كاتم أسرار الأمير حسن الأطرش
سليمان حسن مجاهد وشاهد على الآمال الكسيرة
“لقاء أفكار” مع كمال جنبلاط في دار حسن الأطرش
أثلج صدر سليمان وعزز إيمانه بالزعيم الاشتراكي
كان مستشاراً للأمير حسن وسنداً له في الظروف العصيبة
لكنه خالفه في الموقف من كمال جنبلاط ومن عبد الناصر
لم يكن سليمان أبو علي حسن زعيماً سياسياً ولا وارثاً لجاه أو مال لكنه مجاهد عنيد لم يترك فرصة ولم يبخل بتضحية من أجل القضية التي آمن بها وهي قضية استقلال ووحدة سورية ثم قضية الوحدة مع مصر. وبسبب ثقافته الواسعة وحنكته السياسية ورصيد الثقة التي حصل عليها وجد سليمان حسن نفسه يلعب أدواراً مؤثرة في مرحلة من مراحل تطور الجبل، وذلك بسبب قربه من قادة الأسرة الطرشانية مثل سلطان وسليم ونسيب وعبد الغفار وأخيراً الأمير حسن الأطرش الذي كان لوقت طويل أمين سره ومستشاره وكاتم أسراره. فمن هو “رجل الظلّ” المحنك هذا؟ وما هي سيرته السياسية والأدوار التي قام بها في زمانه المضطرب والمفعم بالأحداث الكبيرة؟
النشأة
ولد سليمان حسن (أبو توفيق) في عترين الشوف العام 1892 وتوفي فيها العام 1991 عن عمر ناهز المائة عام تقريباً، وهو أصغر أبناء محمود يوسف حسن، المعروف بلقبه (أبو علي). كان والده من “ شيوخ الصلح” في ما كان سائداً خلال عهد “ المتصرفية” في جبل لبنان؛ وقد ألحقه وهو فتى صغير في مدرسة الثلاثة أقمار في بيروت، كما فعل من قبل مع شقيقتيه، وقد كان والده من الثقافة وسعة الأفق ما جعله سبَّاقاً في تعليم بناته على صعيد طائفة الموحدين الدروز ، بل ومن الندرة في القرن التاسع عشر على الصعيد اللبناني1 .
أنهى سليمان في مدرسة الثلاثة أقمار في بيروت مرحلة “العلوم الإكمالية” أو ما يعادل في أيامنا المرحلة المتوسطة )البريفيه)، وهي آنذاك مرحلة متقدمة في التحصيل العلمي، لينتقل بعدها إلى إحدى الصيدليات العام 1913 بغية تعلم مهنة الصيدلة بالتمرين بحسب ما كان معمولاً به آنذاك فمكث فيها قرابة السنة ليتركها مضطراً بسبب مرض والده في القلب مما استوجب ملازمته إياه، حيث بات الرجل الوحيد الذي يعتمد عليه، وهذا لأن شقيقه الأكبر ملحم كان وقتذاك مهاجراً إلى أميركا بينما كان أخوه يوسف مقيماً في بيروت حيث كان يملك في العاصمة كراجاً لعربيات الخيل، وكان والد سليمان من الناشطين في “حزب اللامركزية” لكنه كان قد بدأ يعاني من ضعف في سمعه بسبب تقدمه في العمر، وهذا الأمر فرض على الإبن ملازمة والده بل ومرافقته في الكثير من اجتماعاته واتصالاته، إذ لم تكن السماعات حينها عملية لكبر حجمها، لذلك كان الأب يستعين بابنه سليمان مسـمياً إياه : “سـماعتي” وهذا جعله بالضرورة مستودع أسراره.
وبسبب نشاطه في حزب اللامركزية قضت المحكمة العرفية بنفي محمود يوسف حسن إلى “الأناضول”، وقد أخبرنا سليمان انه عندما حضر الدرك لتنفيذ الحكم كان قد مضى على وفاة والده ثلث ساعة، فخرج إليهم ليقول “إذا جئتم لأخذه فقد استخاره الأكبر منكم” . يقول سليمان إن موت والده كان من ألطاف القدر لأنه كان سيموت على الطريق بحكم مرضه الذي اشتد عليه فيدفن في مكان لا يعلمه إلا الله وحده في ظل تقهقر الجيوش العثمانية، وما صاحبها من فوضى في تلك الأيام من منتصف العام 1917.
إضطر سليمان أن يغادر لبنان العام 1918 قاصداً جبل حوران (جبل العرب)، أما مبعث الاضطرار فقد كان وجوب تسديد نصيبه من الديون المترتبة على والده والتي نجمت عن أمرين: الأول هو الرحابة التي يقتضيها مركز “شيخ الصلح” فكيف في أحوال ذلك الزمن من الحرب العالمية الأولى الذي انتشر فيه القحط والمجاعة، والثاني العمل السياسي، وقد كان معظم جماعة “حزب اللامركزية” ينفقون على نشاطهم السياسي من جيبهم الخاص نائين بأنفسهم عن قناصل الغرب و”عطاياهم”! وذلك خلافاً لحال العديد من المطالبين بالانفصال عن السلطنة! وقد اقتصرت معارضة “اللامركزيين” على المطالب الإصلاحية في إطار الولاء لدولة السلطنة.
جبل العرب والعهد الفيصلي
كان جبل العرب خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ينعم بمزايا جعلته مقصداً للكثير من أبناء بلاد الشام التي اجتاحتها المجاعة، حيث الغلال الوفيرة التي لم يصبها الجراد، كما جرى في لبنان، ولم يصادرها العسكر التركي، كما كانت الحال في معظم الأماكن، وقد تجنّب الأتراك الاقتراب من محاصيل الجبل خشيةً انتقام الدروز باعتراضهم لقوافل تموين الجيش التركي التي تمر بجوار الجبل، وهكذا شهد الجبل فترة ازدهار استثنائية وتحول إلى مأوى يتوافد إليه سكان جبل لبنان أو جنوبه لدرء الجوع عن عيالهم.


في خدمة أمير الجبل
وصل سليمان إلى جبل العرب مطلع العام 1918 وتعرف على أميره الشاب سليم الأطرش، ومقرّه في عرى، والذي لفته كياسة وثقافة سليمان فكلّفه بأعمال المحاسبة الخاصة بأرزاقه وحصر غلال أراضيه الواسعة، ولم يمض زمن طويل حتى التحق سليمان في مطلع نيسان 1919 بسلك الشرطة برتبة مفوض ثان2، وكان هو وأقرانه نواة القوة الأمنية للحكومة العربية الأولى برئاسة رضا باشا الركابي ، وقد باشرت الحكومة المذكورة في بناء هيكلية “الدولة السورية”، وكان من أولى مهماتها ضبط الأمن الذي أُفلت من عقاله في دمشق بعد انسحاب الجيش التركي منها. وبالنظر إلى تحصيله العلمي وحسن أدائه في المهام الأمنية التي أوكلت إليه فقد رُقِّي إلى رتبة مفوض أول في مطلع العام 1920. ومن الذكريات التي لم تفارقه ما شهدته دمشق صباح الاثنين من 8 آذار سنة 1920 من الإعلان عن قيام “مملكة سورية”. يومها وقف محمد عزت دروزة من على شرفة مبنى السراي في ساحة المرجة أمام حشود الناس ليعلن باسم المؤتمر السوري قيام المملكة الفتية ومبايعة فيصل مليكاً عليها.
ولطالما كان سليمان أبو علي حسن وهو يستعيد ذكرياته خلال الحقبة الفيصلية يستذكر تلك اللحظة التاريخية بفخر ولاسيما دخوله إلى قاعة التتويج مع زملائه المفوضين واضعاً يده بيد الملك فيصل مبايعاً وفقاً للأعراف المتبعة. يومها كانت “مملكة سوريا” حلم المستنيرين من جيل سليمان أبو علي حسن، فيما كان فيصل رمزاً يلهم هذا الرعيل من القوميين بإمكان تحقيق حلم الدولة العربية المشرقية التي تضمُّ، إلى الشام، العراق والحجاز وذلك بوصفها أول دولة عربية يحكمها عربي، منذ 800 سنة وهو تاريخ سقوط الدولة العباسية في بغداد!
وبقي سليمان يحمل في وجدانه آثاراً من هذا الولاء الذي منحه مع أقرانه للملك فيصل كما بقي يحمل الذكرى الأليمة لخروج الأخير من دمشق إثر دخول الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال الفرنسي غورو إليها، وقد كان قدر الرجل أن يشهد انكسار حلمين – كما كان يردد- سقوط الدولة العربية مع دخول الجيوش الفرنسية إلى دمشق في تموز من العام 1920، وسقوط دولة الوحدة المصرية السورية بفعل حركة الانفصال في 28 أيلول من العام 1961، ولطالما سمعناه أكثر من مرة يقول: “مرتين بكيت فيهما: فيصل عندما غادر سوريا، ومن بعده عبد الناصر”.
خلال عمله مع سليم الأطرش أمير الجبل تعرف سليمان على العديد من رجالات الجبل ومن ضمنهم أقرباؤه من آل الأطرش ، نذكر منهم عبد الغفار باشا ونسيب بك وحسن الأطرش والمجاهد الكبير صياح الأطرش وهذا الأخير كان صديقه الأثير إلى حدود “التآخي” بحسب ما كان سائداً أيامه. أما سلطان الأطرش فكان الأقرب إلى وجدانه وعقله ومحطّ إعجابه بسبب عبقريته القيادية وسموّ أخلاقه وتمسكه بقيم البيئة التوحيدية التي ترعرع فيها3.
النضال ضد الانتداب
شكل دخول غورو إلى دمشق في 25 تموز 1920، وزيارته لقبر صلاح الدين واضعاً قدمه على ضريحه قائلاً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، طعنة لكرامة كل وطنيّ أو مسلم. ووسط الذهول العام من عمق الفاجعة والانكسار النفسي ترك سليمان العمل في 30 تموز 1920أي بعد خمسة أيام من دخول فرنسا، وكانت هذه حال البعض من زملائه أيضاً، وبالرغم مما سبب له ذلك من ضائقة ماديّة فإنه آثر أن لا يترك سوريا ملتحقاً بالأردن كما البعض من زملائه الذين ساروا مع الملك فيصل ليحتضنهم شقيقه عبد الله “أمير شرق الأردن” آنذاك، وفيهم من تبوّأ مراكز مهمة في ما بعد؛ وقد سألناه عن السبب فقال: “لقد كان ولائي لفيصل وليس لعبد الله الذي لم أكن أعرفه، وأما الذهاب إلى الأردن فهو مثل الهارب من الدلف إلى تحت المزراب” وكان يقصد بذلك الانتداب البريطاني، وبالفعل فقد اضطر العديد من الوطنيين إلى مغادرة الأردن في ما بعد بسبب عدم مماشاتهم للبريطانيين الذين كانت بيدهم عملياً مفاتيح الحل والربط في الأردن آنذاك، ومن هؤلاء رشيد طليع وفؤاد سليم وغيرهما ممن عاد والتحق بالثورة السورية الكبرى.
أمين سر معتمدية الجبل
لم تمض ِ أشهر على احتلال سوريا حتى شرع الانتداب بتقسيمها إلى دويلات ، وهكذا أُنشئت حكومة جبل الدروز ربيع العام 1921 برئاسة الأمير سليم الأطرش، وعُيِّنت لها معتمديّة في دمشق برئاسة نسيب بك الأطرش، وقد قام هذان الأخيران بالتوسط لدى السلطات الفرنسية لإعادة سليمان حسن إلى الخدمة، بالنظر الى ما يعرفانه عن أمانته وكفاءته، فتحقق لهما ذلك ليعيَّن سليمان حسن أميناً لسر المعتمدية المذكورة برتبة ملازم ثان، فكان بمثابة الدينامو فيها فضلاً عما أنيط به من مهام تولى حلها بحنكة حتى لقبه نسيب الأطرش: “صاحب الوجه الأخضر”، وقد بقي سليمان في منصبه هذا حتى أيلول من العام 1923 حين ألغت سلطات الانتداب الإدارة الأهلية للجبل مقيمةً مكانها سلطة عسكرية على رأسها الكابتن “كاربييه”. وكان هذا الأخير رجلاً مستبداً متسلطاً، وعلى قدر كبير من الرعونة والكراهية بالآن عينه4.. وضمن سياسته الإستبدادية وسّع كاربييه جهاز المخابرات باثاً المخبرين بين الناس يرصدون حركتهم ولاسيما زعماء الجبل والأطارشة بشكل خاص.
أساليب الفرنسيين
بعد حل “معتمدية جبل الدروز” نُقل سليمان حسن إلى الجبل ووضع بتصرف رئيس شرطتها “موريل” وكان نسخةً عن الحاكم “كاربييه” ، إذ طلب منه أن يتجسس على أصحابه ومعارفه من وجهاء وزعماء الجبل وبالأخص أصدقائه من الأطارشة، فما كان من سليمان إلا أن أعلمهم بالأمر، وليحذرهم من بعض الجواسيس المعروفين لديه والذي دسّهم كاربييه بين الناس!. حجب سليمان حسن كل معلومة مفيدة عن كاربييه ما أثار شكوك الأخير من حيث ولائه للانتداب، فاتخذ قراره بإبعاده مطلع نيسان من العام 1925 إلى بيروت ، جاء ذلك والجبل في حالة غليان في ما كان سلطان باشا يعبئ الناس تمهيداً للثورة. وإمعاناً في الإذلال تعمّد كاربييه إرسال سليمان بشاحنة لنقل الفحم، وفي بيروت أمرته المفوضية الفرنسية بعدم مغادرة المدينة، فكان عليه كل يوم الحضور إلى مقرها صباحاً ومساءً، كما تمّ شطب اسمه من لائحة الترقيات التي كان عليها مرشحاً لرتبة ملازم أول تمهيداً لتسريحه من الخدمة .
قرر المفوض السامي الجنرال ساراي إبعاد الكابتن “كاربييه” إلى باريس بداعي الاستشفاء، بغية امتصاص غضب الناس، وتولى بالوكالة أمور الجبل مساعده الكابتن “رينو” في 17 أيار من العام 1925 وكان هذا الأخير متذمراً من “السياسة الإرهابية” التي اعتمدها كاربييه فأوصى بإعادة النظر في العديد من قراراته، وبناءً عليه أعيد سليمان حسن إلى عمله في “حكومة جبل الدروز”، ولكن بعد أن دفع الثمن بخسارة الترقية ثم جرى عزل رينو منتصف تموز ليحلّ مكانه تومي مارتان والذي جاء والجبل على فوهة بركان، فتقرر بصورة عاجلة إبعاد سليمان عن الجبل، وغيره من المشكوك بولائهم للانتداب وليتحدد عمله في دائرة شرطة دمشق .


عين للثورة في دمشق
لم تمض أيام معدودات حتى اندلعت الثورة في جبل العرب محققة انتصارات سريعة، إذ تلا انتصار الثوار الساحق في معركة الكفر سقوط السويداء بيد الثوار ثم الهزيمة المروعة لفرنسا في معركة المزرعة في الأول والثاني من شهر آب، هنا قررت سلطات الانتداب التخلص من المشكوك في ولائهم لها ولاسيما الأصدقاء المقربين من الطرشان، وبناء عليه جرى تسريح سليمان حسن أوائل شهر آب من العام 1925 ودون إبداء للأسباب. والحقيقة أن شكوك سلطات الانتداب كانت في محلها، فقد دلّت أوراق سليمان حسن انه بعد تسريحه تفرغ ليكون أحد عيون الثورة في دمشق ، منتحلاً في مراسلته اسم “عبد اللطيف الحسن” والتي كتبت بلغة شبيهة بالشيفرة في الإشارة للثورة ، مثل “التجارة رائجة” أو “الخسائر كبيرة “ و”المؤونة قليلة” و”البضاعة المؤمل بها فاسدة” وما شابه، ولا شك أن مثل تلك المهام كانت حسّاسة ومهمة فيما الجبل يمد ثوار الغوطة بكوكبة من مجاهديه حتى أمكنهم السيطرة على بعض أحياء دمشق ومهاجمة مقر مندوب المفوض السامي في “ قصر العظم “ بهدف قتله.


مهمة سرية
روى بعض من أرَّخ لتلك المرحلة أن سلطان الأطرش كلّف في أيلول من العام 1925 محمود كيوان وهو رجل موثوق به بنقل رسائل منه إلى زعماء دمشق وإيداعها لدى الزعيم الدمشقي نسيب البكري، ويبدو أن كيوان تهيّب الأمر فلجأ إلى صديقه سليمان حسن طالباً منه مساعدته في ايصال الرسائل على اعتبار أن تجواله هو (أي كيوان) في دمشق سيكون مثيراً للشبهة قائلاً له: “جواسيس فرنسا يا أبو علي ملأوا الأرض” سائلاً إياه القيام بالمهمة بوصفه أيضاً من أهل الثقة عند قائد الثورة فما كان من سليمان إلا أن استجاب ناقلاً رسائل سلطان إلى نسيب البكري5 وهذا الأخير كانت تجمعه بسليمان وطيد المعرفة منذ أيام العهد الفيصلي.
هذه الواقعة يعرفها سلطان تماماً وآخرون من أصدقاء سليمان، ومن تفاصيلها المحجوبة أن البكري بعد استلامه للرسائل حدد لسليمان موعداً لأخذ الجواب وليكون شاهداً على قسم يمين الولاء والالتزام بالتحرك تحت راية سلطان، بحيث تشمل الثورة المدينة وغوطتها وكان الموعد في وقت متقدم من الليل. يذكر سليمان، في ما يذكر، أنه عندما همّ الحضور بقسم اليمين على مصحف القرآن الكريم موضوعاً فوق طاولة وسط القاعة، قال نسيب للبكري: “من باب طمأنة الحضور أنضم إليكم بحلف اليمين في ما لو رغبتم” فأجابه البكري: “مو نحنا بدنا منكم اليمين، الباشا بدو اليمين منا، وأنت كمان، لأنك لو لم تكن أهلاً للثقة لما حمَّلكم هذه الأمانة”.


مستشاراً للأمير حسن الأطرش
بعد انتهاء الثورة ، وهجرة رجالاتها إلى الأردن حصلت تطورات سمحت للبعض منهم بالعودة إلى سوريا منتصف العام 1927، ومنهم حسن الأطرش الذي آلت إليه إمارة جبل العرب منذ العام 1926. استدعى الأخير سليمان إلى دار عرى ليتولى في البداية إدارة أملاكه وليصبح خلال فترة قصيرة الساعد الأيمن للأمير وأمين سره. جاء ذلك على خلفية معرفته المسبقة بسليمان حسن وإخلاصه لعمه الأمير سليم وبعده نسيب الأطرش في معتمدية الجبل بدمشق، فضلاً عن تضحيته بوظيفته في سبيل الثورة كما أسلفنا، وقد كان حسن الأطرش من فرسانها المجلين .
كتب سليمان حسن يومياته في دار عرى منذ التحاقه بها وحتى مغادرتها أوائل العام 1929 وتعتبر هذه اليوميات مرجعاً مهماً سجلت فيه الكثير من الأحداث والأسرار التي دارت في قصر الزعامة وفي الجبل عامةً. ويلاحظ المتابع لهذه اليوميات أن سليمان تعامل بصبر وحكمة مع الأمير الفتى قليل الخبرة وذي الثلاثة وعشرين عاماً من العمر، بل إنه تعامل معه بمحبة كما يظهر جلياً في يومياته، ولعب دور الأخ الموجه له ما اقنع والدته وشقيقتيه للوقوف على رأي سليمان أو طلب مساعدته خصوصاً عندما كانا يجدان الأمير منغمساً في عبث الشباب المترف!
وفي هذا الإطار، كتب سليمان في 24 حزيران 1928 بأن والدة الأمير اجتمعت به وهذا في معرض قلقها على ابنها، لتسأله رأيه “بخصوص حالة الأمير السياسية”، ففاجأها بصراحته كما ورد في يومياته: “بأن ابنها ليس بالرجل السياسي القدير وأن منازعيه الرئاسة أقدر منه سياسياً، لذلك لا يمكنه التفوق عليهم إلا بأمرين كرم يديه ومكارم أخلاقه” لكن من يقرأ تلك اليوميات يعرف بأنه يشملها هي أيضاً، وبالتحديد في موضوع كرم اليد! ملمحاً لها أن تتغلب على ما تطبعت عليه بعد أن غدت أم أمير الجبل، وواجهة دار عرى ذات الصيت كرماً وضيافةً!.
لكن هذا النمط من الصراحة لا يُرضي أصحاب المقامات عادةً، فقد استفزت صراحته الحلقة الأسرية الأقرب للأمير وحركت دسائسها، ما جعل علاقته بالأمير مثل موج البحر مدّاً وجزراً! لكن اللافت فيها بأنها لم تصل إلى درجة الصدام أو الافتراق، وهنا يُسجَّل لحسن الأطرش بأنه تصرف مغلباً العقل، واضعاً مزايا وكفاءة الرجل في الكفة الأخرى من الميزان حتى واجه مرةً والدته وشقيقته بالقول :”لا يمكنني الاستغناء عنه”، لكن سليمان من جهته فكّر ولأكثر من مرة بترك دار عرى، وفي كل هذه المرات كان عبد الغفار باشا الأطرش يثنيه ويلحّ عليه بالبقاء، لأنه كان يدرك أهمية وجود سليمان بجوار الأمير حسن كمصدر للنصح الحسن وكصمّام أمان له وسط الظروف العدائية التي كانت تحيط به ودسائس يحيكها بعض أقاربه وعلى رأسهم متعب بك الأطرش .
نصحه الدائم للأمير حسن


تجدر الإشارة إلى أن عبد الغفار باشا شيخ السويداء وأحد أبرز أقطاب الجبل لم يكن ميالاً لمتعب بك شيخ دار الرساس خلافاً لحاله تجاه الأمير حسن؛ وعليه كان دأب سليمان لفت نظر الأمير لضرورة التحالف مع عبد الغفار بغية تشكيل كتلة كبيرة إلى جانبه مقابل متعب الرجل الداهية والقريب من الفرنسيين؛ وهذا الأمر لم يعره الأمير حسن اهتمامه في بداية الأمر، لكنه عندما فعلها حصد نتائج إيجابية إذ قام عبد الغفار باشا بإفساد مؤامرة أعدها متعب ضده. ومن القضايا الكبيرة إلى اليومية العابرة كان حسن الأطرش الشاب آنذاك يتلمس مشورة سليمان ويحرص على أن يبقيه قريباً منه، من ذلك مثلاً زيارة الكاتب اللبناني أمين الريحاني للأمير حسن في 18حزيران 1928، يقول سليمان: “وحيث إن الأمير لا يعرف ما هي منزلة الرجل أخبرته عن مكانته لكي يعطيه حقه من الترحيب” .
ومن الأدوار التي لعبها سليمان مجنِّباً حسن الأطرش الوقوع في أفخاخ نُصِبت له، نذكر مثالاً على ذلك حادثة نزول “عرب المساعيد” في أراضي عرى في بادرة تحدٍّ للإمارة في عقر دارها، وهي حادثة بدا أنها محسوبة ومرتبة، وهنا سعى سليمان لكي لا يقع الأمير في فخٍ منصوب له خاصة عندما قرر طرد الدخلاء بالقوة. يقول سليمان في يومياته 13 نيسان 1928: “ لقد أقنعته بعد جهد بأن هذا غير مناسب وطلبت منه أن أذهب وإياه إلى السويداء ونخبر الحكومة فرضي بهذا الرأي بعد جهد جهيد”، أما المفارقة الطريفة التي تعكس الوجه الآخر المزاجي للأمير فكانت أنه ترك تدبير هذا الأمر الجسيم لسليمان حسن مفضلاً في اليوم التالي رحلة صيد بعد أن أخبره أحدهم أنه رأى مجموعة من الغزلان في أحد الكثبان! وبالفعل سطّر سليمان باسم الأمير كتاباً لمدير الداخلية والآخر لرئيس المخابرات الفرنسية ووضعهما كليهما أمام مسؤولية نشوب “حرب بين الدروز والعرب” ، وبهذا تحول الأمر إلى قضية أحرجت السلطة ما دفعها للإسراع في حل الأمر.
رابط الشعور الوطني
ومما لاشك فيه أن السبب الموضوعي لحرص سليمان على حسن الأطرش كان مردّه للقاسم المشترك بينهما وهو النزعة الوطنية الكارهة للانتداب والرافضة لفصل الجبل عن سوريا. ومع ذلك حرص سليمان على إبقاء الأمير على مسافة أمان من زواريب العمل السياسي حتى أنه حال دونه ودون الصحافة ما وسعه الأمر، ومن طرائف ما أورده بهذا الخصوص بتاريخ 5 تشرين الأول 1928 أن الأمير صرح لإحدى الصحف بـ “أمور غير مناسبة” مما حدا بسليمان للحاق بالصحفي وإقناعه بتصويب التصريح، وقد كان حريصاً أن لا يغلب حماس الشباب في الأمير على عقله فيُستدرج إلى مواجهة مع الانتداب ستكون بالقطع غير متكافئة بينما الناس يعانون من صدمة انكفاء الثورة ورجالاتها لاجئين إلى وادي السرحان في السعودية، كما كان آخرون أيضاً يتحينون الفرصة لينقضوا على الأمير وعلى إمارته وعلى رأسهم ابن عمه متعب الذي كان من أدهى الرجال فضلاً عن ممالأته للانتداب الذي لم ينسَ بدوره أن حسن الأطرش كان إلى جانب سلطان في الثورة، وأن الأخير جاء به إلى دار الإمارة بعد أن خلع سلفه وعمه حمد الأطرش إبان الثورة العام 1926 وذلك لوقوفه في صف الانتداب .
إنطلاقاً مما سبق، كان سليمان يرى بأن من الحكمة والمصلحة تحصين إمارة حسن الأطرش بتجنيبها الانزلاق في أعمال أو أقوال غير محسوبة فيما الأجدى والممكن أن يلعب عبرها دوره الوطني وبمهمة محددة وهي تعطيل حركة التيار الانفصالي المطالب بتكريس “جبل الدروز” دولة مستقلة عن “دولة سوريا” وهي آنذاك دمشق وحلب. وتشهد اليوميات على وقفات من الشجاعة والوطنية للأمير خلال لقاءاته مع المسؤولين الفرنسيين منها على سبيل المثال ما قاله في اجتماع صلخد بتاريخ 17 أيلول 1928 بحضور الكولونيل موريه “رئيس استخبارات جيش الشرق” مطالباً فيه بانضمام الجبل إلى “دولة سوريا”. يقول سليمان إن كلمات الأمير “نشطت عزيمة الناس فأعلنوا وقوفهم إلى جانبه “.
قام سليمان بعدة زيارات لعمان خلال العام 1928 بتكليف من الأمير وبعضها برفقته قابل فيها زيد وصياح الأطرش وكانا من بين المبعدين من الثوار الذين لم يشملهم العفو، أما ما دار في هذه اللقاءات التي كانت تمتد لساعات أحياناَ فلم تفصح عنها اليوميات سوى بجمل قصيرة ، مثل : “البحث بشؤون البلاد “ أو ما شابه !!. والأرجح أنها لقاءات تعرضت لقضايا حساسة قرر عدم تدوينها في يومياته خشية أن تقع بيد السلطات الفرنسية، وكانت هذه عادته في التحوّط حيث اكتفى بالقول: “وكانت عبارة عن أبحاث تتعلق بعودتهم للبلاد وفي الحالة الحاضرة”.


أزمة وراثة
واجهت زعامة حسن الأطرش تحدياً كبيراً في شتاء 1928 بعد وفاة الإبن الوحيد للأمير سليم وكان صغير السن، مما سيؤدي الى توزيع تركة الأمير المذكور على ورثته وهذا برأي سليمان: “يفضي لخراب دار الأمير حسن بل الطرشان”، لأن موضوع الوراثة ثغرة قد ينفذ منها متعب لوضع اليد على دار الإمارة باعتباره وأخيه وباقي أولاد العم على درجة واحدة في القرابة مثل حسن ، فضلاً عما سيتسبب به ذلك من تبديدٍ لثروة دار عرى وهي بوصف سليمان “ التي تحمل الأحمال “ ولعله في هذا يستقي رأياً سابقاً لسلطان باشا الذي كان يعتبر أن دار عرى مؤهلة لتحمل أعباء الدروز بالنظر إلى غناها.
لعب سليمان دوراً رئيساً في خضم هذه الأزمة ومنذ يومها الأول، ومما كتبه في 5 كانون الأول 1928 تاريخ الوفاة: “الولد توفاه الله الساعة 6 صباحاً، ركبنا من الشام إلى الجبل وأول ما قمت به تقابلت مع خال الولد سليمان بك الأطرش، وطلبت منه أن يضع يده بيد الأمير فعاهدني على ذلك، ثم اجتمعت بتوفيق بك الأطرش وطلبت إليه أن يكون هو واسطة للمصالحة بين الحكومة والأمير فكان مسروراً للغاية من هذا الاقتراح”. وكان همّ سليمان بالاستناد إلى الوقائع الواردة في يومياته أن يجمع تكتلاً وازناً في صف الأمير حسن باذلاً مع آخرين جهده لتسهيل نقل أكبر قدر من التركة إليه وتكريس شرعية وجوده في دار عرى. ولعلّ هذا ما حدا بالأمير في ما بعد للزواج بأرملة الأمير سليم، والخلاصة أن أمر التركة دخل في دوامة تجاذبات كان سليمان خلالها بمثابة العقل المفكر ولعل ما كتبه بتاريخ 10 كانون الأول 1928 ينبئ بذلك، يقول:”اجتمعت بالأمير ورسمت له الخطة التي يجب أن يتخذها تجاه متعب وأفهمته أنه من الضروري أن يوضح لعبد الغفار بأنه مستعد لأن يعوض عليه قيمة ما يلحقه من الإرث مقابل أن يساعده على إسقاط الورثة لنصيبهم”.
قرار فرنسي بتسريحه من الخدمة
لم يكن الكابتن أوليف، رئيس الاستخبارات الفرنسية، مرتاحاً لدور سليمان في قصر الأمير وسجله في “خيانة الانتداب” محفوظاً بالكامل لديهم، هذا فضلاً عن دسائس متعب عليه، وعن هذا كتب سليمان في يومياته تاريخ 15 أيلول 1928: “فهمت من مصدر موثوق أن الحكومة قررت إبعادي عن الجبل”، لكن الأمير أحبط الأمر فيما رأى سليمان أن السكوت عنه مسألة وقت، وبالفعل فقد بات تحت أنظار الفرنسيين وكتب بهذا أنه لما خاطب الأمير “رئيس استخبارات جيش الشرق” بخصوص الوحدة السورية في لقاء صلخد 17 أيلول 1928 كانت أنظار الحضور تشخص إليه من جماعة الاستخبارات. من جهة أخرى، لم يكن سليمان في أمان من متعب الذي ما انفك يحيك حوله التهم، وفي المقابل لم يكن في يسر مادي حيث كان الأمير مُقتِّراً في المال وفي هذا كتب سليمان يوم 7 نيسان 1927 “المال أخذه صعب من حسن إذا دخل الصندوق”! وكثيراً جداً ما كان يأخذ راتبه على شكل كمية من القمح يتدبر بيعها في دمشق! لذا ما إن لاحت له فرصة الوظيفة الحكومية في وزارة الأشغال العامة والمواصلات حتى غادر دار عرى، وكان الأمير ممتعضاً من تلك الخطوة، غير إن هذا لم يحل دون استمرار العلاقة بينهما بشقيها السياسي والشخصي، كما ظل سليمان حسن أحد المقربين من الأمير، وخاصة بعد تبوّئه لمركز محافظ الجبل، ثم خلال المرحلة الحرجة التي تخللت وأعقبت فتنة “الشعبية والطرشان” بل إن هذه العلاقة اتسعت لتشمل أسرة سليمان في صداقةً وطيدة مع المرحومة الست ليندا جنبلاط زوجة الأمير وبناته، وقد عشت بداية طفولتي في كنفها وهذا بحكم الجوار أيضاً، حيث منزل جدي يجاور قصر الأمير في السويداء، فيما كنت أتردد إليه كي ألعب في فسحة قصره في السويداء مع ابنته المرحومة نجوى لتقارب الأعمار بيننا، وما زالت صور الأمير منطبعة في ذاكرتي: وجه باش وشخصية متواضعة .
كان ثبات الثقة والمحبة المتبادلة بين الرجلين من المفارقات الغريبة، غير إنها باتت علاقة مبنية على الوفاء ورصيد العلاقة الإنسانية وحسب، هذا بحكم الصداقة أو كما يقال: “الخبز والملح” فيما بات الرجلان على طرفي نقيض في السياسة بفعل ما استجد من شؤون وشجون في أربعينات وخمسينات القرن الماضي كما سنرى في ما بعد.
في وزارة المواصلات
إلتحق سليمان بالوزارة المذكورة في نيسان من العام 1929 بصفة مراقب فني متدرب وقد أتاح له علمه وكفاءته أن يترقى إلى مراقب فني أصيل بعد أن اجتاز امتحاناً لهذه الغاية، وتابع صعوده في السلم الوظيفي حتى بلغ أعلى المراتب في تصنيفه وهي مرتبة “مراقب فني ممتاز”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المراقبين الفنيين كانوا عماد الوزارة المذكورة بالنظر الى قلة أعداد المهندسين في سوريا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. تنقّل سليمان حسن بين عدة أماكن في سورية؛ وفي الأربعينات بات المسؤول التنفيذي الأول عن مشاريع محافظة درعا حتى إنه لما أرادت الوزارة نقله إلى مكان آخر طلب محافظها بكتاب خطي استبقاءه معللاً ذلك “بأنه يدير مشاريع المحافظة بكفاءة بحيث لا يمكن الاستغناء عنه”. في مطلع الخمسينات تحدد عمله في السويداء مديراً للمكتب التنفيذي في مديرية الأشغال العامة والمواصلات ونائباً لمديرها، وعلى يديه تتلمذ الكثير من المراقبين الفنيين، ولطالما كان مشهوداً له بين الناس كما من مرؤوسيه بالكفاءة وحسن التنظيم وعلى رأسهم آنذاك أمينها العام أنيس شباط أحد كبار المهندسين في سوريا. وبالنظر الى استقامته ونظافة كفه كُلِّف بالتحقيق في حوادث السرقة أو شبهة الرشوة وما شابه التي كانت تحدث، ومازالت بعض مسوداتها محفوظة بين أوراقه، ويعرف كل من عاصره من أبناء محافظة السويداء أنه كان عملياً دينامو مشاريع المحافظة، ولاسيما ورشة البناء التي نهضت فيها خلال عهد “الوحدة المصرية السورية”، والذي كان “العصر الذهبي” لجبل العرب على حد وصفه، نال خلالها اهتماماً خاصاً عوض سنوات الإهمال، وقد ذكر سليمان أنه أُنجٍز خلال 3 سنوات ونصف من عهد الوحدة ما يزيد على 360 كلم من الطرقات، وهي أكثر من ضعف ما أنجز في المحافظة طوال عهود الاستقلال السابقة، فيما لم تخل قرية من بناء مدرسة ابتدائية، ومدارس متوسطة في مركز كل ناحية (قضاء)، فضلاً عن ثانوية شكيب أرسلان في السويداء، ومستشفى السويداء الوطني الذي استُقدمت له أحدث المعدات والتجهيزات الطبية. حمل سليمان أعباء تنفيذ مشاريع “وزارة المواصلات” مع فريق من المساعدين الفنيين لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد الواحدة.


النشاط السياسي
في مطلع ثلاثينات القرن الماضي إنتسب سليمان إلى حزب “الكتلة الوطنية” في سوريا والذي ضم وجوهاً وطنية ساهمت في استقلال سوريا ومقاومة مشاريع تقسيمها وتعرف سليمان خلال نشاطه الحزبي على شخصيات سورية بارزة مشكلاً مع بعضهم صداقات نضالية طيبة، نذكر منهم على سبيل المثال: سعيد الغزي، فخري البارودي، سعيد الجزائري وحسان الشريف. لكن محطته البارزة في الحزب برزت في نشاطه الحثيث لعرقلة مساعي “فريق الانفصاليين” في الجبل وعلى رأسهم متعب الأطرش والذي استهدف إعادة فصل الجبل عن سوريا.
وفي العام 1937 انفجرت أزمة في الجبل إثر ترشيح حكومة “الكتلة الوطنية” لحسن الأطرش محافظاً للسويداء الأمر الذي استغله متعب ليضم إلى فريقه عبد الغفار ما جعل فريقه هو الأقوى في الجبل. يقول سليمان بهذا الصدد أنه نصح الأمير حسن بالتنازل عن المنصب مؤقتاً لصالح عبد الغفار “وعدم حشره في زاوية تضطره للتحالف مع متعب” الذي كانت “ تديره المخابرات الفرنسية “ مذكراً إياه بالمحطات السابقة التي كان يفوز بها عندما يتحالف مع عبد الغفار، “لكن هذه الفكرة لم ترق للأمير”، وحيال تشبث الأمير وضغط فريق متعب – عبد الغفار جاء المخرج يومذاك في تعيين محافظ من خارج الجبل لكن حسن لم يلبث أن عاد ومدّ الجسور مع عبد الغفار مشكلاً معه “هيئة الدفاع الوطني” والتي اعتبرها سليمان وسيلة لعزل “الفريق الانفصالي” وإضعافه لينجم عنها تعيين حسن الأطرش محافظاً للجبل في شباط من العام 1938.
كان متعب يستشعر الدور الخفي لسليمان حسن، مثلما أن سليماناً كان ملماً بالدور السلبي لمتعب، ونتيجة لهذا الجفاء الممتد وصلت درجة البغضاء بينهما إلى حد التصادم الكلامي حيث قال متعب للأخير يوماً “بعد ناقصني أذناب الكتلة الوطنية” ليأتي رد سليمان صاعقاً:”ذنب أسد ولا رأس واوي”6 ومن الاستطراد المفيد هنا الإشارة إلى أن هذه الأزمة كادت أن تؤدي لحرب أهلية في الجبل خصوصاً وأن العديد من خيوطها كانت تحركه المخابرات الفرنسية الساعية لضرب وحدة سوريا، لكن حنكة سلطان باشا الذي كان قد عاد ظافراً إلى الجبل أحبطت المكيدة.


نصير العمّال
ترك سليمان حزب الكتلة الوطنية أوائل الأربعينات جراء الانقسامات التي انتابته، وفساد بعض قادته لينتقل إلى محطة جديدة، فقد كان لاحتكاكه بالطبقة العاملة شبه المعدمة وبالأوساط الريفية البائسة تأثيرها الذي شده إلى القضايا الاجتماعية والتي شكلت نزعته الاشتراكية، ومما لا شك فيه أنه، وهو المثقف والقارئ الحصيف تأثر أيضاً بالنفوذ الذي كانت الفكرة الاشتراكية بدأت تحرزه على النطاق العالمي، فبات بالممارسة مناصراً للعمال المسجلين على جداول مديرية المواصلات في السويداء لجهة تحسين أجورهم أو تدبّر الطبابة المجانية لهم مع أصدقائه الأطباء، ونذكر منهم أديب المقدسي ونزار ملحس رحمهما الله وكانت لهما ذات النزعة الاشتراكية فضلاً عن سجاياهم الإنسانية، كما كان سليمان يضغط على المتعهدين ممن يتهربون من دفع أجور عمالهم، حتى إنه بلغ في الضغط حدّ تأخير تسديد كشوفاتهم ومع مجيء عهد الوحدة التي انتهجت الخط الاشتراكي أمكن لسليمان أن ينتقل إلى مرحلة متقدمة فكان في طليعة المؤسسين لنقابة العمال في محافظة السويداء العام 1959، وقد عاش سليمان حسن قناعاته ومبادئه سواء من حيث نظافة الكف أو في تعاطيه الإنساني مع العمال والفقراء، وأحياناً كان ينتفض أمام بعض المظالم في ما قد يراه البعض مغامرةً أو تهوراً. وعلى هذا نروي ما كان من أمره خلال جولة لأحد وزراء الأشغال يتفقد ومحافظ درعا مشاريعها وقد تصادف مرورهم على إحدى الورش والعمال في استراحة الغداء فوجد الوزير أحدهم يتناول طعامه رغيف خبز من الذرة والشعير وقطعة بندورة، فالتفت إلى المحافظ قائلاً: فاجأني مستوى معيشة العمال !!، كنت أظن الوضع أسوأ من هذا!!. استفزّ هذا القول سليمان فالتفت إلى الوزير قائلاً بلهجة ممازحة: “ولكن يا معالي الوزير ربما لن يؤلمه بطنه لو أمكنه أن يأكل ربع أوقية لحم في الأسبوع”، فنفر الوزير مشيحاً بوجهه ليقول للمحافظ بصوت منخفض “من هذا !!..شايف أفكاره حمراء”!!.
لقاء أفكار مع كمال جنبلاط
حصل اللقاء مطلع الخمسينات في دارة الأمير حسن عندما كان كمال بك جنبلاط يقوم بزيارة لشقيقته ليندا زوجة الأمير حسن في السويداء، وقد شاركتهم الجلسة الست ليندا رحمها الله، وعندما همت بالانسحاب لتترك لهما الحرية لتبادل الحديث قالت لسليمان “ساترككم مع بعض، أكيد ستكون مسروراً عندما تسمع أفكار كمال”، فقد كانت على اطلاع على ميول سليمان الاشتراكية كما إنه لم يكن قد مضى سوى أشهر قليلة على إعلان كمال جنبلاط تأسيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”، وهذا اللقاء الذي امتد زهاء الساعة ونصف كما روى سليمان شرح فيها كمال جنبلاط أفكار الحزب، وكان سليمان سعيداً، معجباً بسعة اطلاع الزعيم الجنبلاطي وثقافته الإنسانية الواسعة، ومنذ ذلك الحين بات كمال جنبلاط مالئاً لوجدان وقلب سليمان حسن، وقد ازداد تعلقاً به مع انجذاب كمال جنبلاط للخيار العربي وصداقته الوطيدة مع القائد العربي جمال عبد الناصر فضلاً عن موقفه الجذري من القضية الفلسطينية.
نذكر هنا أن الموقف من كمال جنبلاط كان أحد الأسباب المباشرة للافتراق السياسي بين الأمير حسن الأطرش وسليمان حسن، فقد كان الأمير محافظاً في أفكاره كما زوجته والست نظيرة، ويروي سليمان أن حسن قال ذات مرة أمامه بأن “نهاية بيت جنبلاط ستكون على يد كمال”، فردّ عليه سليمان: “بل قد تصبح على يديه بداية جديدة للجنبلاطية ..الزمن يتغير يا أمير “.. وكان من بعض الافتراق بينهما جمال عبد الناصر وبالأخص أثناء معركة السويس لدرجة قال سليمان إنه كان يتجنب اللقاء مع الأمير خلالها لكي يكفي نفسه سماع سخريته من عبد الناصر، وكان سليمان بأفقه الواسع يحاول أن يلفت نظر الأمير حسن ولأكثر من مرة إلى أهمية الانفتاح على الجيل الصاعد من شباب الجبل مع انتشار التعليم بينهم وطلائع المتخرجين من الجامعة السورية، وهذا قبل وبعد فتنة “الشعبية والطرشان”، وقد كان في ذلك مدفوعاً بموجبات الصداقة التي تشده للأمير وحيث الصديق هو الصَدوق ، فضلاً عن موجبات الأمانة التي تمليها ثقة الأمير به والذي بقي يطلب مشورته في بعض المسائل. وبنفس السياق كان أيضاً من الناصحين لأصدقائه من آل الأطرش بأن يلجأوا الى تطوير زعامتهم بتعليم أبنائهم لأن الزعامة المعاصرة “انتقلت من ميدان الفروسية إلى ميدان المعرفة”، وهو في هذا يلمح إلى ما يجول في صدره من الرفض لاستئثار آل الأطرش بالمناصب الحكومية في الجبل بُعيد الاستقلال، والذي جاء على غير كفاءة أو علم ، الأمر الذي استثار العامة من أبناء الجبل في ما بعد موجداً التربةً الخصبة لفتنة “الشعبية والطرشان”.
عهد الانفصال
رغم قناعاته الاشتراكية فقد أنكر سليمان حسن على خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي السوري رفضه الوحدة المصرية السورية ومغادرته سوريا إلى بلغاريا، تاركاً أعضاء حزبه يحصدون نتائج مواقفه، وعندما انفصمت عرى الوحدة السورية المصرية العام 1961 كان سليمان حسن من الساخطين على بكداش وقادة البعث آنذاك صلاح البيطار وميشال عفلق وأكرم الحوراني لاشتراكهم في التوقيع على وثيقة الانفصال، وعليه تحول بكل طاقته للعمل مع القوى السياسية الوحدوية آنذاك من أجل إحياء الوحدة، ولطالما شهد منزله في السويداء عدة اجتماعات لوجوه وفعاليات بارزة من المناهضين للانفصال كانت تحترمه وكثيراً ما تقف على آرائه وكانوا بالعشرات منهم على سبيل المثال : الشاعر الكبير سلامة عبيد، والمحامون سلمان معروف وحسين عزيز، والمجاهد حسن رسلان.
نتيجة لنشاطه السياسي، تعرض سليمان حسن لضغوط من حكومة الانفصال لكن ذروتها بلغت باستدعائه للتحقيق معه في المخابرات العامة في السويداء وذلك على أثر مشاركة ابنه الإعلامي توفيق حسن في (ثورة حلب) ضد الانفصال (نيسان 1962) واضطراره للفرار إلى مصر ثم الحكم عليه في سوريا غيابياً بالإعدام، هنا ألحّ ولداه سلوى وتوفيق عليه بترك العمل في سوريا إشفاقاً عليه من الضغوط التي كان يتعرض لها ولاسيما وأنه مريض بالقلب إثر تعرضه لأزمة قلبية قبل سنوات، وبالفعل انسحب سليمان حسن بهدوء إلى لبنان حيث أمضى بقية حياته بعد أن كان قد بنى لنفسه بيتاً في قريته عترين من التعويض الذي حصل عليه عن خدمته في سوريا.
عقلية سابقة لزمانها
إمتاز سليمان حسن بعقلٍ متفتح سابق لزمانه، سواء موقفه من تعليم المرأة أو رفضه لبعض العادات البالية المقيِّدة للتطور والانفتاح على العصر، وهذا ما حدا به لتعليم ابنته سلوى باذلاً أمامها ما بذله في سبيل ابنه توفيق، فيما كان في التزامه الإسلامي يتحلى بعقل متحرر من التقليد والتعصب والقوالب الجاهزة، وكان على قدر كبير من الثقافة والاطلاع التاريخي وفي هذا كان مشدوداً لشخصية النبي العربي (ص) الإنسانية، كما التاريخية بوصفه عبقرية وحّدت العرب في أمة مبنية على رسالة إنسانية عالمية جامعة، وفي سياقها كان شديد الإعجاب بشخصيتين هما عمر بن الخطاب باني الإدارة الإسلامية وقائد فتوحاتها، وعلي بن أبي طالب الذي كان يعتبره “فيلسوف الإسلام”، ولعلّه يستمد هذا الإعجاب بهما من نزعته الاشتراكية، والرجلان من نماذجها البارزة في التاريخ الإسلامي والإنساني .