سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
القيَم والأخلاق تعيدُنا إلى طريق الخلاص
يستحضرُ حلولُ شهر رمضان المبارك في ذِهننا التقاليدَ العريقة التي عرفتها المجتمعات الإسلاميَّة في طرائق أدآئها لآداب الصَّوم، وامتثالها في وجدانها ومسالكها المعاني الخيِّرة المرتبطة أصلاً بالدَّلالة الأولى التي شرَّفت هذا الشهر الفضيل ألا وهي نزول القرآن الكريم بالدَّعوةِ إلى رحاب الله الممَهَّدة بالرَّحمةِ والفضلِ والخير.
ويُدركُ المؤمنُ بفطرتِه السَّليمة – والإسلام دينُ الفطرة – أنَّ التَّقوى هي غاية الأمر الإلهيّ الجليل الّذي به كُتِبَ عَلَيكُم الصَّوم. فالجوعُ «غذاءٌ للقَلب» ذلك أنَّه يُخضِع الجسد لامتحان افتقاره إلى الطعام والشراب، فإن امتلأت النفسُ آنذاك بالذِّكر الحميد ومقاصده، أشرقت فسحةُ القلب والرُّوح، فامتثلت لطافة المعنى، واستشعرَت واجبَ الحضور الإنسانيّ في الجماعة، وما يعنيه من حِسّ المشاركةِ في الإيمان والمسلكِ الّذي يجدُ تعبيره المحسوس في المشاركة بالمال والرِّزق ومائدة الخيرات، وهذا أصل أصول العدالة الإجتماعيّة، واللبنة الأولى في بناء مجتمعٍ قويّ ومتماسِكٍ ومتعاضِد، الأمر الَّذي من شأنه أن ينير سُبلَه نحو عوامل النهضة والرقيّ والفلاح.
إنَّ الشّعورَ ببَرَكة هذه المشاركة يدفع المرء نحو جمع شمل الأسرة، وما تضمّه من أحبَّةٍ تجمعهُم أواصرُ القربى، ليس فقط في البيت الواحد، وإنَّما في الحيّ والبلدة والاجتماع العام، فتصفو أجواؤهم بقدر ما تنقى قلوبُهُم ونواياهُم في الخير، وهذا سرُّ الزَّكاة التي تعني، بأثر المبادرة إليها وما تعكسه في الرُّوح العميقة، تطهُّر الذات ونموّ قواها الجوهريَّة في «حضور الله» لأنَّ خفقات القلب المختلجة بالخير هي سببٌ لاستكناه ذلك الحضور وفق الطاقة البشريَّة، وهذا، إن تحقَّق للفرد وللأسرة وللمجتمع، هو الجمال الأرفع للحياة التي وهبنا إيّاها القديرُ الحكيم.
يَطيبُ لنا في هذه الأيّام العصيبة من زمننا الرّاهن، أن نتمعَّنَ في هذه الحقائق الفاضلة التي مَنَّ بها الحكيمُ القادر على عِباده ليهديهم سواء السَّبيل، ليس فقط إلى خلاص الذّات، ولكن من أجل إخراج الفرد من أنانيته ودائرة رغباته المغلقة إلى فسحة مشاركة الآخَر في بُعده الإنسانيّ تأسيساً للمجتمع والمدنيَّة وصولاً إلى تحقيق مفهوم «ألأمَّة» بمعناه الأرحب.
نتأمَّل ذلك كأن لنشفي القلبَ ممّا يعتريه من هواجس وعوامل قلق، حين يستشعرُ الأخطار الدّاهمة، ويرى مشاهد المآسي الضاربة في عمق مجتمعاتنا التي لم تُعطَ عبر أزمان مديدة فرصة العيش في نِعمة حُكمٍ عادل ودولةٍ مستقرَّةٍ ومزدهرة وقادرة على توفير فرص الحياة والعدل والكرامة. ولنا أن نتساءل، كما يتساءلُ أيّ مُواطِن «مسكين»: كيف يُمكنُ لنا، بما يجمعنا تحت فيئه من نور الكتاب، أن نصلَ بواقعنا إلى هذه المدارك الوخيمة؟ كيف لنا، بما يوجبُ علينا التزامه من مقوِّمات الإسلام العظيم السّمح الجامع، أن نحوِّلَ مفهومَ الدِّين إلى أداةٍ لخوض الصّراعات والنزاعات والانقسامات؟ بل كيف لنا أن لا نبذلَ أقصى الهمم وأشدّ العزائم كي نعودَ إلى «مرآة الله»، أي إلى تجريد المعاني من الرِّسالة الإلهيَّة كي نتشبَّهَ بها من جديد، أوّابِين إلى الصّراط المستقيم، ولائذين بطلب الصَّفح والمغفرة، وسائلين أن يقدِّرنا برحمته وعفوه على أن نسلكَ المسلكَ السَّليم مبتعدِين عن كلِّ مظاهر الإساءةِ والمعاندةِ لِما أراده الله لنا أن نكون.
إنَّنا لا نرى في خضمِّ هذه العاصفة الـمُقبِضة إلا أن ندعوَ أنفسَنا وأبناءَنا وبني قومنا في أمَّتنا إلى التنبُّه والتيقُّظ من حبائل الضّدّية السّائقة للنفوس إلى النّفور من منظومة القيَم والأخلاق والعدل، واتِّباع الأهواء انبهاراً بغواية الرَّغبات ونوازع الهوى التي تدفعُ إلى الابتعاد عن أمانة الدِّين السَّامية والمنزَّهة بحقيقتها عن كلِّ سُوءٍ من الأعمال التي يرتكبُها الغافلون العصاة.
كما لا يسعنا إلا أن نطلقَ الصَّوت عالياً للتّذكير على الدّوام ببركات التآلُف والاجتماع والوحدة حول منابع الخير. إنَّ الله سبحانه وتعالى يحبّ الّذين آمنوا أن يكونوا بالتقوى والمروءةِ والشّجاعة الخُلقيَّة ملتحمين كالبنيان المرصُوص تحقيقاً لصلاح النّفس، ومن ثمَّ ذوداً عن الحمى، ورداً لمطامع الطغاة أعداء الحقّ والدّين.
هذه المبادئ هي الثّوابت عندنا، ننادي بها، وندعو إليها، ونطالبُ أبناءَنا بالتزامها انطلاقاً من الاحترام العميق للكينونة الأخلاقيَّة التي هي النّواة المباركة لبناء الشخصيَّة الإنسانيَّة والمجتمع الإنساني الّذي نتوق إلى تحقيقه.