الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سعيد زين الدين

سعيد زين الدين فارس العدالة

سيرة قاض أصبح في عهود الاستبداد
رمزا لتحدي فساد الحكام انتصارا للحق

شجاعته في صون استقلال القضاء وعدل الأحكام
جعلت إحدى الصحف تشبهه بعدل عمر بن الخطاب

وبـّخ جمال باشا لمحاولته التدخل في عمل القضاء
فزاره القائد التركي بعد سنوات في دارته في عين قني

ذاع صيته كقاض شجاع وكمصلح في بلاد المشرق
وكانت الصحف تهلل لتعيينه رئيساً للقضاء في بلدها

عاقبه الفرنسيون لذهابه للتعزية بالمناضل رشيد طليع
لكنهم عادوا ورقّوه إلى أعلى منصب قضائي في لبنان

 

في حقبة تاريخية عصيبة تميّزت بثقافة الاستبداد وفساد المتنفذين وتحكم بعضهم بالأرزاق والأعناق تحوّل القاضي سعيد زين الدين إلى رمز لكلمة الحق وشجاعة الموقف وكان لنزاهته كقاض ورفضه لتدخل أهل السياسة وتمسكه بحكم القانون أصداء واسعة في المنطقة جعلت منه رمزاً للعدل يلتف حوله الناس وتهلل له المدن عند تعيينه كرئيس للقضاء فيها. لكن تمسك زين الدين الشديد بمسلكية القاضي الحر جلب عليه الكثير من المتاعب وكلفه في أحد الأوقات االنفي الى أقاصي الأناضول. فمن هو سعيد زين الدين وما الذي جعل من حياته قصة زاخرة بالأحداث والفصول المثيرة؟ في هذا الملف تعرض الدكتورة عايدة الجوهري لسيرة الرجل وللأسباب التي تجعل منه أحد أبرز الأعلام الذين أنجبتهم طائفة الموحدين الدروز في الأزمنة المعاصرة. والمقال مستقى من كتاب للدكتورة الجوهري يصدر قريباً بعنوان:“ القاضي والنقاب“.

ولد سعيد زين الدين سنة 1877 في جبل لبنان أيام حكم ثالث المتصرفين، رستم باشا (1883-1873)، وبعد سنة من وصول السلطان عبد الحميد الثاني إلى سدّة السلطة سنة 1876 وبعد 21 عاماً من إعلان المحطة الثانية من التنظيمات العثمانية الإصلاحية المعروفة بخط همايون (1856)، الذي تلا الخط الأول خط كلخانه (1839). وقد أطلقت تلك الإصلاحات موجة من السياسات التحديثيه العثمانيه في مجال الإدارة والتعليم. لكن قيض لسعيد أيضاً أن يشهد في مستهل حياته المهنية كقاضٍ انقلاب جمعية “الاتحاد والترّقي” المتعصبة سنة 1908 وخلعها للسلطان عبد الحميد، وتعيين محمد رشاد بديلاً عنه مع تجريد الأخير من معظم صلاحيات السلطان. وأطلق انقلاب الطورانيين حملة التتريك واضطهاد العرب وثقافتهم، كما قام العهد الجديد بإلغاء نظام المتصرفية سنة 1915 بعد سنة من إندلاع الحرب العالمية الأولى (1914) التي انتهت بهزيمة العثمانيين وجلاء الأتراك عن لبنان سنة 1918، ودخول لبنان في حقبة الإنتداب الفرنسي تنفيذاً لإتفاقية سايكس- بيكو السرية (1916) بين بريطانيا وفرنسا.
وبذلك شهد سعيد زين الدين المخاضات السياسية الكبرى التي إنتقلت فيها المنطقة العربية ومن ضمنها لبنان، من حالٍ الى حال، كما شهد التطور التحديثي الذي نجم عن التنظيمات الإدارية وكذلك عن النهضة غير المسبوقة في مجالي التعليم والعمران، والتي ساهمت الإرساليات الأجنبية والمدارس الخاصة الطائفية والعلمانية التي كانت تدرس العلوم الحديثة في انطلاقها. وقد بلغت هذه الإصلاحات أوجها في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر وصولاً الى العقود الأولى من القرن العشرين.
في ظل هذه التحولات ولد سعيد وأتمّ علومه وولج الحياة المهنية كقاضٍ، متنقلاً بين ولاية عثمانية واخرى، روتينياً أو تأديبياً، خائضاً مواجهات متواصلة استهدفت محاربة الفساد وإصلاح القضاء وصون حصانة القاضي واستقلال قراراته واحكامه عن أي ضغوطات أو تدخلات. وقد أثارت مواقف سعيد في كل مرة ضجة إعلامية وسياسية وتابعتها صحف تلك الفترة في لبنان ومصر وفلسطين بصورة خاصة بكل اهتمام وحماس حتى بات سعيد زين الدين في أكثر من مواجهة بطلاً حقيقياً للعدل ومثالاً للقاضي النزيه الذي يواجه بشجاعة عسف النافذين والمسؤولين الفاسدين.
لا بدّ من القول إن مسار سعيد زين الدين ونضاله القضائي تأثرا بعوامل عدة منها مكانة الأسرة وشخصية الرجل التي تميّزت بالذكاء والجرأة بل العناد في الدفاع عن قناعاته واستقلاله كقاضٍ. وهناك ايضاً البيئة الاجتماعية والثقافية المتحرّرة في بيروت وفي فلسطين ومصر وهذه قدمت لسعيد الكثير من الدعم والتشجيع في مواجهته مع الحكام.

كتيّب نادر
يعود الفضل في انتقال الكثير من التفاصيل المثيرة لحياة هذا الرجل الفذّ إلى وجود كتيب صغير مجهول المؤلف من 86 صفحة من الحجم الصغير، طبع بحروف كبيرة ويحمل عنوان “حياة رجل” محفوظ لدى حفنة صغيرة من الباحثين وبعض اقارب سعيد وجيرانه، في عين قني إذ لولاه لضاع الكثير من سيرة هذا الرجل، كما ضاعت وتضيع سير كثير من الرجال المتفردين بسبب نقص التدوين في زمانهم أو عدم اهتمامهم هم أنفسهم بذلك.
وقد وقّع الكتاب بإسم “لبناني” واستهله الكاتب المجهول بإهداء جاء فيه “الى القاضي الحر العارف قدر ضميره ، الى الحاكم العادل الذي اوصد في وجه الناس ابواب الشفاعات، الى نصير المظلوم، وحصة البريء وملجأ البائس الى سعيد بك زين الدين رئيس الإستئناف الأول، أقدّم هذا المؤلف الصغير مطوياً على تاريخ حياته”

من هو سعيد زين الدين؟
هو بن زين الدين بن حسن بن ابراهيم بن يوسف بن زين الخطيب، قدمت أسرة زين الدين من جرمانا في سوريا الى عين قني الشوف، بشخص ابراهيم بن يوسف بن زين الدين ثم نسب ابناؤه واحفاده اليه.
ولد سعيد سنة 1877 في عين قني ولكنه ما لبث ان غادرها في عمر مبكر الى بيروت، الى مدرسة الحكمة، لإتمام دروسه الإبتدائية والإعدادية. على الأرجح في اواسط ثمانينات القرن التاسع عشر، لينتقل بعدها الى المكتب الإعدادي العثماني، ثم الى “مكتب الحقوق الأعلى” في الآستانة.
كان لمدرسة الحكمة، بنوع خاص، فضل في نشر اللغة العربية منسجمة في ذلك مع النداء الذي ترددت اصداؤه منذ منتصف القرن التاسع عشر، في إطار حلقة المعلم بطرس البستاني، والجمعية العلمية السورية، فتخرّج من مدرسة الحكمة اساتذة كبار وشخصيات بارزة احتلت مراكز حساسة ادارية وقضائية وفيها درس شكيب ارسلان (1946-1860) وأمين تقي الدين (1937-1884) وكان هذا الاخير شاعراً ومحامياً و عادل ارسلان (1887 – 1954) وكان سياسياً ومناضلاً معروفاً، عدا عن شغله مناصب ادارية ايام المتصرفية، واحمد تقي الدين (1937-1884) وأمين تقي الدين (1935-1888) وكان في عشرينات القرن رئيساً لمحكمة الشوف في بعقلين.
كانت مدرسة الحكمة مدرسة سعيد الأولى وأتمّ فيها الصفوف ما قبل النهائية، الإبتدائية والإعدادية اي المعادلة لصفوف البريفيه، وفي مدرسة الحكمة تلقى سعيد العلوم الحديثة واتقن اللغتين العربية والفرنسية وبعض الإنكليزية، وتعلم فن الخطابة، إلا أن العائلة قررت أن ينتقل الى الآستانة ليتابع علومه في المكتب الإعدادي العثماني.

المنزل كما يبدو  اليوم
المنزل كما يبدو اليوم

الانتقال إلى الآستانة
انتقل سعيد الى المكتب الإعدادي العثماني وهو أحد المكاتب الإعدادية العثمانية التي تمّ إنشاؤها في اواخر ثمانينات القرن التاسع عشر واستمرت حتى نهاية حكم السلطان عبد الحميد، وقد تمّ تنظيمها وفق مناهج التعليم الحديثة وكانت تؤهل لدخول مدارس التعليم العالي التخصصي،
وبعد انهاء دراسته في المكتب الإعدادي العثماني ذهب سعيد الى الآستانة لإكمال تعليمه ودراسة الحقوق نظراً لأنه لم يكن يتوفر في بيروت معهد لتدريس الحقوق والفقه، كونهما كانا متلازمين، سوى معهد الحكمة للحقوق الذي تأسس سنة 1877 لكن سعيداً اختار المعاهد الرسمية العليا للتخصص في هذه المادة، ولم تكن هذه متوفرة في بيروت. وبالتالي كان يتوجب على من يريد متابعة تحصيله العلمي العالي خارج مدارس الإرساليات والمدارس المحلية الخاصة ان يقصد إسطنبول.
ويبدو أن سعيداً، بتشجيع من عائلته، كان يخطط لشغل منصب في المؤسسات الرسمية العثمانية، وقد كان لمتخرجي الآستانة بريق خاص فكان معظم الذين شغلوا مناصب ادارية في دوائر السلطة العثمانية من خريجي معاهد الآستانة. وكان سعيد موضع إعجاب نظاره والقائمين بأمره لذكائه ونبوغه، وما لبث أن حاز شهادة الدكتورية (الدكتوراه) في الحقوق مع علامة “على الأعلى” مما فتح امامه ابواب الوظائف القضائية الرفيعة.
وكانت المؤسسات القضائية أحد مرتكزات التنظيمات التي كانت تهدف لاحتواء مختلف مكونات الامبراطورية وانشاء ادارة وقضاء يستوعبان “التنوع الملي” على قاعدة المساواة الحقوقية بين الملل في الإدارة والقضاء والجيش والتعليم، وعلى قاعدة التوفيق بين مصالح الملة و”الأمة” في اطار الهوية العثمانية الواحدة وكان الجهاز القضائي عماد تطبيق تلك القوانين. كما ارادت “التنظيمات” تخويل كل عثماني الانخراط في مؤسسات الدولة، في اطار الهوية العثمانية الجامعة مع الإبقاء على الامتيازات التي أعطيت تحت ضغط الدول الأوروبية للملل غير الاسلامية.

جانب من الباحة الداخلية
جانب من الباحة الداخلية

أبواب العمل في المتصرفية
في ذلك الوقت ولد استقلال جبل لبنان الذاتي مجموعة من المناصب الحقوقية والقضائية بفضل المحاكم الذاتية التي تمّ انشاؤها طبقاً لبروتوكولي 1861 و1864 الناظمين لإدارة الجبل. وقد كانت الوظائف العمومية في تلك الفترة على حد قول بشارة الخوري “وقفاً على العائلات الكبيرة في البلاد والوظيفة آنذاك كانت كل شيء, فهي مطمح الانظار ومصدر النفوذ والوجاهة، يتناحر في سبيل الوصول اليها البيت الواحد والاصدقاء، ويتهالكون للفوز بها “. وقد كان بعض رجال الاقطاع الدروز يضطرون لبيع ممتلكاتهم ليشتروا بثمنها من المتصرف واعوانه المراكز الادارية للمحافظة على مستواهم المعيشي السابق.
لكن مسار هذه الظاهرة التي وسمت عهد المتصرفية بشكل سافر وترافقت مع تراجع دور الإقطاع الاقتصادي والسياسي، لا ينطبق على سعيد الذي تميّز في مساره الدراسي، وشغل في مستهل حياته المهنية مناصب في بيروت وفي الولايات العثمانية والعربية، دونما حاجة الى وساطة سياسية محلية إذ كان والده زين الدين بن حسن الخطيب وكيلاً لنسيب جنبلاط، ابن سعيد جنبلاط، وقد اعانه مركزه ووضعه المالي على تعليم اولاده محمد وسلمان وسعيد وارسالهم للدراسة في بيروت ثم الآستانة. وقد تولّى محمد القضاء في محاكم عدة منها عضوية محكمة الجزاء الاستئنافية التي نقل منها الى رئاسة محكمة الشوف سنة 1907 وكان شاعراً ، يتقن النظم باللغتين العربية والتركية، ونظم عدة قصائد في مدح السلطان عبد الحميد اصدرها في كتاب حمل عنوان “كتاب العقود البهية في المآثر الحميدية لناظمها العبد الأمين محمد زين الدين” المتوطن في مدينة بيروت – الجزء الأول- طبع في مطبعة جريدة بيروت 1312هـ، 1894م”،
اما سلمان المولود سنة 1865 في عين قني، فقد عين مديراً للشوف ولكنه ما لبث ان استقال لانه غير ميالٍ الى الوظائف الحكومية وهو ترك مؤلفاً واحداً هو كتاب “زبدة القوانين”، أوضح الكاتب على غلافه بأنه مختصر لمجلة الأحكام العدلية واصول المحاكمات الحقوقية والجزائية وقانون الجزاء الهمايوني وقانون التجارة، وقد أضاف اليها اصول تقسيم الإرث وتوفي سنة 1935.
ولم تكن علاقة سعيد بأخويه محمد وسلمان عادية، واتسمت بالتضامن والتآزر والتكافل، وكانت حياتهم اليومية مشتركة، وكان المنزل الكبير الذي كانوا يقيمون فيه في “عين قني” مشتركاً أيضاً وكذلك الممتلكات الموروثة. وقد لجأ الأخوة الثلاثة الى عقد مكتوب يحدّد كيفية ادارة الممتلكات، وتوزيع المسؤوليات، كما كيفية إدارة الحياة اليومية المشتركة في المنزل الكبير، وحدّدوا فيه آليات ديمقراطية لإتخاذ القرارات وفض النزاعات التي قد تنشب بينهم، وذلك بلغة قانونية تفصيلية صارمة.

سيرة قضائية حافلة
كانت سيرة سعيد القضائية مميزة، إذ باشرها بأهلية عالية ولكن ايضاً بشجاعة مستنداً الى ثقافة قانونية حديثة هي ثقافة التنظيمات والدساتير والى الرغبة بالإصلاح والتحديث والحرية والى شخصيته المجبولة على رفض المساومة على الحق.
وقد عين سعيد عقب تخرّجه من الآستانة في دائرة الجزاء الأولى ثم في القسم التجاري من محكمة الإستئناف في عاصمة الولاية بيروت، غير أن وزارة العدلية ما لبثت، أن عينته مدعياً عاماً في متصرفية قوزان، من أعمال ولاية أضنة في 9 آذار سنة 1897، وكانت وظيفته هذه أول وظيفة عهدت إليه، ومنذ ذلك الحين بدأت حياته في خدمة الدولة.
أما المناصب التي عهد بها اليه، فهي بعد النيابة العمومية في قوزان، مثلها في كليسة، تلك المدينة التي اشتهرت في حرب البلقان، غير انه ما لبث أن دعي في وقت لاحق الى رئاسة محكمة الجزاء في متصرفية كوملنجة، من أعمال ولاية ادرنة، في 21 نيسان 1903.

ذيوع صيته في حلب
تمّ تعيين سعيد بعد ذلك سنة 1907 مدعياً عاماً في محكمة استئناف ولاية حلب، وكانت شهرته قد سبقته إليها، فما إن وصلها حتى استبشر أهلها بفاتحة عصرٍ جديد للعدالة والحق، وتغنّى السكان على مختلف أحزابهم وطوائفهم بذكر مآثره السابقة ولهجت جرائد حلب بالحديث عن نزاهة الرجل وعدله ورحّب أحد شعراء حلب المسيحيين به قائلاً:
شــــــــكــــــــــــــراً لآلاء الإلـــــــــــــــــــــــه فقــــــــــــــد حبــــــا
هـــــــذي الولايــــــــــة حامــــــــــــي القانـــــــــــــــــــــــــون
نـــــــدب قـــــــد اتخــــــذ العدالـــــــــــــــــة شـــــــــــــــــــــيمةً
واتــــــــــــى لدفــــــــــــــع مضــــــــــــــــرة المســـــكــــــــــــين
وجــــرى علــــــى نهــــــــــــج قويــــــــــــم منصـــــــــــــــــــف
وفقـــــــــــــا لشـــــــــــرع عــــــــــــادل مســنــــــــــــــــــــــــون
فغــــــــــــدت بــــــــــــه هــــــــــــذي الولايــــــــــــــــة جنـــــــــةً
واستبشــــــــــــرت بقدومـــــــــــــــــــه الميمـــــــــــــــــــــــون
وبــــــــــــه ازدرهــــــــــــت حلــــــــــــب وأرخ شعبـــــهــــــــــــا
قد اسعــــــــــــدت بسعيــــــــــــــد زيــــــــــــن الديــــــــــــن
(حلب 1907)

بعد أشهر قليلة من تولّي سعيد هذا المنصب، بدأ أهل حلب يلمسون التأثير الفوري لقدومه وكانوا يتابعون بإهتمام التدابير الإصلاحية التي اتخذها، لجهة اختيار الموظفين الأكفاء، وتنظيم دوائر العدلية، وإنجاز الدعاوى المتراكمة، فكتبت جريدة “صدى الشهباء” في 18 شباط/فبراير 1910: “فالناس كلهم ألسنة شكر وثناء، على هذا الرجل الفاضل، الساهر على تأمين الحقوق مهما كانت، الذي لم ترزق شهباؤنا مثله منذ زمن طويل، فإن مهضوم الحقوق يراجعه، ولا حاجب على بابه، فإن كان تركياً يقضي له حاجته بلسانه التركي، وإن كان عربياً فبلغته، مع كل بشاشة وجه، وحسن خلق”.
وكتبت جريدة “التقدم” في 22 آذار/مارس 1910: “إن وجود هذا الرجل عندنا، يعدّ نعمة كبرى تقتضي منا الشكر، فقد أجمع العموم على أنه لم يتسلّم زمام هذه الوظيفة رجل أكثر منه اقتداراً واختباراً ونزاهة واستقامة واثاره ظاهرة لكل ذي عينين لا ينكرها الا المكابر، فإن دوائر العدلية، قد انتظمت انتظاماً لم يكن أحد ليحلم به، وقد تطهرت من كل مفسد مستبد، وصارت دعاوى العباد تجري في محورها القانوني دون مطل ولا تسويف ولا ظلم، وهو رعاه الله، يباشر أعماله بنفسه بهمة لا تعرف الكلل والملل وعزيمة امضى من السيف، ويشرف على المحاكم، ويراقب المأمورين مراقبة صارمة، ومع ذلك، فأن الرجل على جانب عظيم من اللطف والدعة ومكارم الاخلاق، يقابل الضعفاء والمظلومين ببشاشة وطلاقة وجه، يساعدهم على احقاق حقوقهم، فهو شديد على الظالمين، رحيم للمساكين”.
وذاعت مآثر سعيد في البلاد السورية، وباتت موضع افتخار اهالي بيروت، فأخذت بعض الصحف البيروتية تشيد بنجاحات واحد من مواطنيها.
وفي 23 آب/أغسطس 1910، نقلت جريدة “النصير” البيروتية، مقالاً عن إحدى الجرائد التركية خص إنجازات العدلية في حلب وكيف أنها نشطت من تضعضعها الماضي ومشت في سبيل الإصلاح وقد قال:
” وكله بهمة حضرة سعيد زين الدين بك أفندي مدعي عمومي محكمة الإستئناف، فأنه أعزه الله ما برح منذ شرف هذه الحاضرة يأتي من الأعمال الخطيرة والمآثر الجمة الوفيرة ما يعجز عن يأتي بمثلها أعظم النبلاء وأكمل الفضلاء، وقد واصل الجد والغيرة، وسهر الليل والنهار وشارك العملة في الأعمال، فكان من حسن نيته وجزيل همته وغيرته أنه وصل لغاية ما يرومه من الإنتظام والكمال، فجعل العدلية في مقام يليق بها من الشرف والمجد في هذا الدور السعيد وكل ما ذكر من الإصلاحات كان بفضل هذا الشهم الهمام وأثراً من عناية هذا الدستوري المقدام”.

سعيد المعلم والمصلح الإجتماعي
الى جانب واجباته الإعتيادية كمدعٍ عام في الإستئناف، أخذ سعيد على عاتقه أمر تأهيل رجال الشرطة، حسبهم واجهة القانون، وعنصراً مكملاً للقضاء فقام بتأسيس مكتب ليلي للشرطة يتخرج منه أفراد هذا السلك ليكونوا أعوانه عند الحاجة وموضع ثقته في الطوارئ ولم يضن بوقته يصرفه لهذه الغاية. “فكان يتعهد المكتب بعنايته الخاصة في ساعات فراغه، يخرج من مكتب عمله بعد معاناة التعب، فيذهب ليلاً لإلقاء دروس الحقوق فيه”.
وعلى صعيد آخر رأى سعيد في إحدى دوائر السجن مكاناً كان في ما مضى جامعاً، ولكنه أهمل بعد ذلك، فأمر بإعادته معبداً وترميمه وأن تجري عليه العائدات المخصصة له، وذلك لأنه عندما درس أحوال المسجونين الروحية، أدركته الرأفة بهم، لعلمه أن المجتمع، إنما أراد من سجنهم، إصلاح حالهم، فأمر بإعادة المسجد الى السجن.
يدل هذا الإحتفاء بما أنجزه سعيد زين الدين على تميّزه عمن سبقه من جهة، وعلى توق النخب والأهالي الى إصلاح لدوائر الدولة طال انتظاره، كما يدل نجاحه في استيعاب واجباته كقاضٍ استيعاباً كاملاً وتمتعه بملكات شخصية ذاتية تؤهله للقيام بهذه الواجبات بجد وحماس بلا افتعال أو مباهاة.

مدينة حلب في مطلع القرن العشرين
مدينة حلب في مطلع القرن العشرين

فساد الدوائر العدلية العثمانية
لم تأت محاربة سعيد للفساد من فراغ، بل فرضتها أحوال مؤسسات القضاء العثماني نفسها، التي اتسمت بالإزدواجية القانونية والبيروقراطية وسوء الإدارة وعدم نزاهة الموظفين وقذارة السجون.
ورغم جهود التحديث التي طاولت الشؤون الحقوقية والقضائية عملاً بمضامين التنظيمات وبنظام الولايات، إلا ان هذه الجهود لم تؤد إلى ما كان يرجى منها في النظام القضائي والعدلي، فقد بقي هذا النظام غير ملائم من حيث قاعدته القانونية المتناقضة، وتشويشه وبطئه الإجرائي، وفي استخدامه لموظفين غير أكفاء من حيث القدرة على التوجيه وكذلك، غالباً جداً، من حيث الأخلاق، أما التنفيذ فكان عرضة للنزوات وغير مؤكد. وكانت السجون قذرة جداً ومحكومة بسوء إدارة بالغ، وكانت أحوال المحاكم عرضة لانتقاد المصلحين بمن فيهم والي سوريا ومهندس دستور 1876 “مدحت باشا” الذي كتب سنة 1879 الى الباب العالي ينعي فيها أحوال الولاية بما فيها المحاكم قائلاً: “الولاية محتاجة الى إصلاح أحوالها المالية ومحاكمها ومنع الرشوة التي تورث الخجل، وتجعل الوطني منخفض الرأس أمام الأجانب.

قال لجمال باشا موبخا: “انتهك حرمة القانون إن أردت فالأمر هيِّن عليك، أما أنا فلا يهون عليّ الإغضاء عن ذلك”

سعيد يواجه “جمال باشا” في أطنة
اواخر سنة 1910 نقل سعيد وفقاً للروتين الإداري، من حلب الى “أطنة”، في أطنة خاض بشجاعة أدبية نادرة سلسلة مواجهات دفاعاً عن استقلاله وحريته كقاضٍ، وذلك بتصديه أولاً لوالٍ حاول التدخل في الشأن القضائي وتابع تلك المواجهات في المناصب التي شغلها لاحقاً في القدس ثم في بيروت، وكان عليه منذ تعيينه في أطنة مواجهة الولاة ومقاومة تدخل المتنفذين والمتزعمين، وقد عرّضه ذلك لانتقام هؤلاء بنقله من مكان عمل الى آخر، حتى انتهى الأمر بنفيه الى سيواس في الأناضول سنة 1914.
حصر مؤلف كتاب “حياة رجل” تجربة سعيد في أطنة بالمواجهة التي جرت بينه و”أحمد جمال باشا”، الذي ذاع صيته في الحرب العالمية الأولى في بلاد سوريا بسبب فظاظته. وكان جمال في ذلك الحين حاكماً إدارياً لولاية أطنة وسعيد مدعياً عاماً في الاستئناف في الولاية، وكان جمال لا يتورع عن تجاوز القانون والتدخل السافر في شؤون القضاء، وكان سعيد يتصدى لتجاوزاته بكل ما أوتي من قوة وجرأة”، وذات يوم قال سعيد لأحمد جمال باشا مرشداً وموبخاً ومذكراً بجوهر العمل القضائي:
“إن الولاة لا يستطيعون أن يزيلوا حرفاً واحداً، ولم يكن القضاء الحر ليتأثر من تدخل الحكام وتعرضهم، فالقضاء مستقل، وهو لا يعمل بغير نصوصه، وكلانا مكلف بصيانة الحق والعدل، فلا تتعرض لي في واجبي”.
وفي مواجهة قضائية أخرى لقّن سعيد أحمد جمال باشا درساً جديداً في ضرورة فصل السلطات واستقلال القضاء واحترام القانون قائلاً:
” انتهك حرمة القانون إن أردت فالأمر هين عليك، أما أنا فلا يهون علي الإغضاء عن ذلك”
وأخيراً نجح سعيد في ردع جمال باشا عن التدخل في شؤون القضاء وممارسة ضغوط عليه، ربما لأن هذا الأخير، وهو الداهية المجرب، أيقن أن أمامه رجلاً “لا تلين قناته، وجندياً يدافع عن القانون والعدل على ما استنتج مؤلف كتاب “حياة رجل”.
وللمفارقة، ستثبث الأيام أن سعيداً انتزع احترام أحمد جمال باشا، فخلال الحرب العالمية وعندما عُيّن جمال باشا حاكماً على سوريا ولبنان، قام بزيارة سعيد في منزله في عين قني، ونزل عند رغبة سعيد بإطلاق سراح أخيه المنفي الى القدس، ولكننا سنرى لاحقاً ان سعيداً لم يغفر له ما ارتكب من مظالم أثناء الحرب العالمية الأولى.

   فضح مؤامرة الوالي لتجريم لبناني بريء بعمل إرهابي فسحبت نظارة العدلية القضية منه ونقلتها الى اسطنبول
فضح مؤامرة الوالي لتجريم لبناني بريء بعمل إرهابي فسحبت نظارة العدلية القضية منه ونقلتها الى اسطنبول

رابعاً: سعيد في القدس
ظل سعيد يتقلب في المناصب القضائية في الولايات العربية، الى ان عُين في 11 تموز 327(31)،1909، مدعياً عاماً في محكمة الاستئناف في القدس.
وكعادته، انبرى سعيد يعارض توسط المتزعمين، وتدخل المتنفذين في شؤون القضاء، لتنفيذ اغراضهم، وقد عارضهم دون مهابة احد، ودون خشية خصومتهم.
ولم ينج سعيد هذه المرة من التأديب السافر، إذ قررت نظارة العدلية اقالته، من دون سبب معروف أو معلن. ولكننا سنشهد بعد الآن صراعاً بين الحكام العثمانيين من جهة ونخب وأهالي الولايات التي يعمل فيها سعيد، الذين سينحازون إلى القاضي الشريف مدافعين عنه وعن أنفسهم والمؤسسات التي تدير حياتهم العامة، من جهة اخرى.
وما إن ذاع خبر إقالة سعيد حتى هاج الرأي العام، وقام أعيان المدينة ورؤساؤها وأشرافها ولم يقعدوا لهذا الخبر، وأرسلوا برقية الى الآستانة موقّعة من بضعة وثمانين وجيهاً من وجهاء مدينة القدس، منهم مفتي الشافعية، ورئيس البلدية وأعضاؤها وأعضاء مجلس الإدارة والمبعوثون السابقون، وأشراف المدينة واعيان الملحقات والرؤساء الروحيون، هذا نصّها:
“كنا ننتظر من نظارة العدلية لطفاً يبذل بحق سعيد بك زين الدين، مدعي عمومي الاستئناف عندنا بالنظر لباهر خدماته في بلادنا وما اتصف به من العفة والنزاهة والإقتدار والدراية والحمية والعدالة والغيرة وتسهيل مصالح العباد والتفاني في حب وطنه زيادة تنشيط له واستزادة نفع به وتشويقاً لغيره حيث ان سعادة الأمة والبلاد والإصلاح المنشود لا يحصل إلا بأعمال أمثاله من المأمورين الصادقين وقد كنا استرحمنا مع عموم القدسيين من نظارة العدلية ترفيعه عندنا ذاكرين صفاته العالية وما للعموم من فرط الاعتماد عليه وملء الثقة والآمال به فأتانا الأمر مع الأسف لعزله، كأن عدله ونزاهته وثقتنا واسترحامنا كانوا علينا وعليه ذنباً استحق هذا الجزاء، ولهذا اننا نحتج بكل قوانا على هذه المعاملة التي لم تنطبق على مصلحة أو عدل ونعلن بإسم العموم الآسفين أعظم الأسف على انفكاكه، أسفنا العظيم، شاكرين مساعيه وخدماته عندنا حافظين جميله في قلوبنا سائلين الله أن لا يضيع حسناته وأن يكثر من امثاله من أبناء الوطن آملين دوام السعي بتكاتفنا جميعاً للاستحصال على الإصلاحات المطلوبة التي تكون بحول الله مانعة أيضاً لتكرر مثل هذه الحادثة الجارحة والله ولي التوفيق”.

نائباً عاماً في بيروت
أقيل سعيد من منصب في القدس ليعين في مثله في بيروت، ويضمر هذا التعيين الذي جاء في سياق التخلص من سعيد وإزاحته من الواجهة، إعترافاً ضمنياً بكفاءته، فبيروت كانت آنذاك عاصمة ولايتها، وكانت هذه الولاية مترامية الأطرافتشمل 5 سناجق: سنجق بيروت، سنجق عكا، سنجق نابلس، سنجق طرابلس وسنجق اللاذقية، و21 قضاء و49 ناحية و2564 قرية، وكان سنجق بيروت اكثر الألوية تقدماً وإزهاراً رغم صغر مساحته.
وكانت بيروت مركز السلطة السياسية والمدنية في الولاية والسنجق، فالوالي المقيم فيها كان يدير في الوقت نفسه شؤون السنجق والقضاء ويشرف ايضاً على إدارة بقية السناجق، الموكلة الى خمسة متصرفين يهتم كل واحد منهم بمنطقته، كما على الأقضية الموكلة الى ستة عشر قائمقاماً.
كانت المدينة أيضاً مركزاً للمحاكم البدائية التي تحكم على أساس القوانين الحديثة في الدولة العثمانية ومقرّاً للمحاكم التجارية التي تحكم في القضايا المحلية والمختلطة، وفي الآن ذاته مركز المحاكم الشرعية الإسلامية الذي يشرف عليه القاضي ونائبه.
وكانت ولاية بيروت، كغيرها من الولايات، تعاني من فساد الإدارة عموماً وفساد الدوائر العدلية خصوصاً، وكانت على غرار الولايات، التي سبق وعيّن فيها سعيد، تنتظر مجيء موظفين أكفاء، يعيدون الأمور الى نصابها، وجديرين بعلو شأن المدينة، على ما لاحظ، مؤلف “حياة رجل”، الذي عاصر تلك المرحلة، ومن جهة اخرى كانت لمنصب النيابة العامة في الإستئناف سلطة معتبرة أيام الحكم التركي، إذ كان مقامه، اول مقام بعد مقام الوالي في الولاية و”النائب العام الإستئنافي، ضابط بيده جميع الشؤون الإدارية في العدلية، وبيده تقرير الأمن والنظام”.

نظارة العدلية في الآستانة قررت نقله من القدس بسبب انزعاجها من استقلاليته فرد ثمانون من وجهائها على رأسهم المفتي ببرقية استنكار إلى الباب العالي

سعيد وقضية إلياس رفّول
وفي عهد سعيد، جرت خلال شهري حزيران وتموز 1914 حادثة ما سمي بـ “قضية الياس رفول” شغلت السلطة العثمانية وأجهزتها والرأي العام البيروتي واللبناني والعربي، وخلاصتها، أن يداً أثيمة اطلقت ذات يوم النار على احد أفراد الجندرمة بالقرب من “مدرسة الحكمة” في بيروت، فقتلته، وحيث ان القاتل وسبب القتل كانا مجهولين، توهمت الحكومة ان الجناية سياسية، مدبرة، وتستهدف هيبة السلطة، فاهتم والي بيروت للأمر، وطلب الى مدير البوليس وكبار رجال الأمن إظهار الفاعل حالاً، وإلقاء القبض عليه وتسليمه للعدلية، معلناً انه سيُعدم في القريب العاجل عبرة وإرهاباً.
أما مدير البوليس وأركان الضابطة، فلما لم يستطيعوا إظهار الفاعل الحقيقي، فقد عمدوا الى رجل آمن وبسيط، ملازم عمله في منزل في ذلك الجوار، أسمه “الياس رفول”، فألقوا القبض عليه، وأخضعوه لتحقيق مرتب مزور، في حين كان الياس رفول بريئاً، ولا علم له بتلك الجريمة، ولأجل تمويه ما زوروه، استعملوا الشدة والضرب والتهديد، ضد الاشخاص الذين تصبّ شهادتهم لصالح المتهم، وحبسوهم في مكانٍ لا تطاله الأنظار، إخفاءً لعملهم غير المشروع، ولم يكترثوا لأكثر من إفادة آلت الى اركان دائرتي البوليس والجندرمة بأن القاتل هو شخص يدعى “ديب الشامي ورفيقه يوسف الشويري”، فلم يكترثوا للأمر ولا أجروا تحقيقاً بهذا الشأن، ثم رفعوا ملف التحقيق الى والي الولاية، وهذا الأخير أحاله بدوره الى العدلية طالباً إليها، بكل اهتمام، إنجاز المعاملات اللازمة للحكم، وتنفيذه بحق البريء، وكانت نتيجة التحقيق، إلقاء الظن على الياس رفول الذي اتهم وسيق الى المحكمة.
لكن أمر هذه المؤامرة لم يطل، فقد اتفق أن الوالي في ذلك الحين، طُلِب الى الآستانة، واثناء وداعه كبار الموظفين، التفت الى سعيد، ورئيس محكمة الجنايات وأعضائها، وطلب اليهم الإسراع بإصدار الحكم على ابن رفول، وأن يعلموه وهو في الآستانة، عن رقم التحرير الذي ترسل به أوراق الدعوى الى محكمة التمييز، ليلاحقها هناك، على أمل أن ينفذ حكم الإعدام بالرجل يوم عودته، فنظر سعيد الى الوالي قائلاً: “إن القضاء المستقل في أعماله، سيجري واجبه كاملاً، ضمن دائرة استقلاله وبحسب ما يوحي اليه الوجدانِ” وفي توصية الوالي وجواب سعيد كمنت عناصر المشكلة التي سنشهد تطوراتها.
لاحقاً، وبعد تدقيق سعيد في أوراق القضية وزيارته شخصياً لمكان وقوع الجريمة واستطلاعه الحقائق عن كثب، واستجوابه المزيد من الشهود، استجلى الأمور، ولمس الحقيقة بيده، وتأكد من تزوير التحقيق وتحامل أركان الضابطة على “الياس رفول” الذين أرادوا التضحية به إرضاء للوالي، وظهر لسعيد أن الفاعل الحقيقي للجناية، كان قد ارتكبها وفرّ.
وفي معرض مطالعته بيّن سعيد حجم إساءة هؤلاء الى مفهوم العدل، حين يفتشون عن كبش محرقة، كبديل عن المجرم الحقيقي، قائلاً: “هل يلزم أن نعاقب أياً كان أم يلزم أن نعاقب الجاني؟ إن من يعتقد لزوم الوجه الأول والإكتفاء به فهو مغشوش كثيراً، فالعدل أساس الملك، ولا يجوز اللعب به”.
ولم يفت سعيداً في مطالعته إنتقاد رجال البوليس للجوئهم لضرب الشهود المظنون بهم، مستنداً الى القانون الذي ينهي عن الضرب، مستنكراً جواز عقاب أي مظنون به قبل التحقق من ارتكابه الجريمة المستحقة المجازاة.
نشرت صحف بيروت، مهللة ومؤيدة، تقرير القاضي سعيد زين الدين، وكانت، على اختلاف اتجاهاتها، تراقب أفعاله يوماً بيوم، وقامت إحداهن بنشر مطالعته بحذافيرها معلقة على كيفية القائه لهذه المطالعة قائلة:
” ثم تدفق حضرة القانوني سعيد بك زين الدين كالسيل، وأخذ يسرد مطالعته الجليلة النفيسة، التي هي والحق يقال جديرة بأن تنقش على القلوب لتبقى خالدة الى ما شاء الله.
وانبرت صحف بيروت وفلسطين تشيد بأداء سعيد القضائي وترى فيه خطوة بناءة على طريق اصلاح القضاء واحترام القانون واحقاق العدل ومصالحة الشعب مع الحكومة ودعت إحداها الى تكريم سعيد وهيئة المحكمة بالإكتتاب لشراء مجموعة من الأقلام الذهبية تقدم لهم إقراراً بنزاهتهم وتشجيعاً للموظفين الصادقين .
وكتبت صحيفة أخرى معربة عن دهشتها البالغة إذ “لم يشهد البيروتيون ولا السوريون ولا الشرقيون، محكمة تجلّت فيها النزاهة وتمثلّت برجالها الكرام العدالة كمحكمة الإستئناف في بيروت التي مدعيها العام سعادة القانوني الضليع سعيد بك زين الدين”. ورأت جريدة “الحارس” في سعيد “القدوة التي تذكّر بماضٍ مجيد هو عهد الخلفاء الراشدين”.
أما جريدة “البرق” فكتبت مبتهجة: “الحق الحق يقال إن ما أتاه حضرة المدعي العمومي سعيد بك زين الدين لجدير بأن يكون نعم المثال لرجال العدلية في أنحاء السلطنة، كان الحق ميتاً فأحياه”.

سعيد-زين-الدين-في-منزله-في-عين-قني-بعد-تقاعده
سعيد-زين-الدين-في-منزله-في-عين-قني-بعد-تقاعده

أصداء مرحّبة في فلسطين
وردّدت جرائد فلسطين صدى الحدث، نظراً للبصمات التي تركها سعيد في القدس أثناء توليه منصب الإدعاء العام، ورأت في مجريات الحادثة انتصاراً للقانون والعدالة والإنسانية والحكومة وهزيمة للفساد. فكتبت إحداها تقول: “ألا فلتعلم الحكومة أن رجلاً عاقلاً نزيهاً كسعيد بك زين الدين مدعي عمومي استئناف ولاية بيروت يقدر العدالة قدرها، فيتقيد بالقانون، يخدم الإنسانية والحكومة اكثر من ألوف من الموظفين المستبدين الذين يسيئون استعمال الوظائف فيكرههم الناس وينفرون بسببهم من الحكومة، وفي الختام نقول للحكومة المركزية، زيدي من تعيين أمثال سعيد بك، لتجتمع القلوب على محبتك وترتاح النفوس لعدالة محاكمك”.
ولكن العرس الإعلامي الذي فاض ابتهاجاً وتفاؤلاً ، ما لبث ان انحسر وانطفأ، لتحلّ محله موجة الأسف والمرارة، إذ أن السلطة العثمانية المتهالكة، لم تكن مستعدّة لاستيعاب وتحمّل هذه الإنتكاسة الأمنية والقضائية، فلجأت من أجل طمس هذه الإنتكاسة، الى نقل القضية الى محاكم الآستانة، وإخراجها بالتالي من يدي المدعي العمومي سعيد زين الدين. وزاد الطين بلّة، نقل سعيد، بطل القضية، من منصب الإدعاء العام في الإستئناف في بيروت، الى رئاسة محكمة الإستئناف في سيواس في الأناضول، الأمر الذي اعتبر بمثابة نفي عاجل مموه بحجاب الوظيفة وإبعاد مشفوع بالتشفي الضمني. وذاع خبر إقصاء سعيد في اليوم التالي لعودة الوالي من الآستانة وفور ورود تلغرف من نظارة العدلية في الآستانة.
استنفرت الصحافة مجدداً، وانتفضت صحف بيروت ومصر وفلسطين وإهتاج أهاليها وأعيانها وهبوا لنصرة سعيد مستنكرين غاضبين. وامتزج إعجابهم بأدائه، بالتضامن معه، والزود عنه، ومهاجمة السلطة صاحبة القرار، وقد أرسل وجهاء بيروت وأدباؤها وتجارها، على اختلاف مذاهبهم، برقية الى نظارة العدلية ونظارة الداخلية والى الصدارة العظمى، ورئاسة مجلسي الأعيان والنواب، والى مبعوثي بيروت، طالبين فيها بقاء الرئيس والمدعي العام في وظيفتيهما مبرزين رمزية اداء سعيد وجدوى ابقائه في منصبه هذا نصها:
” إن تبادل الثقة بين الأمة وموظفي الحكومة هو العامل الأهم في تقوية الحكومة وترقية الأمة وهذه الثقة بلغت أخيراً في بيروت درجة عالية بما أتاه فيها مدعي عمومي الإستئناف الفاضل من تأييد العدالة ودفع المظالم بين العثمانيين على اختلاف مذاهبهم، ودرجاتهم طبقاً لنيات صاحب الجلالة الأعظم جئنا بعريضتنا نجهر بفضله تنشيطاً لسواه من المأمورين ملتمسين إبقاءه في بيروت تعزيزاً لثقة الشعب بحكومته وإحياءً للعدل فالعدل أساس الملك”.
ردود فعل عربية على نقله التعسفي
ذاع خبر نقل سعيد في الأقطار العربية، في مصر ودمشق وفلسطين وبغداد والموصل، فتواترت البرقيات على اولياء الأمور في الآستانة يطلبون إبقاء سعيد في منصبه صوناً للعدل، وأبرز البرقيات هي تلك التي بعث بها المفكر شبلي الشميل مباشرة الى ناظر الداخلية طلعت باشا، أحد رموز “جمعية الإتحاد والترقي”، هجا فيها ظلم السلطة العثمانية وذكرها بفشلها المزمن في حقل العدل، في ما يلي نصها:
“الى طلعت بك ناظر داخلية الحكومة التركية،
عدل القضاء في زمان دولتكم مرة واحدة ، فانتقمتم للظلم من العدل ونفيتم القاضي العادل الى سيواس، فيا ويلكم ويا ويل انفسنا منكم”.
غير ان سيل البرقيات والمقالات لم يثن الحكومة العثمانية عن قرارها، فأصرت على أمرها بنقل سعيد وإبعاده. وكلما إزداد إصرار الدولة على التخلص من سعيد ازداد غضب النخب والأهالي، وهذه المدة كانت الصحف المصرية في طليعة المستنكرين، فانكبت صحف “الاهرام” و”المقطم” و”البصير” التي يحررها ويديرها لبنانيون منفيون على معالجة المشكلة. وإذا اكتفت “الاهرام” بالإشارة الى إنشغال الرأي العام العارم، في بيروت بنقل الموظف النزيه سعيد زين الدين الى الآستانة، بادرت جريدة “المقطم”، الى تحليل الخبر والتعقيب عليه، على لسان الكاتب الشهير شبلي الشميل، الذي أولى قضية سعيد اهتماماً خاصاً.
هال شبلي الشميل نقل سعيد الذي بيّض وجه العدالة” واعتبر الخطوة ضربة قاضية على الآمال المعقودة على إصلاح المحاكم، مستطرداً بسخرية سوداء:
“فكأنهم خشوا أن تكون هذه المحاكمة على هذه الصورة سابقة حسنة لمحاكمنا الملحلحة – كما يقول اخو صدرنا الأعظم، فضرب المدعي العام هذه الضربة القاضية على آمالنا من محاكمنا وكانت ان تنتعش، فيا ويلنا منا!!”

نفي مقنع عقاباً على جرأته
كل هذه الإدانات والمناشدات، فضلاً عن حملات الصحف لم تثن لا نظارة العدلية ولا الوالي عن قرارهما، وسافر سعيد مرغماً الى الآستانة، وفي هذه المرحلة ايضاً لم يترك الصحافيون والأهالي سعيداً وشأنه، فرافقته جريدة “فلسطين” حتى ركوبه الباخرة واصفة مراسيم الوداع الشعبي.
قام الأهالي بوداعه وقدموا له القلم الذهبي الموعود اعترافاً “بشجاعته الأدبية”، ومجاهرته برفع لواء العدل وانتصاره للشعب على بعض المأمورين “الذين متى استلموا السلطة اعتقدوا انهم ليسوا من طبقة البشر” على ما كتبت جريدة فلسطين في مقالٍ تحت عنوان “بطل الدعوى التاريخية” مفاخرة بتواجد بعض محرريها على متن الباخرة التي نقلت سعيداً الى الآستانة ناقلة تفاصيل وداع أهالي بيروت له، مفيدة بأن أهالي بيروت “قاموا بأحسن وداع لهذا الشهم.
أما صحف بيروت فواكبت من جهتها هذا الحدث بمزيد من التحليلات والمقارنات فجدّدت جريدة “الحارس”، اعجابها بأداء سعيد وشبّهت إنجازه القضائي بانجازات عهد الخلفاء الراشدين، مقارنة “بين ما جرى في فرنسا، البلد العريق في الديمقراطية، في وقت مماثل، في ما سمي “قضية مدام كايو” و”قضية الياس رفول”، فخلصت الجريدة الى ان “محكمة بيروت” كانت أكثر عدلاً من “محكمة باريس”، ففي الأولى تمت “تبرئة رجل بريء” وفي الثانية تمت “تبرئة امرأة مجرمة” رغم اعترافها بالقتل، ويطول زمن سجن بريء، في حين يطلق سراح مجرمة، فاضحاً فساد السلطتين، العثمانية والفرنسية، فالسلطة الفرنسية اقدمت على هذه الخطوة حفاظاً على التوازن بين الاحزاب وتسكيناً للاضطراب و”السلطة العثمانية اقدمت على نزع رجل كسعيد زين الدين لأنه قال إنه بريء”.

سعيد قاضياً في عهد الانتداب الفرنسي
بغية إطلاق عجلة الحكم وتثبيت سلطتها، قامت سلطة الإنتداب في مطلع كانون الاول 1918، أي بعد شهرين من وصول طلائع الجيش الفرنسي الى مرفأ بيروت، بتعيين سعيد مدعياً عاماً للإستئناف في محكمة بيروت، أي في ذات المنصب الذي كان يشغله سنة 1914، قبل نقله الى محكمة سيواس في الاناضول، وتمّ ذلك ضمن خطة عامة شملت بيروت وجبل لبنان والعرقوب، وفي هذه الخطة ثبتت السلطة الفرنسية العديد من الموظفين في وظائفهم وأسندت الى البعض الآخر وظائف جديدة، إما بدافع الحاجة الموضوعية الى مساعدتهم إما للرغبة في كسب ولائهم واسترضائهم وحتى مكافأتهم، فبالإضافة الى تعيين سعيد في منصب الإدعاء العام، ثبت أعضاء مجلس إدارة جبل لبنان الذي من بينهم محمود جنبلاط وفؤاد عبد الملك، وكانا رافضين للانتداب الفرنسي ومؤيدين للحكومة العربية في دمشق وللوحدة السورية، كما اسند الفرنسيون قائمقامية الشوف الى توفيق ارسلان والد مجيد ارسلان، وفي شهر آذار من السنة نفسها عينت سامي عبد الملك مديراً للجرد الشمالي وسامي العماد مديراً للعرقوب الجنوبي بدلاً من فرحان ابو علوان وابقت فؤاد جنبلاط مديراً للشوفين.
ومما يدل على اعتماد السلطة الانتدابية سياسة الاسترضاء والجذب او المكافأة هو تعيينها في وقت لاحق، سنة 1920 رشيد جنبلاط الذي كان قائداً في الجيش العربي ثم مرافقاً للملك فيصل، مستشاراً للمندوب الإداري في “المنطقة الغربية” وتعيينها في وقت سابق توفيق أرسلان الذي كان في عداد وفد مجلس إدارة جبل لبنان برئاسة المطران عبدالله الخوري الى مؤتمر الصلح في آذار 1920 للمطالبة بإستقلال لبنان التام بحماية فرنسية.
ولدى استعراضنا لائحة أسماء الموظفين المعينين أو المثبتين يتضح لنا ان السلطة المنتدبة منحت العائلات الدرزية النافذة والمقاطعجية، بإستثناء آل نكد، ما كان لها من وظائف ونفوذ في العهد العثماني، محققة التوازن السياسي الذي كان بينها، مستعملة سياسة التوظيف كوسيلة جذب ناجحة لاحتواء الزعماء وعبرهم الجمهور الدرزي، فيما توسّل هؤلاء الوظيفة للمحافظة على نفوذهم السياسي والإداري وتعزيزه، والاستفادة من مكاسب الوظيفة المادية، متوجهين دوماً الى مركز القرار المتمثل بالسلطة الفرنسية.
ولكن دوافع السلطة الانتدابية في توزيع المناصب على الدروز لا تنطبق كلها على سعيد، بل ينطبق عليه مبدأ “الحاجة الى مساعدة”، فهو يقع خارج دائرة الاستمالة والاسترضاء، فهو لم يكن منخرطاً في العمل السياسي المباشر، ولو كنا نفترض بحق انه كان ممتعضاً من سياسات “جمعية الاتحاد والترقي” في الولايات العربية التي تولّى فيها مسؤوليات قضائية، وإنه راكم ذكريات سلبية عن تردّي الحكم العثماني في سنواته الأخيرة، قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها، إلا أن نضاله ظل مهنياً، كما أن عائلته كانت تملك نفوذاً إجتماعياً، بحكم موقع الأب كملاك معتبر، لا نفوذاً سياسياً يستهاب، كما أن أخوته شغلوا مناصب ادارية في المتصرفية نظراً لحيازتهم علوماً تؤهلهم لتلك المناصب، مما يجيز القول إن سعيداً اختير لكفاءته العلمية والمهنية المكرسة، التي لم تكن تخفى على القناصل والمراجع المعنية وليس ما يشير إلى أن سعيداً كان على صلة معها، وهو بالإضافة الى ذلك فرنكوفوني اللغة، بصفته خريج مدرسة الحكمة، وجاء تعيينه في زمن ندر فيه ذوو التخصص العالي، فآنذاك “لم يكن ممكناً تأمين اكثر من نصف عدد الموظفين المطلوب وكان الإداريون المجربون نادرين، والاختصاصيون أندر.”

ساعة الحساب
بعد عودته الى لبنان اثر اندلاع الحرب العالمية الاولى سنة 1914، شهد سعيد، كسائر سكان المنطقة أهوال الحرب العالمية الاولى، التي زرعت الموت والجوع والخراب، فحفرت تجاوزات القادة الاتراك وارتكاباتهم عميقاً في وجدانه وعقله، وما أن عين مدعياً عاماً حتى هرع الى المطالبة بإحالة احمد جمال باشا قائد الجيش التركي في سوريا وفلسطين، وعزمي بك والي بيروت وعلي منيف بك متصرف جبل لبنان وجميع شركائهم بالجرائم، الى القضاء وإلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم.
قبل الشروع في مبادرته استشار سعيد السلطة الفرنسية في هذا الشأن وبعد بحث متواصل ومداولات طويلة، فوّض إليه الحاكم العام في 2 كانون الاول 1918 الصلاحيات الواسعة لاجراء ما يوجبه القانون فبدأ التحقيق الدقيق عن الجرائم المسندة الى هؤلاء، ورأى استكمالاً لهذا التحقيق، ان يصدر بحقهم مذكرات احضار، وكان اشيع ان المسؤولين الثلاثة يقيمون حيناً في ألمانيا، وآخرى في سويسرا او روسيا اي في البلدان الحليفة لتركيا.
في مذكرة الاحضار المذكورة المؤرخة في 2 كانون الاول 1918 تقرر القاء الظن على جمال باشا بقتل مجموع كبير من الاشخاص بصورة التعمد باستعمال الضغط والشدة على اعضاء المجالس العرفية واستعمال التعذيب في اثناء التحقيقات لإجبار الموقوفين على الاقرار
كما القي الظن على جمال باشا وعزمي بك المظنون فيه هو الآخر لارتكابهما جنايات منها إعدام اشخاص كثيرين تعمداً بدون إجراء تحقيقات ما وبدون وجود حكم يقضي به وذلك بتأثير الإكراه وسرقة أموال الأفراد باستعمال الشدة والتزوير وكسر الأبواب واشتراك جمال باشا وعزمي بك المتقدم ذكرهما وعلي منيف بك جنايات منها تهجير الآلاف من الناس مع عائلاتهم كباراً وصغاراً وجماهير بدون مسوغ قانوني، الجرم الذي جرّ وراءه خراب بيوت المبعدين تماماً، وموت كثيرين منهم، وعدا عن التهجير المذكور التسبب باستئصال شأفة الشعب اللبناني بالجوع والفاقة المرتبين بصورة منتظمة ووقوع قتل مجموع عظيم منه عدده مئة وخمسون الف شخص وكذلك جناية الاختلاس والاحتكار والسرقة للحنطة وسائر المواد الغذائية قصد تصديرها بصورة احتيالية للمناطق الجائعة في اوقات مناسبة يتمكن معها من تأمين ابهظ الارباح لمنافعهم الشخصية والتي حصل من جرائها موت قسم كبير من الأهالي.
ويجب القول إن مصير هذه المذكرة لا يزال مجهولاً، وجل ما ذكر في “حياة رجل” الذي انهي تحريره قبل سنة 1929 ان المتهمين الثلاثة “قد طالتهم يد القضاء الأعلى، الذي لا مرد لحكمه سبحانه عز وجلّ”.

سعيد يصدر مذكرة إحضار بحق جمال باشا وعزمي وعلي منيف بك بتهم القتل بلا سند قانوني أو تحقيق كاف وسرقة المحاصيل وتعذيب المتهمين وتهجير الألوف مع عائلاتهم

سعيد مثقف رجال الشرطة
ظل سعيد مدعياً استئنافياً لأكثر من سنة، ولكن سلطة الانتداب ما لبثت ان رقته واوكلت اليه منصب رئاسة المدعين العموميين على الاراضي اللبنانية، ولكن الترفيع لم يصبه بالغرور والاعجاب بالذات، فراح، كما كان يفعل في حلب، يلقي الدروس على مفوضي الشرطة ومعاونيهم، زهاء شهرين، وخلال المدة المذكورة وضع مؤلفاً، كان الاول من نوعه في لبنان سماه، “نظامات الضابطة” ضمنه كل ما يتعلق بسلك الشرطة من قوانين وواجبات واستحق المؤلف ثناء المستشار القضائي الأعلى في المفوضية العليا السيد “بياش” فبعث الى سعيد برسالة جاء فيها: “لا اشك في ان كتابكم يؤدي لهذه البلاد انفع الخدم واجلها، فأرجو ان تقبلوا أحرّ التهاني بعملكم الشاق الذي دلَّ في الوقت نفسه على علمكم الواسع في الشؤون القضائية واقتداركم السامي في الادارة واتمنى من صميم قلبي ان تهتم الحكومة بطبعه خدمة للبلاد.وتقديراً لإخلاص سعيد وتفانيه بأداء وظائفه، أهدته سلطة الانتداب وسام جوقة الشرف بموجب براءة من رئيس الجمهورية مؤرخة في كانون الثاني، سنة 1921.

تكليفه بتطهير الجمارك من الفساد
وفي سنة 1921 ولما انفضح أمر بعض رؤساء الجمرك وتورطهم في أعمال فساد، اهتمت المفوضية العليا بالامر، واخذت توفد الموظفين لكشف الستار عن ارتكابات المسؤولين عن قطاع الجمرك وتجاوزاتهم، ولكن جهود هؤلاء الموظفين باءت بالفشل، فتقرر انتداب سعيد لهذه المهمة، ومنحته المفوضية أوسع الصلاحيات واسعة للقيام بمهمته ووضعت كافة الأجهزة وسلطة القضاء تحت تصرفه.
وقد برهنت الصلاحيات الواسعة التي أعطيت لسعيد عن ثقة المفوضية العليا به، وعن تيقنها من مدى جدارته وجديته وشجاعته بالاضافة الى الاهتمام الخاص والمميز الذي توليه لدوائر الجمارك. وكان سعيد عند حسن ظن السلطة الانتدابية، فكشفت تحقيقاته عن الجرائم المالية التي ارتكبت وعن حجم الاختلاسات الحاصلة. فرفع الى السلطة الانتدابية تقريراً مفصلاً عن مراحل التحقيق واسماء المجرمين وشركائهم، مرفقاً بتوصيات مؤداها منع تكرار ما جرى .
هذه الانجازات دفعت السلطة الانتدابية الى ترقية سعيد من منصب المدعي العام للمحكمة العليا في بيروت، الى منصب رئيس الاستئناف الاول.

سعيد زين الدين وابنته نظيرة
سعيد زين الدين وابنته نظيرة

تدبير تأديبي فرنسي مفاجئ
استمر سعيد في نهجه الأصيل، المتميز بالنزاهة وروح المسؤولية، ولكنه، خلافاً للمحطات السابقة لم يصطدم بحواجز السلطة بل على العكس حظي بدعمها وتقديرها، ودارت معركته مع الموظفين الفاسدين في قطاع الجمارك، وفي هذا المجال عاضدته السلطة واطلقت يديه وكافأته بالترقية، فانتقل من منصب المدعي العام العمومي الى رئاسة محكمة الاستئناف، إلا ان خبراً مفاجئاً ورد في جريدة لسان الحال عدد 25/10/1926 جاء يربك هذه السيرة ويضع سعيداً في مواجهة السلطة الانتدابية إذ جاء فيه:
” كفت يد سعيد زين الدين الرئيس الاول لدى محكمة الاستئناف وملحم بك حمدان المحامي العام لدى محكمة التمييز واحيلا الى المجلس التأديبي، وذلك من اجل الاعمال المنسوبة اليهما في التقرير المذكور”.
للوهلة الأولى يُظن ان إحالة سعيد إلى المجلس التأديبي ذات صلة بمحاكمات المقاتلين الدروز ضد الانتداب في سوريا ولبنان ، إلا ان هذه الصلة ليست بديهية لأن محاكمة هؤلاء كانت تتم في المجلس الحربي الذي انشئ لهذه الغاية، لا في محكمة الاستئناف المختصة بالقضايا المدنية الا ان جريدة الحارس الصادرة في 26/10/1926 اي بعد يوم واحد، أجلت هذا الغموض. فالسلطة الفرنسية اصدرت هذا القرار اثر قيام سعيد وملحم بواجب التعزية برشيد طليع، الذي توفي في 13/9/1926 في السويداء واقيم له مجلس عزاء في بلدته “جديدة الشوف”، حيث اعتبرت السلطة الفرنسية مشاركة شخصيات رسمية في الدولة في تأبين شخص معارض يعتبر عملاً مؤيداً للثوار وداعماً لتحركاتهم وتشجيعاً للآخرين على مناهضة السلطة(15)، غير آبهة بالتقاليد الريفية التي تقضي بتقديم واجب التعزية بالمتوفين أياً كانت هويتهم السياسية، عدا عن كون رشيد طليع مجايلاً لسعيد وقريته مجاورة لقريته، ثم انه لم يصدر عن سعيد اي موقف مناهض للانتداب او منافح عنه، اذ كان قدم واجباته المهنية على نضاله السياسي، قد يكون عربي الهوى ، غير انه لم يبدر منه اي موقف او تصريح معارض للانتداب، وهذا لا يعني انه متنكر لهويته العربية- اللبنانية، بيد اننا نرى في تعاونه المهني مع السلطة الفرنسية امراً اعتيادياً وسلوكاً براغماتياً واقعياً، اذ كان لا يزال في عمر الـ 41 عندما استدعته سلطة الانتداب لشغل منصب المدعي العام، وبصفته قاضياً لم يكن بمقدوره فعل غير ذلك، أي تغيير وجهته المهنية ورفض عرض السلطة الانتدابية المهني، والتكيّف مع الأمر الواقع، ولو أن سعيداً كان يسر الى المقربين منه ان الشعب اللبناني ليس بعد قادراً على ادارة شؤونه العامة بنفسه ويحتاج الى مساعدة، على ما أخبرنا سليم صفا أحد معارفه. ولكن اتضح ان هذا الاشكال كان عابراً لأن السلطة الانتدابية ما لبثت ان رقّت سعيداً الى منصب النائب العام لمحكمتي الاستئناف والتمييز.

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading