رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
القدس
والإسلام «السمْح»
تمثلُ القدس للديانات الابراهيميَّة أرضاً مباركة، ومكانةً لها دلالاتها الإيمانيَّة في الذاكرة التاريخيَّة، وبالتالي الوجدانيَّة، لكلٍّ منها. وفي التاريخ العام، من صدر الإسلام إلى العام 1967، أي طيلة ما ينيف عن أربعة عشر قرناً من الزمان، كانت “مدينة السلام” إسلاميَّة عربيَّة ما خلا عقود عديدة حاول فيها “الصليبيُّون” الاستيطان في المنطقة فما فلحوا، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح.
وإن أنصف المرءُ في النظر إلى سياق التاريخ، لوجد أن الأحياء الكبرى التي تكوّنُ واقع المدينة وهي: اليهودي والمسيحي والأرمني والعربي، فضلا عن امتداد مساحة المسجد المذكور في القرآن الكريم، والذي منه أسرى الله سبحانه وتعالى بعبده رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما جاء في الآية الكريمة، إزاء تلك الأحياء، بشكلٍ مميَّز مشهود يدمغُ المدينة، مع الصروح الدينيَّة الأخرى، بطابع حضاريّ لا مثيل له، لوجدَ إذًا، أن تلك المكوّنات نشأت ونمَت وتعايشت طيلة قرون، في ظلّ الحكم الإسلامي (العربي ثم العثماني)، من دون أن تزلزلَ أساسات وجودها عواصف الأزمات والنزاعات.
هذا عائدٌ إلى المقاربة العامَّة لإسلامٍ “سَمْح” تجاه مكوّنات النسيج الاجتماعي في أيّ بلادٍ انتشر فيها الإسلام. والمقصود هنا هو النهج العام الذي مكَّن من حفظ الكثير من الموروثات الحضاريَّة لكثير من الشعوب والأمم (قياساً إلى ما فعله الأوروبيون في القارة الأميركية بعد اكتشافها)، بالرغم من التعرُّض لأخطار الصراعات الناشبة بين المتنازعين عبر تعدُّد الحِقَب والمراحل التاريخية، وبالرغم من التعرُّض أيضاً في بعض الأوقات لمِحن سبَّبتها ظروفٍ عصيبة وقاسية.
هكذا، بقيت “القدس” ملاذًا إيمانياً ذا منزلةٍ سامية، بعيداً عن عواصم “السلطان” سواء أكانت في دمشق أم في بغداد أم في القاهرة. وهو ملاذ كرّسه نهج عمر، خليفة رسول الله، الذي أعطى لسكّان المدينة ما سُمِّي “العهدة العمريّة” بعد وصول المسلمين إليها، وقال: “يا أهل إيلياء، لكُم ما لنا، وعليكم ما علينا”، واستدرك بحكمةٍ راقية أمْرَ صلاته حين أدركه وقتها وهو يتفقّد كنيسة القيامة مع البطريرك صفرونيوس قائلا: ” ما كان لعمر أن يصلّي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلَّى عمر ويبنون عليه مسجدا.”
يجسِّدُ هذا الموقف الحضاري بامتياز، معنى “السماحة” في الاسلام، وهو موقف يرقى إلى مستوى “ثوابت الضمير والوجدان” لدى كلّ المؤمنين، وذلك بقوَّةِ صحَّة الموروث “الإيماني” الأثيل.
إنَّ القرار الأميركي الأخير بشأن “القدس”، يناقض بشكله وبمضمونه وبروحه وبمقاربته محمولَ التاريخ الذي هو، بكلِّ حال، في ذاكرة المدينة وحقائق تاريخها. وليس على المرء أن يسترسلَ في وصف “مساوئ” القرار المذكور، وآفاق نتائجه الوخيمة، وانحجاب الرؤية فيه عن كلِّ معنى حضاريّ شامل، وانحيازه التام لمقولةِ فئةٍ تحاولُ بمفهوم القوَّة أن تفرضَ سلطتها عبر العمل المحموم لتغيير هويَّة المدينة بكلّ الأشكال المتاحة لها.
إنَّ نتائج التصويت الأخير حول القرار المذكور في هيئة الأمم تكرِّسُ الدلالات التي طالما مثّلها الإسلام “السمح” كما مرَّ آنفاً. وهي نتائج تبيِّنُ مدى وضوح الحقّ الفلسطيني والإسلامي والعربي أمام العالم قاطبة. وعلينا أن نواصل النضال متسلّحين بالقيَم وبالمبادئ التي حملها تراثنا العريق، بل والتي تمثّل وجه الإنسانيَّة الحضاريّ إزاء كلّ محاولات تزوير التاريخ، وإهمال كلّ التراكم الذي مثله يوماً “المشروع الأممي” الذي يهدمه في عصرنا الحالي “الحق التعسّفي بالنقض” للدول العظمى. وليس لنا إلا أن نؤكِّد إيماننا الوطيد الراسخ، بأنَّ ربَّ الحقّ هو العظيم القدير، وبأنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه.
وإذا كانت رسالتنا اليوم القدس. فلا بدّ من أن نعرب عن تمنياتنا بالتوفيق لرئيس التحرير الجديد الدكتور محمد شيّا والمدير المسؤول الأستاذ نجيب البعيني في مهامهما. كما نتوجه بالشكر لرئيس التحرير السابق الأستاذ رشيد حسن على جهوده في إعادة انطلاق الضحى.