قراءة في كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكِه1
شمسُ العرب تسطعُ على الغَرب
مساهمــة العــرب الكبيــرة في انطلاقـة الحضــارة الأوروبيــــة
لم يبدأ خروج الغرب من الظلمات وازدهاره ونهضتــه
إلاّ بعـد احتكاكــه بالعــرب سياسيــاً وعلميــّاً وتجاريــّاً
بينمـــا كـــان العالـــم العـــربي يتّجـــه نحـــو ذروة عصـــره الذهبــــــي
كانـــت أوروبا منشغلة بعودة وشيكة للمسيح للإقتصاص من البشـر
“هكذا وجب أن يظهر الحقّ ويعلو، كما نجح في هذا مُحمّد الذي أخضع العالم كلّه بكلمة التوحيد»
(الشاعر الألماني غوته)
يعتبر كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه أحد أعظم الشهادات المنصفة التي جاءت من مؤلف أوروبي ليس فقط في عظمة الحضارة العربية الإسلامية فهذا الأمر يكاد يجمع عليه أكثر المؤرخين المنصفين بل في أثر هذه الحضارة العظيمة في نهوض وتقدم الحضارة الأوروبية، وكانت هونكه بذلك أول شخصية علمية أوروبية تسلط الضوء على أمر يميل الأوربيون إلى تجاهله والتغطية عليه وهو ما تعتبره هونكه الدَّيْن الذي يترتب عليهم للعرب والمسلمين في الكثير من مجالات العلوم والثقافة. يذكر أن الإسم الأصلي لكتاب هونكه هو “شمس الله تشرق على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا2 وهو يتناول بالإضافة إلى تأثير الحضارة العربية-الإسلامية وعلمائها واختراعاتهم على الحضارة الغربية تأثّر اللغات الأوروبية باللغة العربية وحضارة الأندلس.
وزيغريد هونكه مستشرقة ألمانية أحبّت العرب، وهي زوجة المستشرق الألمانيّ صديق العرب والمطّلع على آدابهم وآثارهم ومآثرهم الدكتور شولتزا، وقد عاشت مع زوجها سنتين في مرّاكُش وقامت بعدد من الزيارات للبلدان العربيّة دارسة فاحصة، وهي ردت في مقدمة كتابها قرارها إعداد مؤلفها إلى ما لحظته من تجاهل تام في الأوساط الغربية للإسهام الكبير العربي والإسلامي في الحضارة العالمية، وهو ما جعل قليلون خارج العالم العربي يعرفون فعلاً عن تلك الحضارة وأهميتها للتراث الإنساني. وقد جمعت الكاتبة مادة الكتاب على مدى سنوات طويلة أمضتها في رحلات متوالية إلى مختلف أنحاء العالم العربي حيث بنت شبكة واسعة من الصداقات وحققت بنفسها العديد من مواد كتابها، وهي أرادت لكتابها أن يكون بالفعل “سجلاً لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة”.
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في العام 1964، وأعيد طبعه مراراً منذ ذلك الحين وصدرت طبعة ثامنة منه في العام 1986، وقد راج الكتاب بشكل متميّز بين الناطقين بالعربية فطُبع مراراً وتكراراً، وتحول إلى أهم مرجع جامع يعرِّف العرب بتاريخهم بأكثر ما يعرفونه هم، ويضع بين يديهم الحِجّة البالغة في أكثر ما يختصّ بماضيهم الزاهر وأسبقيتهم في الكثير من المجالات التي عادت أوروبا وبفضل جدها وتقدمها الاقتصادي والعلمي فسبقتنا فيها جميعاً.
فما الذي جاءت به زيغريد هونكه وأثار ذلك الاهتمام الكبير وشعور الاعتزاز في الأوساط العربية لكنه مع الأسف لم يلق الاهتمام نفسه من الأوساط الغربية السياسية والأكاديمية على السواء؟
1. – منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثامنة 1986، نقله عن الألمانيّة فاروق بيضون و كمال دسوقي راجعه ووضع حواشيه: مارون عيسى الخوري
2. – بالألمانية Allahs Sonne über dem Abendland: unser arabisches Erbe)


تقول المؤلفة في مقدمة كتابها:”أردت أن أكرّم العبقريّة العربيّة وأن أقدّم للعرب الشكر على فضلهم الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصّب ديني أعمى أو جهل أحمق”.
تعرض هونكِه أولاً مئات المفردات والمصطلحات التي أخذها الأوروبيون عن العرب وتدل على مدى النفوذ الثقافي والعلمي العربي في أوروبا في العصور الوسيطة وهي تخلص إلى القول: ”إن في لغتنا كلمات عربية عديدة وإننا لندين ــ والتاريخ شاهد على ذلك ــ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زيّنت حياتنا بزخرفة محبّبة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب، الذي كان يوماً من الأيام قاتماً كالحاً باهتاً”.
العصور الوسطى إنفتاح عربي وانكفاء أوروبي
على أثر اندفاع الفتوحات العربية الإسلامية الأولى تقول هونكِه:” حين انطلقت من جنوب الجزيرة العربيّة جحافل العرب الرّحل، تحدوها قوّة عارمة، ويعمّها تنظيم مدهش بثها الرّسول محمّد (ص) في صفوفها فتصل إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط على شواطئ الأطلسي وتسيطر على الشرق والجنوب والغرب، فتُخرج ذاك العالم القديم من بوتقته الثقافية السابقة، فإن الغرب كان قد أحاط نفسه إحاطة مُحكمة بستار حديديّ لمئات من السّنين خوفاً من هجوم الشرق عليه، وأمّا في الشرق فقد قامت الإمبراطورية العربيّة الجديدة لتفرض نفسها لأول مرة على الإطلاق بصفتها شرقاً في وجه الغرب مجبرةً إيّاه على أن يعزل نفسه”.
تسامح الرّشيد يقابله جحود أوروبي
أغلقت أوروبا على نفسها منافذ النّور والهواء أمام عينيها (ص25)، ولكنّ الحجّاج المسيحيين كانوا يتمكّنون من الحج إلى كنيسة القيامة من دون إزعاج أو خطر، ففي ذلك الوقت قدّم الخليفة هارون الرشيد مفاتيح المدينة المقدّسة وشرف الهيمنة عليها إلى القيصر شارل الكبير على يد بطريرك القدس الذي كان يتواجد في منصبه رغم الهيمنة الإسلاميّة، من دون أن يناله حيف أو مكروه ومع هذا، فإنّ الأوروبيين لم يحجموا عن إلصاق تهم انتهاك حُرمة المدينة المقدّسة نفسها من جانب “الكفّار” قصد إلقاء الذعر في نفوس المؤمنين والمسافرين لمنعهم من السّفر. ولعل مثل هذا الحقد الأوروبي كان في أساس تجريد الحملات الصليبية على الشرق.
أمّا الخليفة الفاطميّ المستنصر وصديق المسيحيّين فقد أمر بإخلاء قسم كامل من مدينة القدس للحجّاج والتجار الأوروبيّين.
وكان التجّار البنادقة يحملون لأوروبا القطن السّوري والتوابل والكافور والبخور والنيلة من مراكز التجارة المصرية (ص 35) وتمتع الغربيّون بأفضل التوابل والعطور وأردية المُخْمَل والحريرالناعمة، وعلى هذا فإن أساس كلّ رخاء في بلاد الغرب قد نبت في سلال التوابل العربيّة.
تقول هونكِه، (ص37) “إنّ مدينة البندقية لم تكن لتحقق ما حققته لولا تبادل التجارة مع العرب فلولا قرفتها وكراوياؤها وقرمزها ونيلتها لم يكن في وسعها بتةً أن تمثّل دور المسيطر وأن تظهر في مظهر أكبر قوة اقتصادية في الغرب”.
في مدرسة العرب
تؤكّد الباحثة أنّه بفضل العرب عرف الغربيون الورق الذي “وصل إليهم من الأندلس العربية” ففي عام 751 نقل العرب جماعة من أسرى الحرب الصّينيين إلى سمرقند، وكان بعضهم بارعاً في صناعة الورق، وهكذا انتقلت هذه الصناعة إلى بغداد، زمن الخليفة المنصور (754 ــ 775م) الذي اعتمد الورق ومنع استعمال ورق البردى المجلوب من مصر، أمّا في ظل ولده الرشيد فقد


ثبتت مكانة هذا الاختراع الجديد، الأمر الذي حدا بوزيره يحيى بن الفضل البرمكي (794)م أن يبني أولى مصانع الورق في بغداد.
أجل، لقد فتح ورق العرب هذا عصراً جديداً، لم يعد العلم فيه وقفاً على طبقة معيّنة من الناس بل غدا متاحاً للجميع ودعوة لكل العقول لأن تعمل وتفكر.
تنقل هونكه عن أبو بكر الطرطوشي رسول ملك الأندلس العربي إلى بلاد الفرنجة أنه صادفته أشياء اقشعرّ منها بدنه وهو المسلم الذي فُرض عليه الاغتسال والوضوء خمس مرات يومياً يقول: “ولكنّك لن ترى أبداً أكثر منهم قذارة ! إنّهم لا ينظفون أنفسهم ولا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد وأمّا ثيابهم فإنّهم لا يغسلونها بعد أن يرتدوها حتى تصبح خِرَقاً بالية مُهلهلة”… فيما كانت بغداد آنذاك “تزدحم في القرن العاشر بآلاف الحمامات مع المُولَجين من مدلِّكين ومزيّنين(حلاّقون) كانوا في الزبائن للإعتناء بأجسامهم وبراحتها أسبوعياً أو يومياً، وبفضل العرب عاد الاعتناء بالصحّة إلى بلاد الغرب عن طريق الصّليبيين والمسافرين القادمين من إسبانيا وصقلّية على الرغم من ضغط السلطة الشديد وتزمّت الكنيسة. وهكذا خُرق الحصار الذي فرضته المسيحية ضد الإسلام وأصبح سكان أوروبا عن طريق الإقتناع تلامذة الحضارة العربية.
البابا يحسب بالعربيّة
تتناول الكاتبة أثر العرب في علم الحساب، إذ لم يقتصر الخوارزمي على تعليم الغرب كتابة الأعداد والحساب، فقد تخطّى تلك المرحلة إلى المعقّد من مشاكل الرياضيات وما زالت القاعدة الحسابية (Hlgorithmus) حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من أعلامها، أمّا الألمان فقد جعلوا من الخوارزمي “شيئاً” يسهل عليهم نطقه، فأسموه(Algorizmus) ونظموا الأشعار باللاتينية تعليقاً على نظريّاته.
وتذكر هونكِه أنّ البابا سلفستروس الثاني، قبل اختياره لمنصب البابوية، زار الأندلس نحو عام 970م، وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبا ليحلم أن يسمع بها، وكان أهم ما تعلّمه نظام الأرقام والأعداد العربية، وكان عالماً بالرياضيات ومعلّماً لها.
العرب وعلم الفلك
تقول المؤلفة: “لم يأخذ العرب العلوم التي ورثوها عن طريق الاقتباس كما إنهم لم يأخذوا الآلات العلمية ومواد العلم القريب من دون مناقشة أو تحقيق، فمنذ البدء أدهشوا العالم بالانفتاح الموضوعي والشجاعة العلمية التي استقبلوا بها نتائج السالفين وآراءهم ليشبعوها بحثاً ونقداً وتفنيداً.. ولقد شهد الفرنسي سديوّ Sedillot بقوله “لقد توصّل فلكيو بغداد في نهاية القرن العاشرإلى أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه إنسان في رصد السماء وما يدور فيها من كواكب بالعين المجرّدة من دون اللجوء إلى عدسات مكبّرة أو منظار. ومن بين العرب الذين وصلت آثارهم إلى مواطن العلم الغربي العالم الفرغاني الذي قام بقياس طول خط الأرض المستقيم، وكان أول من أدرك أن مدار الشمس والكواكب على مرّ الزمن يجري في اتّجاه خلفيّ، وكان يُسمىّ في القرون الوسطى Al- Fraghanus “ ومن المشتغلين بعلم الفلك ثابت بن قرّة الذي قام بقياس علوّ الشمس ومدة السّنة الشمسيّة ومن أولئك البتّاني 877 ــ 918م الذي قام بقياسات جنوح الشمس بشكل أدق، وكان كثابت بن قرّة من أتباع الصابئة، وقام بإكمال النتائج التي توصل إليها بقياساته الدقيقة لمُدد السنوات الاستوائية والقطبية المختلفة بعد أن قام بقياس دوران الأرض حول الشمس بطريقتين مختلفتين. أما الحسن بن الهيثم 965 ــ 1039م فكان أكثر معلمي العرب في بلاد الغرب أثراً وتأثيراً، وهو صاحب نظريّة انعكاس الضوء، والأهم اكتشافه القائل: إنّ كل الأجسام السماوية بما فيها النجوم الثابتة لها أشعّة خاصة ترسلها ما عدا القمر الذي يأخذ نوره من الشمس. وقد أعلن ابن الهيثم خطأ قول إقليدس وبطليموس أنّ العين المجردة ترسل أشعة إلى الأجسام التي تريد رؤيتها فقال “ليست هناك أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصرها هذه الأخيرة بواسطة عدستها”.
وابن الهيثم هو صاحب فكرة إقامة سدّ على نهر النيل موضع السد العالي، وقد استقدمه الخليفة الحاكم من البصرة لتنفيذ هذه الفكرة لكنه بعد درس أولي أدرك استحالة تنفيذ تلك الفكرة بسبب عدم توفر الوسائل التكنولوجية اللازمة لتنفيذ ذلك المشروع في ذلك العصر. أمّا العالم الأندلسي البطروجي فقد نقد نظريّة بطليموس الشهيرة في انحراف الكواكب ودورانها الدائري وبالتالي مهّد السبيل للعالم كوبرنيكوس.




“كان الأوروبيون لا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد، فيما كانت بغداد تعج بآلاف الحمامات العامّــــة والمسلمون يتطـــــهَّرون خمس مرات في اليوم”
أسبقية العرب في رصد الفلك
تشير هونكِه إلى أنّ الوسائل التي وضعها العرب في متناول الأوروبيين كانت أكثر أهمية في مجال رصدهم للسماء وحل أحاجيها، لقد كان العرب أساتذة خلاقين في علم الرياضيات على خلاف الرومان الذين لم يأتوا في هذا الميدان إلا بنتائج ضعيفة قليلة. كان الخليفة المأمون 786 ــ 833 قد ابتنى مرصدين على جبل قاسيون وفي الشماسية ببغداد، وفي عهده ومن بعده أنشئت عدة مراصد في البلاد الإسلامية، وأنشأ الفاطميون مرصداً على جبل المقطم عرف بإسم المرصد الحاكميّ وبنى نصير الدين الطوسي مرصد مراغة بأمر من هولاكو، وهو المرصد الأهم مما سبق ومنها مرصد الشاطر بالشام والدّيْنَوَري في أصبهان والبيروني وأولوغ بك بسمرقند والبتّاني بالشام وغيرها كثير في مصر والأندلس وأصبهان.
ومن العلماء العرب الرواد الطبيب الفذ والفيلسوف المشهور الشيخ الرئيس إبن سينا 980 ــ 137م، وأما الفارابي 780ــ 950م الملقب بالمعلّم الثاني بعد أرسطو” فقد كان فيلسوفاً فذّاً ذائع الصيت بالإضافة إلى كونه موسيقياً بارعاً .
إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حدّاً قريباً من الكمال وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلّثات الدائريّة وبصريّاتهم الدقيقة كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبا عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية من ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.
“ابن الهيثم بيَّن خطأ قول إقليدس وبطليموس بأنّ العين ترى بواسطة أشعة ترسلها إلى الأشياء مؤكِّداً أن الأشيـاء هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصـــــرها”


الأيدي الشافية
في مجال علم الطبّ تخلص الباحثة إلى القول: “لذلك استقبلت كتب ابن سينا والرازي وابن رشد بالثقة نفسها التي استقبلت بها كتب أبوقراط وجالينوس ونالت حظوة قصوى عند الناس إلى درجة أنه إذا ما حاول امرؤ ما ممارسة الطبّ من دون الاستناد إليها اتّهم بالإضرار بالمصلحة العامّة.
كان طب الفرنجة مزيجاً من الممارسات البدائية والخرافات بينما كانت المشافي العربية في قرطبة وبغداد والقاهرة قبل ألف عام تشبه إلى حد بعيد ما كنا نراه في القرن العشرين. ويروى أن السلطان المنصور قلاوون بنى المستشفى المنصوري في القاهرة وعند إتمام بنائه قال: إنني قد وهبت هذا المستشفى إلى أندادي وأتباعي وخصصته للحكام والخدم، للجنود والأمراء، للكبار والصغار والأحرار والعبيد، للرجال والنساء على السواء.
أثر العرب في الطب الغربي
تذكر هونكِه أنّه “من المحاضر والتقارير في مستشفيات بغداد الكبيرة وغيرها خلال الربع الأول من القرن العاشر خرجت إلى الوجود موسوعة طبية ضخمة استعملها الأطباء الأوروبيون خلال مئات السنين ككتاب للتعليم استعان بها صاحبها في تصريف أموره الخاصة وتعليم تلاميذه وكان واضع تلك الموسوعة الهائلة رجل ذاعت شهرته في الآفاق حتى لقّب بأعظم طبيب في القرون الوسطى و” بأحد أطبّاء العصور كلّها” إنّه الرازي..!
أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً !!
قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم لا تحتوي إلاّ على مؤلّف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي كبير، كان ملك المسيحية لويس الحادي عشر قد دفع ثمنه غالياً من الذهب والفضة وكان هذا الأثر الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد، وظل المرجع الأساسي في أوروبا لمدّة تزيد على الأربعمائة عام بعد ذلك التاريخ من دون أن يزاحمه مزاحم أو تؤثّر فيه أو في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب في صياغتها كهنة الأديرة قاطبة، وهو العمل الجبار الذي خطّته يد عربي قدير.
وقد اعترف الباريسيون بفضله فأقاموا له نصباً في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته وصورة عربي آخر في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جرمان حتى إذا ما تجمع فيه اليوم طلاب الطب وقعت أبصارهم عليها ورجعوا بذاكرتهم إلى الوراء يسترجعون تاريخه. إنه الرازي أو Rhases كما سمّته بلاد الغرب، و أمّا اسمه الحقيقي فهو أبو بكر محمد بن زكريّا.
ومن هنا فلا عجب أن يشهد مؤرخ الطب نويبرجر Neuberger بـ “أن العرب هم الذين أدخلوا النور والترتيب على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقصه التسلسل .. صنّف العرب كتباً مختصرة جامعة عظيمة التماسك صبّوا فيها كل المواد الدراسية الخاصة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة وصاغوا في لغتهم الحيّة التي لم تمت فيها كلمة تعابير علمية مثالية”، لهذا كله، فضّلهم الغربيون أول الأمر على غيرهم فأصبح العرب أساتذتهم الذين أخذوا عنهم العلوم الطبّية أكثر مما أخذوه من كتب اليونان المبعثرة الغامضة، فكان العرب أعظم معلّمي الغرب خلال سبعمائة سنة!!
وفي نحو أواخر القرن الثاني عشر تدفق سيل الترجمة تدفّقاً متواصلاً لم يكن بوسع أحد أن يوقفه، وانطلق من إسبانيا وصقلية ومن شمالي إيطاليا. فمن مدينة بادوا جاءت ترجمة كتاب الكلّيات لابن رشد وكتاب التيسير لابن زُهَر الأندلسيّ الذي عُرِف باللاتينيّة بـ Avenzoar مرّتين على التوالي.
ومن صقلّية جاءت ترجمة أضخم كتاب للرازي”الحاوي” والمسمّى باللاتينية Continens Rhases عام 1279 وقد أمضى اليهودي ابن سليم المتعلم في سالرنو بصقلّية نصف حياته في ترجمته؛ وظلّت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية على أشدّها حتى القرن السادس عشر وأضيفت أشياء جديدة لم تكن معروفة، وأعيدت ترجمة كتب أخرى مرة ثانية ككتابي “القانون” و”زاد المسافرين” لابن الجزار وكتب أخرى للرازي ولابن رشد. وبهذا انطلقت حركة فكريّة جبارة لم يقدر أي من العلماء في القرون التي تلت إلاّ أن يتأثّر بها.
وفي ذلك الوقت، كان كل تفكير خلاق يقف عاجزاً أمام طريقة التفكير الجامدة للكنيسة والتي كان على الأجيال الانصياع التام لتعاليمها والخضوع لأقوالها بلا قيد أو شرط … كان رجال العلم الأوروبيون يتبعون رجال الكهنوت ويتقيدون بأوامر الكنيسة ماعدا جماعة سالرنو ــ صقلّية ــ وجماعة نابولي وذلك على عكس الأطبّاء والعلماء العرب الذين كانوا يقفون أحراراً في الحياة غير مقيّدين إلا بقيود الحقيقة والعلم. أمّا ابن سينا والرازي خاصة فقد امتدت شهرتهما حتى القرن السابع عشر وأصبحت نعوتهما Annma Avicenne أو Avicennista Insinis (روح ابن سينا) ألقاباً يفتخر بها كل طبيب غربي.
وتشير هونكه إلى أن فنّ الجراحة يدين بتقدّمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن “الحقيرة” الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهن الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، وكان مؤلف ابن سينا أكثر كتاب طبي درسه طلاب المعرفة في تاريخ العالم، أما شروحه والتعليقات عليه فقد كان لا يحصيها عدد.
وفي القرن التاسع الميلادي لمع نجم في سماء الحضارة العربية وسجّل لها أكبر الأثر في سجلّ الفتوحات العلمية في عصر طار فيه صيت الرازي، ألا وهو جابر بن حيّان الذي كانت له شخصية سياسية على قدر كبير من التأثير، إذ كان أحد القادة الروحيين للإسماعيلية وكتب مؤلّفات دعاوية في قالب فلسفي علمي بشكل يلفت الأنظار الأمر الذي اضطرّ أحد أعداء العرب أن يعترف بعظمته فقال: “ لقد كان عالماً عظيماً بالرغم من أنّه كان عربيّاً”.(ص 325 )
وبرع العرب كل البراعة بكل ما قدّموه من أنواع الضّمادات والمساحيق واللزوق وغيرها وقد كان اهتمامهم منصبّاً على معالجة الخراجات والدّمامل وإنضاجها ثم شقّها ومداواة كثير من الأمراض الجلدية والجروح، كما إنهم سعَوْا إلى تخفيف آلام هذه الأخيرة واجتناب تقيّحها باستعمال الخمرة المعقّمة التي يوازي تأثيرها تأثير البنسلين وغيره من المواد المضادة للميكروبات(ص328)
“كتاب الحاوي في الطب لأبو بكر الرازي بقي المرجع لتعليم الطبّ في أوروبا لمدة 400 عـام”
أول من أنشأ الصيدليات
كان العرب أوّل من افتتح الصيدليات العامة في ظل حكم الخليفة المنصور العباسي نحو 780م، وكان في كل مدينة مفتّش خاص يفتش تحضير الأدوية ويراقبها برفقة شرطة الصحة إلى جانب فحص المواد الغذائية.. في حين كانت الكنيسة في أوروبا ترفض مثل هذه الإجراءات وتعتبرها تعدّياً على مصالحها.
وفي عام 999 نشر أبو القاسم الزهراوي ـ (توفّي 1013) مبادئ الجراحة التي ظلت شائعة لقرون عدة، وشرح البيروني، “ارسطوطاليس العرب” ، للفكر العلمي دوران الأرض حول الشمس واكتشف الحسن بن الهيثم قوانين الرؤية وأجرى التجارب بالمرايا والعدسات المستديرة والاسطوانية المخروطية.
وبينما كان العالم العربي يتّجه نحو ذروة عصره الذهبي وقف الغرب مذهولاً وقد تولاّه الفزع يترقّب نهاية العالم عمّا قريب ويعظ القيصر الشاب أوتو الثالث وهو ابن العشرين ربيعاً الناس فيقول: “ والآن سيأتي المسيح ويحضّر الناس ليقتص من هذا العالم”.. وبينما أوتو الثالث يتشدّق بهذه الكلمات الجوفاء كان ابن سينا وهو حينذاك فتى في العشرين من عمره وقد بدأ يملأ الدنيا بأنباء فتوحاته العلمية الباهرة.
لقد أتى سادة الحضارة الجدد من قلب الصحراء الجدباء ليتبوّأوا فجأة مركز الزعامة بين حضارات العالم بلا منازع مدة ثمانية قرون وبهذا ازدهرت حضارتهم أكثر من حضارة الإغريق أنفسهم .
في ذلك الزمن كانت أوروبا تعلن أنّ الطريق الوحيد لتطهير الروح هو طريقها والضلال هو البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدّس، لقد كان عالماً أدار ظهره للعلم، “فالإسكندريّة كنز المعرفة الإغريقية والتي أصبحت مركزاً للمسيحية إلى جانب روما حُرِقت فيها نفائس ثمينة لا تعوّض من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلم والثقافة الإغريقية حرقتها وأبادتها جموع من المسيحيين المتعصبين”، أمّا ما اتّهم به عمرو بن العاص فاتح الإسكندرية عام 642م “فهو مجرّد اختلاق لا أساس له من الصحّة.. فهو قد ضُرب المثل بتسامحه طوال فتوحاته، إذ حَرّم النّهب والسّلب على جنوده، وعمل ما كان غريباً عن فهم الشرقيين القدماء والمسيحيين على السواء : لقد ضمن صراحة للمغلوبين حرّية ممارسة شعائرهم الدينيّة المتوارثة “.


“العرب أدخلوا النور على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقص التسلسل، وهم صنّفوا كتباً جامعة عظيمة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة صاغوها بلغتهم”
تسامح العرب
تقرّ هونكِه بتسامح العرب }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ (البقرة: 256)، هذا ما أمر به القرآن الكريم وبناء على ذلك، فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام فالمسيحيون والزرادشتيّة واليهود لاقَوْا قبل الإسلام أبشع أمثلة التعصّب الديني وأفظعها، وقد سُمِح لهم جميعاً من دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم من دون أن يمسّوهم بأدنى أذى.
طلب العلم عبادة
في ص 368 وتحت عنوان طلب العلم عبادة تقول هونكه:” لقد أوصى مُحمّد (ص) كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم وجعل من ذلك واجباً دينيّاً فهو الذي يقول للمؤمنين “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” ويرشد أتباعه دائماً إلى هذا فيخبرهم بأنّ ثواب العلّم كثواب الصيام وأن ثواب تعليمه كثواب الصلاة”.
في السياسة، والعلم سفير للسلام تقول هونكه: لقد أحاط العرب الكتب بقلوبهم حتى المؤلّفات الفنيّة في الهندسة والميكانيكا والطب والفلك والفلسفة .. وهكذا طلب هارون الرشيد بعد احتلاله أنقرة تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة وكانت الحركة الثقافية قد بدأت مبكرة أيام الأمويين على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد الذي بدأ بدعوة المتعلّمين من الإغريق والعرب من الإسكندرية، وعهد إليهم بترجمة أعمال يونانيّة ومصريّة إلى اللغة العربيّة.
وفي العصر العباسي ازدهرت حركة الترجمة على يد السريان أبناء موسى بن شاكر الثلاثة الذين خصصوا ربع أملاكهم الضخمة للترجمة وجمع الكتب فضربوا بذلك المثل لغيرهم أمثال الطبيب قسطا بن لوقا البعلبكي، وكذلك حنين بن أسحق الذي قال عنه يحيى بن ماسويه رئيس المترجمين في عصري الرشيد والمأمون: “إنّ الذي فعله لا يستطيع عقل بشري أن يصوغه تلك الصياغة الرائعة، إنّه والله الإلهام من الروح القديم”. وبأعمالهم تلك “حمى المترجمون العرب آثار القدماء العلمية من الضّياع والزوال”.
شعب يذهب إلى المدرسة
لو أردنا دليلاً على مدى الهوّة العميقة التي كانت تفصل الشرق عن الغرب لكفانا أن نعرف أنّ نسبة 95% على الأقل من سكان الغرب في القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر كانوا لا يستطيعون القراءة والكتابة، وبينما كان شارل الأكبر يجهد نفسه في شيخوخته لتعلّم القراءة والكتابة وبينما أمراء


الغرب %