عارف أبو شقرا
التربوي، الشاعر، والمناضل
في كثير من المناسبات نتذكر الأستاذ الذي علمنا التاريخ الحقيقي واللغة العريقة والأخلاق الحميدة، عنينا به شاعر العروبة والمقاصد وأستاذ العربية والتاريخ في مدارسها المعلم عارف أبو شقرا الهوزاني العماطوري.
الأصل والمولد والمسكن.
يقول عارف أبو شقرا في كتابه “الحركات في لبنان الى عهد المتصرفية” أن أصل أسرته من هوزان نزلت عماطور في زمن غير محدد.
وهوزان على ما يقول النسابة، هو هوزان بن منصور بن عكرمة، من قيس عيلان من العرب العدنانيين. كانت منازلهم من غور تهامة الى بيشة والسراة والطائف. وقد كثرة بطونهم وقبائلهم مثل بنو سعد (منهم حليمة السعدية مرضعة النبيّ) وثقيف وفروعها، وعامر وعقيل وخفاجة وهلال بن عامر.
وأخبار هوزان كثيرة في الجاهلية والإسلام، وهم من أكبر قبائل العرب وأشهرهم فروسية وشجاعة وقوة شكيمة، كانت لهم في أيام العرب ومعاركهم صولات وجولات مشهودة.
وعماطور أو “عي ماطور” بلدة قديمة جاء ذكرها في منشور صدر سنة 1256 باسم سعد الدين البحتري. وكان لها الحق بأن تحمي من يلجأ اليها مدة سنة، وكان المارة بها يمتنعون عن رفع أصواتهم بغناء او إنشاد. كما كان يفك وثاق المقيد والمكتوف أثناء مروره بها، بينما كان الفرسان يترجلون ويقودون أفراسهم حتى يجاوزوا البلدة.
من هذه الأرومة العربية، وفي هذه المدينة العريقة وفي بيت علم وأدب وشعر ولد عارف أبو شقرا. والده يوسف تخرج متقناً العربية على يد عبدالله البستاني درس الفقه وزاول المحاماة والصحافة وله نثر وشعر في ديوان صغير.
وسار الابن على هدي أبيه فأتقن العربية وأصدر مجلة “الأماني” وضمّته المقاصد الإسلامية إلى أساتذتها فبدأ عهده منذ الثلاثينات مدرساً للعربية في مدرسة أبي بكر الصديق. انتقل بعدها الى كلية المقاصد الحرج أستاذاً للعربية فثانوية علي بن ابي طالب مدرساً للعربية والتاريخ ومرشداً وطنياً واجتماعياً.


دروس في الإلقاء والكرامة
ومباراة في الخطابة.
ما يزال تلامذة عارف أبو شقرا في مدرسة ابي بكر الصديق – ومنهم العميد مختار عيتاني – يذكرون المباريات الخطابية التي كان ينظمها في ختام السنة المدرسية لتنمية ملكة الإلقاء والخطابة عبر التلامذة وكان منهم في تلك الحقبة الدكتور حسن صعب.
فيحفِّظهم قصائد من نظمه. جاء في قصيدة من تلك القصائد التي أراد بها أن يبرز موقفاً سياسياً وليد ظرف سياسي بين أنصار الاستقلال ومسايري الانتداب:
قل للذي اتخذ الزعـامة إرثه
الناس في الأديان أمة واحـدة
والعز والشرف المؤثل لم يكن
إن الذي شرع الشرائع في الورى
ومضى زمان عبـادة الأسياد
ما الخلق ملك أبيك كالأنعام
والمجد مستبق لكل همام
وقفـاً على أحد من الأقـوام
جعل المُرأَّس أصـغر الخُدام
والزعماء والأزلام والأصنام
يذكر انه في تلك الفترة سنة 1933 كانت عمليات المسح الإجباري قد افتتحت في بيروت. وقد حصل خلاف في حينه حول حدود قطعة الأرض المتاخمة لمجلس القنطاري (دار الطائفة الدرزية اليوم) مع ورثة أنطوان سيور حول ما اذا كانت القطعة المذكورة من ضمن أرض الوقف المذكور أم لا. وعلم تلامذة عارف أبو شقرا من أهالي المحلة بهذا الأمر فتوجهوا الى المنطقة وأخذوا يهزجون مع الموجودين هناك تحية لسلطان باشا الأطرش، وكان أستاذنا معجباً بسلطان باشا وعلق صورته في بيته:
يا سلطان السـوريين
رجال بني معروف
يا حامي الوطن والدين
للحرب مستعدِّين


الأستاذ عارف أبو شقرا الخامس من اليمين.
العروبة والوطن لا قيس ولا يمن
بعد المفاوضات التي واكبت إنشاء الجامعة العربية، تنادى العرب الى جمع كلمتهم ووحدة بلادهم ومقاصدهم. وقد أوحت هذه المناسبة الى أستاذنا عارف أبو شقرا فنظم سنة 1946 نشيد الوحدة العربية الذي لحنه الأخوان فليفل وأنشد في كثير من المناسبات وكان له أطيب الواقع في نفوس المستمعين، وأحيل الى دائرة الثقافة في الجامعة العربية ليكون في عداد أناشيدها الوطنية. وفيه يقول:
المـعـالي لنا وطـن
ليس في عزمنا وهن
نمشي على صرف النوب
نحن أكرومة الزمن
نحن لا قيس ولا يمـن
نحن الألى نحن العرب
يا رئيس البلاد: عدل المنهاجا
كان عارف أبو شقرا يدرس أنواع الحكمة التي تتهذب بها النفوس وتتوفر بها مكارم الأخلاق، فيدل بذلك على وفور فضله ورجاحة عقله وحسن خلقه. وكان يحث التلامذة على المطالعة ويحدثهم عن الزعماء والأبطال والحركات الوطنية في العالم العربي.
ولم يكن بعيداً عما يحصل في مجتمعه وبلده، وقد رأى أواخر عهد الرئيس بشارة الخوري ما وقع في البلد من اختلال لإهمال بعض الرعاة مصالح الرعية واستطالتهم على الفقير ومد أيديهم الى أموال الناس بالباطل وخروجهم عن دائرة العدل وعدم الالتفاف الى حاجات المستحقين ومصالحهم، وتولت المناصب غير أهلها بحيث وقع الاختلال والفساد، فنهض في أحد المهرجانات الخطابية ورفع عقيرته بقصيدة عصماء يذكر الظلم الاجتماعي ويشير الى جنوح سفينة الحكم والسلطة وينبه الحاكم فيقول فيها:
ويختمها ببيتين خاتمة الثاني منهما عنوان القصيدة “عدل المنهاجا” وهما:
وقيل يومها إن رجال السلطة حاولوا اعتقاله على اثر انتهائه من إلقاء قصيدته، ولكنهم خافوا عاقبة الأمر والاجتماع الشعبي الحاشد.
الفاء والنون وما بينهما.
لم يكن عارف أبو شقرا استاذاً للغة والتاريخ فحسب، يحبس عطاءه فيما يلقيه من دروس وأمثال وعبر، لم يكن استاذاً من حبر وورق، بل كان ينبوع فكر ومثير طاقات ومحرك همم وحافظ تراث. وما كان له ان يتجاهل ما حل بفلسطين وبالعرب بها من نكبة فنظم قصيدة من روائع ما نظم، ما زلنا نحفظ منها بيتاً يذكر فيه حق العرب في فلسطين (الفاء أولها والنون آخرها) وكل ما بين الفاء والنون من فنون الأدب والشعر والفروسية والحكمة، وهو البيت القائل:
وهذا الاعتزاز بتاريخ العرب وأمجادهم تراه في العديد من قصائد الأستاذ المعلم عارف أبو شقرا. تجلى في نشيد الوحدة العربية السابق ذكره، كما تجلى في نشيد المقاصد الذي ردده شباب المقاصد ولا يزالون ينشدونه بلحن الأخوين فليفل بادئاً بقوله:
عهدنا بالمقاصد
ناديك منـزلاً
دمت للحق وال
في ظلال المعاهد
ومباديك منهلاً
علا خير قائد
قد نمتنا عزة في يعرب
حسبنا إنا على هدي
في جوار الصنوبر
يا رفاقـاً على الزمـن
وتـراث خالـد في الأدب
النبـيّ في المحـامد
ضَمَّنـا خير معشـر
اشتروا المجد بالثمن
وعلى نصـرة الوطن
بالجنان واللسان والقلم
والحديد والعديد والهمم
فلنجـاهدِ فلنجاهدِ
والشباب المستنير بالحكم
والسواعد والسـواعد
اذا كان عارف أبو شقرا قد أشار في هذا النشيد الى “معشر ضّمَّنا وإياه في جوار الصنوبر – كان علم المقاصد يضم في زاويته العليا صورة لصنوبرة شعاراً – فلم يمنع ذلك معلمنا من التغني بأرز لبنان الخالد، ممجداً له واضعاً إياه في مصاف خوالد الدهر وأعاجيبه، فيهتف معتزاً مفتخراً في قصيدة بقي في الذاكرة منها:
أرز لبنان حرمة وتحيـة
زانـك اللـه بالجـلال
ياخدين الأهرام والهيكل
طبت دوحاً في أرضنا الشامية
فأمليت على كل بقعة أملية
الفخم وصهر الجنائن البابلية
ولم يغفل أستاذنا ومعلمنا عارف أبو شقرا دور المرأة عامة والممرضات خاصة اللواتي يبلسمن آلام المرضى وينعشن أمانيهم. فنظم لهن سنة 1951 نشيد الممرضات الذي لحنه الأخوان فليفل وأخذ به في مدرسة التمريض التي كان يديرها المرحوم الدكتور مصطفى خالد فأنشد في حفلاتها وانتقل الى مختلف مدارس التمريض.
وقد أحسن الشاعر باختيار مفردات من العربية تتوافق مع دور الممرضة وعملها مثل: الوفاء، الألم، الشفاء، الحان، الصبر، الرجاء والأمل الخ… فقال مخاطباً الممرضة:
اسمعي صدى الضمير
أنـت للسقم أنـت
نـادى الاشفيا
هاتفاً للوفا يا فتاة للوفـا
للألـم أن تعسفا
أنعشـي الأمـانيـا
واحملي الشفا
يا رسالة الرجاء والأمل
مهدي الوساد، هيئي
وانشـري الأمـان
تنعش النفوس تطرد العلل
الضماد، غالبي الوجل
وبعد،
اذا كانت حضارة الأمم والشعور تقاس بمقياس نتاج أبنائها وتكريم عطاءاتهم ومساهمتهم في تقدم شعوبهم والتعبير عن آلام أمتهم وآمالها، فإن واجب الأمة يكمن في تكريم اعلامها ونشر تراثهم.
واننا نتوجه الى أصدقاء معلمنا وتلامذته وأهله واخوانه والمسؤولين عن الثقافة والتربية لإخراج كنوزه من زوايا النسيان ونشرها على اللبنانيين والعرب إنصافاً لأستاذ علم الأجيال العلم والوطنية والأخلاق والرجولة.