بل ربما كانوا أسوأ منهم”. شارك الدروز في ثورة فلسطين (1939-1935) وقاوموا مخطط التهجير من منطقة الجليل وقاوموا شراء ما امكن من الاراضي في القرى والبلدات الدرزية في جوار حيفا والجليل. وطالب سلطان الاطرش أن يكون في عداد جيش الانقاذ عدد اكبر من المتطوعين الدروز. وفي آذار 1948 دخلت مجموعة شكيب وهاب الى منطقة الجليل في فلسطين ونزلت في بلدة شفاعمرو.
ما هو واقع الدروز في سوريا؟ شغلت زعامات درزية لبنانية، كالامير عادل ارسلان وعارف النكدي وغيرهما، مراكز مهمة في حكومة العهد الاستقلالي الاول في سوريا. يقول عباس ابو صالح: “إن موقع الدروز في سوريا ورغم اسهامهم الكبير في العمل الوطني بقي ثانوياً، والى الحد الذي خابت معه آمال الوحدويين ولاسيما وهم الذين سبق أن ناضلوا من اجل وحدة الوطن السوري خلال عهد الانتداب”. تاريخ الدروز في سوريا حافل بالتضامن الانساني. خلال 1943-1939 قام الامير مجيد ارسلان بزيارة لجبل الدروز في حوران في هذه الفترة الحرجة بهدف ارسال مزيد من القمح. وبادر بدوره كمال جنبلاط الى “توزيع محصول املاكه من القمح على المحتاجين خلال الحرب مساهمة منه بتخفيف هذه الازمة التموينية”.
لا يخفي المؤرخ صمت البعض خلال مرحلة 1942-1939: “البعض الآخر ظل صامتاً وكأنّ لا موقف له”. ويقول في مجال آخر: “إن حياد جبل الدروز كما حياد سائر الوطنيين في سوريا ولبنان لم يكن على ما يبدو مضموناً في نظر الحلفاء من دون رشوة سياسية أو ثمن ما يجب تقديمه للقوى الوطنية”. ويذكر ايضاً: “أن تعاون هؤلاء الافراد الدروز مع الصهاينة وانشاء وحدة عسكرية خاصة بهم في ما بعد لم يلقَ أي يوم قبولاً اجماعياً من دروز فلسطين”. أما عن عزوف قسم آخر من شباب القرى الدرزية في الجليل الاعلى عن الانضمام الى جيش الانقاذ يومذاك فيعزو ذلك الى فقدان هؤلاء للشعور القومي العربي”.
ما يستوقف في الكتاب الكلام عن شخصيات درزية مرموقة بخاصة كمال جنبلاط الذي “أخذ يمثل دوره الرائد في الاصلاح السياسي خلال عهد بشارة الخوري (…) متجاوزاً أي دور طائفي لخدمة مصلحة الدروز دون غيرهم (…) كان الشاغل الاساسي لكمال جنبلاط، في مرحلة الاستقلال وخلال عهد بشارة الخوري بالذات، الاصلاح السياسي وبالتالي الاهتمام بشؤون طبقة العمال والفقراء في المجتمع اللبناني بأسره، والتي لا تنحصر بالطبع بالموحدين الدروز أو بطائفة معينة في لبنان”. وللأمير مجيد ارسلان دور رائد في معركة المالكية.
ومن الشخصيات الدرزية البارزة التي يذكرها المؤلف فريد زين الدين ومحمد علي حماده وفؤاد ورشيد ارسلان وسلطان الاطرش… الدروز في فلسطين وسوريا ولبنان استقلاليون ومدافعون عن السيادة والاستقلال. يقول عباس ابو صالح: “كانت غالبية درزية في جبل لبنان تميل ايضاً الى معارضة مشروع سوريا الكبرى، وكذلك مشروع الهلال الخصيب”.
ما هو موقع الدروز في التوازن اللبناني؟ يذكر المؤلف أن مسألة تأليف حكومة احمد الداعوق في نيسان 1941، والتي لم يتمثل الدروز فيها كعادتهم، أثارت نقمة الرأي العام في مختلف المناطق الدرزية، وقدم وفد درزي برئاسة الامير مجيد ارسلان وحكمت جنبلاط – ممثل الست نظيرة جنبلاط على الصعيد السياسي – احتجاجاً بشأن حرمان الدروز في لبنان من هذا التمثيل للمندوب الفرنسي الجنرال دانتز. واذ عمد المندوب الفرنسي لتبرير الحرمان بتعيين أحد وجهاء الدروز، شفيق الحلبي، محافظاً على مدينة بيروت فإن زعماء الطائفة لم يقبلوا بهذا التبرير. وسبق أن اثار الامير مجيد ارسلان موضوع مشاركة الدروز في مجلس النواب في نيسان 1937.

غلاف-الكتاب
غلاف-الكتاب

ويذكر نشاط السفير سبيرز بعد اجتماعه بالبطريرك الماروني، ومن ثم بمفتي الجمهورية اللبنانية، وصولاً الى التسوية المقبولة، وهي المعروفة بصيغة ستة نواب مسيحيين لكل خمسة نواب من المسلمين أي ما يُعرف بالقاعدة الإحدى عشرية.
عن مشاركة الطوائف في الحكم ومشاركة الدروز بشكل خاص، يذكر الكاتب عدم معارضة النائب جميل تلحوق عند مناقشة الدستور تضمينه المادة 95 التي تنص على تمثيل الطوائف اللبنانية بصورة عادلة في الوظائف العامة، وذلك – كما يذكر عباس ابو صالح – “من باب الواقعية السياسية ايضاً”، وبسبب “خشية النائب جميل تلحوق من هيمنة الطوائف اللبنانية الكبيرة على الاقل عدداً كالطائفة الدرزية”.
ماذا يقول الكاتب عن ولادة الاستقلال اللبناني والميثاق الوطني؟ إنه يصف الميثاق اللبناني كالتالي: “الميثاق الوطني هو عبارة عن اتفاق عملي للعيش المشترك بين مختلف الطوائف اللبنانية في وطن واحد”.
رفض الدروز دائماً التدخل الاجنبي: “إن تعطيل بناء الدولة الحديثة والمجتمع اللبناني الموحد في ولائه للوطن، لم يكن بعد قيام الميثاق الوطني فحسب، بل بسبب اسرائيل وضربها للصيغة الوطنية اللبنانية الناقضة لأسسِها مما جعل البلد يسقط في مستنقعات الحرب الاهلية ومضاعفات الاحداث الاقليمية التي كانت تنفخها الدول الكبرى واسرائيل”.

رفض الدروز دائماً التدخل الأجنبي وقاوموا مشاريع الدويلات كما قاوموا تذويب لبنان في مشروع الهلال الخصيب وسوريا الكبرى

كتاب عباس ابو صالح هو مساهمة ضرورية ومفيدة كي يعرف اللبنانيون الدروز واللبنانيون عامة أنفسهم حسب تعبير كمال جنبلاط في كتابه: “من اجل لبنان”، اذ يقول كمال جنبلاط: “لبنان اكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون اكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه. كان بوسعه حقاً أن يعطي العالم أمثولة، وأن يكون وطن التوفيق بين الثقافات، ورمزاً ضرورياً اكثر من مفيد، لأنه إنساني حقاً ، ولكُنّا أعطينا معنى جديداً للمساكنة الإنسانية، وقدمنا للمجتمع الحديث مثلاً عن جماعة مختلفة، ليست مجرد حشد من الأفراد على الطريقة الغربية، بل تجمع من الثقافات، أو قل “عصبة أمم” صغيرة”.
إن التواريخ المحلية وتواريخ الطوائف والمذاهب في لبنان، اذا ما قوربت بأمانة، تُظهر بوضوح أن تاريخ كل طائفة في لبنان – الا في الشؤون الفقهية واللاهوتية – هو اولاً تاريخ مساهمة مُميزة في البناء الوطني العام، وهو ثانياً تاريخ تواصل وتفاعل. لا نخشى تالياً من تنمية التواريخ العائلية والمحلية والمناطقية والمذهبية… في لبنان لأنها تساهم في ادراك الانجازات المشتركة وفي مصالحة ذاكرات فئوية مكبوتة في اللاوعي، في حين أن ذاكراتنا في لبنان، البلد الصغير ذي الدور الكبير، هي غالباً وواقعياً متناغمة ومتواصلة ومتفاعلة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading